المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثانيفي "ما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة - الفوائد السنية في شرح الألفية - جـ ٢

[شمس الدين البرماوي]

الفصل: ‌الباب الثانيفي "ما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة

‌الباب الثاني

في "ما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة

"

ص: 490

الباب الثاني: فيما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة

وهو أربعة أنواع:

الأول: من جهة الثبوت في الثلاثة الأُولى وهو السند

257 -

فَالسَّنَدُ الْإخْبَارُ عَنْ مَتْنٍ ضَبَطْ

مِنْ قَوْلٍ اوْ فِعْلٍ وَلَوْ فِيهِ وَسَطْ

258 -

وَذَاكَ آحَادٌ وَ [ذُو]

(1)

تَوَاتُرِ

فَالثَّانِ نَقْلُ عَدَدٍ مِنْ آثِر

259 -

عَلَيْهِمُ يَمْتَنِعُ التَّوَاطُؤُ

في الْكِذْبِ عَنْ حِسٍّ بِهِ تَوَاطَؤوا

260 -

أَوْ خَبَرٌ عَنْ مِثْلِهِمْ إلى انْتِهَا

لِذَلِكَ الْمَحْسُوسِ، فَهْوَ الْمُنْتَهَى

الشرح: إنما قدمتُ من الأنواع الأربعة ما يتوقف عليه من حيث الثبوت؛ لأن الكلام في الشيء إنما يكون بعد ثبوته، ثم يتلوه ما يتوقف عليه من حيث دلالة الألفاظ؛ لأنه بعد الصحة يتوجه النظر إلى [مدلول ذلك الثابت]

(2)

، ثم يتلوه ما يتوقف عليه من حيث استمرار الحكم وبقاؤه، فلم يُنسخ، ثم يتلوه ما يتوقف عليه الدليل الرابع وهو "القياس" من بيان أركانه وشروطه وأحكامه؛ لأنه مُفَرع عن الثلاثة الأولى؛ إذ لا قياس إلا على ما ثبت بواحد منها كما سيأتي.

(1)

كذا في (ز، ش، ت، ن). لكن في (ص، ض، ظ، ق): ذا.

(2)

كذا في (ز، ش)، لكن في (ق): ما دل ذلك الثابت عليه. وفي سائر النسخ: ما دل ذلك الثابت.

ص: 491

وقولي: في الترجمة: (وهو السند) إشارة إلى أن المراد بالثبوت صحة وصولها إلينا، لا ثبوتها في أنفسها وكونها حقًّا، فإنَّ ذلك مُبيَن في الأوَّلَين -الكتاب والسُّنة- في أصول الدين، وفي الثالث -وهو الإجماع- في محله من أصول الفقه وهو ذِكر كَوْنه من الأدلة، وقد سبق في الباب الأول.

فالنوع الأول: "السند"، ويقال فيه:"الإسناد" أيضًا، وهو الإخبار عن المتن قولًا كان أو فعلًا أو راجعًا إلى أحدهما.

ومعنى قولي: (ضَبَطْ) أي: إنَّ ذلك الإخبار عن المتن هو الذي ضبطه وقيده حتى عرفه المخبَر به.

وقولي: (وَلَوْ فِيهِ وَسَطْ) أي: ولو كان الإخبار بواسطة مخبر آخر عن مَن ينسب المتن إليه.

وأصل "السند" في اللغة: ما يُستنَد إليه، أو ما ارتفع من الأرض. وأَخْذ الاصطلاحي من الثاني أكثر مناسبة؛ فلذلك قال ابن طريف: أسندت الحديث: رفعتُه إلى المحدث. فيحتمل أنه اسم مصدر مِن "أَسند يُسند"، أطلق على المسند إليه، وأنْ يكون موضوعًا لِمَا يُستند إليه.

وأما "المتن" فهو المخْبَر به كما سبق، ومادته في الأصل راجعة إلى معنى الصلابة، ويقال لِما صَلُبَ من الأرض:"متن"، والجمع "متان"، ويسمى أسفل الظهر من الإنسان والبهيمة " متنًا" أيضًا، والجمع "متون".

وقولي: (وَذَاكَ آحَادٌ وَ [ذُو]

(1)

تَوَاتُرِ) تقسيم للسند قسمين: آحادًا، ومتواترًا؛ لأنه إما أن يفيد العلم بنفسه فـ "المتواتر"، أوْ لا فَـ "الآحاد". وربما أُطلِق على المتن ذلك، فيقال: "حديث

(1)

كذا في (ز، ش، ت، ن). لكن في (ص، ض، ظ، ق): ذا.

ص: 492

متواتر" و"آحاد"، على معنى: متواتر أو آحاد سنده.

و"الآحاد": جمع أحد، كَـ: بطل وأبطال. وهمزة "أحد" مبدلة من واو الواحد. وأصل "آحاد" أأحاد بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا كـ "آدم ".

و"المتواتر": المتتابع، تقول: تواتر القومُ، أي: جاءوا متتابعين بِمُهلة.

وقولي: (فَالثَّانِ) شروع في شرح كل من القسمين، وقدمتُ الثاني؛ لقوته، ولأن القرآن متواتر وهو أول الأدلة وأصلها، وأيضًا فلِيعلم أن ما خرج من تعريفه هو "الآحاد"؛ لأن ذلك كالملكة والعدم.

فَ " المتواتر": خبر جَمعْ يمتنع تواطؤُهم على الكذب عن محسوس أو عن خبر جَمْع مِثْلهم إلى أنْ ينتهي إلى محسوس، أيْ: معلوم بإحدى الحواس الخمس، كمشاهدة أو سماع.

فخرج بالقيد الأول: أخبارُ الآحاد ولو كان مستفيضًا، وسيأتي بيانه، خلافًا لدعوى الماوردي في "الحاوي" والأستاذ أبي إسحاق وجَمع أنه قِسم آخَر ثالث.

وخرج بالانتهاء إلى محسوس: ما كان عن معقول، أيْ: معلوم بدليل عقلي، كإخبار أهل السُّنة دهريًّا بحدوث العالم، فإنه لا يوجب له عِلمًا؛ لتجويزه غلَطهم في الاعتقاد، بل هو معتقد ذلك، وأيضًا فَعِلم المخبرين به نظري، و"التواتر" يفيد العلم الضروري، فيصير الفرع أقوى من أصله.

قلتُ: مثل ذلك [إذا]

(1)

لم يتفق المخبرون على واحد بالشخص الذي هو شرط في المتواتر، بل كل أحدٍ إنما يخبر عن اعتقاد نفسه وإنْ توافقوا نوعًا، ولأجل ذلك لم يكن الإجماع من قبيل الخبر المتواتر، والحجية فيه إنما هي من حيث [ثناء]

(2)

الشرع على تَوافُق

(1)

ليست في جميع النُّسخ، وقد وضع ناسخُ (ت) علامة في هذا الموضع، وكتب في الهامش: لعله "إذا".

(2)

في (ز): بناء.

ص: 493

اعتقاد الأُمة، أو أن العادة تحيل تواطؤهم على اعتقادٍ باطلٍ أعلى ما سبق من المدركين فيه]

(1)

.

نعم، قال الأستاذ أبو منصور وكذا القاضي وإمام الحرمين وابن السمعاني والإمام والمازري: إنَّ التقييد بالحس لا معنى له، وإنما المدار على العِلم الضروري، ليدخل ما استند فيه عِلم المخبِرين إلى قرائن الأحوال، كإخبارهم عن الخجل الذي علموه بالضرورة من قرائن الحال، فالحس وإنْ وُجد لكن لم يُكْتَفَ به؛ لأنَّ الحمرة إنما تُدرك بالحسِّ ذاتها، وحمرة الخجل كحمرة الغضب، وإنما يُفَرق بينهما بأمر يدقُّ عن ضبط [العبارة]

(2)

.

وأجيب عن ذلك بأنَّ القرائن تَعُود للحس؛ لأنها إما حالية أو مقالية.

تنبيه:

تسمية هذا النوع "متواترًا" اصطلاح للفقهاء والأصوليين وبعض المحدِّثين، فقد قال ابن الصلاح: (إنَّ أهل الحديث لا يذكرونه بِاسْمه الخاص، وإنْ كان الخطيب ذكره، وفي كلامه ما يُشعر بأنه اتَّبع فيه أهل

(3)

الحديث)

(4)

.

ثم قال: (وكأنَّ ذلك لندْرته عندهم حتى لا يكاد يوجد) إلى آخِره.

واعتُرض عليه بأنَّ الحاكم وابن عبد البر وابن حزم وغيرهم ذكروه.

(1)

ليس في (ز).

(2)

في (ز، ش): العبارة. وفي سائر النُّسخ: العادة.

(3)

لفظ ابن الصلاح في كتابه (معرفة أنواع الحديث، ص 267): (وَأَهْلُ الحْدِيثِ لَا يَذْكُرُونَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ الْمُشْعِرِ بِمَعْنَاهُ الْخَاصِّ، وَإنْ كَانَ الْحَافِظُ الْخطيِب قَدْ ذَكَرَهُ، فَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ اتَّبَعَ فِيهِ غَيْرَ أَهْلِ الحدِيثِ).

(4)

معرفة أنواع علوم الحديث - مقدمة ابن الصلاح (ص 267). تحقيق: نور الدين عتر.

ص: 494

وأُجيب بأنه لم يذكروه بمعناه الخاص عند الأصوليين، بل بمعنى الكثرة كما قال ابن عبد البر في حديث المسح على الخفين: إنه استفاض وتَواتَر. ونحو ذلك.

والله أعلم.

ص:

261 -

[لِذَا]

(1)

يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالضَّرُورَهْ

في جُملَةٍ أَسْلَفْتُها مَشْهُورَهْ

262 -

فَحَيْثُمَا الْعِلْمُ بِهِ قَدْ حَصَلَا

فَآيَةُ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ فُصِّلَا

الشرح:

أي: فلأجل أن المتواتر خبر مَن يستحيل تواطؤهم على الكذب كان مفيدًا لسامعه عِلمًا ضروريًّا لا يحتاج إلى نظر، وقد أسلفتُ في المقدمة في تعريف "العِلم" بالمعنى الثالث أنَّ موجب الجزْم فيه إما أن يكون بحسٍّ أو عقل أو [تكرر]

(2)

، والحس إما سمع وهو التواتر إلى غير ذلك من الأقسام المفيدة لليقين بالضرورة وهي محصورة، لكن المتواتر إنما يفيد العلم بالضرورة بشروط، وإنما علامة اجتماعها إفادته العلم.

وهو معنى قولي: (فَآيَةُ اجْتِمَاعِ شَرْطٍ فُصِّلَا) أي: جنس الشرط، وسأذكر هنا تفصيل الشروط، فالكلام يقع في ثلاثة أمور: إفادته العلم، وكونه ضروريًّا، وتفصيل الشروط.

فالأول: ذهب الجمهور إلى ذلك، وقالت السُّمَّنية: لا يفيده. وهي -بضم السين المهملة وتشديد الميم- طائفة من عبدة الأصنام يقولون بالتناسخ، وينقل ذلك أيضًا عن البراهمة

(1)

في (ز، ت، ش، ظ، ن): لذا. وفي (ض، ص، ق): كذا.

(2)

كذا في (ض، ق). لكن في (ص، ظ، ت، ش): مكرر.

ص: 495

(طائفة لا [يجيزون]

(1)

بعثة الرسل)، وعن "السُّوفسطائية" -بضم السين المهملة الأولى وبالفاء، وربما قيل:"السوفسطانية" بنون بعد الألف- قوم ينكرون الحقائق، وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يعيبُ ذِكر خلاف مثل هؤلاء في أصول الفقه كما سبق ذِكره في موضع آخَر.

نعم، إذا ذكِر لغرض معرفة شبهتهم وردِّها كي لا يغتر بها مسلم، فلا بأس.

وحمل إمام الحرمين مخالفة السمنية - أي: ومن وافقهم على عدم إفادة "المتواتر" العِلم -على معنى أنَّ العدد وإنْ كثر فلا اكتفاء به حتى ينضم إليه ما يجري مجرى القرينة.

ومن هنا أُخِذ أن الإمام يقول باستناد العِلم للقرينة، لا لمجرد الإخبار المتواتر.

وكذلك قال ابن رشد في "مختصر المستصفى": لم يقع خلاف في كون المتواتر يفيد اليقين إلا ممن لا يُؤْبَه له.

قال: (وهُم السوفسطائية، وجاحده يحتاج لعقوبة؛ فإنه كاذب بلسانه على ما في نفسه، إنما الخلاف في جهة وقوع اليقين، فقَوم رأوه بالذات وقوم رأوه بالعرض، وقوم رأوه مكتسبًا). انتهى

وحاصل قولهما أن الخلاف لفظي. قال ابن الحاجب: (إن قول المنكِر لإفادته العِلم بُهْت، فإنَّا نجد العِلم ضرورةً بالبلاد النائية والأُمم الخالية والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والخلفاء رضي الله عنه -بمجرد الإخبار، كما في العلم بالحس)

(2)

.

وفي المسألة قول ثالث: إنه يفيد في الخبر عن الموجود، ولا يفيد عن الماضي.

فإنْ قلتَ: هل لهذه المسألة ثمرة في الفقه؟

(1)

في (ز، ش): يجوزون.

(2)

مختصر المنتهى مع بيان المختصر (1/ 637).

ص: 496

قلتُ: نعم إذَا فرَّعنا على أن بيع الغائب باطل، فهل يقوم مقام الرؤية خبر التواتر بضبطه حتى يصير كالمشاهَد؟

قال الروياني في "البحر": (قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه طريقان، أحدهما: القطع بجواز البيع كالمرئي، والثاني: قولان). انتهى

الثاني: ذهب الجمهور إلى أن العلم فيه ضروري لا يتوقف على نظر، خلافًا للكعبي، وصرح إمام الحرمين في "البرهان" بموافقته، لكنه قال: (وقد كثرت المطاعن على الكعبي من أصحابه ومن عصبة الحق، والذي أراه تنزيل مذهبه عند كثرة المخبرين على النظر في ثبوت إيالة جامعة وانتفائها، فلم يَعْنِ الرجُل نظرا عقليًّا وفِكرًا [سبريًّا]

(1)

على مقدمات ونتائج، فليس ما ذكره إلا الحق)

(2)

. انتهى

وأوضح الغزالي في "المستصفى" ذلك، فقال:(إن تحقيق القول فيه أنه ضروري، بمعنى أنه لا يحتاج في حصوله إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن. وليس ضروريًّا، بمعنى أنه حاصل من غير واسطة)

(3)

. انتهى

فرجع حملهما إلى قول الجمهور وأنه لا خلاف في المعنى، فالنقل عنهما أنهما يخالفان في إفادته العلم ضرورة -ليس بجيد.

نعم، نقل الشيخ أبو إسحاق عن البلخي موافقة الكعبي، وحكاه أيضًا غيره عن الدقاق وأبي الحسين. فإنْ حُمل على تأويل إمام الحرمين، ارتفع الخلاف أصلًا، وهذا هو اللائق؛ فإن حصول العلم فيه بالضرورة أمرٌ مشاهَد.

(1)

كذا في (ز). لكن في (ش): مرتبا. وفي سائر النُّسخ: سريا.

(2)

البرهان (1/ 376).

(3)

المستصفي (1/ 106).

ص: 497

نعم، في المسألة قول ثالث: إنه يفيد عِلمًا بين المكتسَب والضروري. قاله صاحب "الكبريت الأحمر". فإنْ عَنَى ما قاله الإمام فظاهر، وإلا فلا حاصل له.

وقول رابع: وهو التوقف في المسألة. قاله الشريف المرتضَى، وصححه صاحب " المصادر"، واختاره الآمدي.

الأمر الثالث: الشروط:

أحدها: تَعدُّد المخبرين.

ثانيها: أن يبلغوا ما يمتنع في مثله التواطؤ على الكذب عُرْفًا. وهل لذلك عدد معين؟ الصحيح المنع، وسيأتي بيان ذلك.

ثالثها: الاستناد للحس أو للعلم الضروري كما سبق بيان الخلاف فيه.

ولا يخفَى خروج هذه من التعريف.

رابعها: كون السامع له غير عالم بمدلوله ضرورةً أو استدلالًا، كالإخبار بأن السماء فوق الأرض، وبأن العالَم حادث لمن هو مسلم.

وهذا خارج من قولنا: (يفيد العلم)؛ لأنه لم يُفِد شيئًا؛ لأن العلم بذلك كان حاصلًا.

وخامسها: أن لا يكون السامع معتقدًا خلافه؛ لأن اعتقاده يمنع من حصول العلم من التواتر. شَرَطَه المرتضى. قيل: لِيثبت به تواتُر إمامة علي رضي الله عنه، وأنَّ المانع من إفادة السامعين العِلم اعتقادهم خلافه.

ورُدَّ بأنَّ ذلك بُهت منه؛ فلَم يُنقل ذلك فضلًا عن تواتره، ثُم الاعتقاد لا يدفع أن يحصل من التواتر ما يرفعه ويزيله؛ لأنَّ الفَرْض فيمن يستحيل تواطؤهم على الكذب.

سادسها: كوْن المخبرين قاطعين بذلك. شَرَطه جمعٌ، كالقاضي، لكن قال ابن الحاجب: إنه غير محتاج إليه؛ لأنه إنْ أُريدَ عِلم الجميع فباطل؛ لجواز أن يكون بعضهم ظانًّا، ومع ذلك

ص: 498

يحصل العلم. وإنْ أُريدَ عِلم البعض فلازم مِن لازم اشتراط الحس.

سابعها: اشتراط أن يكون المخبرون على صفة يوثَق بهم معها، لا كالمتلاعب والمكرَه، ولكن هذا مفهوم من استحالة التواطؤ على الكذب؛ لأن اللاعب والمكرَه قد يكذب لأجل ذلك، وإذا جوز السامع كذبه، فلا يفيده عِلمًا.

وثامنها: أن يتوافق إخبارهم لفظًا ومعنًى، أو معنًى فقط كما سيأتي بيانه، وهذا مفهوم من اشتراط التواطؤ، ومثلهم لا يتواطئون على كذب، والله أعلم.

ص:

263 -

وَلَيْسَ فِيهِ عَدَدٌ مُعَيَّنُ

لَكِنَّ ذَا أَرْبَعَةٍ لَا يُمْكِنُ

الشرح:

سبق أن المخبرين شرطهم أن يبلغوا مَبْلغًا يحيل تواطؤهم على الكذب بما أخبروا به، فهل لذلك عدد معيَّن؟ أو لا؟

الأصح لا؛ إذِ الضابط أن يفيد العلم بسبب استحالة تواطؤهم على الكذب، والأعداد لا مدخل لها في ذلك، فكم من قليل يتصف بذلك، وكثير لا يتصف به.

نعم، الأربعة لا يمكن أن يكون تواتُرًا، لأن قولهم لو كان [يفيد العلم]

(1)

لاستحالة تواطئهم على الكذب، لَمَا وَجب على القاضي أن يستزكي الأربعة في حد الزنا مثلًا، ولكنه واجب قطعًا؛ فوجب أن لا يفيد العلم إلا ما زاد مِن غير تعيين.

وقيل: يتعين الخمسة عدد أُولي العزم من الرُّسل على قول مَن فسرهم به، وهُم: نوح،

(1)

في (ز، ش): مفيدا للعلم.

ص: 499

وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم.

وقال القاضي: أقطع بأن قول الأربعة لا يكفي، وأتوقف في الخمسة. وحكى عن صاحب أبي الهذيل المعروف بأبي عبد الرحمن أنه شرط خمسة من المؤمنين أولياء الله ومعهم سادس ليس منهم؛ حتى يكون ملتبسًا فيهم. قال القاضي: وخالف ذلك سائر الذاهب.

وقيل: يشترط عشرة. وينسب للإصْطَخْري؛ لأن ما دُونها جمع قِلة.

وقيل: اثنا عشر؛ لأنهم عدد النقباء؛ لأن موسى عليه السلام بعثهم ليعرفوا أحوال بني إسرائيل؛ ليحصل العلم بقولهم.

وقيل: عشرون؛ لقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية. نُقل عن أبي الهذيل وغيره من المعتزلة، وقيده الصيرفي بما إذا كانوا عدولًا، لكن المصابرة في القتال لا عُلْقَة لها بالأخبار، وأيضًا فقد نُسخ ذلك، فينبغي أن يقال بما نُسخ به وهو المائة التي قيل فيها: تغلب مائتين.

وقيل: أربعون، عدد الجمعة، ولقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وكانوا أربعين.

وقيل: سبعون، لقوله تعالى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} [الأعراف: 155].

وقيل: ثلاثمائة وبضعة عشر، عدد أهل بدر؛ لأنهم يحصل بخبرهم العلم للمشركين. و"البِضع" بكسر الباء: ما بين الثلاثة إلى التسعة. وفي "التقريب" للقاضي و"البرهان" للإمام و"الوجيز" لابن بَرهان و"إحكام" الآمدي تعيينهم بثلاثة عشر، وهو قولٌ في عدتهم حكاه الدمياطي.

وقيل: وعشرة. وقيل: وخمسة، وهو الذي في كتب الحديث، ولكنه لا يُباين رواية "وثلاثة عشر" كما تَوَهمه الدمياطي؛ لأن الذين خرجوا للقتال ثلاثمائة وخمسة، وأدخل النبي

ص: 500

- صلى الله عليه وسلم معهم في القسمة ثمانية أسهم لهم ولم يحضروا؛ فنزلوا منزلة الحاضرين؛ فصارت العدة بهم " وثلاثة عشر".

وقال بعضهم: لا بُدَّ في التواتر من عدد أهل بيعة الرضوان. قال إمام الحرمين: وهُم ألف وسبعمائة. لكن الذي في "الصحيح" عن البراء وهو رواية عن جابر: ألف وأربعمائة. وقال النووي: إنه الأشهر. وعن سلمة ورواية عن جابر: ألف وخمسمائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى: ألف وثلاثمائة. وقال الواقدي وموسى بن عقبة: ألف وستمائة. وقيل غير ذلك.

وتعيين الأعداد في التواتر بهذه الشُّبَه لا يخفَى ضعفُه، ويلزم أن يقال بمثل هذا: تسعة عشر؛ لقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، و: ثمانية؛ لقوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22]، وأشباه ذلك مما لا ينحصر ويتكلف له مناسبة كما تكلف في هذه المذكورات، ولا قائل به، والله أعلم.

ص:

264 -

كَذَاكَ مَا شَرْطُهُمُ عَدَالَهْ

أَيْضًا وَلَا إسْلَامُهُمْ أَصَالَهْ

265 -

وَلَا انْتِفَا [انْحِوَائِهِمْ]

(1)

في بَلَدِ

مِنْ أَجْلِ ذَا الْقُرْآنُ عَالِي السَّنَدِ

الشرح:

هَذه أيضًا أقوال ضعيفة في شروط التواتر:

منها: اشتراط العدالة، وإلا فقدْ أَخبر الإمامية بالنَّص علَى إمامة عِلي -كرم الله وجهه- ولم يُقبل إخبارهم مع كثرتهم؛ لِفسقهم.

(1)

في (ن 3، ن 4): احتوائهم. وفي (ن 1): انحتوائهم. وفي سائر النُّسَخ: انحوائهم.

ص: 501

ومنها: اشتراط الإسلام، وإلا فقد أَخبر النصارى مع كثرةٍ بقتل عيسى عليه السلام ولم يصح ذلك؛ لكفرهم.

وجوابه فيهما: أن عدد التواتر فيما ذُكر ليس في كل طبقة، فقد قَتل بختنصر النصارى حتى لم يبق منهم إلا دُون عدد التواتر.

واعْلم أن كلام الآمدي يوهم أن الشارطين للإسلام والعدالة واحد، وليس كذلك، وإلا فكان الاقتصار على العدالة كافيًا، ولأجل ذلك قدمتُ مسألة العدالة على الإسلام في النَّظم؛ دفْعًا لهذا الإيهام الواقع في لفظ "المختصر" وغيره.

ومنها: اشتراط أن لا يحويهم بلد؛ لاحتمال أن يتواطئوا على الكذب.

ورُدَّ بأن أهل الجامع لو أخبروا عن سقوط الخطيب، لأفاد خبرُهم العِلمَ فضلًا عن أهل بلد.

ومنها: اشتراط اختلاف أنسابهم أو دينهم أو وطنهم؛ لِمَا ذكرناه. وردُّه واضح أيضًا.

ومنها: اشتراط الشيعة الإمام المعصوم. وهو أَفْسَد الكل؛ لأن قول المعصوم كافٍ، فَأَيُّ حاجة إلى انضمام أحدٍ معه؟ !

ومنها: اشتراط أن يبلغوا مَبْلغًا لا يحويهم بلد ولا يحصرهم عدد، أيْ: لكثرتهم. وهو غير ما سبق مِن نفي انحوائهم في بلد.

وقال ضِرار بن عمرو: لا بُدَّ من خبر قول كل الأُمة، وهو الإجماع. حكاه القاضي في "مختصر التقريب".

وقيل غير ذلك من الشروط الفاسدة، والله أعلم.

وقولي: (مِنْ أَجْلِ ذَا الْقُرْآنُ عَالِي السَّنَدِ) تمامه قولي بعده:

ص: 502

ص:

266 -

لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوَاتُرٍ سِوَى

مَا كَانَ حُكْمِيًّا [فَوَاحِدٌ]

(1)

رَوَى

267 -

كَالْبَدْءِ في فَاتِحَةٍ بِالْبَسْمَلَهْ

وَكررهَا [لَا في]

(2)

[بَرَاءَةَ]

(3)

الصِّلَهْ

(4)

الشرح: أيْ: من أجل أن التواتر يفيد القطْع كان ثبوت القرآن لا بُدَّ فيه من التواتر؛ لكونه مقطوعًا به؛ لأنه معجزٌ عظيم، فكان مما تتوفر الدواعي عادةً على نقل جُمله وتفاصيله؛ لدوران الإسلام عليه، فلا بُدَّ من تواتره والقطع به. فما لم يتواتر، لا يثبت كوْنه قرآنًا إلا فيما أُعطي حُكم القرآن فإنه لا يحتاج إلى التواتر، وذلك مفروض في البسملة من أول الفاتحة ومن أول كل سورة بعدها سوَى براءة.

والحاصل في المسألة أن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" متواترة في سورة النمل، فهي قرآن قطعًا، وليست في أول سورة براءة إجماعًا:

- إما لكون البسملة أمانًا، وهذه السورة نزلت بالسيف كما قاله ابن عباس، وقد كشفت أسرار المنافقين؛ ولذلك تسمى "الفاضحة"، وتسمى "البَحُوث".

- وإما لأنها متصلة بالأنفال سورةً واحدةً.

- وإما لغير ذلك كما سيأتي في كونها [توصل بما]

(5)

قبلها.

(1)

كذا في (ص، ظ، ض، ق، ت، ش). وفي (ن): فآحاد.

(2)

في (ز): سوى.

(3)

أي: سورة التوبة.

(4)

أي: التي توصل بما قبلها مِن غير فَصْل بالبسملة.

(5)

كذا في (ش). وفي (ز): كوصلة لما. وفي (ظ): مؤصّلة لما. وفي (ض، ق، ت): مُوصلةً لما.

ص: 503

وأما في أوائل غير براءة من السُّوَر فقطع الشافعي قوله بأنها آية من أول الفاتحة، واختلف قوله فيما سواها، ففي قول: إنها آية من أول كل سورة. وفي قولٍ: بعض آية. وفي قولٍ: لا آية ولا بعض آية. وعُزي للأئمة الثلاثة، بل لا يثبتها أحدٌ منهم في أول سورة. وفي قول رابع: إنها آية مقروءة للفصل بين السور. وهو غريب لم ينقله أحد من الأصحاب عن الشافعي، ولكنه في "الطارقيات" لابن خالويه عن الربيع، قال: سمعت الشافعي يقول: أولُ الحمد "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وأول البقرة {الم} .

قال ابن الصلاح: وله حُسْنٌ، وهو أنها لَمَّا ثبتت أولًا في سورة الفاتحة، كانت في باقي السور إعادةً لها وتكرارًا، فلا تكون من تلك السورة ضرورة؛ ولذلك لا يقال: هي آية مِن أول كل سورة، بل هي آية في أول كل سورة.

قال بعض المتأخرين: وهذا أحسن الأقوال، وبه تنجمع الأدلة، فإن إثباتها في المصحف بين السُّوَر من سواده، وأجمع الصحابة صلى الله عليه وسلم أن لا يُكتب في المصحف ما ليس بِقُرآن، وأن ما بين دفتَي المصحف كلام الله، فإن في ذلك دليلًا واضحًا على ثبوتها.

قال القاضي حسين والغزالي والنووي وغيرهم: هو من أحسن الأدلة، ولم يَقُم دليل على كونها آية من أول كل سورة.

وكذلك ذهب أبو بكر الرازي من الحنفية إلى أنها آية مفردة أُنزلت للفصل بين السوَر. حكاه عنه ابن السمعاني في "الاصطلام".

وحكى المتولى من أصحابنا [وجهًا]

(1)

: أنه إنْ كان الحرف الأخير من السورة قبله ياء ممدودة كالبقرة، فالبسملة آية كاملة منها، وإن لم يكن كذلك كما في {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، فبعض آية.

(1)

في (ز): طريقةً.

ص: 504

ومما استُدل به على أنها من الفاتحة - غير ما سبق من تَضَمُّن مصاحف الصحابة فمن بعدهم لها بل وفي سائر السور غير براءة - ما صح عن أُم سلمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة، وعَدَّها آية"

(1)

. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] قال: هي فاتحة الكتاب. قيل: فأين السابعة؟ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(2)

. أخرجهما ابن خزيمة في "الصحيح" وغيره.

وعن ابن عباس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"

(3)

. رواه أبو داود، والحاكم وقال: على شرط الشيخين. وعن علي وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم أن الفاتحة هي السَّبع المثاني وهي سبع آيات، والبسملة السابعة. وفي بعض الروايات عن أبي هريرة ذلك مرفوعًا. رواه البيهقي والدارقطني، والروايات في ذلك كثيرة.

ونحن لا ندَّعِي في ذلك أنه تواتر، بل إما أن نقول: أفاد القطع بانضمام القرائن إليه؛ فإنَّ خبر الآحاد إذا احتفت به القرائن الموجِبة للقطع، أفاد القَطْع.

أو نقول: إنه وإن لم يتواتر عندنا فقد تواتر عند مَن نُقلده، وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه، ورُب تواتر يكون في زمن دُون آخَر، ولشخص دون آخر، وإثباته ذلك قرآنا والقرآنُ لا يَثْبت إلا بالتواتر - يدل على تواترها عنده.

أو نقول: إنها ليست من القرآن القطعي، بل من الحكمي، وهو أصح الوجهين الذين

(1)

صحيح ابن خزيمة (493)، مستدرك الحاكم (848)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2214).

(2)

السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2216)، مستدرك الحاكم (2024) وغيرهما.

(3)

سنن أبي داود (رقم: 788)، السنن الكبرى للبيهقي (2206). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 788).

ص: 505

حكاهما الماوردي في أنها هل هي قرآن على سبيل القطع كسائر القرآن؟ أو على سبيل الحكم؛ لاختلاف العلماء فيها؟

ومعنى "سبيل الحكم" أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة، ولا تكون قراءتها بكمالها إلا بها. قال: وجمهور أصحابنا على أنها قرآن حُكمًا، لا قطعًا.

قال ابن السمعاني: فيكون قرآنا عملًا، لا عِلمًا. قال: كالحجر من البيت في الطواف لا في الاستقبال، فهو حُكمي، لا قطعي.

وكذا ضعَّف الإمامُ القولَ بأنها قرآن قطعي، وقال: إنه غباوة عظيمة من قائله؛ لأن ادِّعاء العِلم حيث لا قاطع مُحَالٌ.

وصحح أيضا النووي القول بأنها حُكمي، واستند إلى منع تكفير النافي لها إجماعًا كما هو المعروف. وإن كان العمراني حكى في "زوائده" عن صاحب "الفروع" أنَّا إذا قلنا: إنها من الفاتحة قطعًا، كفَّرنا نافِيها، وفسَّقنا تاركها.

لكن لا التفات لذلك، ومن أجل ذلك قال ابن الحاجب:(وقوة الشبهة في "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" منعت من التكفير من الجانبين)

(1)

.

أيْ: جانب المثبتين لها (كالشافعية) والنافين لها (كالأئمة الثلاثة والقاضي أبي بكر).

لكن هذا إنما هو إذا أثبتناها قرآنًا قطعيًّا، أما إذا أثبتناها حكميًّا، فليس هنا مُقْتَضٍ للتكفير حتى يُدْفع بالشُّبهة، وكذا إذا قُلنا: إنه قطع بتواترها عند القائل به دُون غيره، أو: إنَّ القطع بالقرائن كما سبق.

على أن القطع وحده لا يوجب تكفير النافي، بل لا بُدَّ أن يكون المقطوع به مجمعًا عليه

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 457).

ص: 506

معلومًا من الدين بالضرورة.

ثم قال ابن الحاجب: (والقطع أنها لم تتواتر)

(1)

إلى آخِره.

وهو عجيب، فأيُّ قَطْع مع قوة الشُّبهة - على قوله؟ ! وكذلك مبالغة القاضي في تخطئة القول بأنها من القرآن - لا يلاقي مُدَّعَى أنَّ ذلك حُكمي لا قطعي، أو بتواتر حصل له، أو بقطع بقرائن كما سبق بيانه.

نعم، كونه قرآنًا حكميًّا هو [أوضح]

(2)

الأوجُه الثلاثة؛ فلذلك اقتصرتُ عليه في النَّظم بقولي: (سِوَى مَا كَانَ حُكْمِيًّا). أي: فإنَّ الحكمي لا يحتاج لتواتر، وبه تندفع الإشكالات كلها إن شاء الله تعالى.

وقولي: (بَرَاءَةَ الصِّلَهْ) أيْ التي توصل بما قبلها مِن غير فصل بالبسملة، كما قال ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملَكم على أنْ قرنتم بين الأنفال وهي في المثاني وبراءة وهي من المئين، فلم تكتبوا بينهما تسمية ووضعتموها في السبع الطوَل؟ فقال: الأنفال نزلت بالمدينة، وبراءة من أواخر ما نزل، فكانت القصة تشبه بعضها بعضًا، وقُبض صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقَرنَّا بينهما

(3)

.

وهذه المسألة في الحقيقة من مسائل الفقه، وإنما ذكرناها تفريعًا على ما بيناه في الأدلة الثلاثة من أنه لا بُدَّ من ثبوته بالسند، فهو تقسيم [لسندها]

(4)

، فالكتاب بالتواتر، وكُل من

(1)

مختصر المنتهى مع شرحه (1/ 462).

(2)

في (ز): أصح.

(3)

سنن أبي داود (786)، وسنن الترمذي (رقم: 3086) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن أبي داود: 786).

(4)

كذا في (ص، ت)، لكن في (ز): لسندهما.

ص: 507

السُّنة والإجماع يكون بالتواتر و [بالآحاد]

(1)

كما سيأتي بيانه، والله أعلم.

ص:

268 -

وَمَا [قَرَاهُ]

(2)

السَّبع ذُو تَوَاتُرِ

لأَنَّهُ مِنْهُ بِقَطْعٍ سَائِرِ

269 -

لَا الِاخْتِلَافُ في وُجُوهِ التَّأْدِيَه

مِثْلُ مَقَادِيرِ [مُدُودٍ مُنْهِيَهْ]

(3)

270 -

كَذَا إمَالَةٌ وَهَمْزٌ سَهَّلُوا

أَوْ حَقَّقُوا، وَوَصْفُ حَرْفٍ يُسْهَلُ

271 -

لَا أَصْلُ كُلٍّ؛ فَهْوَ قَدْ تَوَاترَا

أَمَّا الشُّذُوذُ في قِرَاءَاتٍ تُرَى

الشرح:

أي: إذا تَقرر أن القرآن يُعتبر في ثبوته التواترُ، انبنى على ذلك مسألتان: القراءات السبعة، و [القراءات]

(4)

الشاذة.

فأما الأُولى: وهي ما قرأ به الأئمة السبعة المشهورة وتواترت عنهم من القرآن فيجب أن [تكون متواترة]

(5)

إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ [لكونها]

(6)

قرآنًا، ولا يكون إلا متواترًا كما سبق.

واحترزتُ بقولي: (وتواترت) عما يُحكَى عن بعضهم آحادًا، فإنَّ ذلك من الشاذ الآتي بيانه، كما لو قرأ بها غيرهم.

(1)

كذا في (ز). وفي (ش): الآحاد. وفي سائر النُّسخ: إلى آحاد.

(2)

ينضبط الوزن هكذا ولا ينضبط مع: قَرَأَه.

(3)

في (ز): المدود المنهية. وفي (ظ): ممدود منهية.

(4)

في (ز، ظ، ش): القراءة.

(5)

كذا في (ز).

لكن في سائر النُّسخ: يكون متواترا.

(6)

كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: لكونه.

ص: 508

والخلاف في تواتُر السبعة حكاه السرخسي من أصحابنا في كتاب الصوم من "الغاية"، فقال:(القراءات السبع متواترة عند الأئمة الأربعة وجميع أهل السُّنة، خلافًا للمعتزلة، فإنها آحاد عندهم). انتهى.

وممن ادَّعَى أنها آحاد أيضًا الأبياري شارح "البرهان"، قال: وأسانيدهم تشهد بذلك.

ونازع بهذا قول الإمام في "البرهان": إنها متواترة.

وقال صاحب "البديع" من الحنفية: إنها مشهورة، لا متواترة.

وفي "مختصر الروضة" للطوفي من الحنابلة: (إنها متواترة، خِلافًا لبعضهم)

(1)

.

فقَوْل ابن الحاجب: (لنا: لو لم تكن متواترة لكان بعض القرآن غير متواتر، كَـ"ملك" و"مالك" ونحوهما)

(2)

إلى آخِره -[نصبٌ للدليل]

(3)

مع مخالف، خلافًا لقول بعض الشراح: إنه دليل لا على مخالف؛ لأنَّ كوْن تواتُر السبعة لا خِلاف فيه - ممنوعٌ؛ لِما بيَّناه.

وما أشار إليه شارح "البرهان" وتبعَه جمع عليه مِن أنَّ "أسانيدهم مَن تتبعها يجدها آحادًا، فيكون التواتر إنما هو مِنَّا إليهم فقط" ممنوعٌ؛ فإنها تواترت لهم وشاركهم مَن بلغ معهم حد التواتر، ولكن اشتهرت عنهم، [فلا يكون]

(4)

كل منهم منفردًا، وأسانيد القراءات تدل على ذلك.

ثم - على تقدير تسليم ما قالوه - القطعُ حاصل من حيث تَلَقِّي الأُمة لها بالقبول وتوارُد السلف والخلَف على القطعْ بها كما قال ابن الصلاح في أحاديث الصحيحين، وسيأتي بيانه

(1)

شرخ مختصر الروضة (2/ 21).

(2)

مختصر المنتهى مع شرحه (1/ 462).

(3)

كذا في (ز، ش). وفي سائر النُّسخ: نصبَ الدليل.

(4)

كذا في (ش). لكن في (ظ، ت): لا يكون. وفي سائرها: لا بِكون.

ص: 509

وما قيل فيه من النظر.

وما أحسنَ قول الإمام كمال الدين ابن الزملكاني: انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم؛ فقد كان يتلقاه من أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجمُّ الغفير عن مثلهم، وكذلك دائماً. فالتواتر حاصل لهم، ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف وحفظوا شيوخهم [فيها]

(1)

جاء السند من جهتهم، وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع، هي آحاد ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصُل بهم التواتُر عن مثلهم في كل عصر. فينبغي أن يتفطن لذلك وأنْ لا يُغتر بقول القراء فيه.

وأشرتُ إلى ذلك في النَّظم بقولي: (لأَنَّهُ مِنْهُ بِقَطْعٍ سَائِرِ). أي: لأن ما قرأه السبعة من [القراءات]

(2)

كما هو مقطوع به في كل عصر ومصر فهو سائر في الأعصار والأمصار.

وقولي: (لَا الِاخْتِلَافُ) إلى آخِره - بيانٌ لِأنَّ ما أَطْلقه الجمهور مِن تواتُر السبعة ليس على إطلاقهم، بل يُستثنى منه - كما قال ابن الحاجب - ما كان من قبيل الأداء، كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه. ومراده بالتمثيل بِـ"المد والإمالة" مقادير المد وكيفية الإمالة، لا أصل المد والإمالة؛ فإنه متواتر قطعًا.

فالمقادير كَمَدِّ حمزة وورش بقَدْر ست ألِفات، وقيل: خَمس. وقيل: أربع. ورجحوه، وعاصم بقدر ثلاث، والكسائي بقدر ألِفين ونصف، وقالون بقدر ألِفين، والسُّوسي بقدر ألِف ونصف، ونحو ذلك. وكذلك الإمالة تنقسم إلى:

- محضة، وهي أن ينحى بالألِف إلى الياء، وبالفتحة إلى الكسرة.

- وبَيْن بَيْن، وهي كذلك إلا أنها تكون إلى الألف أو الفتحة أقرب، وهي المختارة عند

(1)

في (ش): منها.

(2)

كذا في (ص)، لكن في (ت، ز، ق): القرآن.

ص: 510

الأئمة.

أما أصلُ الإمالة فمتواترة قطعًا.

وكذلك التخفيف في الهمز والتشديد فيه، منهم مَن يسهله، ومنهم مَن يبدله، ونحو ذلك.

فهذه الكيفية هي التي ليست متواترة؛ ولهذا كره الإمام أحمد رضي الله عنه قراءة حمزة؛ لِما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك، وكذا قراءة الكسائي؛ لأنها كقراءة حمزة في الإمالة والإدغام كما نقل ذلك السرخسي في "الغاية". فلو كان ذلك متواترًا لَمَا كرهه الإمام أحمد؛ لأن الأُمة إذا كانت مجمعة على شيء، فكيف يكره؟ !

وقولي: (وَوَصْفُ حَرْفٍ يُسْهَلُ) هو مما زاده أبو شامة - في المستثنى - على ما ذكره ابن الحاجب في استثنائه، وهي الألفاظ المختلَف فيها بين القراء، أيْ: ألفاظ اختلف القراء في وجه تأديتها، كالحرف المشدد يبالغ بعضهم فيه حتى كأنه يزيد حرفًا، وبعضهم لا يرى ذلك، وبعضهم يرى التوسط بين الأمرين.

وهو معنى قولي: (وَوَصْفُ حَرْفٍ يُسْهَلُ). وهو بضم أوله مِن "أسهل" الرباعي بمعنى "سهَّل" المشدد. أي: يختلف في وجه تسهيله. وهذا الذي قاله [ظاهر، و]

(1)

يمكن دخوله تحت قول ابن الحاجب في الاحتراز عنه: (فيما ليس من قبيل الأداء). على أن بعضهم قد نازع أبا شامة بما لا تحقيق فيه، والله أعلم.

وقولي: (أَمَّا الشُّذُوذُ في قِرَاءَاتٍ ترى) تمامه قولي بعده في جواب "أما":

(1)

ليس في (ز).

ص: 511

ص:

272 -

فَلَيْسَ قُرْآنًا؛ [لِذَا]

(1)

لَا يُقْرَأُ

بِهِ، وَذَاكَ بَعْدَ سَبْعٍ تُقْرَأُ

273 -

وَاخْتَارَ جَمْعٌ مَا رَآهُ الْبَغَوِي

مِنْ أَنَّهُ وَرَاءَ عَشْرٍ مُنْحَوِى

274 -

نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً إنْ ثَبَتَا

نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مُثْبِتَا

الشرح:

أيْ: إذا عُلم أن القرآن لا يكون إلا متواترًا، نشأ منه أن القراءات الشاذة ليست قرآنًا؛ لأنها آحاد، وحينئذ فلا يجوز القراءة بها، قال ابن عبد البر: إجماعًا. وقال النووي في "شرح المهذب": لا في الصلاة ولا في غيرها. وكذا قاله في فتاويه، قال: فإنْ قرأ بها في الصلاة وغيَّرت المعنى، بطلت صلاته إن كان عامدًا عالمًا.

وكذا قال أبو الحسن السخاوي: لا تجوز القراءة بها؛ لخروجها عن إجماع المسلمين وعن الوجه الذي يثبت به القرآن وهو التواتُر وإن كان موافقًا للعربية وخط المصحف.

