الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: [فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى وأن ذلك من صفات المنافقين]
ومنْ (أخرج التَّعيير وأظهر السوء وأشاعه)(*) في قالبِ النُّصح وزعم أنه إِنَّمَا يحمله عَلَى ذلك العيوب، إما عامًّا أو خاصًا، وكان في الباطن إِنَّمَا غرضه التعيير والأذى، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمَّهم الله في كتابه، في مواضعَ، فإنَّ الله تعالى ذَّم من أظهر فعلاً أو قولاً حسنًا وأراد به التوصُّل إِلَى غَرَض فاسدٍ يقصده في الباطن، وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتَكَ فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا
…
} (1) الآيات، وقال تعالى:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاً تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) الآية، وهذه الآية نزلت في اليهود، سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره، وقد أرَوه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك عليه وفرحوا بما أوتوا من كتماله، وما سألهم عنه.
كذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما، وحديثُه بذلك مخرَّج في "الصحيحين"(3).
(*) أظهر التعيير: إظهار السوء وإشاعته: "نسخة".
(1)
التوبة: 107 - 108.
(2)
آل عمران: 188.
(3)
أخرجه البخاري (4568)، ومسلم (2778).
عن أبي سعيد الخُدري "أن رجالاً من المُنافقين كانوا إذا خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الغزوة تخلَّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إِلَيْهِ وحَلَفُوا، وأحبُّوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية (1).
فهذه الخصالُ، خصالُ اليهود والمنافقين، وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً، وهو في الصورة التي أظهره عليها حسن، ومقصودهُ بذلك التوصُّل إِلَى غَرَض فاسد، فيحمَدُهُ عَلَى ما أظهره من ذلك الحسَن، ويتوصَّلُ هو به إِلَى غرضه الفاسد الَّذِي هو أبطنَهُ، ويفرح بحمده عَلَى ذلك الَّذِي أظهر أنه حسن وهو في الباطن سيء، وعلى توصله في الباطن إِلَى غرضه السيء، فتتتمُّ له الفائدة وتُنفّذُ له الحيلة بهذا الخداع!!
ومَنْ كانت هذه صفته فهو داخلٌ في هذه الآية ولابدّ، فهو مُتوعَّدٌ بالعذاب الأليم، ومثالُ ذلك. أن يُريد الإنسانُ ذمَّ رجلٍ وتنقُّصه وإظهارَ عيبهِ لينفرَ الناس عنه؛ إما محبةٌ لإيدائه لعدواته أو مخافته من مزاحمته عَلَى مالٍ أو رياسةٍ أو غير ذلك من الأسباب المذمومة، فلا يتوصَّل إِلَى ذلك إلا بإظهار الطعْن فيه بسبب ديني، مثل: أن يكونَ قد ردَّ قولاً ضعيفًا من أقوال عالمٍ مشهور فيشيعُ بين من يُعظم ذلك العالم، أن فلانًا يُبغضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعنُ عليه فيغرُّ بذلك كل من يَعظمه، ويُوهمُهُم أنَّ بغْضَ هذا الرادّ وأذاهُ من أعمال القُرب؛ لأنّه ذبٌّ عن ذلك العالم، ودفع الأذى عنه، وذلك قربة إِلَى الله عز وجل وطاعة؛ فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين مُحرَّمين:
أحدهما: أن يحملَ رد هذا العالم القولَ الآخر عَلَى البُغض والطَّعن والهَوَى وقد يكونُ إنَّما أراده به النُّصح للمؤمنين، وإظهار ما لا يحلُّ له كتمانه.
والثاني: أن يُظهر الطعْنَ عليه ليتوصَّلَ بذلك إِلَى هواه وغرضِهِ الفاسد في
(1) أخرجه البخاري (4567)، ومسلم (2777).
قالب النُّصح والذَّب عن عُلماء الشرع.
بمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم يستميلون الناس إليهم ويُنفرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين.
فإنه لما قُتل عثمان رضي الله عنه لم تر الأُمَّةُ أحقَّ من عليٍّ رضي الله عنه بالأمر فبايعوه فتوصَّل مَن توصَّل إِلَى التنفير عنه، بأن أظهر تعظيم قتله عثمان وقُبحه، وهو في نفس الأمر كذلك، لكن ضُمّ إِلَى ذلك أن المؤلف عَلَى قلته والسَّاعي فيه هو عَلَيَّ رضي الله عنه، وهذا كذِب وبهت.
وكان علي يحلف ويُغلظ الحلفَ عَلَى نفي ذلك، وهو الصادق البار في يمينه رضي الله عنه، فلما أظهروا ذلك تفرقت قلوب كثير ممن لا خبرة له بحقائق الأمور عن علي رضي الله عنه، وبادروا إِلَى قتاله ديانة وتقرُّبًا، ثم إِلَى قتال أولاده، واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته عَلَى المنَابِر في أيَّام الجُمع وغيرها من المَجَامع العظيمة، حتى استقرَّ في قلوب أتباعهم أنَّ الأمرَ عَلَى ما قالوه، وأن بني مروان أحقُّ بالأمر من علي وولدِهِ لقُربهم من عُثمان، وأخذهم بثأره، فتوصَّلوا بذلك إِلَى تأليف قُلوب الناس عليهم، وقتالهم لعليَّ وولده من بَعْده، وثبت بذلك لهم المُلك، واستوثق لهم الأمر.
وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثقُ إِلَيْهِ كلامًا معناه: لم يكن أحدٌ من الصحابة أكفأ عن عثمانَ من عَلَيٍّ فيقال له: لم يسبُّونه إذًا، فيقول: إِنَّ المُلك لا يقوم إلا بذلك.
ومراده أنَّه لولا تنفيرُ قلوب الناس عن عليّ وَولدِهِ ونسبتُهم إِلَى ظلم عثمان لما مالت قلوب الناس إليهم، لما عَلِموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة، فكانوا يُسرعون إِلَى مُتابعتهم ومُبايعتهم، فيزولُ بذلك مُلك بني أميَّة، وينصرفُ الناس عن طاعتهم.
***