ونقل الشاشي في "المستظهري" عن القاضي الحسين أن الصلاة بالقراءة الشاذة لا تصح.

نعم، نازع الشيخ أبو حيان وجَمعٌ في جواز القراءة بها، وليس مخالَفةً لِمَا نُقل مِن الإجماع؛ لأنهم بنوه على تفسير هم "الشاذ"، وسيأتي، فإنما أجازوا فيما ليس بِشَاذ على رأيهم.

وعضد أبو حيان ذلك بأن المسلمين لم يزالوا يُصلون خلف أصحاب هذه القراءات، كالحسن البصري ويعقوب وطلحة بن مُصَرّف وابن مُحَيْصن والأعمش وأضرابهم، ولم ينكر ذلك أحد.

(1)

في (ز، ت، ش، ن 2، ن 5): لذا. لكن في سائر النُّسَخ: كذا.

ص: 512

لكن كلام الرافعي يقتضي جواز القراءة بالشاذ من غير أنْ ينبه على تفسير "الشاذ" بغير المشهور فيه، فإنه قال: تسوغ القراءة بالسبع وكذا بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنًى ولا زيادة حَرْف ولا نقصانه.

وزعم النووي في "شرح المهذب" أن كلام الرافعي في الصحة، لا في الجواز. يعني: فلا يبقى في كلامه إشكال. وكأنه يريد بذلك أن كلام الرافعي في صحة نقلها وثبوتها بالسند الصحيح، لا في جواز القراءة بها، ولكنه تأويل بعيد، وقد جزم هو في "الروضة" بأنه تصح الصلاة بالقراءة الشاذة إنْ لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصانه.

وقولي: (وَذَاكَ بَعْدَ سَبع تُقْرَأُ) إشارة إلى تفسير "الشاذ"، وهو لُغةً: المنفرد. واصطلاحًا: ما لم يتواتر من القراءات. أما الشذوذ في الأحاديث فسيأتي بيانه.

وقد اختُلف في ضبط القراءة الشاذة، فالمشهور أنها ما وراء السبعة المعروفة، وهو ظاهر كلام الرافعي السابق؛ ولذلك جريتُ عليه في النَّظم.

ونُقل عن البغوي أنه ما وراء العشرة، أي: هذه السبعة مع يعقوب وخلف وأبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع. واختار هذا الشيخ تقي الدين السبكي وغيرُه، وقالوا: إنَّ قراءة الثلاثة المذكورين تواترت كالسبعة. وقد حكى البغويُّ في تفسيره الإجماعَ على جواز القراءة بها. قال أبو حيان وهو من أئمة هذا الشأن: لا نعلم أحدًا من المسلمين حظر القراءة بالثلاثة الزائدة على السبع، بل قُرئ بها في سائر الأمصار.

وقال الشيخ تاج الدين السبكي: (القول بأنها غير متواترة في غاية السقوط، ولا يصح القولُ به عمَّن يُعتبر قوله في الدِّين). انتهى

قال القاضي أبو بكر بن العربي في "القواصم": (ضَبْط الأمر على سبع قراءات ليس له أصل في الشرع، وقد جمع قومٌ ثماني قراءات، وقومٌ عشرًا).

ص: 513

قال: (وأصلُ ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أُنزل القرآن على سبعة أحرف"

(1)

. فظن قومٌ أنها سبع قراءات، وهو باطل)

(2)

. انتهى

قلتُ: قد يُمنع ما قاله بأن كوْنها سبعة إنما هو بحسب الواقع اتفاقًا، لا للحديث. والحديث في الصحيحين من حديث ابن عباس وأُبي بن كعب وعمر رضي الله عنهم.

قال أبو حاتم بن حبان: (اختُلف في المراد بذلك على خمسة وثلاثين قولًا، وقد وقفتُ منها على كثير). انتهى

ورجح القرطبي قول الطحاوي: إن المراد به أنه وُسع عليهم في مبدأ الأمر أن يُعبِّروا عن المعنى الواحد بما يدل عليه لُغة إلى سبعة ألفاظ؛ لأنهم كانوا أُميين لا يَكتب إلا القليل منهم، فشقَّ على أهل كل ذي لُغة أن يتحول إلى غيرها، فلمَّا كثر مَن يَكتب وعادت لُغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع ذلك، فلا ويُقرأ إلا باللفظ الذي نزل.

ثم نقل ذلك عن ابن عبد البر وعن القاضي أبي بكر، ومن ذلك أن أُبي بن كعب كان يقرأ {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: 13]: "للذين آمنوا امهلونا"، "للذين آمنوا أخرونا".

وممن اختار هذا القول أيضًا ابن العربي. وإنْ كان في قوله: "أُنزل على سبعة أَحْرُف" ما قد ينافي إرادة السماحة في لُغات، فإنه ما نزل إلا بواحدة، والتوسيع ليس من المنزل، [بل]

(3)

في حُكمه، إلا أن يُؤوَّل ["أنزل القرآن" أي]

(4)

: أنزل أنْ يُقرأ على سبعة أحرف.

واعْلم أن ممن نُقل عنه أن المراد به القراءات السبع الخليل بن أحمد، وهو أضعف

(1)

صحيح البخاري (رقم: 4754)، صحيح مسلم (رقم: 818).

(2)

العواصم من القواصم (ص 360)، الناشر: دار التراث - مصر.

(3)

من (ز).

(4)

من (ش).

ص: 514

الأقوال، وليس هذا موضع بَسْطها.

وقولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً) إلى آخِره - إشارة إلى أن القراءات الشاذة إذا صح سندها، فالصحيح أنه يُحتج بها؛ لأنه إذا بطل خصوص كوْنها قرآنًا لِعَدم التواتر، يبقى عموم كوْنها خبرًا. وقد أطلق الشافعي - فيما حكاه البويطي عنه في باب الرضاع وفي تحريم الجمْع - الاحتجاجَ بها، وعليه جمهور أصحابه، كالقضاة: الحسين وأبي الطيب والروياني، وكذا الرافعي. وقد احتجوا على قطع اليمين من السارق بقراءة ابن مسعود:"والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم".

ونقله ابن الحاجب عن أبب حنيفة، حيث احتج على وجوب التتابع بما نُقل عن مصحف ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات" بعد أنِ اختار - تبعًا للآمدي ونسبه للشافعي - أنه ليس بحجة.

وكذا قال الأبياري في "شرح البرهان": إنه المشهور من مذهب مالك والشافعي.

وقال النووي في "شرح مسلم": إنه مذهب الشافعي. قال: لأن ناقلَها لم ينقلها إلا على أنها قرآن، والقرآن لا يثبت إلا بالتواتر. وإذا لم يثبت قرآنا، لم يثبت خبرًا.

وكذا زعم إمام الحرمين في "البرهان" أن الشافعي إنما لم يقُل بالتتابع كأبي حنيفة لأنَّ عنده أن الشاذ لا يُعمل به، وتبع الإمام في ذلك أبو نصر القشيري والغزالي في "المنخول" وإلْكِيا وابن السمعاني. ولكن المذهب إنما هو ما سبق عن نَص البويطي وغيره، فهو الأرجح.

ومسألة التتابع حكى الماوردي فيها قولًا بالوجوب احتجاجًا بقراءة "متتابعات"، ولكن الأرجح لا يجب، لا لكون القراءة الشاذة غير حُجة؛ بل لأنها إنما نُقلت تأويلًا، لا قراءةً، أو لمعارضة ذلك بقول عائشة رضي الله عنها: (نزلت "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فسقطت

ص: 515

"متتابعات")

(1)

. أخرجه الدارقطني وقال: "إسناده صحيح"، أو لغير ذلك.

ويخرج من كلام الماوردي قول ثالث بالتفصيل في المسألة، فقد قال في موضع من "الحاوي": إنْ أضافها القارئ إلى التنزيل أو إلى سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، أُجريت مجرى خبر الواحد، وإلا فهي جارية مجرى التأويل.

وبذلك صرح الباجي في "المنتقى"، فقال: فيها ثلاثة أقوال، ثالثها: التفصيل بين أن يُسْند أوْ لا.

نعم، في شرح "مسلم" للقرطبي محل الخلاف إذا لم يُصرح الراوي بسماعها.

ويخرج من كلام بعض الحنفية مذهب رابع، فقال أبو زيد في كتاب "الأسرار": إنه يُعمل بالقراءة الشاذة إذا اشتهرت.

وكذا قال صاحب "المبسوط"، قال: ولهذا لم يعملوا بقراءة أُبي بن كعب: "فعدة من أيام أخر متتابعة"؛ لأنها قراءة شاذة غيْر مشهورة، ومثلها لا يُثبت الزيادة على النَّص، بخلاف قراءة ابن مسعود:"ثلاثة أيام متتابعات"، فقد كانت مشهورة في زمن أبي حنيفة.

وكذا قال أبو بكر الرازي: (إنهم إنما عملوا بها لاستفاضتها وشهرتها في ذلك العصر وإنْ كانت إنما نُقلت إلينا بطريق الآحاد)

(2)

.

وقولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً إنْ ثَبَتَا) أي: إن ثبت ذلك المروي من القراءات شذوذًا بالسند الصحيح، لا إذا لم يثبت عن المنقول ذلك عنه، أو ثبت لكن لا على أنه قراءة، والله أعلم.

(1)

سنن الدارقطني (2/ 192)، وقال الإمام الدارقطني:(هذا إسناد صحيح).

(2)

الفصول في الأصول (1/ 199).

ص: 516

ص:

275 -

وَتَثْبُتُ السُّنَّةُ وَالْإجْمَاعُ بِه

كَذَاكَ بِالْآحَادِ لَيْسَ يَشْتَبِهْ

276 -

لكِنْ تَوَاتُرٌ بِسُنَّةٍ يَقِلْ

بَلْ نَفْيُ غَيْرِ الْمَعْنَوِيْ فِيهَا قُبِلْ

الشرح:

لَمَّا فرغتُ من بيان السند في الدليل الأول وهو الكتاب، شرعتُ في بيانه في الدليلين الآخَرين وهُما السُّنة والإجماع، فذكرتُ أن كُلًّا منهما يكون بالتواتر وبالآحاد، لكن المتواتر في السُّنة قليل حتى إنَّ بعضهم نفاه إذا كان لفظيًّا، وهو أن يتواتر لفظه بعيْنه، لا ما إذا كان معنويًّا، كأن يتواتر معنى في ضمن ألفاظ مختلفة، ولو كان ذلك المعنى [المشترك]

(1)

فيه بطريق اللزوم، ويسمى "التواتر المعنوي"، وسيأتي بيانه.

وقد سبق أن ابن الصلاح قال: (إن المتواتر بِاسْمه الخاص إنما لم يذكره المحدثون لندرته عندهم حتى لا يكاد يوجد)

(2)

.

وسبق التعقب عليه في شيء من ذلك.

ثم قال: (ومَن سُئِل عن إبراز مثال لذلك فيما يُروَى من الحديث، أعياه تَطَلُّبه، وحديث:"إنما الأعمال بالنيات"

(3)

ليس من ذلك بسبيل وإنْ نقَله عددُ التواتر وزيادة؛ لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده، ولم يوجد في أوائله)

(4)

.

(1)

في (ز): الشركة.

(2)

مقدمة ابن الصلاح (ص 267).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

المرجع السابق.

ص: 517

يشير بذلك إلى أنه لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر رضي الله عنه، ولا عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا عن محمد إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر، فرواه عنه خلْقٌ كثير، قيل: سبعمائة. وقيل غير ذلك، وتَواتَر حتى الآن.

نعم، تُعُقِّب عليه بأنه قد رواه نحو العشرين صحابيًّا، وأنه قد تُوبع الثلاثة الذين بعد عمر.

وجوابه: أن ما ذُكر من ذلك إنما هو بمعنى "الأعمال بالنية"، لا بلفظِه، والكلام إنما هو في المتواتر لفظًا لا معنًى، وأن [المتابعات]

(1)

الواقعة لا تنتهي إلى حد التواتر.

ثم قال ابن الصلاح: (نعم، حديث:"مَن كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"

(2)

نراه مثالًا لذلك؛ فإنه نقله من الصحابة رضي الله عنه العددُ الجمُّ)

(3)

. إلى آخِر ما ذكره.

وقد تُعُقب عليه بوصف غيره من الأئمة عِدة أحاديث بأنها متواترة:

كحديث ذكر حوض النبي صلى الله عليه وسلم، أورد البيهقي في كتاب "البعث والنشور" روايته عن أزيد من ثلاثين صحابيًّا، وأفرده المقدسي بالجمع. قال القاضي عياض: وحديثه متواتر بالنقل.

وحديث الشفاعة، قال القاضي عياض: بلغ التواتر.

وحديث المسح على الخفين، قال ابن عبد البر: رواه نحو أربعين صحابيًّا، واستفاض وتواتر.

(1)

كذا في (ز، ش، ص). لكن في (ق، ظ، ت): المتتابعات.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 107)، صحيح مسلم (رقم: 4).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 269).

ص: 518

وقال ابن حزم في "المحلى": (نقل تواتر يوجب العلم)

(1)

.

قال: (ومن ذلك أحاديث النهي عن الصلاة في [معاطن]

(2)

الإبل، وحديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد وحديث قول المصلِّي:"ربنا ولك الحمد") إلى آخِره.

وجواب ذلك: يحتمل أنَّ مراد قائل ذلك بِـ"المتواتر" إنما هو المشهور، كما يعبر به كثيرا عنه، أو أنها متواترة معنًى، أو غير ذلك، وإلا فالواقع [فقْدان]

(3)

شرط التواتر في بعض طبقاتها. وإلى هذا أشرت بقولي: (بَلْ نَفْيُ غَيْرِ الْمَعْنَوِيْ فِيهَا قُبِلْ).

وأما الإجماع فنقله بالتواتر كثير. نعم، وقع خلاف في أصل الإجماع إذا قُلنا بإمكان تصوُّره: هل يمكن معرفته والاطِّلاع عليه؟ فأثبته الأكثرون كما قاله الآمدي، ونفاه الأقلُّون، ومنهم أحمد بن حنبل، في إحدى الروايتين عنه أنَّ مُدَّعي الإجماع كاذب.

ولكنه محمول على:

- الاستبعاد، أيْ: يَبعد مع كثرة العلماء وتفرقهم في البلاد النائية أنْ يَعرف الناقل عنهم اتفاقَ معتقداتهم مع إمكان أن يكون قوله أو فعله المنقول عنه مخالفًا لمعتقده؛ لغرضٍ ما. وبتقدير تسليمه فقدْ يرجع عنه قبل الوصول للباقين، فالورَع أنْ لا يُنقل؛ [لذلك]

(4)

، ولأنه قد يكون ثَم مخالف لم يُطَّلَع عليه.

- أو أنه قال ذلك في حَق مَن ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأن أحمد قد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة.

(1)

المحلى (2/ 83).

(2)

في (ز): مواطن.

(3)

في (ش): فقد.

(4)

في (ق، ت): كذلك.

ص: 519

- وحمل ابن تيمية قوله ذلك على إجماع غير الصحابة؛ لانتشارهم، أما الصحابة فمعروفون محصورون.

ونقل ابن الحاجب أنَّ المانع احتج بأن نقْله مستحيل عادةً؛ لأن الآحاد لا يفيد العِلم بوقوعه، وهو قطعي لا بُدَّ له من سندٍ قطعي، والتواتر بعيد.

وأجاب عن ذلك بالوقوع؛ فإنَّا قاطعون [بتواتر النقل]

(1)

عن إجماع الأُمة على تقديم النَّص القاطع على الظن.

ولم يتعرض لِرد أن الآحاد لا يفيد، ولكنه مردودٌ بأنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم وفِعله أقوى منه، ومع ذلك يثبت بالآحاد ويجب العمل به.

قال الماوردي: وليس آكد من سُنن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تثبت بقول الواحد.

وجرى على هذا أيضًا إمام الحرمين والآمدي وإنْ نقل عن الجمهور اشتراط نقله بالتواتر.

ومنهم مَن فرَّع المنع على كون الإجماع حُجة قطعية، ونقل ذلك عن الجمهور. وقال القاضي في "التقريب": إنه الصحيح.

ولكن لا يلزم؛ فإنه وإنْ كان قطعيًّا في نفسه لكن طريق وصوله قد تكون ظنية؛ بدليل السُّنة كما قررناه.

وذهب جَمعٌ من الفقهاء إلى ثبوته بالآحاد بالنسبة إلى العمل خاصة، لكن لا يرفع به قاطع، ولا يعارضه.

(1)

في (ز): بنقل التواتر.

ص: 520

تنبيه:

قول القائل: "لا أعلم خلافًا بين أهل العلم في كذا" لا يكون نقلًا للإجماع. قال الصيرفي: لجواز الاختلاف. وكذا قاله ابن حزم في "الإحكام". وقال في كتاب "الإعراب": إن الشافعي نَص عليه في "الرسالة"، وكذا أحمد.

قال الصيرفي: وإنما يسوغ هذا لمن بحث البحث الشديد وعلم أصولَ العلم وجُمله.

وقال ابن القطان: إنَّ قائل ذلك إنْ كان من أهل العلم فهو حُجة، وإلا فلا.

وقال الماوردي: إن لم يكن من أهل الاجتهاد المحيطين بالإجماع والاختلاف، لم يَثبت الإجماع بقوله، وإلا ففيه خِلاف لأصحابنا.

ورَدَّ ابن حزم على من يجعل مثل هذا إجماعًا بأن الخلاف قد يخفَى على الأئمة الكبار، فقدْ قال الشافعي في زكاة البقر:(لا أعلم خلافًا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع). مع أن في المسألة قولًا مشهورًا: إنَّ الزكاة في خمس منها كالإبل.

و[قال]

(1)

مالك في "الموطأ" في الحكم بِرد اليمين: (وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس أَعْلمه). مع أن الخلاف شهير، فكان عثمان رضي الله عنه لا يرى برد اليمين ويقضي بالنكول، وكذا ابن عباس، ومن التابعين الحكَم وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت.

والله أعلم.

(1)

في (ص): فقد قال الشافعي وقال.

ص: 521

ص:

277 -

وَخَبَرُ الْآحَادِ مَا لَا يَنتهِي

إلى تَوَاتُرٍ، وَغَيْرُ الْمُنْتَهِي

278 -

إنْ شَاعَ عَنْ أَصْلٍ [فَذَا]

(1)

الْمَشْهُورُ

وَ [الْمُسْتَفِيضُ اسْمَانِ]

(2)

، والْمَذْكُورُ

279 -

أَقلُّهُ اثْنَانِ، وَقَوْلُ الْوَاحِد

يُعْمَلُ في الْمُفْتَى بِهِ وَالشَّاهِدِ

الشرح:

لَمَّا بينتُ أن السُّنة والإجماع يثبتان بخبر الواحد، شرعتُ في تعريفه وتقسيمه وأحكامه، وهو جُلُّ المقصود من هذا الباب.

أما تعريفه فَـ "خبر الواحد": ما لم يَنْتَهِ إلى رتبة التواتر، إما بأن يرويه مَن هو دُون العدد الذي لا بُدَّ منه في التواتر، وهو الخمسة كما تَقدم، بأنْ يرويه أربعة فما دونها، أو يرويه عددُ التواتر ولكن لم ينتهوا إلى إفادة العِلم باستحالة تواطؤهم على الكذب، أو لم يكن ذلك في كل الطبقات، أو كان ولكن لم يخبِروا عن محسوس، أو غير ذلك مما يعتبر في التواتر كما سبق.

وقد عُلم ذلك من التقسيم أول الباب مِن أن ما لم يُفِد العِلم بنفسه من الأخبار هو الآحاد، وعُلم أيضًا أنه ليس المراد به ما يرويه الواحد فقط كما قد يُفهم مِن إطلاق خبر الواحد أو الآحاد، بل ما ذكرناه.

وقولي: (وَغَيْرُ الْمُنْتَهِي) إلى آخِره - إشارة إلى أن أرجح الأقوال وأقواها في "المشهور" أنه قسم من الآحاد، ويسمى أيضًا "المستفيض".

(1)

في (ق، ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن 5): فذا. وفي (ض، ص، ش): كذا. وفي (ز، ن 2): هو. وفي (ظ): لذا.

(2)

كذا في (ت، ن 1، ن 3، ن 4، ن هـ). لكن في (ز، ن 2): مستفيضًا سَمِّ. وفي (ض، ق، ص): المستفيض لاسما. وفي (ظ): المستفيض لاسيما. ولا (ش): المستفيض لاسمان.

ص: 522

وقد سبق عن الماوردي والأستاذ أبي إسحاق وجمعٍ أنه قسم ثالث غير المتواتر والآحاد، وذهب أبو بكر الصيرفي والقفال الشاشي إلى أنه و"المتواتر" بمعنًى واحد.

وثالثها: أن "المشهور" أعم من "المتواتر"، وهو طريقة المحدثين.

قال ابن الصلاح: (ومعنى الشهرة مفهوم، وهو ينقسم إلى: صحيح، كحديث:"إنما الأعمال بالنية"

(1)

، وغير صحيح، كحديث:"طلب العلم فريضة على كل مسلم"

(2)

. ونقل عن أحمد أن أربعة أحاديث تدور في الأسواق ليس لها أصل)

(3)

. إلى آخِره.

ثم قال: وينقسم إلى: ما هو مشهور بين أهل الحديث وغيرهم، نحو:"المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده"

(4)

، وبين أهل الحديث خاصة، كقنوته صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو على رعل وذكوان)

(5)

(6)

.

ثم ذكر وَجْه اختصاصه بالشهرة عندهم، ثم قال:(ومن المشهور المتواتر). إلى آخِر ما

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سنن ابن ماجه (رقم: 224)، مسند أبي يعلى (2837)، المعجم الصغير للطبراني (1/ 36، رقم: 22)، وغيرها. قال الحافظ السخاوي في (المقاصد الحسنة، ص 442): (قال العراقي: "قد صحح بعض الأئمة بعض طُرقه. . "، وقال المِزِّي: "إنَّ طُرقه تبلغ به رُتبة الحسن"). وقال الألباني في (تخريج أحاديث مشكلة الفقر، ص 61 - 62) بعد أنْ ذكر طرقه: (وبالجملة فَجُلّ طُرُق هذا الحديث واهية؛ ولذلك ضَعَّفه جماعة من الأئمة. .، لكن بعض طرقه الأخرى مما يقوي بعضه بعضًا، بل أحدهما حسن. . فالحديث بمجموع ذلك صحيح بلا ريب عندي).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 265).

(4)

صحيح البخاري (10)، صحيح مسلم (41).

(5)

صحيح البخاري (958)، صحيح مسلم (677).

(6)

مقدمة ابن الصلاح (ص 265).

ص: 523

سبق نقله عنه.

وفسره الماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر" بما يقتضي أنه أَخَص من "المتواتر" وأعلى منه، فيكون قولًا رابعًا، فقالا:(الاستفاضة أن ينتشر من ابتدائه بين البر والفاجر، ويتحققه العالم والجاهل، ولا يشك فيه سامع، إلى أن ينتهي)

(1)

.

عَنَيا استواء الطرفين و [الواسطة]

(2)

.

قالا: (وهو أقوى الأخبار وأثبتها حُكمًا. و"التواتر": أن يبتدئ به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم، ويبلغوا قدرًا ينتفي عن مِثلهم التواطؤ والغلط، فيكون في أوله من أخبار الآحاد، وفي آخِره من "المتواتر")

(3)

.

ومرادهما بِـ"أوله" أول أمره، لا أول الطبقات من الأسفل.

ثم قالا: (والفرق بينهما من ثلاثة أوجه، أحدها: هذا، وثانيها: أن الاستفاضة لا يراعَى فيها عدالة المخبِر، بخلاف المتواتر. وثالثها: أن الانتشار في الاستفاضة من غير قصد، والانتشار في المتواتر بالقصد، ويستويان في: انتفاء الشك، ووقوع العِلم بهما، وعدم الحصر في العَدد، وانتفاء التواطؤ على الكذب من المخبِرين)

(4)

.

ومَثَّلا "المستفيض" بعدد الركعات، و"المتواتر" بوجوب الزكوات.

وما اشترطاه في الاستفاضة من عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب مفرَّع على قولهما في شهادة الاستفاضة بذلك، وبه قال ابن الصباغ والغزالي والمتأخرون.

(1)

الحاوي الكبير (16/ 85).

(2)

في (ص): الوسط. وفي (ض): الوسطة.

(3)

المرجع السابق.

(4)

الحاوي الكبير (16/ 85).

ص: 524

قال الرافعي: (وهو أشبه بكلام الشافعي) (

(1)

.

ولكن الذي اختاره الشيخ أبو حامد والشيخ أبو إسحاق وأبو حاتم القزويني أنَّ أَقَل ما تثبت به الاستفاضة اثنان، وإليه ميل إمام الحرمين.

وقولي: (إنْ شَاعَ عَنْ أَصْلٍ) هذا متضمن لتعريف هذا النوع وهو "المشهور" بأنه: الشائع عن أصل. أي: الشائع بين الناس لكن بشرط أن يكون عن أصل؛ فخرج ما شاع لا عن أصلٍ يُرجَع إليه، فإنه مقطوع بكذبه.

وقولي: (والْمَذْكُورُ أَقَلُّهُ اثْنَانِ) أي: هذا الذي يسمى "المشهور" و"المستفيض" أقله اثنان، وقيل: عدد يمتنع تواطؤهم على الكذب. وقد سبق تقرير القولين وتعيين قائلهما.

وقال الآمدي: (هو ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة والأربعة)

(2)

.

وقيل: المستفيض ما تلقته الأُمة بالقبول. وعن الأستاذ أنه ما اشتهر عن أئمة الحديث. فلتضم هذه الأقوال إلى ما سبق.

تنبيه:

قد عُلم من دخوله - على المرجَّح - تحت الآحاد أنه يفيد الظن كما سيأتي، لكن الظن فيه أوكد من غيره. ومَن سَوَّى بينه وبين "المتواتر" أو قال: إنه أعلى منه، فهو مفيد عنده القطع، وكذا مَن يشترط استحالة الكذب في رواته، والله أعلم.

وقولي: (وَقَوْلُ الْوَاحِدِ) إلى آخِره وبعده:

(1)

العزيز شرح الوجيز (13/ 69).

(2)

الإحكام للآمدي (2/ 48).

ص: 525

ص:

280 -

وَهَكَذَا رَاوٍ وَلَوْ في دِينِي

سَمْعًا، وَلَا يُشْعِرُ بِالْيَقِينِ

281 -

إلَّا إذَا انْضَمَّ لَهُ قَرِينَه

وَشَرْطُهُ أَذْكُرُهُ مُبِينَه

282 -

عَدَالَةُ الرَّاوِي، كَذَا مُرُوءَتُه

وَضَبْطهُ، فَهَذِهِ شَرِيطَتُهْ

الشرح:

هو بيان لحكم خبر الآحاد، والكلام فيه في ثلاثة مواضع: في الاحتجاج به، وهل يفيد الظن؟ أو اليقين؟ وفي شروطه.

الاول:

يُعمل به بإجماع في ثلاثة أماكن:

- في الفتوى، ومنها الحكم؛ لأنه في المعنى فتوى، وزيادة التنفيذ بشروطه المعروفة، فلذلك استغنيت عن التصريح به بذلك.

- وفي الشهادة، سواء شُرط العدد أو لا؛ لأنه لم يخرج عن الآحاد.

- وفي الرواية في الأمور الدنيوية، كالمعاملات ونحوها. وأما في الأمور الدينية فعلَى الصحيح من الخلاف الآتي بيانه؛ ولذلك قلت:(وَلَوْ في دِينِي) إيماءً إلى أنه محل الخلاف.

وممن صرح بأن الثلاثة الأُولى محل وفاق القفال الشاشي في كتابه والماوردي والروياني وابن السمعاني، حيث قسموا خبر الواحد إلى ما يحتج به فيه بالإجماع، كالشهادات والمعاملات، ومنها الإخبار بإذن صاحب الدار في دخولها وأكل الهدية بإخباره.

قال القفال: ولا خلاف في قبوله؛ لقوله تعالى: {إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53].

ص: 526

قال الماوردي ومن بعده: (لا يراعى فيه عدالة المخبر، وإنما يراعى سكون النفْس إلى خبره، فيقبل من كل بر وفاجر، ومسلم وكافر، وحر وعبد، فإذا قال الواحد منهم: "هذه هدية فلان إليك"، أو: "هذه الجارية وهبها فلان لك"، أو: "كنت أمَرتَه بشرائها فاشتراها"، كُلِّف المخبَر قبول قوله إذا وقع في نفسه صِدقه، ويحل له الاستمتاع بالجارية والتصرف في الهدية، وكذا الإذن في دخول الدار. وهذا شيء متعارَف في الأمصار مِن غير نكير)

(1)

.

ويلتحق بذلك خبر الصبي فيه على الصحيح.

قلت: وعَدُّ هذا ونحوه من المعاملات الدنيوية فيه نظر، وإنما ينبغي أن يكون قِسمًا من الديني وقع فيه الإجماع؛ لاطِّراد العادات فيه والتعارف، وإلا فأكل الهدية والتصرف فيها ووطء الجارية حُكم شرعي، ويرشد إلى ما قُلتُه أن الفتوى والشهادة إجماع مع أنهما من الديني أيضًا؛ ولذلك أشار الشافعي في الاستدلال بحمل ما سواهما من الديني عليهما؛ إذْ لا فارق، وذلك أنه لَمَّا صنف كتابًا في إثبات العمل بخبر الواحد، أوسع فيه الباع، وساق فيه نحو الثلاثمائة حديث عُمِل فيها بخبر الواحد.

قال بعد ذلك: ومَن الذي يُنكر خبر الواحد والحكام آحاد والمفتون آحاد والشهود آحاد؟ !

وقد افتتح الشافعي كت هذا الكتاب بحديث: "رحم الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها"

(2)

. الحديث المشهور.

ظ عترض ابن داود بأنه أثبت خبر الواحد بخبر الواحد، فقال أصحابه: إن ما قاله

(1)

الحاوي الكبير (16/ 86).

(2)

سنن الترمذي (2656)، سنن ابن ماجه (رقم: 230) وغيرهما، ولفظ ابن ماجه:(نَضَّرَ الله امْرَأً سمع مَقَالَتِي فَبَلَّغَهَا). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 2656).

ص: 527

باطل؛ لأن الشافعي رضي الله عنه إنما استدل بما تضمنه مجموع ما ذكره من الأحاديث، وسنشير إلى بعض شيء منها.

وحاصل ما في العمل بخبر الواحد في الأمور الدينية من الخلاف المنتشر المشهور أقوال:

أحدها: أن العمل به جائز عقلًا، وواجب سمعًا. وهو قول الجمهور. قال أبو العباس ابن القاص: لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد، وإنما دفع بعض أهل الكلام خبر الآحاد لعجزه عن السُّنن، زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تواتر بخبر مَن لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهذا ذريعة إلى إبطال السُّنن، فإنَّ ما شَرَطَه لا يكاد يوجد إليه سبيل.

وقد استدل الشافعي بقضية أهل قباء لَمَّا أتاهم آتٍ وقال: إن القبلة قد حولت. فرجعوا إليه

(1)

، وبإرساله صلى الله عليه وسلم عماله واحدًا بعد واحد؛ ليخبروا الناس بالشرائع. وبسط كلامه في ذلك في "الرسالة" بسطًا شافيًا.

ومما احتجوا به أيضًا قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، وقوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وغير ذلك من الأدلة.

ولسنا بصدد ذلك في هذا الشرح المختصر، فأصحاب هذا القول اتفقوا على أن الدليل السمعي دل عليه من الكتاب والسُّنة وعمل الصحابة ورجوعهم كما ثبت ذلك بالتواتر. واختلفوا في أن الدليل العقلي هل دَلَّ على وجوب العمل مع ذلك؟ أم لا؟

فالأكثرون على المنع، وهو معنى قولي في النظم:(سَمْعًا) أيْ: فقط؛ إذ مفهومه أنه لا يُعمل به بغير السمع.

وذهب الأقلون إلى أن العقل دل أيضًا، فنقل ذلك عن أحمد وابن سريج والصيرفي

(1)

صحيح البخاري (رقم: 4216)، صحيح مسلم (رقم: 527).

ص: 528

والقفال - مِنَّا - وأبي الحسين البصري من المعتزلة.

قالوا: لاحتياج الناس إلى معرفة بعض الأشياء من جهة الخبر، وفي ترك ذلك أعظم الضرر، ولأن العمل به يفيد دفع ضرر مظنون؛ فكان العمل به واجبًا، ولأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الناس ولا يمكن مشافهة الكل، فلا بُدَّ من بعث الرُّسل، وإرسال عدد التواتر لكل الأقطار قد يتعذر؛ فلا يَلزم ذلك، فوجب قطعًا أن يُكتفَى بالآحاد.

وذكروا نحو ذلك مما لا ينتهض - عند التأمل - أن يدل عقلًا.

وقد استغرب عزو ذلك إلى غير أبي الحسين المعتزلي مع أنهم أئمة أهل السُّنة، فقيل: لأن القفال كان أول أمره معتزليًّا، فَلَعَلَّه قال ذلك وقت اعتزاله، وابن سريج كان يناظر ابن داود، فلعله بالغ في الرد عليه؛ فَتُوُهِّم منه هذا القول.

وأما أحمد رضي الله عنه فيمكن الاعتذار عنه بأنه أراد أنه ليس في العقل ما يمنع العمل به، أو قصد ما هو معلوم من أن الأدلة النقلية لا تخلو عن مقدمة عقلية في الدلالة وإنْ كانت محذوفة؛ للعلم بها، فلا منع أنْ يُصرِّح بها عند وجود المعاند. وربما يُعتذَر عن الجميع بذلك.

ومَن قال بهذا فوجوب العمل به عنده قطعي، ومَن قال بالأول فكذلك أيضًا؛ لأن ما استدلوا به مقطوع به بالضرورة.

قال ابن دقيق العيد: والحقُّ عندنا في الدليل - بعد اعتقاد أن المسألة عِلمية - أنَّا قاطعون بعمل السلف والأُمة بخبر الواحد، وهذا القطع حصل لنا من تتبعُّ الشريعة وبلوغ جزئيات لا يمكن حصرها، ومَن تتبَّع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وجمهور الأُمة - ما عدا الفِرقة اليسيرة المخالفة - عَلِم ذلك قطعًا.

واعْلَم أن إمام الحرمين أول "البرهان" قال: (إنَّ إطلاق وجوب العمل بخبر الواحد فيه تساهُل؛ لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لَعُلِم ذلك منه، وهو لا يثمر عِلمًا، وإنما وجب

ص: 529

العمل عند سماعه بدليل آخَر وهي الأدلة القطعية على وجوب العمل عند رواية الآحاد. فالتحقيق - وهو قول المحققين - أنه يوجِب العمل عنده، لا بِه)

(1)

.

قال: وهكذا القول في العمل بالقياس.

القول الثاني: إنَّ العمل بالآحاد لا يجب وإنْ كان جائزًا عقلًا، ونُقل ذلك عن ابن داود والرافضة، ونقله ابن الحاجب عن [القاساني]

(2)

، لكن سيأتي أنه ممن يقول بمنعه عقلًا، فلا ينبغي أن ينقل عنه هذا المذهب.

واحتجوا لهذا القول بنحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، وقوله تعالى:{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [الأنعام: 116].

وأجيب بأنه محمول على ما يجب فيه العمل باليقين، كالاعتقادات كما سيأتي بيانه.

القول الثالث: إنه لا يجوز العمل به؛ لعدم الدليل على حجيته.

الرابع: إن العمل به غير جائز عقلًا. وهو قول جمهور القدرية وطائفة من الظاهرية كالقاساني وغيره، ونقله ابن الحاجب عن الجبَّائي، لكن الصحيح في النقل عنه تفصيل يأتي ذِكره.

قالوا: لأنه يؤدي إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام إذا رُوي كل منهما في محل واحد بالآحاد وكان أحدهما راجحًا. فإن لم يكن ترجيح، أدَّى إلى الجمع بين النقيضين أو الترجيح بلا مرجِّح.

ورُدَّ: بأنَّا إنْ قُلنا: (المصيب من المجتهدين واحد)، فإن كان الراجح هو الحقّ في نفس الأمر فواضح، وإن كان غيره فلَم يُكلَّف إلا بما غلب على ظنه وإن كان خطأ في نفس الأمر،

(1)

البرهان (1/ 388).

(2)

في (ز، ظ، ش): القاشاني.

ص: 530

وعند التساوي يوقف إلى أن يتبين الرجحان؛ فلا يَلزم شيء مما قُلتم.

القول الخامس: لا يعمل به في الحدود؛ لأن الحدود تُدْرَأ بالشُّبهات، وكونه لم يُرْوَ إلا بالآحاد شُبهة. وهو قول الكرخي. وعبارة أبي الحسين في هذا القول المنع فيما ينتفي بالشبهة، وذلك أعم أن يكون حدودًا أو غيرها. قال: وأيضًا فإنَّ الكرخي يَقبله في إسقاط الحدود ولا يَقبله في إثباتها.

السادس: إنه لا يُعمل به في ابتداء النُّصُب، بخلاف غيرها. والفَرق أن ابتداء النصُب أصل والزائد فرع، فيقبل في النصاب الزائد على خمسة أوسق، ولا يقبل في ابتداء نصاب الفصلان

(1)

والعجاجيل؛ لأنه أصل. نقل ذلك ابن السمعاني عن بعض الحنفية.

السابع: لا يُعمل به فيما عمل الأكثر بخلافه. والحقُّ أنَّ عمل الأكثر مُرجَّح به، لا مانع.

الثامن: لا يعمل به إذا خالف عمل أهل المدينة. وهو قول المالكية؛ ولهذا نفوا خيار المجلس.

التاسع: لا يعمل به فيما تَعُم به البَلْوَى. وهو قول الحنفية؛ ولهذا أنكروا خبر نقض الوضوء مِن مَسِّ الذكَر والجهر بالبسملة وغيره.

العاشر: لا يقبل إذا خالفه راوِيه. نقل عن الحنفية؛ ولذلك لم يوجبوا السَّبع في الولوغ؛ لمخالفة أبي هريرة رضي الله عنه لروايته.

وقال صاحب "البديع" منهم: إن محله إذا خالفه بعد الرواية، فإنْ خالفه قَبل الرواية فلا يُرَد، وكذا إذا جُهل التاريخ.

الحادى عشر (عن الحنفية أيضًا): إنه لا يقبل ما عارض القياس؛ ولهذا ردوا خبر

(1)

جَمع "فصيل": من أولاد الإبل. (تهذيب اللغة، 12/ 135).

ص: 531

المُصَرَّاة. وقيَّده البيضاوي بكونه عند عدم فِقه الراوي، فإنْ كان فقيهًا فلا يُرد ولو خالف القياس.

نعم، في "اللمع"

(1)

للشيخ أبي إسحاق أن أصحاب مالك أطلقوا أنه لا يُقبل إذا خالف القياس، وأن أصحاب أبي حنيفة قالوا: إذا خالف قياس الأصول، لم يُقبل. وذكروه في أحاديث الوقف والقرعة والمصراة.

قال: (فإنْ أرادوا بالأصول القياس على ما ثبت بالأصول فهو قول المالكية، وإن أرادوا نفس الأصول التي هي الكتاب والسُّنة والإجماع فليس معهم فيما ردوه كتاب ولا سُنة). انتهى

نعم، الصحيح عند الحنفية - وحكاه في "البديع" عن الأكثرين - تقديم الخبر على القياس مطلقًا. وقال الباجي: إنه الأصح عندي مِن قول مالك رضي الله عنه، فإنه سُئل عن حديث المصراة فقال: أَوَ لِأَحَدٍ في هذا الحديث رأْي؟ !

وفي المسألة قول ثالث اختاره الآمدي وابن الحاجب: إنْ كانت العلة ثبتت بنص راجح على الخبر في الدلالة وهي موجودة في الفرع قطعًا فالقياس مقدَّم، أو ظنًّا فالتوقف، أو ثبتت لا بنصٍّ راجح فالخبر مقدم.

وقول رابع: إنهما متساويان مطلقًا. حكاه الباجي عن القاضي أبي بكر.

الموضع الثاني من الكلام في خبر الواحد:

أنه وإنْ وجب العمل به فإنه إنما يفيد الظن، ولا يفيد القطْع إلا بقرينة، وهو معنى قولي:(وَلَا يُشْعِرُ بِالْيَقِينِ) إلى آخِره.

(1)

اللمع (ص 73).

ص: 532

والمسألة فيها مذاهب:

أرجحها: أنه لا يفيد العلم إلا إذا انضم إليه قرائن يَقطع السامع مع وجودها بصدق الخبر، كإخبار مَلِك عن موت ولده المريض عنده مع قرينة البكاء وإحضار الكفن وآلات الدفن ونحو ذلك، وأما تجويز أن يكون قد أغمي عليه فلا يقدح في المسألة، بل في المقال، فيضيق الفرض فيه بما يمنع الحمل على الإغماء من قرينة أخرى.

وإنما مرَدُّ القرائن إلى ما يحصُل معه القطْع؛ إذ منها ما لا يعبر عنه كما يظهر بِوَجْه الخجِل والوَجِل؛ ولهذا قال المازري: إن القرائن لا يمكن أن تضبَط بعبارة.

وقال غيره: يمكن أن تضبط بما تسكن إليه النفْس، كالسكن للمتواتر أو قريب منه بحيث لايبقى فيه احتمال عنده.

ومن القرائن المفيدة للقطع: نحو الإخبار بحضرته صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، أو بحضرة جمعٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب، أو تتلقاه الأُمة بالقبول - على رأي ابن الصلاح حيث قال:(إن ما في صحيحي البخاري ومسلم أو أحدهما مِن لازِم تَلَقِّي الأُمة له بالقبول اتفاق الأُمة على صحته، فهو مقطوع بصحته، والعلم القطعي حاصل فيه، خلافًا لمن نفى ذلك محتجًّا بأنه لا يفيد. في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ).

قال الشيخ: (وقد كنت أميل إلى هذا وأَحسبه قويًّا، ثم بان لي أن ما اخترته هو الصحيح؛ لأن ظن مَن هو معصوم مِن الخطأ لا يخطئ، والأُمة في إجماعها معصومة من الخطأ؛ ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حُجة مقطوعًا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك)

(1)

.

انتهى النووي: (إن الشيخ قد خالفه في ذلك المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 28).

ص: 533

يتواتر؛ لأن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، ولا يَلْزَم مِن إجماع الأُمة على العمل بما فيها إجماعهم على أنه مقطوع به مِن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(1)

.

وممن أَنكَر هذه المقالة ابن برهان وابن عبد السلام وغيرهما.

فإنْ لم تحتف بالآحاد قرائن فلا يفيد اليقين؛ لاحتمال الغلط والسهو ونحو ذلك.

وبهذا التفصيل قال الإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي وغيرهم من المتأخرين.

والقول الثاني: إنه لا يفيد العلم مطلقًا. وبه قال الأكثرون. قال الحارث المحاسبي في كتاب "فهم السنن": هو قول أكثر أهل الحديث [من]

(2)

أهل الرأي والفقه.

الثالث وهو قول أهل الظاهر: إنه يفيد العِلم مطلقًا. ونقله ابنُ عبد البر عن الكرابيسي، والباجيُّ عن أحمد وابنِ خُويز منداد. زاد [المازري]

(3)

: وإنه

(4)

نَسَبَه إلى مالك، وأنه نَصَّ عليه. ولكن نازعه

(5)

بأنه لم يعثر لمالك على نَص فيه، قال: ولَعَلَّه رأَى مقالة تشير إليها، ولكنها مُتَأَوَّلة.

الرابع: إنه يوجب العلم الظاهر دون الباطن. نقله المازري، وأرادوا أنه يُثْمر الظن

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (ص 20)، الناشر: دار إحياء التراث العربي.

(2)

كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 322): (رَأَيْت كَلَامَهُ فِي كِتَابِ "فَهْمِ السُّنَنِ" نَقَلَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ وَالْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ).

(3)

كذا في (ق) وهو الصواب؛ لأن الكلام للمازري في كتابه (إيضاح المحصول من برهان الأصول، ص 421). وفي سائر النُّسخ: الماوردي.

(4)

يقصد: ابن خويز منداد.

(5)

أي: المازري نازعَ ابن خويز منداد.

ص: 534

القوي، وإلا فالعلم لا يتفاوت كما قرر ذلك الصيرفي وابن فورك، وحينئذ فيَرْجِع إلى القول بأنه لا يفيد العلم؛ ولهذا نقله الصيرفي عن جمهور العلماء، منهم الشافعي.

وحمل بعضهم ما نُقل عن أحمد أنه أراد الخبر المشهور، وهو الذي صحت له أسانيد متعددة سالمة عن الضعف والتعليل، فإنه يفيد العِلم النظري لكن لا بالنسبة إلى كل أحد، بل إلى الحافظ المتبحر.

الخامس: نقله السهيلي في "أدب الجدل"، وهو غريب: إنه يوجب العلم إن كان في إسناده إمام مثل مالك وأحمد وسفيان، وإلا فلا.

والسادس: إنَّ غير المستفيض منه لا يفيد العلم، والمستفيض يفيد العلم النظري، بخلاف المتواتر، فإنه يفيده ضرورةً.

تنبيه:

قيل: الخلاف في المسألة لفظي.

وليس كذلك.

فمن فوائده: هل يكفر جاحد ما ثبت بخبر الواحد؟ إنْ قُلنا: يفيد العلم، كفر. وقد حكى ابن حامد من الحنابلة في تكفيره وجهين، ولعل هذا مأخذهما، لكن التكفير بمخالفة المجمع عليه لا بُدَّ أن يكون معلومًا من الدِّين بالضرورة كما سبق، فهذا أولى؛ إذْ لا يَلْزم مِن القطْع أن يكفر منكره.

ومنها: هل [يفيد]

(1)

خبر الواحد في أصول الديانات؟ إنْ قلنا: يفيد العلم، قُبِل، وإلا فلا.

(1)

في (ز): يقبل.

ص: 535

قولي: (وَشَرْطُهُ أَذْكُى مُبِينَهْ) أَيْ: وشرط العمل بخبر الواحد (سواء قلنا: يفيد الظن أو العِلم) ما أذكره بعد ذلك مبينًا له ومفصِّلًا، وهو ثلاثة شروط: عدالة الراوي ومروءته، وضبطه. وسيأتي شرحها في الأبيات التي بعد هذه موضحة إن شاء الله تعالى.

ونصب (مُبِينَهْ) على الحال؛ لأنه نَكرة؛ لكون إضافته غير مَحْضة.

والمراد بالشرط مجموع الشروط؛ لأن المفرد المضاف يَعُم.

وضابط الشروط في رواته: صفات تُغَلِّب على الظن أن المخبِر صادق.

ولم أذكر من الشروط:

- ما ذكره البيضاوي وغيره مما يرجِع إلى المخبَر عنه، ككون اللفظ لا يخالفه قاطع؛ لأن هذا الشرط جارٍ في كل عملٍ بظني، لا بخصوص خبر الواحد.

- ولا ما يرجع إلى نفس الخبر، كألفاظ الراوي في كيفية روايته؛ لأن ذلك مما يتحقق به وجود الرواية وصدقها عمن رُويت عنه؛ لأن [مِن]

(1)

شرائط العمل بها تقدم وجودها. والله أعلم.

ص:

283 -

أَمَّا الْعَدَالَةُ فَتِلْكَ مَلَكَهْ

مَانِعَةُ اقْتِرَافِ كُلِّ هَلكَهْ

284 -

كَبِيرَةً تَكُونُ أَوْ إِصْرَارَا

عَلَى صَغِيرَةٍ، أَيِ الْإكْثَارَا

الشرح:

الشرط الأول من شروط الراوي الذي يجب العمل بخبره: العدالة.

وهى لُغةً: التوسط في الأمر من غير ميل إلى أحد الطرفين، بل يكون معتدلًا، لا إفراط

(1)

ليس في (ز، ش).

ص: 536

ولا تفريط.

وأما في الشرع: فهي مَلَكَة مانعة من اقتراف كبيرة، ومن إصرار على صغيرة.

فَـ "مَلَكَة" جنس، وهي الصفة الراسخة في النفْس. أما الكيفية النفسانية في أول حدوثها قبل أن ترسخ فتسمى "حالًا"، و [لذلك]

(1)

عِيبَ على صاحب "البديع" في تعبيره بأن "العدالة": (هيئة في النفس) إلى آخِره؛ لشمولها الحال والملكة.

ويعرف هذا الرسوخ بغلبة الطاعات كما قال الشافعي في "الرسالة" ما نَصه: (وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه، وإنما علامة صدقه ما يخبر عن

(2)

حاله في نفسه، فإذا كان الأغلب من أمره ظاهر الخير، قُبل)

(3)

. انتهى

وهو معنى قول ابن القشيري: إن الذي صح عن الشافعي أنه قال: ليس في الناس من يُمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية، ولا من المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة، فلا سبيل إلى رَد الكل ولا إلى قبول الكل. فإنْ كان الأغلب من أمر الرجُل الطاعة والمروءة، قبلت شهادته وروايته. وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة، رددتها.

وكذا جرى على نحو ذلك أبو بكر الصيرفي وغيره. وما أحسن ما تأسى بذلك محمد بن يحيى في تعليقته، فقال: (العدل مَن اعتاد العمل بواجب الدِّين، واتبع إشارة العقل فيه برهَةً من الدهر حتى صار ذلك عادةً ودَيْدنًا له، والعادة طبيعة خامسة، فيغلب دينه بحكم التمرين و [الترسخ]

(4)

في النفس، فيوثق بقوله، بخلاف الفاسق، فإنه الذي يُتبع نَفْسه

(1)

في (ز): لهذا.

(2)

في "الرسالة، ص 493": (علامة صدقه بما يُختبر من حاله في نفسه).

(3)

الرسالة (ص 493).

(4)

في (ق، ظ، ت): التولج.

ص: 537

هواها، فأَلِفَ ارتكابَ المحظورات واقتضاء [الشهوات]

(1)

؛ فضَعُف وازع الدِّين بسبب ذلك، فلا يُوثق بقوله). انتهى

وخرج بِقَيْد كَوْن الملكة مانعة من اقتراف الكبيرة والإصرار على الصغيرة: مَن لا تمنعه من ذلك، وهو الفاسق، وسيأتي بيان ذلك موضَّحًا.

فإن قلتَ: فقد أَدْخَل الشافعي في العدالة تعاطي المروءة، وكذا في عبارة الأكثر من الفقهاء والأصوليين، حتى جرى على ذلك من المتأخرين البيضاوي وغيره، وعبارة صاحب "جمع الجوامع" في تعريف العدالة: مَلَكَة تمنع من اقتراف الكبائر وصغائر الخِسة والرذائل المباحة وهوى النفس.

فأشار بِـ"صغائر الخسة" إلى نحو سرقة لقمة، و"الرذائل المباحة" إلى ما يُخل بالمروءة منها، كالبَول في الطريق ونحوه مما سنذكره في موضعه. وبِـ"هوى النفس" إلى ما ذكره والده الشيخ تقي الدين - من تفقهه - من الاحتراز به عن انبعاث الأغراض حتى لا يملك نفسه عن اتباع هواها وإلا لخرج بذلك عن الاعتدال.

فلِمَ أسقطتها من التعريف؟

فالجواب عن إدخال المروءة أن مراد الشافعي ومَن تبعه على ذلك ذكر العدالة المعتبرة في الشاهد والراوي، لا العدالة من حيث هي، فضمنوا المروءة معناها لذلك، وإنما هي في الحقيقة شرط في قبول الشهادة والرواية كما يشترط فيها الضبط، ولا تدخل في حقيقة العدالة؛ ولهذا ترى في كُتب أصحابنا - كما في شرحَي الرافعي و"الروضة" وغيرها - جَعْل العدالة والمروءة شرطين متغايرين، فلو دخلت المروءة في العدالة لَاكتفي بالعدالة وجعلت شرطًا واحدًا.

(1)

في (ص): المشهورات.

ص: 538

وممن تعقب على البيضاوي في ذلك السبكي في شرحه، وأجاب بما أجبنا به عن الشافعي والأصحاب، إلا أنه لم يقتصر على ذلك، بل جعلها أنواعا نقلها عن الماوردي، وأن منها ما هو شرط في العدل، وستأتي عبارته بتمامها في الكلام على الشرط الثاني.

قال: (ومَن يُدْخل المروءة في العدالة فإنما يريد بذلك نوعًا منها، لا الجميع). انتهى

ومراده بكونه في نوع منها أنه شرط فيما يشترط فيه، لا أنه من حقيقة ذلك النوع حتى يحتاج لذكره، بل ذكره شرطًا مفردًا لقبول الشهادة والرواية أوضح وأَوْلى؛ لئلا يتوهم أنه من حقيقة العدالة.

ويستغنى في المخل بالمروءة عن التعرض لنوعَيْه، وهُما كونه معصية (كسرقة لقمة) أو مباحًا (كالبول في الطريق)، وحينئذ فلم يُحْتَج إلى قوله:(وصغائر الخسة).

نعم، ظاهر كلام الشافعي السابق أن العدالة المعتبرة في الشاهد هي المعتبرة في الراوي وإنْ شُرِط في الشاهد زيادة الحرية والعدد ونحو ذلك، فيرجح بذلك أحد الوجهين المحكيين عن الأصحاب أن عدالة الراوي هل يشترط أن تنتهي إلى عدالة الشاهد؟ أَمْ لا؟ حكاهما ابن عبدان في شرائط الأحكام:

أحدهما: أنه يعتبر في الراوي عدالة مَن يقبله الحاكم في الدماء والفروج والأموال.

وثانيهما: يُقبل في الرواية مَن ظاهره الدِّين والصدق.

وأما زيادة الاحتراز عن هوى النفس فيستغنى عنه بالملكة؛ لأنه ينافيها، ومما يؤيده ما سبق نقله عن محمد بن يحيى.

قولي: (مَانِعَةُ اقْتِرَافِ) هو صفة لملكة، وإطلاق الهلكة على ما ذكر لأنه سبب للهلاك، قال تعالى:{وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 26]، وفي حديث المجامع في رمضان:

ص: 539

"هلكتُ وأهلكت؛ واقعت أهلي في رمضان"

(1)

، وفي الحديث كما سيأتي:"اجتنبوا السبعَ الموبقات"

(2)

. أيْ: الملقيات في الهلاك وهو العذاب.

ولم أجمع لفظ "الكبيرة"، بل أفردتُ فقلتُ:(كُلِّ هَلَكَة) وإنْ عبَّر كثيرٌ بالجمع، كالبيضاوي، فقالوا:(تمنع من اقتراف الكبائر)؛ لأن ذلك يوهم أن اقتراف الكبيرة الواحدة لا يقدح.

وأما جواب بعض الشراح عن ذلك بأن الملكة إذا قويتْ على دفع الجُملة، قويتْ على دفع البعض من باب أَوْلى - فغير ظاهر؛ لأنه يقال: قد تُسْتَهْوَن الواحدة وتَنْفِرُ النفْس عن الكثير، فتكون الملكة موجودة ولكنها ضعيفة، فانعكس المعنى الذي قاله.

وقولي: (كَبِيرَةً تَكُونُ) إلى آخِره - هو تفصيل للذنب الذي هو هلكة، أي: إنه إما كبيرة وإما إصرار على صغيرة، وربما جعل الإصرار من الكبائر كما قال الغزالي في "الإحياء" في كتاب التوبة: إنَّ الصغيرة بالإصرار تصير كبيرة.

وحينئذ فإما أن يكون مراده بذلك أنها مثل الكبيرة؛ لِمَا يشتركان فيه من المعنى، فأطلق عليها "كبيرة" مجازًا؛ لذلك، لا أنها كبيرة على الحقيقة. أو تكون كبيرة حقيقةً لكنه عطف على "الكبيرة" من عطف الخاص على العام. لكن الأول أوضح.

بل قال أبو طالب القُضاعي في كتاب "تحرير القال في موازنة الأعمال": إن الإصرار حُكمه حُكم ما أصر به عليه، وإن الإصرار على الصغيرة صغيرة.

قال: (وقد جرى على أَلْسِنة الصوفية: "لا صغيرة مع إصرار"، وربما يُروى حديثًا، ولا يصح). انتهى

(1)

صحيح البخاري (رقم: 5737)، صحيح مسلم (رقم: 1111).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 2615)، صحيح مسلم (رقم: 89).

ص: 540

وما قاله من أن الإصرار على الصغيرة صغيرة هو وجه نقله الدبيلي من أصحابنا في "أدب القضاء"، والمذهب خِلافُه.

وقولي: (أَيِ الْإكْثَارَا) تفسير للإصرار، وأن المراد به الإصرار الفعلي، لا الحكمي.

قال ابن الرفعة: ولم أظفر في ضابطه بما يثلج الصدر، وقد عبَّر عنه بعضهم بالمداومة، وحينئذ فهل المعتبر المداومة على نوع واحد من الصغائر؟ أو الإكثار من الصغائر سواء أكانت من نوع واحد أو أنواع؟

ويخرج من كلام الأصحاب فيه وجهان.

قال الرافعي: (ويوافق الثاني قول الجمهور: مَن تغلب معاصيه طاعتَه، كان مردود الشهادة).

قال: (وإذا قلنا به، لم تضر المداومة على نوع واحد من الصغائر إذا غلبت الطاعات. وعلى الأول يضر)

(1)

.

لكن قال ابن الرفعة: (إن قضية كلامه أن مداومة النوع تضر على الوجهين، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فإنه في ضمن حكايته قال: إن الإكثار من النوع الواحد كالإكثار من الأنواع، وحينئذ لا يَحسُنُ معه التفصيل. نعم، يظهر أثرهما فيما لو أتى بأنواع من الصغائر: إنْ قُلنا بالأول، لم يضر، وإنْ قُلنا بالثاني، ضَر). انتهى

واعلم أن صاحب "المهمات" زعم أن الرافعي والنووي قد خالفا ما قالاه من ذلك في كتاب الشهادات بما ذكراه في الرضاع وفي النكاح آخِر الكلام على ولاية الفاسق أن العضل إذا تكرر، يكون فسقًا، وأن أقَل التكرر فيما حكاه بعضهم ثلاث. نعم، هل الثلاث باعتبار أنكحة ثلاث؟ أو باعتبار عرض الحاكم مرات وإن كان في النكاح الواحد؟ فيه نظر. انتهى

(1)

العزيز شرح الوجيز (13/ 9).

ص: 541

قلت: لكن سبق من كلام ابن الرفعة ما يلزم منه موافقة ما في النكاح لِمَا في الشهادات، فلا تناقض.

أما الإصرار الحكمي - وهو العزم على فعل تلك الصغيرة بعد الفراغ منها - فقيل: حُكمه حُكم مَن كررها فعلًا، بخلاف التائب منها. وفيه نظر ظاهر.

[تنبيهان]

الأول: بين العدالة وبين التقوى عموم وخصوص مِن وَجْه؛ لأن التقوى [تفسَّر]

(1)

بأن يُطاع الله، فلا يُعصَى، [فيحذر]

(2)

العبد بطاعته تعالى عن عقوبته، فيتقي الشرك، ثم المعاصي، ثم يتقي الشبهات، ثم يتقي الفضلات عن حاجته، ولا يشترط أن يكون عنده ملكة في ذلك.

والعدالة مَلَكَة، ولا يشترط فيها ترك المعاصي كلها، بل الكبائر والإصرار على الصغائر كما سبق.

الثاني: تفسير "العدالة" بما سبق يتضمن اعتبار البلوغ -[بما]

(3)

سنقرره - والعقل والإسلام فيمن يتصف بها، وكذا عدم المفسق.

فَجَعْل الثلاثة الأوُلى شروطًا زائدة على العدالة مغايرة لها - ليس تحقيقًا، إلا أنْ يراد بذلك الإيضاح بالتصريح وزيادة البيان بكثرة الشروط، فلذلك عقبت تفسير "العدالة" بما يخرج عن الأمور المذكورة بِقَوْلي:

(1)

في (ز): مفسرة. وفي (ش): مفسر.

(2)

في (ز): فيحترز. وفي (ش): فيتحرز.

(3)

في (ز): لما.

ص: 542

ص:

285 -

فَيَخْرُجُ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ

وَكَافِرٌ وَفَاسِقٌ [مَقْضِيُّ]

(1)

الشرح:

أما خروج المجنون بِقَيْد العقل الذي تضمنته الملَكَة فواضح، وأما الصبي فإنه وإنْ [وافق سلامته]

(2)

مما يَفسُقُ به غيره فليس ذلك لملَكَة قائمة به، بل على سبيل الاتفاق، وحينئذ فيضْعُف بذلك دعوى مَن يَصِف الصبي بالعدالة، وأن البلوغ إنما هو شرط لقبول روايته أو شهادته ونحو ذلك.

وأما الكافر فمنفي عنه هذه الملكة قطعًا، ووصفه بأنه عدل في دينه (في نحو ولاية النكاح ونظر الوقف والوصاية على الكفار ونحو ذلك) إنما هو بالنسبة لمعتقدهم، فهي ملكة نسبية، لا على الإطلاق، وهي العدالة الحقيقية التي هي شرط هنا، وسيأتي في ذلك مزيد بيان في مرتكب الفسق في اعتقاده دُون نفس الأمر وعكسه.

ومن اللطائف في رواية الكافر ما رواه أحمد في مسنده عن عروة بن عمرو الثقفي: سمعت أبا طالب -يعني عَمَّ النبي صلى الله عليه وسلم- قال: سمعتُ الأمين ابن أخي يقول: "اشكُر تُرزَق، ولا تكفر فتُعذب"

(3)

. ورواه الحافظ الصريفيني، وقال: غريب رواية أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(1)

في (ز، ق، ت، ن 3، ن 4): مقصي. وفي (ص، ض، ظ، ش، ن 1، ن 2، ن 5): مقضي. مقصي: تم اقصاؤه. مقضي: قضي بفسقه.

(2)

كذا في (ت). لكن في (ز): وفق لسلامه. وفي (ص، ض، ق، ظ): وافق لسلامته.

(3)

لم أجده في "مسند أحمد"، وقال السخاوي في "فتح المغيث، 2/ 5": (لا يصح).

ص: 543

واعْلَم أن الصبي أَعَم مِن أن يكون مميِّزًا أو غير مميز، فإن الجمهور على عدم قبول المميز في الرواية والشهادة؛ لاحتمال كذبه، كما في الفاسق، بل أَوْلى؛ لِعِلْمه بأنه غير مُكلَّف، وأنه غير مؤاخَذ بالكذب؛ لأجل ذلك فلا واخ له عن ارتكابه، ولأن الصحابة لم يقبلوا إلا بالغًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرسل لتبليغ شرعه إلا بالغًا. وهذان الأمران هما العمدة في تثبيت خبر الواحد.

وقيل: يُقبَل الصبي الموثوق به؛ لِغَلبة الظن بصدقه.

ويردُّه ما سبق، بل في "مختصر التقريب" للقاضي أبي بكر أنه لا يُقْبَل بالإجماع. لكن ردَّه ابن القشيري بأن الخلاف فيه شهير، أيْ: للأصوليين والمحدثين والفقهاء. وقد حكى فيه إمام الحرمين وجهًا، بل حكى القاضي الحسين الخلاف قولين للشافعي في إخباره عن القبلة، وجرى عليه الرافعي والنووي، وقيَّداه بالمميز، وحكيا في باب التيمم فيه وجهين أيضًا، إلا أنهما قيداه بالمراهق. ونقل التفصيل بين المراهق وغيره أيضًا ابن عَقيل الحنبلي في كتاب "الواضح"، بل في "المنخول" للغزالي أن محل الخلاف في المراهق الثبت، وستأتي مسائل كثيرة من ذلك.

وفي المسألة قول رابع للمالكية: إنه يُقبل في الدماء دُون غيرها، قال ابن الحاجب في "مختصر الأصول":(وأما إجماع المدينة على قبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الدماء قبل تفرقهم فمستثنى؛ لكثرة الجناية بينهم منفردين)

(1)

.

أيْ على أصل المالكية.

لكن انتقد عليه في ادعاء إجماع المدينة، فالمشهور في كتبهم إنما هو نَقْله عن علي ومعاوية وعروة بن الزبير وشريح وعمر بن عبد العزيز. بل قال ابن حزم: لا نعلم أحدًا قبل مالك

(1)

مختصر منتهى السؤل والأمل (1/ 559)، الناشر: دار ابن حزم.

ص: 544

قال مقالته. فكأنه ينازع في ثبوت ذلك عمن ذكر.

وفي رؤوس المسائل للقاضي عبد الوهاب منهم أنه قول علي رضي الله عنه وابن أبي ليلى، ولا مخالِف لهما. قال: وحكي أنه قول عمر.

فربما يكون ذلك علقة لابن الحاجب في دعواه إجماع المدينة، لكن قال القاضي عَقب ذلك: إن عدم قبولهم قال به ابن عباس وعطاء والحسن والزهري، فكيف يقول: ولا مخالف لهما؟ ! ثم على تقدير صحة إجماع المدينة فقد سبق أنه غير حُجة، خلافًا لمن زعمه منهم.

وحكى النووي في "شرح المهذب"

(1)

- في باب الأذان في مسألة أذان الصبي - عن الجمهور قبول إخبار الصبي المميز فيما طريقه المشاهدة، بخلاف ما طريقه النقل، كرواية الأخبار. وسبقه إلى ذلك المتولي، فيكون هذا أيضًا قولًا خامسًا في المسألة.

على أنه قد وقع في الفقه مسائل تعتبر من الصبي المميز إخبارًا وإنشاءً، إما قطعًا أو بخلاف، ولها مدارك غير ما نحن فيه من الوثوق بالصدق وإن كان العلائي جعل في "القواعد" أنَّ الخلاف فيها جارٍ من الخلاف في رواية الصبي.

ولا بأس بإيراد شيء منها - لتكميل الفائدة - على ترتيب الفقه، وبيان المرجَّح فيها:

منها: أن يخبر بتنجيس الماء أو الثوب أو الأرض. في كلٍّ وجهان، الأصح عدم القبول، وكذا إخباره بأن هذا المرض مخوف حتى يبيح التيمم، وسبق بيانها.

ومنها: أذانه صحيح، وسبق كلام النووي فيه وفيما أشبهه.

ومنها: إمامته جائزة عندنا، ولكن لا تكمل به الأربعون في الجمعة. قيل: وجعل هذا من قبول خبره؛ لأنها تتضمن إخباره بالطهارة وغيرها من الشروط وبالنية ونحو ذلك. ولا

(1)

المجموع شرح المهذب (3/ 100).

ص: 545

يخفى ما فيه من النظر.

ومنها: إذا أخبر برؤية الهلال وجعلناه رواية لا شهادة، فالقياس جريان الخلاف فيه، لكن المشهور الرد جزمًا. قاله الرافعي.

ومنها: إذا جامع في نهار رمضان عمدًا وهو صائم، لا كفارة على أصح الوجهين ولو قلنا [بأن]

(1)

عَمْدَه عمدٌ؛ لِعَدَم التزام العبادات.

ومنها: إذا حج وباشر محظورات الإحرام عمدًا، كلبس ونحوه، وجبت الفدية في الأصح؛ لأن عَمْدَه في العبادات كالبالغ، كتعمد كلامه في الصلاة أو أكله في الصوم، وفيه قول غريب حكاه الداركي: إنه إن [كان]

(2)

يلتذ باللباس والطيب، وجبت، وإلا فلا.

نَعَم، الفرْق بين هذه المسألة ومسألة الجماع في الصوم أن الفدية هنا إنْ وجبت في مال الولي وهو الأرجح إن كان قد أحرم بإذنه، فهو من خطاب الوضع، أو في مال الصبي وهو إذا أحرم بغير إذنه، فهو من قبيل [الإتلاف]

(3)

، بخلاف الجماع في الصوم؛ [بدليل أن الفدية تجب في الحلق والتقليم ونحوهما ولو نسيانًا، بخلاف الطيب ولبس المخيط. وأما الصوم فإنما تجب الكفارة فيه حيث كان عمدًا يأثم به، والصبي لا إثم عليه]

(4)

.

ولا يخفَى ما فيه من نظر.

ومنها: بيعه وشراؤه - لاختبار الرشد - يصح قبل البلوغ (على وَجْهٍ).

ومنها: اعتماده في الإذن في دخول الدار، وحمل الهدية على الأصح، لكن للقرينة، لا

(1)

في (ز، ص): ان.

(2)

في (ز): كان ممن.

(3)

في (ز): الاتلافات.

(4)

ليس في (ز).

ص: 546

لمجرد إخباره. وفي "البحر" للروياني: قال الزُّبَيري: يجوز توكيل الصبي في طلاق زوجته. وغلطه فيه.

ومنها: إخباره بأن الشريك قد باع حتى تسقط الشفعة بالتأخير، وفيها وجهان، الأصح: لا يقبل، فالشفعة باقية. وكذا إخباره بأن المرض مخوف حتى يُحسب تصرف المريض من الثلث، الأصح: لا يقبل.

ومنها: تصح وصيته على قولٍ، والأصح المنع.

ومنها: لو قتل مورثه عمدًا وقُلنا: إنَّ عمْده خطأ، وإنَّ الخطأ لا يمنع الإرث، هل يرث؟ أو لا؟

ومنها: وطء الصبي هل يثبت المصاهرة؟ إن قلنا: إن عمْده عمدٌ، كان كوطء الزاني، وإلا فكالشبهة، وأجروا مثله في وطء المجنون.

ومنها: أخبر بطلب صاحب الدعوة له، قال الماوردي والروياني: يَلْزَمه الإجابة. إلا أن الروياني اشترط أن يقع في قلبه صِدْقه. ويشبه أن ذلك للقرينة في مثل الدعوات.

ومنها: خلع الصغيرة المميزة يقع رجعيًّا على الأصح عند البغوي والمتولي، ورجح الإمام والغزالي أنه لا يقع شيء؛ بناءً على أن عَمْدَه ليس عمدًا.

ومنها: قال للصَّبية: (أنت طالق إن شئتِ)، فقالت:(شئتُ). فيه وجهان.

ومنها: إذا شارك في الجناية بالغًا، فإنْ قُلنا: عمده عمدٌ، اقتص مِن البالغ، وإلا فلا.

ومنها: تغليظ الدية عليه إن قُلنا: عمده عمدٌ.

ومنها: تحمُّل العاقلة عنه وغير ذلك من الأحكام المتعلقة [بالعمد]

(1)

.

(1)

في (ز): بالعقد.

ص: 547

ومنها: إسلامه فيه قولان، المرجَّح المنع. وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يرجح الصحة، وقال العلائي: أخبرني من أثق به أن قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة حكم به.

ومنها: ذبحه وصيده حلال على الأصح [إنْ]

(1)

عمده عمد.

ومنها: وجوب رد السلام عليه.

ومنها: أن قيامه بصلاة الجنازة يُسقط فرض الكفاية عن غيره.

ومنها: في أمانه طريقان، المشهور: لا يصح. وقيل: فيه الخلاف في تدبيره ووصيته.

ومنها: تدبيره، فيه قولان، الأصح: المنع.

وغير ذلك.

وفي الفقه في الكافر أيضًا مسائل اختلف في قبول قول الكافر فيها، والمراد غيْر المكَفَّر ببدعته، فإن ذلك سيأتي بيانه.

منها: قال الشافعي رحمه الله في (باب صلاة الرجل بالقوم لا يعرفونه): (إنه إذا أعلمهم أنه غير مسلم أو علموه من غيره، أعادوا كل صلاة صلوا خَلْفه)

(2)

. انتهى

قال الشيخ تقي الدين السبكي: ولولا هذا النَّص لكان يظهر أن لا يقبل إلا إنْ أَسلم وأخبر بذلك.

ومنها: لو أخبر كافرٌ الشفيعَ بالبيع ووقع في قَلْبه صِدقُه، لا يكون عذرًا في تأخيره. قاله الماوردي، وأطلق الأصحاب أن إخبار الكافر يكون عذرًا للشفيع، فإما أن يكون قد خالفهم، وإما أنْ يُحمل كلامهم على أنه لم يقع في قلبه صِدقُه.

(1)

عند هذا الموضع كتب ناسخ (ق) في الهامش: (ع: قلنا). كأنه يتوقع العبارة هكذا: إنْ قلنا.

(2)

الأم (1/ 190).

ص: 548

قال الشيخ تقي الدين: وعلى هذا ينبغي أن يكون القول قوله أنه لم يقع في قلبه صدقُه.

ومنها: في باب الوصية من الرافعي حكاية وَجْه عن الخطابي أنه يجوز العدول من الوضوء إلى التيمم بِقَول الطبيب الكافر، كشرب الدواء من يده ولا يُدرَى أداء هو؟ أم دواء؟ ولم يستبعد الرافعي طرده فيما إذا أخبر بأن المرض مخوف في باب الوصية.

أما قبول شهادة الكافر على كافر ففيها الخلاف المشهور بيننا وبين الحنفية. وقيل: يشهد اليهودي أو النصراني على مِثله، لا على الآخَر. والله أعلم.

ص:

286 وَمَنْ وَعَى في نَقْصِهِ فَأَدَّى. . . بَعْدَ الْكَمَالِ فَاقْبَلِ الْمُؤَدَّى

الشرح:

أي: ما سبق من عدم قبول الناقص إذا أدَّى في حال نقْصه، أما إذا كان قد تحمَّل في حال النقص وأدَّى في حالة الكمال فإنه يُقبَل؛ اعتبارًا بحالة الأداء. ويفرض ذلك في ثلاثة مواضع: أن يتحمل وهو صبي أو كافر أو فاسق، ويؤدِّي بعد بلوغه وإسلامه وتوبته.

فالأُولى: القبول فيها هو أصح المذهبين، وعليه الجمهور، وممن حكى ذلك الشيخ في "شرح اللمع"، والقاضي في "مختصر التقريب".

دليل الراجح: القياس على الشهادة، وهو إجماع.

واعتُرض بأن الرواية تقتضي شرعًا عامًّا، فاحتيط فيها.

ورُد بأن باب الشهادة أضيق؛ فلذلك يعتبر فيها ما لا يعتبر في الرواية كما سيأتي.

واستُدل أيضًا بإحضار السلف للصغار مجالس الحديث.

وضُعِّف باحتمال أن يكون تبركًا.

ص: 549

ورُد بأنه لا ينافي أن يقصدوا مع ذلك التحمل للأداء عند الكمال.

واستُدل أيضًا بإجماع الصحابة على قبول رواية نحو الحسَنَين وابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير والسائب بن يزيد والمسور بن مخرمة ونحوهم رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحين وفاته لم يكن أحد منهم بلغ إلا ابن عباس على قولٍ.

ووهَّموا القاضي أبا بكر في قوله في "مختصر التقريب": (إنه كان حينئذ ابن سبع سنين)؛ فإن ذلك لم يَقُله أحد، بل قيل: إنه كان ابن عشر. وقيل: ثلاث عشرة. وقيل: خمس عشرة، ورجحه أحمد.

واستشكل بأنه إنما وُلد قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث، والاتفاق على أن إقامته صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين.

قال ابن دقيق العيد: وهذه الطريقة في الاستدلال تتوقف على أن من رَووا له فقبله أنه لم يكن يعلم ذلك إلا من جهتهم، وهو متعذر، وإنما ينبغي أن يستدل بإجماع الأُمة على قبول رواية هؤلاء مع احتمال تحمُّلهم صغارًا.

وقد يجاب عمَّا قاله بأن الأصل أنهم لم يكونوا يعلمون ما رَووه لهم إلا من جهتهم حتى يَثْبت مِن طريق غيره.

واعْلم أن شرط تحمل الصغير التمييز، ونُقل عن المحدثين اعتبار خمس سنين، وقيل: أربع. وذلك لِمَا رواه البخاري والنسائي وابن ماجه عن محمود بن الربيع، قال:"عقلتُ من النبي صلى الله عليه وسلم مَجَّة مَجَّها في وجهي مِن دلوٍ وأنا ابن خمس سنين"

(1)

. وبوَّب عليه البخاري: "متى يصح سماع الصغير؟ ".

وقال ابن عبد البر: إنه حفظ ذلك وهو ابن أربع سنين أو خمس سنين. ووجْه الاستدلال

(1)

صحيح البخاري (رقم: 77).

ص: 550

به أنه لم يقيده بسبع ولا بتمييز، بل بعقل المجَّة، ولا يَلزم منها أن يَعْقل غيرها مما سمعه. نعم، الظاهر أن مَن يَعْقل مثل ذلك يكون مميِّزًا، ونحن إذا فرضنا التمييز دُون السبع، كان هو المعتبر، ولكن الراجح عند محققي المحدثين اعتبار التمييز وأن تمييز محمود كان في هذا السن، فلا يقاس به إلا مَن مَيَّز مثله، وإن كان القول باعتبار الخمس هو قول الجمهور الذي نقله القاضي عياض في "الإلماع" عن أهل [الصنعة]

(1)

.

وقال ابن الصلاح: (إنه الذي استقر عليه عمل أهل الحديث)

(2)

.

ومما يدل على اعتبار التمييز قول أحمد وقد سُئل: متى يجوز سماع الصبي للحديث؟ فقال: إذا عقل وضبط. فذُكر له عن رجل أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة. فأنكره، وقال: بئس القول.

قلتُ: وعلى القول باعتبار الخمس أو دونها فإنما ذلك للمحافظة على سلسلة الإسناد المخصوص بها هذه الأُمة، ثم اعتبار التمييز إنما هو لأجل ضبط اللفظ؛ لأنه المعتبَر في الرواية. وقيل: يعتبر معرفة المعنى.

قال ابن الأثير في شرح "المسند": وعليه فيتعذر رواية الحديث إلا على بعض أفراد.

الثاني: أن يتحمل [حالة]

(3)

الكفر ويؤدي بعد الإسلام، فيُقبل أيضًا على الصحيح. وممن ذكر المسألة القاضي في "مختصر التقريب والإرشاد".

مثاله: حديث جبير بن مطعم المتفق على صحته: "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب

(1)

في (ز): اللغة.

(2)

مقدمة ابن الصلاح (ص 129).

(3)

في (ز): الكافر حال.

ص: 551

بالطور"

(1)

، وكان قد جاء في فداء أُسارَى بدرٍ قبل أن يُسلم.

وفي رواية للبخاري: "وذلك في أول ما وقر الإيمان في قلبي"

(2)

.

وفي رواية: "فوافقتُه وهو يُصلي بأصحابه المغرب أو العشاء، فسمعته وهو يقرأ وقد خرج صوته من المسجد: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 7 - 8]. قال: فكأنما صدع قلبي"

(3)

.

وفي رواية: "فسمعته يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35 - 36]، فكاد قلبي يطير"

(4)

. الحديث.

الثالث: أن يتحمل حالة الفسق ويؤدي بعد التوبة المعتبرة، فيُقبل؛ لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، والشهادة كالرواية في ذلك إلا إذا كان قد رُدت شهادته ثم أدَّى بعد التوبة تلك الشهادة، فإن الراجح بقاء الرد؛ للتهمة، بخلاف العبد والصبي كما بُيِّن في موضعه.

قولي: (وَمَنْ وَعَى) احتراز عما لو تحمل حال الجنون وأدَّى بعد زواله، فإنه لا عبرة به؛ لأنه لم يكن عند التحمل واعيًا، فتستحيل المسألة، بل لو كان متقطع الجنون وتحمَّل في إفاقة من إفاقاته، لم يصح تحمُّله إلا إن كان زَمَن جنونه لم يؤثر في ضبْطه عند إفاقته، والله أعلم.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 731)، صحيح مسلم (رقم: 463).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3798).

(3)

المعجم الكبير للطبراني (2/ 116، رقم: 1499) وغيره بنحوه.

(4)

صحيح البخاري (رقم: 4573).

ص: 552

ص

287 -

وَالْفِسْقُ بِاقْتِرَافِ مَا قَدْ سَلَفَا

وَالضَّبْطُ في كبيرةٍ لِتُعْرَفَا

288 -

مَا أَشْعَرَ ارْتكَابُهُ [لِكَامِنِ]

(1)

بِأَنَّهُ في الدِّينِ ذُو تَهَاوُنِ

289 -

غَيْرُ مُبَالٍ فِيهِ، كَالْقَتْلِ أَذَى

زِنًا، لِوَاطٍ، شُرْبِ خَمْرٍ، فَانْبِذَا

290 -

وَسِرْقَةٍ، غَصْبٍ، وَمَا أَشْبَهَهَا

وَغَيْرُهُ صَغِيرَةٌ بِلَا انْتِهَا

الشرح: لَمَّا سبق أن العدالة ملَكَةٌ تمنع من اقتراف الكبيرة ومن الإصرار على صغيرة بينتُ هنا أن ارتكاب ذلك هو الفسق شرعًا، فمرتكبه هو الفاسق إذا كان عالِمًا بذلك مختارًا، لكنه لا يقال:(إنه ارتكبه) إلا إذا كان كذلك.

فالجاهل والمكرَه معذوران، إلا أن المكره قد يؤاخَذ؛ لأنه مكلَّف كما سبق في موضعه، وسبقت الإشارة إلى ما يُعذَر فيه وما لا يعذر، وسيأتي: مَن أَقْدم جاهلًا، هل ترتفع عنه المؤاخذة بهذا العذر؟ أو لا؟

وبينتُ معنى الكبيرة والصغيرة والفرق بينهما.

فأما "الفسق" لُغةً: فهو الخروج عن الطريق. قال تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] أي: خرج عن طاعته]

(2)

.

وأما الفرق بين الكبيرة والصغيرة فإنما هو مفرَّع على القول بانقسام الذنب إليهما، وعليه الجمهور، وقال الأستاذ والقاضي أبو بكر وابن القشيري: إن جميع الذنوب كبائر. ونقله ابن فورك عن الأشعرية واختاره؛ نظرًا إلى مَن عُصي به جَلَّ وعلا.

(1)

في (ن 1، ن 3، ن 4): لكائن.

(2)

في (ز، ق): (ففسقت عن أمر ربها. أي: خرجت).

ص: 553

قال القرافي: (كأنهم كرهوا تسمية معصية الله "صغيرة"؛ إجلالًا له مع موافقتهم في الجرح أنه ليس بمطلق المعصية، بل منه ما يقدح ومنه ما لا يقدح)

(1)

.

وإنما الخلاف في التسمية.

دليل الجمهور: قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام في تكفير الصلوات الخمس والجمعات ما بينهما: "ما اجتنبت الكبائر"

(2)

. إذ لو كان الكل كبائر، لم يَبْقَ بعد ذلك ما يكفر بما ذكر.

وكذا قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، فغاير بين الفسوق والعصيان، لكن ليس هذا صريحًا؛ لجواز أن المغايرة بين ما يفسق به فاعله و [ما]

(3)

لا يفسق به. وقد سبق أن ذلك محل وفاق.

وفي الحديث كما سيأتي: "الكبائر سبع"

(4)

. وفي رواية: "تسع"

(5)

وعدَّها، فلو كانت الذنوب كلها كبائر لَمَا ساغ ذلك.

(1)

نفائس الأصول (3/ 591).

(2)

صحيح مسلم (رقم: 233).

(3)

في (ز): بين ما.

(4)

المعجم الكبير (17/ 48، رقم: 102)، المعجم الأوسط (6/ 33، رقم: 5709).

وفي المعجم الكبير (6/ 103، رقم: 5636) بلفظ: "اجتنبوا الكبائر السبع".

قلتُ: رواية: "الكبائر سبع" عزاها المنذري في (الترغيب والترهيب، 2/ 559) للبزار، وقال الألباني في تحقيقه:(حسن لغيره). لكن الذي في المطبوع من (مسند البزار، 15/ 241، رقم: 8690) هكذا: (الكبائر أولاهن. . .). انظر: الترغيب والترهيب للمنذري، ط: مكتبة المعارف بالرياض.

(5)

سنن أبي داود (رقم: 2875)، المستدرك على الصحيحين (رقم: 197)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 20541). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 2875).

ص: 554

ثُم القائل بالفرق بينهما اختلفوا، فقيل: لا يُعْرف ضابطها.

قال الواحدي: (الصحيح أن الكبائر ليس لها حد تُعرف به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد؛ ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه؛ رجاء أن تُجتنب الكبائر. ونظيره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك).

وقال الأكثرون: ضابطهما معروف. فقال سفيان الثوري: ما تعلق بحق الله صغيرة، وما تعلق بحق الآدمي كبيرة.

وذكر أصحابنا في ضابطهما غير ذلك، فحكى الرافعي وغيره أربعة أوجُه:

أحدها: أن الكبيرة ما فيه وعيد شديد بِنَص كتاب أو سُنة.

ثانيها: ما أَوجب حدًّا، قال الرافعي: وهُم إلى ترجيح هذا أميل. [والأول ما يوجد لأكثرهم، وهو الأوفق؛ لِمَا ذكروه عند تفصيل الكبائر]

(1)

.

ثالثها: لأبي سعد الهروي: كل معصية يجب في جنسها حدٌّ مِن قتل وغيره، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين.

رابعها: ما قاله إمام الحرمين في "الإرشاد": كل جريمة تؤذن بِقِلة اكتراث مرتكبها بالدِّين ورِقَّة الديانة.

وفي معناه ما في "النهاية": (إنَّ الصادر إنْ دَلَّ على الاستهانة لا بالدِّين ولكن بغلبة التقوى وتمرين عليه رجاءَ العفو فهو كبيرة، وإنْ صدر عن فلتة خاطر أو لفتة ناظر فصغيرة)

(2)

. انتهى ملخصًا.

(1)

ليس في (ز، ق).

(2)

نهاية المطلب (19/ 6).

ص: 555

ومعنى قوله: (لا بالدين) لا بأصل الدين، فإنَّ ذلك كفر، وهو معنى قوله في العبارة الأخرى:(بقلة اكتراث)، ولم يَقُل:(بعدم اكتراث).

والكفر وإن كان أكبر الكبائر فالمراد تفسير غيره مما يَصْدر من المسلم، وهذا ما اقتصر عليه الرافعي من الأوجُه، وتبعه في "الروضة".

ورجح المتأخرون مقالة الإمام؛ لحسْن الضبط بها، وعليها اقتصرتُ في النَّظم، ولعلها وافية بما ورد في السُّنة من تفصيل الكبائر الآتي بيانها وما أُلحق بها قياسًا.

ثم قال ابن عبد السلام: (إذا أردت معرفة الكبائر والصغائر، فاعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإنْ نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإنْ ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أَرْبت عليها فهي منها. فمَن شتم الرب سبحانه وتعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو استهان بالرسل أو كذَّب واحدا منهم أو ضمخ الكعبة بالعذرة أو ألقى المصحف بالقاذورات، فهذا من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة)

(1)

. انتهى

وانتُقد عليه بأن هذا كله مندرج تحت الشرك بالله الذي هو أول المنصوص عليه من الكبائر؛ إذِ المراد منه مُطلق الكفر إجماعًا، لا خصوص الشرك، إما تعبيرا بالبعض عن الكل، وخُص بالذِّكر؛ لغلبته ببلاد العرب، وإما تنبيهًا بأحد النوعين على الآخَر.

قلتُ: وهذا كله بناء على تفسير الكبيرة بالأعم من الكفر وغيره، لا على المعنى الذي سبق من مقتضى كلام إمام الحرمين.

ثم قال ابن عبد السلام: وكذلك مَن أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها أو أمسك مسْلمًا لمن يقتله فلا شك أن مفسدته أعظم من مفسدة آكِل مال اليتيم، وكذلك لو دل الكفار على عورة المسلمين مع عِلمه بأنهم يستأصلونهم بدلالته ويسْبون حريمهم وأطفالهم ويغنمون

(1)

قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 19).

ص: 556

أموالهم، فإن نِسبة هذه المفاسد أعظم من [التَّولِّي يوم]

(1)

الزحف بغير عذر، وكذا لو كذب على إنسان يَعلم أنه يُقتل به.

وأطال في ذلك، إلى أنْ قال:(وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأن قال: كل ذنب قُرِن به وعيدٌ أو حَدٌّ أو لَعْن فهو من الكبائر، فتغيير منار الأرض كبيرة؛ لاقتران اللعن به. فَعَلَى هذا كل ذنب يُعلم أن مفسدته كمفسدة ما قُرن الوعيد به أو اللعن أو الحدُّ أو كان أكثر من مفسدته فهو كبيرة)

(2)

. انتهى

وذَيَّل ابن دقيق العيد على ذلك أن لا تؤخذ المفسدة مجردة مما يقترن بها [من]

(3)

أمرٍ آخَر، فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن في مفسدة الخمر السكْر وتشويش العقل، فإنْ أخذنا هذا بمجرده، لَزِم أن لا يكون شرب القطرة الواحدة منه كبيرة؛ لخلوها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة؛ لمفسدة أخرى وهي التجرِيء على شرب الكثير الموقِع في المفسدة، فبهذا الاقتران تصير كبيرة.

تنبيه:

قال بعض المحققين: ينبغي أن تجمع هذه التعاريف كلها؛ ليحصل بها استيعاب الكبائر المنصوصة والمقيسة؛ لأن بعضها لا يَصْدق عليه هذا وبعضها لا يصدق عليه الآخَر.

قلتُ: لكن تعريف الإمام لا يكاد يخرج عنه شيء منها لمن تأمله.

قولي: (وَالْفِسْقُ) مبتدأ خبره "باقتراف"، أي: حاصل بذلك، والإشارة بِـ "مَا قَدْ سَلَفَ" إلى اقتراف الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة.

(1)

كذا في (ز، ش، ق). وليست في (ص، ض). لكن في (ت، ظ): الفرار من.

(2)

قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 21).

(3)

كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: و.

ص: 557

والباقي قولي: (بِأَنَّهُ في الدِّينِ) متعلق بِـ "أَشْعَرَ"، أي: أشعَر بتهاون المرتكِب له. وهو معنى قول الإمام: (بِقِلة اكتراثه). أي: مبالاته، وتاؤه الأخيرة مثلثة.

والمراد برقة الديانة ضعف [التدين]

(1)

.

وقولي: (في الدِّينِ) متعلق بالتهاون، والمعنى أن التهاون في الدِّين، لا بالدِّين، فإن ذاك كفر، وقد سبق كلام الإمام في "النهاية" وإيضاحه.

وقولي: (غَيْرُ مُبَالٍ فِيهِ) خبرٌ بعد خبر لِـ "أنَّ" التوكيدية المصدرية، أي: غير مُبَالٍ في ذلك الأمر، أو: غير مبال فيما يُعاب عليه في الدِّين. وهو معنى قول الإمام: (رقة الديانة).

قولي: (كَالْقَتْلِ) إلى آخِره -أمثلة من الكبائر المنصوصة وغيرها، وقد ذكر الرافعي وغيره طائفة منها لا بأس بإيرادها؛ تكميلًا للفائدة، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات"

(2)

.

وسيأتي في رواية ذِكر تِسع، على أن في تعيين السبع اختلافًا في الروايات يُعلم منه عدم الحصر فيما ذكر، وأن ذلك العدد كان بحسب المقام باعتبار السائل أو غير ذلك.

وتسمية هذه كبائر رواه أبو القاسم البغوي وابن عبد البر في "التمهيد" بسنده من طريقه عن طيلسة بن علي، قال: "أتيتُ ابن عمر رضي الله عنه عشية عرفة وهو تحت ظل أراك وهو يصب الماء على رأسه، فسألته عن الكبائر، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هن تِسع. قلتُ: وما هن؟ قال: الإشراك بالله، وقذف المحصنة، وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف،

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): الدين.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 2615)، صحيح مسلم (رقم: 89).

ص: 558

والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد بالبيت الحرام قِبْلتكم أحياءً وأموات"

(1)

. ورواه الخطيب في "الكفاية" بلفظ: "الكبائر سبع"

(2)

. وذكرها دون "قذف المحصنة" و"الإلحاد في الحرم". وأخرجه البخاري في كتاب "الأدب المفرد" عن طيلسة بن مياس عن ابن عمر موقوفًا

(3)

، وقال الحافظ المزِّي: طيلسة وثَّقه ابن حبان، وهو ابن مياس. ويقال فيه أيضا: طيسلة، بتقديم السين على اللام.

وقال العلائي في "القواعد": (إن المنصوص عليه من الكبائر في مجموع أحاديث كثيرة وأنه كتبها في مصنف مفرد: الشرك بالله عز وجل، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وأفحشه بحليلة الجار، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والاستطالة في عِرض المسلم بغير حق، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والنميمة، والسرقة، وشرب الخمر، واستحلال بيت الله الحرام، ونكث الصفقة، وترك السُّنة، و [التعرب]

(4)

بعد الهجرة، واليأس من روح الله، والأمن مِن مكْر الله، ومنع ابن السبيل من فضل الماء، وعدم التنزه من البول، وعقوق الوالدين، والتسبب إلى شتمهما، والإضرار في الوصية. هذا مجموع ما جاء في الأحاديث منصوصًا عليه أنه كبيرة)

(5)

.

انتهى

(1)

التمهيد (5/ 69).

(2)

الكفاية في علوم الدراية (ص 103).

(3)

الأدب المفرد (ص 202). قال الألباني: صحيح. (صحيح الأدب المفرد، ص 35).

(4)

كذا في (ز، ع، ض). وفي سائر النُّسخ: التغرب.

(5)

المجموع المذهب في قواعد المذهب (1/ 353 - 358). رسالة ماجستير للباحث: إبراهيم جالو، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، تحقيق ودراسة من الجزء المتبقي من الصحة والفساد إلى فائدة في الكلام عن الخنثى، للعام الجامعي 1414 هـ.

ص: 559

وفي النَّظم من ذلك:

- " القتل"، وقيدتُه بلفظ:(الأذَى)؛ احترازًا من القتل بحق، فإنه ليس على وجْه الأذى، ويُفهم منه أيضًا أنه يكون عمدًا، لا خطأ ولا شِبه عمد. وحذفتُ حرف العطف مما بعده؛ لاستقامة الوزن، ولأن المقصود سرد هذه الأنواع بعطف وغيره.

- و"الزنا"، ويقاس به "اللواط"؛ للحَدِّ فيهما، بل اللواط أفحش، ويلتحق به وطء الزوجة والأَمة في الموضع المكروه.

- وشرب الخمر، أي: وإن لم يُسكر، والسكِر مطلقًا في معناه، بل كل ما يزيل العقل لغير ضرورة.

- والسرقة والغصب؛ للتوعد والحد في السرقة، وللتوعد في الغصب واللعن في حديث:"لعن الله مَن غيَّر منار الأرض"

(1)

. كما سبق رواه مسلم، وقيد العبادي وشريح الروياني بما يبلغ قيمته ربع دينار، كأنهم قاسوه على السرقة. أما سرقة الشيء التافه فصغيرة إلا إن كان المسروق منه مسكينًا لا غنى به عما أخذه، فتكون كبيرة. قاله الحليمي، لكنه من جهة الإيذاء، لا من جهة السرقة فقط، والغصب مثله أيضًا.

وأشرتُ بقولي: (وَمَا أَشْبَهَهَا) إلى باقي الكبائر، وسبق منها من كلام العلائي طائفة مما قال:(إنه في الأحاديث)، فنذكرها وغيرها.

فمنها: القذف، والنميمة، وشهادة الزور، واليمين الغموس، وقطيعة الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، ومال اليتيم، كما سبق في الأحاديث، وخيانة الكيل والوزن؛ لقوله تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1]، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عنه، وعليه حمل حديث الترمذي: "مَن جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب

(1)

صحيح مسلم (رقم: 1978).

ص: 560

الكبائر"

(1)

، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدًا، بل قال الشيخ أبو محمد: إنه كفر، ولا شك في ذلك فيما يكون إحلالًا لحرام أو تحريمًا لحلال، وضرب المسلم بغير حق، وفي معناه ضرب الذمي بغير حق، وفي [الصحيح]

(2)

: "صنفان من أهل النار: قوم معهم كأذناب البقر يضربون بها الناس"

(3)

، وسب الصحابة رضي الله عنه، وكتمان الشهادة، والرشوة، والدياثة (وهي الاستحسان على أهله)، والقيادة (وهي الاستحسان على غير أهله)، والسعاية عند السلطان بما يضر الناس ولو كان صِدقًا، ومنع الزكاة، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والظهار، وأكل لحم الخنزير والميتة من غير ضرورة، وفطر رمضان، والغلول (وهي الخيانة في مال الغنيمة أو بيت المال أو الزكاة، وقيل: من المغنم فقط)، والمحاربة، والسحر، وبيع الربا.

وعلى ما سبق في الاصرار على الصغيرة إنْ قُلنا: إنَّ نفسه كبيرة، يُعَد أيضًا منها. نعم حكى الدبيلي في "أدب القضاء" وجهًا كما سبق أنه باق على كوْنه صغيرة، وسبق أيضًا نقله عن غيره.

ومن الكبائر أيضًا كما في الشرح و"الروضة": (ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن، وإحراق الحيوان، ، وامتناعها من زوجها بلا سبب، والوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن)

(4)

.

قال الرافعي: (وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال، كقطع الرحم وترك الأمر

(1)

سنن الترمذي (رقم: 188). قال الألباني: ضعيف جدًّا. (ضعيف سنن الترمذي: 188).

(2)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): الحديث.

(3)

صحيح مسلم (رقم: 2128).

(4)

روضة الطالبين (11/ 223).

ص: 561

بالمعروف على إطلاقهما، ونسيان القرآن وإحراق الحيوان).

قال: (وقد أشار الغزالي في "الإحياء" إلى مثل هذا التوقف)

(1)

.

انتهى وتَعقَّبه النووي في نسيان القرآن بحديث أبي داود والترمذي: "عُرضَتْ علَيَّ ذنوب أُمتي، فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أُوتيها رجُل ثم نسيها"

(2)

. قال: (لكن في إسناده ضعف، وتكلم فيه الترمذي)

(3)

.

وقولي: (وَغَيْرُهُ صَغِيرَةٌ بِلَا انْتِهَا) إشارة إلى أن ما سوى ما ذُكر في تعريف "الكبيرة" وأمثلتها هو "الصغيرة"، ولا انتهاء لأمثلتها ولا حصر؛ فلذلك لم أُورِد لها مثالًا؛ لوضوحه. ولا بأس بذكر شيء من ذلك؛ زيادة في الإيضاح، أو للخفاء، أو للخلاف فيه.

فمِن ذلك ما نقله الرافعي عن صاحب "العدة": النظر إلى ما لا يجوز، والغيبة، والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق الثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان مُحِقًّا، والسكوت على الغيبة، والنياحة، والصياح، وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق إيناسًا لهم، والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي، والبيع والشراء في المسجد، وإدخال الصبيان والمجانين فيه، وإمامة قوم يَكرهونه؛ لِعَيْبٍ فيه، والعبث في الصلاة والضحك فيها، وتَخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والكلام والإمام يخطب، والتغوط مُستقبِل القِبلة أو في طريق المسلمين، وكشف العورة في الحمام.

قال: ولك أن تقول في كثرة الخصومات من المُحِق: ينبغي أن لا يكون معصية إذا

(1)

العزيز شرح الوجيز (13/ 7).

(2)

سنن الترمذي (رقم: 2916)، سنن أبي داود (رقم: 461). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن الترمذي: 2916).

(3)

روضة الطالبين (11/ 223).

ص: 562

راعَى حدَّ الشرع، وتخطي الرقاب؛ فإنه معدود من المكروهات، لا محُرَّم، وكذا الكلام والإمام يخطب -على الأظهر.

قال النووي: (المختار أن التخطي حرام؛ للأحاديث فيه)

(1)

.

قال: (والصواب في الخصومات ما قاله الرافعي، وأنَّ البيع والشراء في المسجد وإدخال الصبيان إذا لم يغلب تنجيسهم إياه والعبث في الصلاة -من المكروهات مشهور)

(2)

.

قال: (ومن الصغائر: القُبلة للصائم التي تُحرك شهوته، والوصال في الصوم على الأصح، والاستمناء، ومباشرة الأجنبية بغير جماع، ووطء الزوجة المظاهر منها قَبل التكفير والرجعية، والخلوة بالأجنبية، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محَرم ولا نسوة ثقات، والنجش، والاحتكار، والبيع على بيع أخيه، والسوم والخطبة كذلك، وبيع الحاضر للبادي وتَلَقّي الركبان، والتصرية وبيع المعيب مِن غير بيانه، واتخاذ الكلب الذي لا يُباح اقتناؤه، وإمساك الخمر غير المحترمة، وبيع العبد المسلم من الكافر

(3)

والصحف وسائر كُتب العِلم الشرعي، واستعمال النجاسة في البدن لغير حاجة، وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة -على الأصح، وأشباه ذلك)

(4)

.

والله أعلم.

(1)

روضة الطالبين (11/ 224).

(2)

المرجع السابق.

(3)

كذا في جميع النُّسخ. وعبارة النووي في (روضة الطالبين، 11/ 225): (وَبَيع الْعَبْدِ المُسْلِمِ لِكَافِرٍ).

(4)

روضة الطالبين (11/ 225).

ص: 563

ص:

291 -

مِنْ أَجْلِ هَذَا يُقْبَلُ الْمُبْتَدِعُ

لِأَنَّهُ بِجَهْلِهِ يَبْتَدِعُ

292 -

مَا لَمْ يُبِحْ مِنْ كَذِبِ الْكَذَّابِ

شيْئًا، فَذَا يُرَدُّ كَالْخَطَّابِي

الشرح:

أي: من أجل أن العدالة هي الملَكة المذكورة قُبلت رواية المبتدعة وشهادتهم، وهُم الذين انتحلوا ما ليس عليه أهل السُّنة من العقائد، وإنما قُبلوا لحصول الملَكة عندهم، لأن المبتدع منهم إنما قال ببدعته جهلًا منه أنها ليست معصية فضلًا عن كونها كبيرة، لكن يُستثنى منهم مَن يستبيح الكذب كالخطابية، فإنه لا يُقبل، وهُم قوم من غلاة الشيعة أصحاب أبي الخطاب الأسدي، كان -لعنه الله تعالى- يقول بإلَاهِيَّة جعفر الصادق ثم ادَّعى [الإلاهية]

(1)

لنفسه، وكان يزعم أنَّ الأئمة أنبياء، وفي كل وقت رسول، إلى غير ذلك من الضلال. الواحد منهم خطابي، وهو معنى قولي:(كَالْخَطَّابِي).

وملخص ما في المسألة مذاهب، أرجحها: أن المبتدع يُقبل مطلقًا إلا حيث كفرناه ببدعته، أو لم نكفره ولكن من عقيدته جواز الكذب، كالخطابية، ولكن محل ذلك إذا لم يوافقوا أبا الخطاب على ما هو كافر به مما سبق، وإلا فلا يُقبَلون؛ لأمرين: لِهَذا، وللكفر. فإنما يصح التمثيل به بالتأويل الذي ذكرناه.

وإنما ذكرتُ في النَّظم استثناء مَن يبيح الكذب؛ لأنَّ مَن يكفر ببدعته داخلٌ فيما سبق من رد الكافر مطلقًا. وهذا معنى قول ابن الحاجب: (إن المبتدع بما يتضمن الكفر كالكافر عند

(1)

كل النسخ: الإلهية.

ص: 564

المكفر)

(1)

.

ومقتضاه أن ذلك باتفاق، سواء أكان يعتقد حرمة الكذب أو لا.

لكن معتقِد حُرمة الكذب مع الحكم بتكفيره ببدعته (كالقول بنبوة علي، وغَلَطِ جبريل في الرسالة، وكالمجسِّمة عند مَن يكفرهم، ونحو ذلك) فيه مذهبان مشهوران:

قال الأكثرون (منهم القاضي والغزالي والآمدي وغيرهم): لا يُقبل.

وقال أبو الحسين البصري والإمام الرازي وأتباعه: يُقبل.

فإنْ كان مكفَّرًا ببدعته ولكن هو ممن يعتقد جواز الكذب تعبدًا، مردود اتفاقًا.

قال ابن السبكي في شرحَي "المختصر" و"المنهاج": (أرى أن موضع الاتفاق فيمن اعتقد الحِل مطلقًا؛ لأنها رذيلة لا نَعلم أحدًا ذهب إليها. أما من اعتقد حِله في أمر خاص كالكذب في نُصرة عقيدته أو في ترغيب وترهيب أو نحو ذلك، فَيُرد في ذلك المحل الخاص)

(2)

.

وهو فيما سوى ذلك المحل كغيْره في جريان الخلاف.

وخرج من ذلك:

قولٌ ثان: إنَّ المبتدع مقبول ولو كان كافرًا بشرط أن يعتقد تحريم الكذب.

وقولٌ ثالث بالرد فيما يعتقد حِل الكذب فيه دُون غيره.

القول الرابع: أن المبتدع مردود مطلقًا وإنْ لم يكفر ببدعته. وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق في "اللمع".

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 549).

(2)

الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 314)، رفع الحاجب (2/ 363).

ص: 565

قال الخطيب البغدادي: (ويروى ذلك عن مالك).

واستبعده ابن الصلاح بأن كُتب الأئمة طافحة بالرواية عن المبتدعة.

قال ابن دقيق العيد: لعل هذا القول مبني على مَن كفر ببدعته.

ورُد بأنَّ الفرض فيمن لم يكفر، وإنما مأخذهم أن البدعة نفسها فِسق، ولم يُعذر صاحبها بتأويله، قالوا: فهو فاسق ببدعته وبجهله بها.

الخامس: إنْ كان داعية إلى بدعته -أيْ بإظهارها وتحقيق علتها- لم يُقبل. فإنْ كان مع ذلك يَحمل الناس على القول بها، فقال أبو الوليد الباجي: لا خِلاف في ترك حديثه.

وممن قال بالتفصيل بين مَن يدعو إلى بدعته أوْ لا: سليم في "التقريب"، وحكاه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" عن مالك؛ لقوله: لا تأخذ الحديث مِن صاحب هوًى يدعو إلى هواه.

قال القاضي عياض: يحتمل ذلك، ويحتمل أن مراده: لا يُقبل مطلقًا؛ لأن المبتدع يدعو إلى هواه، فهو بيان لسبب تهمته.

قال: وهذا هو المعروف من مذهبه.

قال الخطيب: والتفصيل أيضًا مذهب أحمد. ونسبه ابن الصلاح للأكثرين، قال: وهو أعدل المذاهب وأَوْلاها.

وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غيْر الدعاة احتجاجًا واستشهادًا، [كعمر بن خطاب]

(1)

وداود بن الحصين وغيرهما، ونقل ابن حبان الإجماع على ذلك.

(1)

كذا في (ز، ض، ش). وفي سائر النُّسخ: عمر بن الخطاب. ويظهر أن هذا خطأ من النّساخ؛ فالفقرة بتمامها أخذها البرماوي من كتاب "البحر المحيط" لشيخه الزركشي، وعبارة الزركشي في (البحر =

ص: 566

وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام": (إنَّ الخلاف في غير الداعية، وإنَّ الداعية ساقط إجماعًا)

(1)

.

وردَّه عليه ابن دقيق العيد، لكن لم يُعَيّنه، بل نقَله عن بعض متأخري أهل الحديث.

السادس: ما قال ابن دقيق العيد: (إنه المختار): أنَّ الداعية إما أن يروي ما ينفرد به عن غيره فيُقبَل؛ للضرورة، وإما أن يروي ما يرويه غيره فلا يُقبل.

وهو تفصيل غريب.

تنبيهان

أحدهما: أنَّ مما قلنا: (إنه أرجح المذاهب) هو المنقول عن نَص الشافعي كما نقله الخطيب عنه أنه قال: (أقْبَل أهل الأهواء إلا الخطابية [من]

(2)

الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم)

(3)

.

قال: (ويُحكى أيضًا عن ابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف القاضي)

(4)

.

وقال أبو نصر بن القشيري: إلى هذا ميل الشافعي.

= المحيط، 3/ 331):(وَفِي الصَّحِيحَيْنِ كَثِير مِنْ أَحَادِيثِ المُبْتَدِعَةِ غَيْرِ الدُّعَاةِ احْتِجَاجًا وَاسْتِشْهَادًا، كَعمْرَانَ بْنِ حطان، وَدَاوُد بْنِ الحُصَيْنِ، وَغَيِرهِمَا).

(1)

بيان الوهم والإيهام (3/ 163).

(2)

في (ز، ق): و.

(3)

الكفاية في علم الرواية (ص 120).

(4)

المرجع السابق.

ص: 567

وكذا قال ابن برهان: إنه الصحيح وقولُ الشافعي، لقوله: أقبل شهادة أهل الأهواء والبدع إلا الخطابية، فإنهم يتدينون بالكذب.

وكلام محمد بن الحسن يقتضي قبول الخطابية، إذ قال: إذا كنا نقبل رواية أهل العدل وهم يعتقدون أن مَن كَذب فسق، فلأنْ نَقبل رواية أهل الأهواء -وهُم يعتقدون أنَّ مَن كذب كفر- مِن طريق الأَوْلى.

قال ابن برهان: (وتحقيق ما ذكرناه من قبول المبتدعة هو أن أئمة الحديث كالبخاري ومسلم وغيرهما رووا في كُتبهم عن أهل الأهواء، حتى قيل: لو حذفت رواياتهم لابيضت الكتب)

(1)

.

انتهى واعترض الهندي في "النهاية" على كون الخطابية من هذا القبيل المستثنى بأنَّ المحكي عنهم في بدعتهم ما يوجب كفرهم، فليسوا مِن أهل القِبلة، فاستثناء الشافعي لهم منقطع.

قلتُ: قد سبق تأويل كلام مَن استثناهم إما على أنَّ فيهم أمرين كل منهما يقتضي الرد، وإما على أن المراد مَن تبع أبا الخطاب على غير ما كفر به -على ما فيه مِن بُعْد. على أن الشافعي في "المختصر" لم يُعَيِّن خطابيًّا ولا غيره. [نعم]

(2)

، سبق نقل الخطيب عنه تعيينهم [مع الرافضة]

(3)

.

ونَصُّ "المختصر" في أول كتاب الشهادات: (ولا أَرُد شهادة الرجُل من أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لِمُوافِقِه بتصديقه وقبول يمينه، وكشهادة مَن يرى كذبه شركًا بالله

(1)

انظر: الوصول إلى الوصول (2/ 184).

(2)

كذا في (ز، ق). وفي سائر النُّسخ: وإن.

(3)

من (ز، ق).

ص: 568

ومعصية تجب بها النار -أَوْلى أنْ تطيب النفْس بقبولها مِن شهادة مَن يخفف المأثم فيها)

(1)

.

انتهى قال [بعض]

(2)

شراحه كالصيدلاني وغيره: يعني بذلك الخطابية، وهُم قوم من الخوارج يرون الكذب كُفرًا يوجِب التخليد في النار. فإذا حلف أحدهم لصاحبه بما يدعيه، يَشْهد له.

قال: (وإنما لا تُقبل شهادته مطلقة، فإنْ بيَّن السبب مِن بيع أو إقرار أو غيره، قُبِل. ثُم ذَكر -يعني الشافعيَّ- أنَّ القلب إلى قول مَن يرى الكذب كفرًا أو موجِبًا للتخليد أَسْكَن بعد ما لم يكن مِن الخطابية). انتهى

فبيَّن الجمْعَ بيْن كلامَي الشافعي أوَّ، وآخِرًا.

واعْلم أن الشهرستاني وابن السمعاني وغيرهما ممن تَرجم للخطابية ذكروا أمورًا كثيرة مِن كُفرهم، ولم يذكروا استحلالهم الكذب ولا التكفير به، ولكن مَن حَفظ حُجة على مَن لم يحفظ. عَلَى أنَّ الإمام الرازي وأتباعه على هذا المذهب قالوا: إلا أنْ يكون قد ظهر عناد المبتدع، فلا يُقبل قولُه، لأنَّ العناد كذب.

وإنما لم أذكر ذلك لأن مَن ظهر عناده وتعمد الكذب، عُرِف أنه يستحل الكذب، فهو داخل في مُستحِل الكذب.

الثاني: يستفاد مما ذكرناه من الراجح في قبول المبتدع مسألة مَن أَقْدَم على مفسق مظنون معتقدًا أنه غير مفسق، أنه يُقْبل؛ لأن المبتدع قد أقدم بظنه على مفسق مقطوع به، ومع ذلك يُقبل، فهذا أَوْلى، وهو ما سبق نقْله عن الشافعي مِن قبول أهل الأهواء، والآخَر مأخوذ من قوله في شارب النبيذ الحنفي:(أحدُّه، وأَقْبَل شهادته). أي: لأنه لم يُقْدِم عليه بجرأة، ودليل

(1)

مختصر المزني (ص 310).

(2)

من (ت، ق، ش).

ص: 569

تحريمه ليس قطعيًّا حتى لا يُعتبر ظنُّه معه؛ فتحقق بذلك أن المدار على الملَكَة المانعة كما سبق تقريره.

نعم، حكى في "المحصول" الاتفاق في المظنون على القبول.

قال الهندي: (والأظهر ثبوت الخلاف فيه، كما في الشهادة؛ إذْ لا فَرق بينهما فيما يتعلق بالعدالة)

(1)

.

أما مَن يُقْدِم جاهلًا بالحرمة أو الحل فذلك من تفاريع الفقه؛ ولذلك لم أتعرض لهذه المسألة في النَّظم، والله أعلم.

ص:

293 ثُمَّ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِالْعَدَالَهْ. . . سَمْعٌ كصَحْبٍ لَهُمُ جَلَالَهْ

الشرح:

أي: ما سبق من شروط الراوي منه ما هو ظاهر يُطَّلع عليه بسهولة، كالبلوغ والعقل والإسلام، ومنه ما هو خفي لا يُطَّلع عليه إلا بعُسر، وهو العدالة. وقد ذكر في طريق معرفتها أمور:

الأول: السمع من الكتاب والسُّنة، وذلك كالصحابة رضي الله عنهم، فإن عدالتهم دل عليها قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله تعالى:{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، فهُم المخاطَبون حقيقة بهذا الخطاب الشفاهي حتى نقل بعضهم اتفاق المفسرين على أن الصحابة هم المراد من هاتين الآيتين.

(1)

نهاية الوصول (7/ 2881).

ص: 570

ولكن حكاية الاتفاق مردودة بأنَّ الخلاف شهير في كثير من التفاسير في اختصاصهم بذلك أو هو عام لكل الأمة.

نعم، الاختصاص هو قول الأكثر، ويشهد له ما سيأتي من السُّنة والمعنى، ومثل ذلك قوله تعالى:{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري: "لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مِثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نَصيفَه"

(1)

.

والحديث وإن وَرَدَ على سبب فالعبرة بعموم اللفظ، ولا يضر أيضًا كوْن الخطاب بذلك لأصحابه أيضًا؛ لأن المعنى: لا يَسُب غيرُ أصحابي أصحابي، ولا يَسُب بعضُكم بعضًا.

وفي الصحيحين من حديث عمران بن الحصين: "خير القرون قَرني، ثم الذين يلونهم"

(2)

الحديث، وفي رواية لابن مسعود:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"

(3)

، وفي الترمذي عن عبد الله بن مغفل مرفوعًا:"الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمَن أحبهم فبحبي أحبهم، وَمن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومَن آذاهم فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله، ومَن آذى الله فيوشك أن يأخذه"

(4)

. وغير ذلك مما لا ينحصر.

فإن قيل: هذه الأدلة دلت على فضلهم، فأين التصريح بعدالتهم؟

(1)

صحيح البخاري (رقم: 3470)، صحيح مسلم (رقم: 2540) واللفظ لمسلم.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 2508)، صحيح مسلم (رقم: 2535) كلاهما بلفظ: (خيركم قرني. . .).

(3)

صحيح البخاري (رقم: 2509)، صحيح مسلم (رقم: 2533).

(4)

مسند أحمد (20568)، سنن الترمذي (رقم: 3862)، صحيح ابن حبان (7256). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف سنن الترمذي: 3862).

ص: 571

قلتُ: مَن أثنى الله ورسوله عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلًا؟ ! فإذا كان التعديل يثبت بِقَول اثنين من الناس أو واحد في الراوي كما سيأتي، فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله ورسوله؟ !

وهذا المذهب هو المعتمد، بل حكى ابن عبد البر في مقدمة "الاستيعاب" الإجماع عليه من أهل السنة والجماعة، وقال القاضي أبو بكر: إنه قول السلف وجمهور الخلف.

وحكى فيه أيضًا إمام الحرمين الإجماع، قال:(والسبب فيه أنهم نَقَلةُ الشريعة، ولو ثبت توقُّف في روايتهم لَانحصرت الشريعة في عصره صلى الله عليه وسلم دُون سائر الأعصار)

(1)

.

قال إلْكِيا الطبري: إن عليه كافة أصحابنا، وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فمبني على الاجتهاد، فإما أن كل مجتهد مصيب، وإما المصيب واحد وغير المصيب معذور، بل مأجور؛ لأنه ليس من الاعتقاديات القطعية، وكما قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نخضب بها أَلسِنتنا.

ووراء هذا المذهب أقوال ضعيفة، بل باطلة:

منها: أنهم كغيرهم في الفحص عن عدالتهم.

ومنها: أنهم عدول إلى زمن قتل عثمان رضي الله عنه؛ لظهور الفتن من يومئذ.

والحقُّ أن عثمان قُتل ظلمًا، وحمى الله تعالى الصحابة من مباشرة قَتْله، ولم يتول قتلَهُ إلا شيطانٌ مريد، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة الرضا بقتله، بل المحفوظ أن كُلًّا منهم أنكر ذلك.

ومنها: قول المعتزلة كما حكاه ابن الحاجب: إنهم عدول إلَّا مَن قاتل عليًّا ففاسق؛

(1)

البرهان (1/ 407).

ص: 572

لخروجه على الإمام الحق.

وهذا أيضًا باطل؛ لأن مسألة الأخذ بثأر عثمان اجتهادية، رأَى علي رضي الله عنه فيها التأخير؛ لمصلحة، ورأت عائشة رضي الله عنه المبادرة مصلحة، وكلٌّ مأجور على اجتهاده. فالوقائع كلها جوابها سهل ظاهر، فالصواب التسليم فيما شجر بينهم إلى ربهم جل وعلا، ونبرأ ممن يطعن في أحد منهم، ونعتقد أن المخالف في ذلك مبتدع زائغ عن الحق، نعوذ بالله من ذلك.

ومنها: أن مَن قَلَّت صحبته فكَغْيره، والحكم بالعدالة إنما هو لمن اشتهرت صحبته. قاله [المازري]

(1)

.

ومنها: قول مَن قال: عدول، ومَن خرج منهم عن الطريقة لا يسمَّى صحابيًّا.

وغير ذلك من الأقوال الواهية الباطلة.

تنبيهات

أحدها: ليس المراد بكونهم عدولًا ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم؛ إنما المراد أنه لا يُتكلف البحث عن عدالتهم ولا طلب التزكية فيهم، وقد سبق أن غلبة الخير في العدل كافية.

الثاني: قال الحافظ المزي: من الفوائد أنه لم يوجد قط رواية عمن لُمِزَ بالنفاق من الصحابة.

الثالث: من فوائد القول بعدالتهم مطلقًا: إذا قيل: "عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كذا"، كان ذلك كتعيينه بِاسْمه؛ لاستواء الكل في العدالة.

وقال أبو زيد الدبوسى: بشرط أن يعمل بروايته السلف، أو يسكتوا عن الرد مع

(1)

في (ظ، ت): الماوردي.

ص: 573

الانتشار، أو تكون موافِقة للقياس، وإلا فلا يُحتج بها.

ولا يخفَى ضعف ذلك، والله أعلم.

ص:

294 ثُمَّ الصَّحَابِيُّ الَّذِي قَدِ اجْتَمَعْ. . . مَعَ النَّبِيِّ مُؤْمنًا، بِذَا ارْتَفَعْ

295 وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَرْوِ أَوْ لَمْ يُطِلِ. . . أَوْ مَا غَزَا مَعَ الرَّسُولِ الْأَكْمَلِ

الشرح:

إذا تَقرر أن الصحابة عدول، فلا بُدَّ من بيان الصحابي مَن هو؟ وما الطريق في معرفة كونه صحابيًّا؟ فذكرتُ في هذين البيتين المقام الأول.

وقد اختُلف في تفسير الصحابي على أقوال منتشرة، المختار منها ما اقتصرت عليه: وهو أن "الصحابي" مَن اجتمع مؤمنًا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولو لم يَرْوِ عنه، ولو لم تَطُل صحبته معه، ولو لم يَغْزُ معه في شيء من غزواته.

فقولنا: (مَن اجتمع) يشمل مَن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، أو لم يره؛ لكونه أعمى، كابن أم مكتوم. وخرج به: مَن رآهم النبي صلى الله عليه وسلم حين كُشف له عنهم ليلة الإسراء وغيرها، ومن رآه في غير عالم الشهادة، كالمنام، وكذا مَن اجتمع به مِن الأنبياء والملائكة في السماوات؛ لأن مقامهم أجل مِن رُتبة الصحبة، وكذا مَن اجتمع به في الأرض، كعيسى والخضر إنْ صح ذلك، فإنما المراد الاجتماع المعروف على الوجه المعتاد، لا خوارق العادات؛ فلهذا لا يُورَد على هذا التعريف شيء من ذلك.

والتعبير بـ "اجتمع" أجود من التعبير بـ "رأى النبي صلى الله عليه وسلم " أو "رآه النبي"؛ لِمَا ذكرناه. وأجود أيضًا من التعبير بِـ "صَحبَ"؛ لئلا يلزم الدَّور ما لم يُحمل "صَحبَ" على المعنى

ص: 574

اللغوي، ولأن الصحبة عُرفًا تتوقف على ملازمة ونحوها.

وخرج أيضًا بالاجتماع: مَن رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته قبل الدفن، كأبي ذؤيب الشاعر خالد بن خويلد الهذلي؛ لأنه لَمَّا أَسلم وأُخبر بمرض النبي صلى الله عليه وسلم، سافر؛ ليراه، فوجده ميتًا مسجًى، فحضر الصلاة عليه والدفن، فلم يُعَد صحابيًّا.

نعم، ابن عبد البر إنما يعتبر في الصحبة أنْ يُسْلم في حياته صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يَرَه، فالذي رآه ميتًا من باب أَوْلى.

عَلَى أن الذهبي في "التجريد" للصحابة قد عَدَّ منهم أبا ذؤيب، وقوَّاه شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني، وقال: الظاهر أنه يُعَدُّ صحابيًّا.

ولكن مرادهم كلهم الصحبة الحكمية التي سنبينها، لا حقيقة الصحبة.

وخرج بالتقييد بالإيمان: مَن رآه واجتمع به قبل النبوة ولم يره بعد ذلك، كما في زيد بن عمرو بن نفيل، مات قبل البعث، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه يُبعث أُمة وحده"

(1)

. كما رواه النسائي، وأما [ذِكر ابن منده وغيره له مِن]

(2)

الصحابة فمن التوسع الآتي بيانه.

وليس ورقة بن نوفل من هذا النوع؛ لأنه إنما اجتمع به بعد الرسالة؛ لِمَا صح في الأحاديث أنه جاء له بعد مجيء جبريل- عليه السلام له وإنزال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] عليه، وبعد قوله له:"أَبْشر يا محمد، فأنا جبريل أُرسلتُ إليك، وإنك رسول هذه الأُمة". وقول ورقة له: "أَبْشر، فأنا أشهد أنك الذي بَشَّر به ابنُ مريم، وإنك على مثل

(1)

سنن النسائي الكبرى (رقم: 8187)، مسند أبي يعلى (973، 2047). وذكر الألباني الإسناد الأخير لأبي يعلى ثم قال: (إسناده حسن). صحيح السيرة النبوية (ص 94).

(2)

في (ز): ما ذكره ابن منده وغيره زمن.

ص: 575

ناموس موسى، وإنك نبيٌّ مرسل"

(1)

، ورؤيته عليه الصلاة والسلام لورقة في الجنة وعليه ثياب خضر. وجاء أنه قال:"لا تَسبُّوه؛ فإني رأيته وعليه جبة أو جبتان"

(2)

. رواه الحاكم في "المستدرك".

وأما قول الذهبي في "التجريد": (إنَّ ابن منده قال: اختُلف في إسلامه، والأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة) فبعيد؛ لِمَا ذكرناه، فهو صحابي قطعًا، بل أول الصحابة كما كان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يقرره.

وخرج أيضًا بالاجتماع مؤمنًا: مَن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، أو قَبْله وقُتل بالرِّدة، كابن خطل وغيره؛ فإنه بالردة تَبين أنه لم يجتمع به مؤمنًا؛ تفريعًا على قول الأشعري رحمه الله: إن الكفر والإيمان لا يتبدلان، خلافًا للحنفية، والاعتبار فيهما بالخاتمة.

أما مَن ارتد ثم رجع للإسلام كالأشعث بن قيس رضي الله عنه فقدْ تَبين أنه لم يَزَل مؤمنًا. فإنْ كان قد رآه مؤمنًا ثم ارتد ثم رآه ثانيًا مؤمنًا، فأوْضح؛ فإنَّ الصحبة قد حصلت بالاجتماع الثاني قطعًا.

وخرج أيضًا: مَن اجتمع به قبل النبوة ثم أسلم بعد المبعث ولم يَلْقَه، الظاهر أنه لا يكون صحابيًّا بذلك الاجتماع، لأنه حين ذاك لم يكن مؤمنًا كما روى أبو داود عن عبد الله بن أبي الحمساء: "بايعتُ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث، فوعدته أن آتيه بها في مكانه، ونسيتُ ثم ذكرتُ بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: يا فتى، لقد شققتَ علَيَّ، أنا في انتظارك

(1)

قصة ورقة بن نوفل في صحيح البخاري (رقم: 4670) وصحيح مسلم (160)، ولفظ الرواية في الشريعة للآجري (3/ 1442).

(2)

المستدرك على الصحيحين (رقم: 4211) وغيره، بلفظ:"لا تَسُبُّوا وَرَقَةَ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتيْنِ". وصححه الألباني في (السلسلة الصحيحة: 405).

ص: 576

منذ ثلاث"

(1)

. ثم لم يُنقَل أنه اجتمع به بعد المبعث.

ودخل أيضًا في الاجتماع مَن جِيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مميِّز، فحنكه كعبد الله بن الحارث بن نوفل، أو تفل فيه كمحمود بن الربيع، بل مَجَّه بالماء وهو ابن خمس سنين أو أربع كما سبق بيانه قريبًا، أو مسح وجهه كعبد الله بن ثعلبة بن صُعَير (بضم الصاد وفتح العين المهملتين)، ونحو ذلك. فهؤلاء صحابة وإنِ اختار جماعة خِلاف ذلك كما هو ظاهر كلام ابن معين وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم وأبي داود وابن عبد البر وغيرهم، وكأنهم إنما نفوا الصحبة المؤكدة كما سيأتي.

واعْلَم أن بعض العلماء شرَط في الصحابي زيادة على ما ذكرناه، والمختار خلافُه.

مِن ذلك ما أشرتُ إليه في النَّظم بقولي: (وَإنْ لَمْ يَرْوِ) إلى آخِره، فشرَط بعضهم أن يروى عنه ولو حديثًا، وإلا فلا يكون صحابيًّا.

وشرَط بعضهم أن تطول الصحبة وتكثر المجالسة على طريق التبع له والأخذ عنه. ويُنقل ذلك عن أهل الأصول أو بعضهم، ورَدَّه الخطيب في "الكفاية" بأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن ما اشتُق منه الصحابي وهو "الصحبة" لا تُحَد بزمن ولا طولٍ، فتقول: صحبته سَنة، وصحبته لحظة

(2)

.

وفيما قاله نظر؛ لأن الكلام في الصحبة الاصطلاحية، وإلا فليس في اللغة اشتراط الإسلام في الصُّحبة.

وشرَط سعيد بن المسيب أن يقيم معه سَنة أو سنتين، أو يغزو معه غزوةً أو غزوتين. وقد

(1)

سنن أبي داود (رقم: 4996)، السنن الكبرى للبيهقي (20624). قال الألباني: ضعيف الإسناد. (ضعيف سنن أبي داود: 4996).

(2)

انظر: الكفاية (ص 50).

ص: 577

اعتُرض عليه بنحو جرير ممن وفد عليه في السَّنة العاشرة وما قاربها، إلا أن يريد الصحبة المؤكدة، فيستقيم.

ومما لم أُشِر إليه في النَّظم من الاختلاف ما شرَطه بعضهم من البلوغ. حكاه الواقدي عن أهل العلم.

ورُدَّ بخروج نحو عبد الله بن الزبير والحسن والحسين وأنظارهم رضي الله عنهم.

وشرط بعضهم كوْنه من البَشَر؛ ليخرج مَن آمن به من الجن الذين قَدِموا عليه من نَصِيبين

(1)

وهم سبعة من اليهود أو ثمانية؛ ولهذا قالوا: {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30]. وذكر في أسمائهم: شاصر، وماصر، وناشئ، ومنشئ، والأحقب، وزوبعة وسُرق، وعمرو بن جابر.

وقد استشكل ابن الأثير في "أسد الغابة" قول مَن ذكرهم في الصحابة، وهو محل نظر.

واشترط أبو الحسين بن القطان العدالة، قال: والوليد الذي شرب الخمر ليس بصحابي، وإنما صحْبه الذين هُم على طريقته.

والصحيح خلاف ما قال؛ لِمَا سبق من ثبوت عدالة الصحابة المطلقة، وقد سبق بيان معناها.

(1)

مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادّة القوافل من الموصل إلى الشام. (معجم البلدان، (5/ 288).

ص: 578

تنبيهان

أحدهما: ذكر ابن الجوزي في كتاب "التلقيح" تقسيمًا للصحابة به يجتمع أكثر الأقوال السابقة، وتتضح مدارك قائليها، فجعلها مراتب:

الأولى: الصحبة المؤكدة المشتملة على المعاشرة وكثرة المخالطة بحيث لا يُعرف صاحبها إلا بها، فيقال: هذا صاحب فلان.

الثانية: مطلق الصحبة التي تَصْدق بمجالسةٍ أو مماشاة ولو ساعة وإنْ لم يشتهر بها صاحبها.

قال: وكلام سعيد بن المسيب محمول على إرادة القِسم الأول، وكلام غيره على القسم الثاني؛ فلذلك عدوا جريرًا وأشباهه ومَن لم يَغْزُ ومَن تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير السن.

قال: وأما مَن رآه رؤية ولم يجالسه ولم يماشه -أيْ: وهو المرتبة الثالثة- فألحقوه بالصحبة إلحاقًا وإنْ كان حقيقة الصحبة لم توجد في حقه. أيْ: فهي صحبة إلحاقية؛ لشرف قَدْر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاستواء الكل في انطباع طلعة المصطفى فيهم برؤيته إياهم أو برؤيتهم إياه مؤمنين وإنْ تفاوتت رُتَبهم

(1)

. انتهى

وهو كلام متين.

الثاني: زعم جمعٌ من الأصوليين -كالآمدي وابن الحاجب- أن الخلاف في ذلك لفظي.

وليس كذلك؛ فإنَّ مِن فائدته القول بعدالة الكل، وقد أشار إليه ابن الحاجب، ففي كلامه تعارُض بين أوله وآخِره، فإنه قال بعد ذِكر الخلاف في ضابط الصحبة: (وهي لفظية

(1)

تلقيح فهوم أهل الأثر (ص 72).

ص: 579

وإنِ انبنى عليها ما تَقدم)

(1)

. أيْ: في عدالة الصحابة.

فيقال له: إذا كان مبنيًّا عليها ذلك، فكيف تكون لفظية؟ !

ومن فوائده أيضًا: لو أرسل حديثًا، فإنَّ مُرْسَل الصحابي حُجة، بخلاف مرسَل غيره على ما سيأتي من الخلاف.

ومنها: أن قول الصحابي هل هو حُجة؟ وسيأتي الخلاف فيه، [فيتوقف]

(2)

على معرفة مَن هو الصحابي؟

ومنها: مَن شَرَط أن الإجماع من الصحابة معتبَر دُون [غيره]

(3)

، وكذلك مَن لا يَعتبِر خِلاف غيرهم معهم، وغير ذلك مما لا ينحصر.

قولي: (مُؤْمِنًا) حال مِن فاعل (اجْتَمَعْ). وقولي: (بِذَا ارْتَفَعْ) أيْ: عظم قَدْرُه وارتفع شأنه بهذا الوصف، والله أعلم.

ص:

296 -

وَمُدَّعِي الصُّحْبَةِ وَهْوَ عَدْلُ

مُعَاصِرٌ نَقْبَلُهُ؛ فَالْكُلُّ

297 -

بِالنَّصِّ تَعْدِيلُهُمُ، وَعَمَّمَا

لَهُ ابْنُ عَبْدِالْبَرِّ بَاقِي الْعُلَمَا

298 -

كَمَا ابْنُ مَوَّاقٍ رَأَى، وَاسْتَنَدَا

لِخَبَرٍ أُرْسِلَ، ضَعْفُهُ بَدَا

الشرح: هذا هو المقام الثاني، وهو طريق معرفة الصحابي، وله طرق ظاهرة وطريق خفي، فاقتصرتُ على الخفي؛ لأن الظاهر معلوم من باب أَوْلى.

(1)

مختصر المنتهى مع الشرح (1/ 713).

(2)

كذا في (ز)، لكن في (ص): تتوقف.

(3)

كذا في (ز، ش). لكن في سائر النُّسخ: غيرهم.

ص: 580

فمن الطرق الظاهرة: التواتر والاستفاضة بكونه صحابيًّا أو بكونه من المهاجرين أو من الأنصار، وقول صحابي ثابت الصحبة:(إنَّ هذا صحابي)، أو ذِكر ما يَلزم منه أن يكون صحابيًّا، نحو:(كنت أنا وفلان عند النبي صلى الله عليه وسلم)، أو:(دخلنا عليه)، ونحو ذلك، لكن بشرط أن يُعرف إسلامه في تلك الحالة واستمرار ذلك كما عَلِمتَه مما سبق.

وأما الخفِي: فهو إذا ادَّعَى العَدْل المعاصِر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه صحابي. قال القاضي: يُقبل؛ لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب. أي: مثل ما روى البخاري في "المغازي" عن الزهري، عن سنين أبي جميلة، قال: زعم أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وخرج معه عام الفتح

(1)

.

وحكى هذا المذهب أيضا أبو بكر الصيرفي في كتاب "الدلائل والأعلام" حيث قال: لا يُقبل حتى تُعلم عدالته، فإذا عُرفت، قُبِل منه.

وجَرَى على ذلك ابن الصلاح والنووي.

ومنهم مَن توقف في الثبوت بذلك؛ لأنه يثبت رُتبةً لنفسه، وهو ظاهر كلام ابن القطان المحدث، وبه قال أبو عبد الله الصيمري من الحنفية، وأنه لا يجوز أن يقال:(إنه صحابي) إلا عن عِلم ضروري أو كسبي، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني أيضًا.

ويخرج من كلام بعضهم مذهب ثالث بالتفصيل بين:

- مُدَّعِي الصُّحْبَة اليسيرة، فيُقْبَل، لأنه قد يتعذر إثبات صحبته بالنقل، إذْ ربما لا يحضره حين اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم أحد أو حال رؤيته إياه.

- ومُدَّعِي طول الصحبة وكثرة التردد في السفر والحضر، لا يُقبل ذلك منه؛ لأن مثل ذلك يشتهر وينقل.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 4050).

ص: 581

قيل: والمنع مطلقًا قوي؛ لأن الشخص إذا قال: (أنا عدل)، لا تُقبل دعواه، فكيف مُدَّعي الصحبة التي هي فوق العدالة؟

قلتُ: الفَرق ظاهر؛ لأن ذلك يثبتُ أصل العدالة من غير دليل، وهذا عدل مقبول القول يُنشئُ رُتبة، فيُقبل منه؛ لوجود عدالته.

ولم يقف ابن الحاجب على نقل في المسألة، فقال:(لو قال المعاصر العدل: "أنا صحابي"، احتمل الخلاف)

(1)

.

فرع:

إذا أخبر عنه عدل من التابعين أو تابعيهم أنه صحابي، قال بعض شراح "اللمع": لا أعرف فيه نقلًا. قال: والذي يقتضيه القياس أنْ لا يُقبل؛ لأن ذلك مُرْسَل؛ لكونها قضية لم يحضرها.

قيل: والظاهر خلاف ذلك؛ لأنه لا يقول مثل ذلك إلا عن عِلم اضطراري أو اكتسابي.

وقد قال ابن السمعاني: إن الصحبة تُعْلَم بالطريق القطعي كالتواتر أو ظني وهو خبر الثقة.

قلتُ: مراده بِـ "خبر الثقة" حيث لم يتضمن كَوْنه مرسلًا، والاستناد إلى أنه لم يَقُل ذلك إلا عن عِلم- ضعيفٌ، وإلا لزم الاحتجاج بالمرسل مطلقًا، والتفريع على أنه ليس بحجة ما لم يعتضد كما سيأتي.

تنبيه:

إذا قال العَدْلُ: (أنا تابعي؛ لأني أدركتُ الصحابي رؤيةً أو اجتماعًا)، الظاهر أنه مِثله،

(1)

مختصر المنتهى مع الشرح (1/ 715).

ص: 582

وأما بماذا يثبت كون التابعي؟ كذلك فسيأتي في الكلام على المرسَل.

وقولي: (فَالْكُلُّ بِالنَّصِّ تَعْدِيلُهُمُ) هذا وإنْ عُلِم من قولي فيما سبق: (طَرِيقُ الْعِلْمِ بِالْعَدَالَهْ سَمْعٌ) إلا أني أَعَدْتُه؛ للإيماء إلى أن مَن قال: إنَّ حَمَلَة العِلم مِثل الصحابة في ثبوت عدالتهم مِن غير طَلَب تزكيتهم؛ للنص فيهم كالصحابة. وهو ابن عبد البر، قال: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدًا على العدالة حتى يتبين جرْحُه.

واستدل لذلك بحديث رواه من طريق أبي جعفر العقيلي من رواية مُعان بن رفاعة السلامي، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العِلم مِن كل خلف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"

(1)

. أورده

(1)

الضعفاء الكبير (4/ 256). قال الحافظ ابن حجر في كتابه "لسان الميزان، 1/ 77": (قال مهنا: قلت لأحمد: حديث معان بن رفاعة كأنه كلام موضوع. قال: لا، بل هو صحيح). انتهى

وذكره الخطيب البغدادي في كتابه "شرف أصحاب الحديث، ص 30" عن مُهَنَّى بن يَحْيىَ، قَالَ: (سَأَلْتُ أَحْمَدَ -يَعْنِي ابْنَ حَنْبَلٍ- عَنْ حَدِيثِ معَانِ بن رِفَاعَة .. قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الجْاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الُمبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْغَالِينَ".

فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ: كَأَنَّهُ كَلامٌ مَوْضُوعٌ. قَالَ: لا، هُوَ صَحِيحٌ. فَقُلْتُ لَه: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ). انتهى، تحقيق: د. محمد سعيد خطي، نشر: دار إحياء السنة- أنقرة.

وقال الشيخ الألباني في تحقيقه لكتاب (مشكاة المصابيح، ص 83): (الحديث قد رُوي موصولًا من طريق جماعة من الصحابة، وصحح بعض طُرُقه الحافظ العلائي في "بغية الملتمس". .، وقد جمعتُ طائفة من طُرق الحديث، والنية متوجهة لتحقيق القول فيها لأول فرصة تسمح لنا إن شاء الله تعالى).

قلتُ: وكنتُ قد تَوَهَّمتُ -منذ سنوات- أن الشيخ الألباني صححه، ولكن الصواب ما نقلتُه عنه هنا، وأنَّ الألباني إنما نقل تصحيح الإمام أحمد والحافظ العلائي.

وقد ذكر الحافظ العلائي هذا الحديث بإسنادٍ آخَر في كتابه "بغية الملتمس، ص 34"، ثم قال: =

ص: 583

العقيلي في كتاب "الضعفاء" في ترجمة معان بن رفاعة، وقال:(لا يُعرف إلا به). ورواه ابن أبي حاتم في مقدمة كتاب "الجرح والتعديل"، وابن عدي في مقدمة "الكامل"، وهو مرسَل معضل ضعيف.

وإبراهيم الذي أرسله قال فيه ابن القطان: (لا نعرفه البتة في شيء من العِلم غير هذا).

وقال الخلال في كتاب "العلل": سُئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، فقيل له: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقيل له: ممن سمعتَه؟ قال: من غيْر واحد. قيل له: مَن هُم؟ قال حدثني به مسكين إلا أنه يقول: عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن، ومعان لا بأس به. ووثَّقه ابن المديني أيضًا.

قال ابن القطان: وخَفِي على أحمد مِن أمره ما عَلِمَه غيره.

ثم ذكر تضعيفه عن ابن معين وابن أبي حاتم والسعدي، وابن عدي وابن حبان.

وقد وَرَدَ هذا الحديث -كما قاله شيخنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن العراقي- مرفوعًا مسندًا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وابن عمر وأبي أُمامة وجابر بن سمرة رضي الله عنه بِطُرُق كلها ضعيفة.

قال ابن عدي: ورواه الثقات عن الوليد بن مسلم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: أخبرنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. فَذَكَرَه.

وممن وافق ابن عبد البر على قوله هذا من المتأخرين أبو بكر بن المَوَّاق (بفتح الميم وتشديد الواو وآخِره قاف)، فقال في كتابه "بغية النقاد": أهل العلم محمولون على العدالة حتى يظهر فيهم خلاف ذلك.

= (هذا حديث حسن غريب صحيح).

ص: 584

واعْلَم أن ابن الصلاح قال في قول ابن عبد البر ذلك: (إن ما قاله فيه اتساع غير مرضِي)

(1)

.

واستدلاله بذلك لا يصح من وجهين:

أحدهما: الإرسال والضعف.

والثاني: عدم صحة كَوْنه خبرًا؛ لأن كثيرًا ممن يحمل العِلم غير عدلٍ، فَلَم يَبْقَ إلا حَمْله على الأمر، ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم؛ لأن العلم إنما يُقْبَل عن الثقات، ويدل له أن في بعض طرق ابن أبي حاتم:"لِيَحْمِل هذا العِلم" بلام الأمر، والله أعلم.

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 106).

ص: 585

ص:

299 وَيَثْبُتُ التَّعْدِيلُ بِاشْتِهَارِ. . . كَفِي أَئِمَّةِ الْهُدَى الْأَخْيَارِ

الشرح:

هذا هو الطريق الثاني مما تثبت به العدالة، وهو أن يكون الشخص ممن اشتهر بالإمامة في العلم وشاعَ الثناءُ عليه بالثقة والأمانة، فلا يحتاج مع ذلك إلى تزكية خاصة، بل كوْنه كذلك غاية في تزكيته وثبوت عدالته.

قال ابن الصلاح: (هذا هو الصحيح في مذهب الشافعي، وعليه الاعتماد في أصول الفقه، وممن ذكره من أهل الحديث الخطيب، ومثَّل ذلك بمالك وشعبة والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك ووكيع وأحمد وابن معين وابن المديني، ومَن جرَى مجراهم في نَباهَة الذِّكر واستقامة الأمر، ولا يُسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم، إنما يُسأل عمن خَفي أمرُه عن الطالبين)

(1)

. انتهى

وقد سُئل ابن معين عن أبي عبيد، فقال: مِثلي يُسأل عن أبي عبيد؟ ! أبو عبيد يُسأل عن الناس.

وسُئل أحمد عن إسحاق بن رَاهَوَيْه، فقال: مِثل إسحاق يُسأل عنه؟ ! وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: الشاهد والمخبِر إنما يحتاجان إلى التزكية متي لم يكونَا مشهورين بالعدالة والرضا وكان أمرهما مُشكلًا ملتبسًا ويجوز فيه العدالة وغيرها.

قال: (والدليل على ذلك أنَّ العِلمَ يُظهر رشدهما، واشتهار عدالتهما بذلك أقوي في

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 105).

ص: 586

النفوس مِن تعديل واحد أو اثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة) إلى آخِر كلامه في ذلك.

ويدخل في قولي: (أَئِمَّةِ الْهُدَى الْأَخْيَارِ) مَن ذُكر ومَن لم يذكره هؤلاء، كأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما، وكذلك داود بن علي الظاهري وغيره من الأئمة، وكذا أصحاب الأئمة الأكابر المشهورون. والله أعلم.

ص:

300 كَذَاكَ بِالتَزكِيَةِ الْمُعْتَبرَهْ. . . وَلَوْ بِوَاحِدٍ، كجَرْحٍ ذَكَرَهْ

301 وَعَدَدٌ يُشْرَطُ في الشَّهَادَهْ. . . جَرْحًا وَتَعْدِيلًا لِمَنْ أَرَادَهْ

الشرح:

هذا هو الطريق الثالث في معرفة العدالة -وهو التزكية- سواء في الراوي والشاهد، والتقييد بِـ "المعتبرة" يَشملُ أمورًا:

منها: ما يُعتَبر في لفظ التزكية بأن يقول: هو عدل. وهذا كافٍ في الأصح؛ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} [الطلاق: 2]. فمَن شَهَد أو أخبر بمطلق العدالة، وافق إطلاق الآية. وحكاه القاضي أبو الطيب عن نَص الشافعي في "حرملة"

(1)

.

وقيل: لا بُدَّ أن يقول في الشاهد: عدل عليَّ ولي. وحكاه الروياني عن نص "الأُم" و"المختصر".

قال ابن الصباغ: وبه أخذ أكثر الأصحاب. وزاد بعضهم أن يقول: عدل رِضًى لي وعلَيّ.

(1)

أي: الكتاب الذي نقله عنه حرملة.

ص: 587

ومحل بسط ذلك كُتب الفقه.

قال القرطبي: عندنا لا بُد أن يقول: عدل رضًى. ولا يكفي الاقتصار على أحدهما، ولا يلزمه زيادة عليهما.

هذا في الشهادة، أما الرواية فلهُم ألفاظ غير ذلك تَوَسُّعًا، وجعلوها مراتب:

أعلاها: أن يجمع بين لفظين متحدي المعني؛ تأكيدًا، كأن يقول:"ثبتٌ حُجةٌ" أو "ثبتٌ حافظٌ" أو "ثقةٌ متقنٌ" أو نحو ذلك، أو يكرر فيقول:"ثقةٌ ثقةٌ" أو "ثبتٌ ثبتٌ". قاله الذهبي في مقدمة "الميزان".

الثانية: وهي ما بدأ بها ابن أبي حاتم وابن الصلاح، أنْ يقول: ثقةٌ، أو: متقنٌ، أو: ثبتٌ، أو: حجةٌ، أو: حافظٌ، أو: ضابطٌ. قال الخطيب: (أرفع العبارات أن يقول: حجةٌ، أو: ثقةٌ).

الثالثة: أن يقول: "لا بأس به" أو "صدوق" أو "خيار".

الرابعة: أن يقول: "محلُّه الصدق" أو "رَووا عنه" أو "شيخ" أو "وسط" أو "صالح الحديث" أو "مُقارب" بفتح الراء وكسرها كما حكاه صاحب "الأحوذي".

على أن ابن أبي حاتم وابن الصلاح جعلَا "محله الصدق" من الرتبة التي قبل هذه، لكن صاحب "الميزان" جعلها من الرابعة.

ودُون ذلك أنْ يقول: صويلح، أو: صدوق إن شاء الله تعالى. ومحل البسط في ذلك كتب علوم الحديث.

ومنها: ما يعتبر في المزكِّي من كوْنه عدلًا عارفًا بأسباب التعديل والجرح، مطَّلعًا على أحوال من يزكيه بطُول صحبته معه واختباره في سِره وعلانيته سفرًا وحضرًا؛ فلذلك صعبت التزكية جدَّا.

نعم، اختُلف في ذلك في مسائل:

ص: 588

الأُولى: هل يُشترط في المزكِّي عدد؟ أو يجوز أن يكون واحدًا؟

وكذا في الجرح: هل يشترط العدد؟ أو لا؟ سواء ذلك في شهادة أو رواية.

وأصح المذاهب الاكتفاء بواحد في الرواية تعديلًا وجرحًا، وهو معني قولي:(وَلَوْ بِوَاحِدٍ، كَجَرْحٍ ذَكَرَهْ) أي: ذكره الجارح.

وأما الشاهد فيُشترط في مُعَدِّله أو جارحِه عَدْلان؛ جَرْيًا في كل منهما على أصله، وكما أن العدد شرط في الشهادة، اعتُبر في تعديلها وجرحها العدد، والرواية لا يُشترَط فيها ذلك، فلا يشترط في تعديلها وجَرْحها ذلك؛ لأن الفرع لا يزيد على الأصل. ونقل هذا الآمدي وابن الحاجب والهندي عن الأكثرين.

قال ابن الصلاح: (وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره)

(1)

.

وهذا معنى قولي: (وَعَدَدٌ يُشْرَطُ في الشَّهَادَهْ) أي: في ذي الشهادة، وهو الشاهد.

القول الثاني: أن العدد في التزكية والجرح شرط مطلقًا في الرواية والشهادة، وهو ما حكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم، وقال الأبياري: إنه قياس مذهب مالك.

الثالث: الاكتفاء بالواحد مطلقًا في الشاهد والراوي جرحًا وتعديلًا. واختاره القاضي أبو بكر، وقال: إن الذي يوجبه القياس تزكية كل عَدْل مَرْضِي ذكر أو أنثي، حر أو عبد، شاهد ومخبِر.

قال الماوردي والروياني: (إن حاصل الخلاف في ذلك أنَّ تعديل الراوي هل يجري مجرَى الخبر؟ أو مجرى الشهادة؛ لأنه حُكم على غائب؟ )

(2)

.

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 108).

(2)

الحاوي الكبير (16/ 94).

ص: 589

نعم، جعلا الخلاف السابق في التعديل فيهما فقط، وجزَمَا في الجرح بالتعدد؛ لأنها شهادة على باطن مغيَّب.

لكن القاضي أبو [الطيب]

(1)

أَجرَى الخلاف في الأمرين -التعديل والجرح- كما ذكرناه أولًا.

فرع:

إذا اكتفينا بالواحد، فقد أَطلق في "المحصول" قبول تزكية المرأة.

وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنًّ النساء لا يُقبَلن في التعديل، لا في شهادة ولا في رواية، ثم اختار قبول قولها فيهما كما تُقبَل روايتها وشهادتها في بعض المواضع.

وهذا جارٍ على اختياره في قبول الواحد في تزكية الشاهد كالراوي؛ بِنَاءً على أن ذلك مَحْض رواية.

وغيره يقول: شهادة -كما سبق عن المارودي والروياني أن ذلك منشأ الخلاف.

وأما تزكية العبد فقال القاضي: يجب قبولها في الخبر دون الشهادة؛ لأنَّ خبره مقبول وشهادته مردودة. وبه جزَم صاحب "المحصول" وغيره.

قال الخطيب: (والأصل في هذا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بريرة في قصة الإفك عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وجوابها له)

(2)

.

قلت: هذا إن كان ذلك قبل أنْ تُعتق، فالإفك في الرابعة أو الخامسة، ويبقى النظر في تاريخ شراء عائشة وعتقها إياها.

(1)

كذا في (ز، ت، ش)، لكن في (ص): بكر.

(2)

الكفاية في علم الرواية (ص 97).

ص: 590

تنبيه:

يُعتبر في الجرح ما سبق اعتباره في التعديل من اللفظ الدال وأهلية الجارح، ولكن لا يشترط هنا صحبته ولا اختباره؛ لأن سبب الجرح يجب بيانه ويكتفَى فيه بسبب واحد كما سيأتي.

فمن ألفاظ التجريح عند المحدثين سوى التصريح بفِسقه ونحوه مراتب أيضًا:

الأُولى: أن يقول: "كذاب"، أو:"يكذب"، أو:"وضَّاع"، أو:"يضع الحديث"، أو:"دجَّال"، أو:"متروك الحديث"، أو:"ذاهب الحديث"، أو:"ساقط لا يُكتَب حديثه". وإنما كان ذلك خارجًا عما استثنيته من التصريح بالفسق؛ لعدم استلزامه للفسق؛ لجواز أن يقع منه ذلك من غير قصد، أو نحو ذلك.

الثانية: أن يقول: "متهم بالكذب"، أو:"بالوضع"، أو:"ساقط"، أو:"هالك".

وفي رَأْيٍ أنَّ هذا مِن القِسم الذي قَبْله،

الثالثة: "رُدَّ حديثه"، أو "ردوا حديثه"، أو "مردود الحديث"، أو "ارْم به"، أو"ليس بشيء"، أو "لا شيء"، أو "لا يسوي شيئًا".

الرابعة: "ضعيف" أو"منكر الحديث" أو "حديثه منكر" أو "مضطرب" أو "واهٍ" أو "ضَعَّفوه" أو "لا يُحتج به".

الخامسة: "فيه مقال"، أو "ضُعِّف"، أو "في حديثه ضعف"، أو"يعرف ويُنكِر"، أو "ليس بذاك"، أو "ليس بالقوي"، أو "ليس بالمتين"، أو "ليس عمدةً"، أو"ليس بالمرضِي"، أو "طعنوا فيه"، أو "مطعون"، أو "سَيِّئ الحفظ"، أو "ليِّن"، أو "لين الحديث".

وهذه الأمور كلها محل بسطها كُتب علم الحديث، وفي هذه الإشارة كفاية.

وسيأتي في أمورٍ أخرى خِلاف: هل هي مِن الجرح؟ أو هل هي من التعديل؟ ذكرت

ص: 591

لمناسبة محلها [التي]

(1)

تُذكَر فيه كما ستعرفه إن شاء الله تعالى. والله أعلم.

ص:

302 -

فَإنَّهَا الْإخْبَارُ عَنْ خُصُوصِ

أَيْ بِتَرَافُعٍ مَعَ الْمَخْصُوصِ

303 -

وَعَنْ عُمُومٍ مُطْلَقًا هُوَ الْخَبَرْ

[أَوْمَا]

(2)

إلى ذَا الشَّافِعِيْ في الْمُخْتَصَرْ

304 -

لِأَجْلِ ذَاكَ خُصَّتِ الشَّهَادَهْ

بِشَرْطِهَا الْمَشْهُورِ بِالزِّيَادَهْ

الشرح:

لَمَّا وقع التفصيل في التزكية والتجريح بين الشهادة والرواية في الاكتفاء بواحدٍ، احتيج للفرق بين حقيقتهما، وهو من المهمات في هذا العلم وغيره، وقد خاض كثير غُمرة ذلك، ولكن غاية ما يفرقون به بينهما اختلافهما في الأحكام، كاشتراط العدد والحرية والذكورة ونحو ذلك مما يُعتبر في الشهادة، ولا يخفَى أنَّ هذه أحكام مترتبة على معرفة الحقيقة، فلو عُرِّفَت الحقيقة بها، لَزم الدَّوْر.

قال القرافي: (أقمتُ مُدة أتطَلب الفَرق بينهما حتى ظفرت به في "شرح البرهان" للمازرى. فذكر ما حاصله أنَّ الخبرَ إنْ كان عن عامٍّ لا يختصُّ بمعيَّن ولا تَرافُع فيه ممكن عند الحكام فهو الرواية، وإن كان خاصًّا وفيه ترافُع ممكن فهو الشهادة. وعُلِمَ مِن هذا الفرق المعنى فيما اختصت به الشهادة من العدد والحرية والذكورة ونحوها. واحترز بإمكان الترافع عن الرواية عن خاصٍّ مُعيَّنٍ؛ فإنه لا ترافُع فيه ممكن)

(3)

. انتهى ملخَّصًا.

(1)

في (ز): الذي.

(2)

في (ن 3، ن 4): اوفى.

(3)

الفروق مع هوامشه (1/ 14)، ط: دار الكتب العلمية.

ص: 592

قلتُ: هذا الفرق بِعَينه في كلام الشافعي رضي الله عنه، وبيَّن المراد من العموم والخصوص هنا، فقال فيما نقله عنه المزني في "المختصر" في باب "شهادة النساء لا رجُل معهن والرد على مَن أجاز شهادة امرأة من [أهل]

(1)

الكتاب" في مسألة الخلاف بينه وبين أبي حنيفة وأصحابه -حيث قبلوا شهادة امرأة على ولادة الزوجة دون المطلقة- ما نصه:

(وقلتُ لِمَن يُجيز شهادة امرأة في الولادة كما يُجيز الخبر بها لا مِن قِبل الشهادة: وأين الخبر من الشهادة؟ أتَقْبل امرأةً عن امرأةٍ أنَّ امرأة رُجلٍ وَلَدَتْ هذا الولد؟ قال: لا.

قلتُ: وتَقبل في الخبر: أخبرنا فلان عن فلان؟ قال: نعم.

قلتُ: والخبر هو ما استوى فيه المخبِرُ والمخبَرُ والعامة من حرامٍ أو حلالٍ؟ قال: نعم.

قلتُ: والشهادة ما كان الشاهدُ منه خَلِيًّا والعامَّةُ، وإنما يلْزمُ المشهود عليه؟ قال: نعم.

قلتُ: أفَتَرَى هذا مُشْبِهًا لهذا؟ قال: أمَّا في هذا فلا)

(2)

. انتهى

وقوله: (الخبر بها لا من قِبل الشهادة) هو المصطلح على تسميته "رواية" وإنْ كانت الشهادة أيضًا خبرًا باعتبار مقابلة الإنشاء، فللخبر [إطلاقان]

(3)

، والمتقدمون يُعبِّرون عن "الرواية" بِـ "الخبر" كما قدمناه في بعض عبارة القاضي أبي بكر والماوردي والروياني وغيرهم.

وبيَّن الشافعي رحمه الله السبب فيما تُفارقُ فيه الشهادة الرواية مِن الأحكام وتَرتُّبه على ما افترقت به حقيقتاهما من المعنى، وذَكَرَ بعض الأحكام قياسًا على البعض ردًّا على خصمه

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والعبارة في (مختصر المزني، ص 304) هكذا: (بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَجَازَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. .).

(2)

مختصر المزني (ص 304). دار النشر: دار المعرفة -بيروت- 1393 هـ، الطبعة: الثانية.

(3)

كذا في (ز، ق، ش)، وفي سائر النسخ: إطلاقات.

ص: 593

الذي قد سلَّم المعنى وفرق في الأحكام بما لا يناسب.

فإن قلتَ: فأين اعتبار إمكان الترافُع في الشهادة دون الرواية في كلام الشافعي؟

قلتُ: من قوله: "وإنما يلزم المشهود عليه"؛ فإن اللزوم يستدعي مخاصمةً وترافُعًا.

فإنْ قيل: ليس فيما نقلتَ عن الشافعي ولا فيما نقله القرافي عن المازري ذكر ما يُعتبر في الشهادة مِن لفظ "أشهد" وكوْنه عند الحاكم أو المحكَّم أو سيِّد العبد والأَمة حيث سمع عليهما البيِّنة لإقامة الحدود إنْ جوَّزنا له ذلك، ولا ما أَشْبَه ذلك مما يختص بالشهادة.

قلتُ: إنما لم تُذكر؛ لِكونها أحكامًا وشروطًا خارجة عن الحقيقة، وعلى كل حالٍ فقد عُلِمَ مما سبق وجْه المناسبة فيما اختصت به الشهادة عن روايات الأخبار.

قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: (لأنَّ الغالب من المسلمين مَهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف شهادة الزور؛ فاحتيج إلى الاستظهار في الشهادات. وأيضًا فقد ينفرد الحديث النبوي بشاهد واحد في المحاكمات وبهذا يظهر فيما سبق في تزكية الواحد في الرواية أنه لكونه أحوط. وأيضًا بيْن كثير من المسلمين إحَنٌ وعَداوات قد تحمل على شهادة الزور من بعضٍ، بخلاف الأخبار النبوية). انتهى ملخصًا.

وفَصَّل غيره المعنى فيما اعتُبِر في الشهادة:

أمَّا العَدد: فإنها لَمَّا تَعلقت بمُعَين، تَطرَّقت إليها التهمة باحتمال العداوة؛ فاحتيط بإبعاد التهمة بالعدد، بخلاف الرواية. وسيأتي آخِر الفصل الإشارة إلى خلاف ضعيف في اشتراطه في الرواية أيضًا.

وأما الذكورة حيث اشتُرِطت: فلأن إلزام المعيَّن فيه نوع سلطنة وقَهْر، والنفوس تأباه ولاسيما من النساء؛ لنقص عقولهن ودِينهن، بخلاف الرواية؛ لأنها عامة تتأسى فيها النفوس، فَيَخِفُّ الألم، وأيضًا فلنقص النساء يكثُر غلطُهن، ولا ينكشف ذلك غالبًا في

ص: 594

الشهادة؛ لانقضائها بانقضاء زمانها، بخلاف الرواية؛ فإنَّ بتعلقها بالعموم يقع الكشف عنها؛ فيتبَيَّن ما عساه وقع من البراءة مِن غلطٍ ونحوه.

وأما الحرية: فلأنَّ قهرَ العبيد صعبٌ على النفوس، وأيضًا فَقدْ يحمل الرق على الحقد في المعيَّن؛ لفوات الحرية، فيدخل بذلك من التُّهمة ما لا يَدخل في المتعلق بالعموم.

فلذلك أُكِّدَتْ بهذه الشروط وغيرها من انتفاء العداوة وفرط المحبة، كشهادة الأصل للفرع وعكسه، والشهادة بما يجر النفع أو يَدفع الضرر، وكذا التهمة في المبادرة، بخلاف الرواية. وهو معنى قولي:(لِأَجْلِ ذَاكَ) إلى آخِره، فالشرط المشهور هو ما ذكرناه ونحوه، فإنه زائد على شروط الرواية التي شاركت فيها الشهادة، وقد اتضح بحمد الله، والله أعلم.

ص:

305 وَقَدْ يُشَابُ الشَّيْءُ في الْأَحْكَامِ. . . مَعْنَاهُمَا، كَرُؤْيَةِ الصِّيَامِ

الشرح:

هذا تنبيه على أنَّ ما سبق إنما هو في الرواية المحضة (كالأحاديث النبوية) والشهادة المحضة (كالشهادة ببيع عين أو إجارة أو نكاح أو طلاق). وقد يكون الشيء فيه شائبتَا الرواية والشهادة، فتوزع الأحكام باعتبارهما بحسب المناسبة.

فمنه الخبر برؤية الهلال لرمضان، فإنه -من جهة عُمومه لأهل المصر أو الآفاق أو لغير البلد البعيد بمسافة القصر أو لمخالف المطلع على الخلاف في ذلك -رواية، ومن جهة اختصاصه بهذا العام وهذا القرن من الناس- شهادة.

فروعيت شائبة الشهادة باعتبار الحرية والذكورة -كما نَصَّ عليه الشافعي فيهما- ولفظ الشهادة على الأرجَح مِن الخلاف في الطُّرق، وكذا اعتبار كونه عند القاضي فيه خلاف.

ص: 595

نعم، قَطع بالمنع ابن عبدان والغزالي والبغوي، ومن شهد فيه على شهادته يعتبر العدد على الأرجح.

وروعيت شائبة الرواية بالاكتفاء بواحدٍ على أصح قَوْلَي الشافعي المنصوص في أكثر كُتبه كما قاله الرافعي وغيره، وقطع به طائفة. والثاني: لا يُقبَل إلَاّ عدلان؛ تغليبًا للشهادة. وقال الربيع: إنَّ الشافعي رجع إليه. قيل: وينبغي أن يكون الفتوى.

ولكن في "الأم" في كتاب "الصيام [الصغير]

(1)

"أنَّ الاكتفاء بالواحد إنما هو للاحتياط في الصوم وإنْ كان هو في ذاته لا يقبل فيه إلا عدلان؛ فلا منافاة بين النصين حينئذ.

ولفظه: قال الشافعي: (فإنْ لم تر العامة هلال رمضان ورآه رجل عَدْل، أَقْبله؛ للأثر والاحتياط، أخبرنا الدراوردي عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن [أبيه]

(2)

، عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام: أنَّ رجُلًا شهد عند علي رضي الله عنه على رؤية هلال رمضان؛ فصام. وأحسبه قال: وأَمَر الناس بصيامه. وقال: أصوم يومًا من شعبان أَحبُّ إلَيَّ مِن أنْ أفطر يومًا من رمضان).

ثم قال الشافعي بعد ذلك: (ولا يجوز على رمضان إلا شاهدان)

(3)

. انتهى

وللعمل في صوم رمضان دليل مِن: حديث ابن عباس فيما رواه الأربعة وغيرهم

(4)

، وحديث ابن عمر فيما رواه أبو داود وصححه الحاكم

(5)

، وغيره مما هو مشهور في الفقه.

(1)

كذا في (ز، ق، ظ، ت). لكن في (ص، ش، ض): التعبير.

(2)

كذا في جميع النُّسَخ.

(3)

الأم (2/ 103).

(4)

صحيح مسلم (رقم: 1087).

(5)

سنن أبي داود (رقم: 2320) وغيره، ولفظ أبي داود: (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله =

ص: 596

ومما يدل على أنَّ ذلك احتياط في الصوم أنه لا يجري في حلول أَجَل ولا معلق طلاق أو عتق أو نحو ذلك قطعًا إلَّا أن يتأخر التعليق عن ثبوته ويعلق به، فإنه ينصرف عُرفًا إلى الثبوت الذي به الصيام، وهذا [مقتضى]

(1)

ما أشرتُ إليه في الجمع بين النصين مِن كوْن العَدْل الواحد للصوم احتياطًا والعَدْلَين في سائر الأحكام.

نعم، يُعكِّر على هذا الجمع نصوص الشافعي المصرحة بأنه لا يُصام إلا بشهادة عدلين، منها ما قاله في موضع من "الأم"، ولفظه:(ولا يلزم الناس أنْ يصوموا إلا بشهادة عدلين فأكثر، وكذلك لا يُفطرون، وأَحَبُّ إليَّ لو صاموا بشهادة العدل؛ لأنه لا مؤنة عليهم في الصيام. إنْ كان مِن رمضان، أدوه. وإنْ لم يكن، رجوتُ أنْ يُؤجَروا به)

(2)

. انتهى.

وهو صريح في أن الصوم بعدل مستحب احتياطًا، لا وجوب فيه، وأن الوجوب بعدلين.

وإنما قلنا في قبول الواحد للصوم (على القول به): إنه شهادة كالرواية في الواحد فقط؛ لِمَا في حديث: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإنْ غم عليكم فاقدروا له"

(3)

. زيادة

= صلى الله عليه وسلم: "الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى ترَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ". قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا كَانَ شَعْبَانُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، نَظَرَ لَهُ، فَإِنْ رُئِيَ فَذَاكَ، وإِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرَةٌ، أَصْبَحَ مُفْطِرًا. فَإِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ، أَصْبَحَ صَائِمًا. قَالَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفْطِرُ مَعَ النَّاسِ، وَلَا يَأْخُذُ بِهَذَا الحسَابِ).

قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 2320).

(1)

في (ص): يقتضى.

(2)

الأم (7/ 50 - 51).

(3)

صحيح البخاري (رقم: 1810)، صحيح مسلم (رقم: 1080).

ص: 597

النسائي فيه على البخاري: "وإنْ شهد شاهدان فصوموا وأفطروا"

(1)

. فسماها "شهادة". فلما جاء حديث الواحد، لم يُزِل عنها حقيقة الشهادة بل وصف العدد.

ومنه على ما قاله القرافي: القائف المخبِر بإلحاق النسب؛ فإنه -من حيث خصوص إثبات بنوة زيد لعمرو- شهادة، فينبغي اعتبار العدد فيه، ومن حيث انتصابه للعموم -رواية، فينبغي الاكتفاء فيه بواحد

(2)

. ثم ذكر ما يقوي الأول.

لكن الأصح عند الشافعية وابن القاسم من المالكية ترجيح قبول الواحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل خبر مجزز المدلجي وحْده، ولأنه شبيهٌ بالحكم؛ لأنَّ فيه اجتهادًا وفصلًا للخصومة، فأَشْبه الفتوى والقضاء.

قال الرافعي: (ويحكَى هذا التشبيه والحكم عن نَص الشافعي في "الأم"، حتى لو كان القاضي قائفًا، قضى بذلك؛ بناءً على الأصح في حُكمه بعلمه)

(3)

.

قلتُ: فيَضعُف بذلك [ترديد]

(4)

هذا الخبر بين الرواية والشهادة، بل هو غيرهما كما عرفته.

ومنه -على ما قاله القرافي أيضًا- المترجم للفتاوى والخطوط، قال مالك:(يكفي الواحد. وقيل: لا بُد من اثنين. ومنشأ الخلاف الشائبتان؛ لأنه نُصب نصبًا عامًّا وإخباره عن مُعيَّن مِن فتوى أو خط). انتهى ملخصًا.

والظاهر أنه رواية محضة، وأصله حديث أبي جمرة الضبعي: "كنت أترجم بين يدي ابن

(1)

سنن النسائي (رقم: 2116). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن النسائي: 2115).

(2)

الفروق مع الهوامش (1/ 18).

(3)

انظر: العزيز شرح الوجيز (13/ 297).

(4)

في (ز): تردد.

ص: 598

عباس وبين الناس" الحديث في "مسلم" وغيره

(1)

. فالمخبِر عن المفتي كراوي الأحاديث الحُكمية وغيرها. أما الشهادة على الخط -على مذهب مَن يراها- فشبيهة بالقائف، وفيه ما سبق.

ومنه المترجم للقاضي وعنه، وإسماع القاضي الأصم والتبليغ عنه. والأصح فيهما اعتبار العددِ ولفظِ الشهادة.

ومنه المزكي عند القاضي المنصوب لذلك، متردد بينهما، والأصح ترجيح الشهادة.

ومنه الخارص، والأصح فيه الاكتفاء بواحد.

ومنه القاسم من جهة الحاكم، والأصح فيه الاكتفاء بواحد، لكن لشَبهه بالحاكم ففيه ما سبق في القائف. هذا إنْ لم يكن فيها تقويم وإلا فلا بد من العدد، إلا أن يفوض إليه سماع بيِّنة القيمة.

ومنه الطبيب في مواضع:

- في كوْن المشَمَّس يورث البرص إنْ قلنا بكراهته بقول الأطباء.

- وفي كون الماء يضر حتى يعْدل إلى التيمم. والأصح فيهما قبول الواحد؛ لأن ذلك لحقِّ الله في العبادات، فلا يؤكد بالعدد.

- وفي كون المرض مخوفًا حتى تعتبر التبرعات فيه من الثلث.

- والإخبار عن المجنون أنه يَنفعه التزوج. ولكن الأصح في هذين اعتبار العدد؛ لأنَّ فيه حق آدمي.

ومنه الإخبار بأنه عيب في المبيع إذا اختلف المتبايعان فيه.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 87)، صحيح مسلم (رقم: 17).

ص: 599

ومنه بعث الحكمين عند الشقاق بين الزوجين. والأصح العدد، لظاهر الآية. قال الرافعي: ويُشبه أن يقال: إن جعلناه تحكيمًا فلا يشترط العدد، أو توكيلًا فكذلك إلا في الخلع، فيكون على الخلاف في تولي الواحد طَرَفي العقد.

وغير ذلك من الفروع، وبسطها وبيان المعنى في ترجيح إحدى الشائبتين فيها والمدارك - محله الفقه، والله أعلم.

ص:

306 وَلَيْسَ في التَّعْدِيلِ ذِكْرُ السَّبَبِ. . . شَرْطًا، خِلَافَ الْجَرْحِ [في]

(1)

التَّجَنُّبِ

307 لِكَثْرَةِ الْخِلَافِ في أَسْبَابِهِ. . . وَلِلْغِنَى بِوَاحِدٍ في بَابِه

الشرح:

اختُلف في كل من الجرح والتعديل -هل يُقبل مِن غير ذِكر سببه؟ أو لا؟ - على أقوال منشؤها أن المجرِّح والمعدِّل مخبِر فيصدق، أو حاكم ومُفْت فلا يقلد.

أحدها وهو الصحيح المنصوص للشافعي، قال القرطبي: وهو الأكثر من قول مالك. قال الخطيب: (وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم)

(2)

. وعليه اقتصرتُ في النَّظم: التفريق بين التعديل فيُقبل بلا تفسير، والجرح فلا يُقبل إلا مع ذِكر السبب؛ لأمرين ذكرتهما:

أحدهما: كثرة الاختلاف في أسباب الجرح، بخلاف التعديل.

(1)

في (ن): ذي.

(2)

الكفاية في علم الرواية (ص 108).

ص: 600

والثاني: أن أسباب العدالة كثيرة ولا بُد مِن ذِكر الكل؛ فيشق ذِكرُها بأن يقول المُعدِّل: (ليس يفعل كذا ولا كذا) إلى آخِر المجتنَبات، و:(يفعل كذا ويفعل كذا) إلى آخِر الطاعات المرتكَبات، بخلاف الجرح، فإنَّ ذِكرَ الواحد من أسبابه يُغْني في ثبوت الجرح.

قالوا: وربما استُفْسِر الجارح فذكر ما ليس بجرح، فروى الخطيب بسنده [لأبي]

(1)

جعفر المدائني قال: قيل لشعبة: لِمَ تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذون؛ فتركت حديثه.

إلى غير ذلك مما يُظن جرحًا وليس بجرح، وهو معنى ثالث لكن يمكن دخوله في الأول، فإنه اختلاف في السبب وإنْ كان القول بأحدهما وَهمًا أو نحو ذلك.

قلت: لكن ركض البرذون ربما يكون مفسقًا أو مخلًّا بالمروءة، فلا ينبغي أن يمثَّل به لذلك.

وفي أنواع الشهادات مواضع أخرى اختُلف في الإطلاق فيها هل يكتفَى به؟ أو لا بُد من السبب؟ وهي مختلفة ترجيحًا وجزمًا، ليس ذلك موضع بسطها، تَعَرَّض لكثير منها العلائي في "قواعده" وغيره.

القول الثاني: عكس الأول، وهو أنه يُقبل الجرح بلا تفسير، ولا يقبل التعديل إلا مفسَّرًا؛ لأن أسباب العدالة يَكثُر التصنع فيها، فيبني فيها المعدِّل على الظاهر. حكاه صاحب "المحصول" وغيره، ونقله إمام الحرمين في "البرهان" والغزالي في "المنخول" وإلْكِيَا في "التلويح" وابن بَرهان في "الأوسط" عن القاضي أبي بكر؛ لكن المعروف عنه ما سيأتي.

الثالث: يُعتبر في كلٍّ منهما ذِكر سببه؛ لأنَّه قد يجرح بما لا يقدح، وقد يبني المعدِّل على الظاهر والأمر بخلافه. حكاه الخطيب والأصوليون، وبه قال الماوردي أيضًا، قال: وقد

(1)

كذا في (ز) وهو الصواب كما في (الكفاية، ص 111). وفي سائر النُّسخ: لأبي محمد بن.

ص: 601

رُوي أن [ابن عمر]

(1)

زُكِّي عنده رجُل، فسأل المزكِّي عن أحواله، فذكر له ما لا يُكتفَى به.

الرابع: أنه يكفي الإطلاق في كل منهما؛ لأنَّ الجارح والمعدِّل إن لم يكونا بصيرين بالأسباب، لم يَصْلُحَا لذلك، فإن كانا بصيرين بها فلا معنى لذكرهما إياها.

وهذا ما نَص عليه القاضي أبو بكر في "التقريب"، وكذا نقله عنه الخطيب في "الكفاية" والغزالي في "المستصفى" والمازري في "شرح البرهان" والقرطبي في "الوصول" والإمام الرازي والآمدي وابن الحاجب، وابن القشيري ورَدَّ على الإمام ما نقله في"البرهان" عنه.

وأما قول إمام الحرمين والإمام الرازي: (يكفي الإطلاق من العالم بأسبابهما دُون غيره)

(2)

فلَم يخرج عن القاضي وهو الاكتفاء بالإطلاق فيهما؛ لأنَّ غير العارف لا يَصلح لتعديل ولا لتجريح.

قال القاضي تاج الدين السبكي: (والمختار عندي في الشهادة التفصيل بين الجرح والتعديل كما ذهب إليه الشافعي، وفي الرواية الاكتفاء بالإطلاق في الجرح والتعديل معًا إذا عُرف مذهب الجارح فيما يجرح به)

(3)

.

(1)

كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 352): (وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه زُكِّيَ عِنْدَهُ رَجُلٌ. .). وفي (الكفاية، ص 83) للخطيب البغدادي: (شَهِدَ رَجُلٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِشَهَادَةٍ، فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا يَضُرُّكَ أَلَاّ أَعْرِفَكَ، ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أنا أَعْرِفُهُ. قَالَ: فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: بِالْعَدَالَةِ وَالْفَضْلِ. قَالَ: فَهُوَ جَارُكَ الْأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَمُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِما يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَرَفِيقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَسْتَ تَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ).

(2)

البرهان في أصول الفقه (1/ 237)، المحصول (4/ 410).

(3)

رفع الحاجب (2/ 391).

ص: 602

قلت: وفيما اختاره نَظَر مِن وجوه:

أحدها: مخالفة إمامه الشافعي والجمهور.

والثاني: أن الجارح إذا عُرف مذهبه فيما يجرح به، نزل ذلك منزلة ذِكره.

الثالث: أن الذي يظهر في مستنده في اختيار ذلك ما قال ابن الصلاح: (إنَّ لقائلٍ أنْ يقول: إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورَدِّ حديثهم على الكُتب التي صنفها أهل الحديث في الجرح، وقَلَّ ما يتعرضون فيها للسبب، بل يقتصرون فيها على مجرد قولهم: "فلان ضعيف" و"فلان ليس بشيء" ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب في جرح الرواة يفضي إلى تعطيل ذلك وسَدِّ باب الجرح في الأغلب الأكثر)

(1)

.

قال: (وجوابه أنَّ ذلك وإنْ لم يعتمد في إثبات الجرح فالحكم به معتمد في التوقف عن قبول حديث مَن قالوا فيه ذلك؛ بناءً على أنه أَوْجَد عندنا ريبةً قويةً يوجِب مثلها التوقف؛ ولهذا مَن زالت عنه هذه الريبة فبُحِث عن حاله فظهر ما يوجِب الثقة به، قَبِلْناه كمن احتج بكثير منهم صاحِبَا الصحيحين مع أنَّ فيهم مِثل هذا الجرح)

(2)

. انتهى ملخصًا.

وهو معنى قول النووي في "شرح مسلم": إنَّ المعْنِيَّ بعدم قبول الجرح المطلَق في الراوي وجوب التوقف عن العمل بروايته إلى أن يبحث عن السبب.

وهو حسن يزول به عن الصحيحين الإشكال [قبل]

(3)

ذلك.

ويزول به إشكالٌ آخَر وهو أنَّ الجرح مقدَّم على التعديل، فكان على مقتضَى ذلك كل مَن جُرح بوجه لا يُقبل مطلقًا لاسيما وقد وقع بعض مَن دخل في الجرح والتعديل في كثير من

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 108).

(2)

مقدمة ابن الصلاح (ص 108 - 109).

(3)

في (ز): بمثل.

ص: 603

الأئمة الكبار وما سَلِم إلا القليل. فبهذا التوقف لا يلتفت لتجريح أحدٍ أحدًا منهم مع إمامته وجلالته وعدم احتياجه كما سبق لمعدِّل. فافْهَم ذلك، واجعله عقيدة لك في الأئمة؛ تَسْلَم، والله أعلم.

ص:

308 -

وَقُدِّمَ الْجَرْحُ عَلَى التَّعْدِيلِ

مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرَ التَّعْوِيلِ

الشرح:

أي: هذا كله إذا لم يتعارض الجرح والتعديل، فأمَّا إذا تعارضا سواء أكان الجرح مبَيَّن السبب أو مطلقًا وقلنا بقبوله:

فالصحيح من المذاهب في المسألة أن الجرح مقدَّم مطلقًا، سواء كَثُر الجارح أو المعدِّل أو استويَا.

وبه جزم الماوردي والروياني وابن القشيري وقال: نقل القاضي فيه الإجماع.

ونقله الخطيب والباجي عن جمهور العلماء، وقال الإمام الرازي والآمدي وابن الصلاح: إنه الصحيح؛ لأنَّ مع الجارح زيادة عِلم لم يَطَّلِع عليها المعدِّل، فهو موافِقٌ له على أنَّ ظاهره كذلك ومُخْبِرٌ بما خَفي عن المعدِّل

(1)

.

قال ابن دقيق العيد: هذا إنما يصح على اعتقاد أنَّ الجرح لا يُقبَل إلا مفسرًا. أي: فإنْ قبلناه مجملًا فالأقوى حينئذ أنْ يُطلَب الترجيح؛ لأنَّ قول كل مِن الجارح والمعدِّل ينفي ما يقوله الآخَر.

قال: (وبشرط آخَر، وهو أنْ يُبْنَى الجرح على أمرٍ مجزوم به، لا بطريق اجتهادي، كما

(1)

يعني: الجارِح يوافق المعَدَّل على أنَّ ظاهر المعَدَّل العدالة، ثم يخبِر الجارِحُ بما خَفي عن المعَدِّل.

ص: 604

اصطلح أهل الحديث في الاعتماد في الجرح على اعتبار حديث الراوي مع اعتبار حديث غيره والنظر إلى كثرة الموافَقة والمخالفة والتفرُّد والشذوذ). انتهى

وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرَ التَّعْوِيلِ) بيان أن ذلك إنمَّا هو حيث لم يكن التعديل مؤخرًا فيما عول عليه عن سبب الجرح، والمراد بذلك ما استثناه أصحابنا مِن تقديم الجرح أنه إذا جرحه بمعصية وقال المعدِّل:(عرفتُ ذلك ولكنه تاب منها) أيْ: مع مُضِي مدة الاستبراء حيث اعتُبِرت، فإنَّ التعديل حينئذ مقدَّم؛ لأنَّ فيه زيادة [عِلم]

(1)

.

القول الثاني: أنَّ التعديل مقدَّم أبدًا؛ لأنَّ الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحًا، والمعدِّل لا يُعدِّل حتى يتحقق بطريقٍ سلامته من كل جارح. وهذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، لكن قضية تعليله بما سبق تخصيص الخلاف بالجرح غير المفسَّر بناءً على قبوله.

الثالث: يُقدَّم الأكثر من الجارح والمعدِّل. حكاه في "المحصول"؛ لأنَّ الكثرة لها تأثير في القوة.

ورَدَّ ذلك الخطيب بأنَّ المعدِّلين وإنْ كثروا فليسوا مخبرين بعدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك كانت شهادة نَفْي، وهي باطلة.

الرابع: تَعارُض الأمرين، فلا يُقدَّم أحدهما إلا بمرجِّح. حكاه ابن الحاجب.

واعْلم أنَّ القاضي في "التقريب" جعل موضع الخلاف فيما إذا كان عدد المعدِّلين أكثر. فإنِ استويا، قُدِّم الجرحُ إجماعًا. وكذا قال الخطيب في "الكفاية" وابن القطان وأبو الوليد الباجي.

اعتُرِض على حكايتهم ذلك بأن ابن القشيري قد نصب الخلاف فيما إذا استوى عدد

(1)

في (ز): على القبول.

ص: 605

المعدِّلين والجارحين، قال: فإنْ كَثُر المعدِّلون فقبول المعدِّلين أَوْلى.

وقال المازري: (إنَّ [ابن أبي سفيان حكى في كتابه "الزاهر"]

(1)

الخلاف عند التساوي في العدد، قال: فإن زاد عدد المجرِّحين فلا وجه لجريان الخلاف)

(2)

.

وبه صرح أيضًا الباجي، فقال: لا خلاف في تقديم الجرح.

وقال الماوردي: لا شك فيه.

وعلى هذا فيخرج في محل الخلاف ثلاث طُرُق، والله أعلم.

ص:

309 -

وَيثْبُتُ التَّعْدِيلُ أَيْضًا بِعَمَلْ

مَنْ يَشْرِطُ الْعَدْلَ لِمَا فِيهِ الْعَمَلْ

310 -

رِوَايَةً تَكُونُ أَوْ شَهَادَهْ

كَذَا إذَا عَنْهُ رَوَى مُعْتَادَهْ

الشرح:

التعديل والتجريح إما بالتصريح وإما بالتضمن لأمرٍ، فلمَّا انقضى القسمُ الأول شرعتُ في الثاني، فذكرت في التعديل الضمني أمرين:

أحدهما: أن يُعمَل بخبره، وتحته صورتان:

الأُولى: عمل العالِم برواية راو وقد عُلم مِن قاعدته أنَّه لا يَعمل إلا بقول العدل- يكون تعديلًا له كما حكاه القاضي أبو الطيب عن الأصحاب، ونقل الآمدي فيه الاتفاق.

(1)

كذا في جميع النُّسخ، وعبارة المازري في كتابه (إيضاح المحصول، ص 479): (ابن شعبان من أصحابنا ذكر في كتابه المترجَم بِـ "الزاهي").

(2)

إيضاح المحصول (ص 479).

ص: 606

ورُدَّ بأن الخلاف محكي في "تقريب" القاضي و"منخول" الغزالي، وكذا حكى إمام الحرمين وابن القشيري فيه أقوالًا، ثالثها: الصحيح إنْ أمكن أنه عمل بدليل آخَر فليس بتعديل، وإنْ بَانَ بقوله أو بقرينة أنَّ عمله إنما هو بالخبر الذي رواه ذلك الراوي فتعديل.

ورجح هذا أيضاً القاضي في "التقريب"، قال: وفرقٌ بين قولنا: (عمل بالخبر)، و:(عمل بموجَب الخبر).

نعم، الشرط -كما قال القاضي والإمام والغزالي- أنْ لا يكون ذلك من مسائل الاحتياط ويظهر أنَّ عمله به للاحتياط، فإنه حينئذ ليس تعديلًا.

وقال إلْكِيَا: إنْ كان من باب الاحتياط أو لم يكن من المحظورات التي يخرج المتحلي بها عن سمة العدالة، لم يكن تعديلاً. قال: ومن فروع هذه قبول المرسل.

وفي المسألة مذهب آخَر لبعض المتأخرين، وهو التفصيل بين:

- أنْ يعمل بذلك في الترغيب والترهيب، فلا يُقبل؛ لأنه يُتسامَح فيه بالضعف.

- أو غيرهما، فيكون تعديلًا.

وهو حَسَن.

الثانية: عملُ الحاكم بشهادته تعديلٌ له كما قاله القاضي والإمام، بل قال القاضي: إنه أقوى من التعديل باللفظ وبقيَّة الطُّرق.

والشرط كما بيَّنَّا أن لا يكون الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب، بل يَشترط فيه العدالة كما قيَّد بذلك الآمدي وإنْ أَطلق الإمام الرازي وأتباعُه المسألة.

لكن قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا قوي إذا منعنا حُكم الحاكم بعلمه، وإلا فيُحتمل أنه إنما قضَى بعلمه لا بالشهادة؛ فلا يكون تعديلًا إلَاّ إن تَيقَّنا أنه إنما حكم بشهادته دُون علمه. وبذلك صرح العبدري في "شرح المستصفى".

ص: 607

الأمر الثاني: أنْ يروى عنه مَن عادته أنْ لا يروي إلا عن عدلٍ، كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك ونحوهم. قال البيهقي: وقد تقع رواية بعضهم عن بعض الضعفاء؛ لخفاء حالِه، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق.

فيكون تعديلًا له -على المختار عند إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي والآمدي وابن الحاجب والهندي والباجي وغيرهم- بشهادة ظاهر الحال، وإليه ذهب البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقال المازري: إنه قول الحذاق.

وهذا على قول مَن لا يَشترط بيان سبب التعديل، أمَّا مَن يشترط فلا يكون مجرد الرواية عنه تعديلًا ولو كان مِن عادته أن لا يَروي إلا عن عَدْل؛ لأنهم قد يروون عمن لو سُئلوا عنه لجرَّحوه، ووقع ذلك كثيرًا

(1)

.

قلتُ: هذا ينافي كَوْن مِن عادته أنْ لا يَروي إلَاّ عن عدل، فإنَّ الظاهر أنه لو سُئل عَمن يروي عنه لَعَدَّلَه ولم يجرحه.

ويُعرَف كونه لا يَروي إلا عن عَدْل إما بتصريحه وهو الغاية، أو باعتبارنا لحاله واستقرائنا لمن يروي عنه، وهو دُون الأول. قاله ابن دقيق العيد، قال: (وهل يكتفَى بذلك في قبول روايته عمن لا [نعرفه]

(2)

؟ فيه وقفة لبعض أصحاب الحديث من المعاصرين، وفيه تشديد). انتهى

(1)

هذه الفقرة جاءت هكذا في جميع النُّسخ، ويظهر لي وجود خَلَل فيها، وعبارة الزركشي في (البحر المحيط، 3/ 348): (قَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْحُذَّاقِ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ. فَإِنْ رَوَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عَن الْعَدْلِ فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ؛ لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَجْرَحُونَهُمْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهُمْ).

(2)

كذا في (ز). وفي (ظ): تعرفه. وفي (ص، ش): يعرفه.

ص: 608

ووراء التفصيل في أصل المسألة قولان:

- المنع مطلقاً، وبه جزم الماوردي والروياني وابن القطان، وهو محكي عن أكثر أهل الحديث، وفي "التقريب" للقاضيْ إنه قول الجمهور، وإنه الصحيح.

- وكونه تعديلًا مطلقًا وإلا لَكان غِشًّا. حكاه الخطيب وغيره.

ويخرج من تصرف البزار في "مسنده" قول آخَر: إنَّ رواية كثير من العدول عنه تعديلٌ، بخلاف القليل.

وحيث قُلنا: (تعديل) فهو تفريع على جواز تعديل الراوي لمن روى عنه، وفيه في باب الأقضية من "الحاوي" حكاية وجهين في أنه هل يجوز للراوي تعديل مَن روى عنه؟ كالخلاف في تزكية شهود الفرع للأصل

(1)

.

قولي: (مَنْ يَشْرِطُ الْعَدْلَ) أي: العدالة، فهو مَصْدر؛ لكنه يستعمل في الوصف مجازًا. و"مُعْتَادَهْ" نَصْبٌ على الحال؛ لأنَّ إضافته غير محضة، والتقدير: معتادًا إياه. والله أعلم.

ص:

311 -

وَلَيْسَ تَرْكُ عَمَلٍ بِمَا شَهِدْ

أَوْ مَا رَوَى جَرْحًا؛ فَذَا لِلْمُجْتَهِدْ

الشرح:

هذا عكس صورتَي الأمر الأول، وهُما: عمل العالم بروايته والقاضي بشهادته. فإذا لم يعملا بها فهل يكون ترك العمل جرحًا للراوي والشاهد؟ أوْ لا؟

الجمهور على المنع؛ لأنَّ العمل قد يتوقف على أمرٍ آخَر زائد على العدالة، فيحتمل أنْ

(1)

الحاوي الكبير (17/ 230).

ص: 609

يكون التَّرك إنما هو لعدم ذلك، لا لانتفاء العدالة.

وقال القاضي: يكون جرحاً إذا تحقق ارتفاع الدوافع والموانع، وأنه لو كان ثابتاً لَلَزِم العمل به، أما إن لم يتبين قصده إلى مخالفة الخبر فلا يكون جرحاً.

قلتُ: وفي الحقيقة لا يخالف الأول.

وقولي: (فَذَا لِلْمُجْتَهِدْ) أي: راجعٌ إلى رأي المجتهد فيما زاد على أصل العدالة. والله أعلم.

ص:

312 -

أَمَّا الْمُرُوءَةُ فَتَرْكُ مَا لَا

يَلِيقُ بِالْحَالِ إذَا يُبَالَى

313 -

نَحْوُ صَغِيرةٍ خَسِيسَةٍ، وَمَا

يُبَاحُ مِنْ رَذَائِلٍ، فَيَسْلَمَا

314 -

كسِرْقَةٍ لِلُقْمَةٍ وَكَلَعِبْ

بِنَحْوِ شِطْرَنْجَ دَوَامًا يَرْتَكِب

الشرح:

هذا هو الشرط الثاني فيما يُعتبر في الراوي حتى يجب العمل بروايته، ومِثله في الشهادة، وهو أن يكون ذا مروءة. وقد سبق أن المغايرة بينه وبين العدالة هو ما في كُتب أصحابنا الفقهية، وأن ذلك أجود من إدخاله في حد العدالة، وسبق الجواب عن نَص الشافعي الذي يُتوَهم منه خلاف ذلك، وتبعه عليه كثير.

وعلى كل حالٍ المروءة معتبَرة في الراوي والشاهد؛ لأنَّ مَن لا مروءة له، لا يؤمَن أنْ يكذب؛ لأنه لا يَكترث بما يقع منه مما يُعاب عليه.

قال الجوهري: (المروءة: الإنسانية. ولك أن تشدد، أيْ: تترك الهمزة وتشدد الواو. قال أبو زيد: "مَرُؤ الرجُل" صار ذا مروءة، فهو مَرِيٌ، على "فعيل"، وتَمرَّأ: إذا تَكَلَّف

ص: 610

المروءة)

(1)

. انتهى

أما معناها الاصطلاحي الذي نقصده هنا فهو: تَوَقِّي الإنسان ما لا يليق بحاله، ويختلف ذلك باختلاف الناس. وهو معنى قول الرافعي وغيره: إنها تَوَقِّي الأدناس؛ لأنَّ ما لا يليق به هو دنس بالنسبة إليه، فلا يلبس ما لا يليق بمثله كفقيه قباء أو قلنسوة لم تَجْرِ عادة الفقهاء بمثله، ومَد رِجله بين الناس، والأكل في السوق، وإكثار الحكايات المضحكة، والإكباب على لعب الشطرنج، ونحو ذلك.

وهو معنى قولي: (إذَا يُبَالَى)، أي: إذا كان ذلك الذي يتركه يبالَى بفعله في العادة لمثله، أما ما لا يبالَى به كتعاطي حرفة دنيةٍ وهي تليق به فلا تضر، فيُقبَل، نحو: حجام وكناس ودباغ وقَيِّم حمام (على الأصح).

قال الغزالي: (الوجهان في أصحاب الحرَف هُما فيمن تليق به وكان ذلك صنعة آبائه، فأما غيره فتسقط مروءته بها)

(2)

. قال الرافعي: وهو حسن.

وتفصيل ذلك مستوعبًا محله الفقه.

ومما ذكر فيه أنَّ مَن اعتاد ترك السُّنن الراتبة وتسبيحات الركوع والسجود، رُدَّت شهادته؛ لتهاونه بالدِّين وإشعار ذلك بِقِلة مبالاته بالمهمات.

وفي وجْه: لا ترد إلا إن كان الترك للوتر وركعتي الفجر، لِمَا جاء في فِعلها من التوكيد.

قولي: (نَحْوُ صَغِيرة) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ ما يخرم المروءة لا فرق فيه بين أن يكون معصية صغيرة أو مباحًا، ومثلتُ للأول بسرقة اللقمة، وللثاني بمداومة الشطرنج كما سبق في الأمثلة.

(1)

الصحاح تاج اللغة (1/ 72).

(2)

الوسيط في المذهب (7/ 353).

ص: 611

وأشرتُ بقولي: (بِنَحْوِ شِطْرَنْجَ) إلى ما المدار فيه على الحساب والفطنة؛ ليخرج ما هو قمار ونحوه من المحرم كالنرد على الأصح.

نعم، قسم المعصية هل يُخِل بالعدالة؟ أو لا؛ لكونه صغيرة ولا يُخل إلا الإصرار عليها؟ سبق ترجيح الأول والوعد بتقسيم الماوردي فيه وأن الختار خلافه.

والذي قاله الماوردي: (المروءة على ثلاثة أضرب:

ضربٌ شَرطٌ في العدالة. قال: وهو مجانبة ما سَخُف من الكلام المؤدِّي إلى الضحك، وترك ما قبح من الفعل الذي يلهو به أو يُستقبح، فمجانبة ذلك من المروءة المشترطة في العدالة، وارتكابها مفسق.

وضرب لا يكون شرطًا فيها، وهو الإفضال بالمال، والمساعدة بالنفس والجاه.

وضرب مختلف فيه، وهو على ضربين: عادات، وصنائع.

فأما العادات: فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دُون أهل البذلة في مأكله وملبسه وتصرفه، فلا يتعرى من ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم، ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهلها السراويلات، ولا يأكل على قوارع الطُّرق، ولا يخرج عن العُرف في مضغه، ولا يغالي بكثرة أكله، ولا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد يتحاماه أهل الصيانة. وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شرط العدالة أربعة أَوْجُه:

أحدها: أنه غير معتبَر فيها.

والثاني: أنه معتبر فيها وإن لم يفسق.

والثالث: إن كان قد نشأ عليها من صغره، لم يقدح في عدالته. وإنِ استحدثها في كبره، قدحت.

والرابع: إنِ اختصت بالدِّين، قدحت، كالبول قائمًا وفي الماء الراكد، وكشف عورته إذا

ص: 612

خَلا، وأن يتحدث بمساوئ الناس. وإنِ اختصت بالدنيا، لم يقدح، كالأكل في الطريق، وكشف الرأس بين الناس)

(1)

. انتهى ملخصًا.

فائدة:

قال ابن الرفعة في "المطلب" في "كتاب الشهادات": سمعتُ من قاضي القضاة تقي الدين ابن رَزِين أنَّ بعض مَن لَقيه بالشام من المشايخ كان يقول: في تحريم تعاطي المباحات التي تُرَدُّ بها الشهادة ثلاثة أَوْجُه، ثالثها: إنْ تعلقت به شهادة، حرمت، وإلا فلا.

لكن في "النهاية" و"البسيط" الجزم بعدم التحريم مع رد الشهادة. والله أعلم.

ص:

315 -

وَالضَّبْطُ أَنْ يَكُونَ لَا مُغَفَّلَا

وَهْوَ الَّذِي نِسْيَانُهُ قَدْ جَزُلَا

316 -

وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا مَرْوِيِّهُ

إنْ كانَ قَدْ حَدَّثَ مِنْ حِفْظٍ لَهُ

317 -

أَوْ مِنْ كتَابِهِ رَوَى فَضَابِطَا

لَهُ أَوِ الْمَعْنَى رَوَى، لَا سَاقِطَا

318 -

فَعَالِمًا بِمَا يُحِيلُ الْمَعْنَى

فَذَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذْ يُعْنَى

الشرح:

هذا هو الشرط الثالث فيما يُعتبر في الراوي، ومثله الشاهد أيضًا، وهو أن يكون ضابطًا. فمَن ليس بضابط لكونه مغفلًا [أو]

(2)

كثير النسيان والغلط، لا تُعتبر روايته ولا شهادته. و"المغفل" هو الذي لا يحفظ ولا يضبط.

قال الرافعي: (إلا أن يشهد مفسرًا ويبين وقت التحمل ومكانه، فإنه تزول الريبة عن

(1)

الحاوي الكبير (17/ 150 - 152).

(2)

ليس في (ص، ض، ش).

ص: 613

شهادته، وتُقبل)

(1)

. انتهى

والرواية كذلك.

وأما مَن لم يكثر نسيانه وغلطه بل كان يسيرًا فلا يقدح في شهادته ولا روايته؛ لأنَّ ذلك لا يَسلم منه أحد.

وجعل ابن الصلاح وغيره من الضبط أنه إنْ حدَّث مِن حفظه فيكون حافظًا مَرْوِّيه، أو حَدَّث من كتابه فيكون حاويًا له، حافِظَهُ من التبديل والتغيير، هذا إذا كان يروي باللفظ.

أمَّا إذا كان يروي بالمعنى فشرطه أن يكون عالمًا بما يحيل المعنى، وإلَّا فقد يَظن أنه معناه وهو ليس كذلك.

وقد نَص الشافعي رحمه الله في "الرسالة" على ذلك كله، فقال: (لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها:

أنْ يكون مَن حَدَّث به ثقة في دِينه معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لِمَا يُحَدِّث به، عالِمًا بما يُحِيل معاني الحديث من اللفظ.

أو يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، لا يُحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدَّث به على المعنى -وهو غير عالم بما يُحيل معناه- لم يَدْرِ لَعلَّه يحيل الحلال إلى الحرام أو الحرام إلى الحلال. وإذا أدَّاه بحروفه، فلم يَبْقَ فيه وَجْه يخالف فيه إحالته الحديث.

حافظًا إن حدَّث مِن حِفظه، حافظًا لكتابه إنْ حدَّث مِن كتابه. إذا شَرِكَ أهل الحفظ في الحديث، وافق حديثهم.

[بَرِئَ]

(2)

مِن أن يكون: مدلِّسًا يُحدِّث عمن لَقِي ما لم يَسمع منه، ويُحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

العزيز شرح الوجيز (13/ 32).

(2)

كذا في (ز). وفي سائر النُّسخ: بريًّا.

ص: 614

بما يحدث الثقات خلافه.

ويكون هكذا مَن فوقه ممن حدَّثه حتى ينتهي بالحديث موصولًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى مَن انتهى به إليه دُونه؛ لأنَّ كل واحدٍ مُثْبتٌ مَن حدَّثه و [مُثبتٌ]

(1)

على مَن حَدَّث عنه، فلا يُستغنَى في كل واحد منهم عما وصفتُ)

(2)

. انتهى نَصُّه.

وهو يشتمل على فوائد كثيرة، منها ما سبق، ومنها ما سيأتي وننبه على معنى كلامه فيه في موضعه.

قولي: (نِسْيَانُهُ قَدْ جَزُلَا) أيْ: كثر.

وقولي: (أَوْ مِنْ كِتَابِهِ رَوَى فَضابِطَا) أي: فيكون ضابطًا، دل عليه ما سبق في قولي:(وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا مَرْوِّيهُ) وقولي: (أَوِ الْمَعْنَى رَوَى، لَا سَاقِطَا) أي: أو يكون روى المعنى ولم يرو اللفظ حال كوْن ذلك المعنى بتمامه موجودًا لا ساقطاً بأن سقط منه شيء.

وقولي: (فَذَا يَجُوزُ مُطْلَقًا إذْ يُعْنَى) استطراد لمسألة الرواية بالمعنى هل هي جائزة؟ أو لا؟ وتمامه قولي بعده:

ص:

319 -

وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَنْسَ أَوْ بِغَير

مُرَادِفٍ؛ بِالْأَمْنِ مِنْ تَغْيِر

الشرح: والحاصل أنَّ في المسألة مذاهب:

جواز الرواية بالمعنى مطلقًا، وهو قول الأئمة الأربعة سوى ما نذكره من النقل عن مالك، فالنقل عنه مضطرب، وبالجواز أيضًا قال الحسن البصري وأكثر السلف وجمهور

(1)

كذا في (ق، ش) و"الرسالة، ص 372" بتحقيق: أحمد شاكر. وفي سائر النُّسخ: يثبت.

(2)

الرسالة (ص 370).

ص: 615

الفقهاء والمتكلمين، لكن بشروط:

أحدها: أن يكون الراوي عارفًا بدلالات الألفاظ واختلاف مواقعها، وهو معنى قول الشافعي في "الرسالة" فيما سبق ذِكره: أن يكون عالِمًا بما يُحيل المعنى.

وفي "مختصر المزني": قال الشافعي: (الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الغنم معنى ما أذكره إن شاء الله تعالى)

(1)

. ثم سرده.

قال الأصحاب: كان الشافعي لم يحضره حينئذ اللفظ فذكره بمعناه؛ لأنه عارف بما يُحيل المعنى وهو يُجَوِّزه للعارف؛ ليكون مساويًا للأصل بلا زيادة ولا نقص، فغَيْر العارف قد يخالِف وإن لم يقصد، فيمتنع روايته بالمعنى بالإجماع كما في "تقريب" القاضي.

ثانيها: أن لا يكون مُتَعَبَّدًا بلفظه، كالقرآن قطعًا وإنْ نقل عن أبي حنيفة في ترجمة الفاتحة بغير العربية ما سنذكره في فوائد الخلاف، وكالتشهد، فلا يجوز نقل ألفاظه بالمعنى اتفاقًا كما نقله إلْكِيا والغزالي، وأشار إليه ابن برهان وابن فورك وغيرهما.

ثالثها: أن لا يكون من باب المتشابه؛ ليقع الإيمان بلفظه من غير تأويل أو بتأويل على المذهبين المشهورين، فروايته بالمعنى تؤدي إلى الخلل على الرأيين.

رابعها: أن لا يكون من جوامع الكلم.

كقوله عليه الصلاة والسلام: "الخراج بالضمان"

(2)

، و"البينة على المدَّعِي"

(3)

، و"العجماء

(1)

مختصر المزني (ص 41).

(2)

سنن أبي داود (رقم: 3508)، سنن الترمذي (رقم: 1285)، سنن ابن ماجه (رقم: 2243). قال الألباني: حسن. (صحيح سنن أبي داود: 3508).

(3)

سنن الترمذي (رقم: 1341)، السنن الكبرى للبيهقي (16222). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1341).

ص: 616

جبار"

(1)

، و"لا ضرر ولا ضرار"

(2)

، و"لا ينتطح فيها عنزان"

(3)

، و"حمى الوطيس"

(4)

، وغير ذلك مما لا ينحصر.

ونقل بعض الحنفية فيه خلافًا عن بعض مشايخهم.

خامسها: أن لا يكون من مصنفات الناس. فإنْ كان منها، فلا يجوز قطعًا.

قال ابن الصلاح: (وهذا الخلاف لا نراه جاريًا ولا أجراه الناس فيما نَعْلم فيما تضمنته بطُون الكتب، فليس لأحد أن يُغَير لفظ شيء من كتاب مصنف ويثبت فيه بدله لفظًا آخَر بمعناه، فإنَّ الرواية بالمعنى رَخَّص فيها مَن رَخَّص لِمَا كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحَرَج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطُون الأوراق والكتب، ولأنه إنْ ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غَيْره)

(5)

. انتهى

وقد تعقب عليه ابن دقيق العيد في ذلك بأنه ضعيف، قال:(وأقَل ما فيه أنه يقتضي تجويز هذا فيما ينقل من المصنفات في أجزائنا وتخاريجنا، فمنه ليس فيه تغيير المصَنَّف).

قال: (وليس هذا جاريًا على الاصطلاح، فإنَّ الاصطلاح على أن لا تُغير الألفاظ بعد الانتهاء إلى الكتب المصنفة، سواء رويناها فيها أو نقلناها منها). انتهى

قال بعض شيوخنا: ولقائل أن يقول: لا نُسَلم أنه يقتضي جواز التغيير فيما نقلناه إلى

(1)

صحيح البخاري (رقم: 1428)، صحيح مسلم (رقم: 1710) واللفظ للبخاري.

(2)

مسند أحمد (2867)، سنن ابن ماجه (رقم: 2340)، مستدرك الحاكم (2345) وغيرها. قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن ابن ماجه: 1909).

(3)

مسند الشهاب (رقم: 857). قال الألباني: موضوع. (السلسلة الضعيفة: 6013).

(4)

صحيح مسلم (رقم: 1775).

(5)

مقدمة ابن الصلاح (ص 214).

ص: 617

تخاريجنا، بل لا يجوز نقله عن ذلك الكتاب إلَّا بلفظه دُون معناه، سواء في مصنفاتنا وغيرها.

قلتُ: وإنما لم أتعرض في النَّظم لهذه الشروط لأنَّ غير العارف لا يتحقق-[لا]

(1)

هو ولا غَيْره -أنه وافق المعنى، وأما المتعَبَّد بلفظه فاللفظ فيه مقصود، والإخلال به إخلال بالمعنى الذي قصد به؛ فلا يوافِق.

ومثله يُقال في الوارِد من جوامع الكلم؛ لِبُعْد أنْ يُؤْتَى بنظيره من كل وجه.

ونحوه الكتب المصَنَّفة، فإنَّ المقصود فيها ما اختير فيها مِن الألفاظ، حتى أنَّ مُصَنِّفها كالمدَّعِي أنه لا شيء يؤدي معناها الذي قَصَدَه، فلا تخلو كلها من نظر، فاستغنى عن الشروط بموافقة المعنى.

تنبيه:

مما استُدل به على جواز الرواية بالمعنى ما رُوي من تصريح غير واحد من الصحابة به، ويدل عليه روايتهم للحديث الواحد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة، وما رواه ابن منده في "معرفة الصحابة" من حديث عبد الله بن سليمان بن أُكيمة الليثي عن أبيه، قال:"قلتُ: يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك، فيزيد حرفًا أو ينقص حرفًا. فقال: إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى، فلا بأس". فذكر ذلك للحَسَن، فقال: لولا هذا ما حدثنا

(2)

.

وأخرجه الطبراني في أكبر معاجمه من حديث يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أُكيمة

(1)

من (ت، ز، ق)، وليست في (ص).

(2)

معرفة الصحابة لابن منده (2/ 724)، ط: جامعة الإمارات المتحدة، تحقيق: د. عامر صبري - ط: الأولى - 2005 م. وقال ابن منده: (سليمان بن أُكيمة الليثي مجهول). وقال الجورقاني (المتوفى 543 هـ) في كتابه (الأباطيل والمناكير، ): (هذا حديث باطل، وفي إسناده اضطراب).

ص: 618

عن أبيه عن جده

(1)

.

ومما استدل به بعض المتأخرين ما في الصحيحين وغيرهما من حديث سؤاله يوم النحر في حجة الوداع عمن حلق قبل أنْ يذبح، فقال له:"اذبح ولا حرج". وقال آخَر إنه نحر قَبْل أن يرمي، فقال:"ارْم ولا حرج". ثم قال الراوي وهو ابن [عمر]

(2)

: فما سُئل يومئذٍ عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر إلَّا قال: افعل ولا حرج

(3)

.

فإنَّ صَدْر الحديث يدل على أنه لم يَقُل: "افْعَل"، بل قال:"اذبح" و"ارْم " وغير ذلك، فعبَّر عن الكل بِـ "افْعَل" الذي هو بمعناه.

قال المحدِّثون: ينبغي للراوي بالمعنى أن يقول عقبه: "أو كما قال" أو "نحوه" أو شبهه من الألفاظ الدالة على أنه ليس لفظ الأصل على التحقيق، بل هو أو معناه.

رُوي ذلك عن جماعة من الصحابة، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.

المذهب الثاني في أصل المسألة:

المنع مطلقًا. نقله إمام الحرمين وابن القشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين، ونُقل عن أبي بكر الرازي من الحنفية، ونقله القاضي عبد الوهاب عن الظاهرية، وحكاه ابن السمعاني عن ابن عمر وجمعٍ من التابعين منهم ابن سيرين، وبه أجاب الأستاذ أبو إسحاق، ووَهمَ صاحب "التحصيل" فعزاه للشافعي، ونقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، وقال: إنه مذهب مالك.

(1)

المعجم الكبير (رقم: 6491).

(2)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب أنَّ الراوي ابن عمرو بن العاص.

(3)

صحيح البخاري (رقم: 1649)، صحيح مسلم (رقم: 1306) ولكن الراوي: عبد الله بن عمرو بن العاص.

ص: 619

لكن ابن الحاجب قال: (وعن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء. أي: مثل "بالله" و"تالله"، قال: وحمل على المبالغة في الأَوْلَى)

(1)

.

وقال غير ابن الحاجب: إنه ذهاب منه إلى منع نقل الحديث بالمعنى، وأنه كان يقول: لا يُنقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى، بخلاف حديث الناس.

فهذا مذهب ثالث بالتفصيل، ونقل الماوردي ذلك عن مالك.

لكن قال الباجي: (لعَلَّه أراد به مَن لا عِلم له بمعنى الحديث، وقد نجد الحديث عنه تختلف ألفاظه اختلافًا بَيِّنًا؛ فَدَلَّ على أنه مُجَوِّزٌ للرواية بالمعنى)

(2)

.

المذهب الرابع: التفصيل بمن ما يوجِب العِلم من ألفاظ الحديث، فالمعوَّل فيه على المعنى، ولا يجب مراعاة اللفظ.

وأما الذي يجب العمل به فمنه ما لا يجوز الإخلال بلفظه، كقوله عليه الصلاة والسلام:"تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"

(3)

، و:"خمس يُقتلن في الحل والحرم"

(4)

. حكاه ابن السمعاني وجهًا لبعض أصحابنا.

الخامس: التفصيل بمن أن يُقطع بأنه مَعناه أو يُظن. فإنْ قطع بأنه معناه، جاز. أو ظن، لم يَجُز. قاله إمام الحرمين.

السادس: يجوز إن نَسي اللفظ؛ لأنه قد تحمَّل اللفظ والمعنى وعجز عن أحدهما، فيلزمه

(1)

مختصر المنتهى (1/ 616)، الناشر: دار ابن حرم.

(2)

إحكام الفصول في أحكام الأصول (1/ 390)، نشر: دار الغرب الإسلامي، ت: د. عبد المجيد.

(3)

سنن أبي داود (رقم: 61)، سنن الترمذي (3)، وغيرهما. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 61).

(4)

صحيح البخاري (رقم: 3136)، صحيح مسلم (رقم: 1198) واللفظ لمسلم.

ص: 620

أداء الآخَر، لاسيما أنَّ تركه قد يكون كتمًا للأحكام. فإنْ كان يحفظ اللفظ، لم يَجُز أن يؤديه بغيره؛ لأنَّ في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في غيره.

وبهذا قال الماوردي في "الحاوي"، لكن جعل محل الخلاف في الصحابة، أمَّا غير الصحابي فلا يجوز له قطعًا. فيكون ذلك مذهباً سابعاً.

الثامن: يحوز إبدال اللفظ بالمرادف دُون غيره، وعلى ذلك جرى الخطيب البغدادي.

وإلى السادس والثامن أشَرتُ بقولي في النَّظم: (وَإنْ يَكُنْ لَمْ يَنْسَ) إلى آخِره.

التاسع: أن يُورَد على وجه الاحتجاج والفتيَا، فيجوز، أو التبليغ، فلا يجوز؛ لظاهر حديث البراء:"وآمنتُ برسولك الذي أرسلت"

(1)

. قاله ابن حرم في كتاب "الإحكام".

العاشر: التفصيل بين الأحاديث الطوال فيجوز دُون القصار. حُكِي عن القاضي عبد الوهاب.

ويخرج من كلام الناس مذاهب أخرى غير ذلك فيها نظر؛ فلذلك أضربتُ عن حكايتها؛ خشية الطول.

وقولي: (بِالْأَمْنِ مِنْ تَغْييِر) تعليل للقول الراجح، أي: يجوز إذا ساوى المعنى جلاءً وخفاءً؛ بسبب الأمن من تغييره وإنْ كان لم يَنْس أو كان اللفظ غيْر مرادف.

تذنيب:

يظهر لهذه المسألة فوائد، وربما جُعلت ثمرة الخلاف في مسألة إقامة أحد المترادفين مقام الآخر أيضًا، والأحسن الأول؛ لأنه أَعَم.

نعم، منهم مَن يجعل الرواية بالمعنى من فروع تلك، وليس بجيد؛ لأنَّ اتحاد المعنى قد لا

(1)

صحيح البخاري (رقم: 5952)، صحيح مسلم (رقم: 2710).

ص: 621

يكون مع الترادف؛ لِكَوْن اللفظ:

- مُركبًا، والمترادف من قِسم المفرد، ولذلك جاء ها هنا مذهب بالفرق بين المترادف وغيره كما سبق.

- أو أعجميًّا، والمترادف من أقسام لغة العرب وإن أمكن أن يكون في غيرها. وسيأتي لذلك مزيد بيان في موضعه.

وعلى كل حالٍ فهذه الفوائد قسمان:

أحدهما: الترجمة عن الألفاظ العربية بغيرها، وله أضرب:

أحدها: ما يمتنع قطعًا، كترجمة القرآن بِلُغة أخرى، وهو إجماع. وما يُحكَى عن أبي حنيفة من تجويزه قراءة القرآن بالفارسية صَحَّ أنه رجع عنه. حكاه عبد العزيز في "شرح البزدوي"

(1)

، وعلى تقدير أنه لم يَرجع تأوَّلَه بعض أصحابه بأنه أراد عند الضرورة والعجز عن القرآن.

نعم، قال القفال في "فتاويه": عندي أنه لا يَقْدِر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية. قيل له: فإذَنْ لا يَقدر أحد أن يُفَسرَ القرآن. قال: ليس كذلك؛ لأنَّ هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض، أمَّا قراءته بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله تعالى.

وقال غيره: الفرق بين معنى "الترجمة" ومعنى "التفسير" أن "الترجمة" بدل اللفظ بلفظ يقوم مقامه في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ؛ فلذلك امتنع.

و"التفسير" عبارة عمَّا في النفس من المعنى للحاجة والضرورة، فهو تعريف السامع بما فَهم المترجِم؛ فلا يمتنع، وهو فَرْقٌ حَسَن.

(1)

كشف الأسرار (1/ 40)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.

ص: 622

وممن وافق القفال على إحالة ترجمة القرآن ابنُ فارس في "فقه العربية"، وأوضح الدلالة على ذلك

(1)

.

ومثل ترجمة القرآن ترجمة الدعاء غير المأثور إذا اخترعه وأتى به في الصلاة بالعجمية، فيمتنع قطعًا كما قاله إمام الحرمين.

الثاني: ما يجوز [قطعًا]

(2)

للقادر والعاجز، كالبيع والخلع والطلاق ونحوها، ويكون صريحًا في [الأصح]

(3)

.

والثالث: ما يمتنع -على الأصح- للقادر دون العاجز، كالأذان وتكبيرة الإحرام والتشهد؛ لِمَا فيه من معنى التعبد، وكذا مأثور الدعاء والذكر في الصلاة والسلام وخطبة الجمعة.

الرابع: ما يجوز -على الأصح- للقادر والعاجز (كالنكاح والرجعة واللعان، وكذا الإسلام)، وما يجوز للعاجز دُون القادر (كتكبيرة الإحرام).

القسم الثاني:

التعبير باللفظ العربي بمعناه من العربي، وهو أيضا أربعة أضرب:

- ما يمتنع قطعًا: كاللفظ المتعبَّد به، وكقول القاضي: قُل: "بالله"، فيقول:"بالرحمن"، فإنه لا يقع الموقع، حتى لو صَمم جُعل ناكلًا. فلو أَبدَل الحرف فقال: قُل: "بالله"، فقال:"والله " أو "تالله"، ففي الحكم بِنكوله وجهان، ولو أُكرِه على الطلاق بِ "طلقتُ"، فقال:

(1)

الصاحبي في فقه اللغة العربية (ص 33)، ط: دار الكتب العلمية، تحقيق: أحمد حسن.

(2)

في (ز): مطلقا.

(3)

في (ز، ض): الأول.

ص: 623

"سرحتُ"، وقع الطلاق.

- وما يجوز قطعًا.

- وما يمتنع على الأصح، كقوله في التشهد ونحوه:"أَعلم" موضع "أَشهد".

- وما يجوز في الأصح، كـ "طَلِّقْني على ألْف"، فقال:"خالعتُك". والمخالِف ابن خيران. قال ابن الرفعة: وللمسألة شبه بما لو قال لها: "طلقي نفسك"، فقالت:"اخترتُ"، ونَوَتْ.

ومن هذا القسم في الأصل أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"

(1)

مقتضاه تَعيُّن هذا اللفظ، لكن في "المنهاج" للحليمي أنه يقوم مقامه ألفاظ أخرى نقلها عنه الرافعي آخر كتاب الرِّدَّة وأقَرَّها وإنْ كان في بعضها نظر.

وفي "التحقيق" و"الأذكار" وغيرهما أنه لو قال في التشهد: "اللهم صَلِّ على أحمد"، لم يَكْفِ، بخلاف "النبي" و"الرسول".

ومُقْتَضَى كلامهم أنه لو عَبَّر في التشهد أيضًا بِ "الرسول" عوضًا عن "النبي" المذكور في أوائله وبـ "النبي" عوضًا عن "الرسول" المذكور في آخِره، لم يَكْفِ.

والفروع في ذلك كثيرة، وإنمَّا هذا أنموذج [تُستحضَر]

(2)

به القواعد، و [تتمهَّد]

(3)

به، والله تعالى أعلم.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 385)، صحيح مسلم (رقم: 20).

(2)

كذا في (ت). لكن في سائر النُّسخ: يستحضر.

(3)

في (ش): يتمهد.

ص: 624

ص:

320 -

وَيُقْبَلُ الَّذِي لَهُ تَسَاهُلُ

لَا في الْحَدِيثِ، وَكَذَا الْمُوَاصِلُ

321 -

بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ إنْ أَمْكَنَ أَنْ

يُحَصِّلَ الْمَرْوِيَّ في ذَاكَ الزَّمَنْ

الشرح:

لما ذكرتُ الشرط الثالث في الراوي وهو كونه ضابطًا واستطردتُ إلى مسألة الرواية بالمعنى، رجعتُ إلى ما يتعلق بالشرط المذكور، وهو كون التساهل هل هو مَظنة عدم الضبط؟ أو لا؟ والإكثار من الحديث هل هو مظنة التساهل؟ أو لا؟

فهاتان مسألتان:

الأولى: المتساهل إنْ كان تساهله في الحديث سماعًا وإسماعًا (كمَن لا يبالي بالنوم في السماع أو يُحدِّث لا مِن أصلٍ مصحح أو نحو ذلك)، فلا تعتبر روايته بلا خِلاف كما قاله في "المحصول"

(1)

وغيره.

نعم، إذا كان نعاسه يسيرًا بحيث لا يختل معه الكلام، لا يضر.

ومما يُعَدُّ من التساهل في الحديث تساهلًا مُضِرًّا مَن عُرِف بالتأويل لأجل مذهبه، فربما أحال المعنى بتأويله، وربما يزيد في موضع زيادة يُصحح بها مذهبه أو ينقص، أو يُغيِّر؛ لذلك فلا يوثق بخبره. قاله ابن السمعاني

(2)

.

ومن المتساهلين أيضًا: مَن عُرِفَ بقبول التلقين في الحديث، فيروي ولا يَذكر أنه لُقِّنَ ما

(1)

المحصول (4/ 425).

(2)

قواطع الأدلة (1/ 346).

ص: 625

لم يسمعه من الشيخ.

ومنه المكثر مِن الشواذ والمناكير في حديثه، ومن عُرِفَ بكثرة السهو في رواياته إذا لم يُحدِّث مِن أصل صحيح، فكل هذا يَخرِم الثقة بضبطه.

وإن كان تساهله في غير الحديث ويحتاط في الحديث، قُبِلَت روايته على الأصح.

وقيل: يُرَدُّ المتساهل مطلقًا. ونَصَّ عليه أحمد، وأنكر على من قبل روايته إنكارًا شديدًا، وهو ظاهر كلام ابن السمعاني وغيره.

المسألة الثانية: وإليها أشرتُ بقولي: (وَكَذَا الْمُوَاصِلُ بِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ). فإذا أكثر مع قِلة مخالطته لأهل الحديث، فإنْ أَمْكَن تحصيل ذلك القَدْر من الأخبار في ذلك القدر من الزمان، قُبِلَ إخباره، وإلَّا فلا.

أما المُقِل من سماع الحديث ورواياته الذي لم يشتهر بمجالسة المحدثين ومخالطتهم فمقبول. وكذا مَن لم يَرْوِ إلا يسيراً كحديث واحد كما قال في "المحصول"، فإنه مقبول أيضًا، فقد قَبِلَت الصحابة حديث أعرابي لم يرو غير حديث، والله أعلم.

ص:

322 -

وَاقْبَلْ مُدَلِّسًا إذَا يُسَمِّى

بِغَير مَشْهُورٍ، كَذَاكَ بِاسم

323 -

لِغَيرهِ [مُشَبِّهًا]

(1)

بِذَاكَا

أَوْ مُوهِمًا رِحْلَة أوْ إدْرَاكا

الشرح:

لَمَّا كان التدليس له شبه بالتساهل، نالسَب أنْ أذكره عقبه.

وهو لُغةً: كتمان العَيْب في مبيع أو غيره، ويقال:"دالَسَه": خادَعَه، كأنه من "الدلس"

(1)

في (ن 3، ن 4): مشتبها.

ص: 626

وهو الظُّلمة؛ لأنه إذا غَطَّى عليه الأمر، [أَظْلَمَه]

(1)

عليه.

وأما في الاصطلاح فهو قسمان: قِسم مُضر يمنع القبول، وقسم لا يضر.

فالثاني -وهو ما بدأتُ به في النَّظم- له صُوَر:

إحداها: أن يُسمِّي شيخَه في روايته بِاسْم له غيْر مشهور، ومرادي بالاسم ما يُقْصد تعريفه به مِن اسمٍ وكنية ولقب ونسبٍ ووصفٍ.

كقول أبي بكر بن مجاهد المقرئ الإمام: (حدثنا عبد الله بن أبي [عبد الله])

(2)

. يُريد به عبد الله بن أبي داود السجستاني. وقوله أيضاً: (حدثنا محمد بن سند). يريد النقاش المفسر، نَسَبَه إلى جدٍّ له. وكقول الخطيب الحافظ:(حدثنا أحمد بن أبي جعفر القطيعي)، ومرةً:(الروياني)، وهُوَ هُوَ. وكقوله:(حدثنا علي بن أبي علي المعدل)، ومرةً:(البصري)، وهُو هو، ونحو ذلك.

وُيسمَّى هذا "تدليس الشيوخ"، ذكره ابن الصلاح

(3)

بعد مَا ذَكر ما يُسمَّى "تدليس الإسناد"، وهو أن يروي عمن لقيه أو عاصَره ما لم يسمعه منه مُوهِمًا سماعه منه قائلًا:"قال فلان" أو "عن فلان" ونحوه، وربما لم يسقط شيخَه وأسقطه غيره.

ومَثَّله غيره بما في "الترمذي" عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة مرفوعًا:"لا نَذْر في معصية، وكفارتُه كفارة يمين"

(4)

. ثم قال: هذا حديث لا يصح؛ لأنَّ الزهري لم يسمعه

(1)

كذا في (ز، ق). لكن في سائر النُّسخ: أظلم.

(2)

في (ز): أَوفى.

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 74).

(4)

سنن أبي داود (رقم: 3292)، سنن الترمذي (رقم: 1524). قال الألباني: صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 3290).

ص: 627

من أبي سلمة. ثم ذكر أن بينهما سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير، وأن هذا وَجْه الحديث.

وممن ذكر هذا القسم أيضاً الماوردي والروياني، قال ابن الصلاح: إنَّ هذا القسم مكروه جدًّا، ذَمَّه أكثر العلماء، وكان شُعبة مِن أشدهم ذَمّاً له، قال مرةً:"التدليس أخو الكذب"، ومرة:"لأنْ أزني أحبُّ إلَيَّ مِن أنْ أُدَلِّس"، وهذا منه إفراط محمول على المبالغة في الزجر عنه.

والصحيح فيه التفصيل بين ما رواه بلفظ محُتمل لم يُبيِّن فيه السماع والاتصال فكالمرسل، وما بين كـ "سمعت" و"حدثنا" و"أخبرنا" فمقبول محتج به، وهو واقع مِن كثير مِن الرواة في الصحيحين وغيرهما كقتادة والأعمش والسُفيانين وهُشَيم بن بشير وغيرهم؟ وذلك لأنه ضربٌ من الإيهام، لا كذب.

وطرد الشافعي ذلك فيمن دَلَّس مَرَّة، وكذا قال إلْكِيا الطبري: مَن قَبِل المراسيل، لم يَرَ للتدليس أثرًا إلَّا أنْ يُدلّس -لضعفٍ- عمن سمع منه، فلا يُعمَل به إلَّا أن يقول:"حدثني" أو "أخبرني" أو "سمعتُ".

وحُكي عن الشافعي أيضا نحو ذلك.

وذهب فريقٌ من أهل الحديث والفقهاء إلى الجرح بهذا التدليس مطلقاً ولو بَيَّنَ سماعَه، وإنما لم أذكر هذا القسم في النَّظم لِمَا عُلِمَ مِن كَوْنه قادحًا عند عدم التصريح بالسماع، فيخرج بالمفهوم؛ لأنه خارج عما ذكرنا قبول التدليس فيه، وأما عند التصريح فيخرج عن كونه تدليساً.

وأما القسم الذي بَدأتُ به وسبق شرحه فقال ابن الصلاح: (إنَّ أَمْرَه أخَف، وفيه تضييع للمروي عنه، وتوعيرٌ لطريق معرفته على مَن يطلب الوقوف على حاله وأهليته، ويختلف الحال في كراهته بحسب الغَرض الحامل عليه، فقد يَحمِلُ عليه كَوْن الشيخ غير

ص: 628

ثقة أو متأخِّر الوفاة قد شاركه في السماع منه جماعة دُونه أو أصغر سنًّا من الراوي عنه، أو كونه كثير الرواية عنه فلا يحب الإكثار مِن ذِكْر شخص واحد على صورةٍ واحدةٍ).

قال: (وتسمح بذلك جماعةٌ من الرواة المصنِّفين كالخطيب في تصانيفه)

(1)

. انتهى

وليس فيه تصريح بحكم الجرح به.

وقد قال أبو الفتح ابن برهان: هو جرح إلَّا أن يكون مَن عدل عن اسمه مِن أهل الأهواء صوناً له عن القدح مع أنَّ بعض العلماء قبلهم.

وقال غيره من الأصوليين: إنه غير قادح.

قال ابن السمعاني: (هذا إذا كان لو سُئل عنه أخبر عنه بِاسْمه، كما كان ابن عُيينة يدلس، فإذا سُئل عمن حدَّثه بالخبر، نَصَّ على اسمه ولم يكتمه، أمَّا مَن لو سُئل عنه لم يُنبِّه عليه، فمردود (

(2)

.

وفَصَّل الآمدي بَين أن يكون تغيير الاسم لضعف المروي عنه فيكون جرحًا، أو لِصغر سِنه أو لكونه مختلَفًا في قبوله وهو يعتقد القبول، كمبتدع لم يُسَمه بِاسْمه المشهور حتى لا يَقدح فيه مَن لا يعتقد قبوله، أيْ: أو نحو ذلك، فلا يكون جرحاً.

وما قاله حسن ظاهر؛ لئلا يؤدي إلى العمل بخبر غير الثقة، أما إذا لم يُعلَم تغييرُه لماذا؟ فمحتمل.

الصورة الثانية: أن يُسمي شيخه باسْم شيخ آخَر لا يمكن أن يكون رواه عنه، كما يقول تلامذة الحافظ أبي عبد الله الذهبي:(حدثنا أبو عبد الله الحافظ) تَشبيهًا بقول البيهقي فيما يرويه عن شيخه أبي عبد الله الحاكم: (حدثنا أبو عبد الله الحافظ)، وهذا لا يقدح؛ لظهور

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 76).

(2)

قواطع الأدلة (1/ 346).

ص: 629

المقصود.

الصورة الثالثة: أن يأتي في التحديث بلفظ يُوهِم أمرًا لا قدح في إيهامه ذلك، كقوله:(حدثنا وراء النهر) موهِمًا أنه نهر جيحون وهو يريد به نَهر عيسى ببغداد أو الجيزة ونحوها بمصر، فلا حرج بذلك. قاله الآمدي

(1)

؛ لأنَّ ذلك من باب الإغراب، وإنْ كان فيه إيهام الرحلة إلا أنه صِدقٌ في نفسه، ونحوُه أنْ يقول:(حدثني فلان بِالعراق) يريد موضعًا بِإخْمِيم

(2)

، أو:(بِزَبِيد)

(3)

يريد موضعًا بِقُوص

(4)

، أو:(بِحلب) يريد موضعًا متصلًا [بالقارة]

(5)

.

قولي: (مُوهِمًا رِحْلَةً اوْ إدْرَاكَا) أي: أو موهما إدراك مَن لم يُدركه وقد عُرف أنه لم يدركه، فلا يضر، غايته أن يكون الحديث منقطعًا والثقات تروي المنقطع ولا يقدح ذلك فيهم، وهذا هو المحترز عنه فيما سبق في تعريف "تدليس الإسناد":"أن يروي عمن لقيَه أو عاصره ما لم يسمع منه"، إذْ مفهومه أنه إذا لم يُعاصره ولا لقيه أنه غير [مُدلس]

(6)

على الصحيح المشهور، وحكى ابن عبد البر في "التمهيد" عن قومٍ أنه تدليس، قال: فعلى هذا لا يَسْلم مِن التدليس أحد، لا مالك ولا غيره. والله أعلم.

(1)

الإحكام في أصول الأحكام (2/ 90).

(2)

بلد قديم على شاطئ النيل بالصعيد. (معجم البلدان، 1/ 123).

(3)

مدينة مشهورة باليمن. (معجم البلدان، 3/ 131).

(4)

مدينة كبيرة قصبة صعيد مصر. (معجم البلدان، 4/ 413).

(5)

كذا في جميع النُّسخ، وقد تكون:(بالقاهرة)؛ لأنَّه جاء في (معجم البلدان، 2/ 290): "حلب " أيضًا محلة كبيرة في شارع القاهرة بينها وبين الفُسطاط).

(6)

كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: تدليس.

ص: 630

ص:

324 -

أَمَّا مُدَلِّسُ الْمُتُونِ الْمُدْرجُ

مَرْوِيَّهُ بِغَيرهِ فَيَمْزُجُ

325 -

مِنْ غَر تَمْيِيزٍ فَذَا مَجْرُوحُ

إنْ كَانَ قَصْدُه لِذَا يَلُوحُ

الشرح:

ما سبق من الصور الثلاث هو الذي لا جَرح فيه كما عَلمته، وأما هذا القسم فهو الذي يكون جرحًا، وقد سبق القسم الذي بدأ به ابن الصلاح وأنه جرح في بعض أحواله، فَيُضم إلى هذا.

نعم، لم يذكر ابن الصلاح هذا القسم الذي ذكرناه هنا فيما يسمى تدليسًا، بل أفرده بنوع آخَر، وهو المسمَّى بِـ "المدرج "، وإليه أشرت بقولي:(الْمُدْرِجُ) بكسر الراء اسم فاعل، و (مَرْوِّيهُ) مفعوله، فالراوي للحديث إذا أدخل فيه شيئًا من كلامه أولًا أو آخِرًا أو وسطًا على وجه يُوهِم أنه من جملة الحديث الذي رواه -وهو المراد بقولي:(فَيَمْزُج مِنْ غَيْر تَمْيِيزٍ) - يُسمَّى هذا "تدليس المتون"، وفاعله مجروح إن كان فَعَله عن قصدٍ؛ لِمَا فيه من الغش. أما لو اتفق ذلك من صحابي أو غيره من غير قصدٍ، فلا.

ومن هذا النوع كثير في الحديث أفرده بالتصنيف الخطيب البغدادي، فشفَى وكَفَى.

فمن أمثلته المشهورة حديث ابن مسعود في التشهد، قال في آخره:"فإذا قلت هذا، فإنْ شئتَ أنْ تقوم فَقُم، وإنْ شئتَ أنْ تقعد فاقعد"

(1)

وهو من كلامه، لا مِن متن الحديث المرفوع. قاله البيهقي والخطيب.

(1)

سنن أبي داود (رقم: 970). قال الألباني: (شاذ بزيادة: "إذا قلت

"، والصواب أنه من قول ابن مسعود موقوفاً عليه). (صحيح سنن أبي داود: 970).

ص: 631

وقال النووي في "الخلاصة": (اتفق الحفاظ على أنها مُدْرَجة)

(1)

.

ولا يعارضه قول الخطابي: اختلفوا في كونه من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن مراده اختلاف الرواة فيه، وهذا من المدرج آخرًا.

أما مثال المدرج أولًا فما رواه الخطيب بسنده عن أبي هريرة: "أسبغوا الوضوء، وَيْل للأعقاب من النار"

(2)

. فإنَّ "أسبغوا الوضوء" من كلام أبي هريرة.

ومثال الوسط: ما رواه الدارقطني عن بسرة بنت صفوان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن مَسَّ ذكَره أو أنثييه أو رفغه، فليتوضأ"

(3)

قال: فذِكر الأنثيين والرفغ مُدْرج؛ إنما هو من قول عروة الراوي عن بسرة.

والبسط في ذلك محله علم الحديث.

ويُعْرف الإدراج بأن يَرِد من طريق أُخرى التصريح بأنَّ ذلك من كلام الراوي، وهو طريق ظني قد يَقوى كما إذا وقع في آخِر الحديث، وقد يَضعُف كما إذا وقع في أثنائه.

قلتُ: وهو [مُشْكِل]

(4)

بزيادة الثقة؛ لاحتمال كون ذلك منها، وسيأتي إيضاحه هناك.

(1)

خلاصة الأحكام (1/ 449).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 163) بلفظ: (أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ؛ فإن أبَا الْقَاسِمِ قال

)، الفضل للوصل المدرج (1/ 158).

(3)

سنن الدارقطني (1/ 148)، وقال الإمام الدارقطني:(كَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الحْمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ هِشَامٍ، وَوَهِمَ فِي ذِكْرِ الْأنْثَيَيْنِ وَالرَّفْغِ وَإِدْرَاجِهِ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بُسْرَةَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ غَيْرِ مَرْفُوعٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ هِشَامٍ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ السخْتِيَانِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمَا).

(4)

في (ش، ض): يشكل. والمعنى: مشتبه.

ص: 632

تنبيهات

أحدها: فسر الماوردي والروياني وابن السمعاني مُدلِّس المتون بأنه مَن يُحرِّف الكلم عن مواضعه، وكأنَّ مرادهم التقديم والتأخير المُخِل بالمعنى، أو يأتي بما يُغير المعنى بوجهٍ ما. وأما ما سبق من تسمية الإدراج تدليسًا فهو ما قاله أبو منصور البغدادي.

الثاني: مِن أقسام التدليس ما هو خفي، كما ورد في بعض الروايات عن الحسن البصري أنه قال:(حدثنا أبو هريرة)، فقال قوم: لم يسمع من أبي هريرة، وإنما أراد بقوله:(حدثنا): حدَّث أهل بلدنا. وقال قوم: لم يَقُم دليل قاطع على عدم سماعه منه، فلا تدليس.

ومن الخفي أيضا قول [أبي]

(1)

إسحاق: (ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه). فظاهره أنَّ المراد سماعه من عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، ولم يَقُل قَبْله:(ليس أبو عبيدة ذكره). نَبَّه على ذلك ابن دقيق العيد في "الاقتراح"، قال:(وللتدليس مفسدة، وله مصلحة. المفسدة: قد يخفى ويصير الراوي مجهولًا؛ فيسقط العمل به مع كونه عَدْلا. وأما المصلحة فامتحان الأذهان في استخراج التدليسات وإلقاء ذلك إلى مَن يُراد اختبار حِفظه ومعرفته بالرجال)

(2)

.

ومن التدليس أيضًا: ما يُعرف بِ "تدليس التسوية"، ولم يذكره ابن الصلاح، وهو شَرُّ الأنواع، وهو أن يروي حديثاً عن شيخ ثقة، وذلك الثقة يرويه عن ضعيف عن ثقة، فيأتي المدلس بالثقتين ويُسْقِط الضعيف بلفظ محتمل، وهو غرور شديد. وممن نُقِل عنه فِعْله بقية

(1)

في جميع النُّسخ: ابن. والتصويب من (الاقتراح، ص 289)، الناشر: دار العلوم - الأردن، ط: أولى- 2007 م.

(2)

الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص 21).

ص: 633

بن الوليد، والوليد بن مسلم.

ومن التدليس أيضاً: أن يُسقِط أداة الرواية ويذكر الشيخ فيقول: (فلان). وهذا يفعله أهل الحديث كثيراً، ولا يضر.

قال على بن خشرم: كنا عند ابن عُيينة، فقال: الزهري. فقيل له: حدَّثكم الزهري؟ فسكت، ثم قال: الزهري. فقيل له: سمعته من الزهري؟ فقال: لا، لم أسمعه من الزهري ولا ممن سمعه من الزهري، حدثني عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.

وقد مَثَّل ابن الصلاح بهذا للقسم الأول وهو "تدليس الإسناد"، وسبق ما ذَكره في حُكمه وأنه إذا كان لا يُسمِّي إلَّا ثقة، لا يقدح.

قال أئمة الحديث: يُقبَل تدليس ابن عُيَينة؛ لأجل ذلك. قال ابن عبد البر: لا يكاد يوجد له حديث دلس فيه إلا وقد تَبيَن سماعه عن ثقة. ثم مَثَّل ذلك بمراسيل كبار الصحابة، فإنهم لا يُرسِلون إلَّا عن صحابي.

الثالث: في اقتصاري في النَّظم على شروط الراوي الثلاثة إشعارٌ بأنه لا يُشترط غير ذلك، وقد أشرتُ إلى بعض ما لا يُشترط مما فيه خِلاف، ولم أستوعبه؛ لكثرته.

فمِن ذلك: لا يُشترط أن يكون بصيراً. وفي "الشهادات" مِن الرافعي حكاية وجهين في رواية الأعمَى، والأصح عند الأكثرين الجواز، خلافًا لتصحيح الإمام والغزالي.

قال: (ومحل الخلاف فيما تحمَّله وهو أعمى، لا ما سمع قبل العمى، فإنَّ ذلك مقبول قطعًا؛ للإجماع على قبول روايات ابن عباس وغيره ممن طرأ عليه العمى). انتهى

لكن الشرط فيمن تحمل حالة العمى أنْ يحصل الثقة به بأنْ يكون ضابطًا للصوت، ويدل له إجماع الصحابة على قبول حديث عائشة مِن خلف سِتْر، فإنهم في هذه الحالة كالعميان، وقَبِلوا خبر ابن أم مكتوم وعتبان بن مالك ونحوهما.

ص: 634

ومنه: لا يُشترط النطق، فيُقبَل الأخرس الذي له إشارة مفهمة، وبناه بعضهم على الخلاف في شهادته، إنْ قُلنا:(تُقْبَل)، قبِلت روايته مِن باب أَوْلى، أو:(لا)، فوجهان: الظاهر القبول؟ لأنَّ باب الرواية أوسع.

ومنه: الذكورة لا تُشترط، فتُقبل رواية المرأة والخنثى، ونَقل صاحب "الحاوي"

(1)

عن أبي حنيفة أنه لا يقبل أخبار النساء في الدِّين إلا أخبار عائشة وأُم سلمة رضي الله عنه.

وغلطه الروياني بأنَّ الحنفية لا يَعرفون هذا النقل، ولكان يَلْزَم أنْ لا يُقبل قولهن في الفتوى، قال أبو زيد الدبوسي: رواية النساء مقبولة؛ لأنهن فوق الأعمى.

نعم، ظاهر كلام الروياني الاتفاق على قبولها في الفتوى، وفيه نظر، ففي تعليق ابن أبي هريرة حكاية وجهين فيه، ولا يَبعُد جريانهما في روايتها، وسيأتي في التراجيح خلاف في رُجحان رواية الرجُل عليها.

ومنه: الحرية لا تُشترط، فتُقبل رواية العبد. قال إلْكِيَا: بلا خلاف.

ومنه: لا يُشترط أن يكون فقيهًا عند الأكثرين، سواء خالفت روايته للقياس أو لا، خلافًا لابن أبان، فلذلك يردُّ حديث المصراة، وتابعه أكثر متأخِّري الحنفية كالدبوسي، لكن الكرخي وأتباعه لم يشترطوا ذلك، قال صاحب "التحقيق" منهم: وقد عمل أصحابنا بحديث أبي هريرة: "إذا أكل أو شرب ناسيًا"

(2)

وإنْ كان مخالفًا للقياس حتى قال أبو حنفية: لولا الرواية لقلتُ بالقياس. قال: ولم يُنقَل عن أحد من السلف اشتراط الفقه في الراوي؛ فثبت أنه قولٌ مُحْدَثٌ.

(1)

الحاوي الكبير (16/ 89).

(2)

صحيح البخاري (1831)، صحيح مسلم (رقم: 1155) بلفظ: (من نَسِيَ وهو صَائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ).

ص: 635

قلتُ: وكل هذا بِناء على أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن فقيهًا، والصواب خلافُه، فقد كان من فقهاء الصحابة، وقد أَفْرَد الشيخ تقي الدين السبكي جُزءًا في فتاويه

(1)

.

وما أحسن ما قاله شارح "البزدوي": (بل كان فقيهًا، ولم يُعْدَم شيئًا مِن آلات الاجتهاد وكان يُفتي في زمن الصحابة، وما كان يُفتي في ذلك الزمان إلَّا مجتهد، وقد انتشر عنه معظم الشريعة، فلا وَجْه لِرَدِّ حديثه بالقياس)

(2)

. انتهى

ومنه: لا يُشترط أن يكون عالِمًا بالعربية، ولا أن يكون عالمًا بمعنى ما رواه، كالأعجمي؛ لأنَّ جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه الحديث؛ ولهذا يمكنه حفظ القرآن وإنْ لم يَعرف معناه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"فَرُبَّ مُبَلِّغ أَوْعَى مِن سامِع"

(3)

.

ولا يُشترط أيضًا أن يكون مُعتنيًا بشأن علوم الحديث كما جزم به إلْكِيا الطبري وغيره وإنْ رجح عليه رواية مَن اعتنى بالروايات.

ولا يُشترط كوْنه أجنبيًّا، فلو روى خبرًا ينفع به نفسه أو ولده، قُبِل؛ لأنَّ نفْعه لا يختص به ولا بزمن حياته.

ولا يُشترط أن يكون لفظُه: "سمعتُ" و"أخبرنا"، خلافًا للظاهرية.

ولا يُشترط أن يحلف على روايته، وعن علي رضي الله عنه أنه كان يذهب إلى تحليف الراوي على روايته. وحكاه الأستاذ أبو إسحاق أيضًا.

ومنه: هل يُشترط في الراوي العَدد؟ عن الجبائي اشتراطه بأن يروي اثنان عن اثنين حتى ينتهي إلى المخبَر عنه؟ اعتبارًا بالشهادة. ونقل عنه القاضي أبو الطيب أنه زعم أنه مذهب

(1)

جاء في هامش (ز): أيْ: في فتاوى أبي هريرة.

(2)

كشف الأسرار (2/ 559)، الناشر: دار الكتب العلمية.

(3)

صحيح البخاري (رقم: 1654)، صحيح مسلم (1679).

ص: 636

الصدِّيق وعُمر رضي الله عنهما؛ لطلبهما الزيادة في الرواية، ولكن ما رُوي مِن ذلك [كله]

(1)

محمول على الاستظهار والتأكيد، لا أنَّ ذلك شرط.

وردَّ عليه إلْكِيا الطبري بأنه يلزم منه الخروج عن الحصر كما في تضعيف أعداد بيوت الشطرنج، وبأنَّ الفَرق بينه وبين الشهادة [الاتهام]

(2)

؛ لتعلُّق الشهادة بخصوص كما فرق بينهما في أحكام كثيرة.

على أنَّ الجبائي قد نَقل عنه اشتراط أنْ يعضده ظاهر، يَقُوم ذلك العاضد مقام راوٍ آخَر.

ومما ينبغي أنْ يُستفاد أنَّ الحاكم نَقل أنَّ البخاري اشترط في صحيحه رواية عَدْلَين عن عَدْلين.

وخَطَّأه في ذلك ابن الجوزي وغيره، ولو صح لكان احتياطًا من البخاري، لا شرطاً.

وفي "البحر" للروياني و"جامع الأصول" لابن الأثير أنَّ بعضهم اشترط أربعة عن أربعة إلى أن ينتهي.

وقال الأستاذ أبو منصور: منهم مَن اعتبر ثلاثة عن ثلاثة، ومنهم من اعتبر خمسة، ومنهم من اعتبر سبعة، ومنهم من اعتبر عشرين، ومنهم من اعتبر سبعين، وكل هذا غريب، إنما ذكر بعض ذلك في شروط عدد التواتر، لا الآحاد.

ومنهم مَن شرط في الخبر غير هذا مما يَطُول ذِكره، وفيما ذُكِر كفاية في هذا المختصر، والله أعلم.

(1)

في (ز): كأنه.

(2)

في (ز): الاتهام. وفي (ص، ت، ض): الإبهام. وفي (ق، ظ): الايهام.

ص: 637

تنبيه:

326 -

تَحَقُّقُ الشُّرُوطِ فِيهِ مُعْتَبَر

فَلَيْسَ يُقْبَلُ الَّذِي قَدِ اسْتَتَرْ

327 -

في بَاطِنٍ أَؤ ظَاهِرٍ، وَمَنْ جُهِلْ

بِعَيْيهِ فَذَاكَ أَيْضًا مَا قُبِلْ

الشرح:

لَمَّا ذكرتُ شروط الراوي الثلاثة نَبهتُ بهذا التنبيه على أنه لا بُد من تحقُّق وجود الثلاثة. فما لا يتحقق فيه اجتماعُها، لا يكون حُجة، ويتضح ذلك بمسائل:

إحداها: أنَّ المستور هل يُقبل؟ والمراد به المجهول، وهو على ثلاثة أقسام: مجهول العدالة في الباطن دُون الظاهر، ومجهول العدالة باطنًا وظاهرًا، ومجهول العين.

فالأول: مَن هو عَدْل في الظاهر ولم تُعرف له عدالة في الباطن، وقد فَسَّر الرافعي في "كتاب الصيام" العدالة الباطنة بأنها التي يُرجَع فيها إلى أقوال [المزكِّيين]

(1)

، أي: حيث احتيج إليها، بخلاف مَن لم يحتج فيه لذلك كما سبق، وسبقه إليه الإمام في "النهاية".

والمراد أنه بحيث يحكم الحاكم بشهادته وإنْ لم تقع تزكيته عند الحاكم، وهو مأخوذ من قول الشافعي رضي الله عنه في "اختلاف الحديث" في جواب سؤال أورده: فلا يجوز أنْ يُترك الحكم بشهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر.

فعُلِم من ذلك أنَّ المستور مَن يُترك الحكم بشهادته، أي: بكونه لم يُزكِّه مزكيان، فادِّعاء مُغايرة النَّص المذكور لكلام الرافعي غير مستقيم، وكذا ادِّعاء أن المراد بالعدالة الباطنة أن تقع التزكية عند الحاكم ويحكم بالعدالة.

وقال إمام الحرمين في أصوله: (المستور هو الذي لم يظهر منه ما يقتضي العدالة، ولم يتفق

(1)

في (ز، ش، ق): المركين. وفي سائر النُّسخ: المزكين.

ص: 638

البحث عن باطنه في العدالة)

(1)

.

وفي كلام غيره من الأصوليين -كالقاضي في "التقريب"- أنَّ العدالة الباطنة هي الاستقامة بلزوم أداء أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب مناهيه وما يثْلم مروءته، سواء ثبت عند الحاكم أوْ لا.

وبالجملة فهذا القسم لا يُقبل عند الشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم، وعبارة الشافعي في "اختلاف الحديث": لا يُحْتَج بالمجهول. وكذا قال البيهقي في "المدخل": (إنَّ الشافعي لا يحتج برواية المجهولين)

(2)

.

وجرى على منع القبول الماوردي والروياني وغيرهما من أصحابنا، وجزم به أبو الحسين ابن القطان ونقله إلْكِيا عن الأكثرين.

ونقله شمس الأئمة عن محمد بن الحسن، وقال:(نصَّ في كتاب "الاستحسان" على أن خبر المستور كخبر الفاسق)

(3)

.

وذهب أبو حنيفة إلى قبوله؛ اكتفاءً بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرًا، ووافقه من أصحابنا ابن فورك كما نقله المازري في "شرح البرهان" وسليم في كتاب "التقريب" له.

وعزاه قوم للشافعي، تَوَهَّموه مِن نَصِّه على انعقاد النكاح بالمستورين، وهو غلط؛ فالفَرق بينهما أن المقصود حضور شاهدين ولو كانا يُعدلان عند الاحتياج إليهما، وأما غير النكاح فيقضى بذلك، وفرق بين القضاء بالمستور والانعقاد به؛ ولهذا عند التجاحد في النكاح لا

(1)

البرهان في أصول الفقه (1/ 396).

(2)

قال الإمام البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى، ص 93).

(وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى ألهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ خَبَرِ الْمَجْهُولِينَ حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ أَحْوَالِهمْ مَا يُوجِبُ قَبُولَ أَخْبَارِهِمْ).

(3)

أصول السرخسي (1/ 370).

ص: 639

يُقضى إلَّا بِعَدْلَين.

وقال ابن الصلاح: (إنَّ الاحتجاج به قول بعض الشافعية، وبه قطع سليم، قال: لأنَّ أَمْر الإخبار مبني على حُسن الظن بالراوي، ولأنَّ رواية الأخبار تكون عند مَن يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن؛ فاقتُصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. وتُفارق الشهادة؛ فإنها تكون عند الحكام ولا يتعذر ذلك عليهم؛ فاعتُبر فيها العدالة ظاهرًا وباطنًا)

(1)

.

قال الشيخ: (ويُشبه أن يكون العمل على هذا في كثير من كُتب الحديث في جماعة من الرواة تَقَادَم العهد بهم وتعذَّرت خِبْرتهم باطنًا).

وصححه المحب الطبري أيضًا.

وقال النووي في "شرح مسلم" في المقدمة: (احتج به كثيرون من المحققين).

وحكى الرافعي في "الصوم" فيه وجهين من غير ترجيح.

وقال في "شرح المهذب": الأصح القبول.

وفي المسألة مذهب ثالث قاله أبو زيد الدبوسي في "التقويم"

(2)

: إنَّ المجهول إن نقل عنه السلف وسكتوا عن رَده، عُمِلَ به ما لم يخالف القياس.

تنبيهات

أحدها: ذكر صاحب "البديع" وغيره من الحنفية أنَّ أبا حنيفة إنما قَبِلَ ذلك في صدْر الإسلام حيث الغالب على الناس العدالة، فأمَّا اليوم فلا بُد من التزكية؛ لِغَلبة الفِسق.

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 112).

(2)

تقويم الأدلة (ص 182).

ص: 640

ومن هذا ما استقرئ في كتاب "الثقات" لابن حبان أن يُوَثق مَن كان في الطبقة المتقدمة من التابعين.

الثاني: قال إمام الحرمين: (إنَّ رواية المستور موقوفة إلى استبانة حاله، فلو كُنا على اعتقاد في حِل شيءٍ فروى لنا مستور تحريمه فالذي أراه وجوب الانكفاف عمَّا كنا نستحله إلي تمام البحث عن حال الراوي).

قال: (وليس ذلك حُكمًا بالحظر المترتب على الرواية، وإنما هو توقُّف في الأمر، والتوقف في الإباحة يتضمن الإحجام، وهو في معنى الحظر، فهو إذًا حظر مأخوذ من قاعدة في الشريعة ممهدة، وهي: التوقف عند عدم بدُوِّ ظواهر الأمور إلى استبانتها، فإذا ثبتت العدالة فالحكم بالرواية إذْ ذاك)

(1)

. انتهى

ولا ينافي ما سبق مِن رَد المستور، فإنَّ المراد أنَّا لا نعمل به في الحال، ولكن لا نتركه أصلًا، بل نبحث عنه.

نعم، قوله:(لو كنا على اعتقاد في حِل شيء) إلى آخِره -زَعَم [ابن الأنباري]

(2)

أنه إجماع.

ورُدَّ: بأنَّ الإجماع لا يُعْرف، وبأنَّ المتجه أنه إنْ روى تحريمًا مخالِفًا للبراءة الأصلية فله اتجاه.

أما إذا كان الحِل مستندًا لدليل شرعي فلا وَجْه للإحجام؛ لأنَّ اليقين لا يُرْفع بالشك؛ ولهذا صححوا فيمن قال: (إنْ كنتِ حاملًا، فأنتِ طالق) أنه لا يحرُم وطؤها حتى يظهر الحمل.

(1)

البرهان في أصول الفقه (1/ 397).

(2)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب أنه: الأبياري. وكلام الأبياري في كتابه (التحقيق والبيان في شرح البرهان، ص 681).

ص: 641

الثالث: قيل: مثال رواية المستور ما رُوي عن أبي سهل عن مُسة -بضم الميم وتشديد السين المهملة- الأزدية، عن أُم سلمة: "كانت النُّفساء تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً، وكُنا نطلي على وجوهنا الورس. [تعني]

(1)

من الكلف"

(2)

.

قال القاضي أبو الطيب: أبو سهل ومُسَّه مجهولان.

لكن الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: لا نعرفه إلَّا من حديث أبي سهل عن مُسة الأزدية. قال: (وقال محمد بن إسماعيل: أبو سهل ثقة).

واسمه كثير بن زياد، وهو ثقة.

وقال الخطابب: حديث مُسة أثنى عليه محمد بن إسماعيل. ثم ذكر ما سبق.

قيل: ومن أمثلته حديث عبد الرحمن بن وَعْلة المصري عن ابن عباس أنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّما إهاب دُبغ فَقَدْ طَهُر"

(3)

. فقد قال أحمد: ومَن هو ابن وَعْلة؟

إلا أنَّ غير أحمد عرفه ووثَّقه، فقد روى عنه زيد بن أسلم ويحيى بن سعيد وغيرهما، ووثَّقه ابن مَعين والعجلي والنسائي، وروى له مسلم والأربعة.

الرابع: ما جرينا عليه -مِن كَون العدالة شرطًا فلا بُد مِن تحقُّقها- أَجْوَد مِن قول ابن الحاجب والبيضاوي وغيرهما: إنَّ الفِسق مانع، وإنه لا بُد مِن تحقُّقه. فجمعوا بين متنافيين؛ لأنَ جَعْله مانعًا يقتضي الاكتفاء بأنَّ الأصل عدمه، لا تَحقُّق عدمه؛ لأنَّ هذا شأن الموانع،

(1)

ليس في (ز).

(2)

سنن أبي داود (رقم: 311)، سنن الترمذي (139)، سنن ابن ماجه (648) وغيرها. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن أبي داود: 311).

(3)

سنن الترمذي (رقم: 1728)، وقال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1728).

ورواية صحيح مسلم (رقم: 366) بلفظ: (إذا دُبغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ).

ص: 642

فجَعْل عدم المانع شرطًا غيرُ مستقيم، فتأمله.

قولي: (أَوْ ظَاهِرٍ) إشارة إلى المسألة الثانية، وهي "مجهول العدالة ظاهرًا وباطناً"، وقد عُلم مِن ذِكر جهالته ظاهرًا أنه مجهول باطنًا، بخلاف العكس وهو القِسم الذي بدأتُ به.

والحاصل أنَّ المجهول ظاهراً وباطناً (أي: وهو معروف العَيْن برواية عَدْلين عنه) لا تُقبل روايته.

قال بعضهم: بالإجماع. وجرى عليه في "جمع الجوامع".

وهو مردود بحكاية ابن الصلاح فيه عن الجماهير أنه لا يُقبَل.

وعن أبي حنيفة أنه يُقبَل.

وحكى غيره ثالثًا: إنْ كان الراوي عنه لا يروي إلَّا عن عَدْل، قُبِل، وإلَّا فلا.

وهذا القول لا حقيقة له؛ لِمَا سبق أنَّ مثل ذلك تعديل، فهو عَدْل، لا مستور.

قولي: (وَمَنْ جُهِلْ بِعَيْيهِ) إلى آخِره -إشارة إلى المسألة الثالثة، وهي "مجهول العين".

قال المحدثون: مَن لم يَرْوِ عنه إلا راوٍ واحد. ومثَّله الخطيب بجبار الطائي وعبد الله بن أغر الهمداني والهيثم بن حنش ومالك بن أعز وسعيد بن ذي حدان، لم يَرْوِ عنهم غير أبي إسحاق السبيعي.

وذَكر أمثلة أخرى عليه في بعضها نقد.

فهذا القسم ظاهر ما في "جمع الجوامع" فيه الاتفاق على عدم القبول، وصرَّح مُصَنِّفه بذلك في غيره، وليس كذلك؛ فقد حَكى ابن الصلاح وغيره الخلاف فيه.

وحاصل الأقوال فيه خمسة:

أحدها: وهو الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يُقبَل

ص: 643

مطلقاً.

وثانيها: يُقبَل مطلقًا، وذلك هو رأي مَن لم يشترط في الراوي غير الإسلام.

وثالثها: إنْ كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلَّا عن عدل -كابن مهدي ويحيى بن سعيد- واكتفينا في التعديل بواحد، قُبِل، وإلَّا فلا.

رابعها: إنْ كان مشهورًا في غير العِلم بالزهد أو النجدة (أي: القوة) في الدِّين، قُبِل، وإلا فلا. وهو قول ابن عبد البر.

وخامسها: إنْ زكَّاه أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه، قُبِل، وإلا فلا. وهو اختيار أبي الحسين بن القطان في كتاب "بيان الوهم والإيهام".

قال أبو العباس

(1)

: (التحقيق أنه متى عُرفت عدالة الرجُل، قُبل خبرُه، سواء روى عنه واحد أو أكثر، وعلى هذا كان الحال في العصر الأول من الصحابة وتابعيهم إلى أن [تنطَّع]

(2)

المحدثون). انتهى

وتعقب ابن الصلاح على الخطيب بأنَّ البخاري قد روى عن مرداس الأسلمي ولم يَرْو عنه غير ابن أبي حازم.

واعتُرض بأنه رَوى عنه أيضًا زياد بن علاقة.

ونحو ذلك ما قال الحاكم في النوع السابع والأربعين: إنَّ مسلمًا روى عن ربيعة بن كعب الأسلمي، ولم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن.

(1)

قال الزركشي في كتابه (النكت على مقدمة ابن الصلاح، 3/ 384): (قال أبو العباس القرطبي: الحق أنه متى عرفت عدالة الراوي قُبِل خبره .. ). الناشر: أضواء السلف، تحقيق: زين العابدين محمد.

(2)

كذا في (ز، ق، ش). لكن في (ص، ض): ينقطع. في (ظ، ت): انقطع.

ص: 644

واعتُرض بأنه قد روى عنه محمد بن عمرو بن عطاء وأبو عمران الجوني ونعيم المجمر وحنظلة بن علي، وأيضًا فمرداس وربيعة صحابيان، وكُلهم عدولٌ.

فائدة: عند المحدثين مِن أقسام المستور أيضًا مَن عُرف -بذكره في الجملة- عَيْنُه وعدالته ولكن جُهل تعيينه، كإيهام الصحابي، وكقول الراوي:(أخبرني فلان أو فلان) والفَرْض أنهما عَدْلان، فهذا لا يضر. أمَّا لو جُهِلت عدالة أحدهما أو قال:(أخبرني فلان أو غيرُه)، فلا يُحتج به حينئذ، والله أعلم.

ص:

328 -

فَإنْ يَكُنْ مِثْلُ الْإمَامِ الشَّافِعِي

وَصَفَهُ بِـ "ثِقَةٍ" فَتَابِعِ

الشرح:

أي: إذا قال الشافعي رضي الله عنه أو غيره: (أخبرنا الثقة) أو نحو ذلك، فهل الستر فيه باقي لكونه غير معيَّن؟ أو أنه زال بوصفه فيكون كإبهام الصحابي أو أحد العَدْلَين فلا يضر كما سبق ويسميه بعضهم "التعديل المبهم"؟ فيه مذاهب:

أحدها: لا يحتج به. وبه جزم القفال الشاشي والخطيب والصيرفي والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ والماوردي، والروياني قال: وهو كالمرسل. وصححه ابن الصباغ، قال: لأنه ربما لو سماه كان ممن جرحه غيرُه.

بل قال الخطيب: لو صرح بأنَّ جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يُسمه، لا يُعمل به.

قال: (نعم، لو قال العالم:"كل مَن أَروي عنه وأُسميه فهو عَدْلٌ رضى مقبولُ الحديث "،

ص: 645

كان ذلك تعديلاً لكل مَن رَوى عنه وسماه كما سبق)

(1)

.

والثاني: يحتج بذلك مطلقًا؛ لما سبق مِن أن إبهام العدل لا يضر، ونقله ابن الصلاح عن أبي حنيفة.

والثالث: التفصيل بين أن يُعرف مِن عادته إذا أَطْلَق ذلك أن يعني به معيَّناً وهو معروف بأنه ثقة، فَيُقبل، وإلَّا فلا. حكاه شارح "اللمع" اليماني عن صاحب "الإرشاد".

الرابع: وهو الصحيح المختار الذي قطع به إمام الحرمين وجرَيتُ عليه في النَّظم، ونقله ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين أنه إنْ كان القائل لذلك من أئمة الشأن العارفين بما يشترطه هو وخصومه في العدل وقد ذَكَره في مقام الاحتجاج، فيُقبل؛ لأن مِثل هؤلاء لا يُطْلِق في مقام الاحتجاج إلا في موضع يأمَن أن يخالَف فيمن أطلق عليه أنه ثقة.

وإنما أهملتُ في النَّظم ذِكر كوْنه في مقام الاحتجاج؛ لأن هؤلاء الأئمة إنما يذكرون ذلك في مقام الاحتجاج، بخلاف المحدِّث الذي عنايته برواية الحديث فقط.

تنبيهات

أحدها: عاب بعض المتعنتين على الشافعي مثل ذلك، قال: لأنه مُشعر بسوء الحفظ، وأيضًا فهو ضرب من الإرسال، والمرسل عنده غير حجة.

والجواب عن الأول: أنَّ الإمام الحافظ قد يعتريه شك في التعيين مع عدم شَكِّه في عدالته، فيتورع عن التعيين؛ احتياطًا، وقد فعل ذلك الأئمة، فروى مالك في "الموطأ" في باب الزكاة عن الثقة عنده عن سليمان بن يسار.

(1)

الكفاية في علم الرواية (ص 92).

ص: 646

وعن الثاني: بأنه قد استُقرئ عليه أنه لم يُبْهِم ذِكر الراوي إلا في حديث معروفٍ عند أهل الحديث براوٍ معلوم الاسم والعدالة، فلا يضره تركُه تسمية الشيخ.

قال الرافعي في "شرح المسند": (ولك أن تقول: المحتاج للوضوء إذا قال له مَن يَعرفه بالعدالة: "هذا الماء نجس بسبب كذا"، يَلْزَمه قبوله. ولو قال له مَن هو مِن أهل التعديل: "أخبرني عدلٌ بذلك"، ولم يُسَم، فيشبه أن الحكم كذلك). انتهى

وهذا الجزم مؤيد لِمَا قُلناه، ويؤيد ذلك أنَّ الحديث إذا رُوي عن رجل من الصحابة، يُحتج به ولا يُعَد مرسلًا وإنْ لم يكن الصحابي معيَّنًا كما سبق؛ للعِلم بعدالة الكل.

الثاني: إذا قال: (أخبَرني مَن لا أتهم) كما يقع في كلام الشافعي- رحمه الله كثيرًا، كان دُون:(أخبرني الثقة). فقال الحافظ الذهبي: ليس مِثله فيما سبق؛ لأنه نفَى التهمة ولم يتعرض لإتقانه ولا لكونه حجة.

ورجَّح غيره أنه مِثله؛ لأنَّ ذلك إذا وقع مِن مِثل الشافعي في الاحتجاج، فإنما يريد به ما يريد بقوله: ثقة.

على أنَّ الذهبي قد سُبق بذلك مِن فحول أصحابنا، ففي كتاب "الدلائل والأعلام" للصيرفي: إذا قال المحدث: "حدثني الثقة عندي" و"حدثني مَن لا أتهم"، لم يكن حجة؛ لأنَّ الثقة عنده قد لا يكون ثقة عندي. وذكر نحوه الماوردي والروياني في القضاء.

فاقتصار السبكي في "جمع الجوامع" على الذهبي قصورٌ، إلا أنْ يريد أنَّ الذهبي يفرق بين "ثقة" و"لا أتهم" وهؤلاء يخالفون فيهما معًا كما أوضحناه عند حكاية المذاهب.

نعم، قول الصيرفي:(حدثني الثقة عندي) يقتضي التصوير [بِقَيد]

(1)

"عندي"، حتى لو قال:(الثقة) وأَطْلَق، لا يكون كذلك.

(1)

في (ز): بثقة.

ص: 647

الثالث: قال ابن الصباغ في "العدة": إنَّ الشافعي إنما يُطْلق ذلك في ذِكره لأصحابه أنَّ الحجة عنده على هذا الحكم، لا في مقام الاحتجاج به على غيره. وكذا قال القاضي أبو الطيب، قال: وقيل: إنه كان قد أَعْلَم أصحابه بذلك؛ ولهذا قيل في بعضهم: إنه أحمد، وفي بعضهم: يحيى بن حسان، وفي بعضهم: ابن أبي فديك وسعيد بن سالم القداح، وغيرهم.

وقال الماوردي والروياني: (اشتهر عنه أنه يعني به إبراهيم بن إسماعيل)

(1)

.

وقال ابن برهان: قيل: إنه كان يريد به مالكًا، وقيل: مسلم بن خالد الزنجي، إلا أنه كان يرى القدَر، فاحترز عن التصريح بِاسْمه؛ لهذا المعنى.

وقال أبو حاتم بن حبان: إذا قال الشافعي: "أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب" فهو ابن أبي فديك، أو:"عن الليث" فهو يحيى بن حسان، أو:"عن الوليد بن كثير" فهو [أبو أسامة، أو: "عن الأوزاعي" فهو]

(2)

عمرو بن أبي سلمة، أو:"عن ابن جريج" فهو مسلم بن خالد الزنجي، أو:"عن صالح مولى التَّوْأَمَة" فهو إبراهيم بن أبي يحيى.

وأمَّا مالك فقال بعضهم: إذا قال: (عن الثقة -عنده- عن بكير بن عبد الله ابن الأشج)، فهو مخرمة بن بكير، أو:(عن عمرو بن شعيب) فقيل: عبد الله بن وهب، وقيل: الزهري.

وفي "المعرفة" للبيهقي

(3)

في "باب الاستسقاء" عن الربيع: إذا قال الشافعي: (أخبرنا الثقة) فهو يحيى بن حسان، وإذا قال:(مَن لا أتهم) فهو إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال:(بعض الناس) فهو يريد أهل العراق، وإذا قال:(بعض أصحابنا) فيريد أهل الحجاز.

(1)

الحاوي الكبير (16/ 93).

(2)

تصحيح مِن هامش (ت)، وهذه العبارة مُثْبَتة في بعض كُتب المصطلح التي نَقَلَت هذا النَّص.

(3)

معرفة السنن والآثار (3/ 114 - 115).

ص: 648

ثم قال الحاكم: إنَّ الربيع إنما ذكر الغالب، فإنَّ أكثر ما رواه الشافعي عن الثقة هو يحيى ابن حسان، وقد قال في كُتبه:(أخبرنا الثقة)، وهو يريد به غير يحيى بن حسان.

قال البيهقي: (وقد فصَّل ذلك شيخنا الحاكم تفصيلًا على غالب الظن، فقال بعض ما قال:"أخبرنا الثقة" إنه أراد إسماعيل بن عُلية، [وفي بعضها أراد أسامة]

(1)

، وفي بعضها عبد العزيز بن محمد، وفي بعضها هشام بن يوسف الصنعاني، وفي بعضها أحمد بن حنبل، أو غيره من أصحابه، ولا يكاد يُعْرف ذلك باليقين، إلَّا أن يكون قيَّد كلامه في موضع آخَر)

(2)

. انتهى

وإنما أطلتُ في هذا لاحتياج الشافعية لمثله، والله أعلم.

ص:

329 -

وَلَيْسَ يُحْتَجُّ بِمَا قَدِ انْقَطَعْ

سَنَدُهُ؛ لِجَهْلِ مَنْ [مِنْهُ]

(3)

ارْتَفَعْ

الشرح:

أي: إذا عُرف أنه لا بُد من تحقُّق شروط الراوي فالحديث المنقطع -الذي قد سقط منه الراوي- ليس بحجة؛ للجهل بحاله.

والانقطاع في سند الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربان: أحدهما: سقوط راوٍ فأكثر ممن هو دون الصحابي.

والثاني: سقوط الصحابي.

(1)

ليس في (ص).

(2)

معرفة السنن والآثار (3/ 115).

(3)

في (ن 1، ن 3، ن 4): فيه.

ص: 649

فالأول هو المسمَّى في اصطلاح المحدثين على ما قاله الحاكم بِـ "المنقطع" إما الحديث أو الإسناد على ما يوجد في كلامهم مِن الإطلاقين، إذْ مرةً يقولون في الحديث:(منقطع)، ومرة في الإسناد:(منقطع).

فالمنقطع بهذا الاعتبار أخص مِن مطلق المنقطع المقابل للمتصل الذي هو مورد التقسيم في قولي: (بِمَا قَدِ انْقَطَعْ سَنَدُهُ). فما كان فيه راوٍ لم يسمع ممن فوقه سواء أكان الساقط واحدًا أو أكثر إذا كانت الطبقة واحدة.

فإنْ كان الساقط أكثر من واحد باعتبار طبقتين فصاعدًا إن كان في موضع واحد، سُمي "مُعضَلًا". وإن كان في موضعين، سُمي "منقطعًا" من موضعين، كحديث عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيع -بضم المثناه تحت وفتح المثلثة بعدها ثم ياء التصغير والعين [المهملة]

(1)

- عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ وَلَّيتموها أبا بكر، فقوِي أمين"

(2)

. فإنَّ صورته متصل، ولكن سقط بين عبد الرزاق وسفيان: ابنُ أبي شيبة الجنَدي (نِسبة إلى الجنَد -بفتح الجيم والنون- مدينة باليمن)، وسقط بين الثوري وأبي إسحاق: شريك.

أما ما فيه راوٍ مُبْهَم (كحديث أبي العلاء بن عبد الله بن الشخير، عن رجُلين، عن شداد ابن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في الصلاة:"اللهم إني أسألك الثبات في الأمر"

(3)

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): مهملة.

(2)

المستدرك على الصحيحين (رقم: 4685) بلفظ: (إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا .. وإن وليتموها عمر فقوي أمين)، معرفة علوم الحديث (ص 28).

(3)

مصنف ابن أبي شيبة (29358)، سنن الترمذي (رقم: 3407) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 3407).

ص: 650

الحديث) فمنهم مَن يسميه أيضًا "منقطعًا"؛ لأنَّ مَن لا يُعْلم كالمتروك، لكن المختار أنه يُسمى متصلاً في إسناده لمجهول، والمثال المذكور نقله ابن الصلاح عن الحاكم.

والذي قاله الحاكم: إنما هو عن رجُل -بالإفراد- عن شداد.

وكذا رواه الترمذي والنسائي عن رجُل من حنظلة. وقال بعضهم في تفسيره: يشبه أنْ يكون هو المُطلب بن عبد الله الحنظلي.

لكن قال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني رحمه الله في كتابه "محاسن الاصطلاح" إنه وجَدَه في أصلٍ مِن "علوم الحديث" للحاكم مسموع بلفظ: "رجُلين" كما أورده ابن الصلاح.

وجعل من ذلك أيضًا إمام الحرمين ما لو قال: أخبرني عدل.

واعْلَم أنَّ وراء ما ذكرناه مذاهب في "المنقطع" و"المعضل" مبسوطة في علوم الحديث، لا نطول بها، وإنما الغرض هنا أنَّ هذه الأقسام لا يُحتج بها بأيِّ اسمٍ سُميت، والله أعلم.

ص:

330 -

وَلَوْ يَكُونُ سَاقِطًا صَحَابِيْ

في ظَاهِرٍ فَقَدْ يُزَادُ رَابِي

331 -

وَذَا يُسَمَّى "مُرْسَلًا"، وَرُبَّمَا

جَافي الْأُصُولِ رَسْمُهُ مُعَمَّمَا

الشرح:

هذا بيان الضرب الثاني مما لم يتصل فيه الإسناد؛ لسقوط الصحابي الراوي له عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المسمَّى بِـ "المُرْسَل"، بأْن يقول التابعي:(قال رسول- صلى الله عليه وسلم -كذا)، أو:(فعل كذا)، أو نحو ذلك من وجوه السُّنة السابق بيانها، سواء أكان:

- من كبار التابعين، وهو مَن لقي جماعة كثيرة من الصحابة، كعبيد الله بن عدي بن الخيار، حتى أنَّ ابن عبد البر وابن حبان وابن منده عَدّوه صحابيًّا؛ لكونه وُلد في حياته صلى الله عليه وسلم -

ص: 651

على مذهبهم في ذلك كما سبق. وكسعيد بن المسيب، وعلقمة بن قيس النخعي الإمام فقيه العراق وهو قد وُلد في حياته صلى الله عليه وسلم، وكأبي مسلم الخولاني الذي يُقال له: حكيم هذه الأُمة، ومسروق وكعب الأحبار وأشباههم.

- أو من صغارهم، وهو مَن لم يَلْقَ من الصحابة إلا الواحد [أو]

(1)

الاثنين أو نحو ذلك، نحو يحيى بن سعيد الأنصاري وأبي حازم ومحمد بن شهاب الزهري كما قال ابن الصلاح وإنِ انتقد عليه بأنه قد لقي عشرة من الصحابة وأكثر كما بُسِط في محله حتى عَدَّه الحاكم من كبار التابعين.

وأُجيبَ عنه بأنَّ مراده بالواحد والاثنين ذلك ونحوه إلى العشرة وفوقها بقليل، فيكون هذا كالتمثيل.

ولا يخفى ضعف الجواب، وأجود منه أنَّ مراده أنْ يلقَى الواحد أو الاثنين مع انضمام أن يكثر من الرواية عنه، والزهري إنما وقع له ذلك في الواحد والاثنين ونحوهما وإنْ رأى مِن الصحابة كثيرًا.

وعلى هذا فَعُدَّ نحو كثير بن العباس وأبي إدريس الخولاني، قال أبو داود في "سؤالات الآجُرِّي": سمعت أحمد بن صالح يقول: إنهم يقولون: إنَّ مولد الزهري سنة خمسين.

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عبد الله، عن الزهري قال: وفدتُ إلى مروان ابن الحكم وأنا محتلم.

ونقل ابن عبد البر عن قوم أن ما كان من قول صغار التابعين في ذلك ليس مرسَلًا، بل يسمَّى "منقطعًا" أيضًا؛ لكثرة الوساطة؛ لِغَلبة روايتهم عن التابعين، فيصير كمَن دُون التابعين في ذلك.

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): و.

ص: 652

لكن المشهور -كما قال ابن الصلاح وغيره- التسوية بين التابعين في اسم "الإرسال" وإنْ تَغَايَرَا في حُكم الاحتجاج على قول الشافعي كما سيأتي.

فقولي: (وَلَوْ يَكُونُ سَاقِطًا صَحَابِيْ) اسم كان مُؤخَّر وهو "صَحَابِيْ"؛ لأنه وإنْ كان بمِرة إلَّا أنه في سياق الشرط؛ فيقتضي العموم، وذلك من مُسَوِّغات الابتداء بالنكرة.

وقولي: (في ظَاهِرٍ فَقَدْ يُزَادُ رَابِيْ) أي: زائدٌ على الصحابي، مِن "ربَا يربو": إذا زاد. وإذا احتمل سقوط غير الصحابي ممن يحتمل أن لا يكون عدلًا، فلم تتحقق عدالة الراوي. وكوْن الساقط هو الصحابي فقط إنما هو بحسب الظاهر، ويحتمل أكثر كما بينَّاه.

وقولي: (وَذَا يُسَمَّى "مُرْسَلًا") أي: باتفاق في التابعي الكبير، وعلى الراجِح في الصغير.

وقولي: (وَرُبَّمَا جَا في الْأُصُولِ رَسْمُهُ مُعَمَّمَا) إشارة إلى أن ما سبق في تفسير "المرسل" هو الراجح، فإنه قول الاكثرين المشهور الذي قطع به الحاكم وغيره من أهل الحديث، وجرى عليه كثير من الأصوليين.

وربما وُجد في أصول الفقه تفسيره بأعم من سقوط الصحابي وسقوط غيره، وتحته طريقتان:

إحداهما: تسمية ما سقط مِن الإسناد واحد أو أكثر -سواء الصحابب أو غيره- "مرسلًا"، فيتحد مع المسمى بِ "المنقطع" بالمعنى الأعم كما سبق، ويدخل فيه حينئذٍ "المعضل" وهو ما تَعدد فيه الساقط على ما سبق في تفسيره.

قال ابن الصلاح: ففي الفقه وأصوله أن كل ذلك يسمى "مرسلًا".

قال: (وإليه ذهب من أهل الحديث أبو بكر الخطيب وقطع به، إلا أن أكثر ما يوصف بالإرسال من حيث الاستعمال ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما رواه تابِعِيُّ التابعي

ص: 653

عنه فيسمونه " المعضل")

(1)

. انتهى

وعبارة ابن برهان

(2)

: "المرسَل" أن يحذف الراوي واحدًا بينه وبين غيره، كقول التابعي:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "، أو نحو ذلك، وقول واحد من تابعي التابعين:"قال أبو بكر"، ونحن نعلم أنه ما لقيه ولا سمع منه.

وفي "المستصفى" للغزالي نحوه أيضا

(3)

، بل ويوجد مِثله في كلام المحدثين غير الخطيب، فقد نقله النووي في "شرح مسلم" عن جماعة مِن المحدثين.

الطريقة الثانية: أن يقول مَن هو دُون الصحابي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو نحو ذلك، أعم مِن أن يكون تابعيًّا أو دُونه، كما قال ابن الحاجب في تعريفه: هو قول غير الصحابي: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).

فتلخَّص في تفسير "المرسل" أربعة آراء.

وفيه أيضًا خامس: وهو أنه إذا قيل في الإسناد: (فلان، عن رجل)، أو:(عن شيخ، عن فلان) وذلك [غير]

(4)

النبي صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك مما يُذكر فيه الراوي مُبْهمًا.

قال ابن الصلاح: (فالذي ذكره الحاكم في "معرفة علوم الحديث" أنه لا يُسمى "مرسلًا"، بل "منقطعًا" وهو في بعض المصنفات المعتبرة في أصول الفقه معدود من أنواع "المرسَل")

(5)

. انتهى

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 52).

(2)

انظر: الوصول إلى علم الأصول (2/ 178).

(3)

المستصفى (1/ 134).

(4)

في (ص): عن. وفي سائر النُّسخ: غير.

(5)

معرفة أنواع علوم الحديث (ص 53).

ص: 654

قيل: وكأنه يريد ببعض المصنفات المعتبرة "البرهان" لإمام الحرمين، فإنه قال فيه ذلك، قال: وكذا كُتُب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يُسَم حاملها.

وزاد صاحب "المحصول" على ذلك أنَّ الراوي إذا سمَّى الأصل بِاسْم لا يُعرف به فهو كالمرسل.

على أنَّ هذا موجود في كلام أهل الحديث أيضًا، فقد ذكر أبو داود كثيرًا مما أبهم فيه الرجُل في كتاب "المراسيل".

على أنَّ المختار أنه لا يسمَّى "مرسلًا" ولا "منقطعًا"، بل متصلًا في إسناده مجهول كما نقله الحافظ رشيد الدين العطار في "الغُرر" عن الأكثرين.

وقال النووي في "شرح مسلم" في (البيوع) في الرجُل الذي أصابته الجائحة في ثمره: (قال القاضي: قول الراوي: "حدثني غير واحد" أو "حدثني الثقة" أو "حدثني بعض أصحابنا" ليس هو من المقطوع ولا من المرسل ولا من المعضل، بل هو من باب الرواية عن المجهول)

(1)

. انتهى

ومسألة "أخبرني الثقة" سبق ترجيح أن الجهالة فيها زالت بذلك إنْ كان قائله إمامًا معتبرًا.

أما إذا وقع الإبهام في الواسطة بين التابعي والنبي صلى الله عليه وسلم وصرح في ذلك المبهم بأنه صحابي، فليس من "المرسل"؛ لأنَّ الصحابة عدول. وقد نقله الحافظ عبد الكريم في "القدح المعلى" عن أكثر العلماء.

وما وقع في "سنن البيهقي" من جعل ذلك مرسلًا: إن أراد في التسمية مع كونه محتجًّا به كمرسل الصحابة فإنه يُسمى مرسلًا وهو حُجة كما سيأتي، فقريب، وإلا فممنوع؛ فقد

(1)

شرح النووي على صحيح مسلم (10/ 219).

ص: 655

صرح بخلافه البخاريُّ عن الحميدي والأثرمُ عن أحمد.

نعم، فرَّق أبو بكر الصيرفي بين أنْ يُصرح التابعي بسماعه من الصحابي فيمبل؛ لأنهم عدول، أو يقول:(عن رجُل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) فلا يُقبل؛ لاحتمال واسطة بينه وبين الصحابي. وهو حَسَنٌ متجه، وكلامُ مَن أَطْلَق محمولٌ عليه.

قلتُ: "عن" محمولة عندهم على الاتصال كما سيأتي، فلا فرق حينئذٍ، وبتقدير التسليم فالفرق بينه وبين مسألتنا ظاهر، فإنَّ التصريح بأنَّ الواسطة صحابب لا يساويه المحتمل لوساطة غير الصحابي، والله أعلم.

ص:

332 -

نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً مُرْسَلُ مَنْ

لَمْ يَرْوِ إلَّاعَنْ عُدُولٍ تُؤْتَمَنْ

333 -

كَابْنِ الْمُسَيِّبِ، الَّذِي يُرْسِلُهُ

عَنْ صِهْرِهِ أَبِي هُرَيْرَةَ اعْزُهُ

الشرح:

هذا استدراك لإطلاق أنَّ "المرسَل" مِن "المنقطع" الذي لا يُحتج به، وقد حُكي فيه نحو العشرين قولًا، بعضها ضعيف جدًّا وبعضها داخل في الأقوال المشهورة فيه، فلنقتصر في ذلك على خمسة؛ لكونها أقوى، غَيْر ما في مسألة مرسَل الصحابي، فإنها تأتي مِن بعدُ.

أحد الأقوال الخمسة: أنه يحتج به مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأشهر الروايتين عن أحمد، وحكاه في "المحصول" عن الجمهور، ومراده جمهور الأصوليين، واختاره أيضًا الآمدي.

وذكر محمد بن جرير الطبري أنَّ التابعين أجمعوا بأَسْرهم على قبول المراسيل، ولم يأت عن أحدٍ إنكارُه إلى رأس المائتين.

ص: 656

قال ابن عبد البر: (كأنَّ ابن جرير يعني أنَّ الشافعي أول مَن رد المرسل)

(1)

. انتهى

قيل: إنْ صحَّ هذا عن ابن جرير فهو محمول على أنه لم يكن يُعمَل به إلى رأس المائتين حتى يحتاج لإنكار، فلمَّا عُمل به، أنكرَه مَن أنكره، وإلَّا فابن جرير مِن أجلاء الشافعية يَبعُد أن يدَّعي خَرْقَ إمامِهِ الإجماع، وإمامُه أَدْرَى بمواقع الإجماع والاختلاف مِن أمثاله، وهذا مُسْلم وابن عبد البر والخطيب ينقلون رده عن الجماهير كما سيأتي.

قلتُ: الجواب حسن إلَّا كونه لم يكن يُعمل به إلى رأس المائتين، ففيه نظر؛ لأنَّ أبا حنيفة ومالكًا من القائلين بقبوله والعمل به.

قيل: ويحتمل أنَّ مراد ابن جرير مراسيل الصحابة؛ لأنَّ المخالف فيها الأستاذ أبو إسحاق، وهو بعد المائتين.

قلتُ: لكن بكثير، فإنَّ وفاته عاشر المحرم سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فكيف يكون رأس المائتين غايةً لذلك؟ ! إلَّا أن يكون للأستاذ سَلَف في رأس المائتين قال ابن جرير ذلك لِأَجْلهِ.

وغَلَا بعض هؤلاء فزعم أنَّ "المرسَل" أقوى من "المسند" من حيث إنَّ المرسِل له كأنه التزم صحته مِن حيث أَخفَى، بخلاف ما لو صرح. ويحكَى ذلك عن بعض الحنفية، وحكاه صاحب "الواضح" عن أبي يوسف.

والشافعي رضي الله عنه قد أشار إلى رد ذلك، حيث قال -بعد المرسَل الذي اعتضد بما سنذكره عنه حتى صار حُجة -ما نَصه: (ولا نستطيع أن نزعم أنَّ الحجة تثبت [بها ثبوته]

(2)

بالمتصل، وذلك أن معنى المنقطع مغيب يحتمل أن يكون حمل عمن يَكون يُرْغَبُ عن الرواية

(1)

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 4).

(2)

كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الشافعي في (الرسالة، ص 464): به ثبوتها.

ص: 657

عنه إذا سُمِّي) إلى آخِره.

فأشار إلى انحطاطه؛ بما فيه مِن الاحتمال، هذا مع الاعتضاد، فكيف بالمجرد ولو قيل بحجيته؟ ! وإذا لم يُساوه فكيف يكون أقوى؟ !

الثاني: إلرد مطلقًا. قال ابن عبد البر: وهو قول أهل الحديث.

قال ابن الصلاح: (وهو المذهب الذي استقر عليه [آراء جماهير]

(1)

حفاظ الحديث ونقاد الأثر)

(2)

. أي: كما قاله الخطيب في "الكفاية". وبه قال القاضي أبو بكر من الأصوليين.

وفي صدر "صحيح مسلم": ("المرسَل" في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة). وهذا وإنْ قاله مُسْلم على لسان غيره لكنه أَقرَّه.

نعم، ظاهر كلام ابن الصلاح في قوله بالرد إنما هو في غير ما قدمه من "المرسل" المحتج به كما سنذكره عن الشافعي، إلَّا أنه لَمَّا نقل عن مسلم ذلك، ، اقتضى أنَّ مراده الرد مطلقًا، فبَيْن كلامَيْه بعضُ تَنافٍ إنْ لم يُؤوَّل.

الثالث: إنْ كان المرسِل من أئمة النقل، قُبل، وإلَّا فلا. واختاره ابن الحاجب.

الرابع وهو قول عيسى بن أبان: إنْ كان من مراسيل الصحابة والتابعين وتابِعي التابعين ومَن كان مِن أئمة النقل، قُبل، وإلا فلا.

وقد يُدَّعَى اتحاده مع ما قَبْله؛ لأنَّ الظاهر بقوله: (التابعين وتابعي التابعين) مَن هو مِن أئمة النقل منهم، وأما الصحابة فكلهم أئمة النقل. فإنْ أراد عموم التابعين وتابعي التابعين، تَغايرَا، ولكنه بعيد.

(1)

في (ز): رأي.

(2)

معرفة أنواع علوم الحديث (ص 55).

ص: 658

نعم، هُما في الحقيقة راجعان إلى قبول المراسيل مطلقًا، إذِ المراد بأئمة النقل أهل الجرح والتعديل، ومَن ليس كذلك لا يقول أحد بقبول مرسَله، لأنَّ اعتماد القائلين له إنما اعتمدوا على أنَّ تركه تعديلٌ له وإلَّا لَمَا جاز له الجزم بأنَّ المحدَّث عنه صَدَر ذلك منه.

لكن اختار ابن برهان في "وَجِيزِه" قريبًا من ذلك، وهو: مع كوْنه مِن أئمة النقل أنْ يكون مذهبه في الجرح والتعديل موافِقًا لمذهب مَن يريد العمل بمرسَله في ذلك.

الخامس: وهو ما اقتصرتُ عليه في النَّظم؛ لأنَّه مذهب الشافعي الذي نَصَّ عليه، وهو أرجح الأقوال: أنَّ "المرسَل" لا يُحتج به بمجرَّدِه.

ومن ألطَف ما استدل به الشافعي في ذلك وتداوله الناس عنه- كالغزالي وغيره- الإجماع على رد "المرسل" في الشهادة، وأهي،

(1)

أنْ لا يَذكر الشاهد مَن شهد على شهادته. ولم يجعلوا تركَه تعديلًا له؛ أفكذا،

(2)

الرواية؛ إذْ لا فارق بينهما فيما يرجع إلى العدالة.

نعم، إذا انضم إلى "المرسَل" ما يتقوى به، يكون حجة.

فمن ذلك إذا كان المرسِل له ممن عُرف أنه لا يروي إلَّا عن عدلٍ وقد اعتُبِرَت مراسيله فوُجدت مسانيد، كسعيد بن المسيب رضي الله عنه.

لكن هل يحتاج "مُرْسَلُه" إلى انضمام ما يؤكده -كما سيأتي- مِن مُرْسَل غيْره؛ أو لا؛ قال الماوردي في "باب بيع اللحم بالحيوان": (إنَّ القديم

(3)

: يُحتج به؛ لأنه لا يرسِل حديثًا إلَّا ويوجد مُسنَدًا، ولأنه لا يروي إلا عن أكابر الصحابة، وأيضًا فإنَّ مراسيله سُبِرَت

(1)

في (ت): هو.

(2)

في (ز): فكذلك.

(3)

يعني: مذهب الشافعي القديم.

ص: 659

فكانت مأخوذة عن أبي هريرة؛ لِمَا بينهما مِن الوصلة والصهارة

(1)

؛ فصار إرساله كإسناده عنه. ومذهب الشافعي في الجديد أنَ مرسَل سعيد وغيره ليس بحجة، وإنما قال: مرسَل سعيد عندنا حسن بهذه الأمور التي وصفناها)

(2)

.

يشير بذلك إلى العواضد التي قَدَّمها وسيأتي بيانها، قال:(استئناشا بإرساله، واعتمادًا على ما قارَنَه مِن الدليل؛ فيصير "المرسَل" مع ما قارنه حُجة)

(3)

. انتهى

فظاهره أنَّ الجديد الاحتياج للعاضد، وهو خِلاف ما حكاه ابن الصلاح عنه من كونه لا يحتاج بخلاف مرسل غيره.

أنعم،

(4)

، هو ظاهر نَص الشافعي في "الرهن الصغير"، فإنه لَمَّا قيل له: فكيف قَبلتم عن ابن المسيب منقطعًا ولم تقبلوه عن غيره؛ :

(قُلنا: لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعًا إلَّا وُجد ما يدل على [مسنده]

(5)

، ولا نَأْثرُ روى عن أحد فيما عرفناه عنه إلَّا ثقة معروفا، فمَن كان مِثل حاله، قَبلنا منقطعه)

(6)

.

قال: (ورأينا غيره يُسمِّي المجهول ويُسمي مَن رُغبَ عن الرواية عنه، ويرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم ويرسل عمن لم يَلْحَق من الصحابة المستنكَر الذي لا يوجد له شيء [يرده]

(7)

، ففرقنا

(1)

قال الماوردي في (الحاوي الكبير، 5/ 158): (إنَّ سَعِيدًا كَانَ صِهْرَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ابْنَتِهِ).

(2)

الحاوي الكبير (5/ 158).

(3)

الحاوي الكبير (5/ 158).

(4)

كذا في (ز، ق، ظ، ت)، لكن في (ص، ض، ش): بل.

(5)

كذا في (ز، ق، ش). وفي سائر النُّسخ: سنده.

(6)

الأم (3/ 192).

(7)

كذا في جميع النُّسخ. واللفظ في (الأُم، 3/ 188): يسدده.

ص: 660

بينهم؛ لافتراق أحاديثهم، ولم نُحابِ أحدًا، ولكِنَّا قَبِلنا في ذلك بالدلالة البيِّنة على ما وصفنا من صحة روايته)

(1)

. انتهى

ويمكن تأويل هذا النص بأنَّ المراد: قبلتم مرسل سعيد بشرطه، ويكون مراد الشافعي التنبيه على أحد الشروط التي نقلها عنه، وهو أنْ يكون المرسِل للحديث إذا سمَّى لا يُسمِّي إلَّا ثقة، فلا يخالف ما نقله الماوردي عن الجديد.

ولهذا قال البيهقي: (إنَّ لابن المسيب مراسيل لم يَقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها، ومراسيل لغيره قَبِلها حين انضم إليها ما يؤكدها)

(2)

. انتهى

ومنه يُعْلم أنَّ ذلك لا يختص بسعيد كما هو ظاهر نَص "الرهن الصغير" وإنْ زعم الروياني أنه يقتضي اختصاصه بسعيد، وكأنه نَظرَ أول النَّص دُون قوله بعده:(فمَن كان) إلى آخِره.

وبذلك أيضًا يُردُّ على مَن زعم أنَّ الشافعي يحتج بمرسل سعيد والحسن دُون غيرهما.

قلتُ: ولكون مرسَل سعيد لا بُدَّ له من الاعتضاد قال الشافعي في "المختصر" في باب "بيع اللحم بالحيوان" بعد أن روى عن مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان"

(3)

وعن ابن عباس: "أنَّ جزورًا نُحرت على عهد أبي بكر الصديق، فجاء رجل بعناق، فقال: أعطوني جُزءًا بهذا العناق. فقال أبو بكر: لا يصلح

(1)

الأم (3/ 188).

(2)

معرفة السنن والآثار (4/ 445).

(3)

المستدرك على الصحيحين (رقم: 2252)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 10355). قال الألباني: حَسَن. (إرواء الغليل: 1351).

ص: 661

هذا"

(1)

:

(وكان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة وأبو بكر بن عبد الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان). إلى أن قال: (ولا نَعْلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن المسيب عندنا حَسَن)

(2)

. انتهى

نعم، اختلف الأصحاب في قوله:(حسن) على وجهين حكاهما الشيخ أبو إسحاق والبغوي والخطيب في "الكفاية":

أحدهما: معناه: محتج به. وصرح القفال في "شرح التلخيص" بنقله عن النص، فقال: قال الشافعي: مرسَل ابن المسيب عندنا حُجة.

والئاني: معناه: يرجح به وإنْ لم يكن حُجة. وصححه الخطيب.

فإنْ قيل: ما المراد بأنها تُتبعَتْ فَوُجِدَت مسانيد؟

أيْ: تُتبعَتْ كُلها فظهر أن سعيدًا أسندها مِن غيْر هذا الطريق؟

أو: [أنها]

(3)

تُتبعَ غالِبُها فكانت كذلك، فكأنها كلها مُسْنَدة؛ إلحاقًا للأقل بالأغلب؟ أو: تُتبعت فوُجدت كلها مسندة مِن غير طريق سعيد؛ فَحُكِمَ على الكل بذلك؟

فالجواب: أنَّ الظاهر إرادة الثاني؛ إذْ لو أُرِيدَ الأول لكانت مسانيد، لا مراسيل؛ لخروجها عن الإرسال بمجيئها مسندة مِن هذا الوجه؛ ولهذا قال الخطيب: إنَّ [مراسيل سعيد منها]

(4)

ما لم يوجد مسندًا بحال مِن وَجْهٍ يَصِح.

(1)

شرح السنة (8/ 76 - 77)، معرفة السنن والآثار (4/ 316).

(2)

مختصر المزني (ص 78).

(3)

في (ز): انه.

(4)

كذا في (ز، ظ، ض). وفي (ص، ش): من مراسيل سعيد منها. وفي (ق): من مراسيل سعيد.

ص: 662

وهذا غيْر ما سبق عن البيهقي أن بعضها لم يعتضد، فلا يُظَن اتحادهما.

ولو أُريدَ الثالث -وإنْ أَوْهَمه كلام ابن الصلاح- لَمَا احتاجت إلى مُقَوٍّ آخَر، على أنَّ في اعتبار اجتماعه مع المسنَد المقَوِّي إشكال يأتي تقريره وجوابه. ومما يدل على نَفْي إرادة ذلك قول الشافعي: ولا نَعْلمه يَأْثر إلَّا عن الثقات.

على أنه قد اختلف في اختصاص مراسيل سعيد بما ذكر بحسب الواقع وإنْ كان الشافعي قال: إنَّ مَن كان مِثله، يكون كذلك.

فقيل: يختص، وكأنه قال:(إذا قلتُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما أعني أنَّ أبا هريرة أخبرني بذلك). فهو مُسْنَد حُكمًا، ولكنه لَمَّا انحطَّ عن درجة المسنَد الصريح، احتاج إلى المقَوِّي.

وقيل: لا يختص؛ لأنه قد يوجد المعنى المذكور في غيره.

تنبيهات

أحدهما: ما سبق نقلُه عن "نحتصر المزني" من المرسَل في "بيع اللحم بالحيوان" أسنده الترمذيُّ من رواية زيد بن سلمة الساعدي، والبزارُ من رواية ابن عمر، والحاكمُ من حديث الحسن عن سمرة. وقد احتج البخاري بالحسَن عن سمرة، فهذا عاضِد آخَر لمرسَل سعيد زائد على ما في "المختصر".

الثاني: من الفوائد المهمة أنَّ الشافعي قال في "الرسالة" ما نَصه: (وكُل حديث كتبه منقطعًا فقد سمعته متصلًا أو مشهورًا رُويَ عنه بنقل عامة مِن الفقهاء يروونه عن عامة، ولكن كرهتُ وضعَ حديثٍ لا أُتقِنُه حِفظًا، وخفتُ طولَ الكتاب، وغاب عني بعضُ كُتبي)

(1)

. انتهى

(1)

الرسالة (ص 431).

ص: 663

وهو يشمل كل منقطع أورده في كُتبه مرسَلًا أو منقطعًا بغير الإرسال، فيكون متصلًا؛ لِمَا ذكره. وقد انكشف بذلك عن الناظر في كلامه غُمة عظيمة، فلله الحمد.

الثالث: قولي: (الَّذِي يُرْسِلُهُ عَنْ صِهْرِهِ أَبِي هُرَيْرَةَ) إشارة إلى ما سبق نقله عن الماوردي؛ لأنَّ سعيدًا كان زوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه، والمعنى أنه إذا أرسل، فإنما يريد به ما رواه عن أبي هريرة -كما دل عليه الاستقراء- وإنْ كان قد روى عن غيره من الصحابة، فروى عن عمر كما في السُّنن الأربعة، وعن أُبَي وعن أبي ذر وأبي بكر عند ابن ماجه، وروى عن علي وعثمان و [سعد]

(1)

وأبي موسى وشريك وعائشة، وروى أيضًا عن أبيه وغيرهم في الصحيحين وغيرهما، وروى عنه خلائق، وقد كان رأس علماء التابعين وفقيههم، وُلد سنة خمس عشرة، وقيل: سبع عشرة. ومات سنة أربع وتسعين.

فَ "الَّذِي يُرْسِلُهُ" مبتدأ، خبره الجملة الطلبية وهي "اعْزُهُ"، أي: انْسبه، أو مفعول بفعل مُقَدَّر، أي: اعز الذي يُرسله وارْوِه عن صهره. على قاعدة الاشتغال في العربية، بل هذا أرجح؛ لأنَّ الإخبار بالجملة الطلبية قليل، والله تعالى أعلم.

ص:

334 -

وَمَنْ يَكُونُ تَابِعًا كبِيرَا

كَمَا رَآه الشَّافِعِي تَحْرِيرَا

الشرح:

"مَنْ" هذه في موضع خفض عطفًا على "مَنْ" التي أضيف إليها "مُرْسَلُ" في قولي: (نَعَمْ، يَكُونُ حُجَّةً مُرْسَلُ مَنْ). والمراد استثناء هاتين الصورتين من رَد المراسيل:

إحداهما: مرسَل مَن لم يَروِ إلَّا عن العدول، كابن المسيب.

(1)

في (ص): سعيد.

ص: 664

والثانية: مَن يروي عن العدول وغيرهم ولكنه تابعي كبير، فإنَّ الغالب في مِثله أنْ لا يروي إلَّا عن الصحابة، وهُم عدول، فالغلبة فيما سبق باعتبار نفس المرسل، وفي الثاني باعتبار نوع الرسل، فافترقا.

والتقييد بالتابعي الكبير هو ما قرَّره الشافعي وحرَّره في نَصه الآتي نقله عن "الرسالة" مبسوطًا وشرح ما يشكل منه. والمراد بالتابعي الكبير والصغير سبق بيانه قريبًا.

قولي: (تَحْرِيرَا) مفعول ثاني لِـ "رَأَى"، أيْ: رأَى الشافعي أنَّ هذا القيد هو المحرر. والله أعلم.

ص:

335 -

بِشَرْطِ أَنْ يَعْضُدَ كلًّا مُسْنَدُ

أَوْ قَوْلُ أَوْ فِعْلُ الصَّحَابِي يَعْضُدُ

336 -

أَوْ وَفْقُهُ لِمَا يَقُولُ الْأَكثر

أَوْ مُرْسَلٌ بِمِئْلِ هَذَا يُؤْثَرُ

337 -

عَمَّنْ رَوَى لَا عَنْ شُيُوخِ الْأوَّلِ

أَوِ انْتِشَارٌ أَوْ قِيَاسٌ مُنْجَلِي

338 -

أَوْ عَمَلُ الْعَصْرِ بِهِ؛ فَيَحْصُلُ

حُجَّيَّةُ الْمَجْمُوعِ لَا ذَا الْمُرْسَلُ

339 -

مُجَرَّدًا وَلَا الَّذِي لَهُ عَضَد

مَا لَمْ يَكُنْ لِمُسْنَدٍ قَدِ اسْتَنَدْ

340 -

فِإنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَلِيل

يَنْفَعُ في التَّرجِيحِ مَا [نقُولُ]

(1)

الشرح:

المراد بقولي: (يَعْضُدَ كُلًّا) كل قسم من القسمين السابقين، وهذا على ما سبق من ترجيح أنَّ مرسَل سعيد بن المسيب ونحوه لا يُعمل به عند الشافعي إلا إذا اعتضد.

(1)

كذا في (ص، ض، ت، ش، ن 5). لكن في (ز، ظ، ن 1، ن 2، 3، ن 4): يقول.

ص: 665

والحاصل أنَّ العمل بالمرسَل مطلقًا عنده لا بُد له من مُقَوٍّ.

نعم، شُرط في القسم الثاني زيادة على اشتراط المقوي ثلاثة شروط:

- كونْه مِن كبار التابعين، وقد صرحتُ به في البيت الذي قبله.

- وأن يكون بحيث لو سمَّى لم يُسَمِّ مجهولًا.

- وأنْ لا ينفرد عن الثقات بمعنى مُرسَله.

ولم أصرح بهما في النَّظم؛ لأنَّ الثالث يُفهَم مما سيأتي في "زيادة الثقة"، فإنه يدخل فيه الزائد عمَّا رواه الثقات وزيادة بعض حديث انفرد به عن الثقات. وإذا كان هذا في المسند لا يُقبَل إلَّا بشرط أنْ لا يخالفه الثقات في المعنى، ففي المرسَل أَوْلى.

وأما الثاني فيخرج مِن اشتراط كوْن التابعي كبيرًا؛ لأنَّ العِلَّة فيه إنما هي روايته غالبًا عن الصحابة، وهُم عدول، فهذا في الغالب إذا سمَّى لا يُسمي إلَّا مَن هو معلوم العدالة، لا مجهولها، وحينئذٍ فتصريح الشافعي بهما للإيضاح وللبيان الشافي في ذلك.

فلنذكر نَصه في "الرسالة" بحروفه؛ لِمَا اشتمل عليه من القواعد والفوائد، ونُبيِّن ما قد يحتاج إلى البيان وما تضمَّنه مِن صُوَر الاعتضاد، ثم نذكر ما زاد بعض أصحابه منها مما استُخرج من كلامه في غير ذلك، فأقول:

قال الشافعي رضي الله عنه في باب "الحجة على تثبيت خبر الواحد" حيث ذكر أنه قال له قائل: فهل يقوم بالحديث المنقطع حُجة على مَن عَلِمه؛ وهل يختلف المنقطع؛ أو هو وغيره سواء؟ :

(فقلتُ له: المنقطع نحتلِف، فمَن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدَّث حديثا منقطعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، اعتُبِر عليه بأمور:

منها: أن يُنظر إلى ما أَرسل من الحديث، فإنْ شركه فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى

ص: 666

رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما رَوى، كانت هذه دلالة على صحة مَن قَبِل عنه وحفظه.

وإنِ انفرد بإرسال حديث لم يشركه فيه مَن يسنده، قُبل ما ينفرد به مِن ذلك وُيعتَبر عليه بأنْ يُنظر هل يوافقه مُرسِلٌ غيرُه ممن قبل العِلم عنه مِن غير رجاله الذين قبل عنهم؛ فإنْ وُجد ذلك، كانت دلالة [تقوي]

(1)

له مرسَله، وهي أضعف من الأُولى.

فإنْ لم يوجد ذلك، نُظر إلى ما يُروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولًا له يوافقه، فإنْ وُجِد يوافِق ما رَوى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسَلَه إلَّا عن أصلٍ يصح إن شاء الله تعالى.

وكذلك إنْ وُجد عوام من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما رَوى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثم يُعتبر عليه بأنْ يكون إذا سَمى، لم يُسم مجهولًا ولا مرغوبًا عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما يروي عنه.

ويكون إذا شَرِكَ أحدًا من الحفاظ في حديثه، لم يخالفه. فإنْ خالفه ووُجد حديثه أنقص، كانت في هذه دلائل على صحة مَخْرَج حديثه.

ومتى خالف ما وصفتُ، أضَر بحديثه، حتى لا يَسَع أحدًا منهم قبولُ مراسيله.

وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفتُ، أحببنا أنْ نَقبل مرسلَه، ولا نستطيع أن نزعم أنَّ الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل؛ وذلك أنَّ معنى المنقطع مُغَيَّب، يحتمل أنْ يكون حُمِلَ عمن يُرغَب عن الرواية عنه إذا سُمي، وأنَّ بعض المنقطعات -وإنْ وافقه مرسَلٌ مِثله- فَقدْ يحتمل أنْ يكون مخرجهما واحدًا مِن حيث لو سُمي لم يُقبل، وأنَّ قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال برأيه [أو]

(2)

وافقه، لم تصح على مخرج الحديث دلالة قوية إذا نُظر فيها.

(1)

كذا في (ت، ق، ظ)، لكن في (ص، ش): يقوى.

(2)

كذا في جميع النُّسخ. لكن في "الرسالة، ص 464": لو.

ص: 667

ويمكن أنه يكون إنما غلط فيه حين سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويحصل مِثل هذا فيمن [يوافقه عن بعض الفقهاء من بعض الفقهاء])

(1)

(2)

.

قال الشافعي: (فأما مَن بَعْد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم واحدًا منهم يُقبل مرسلُه؛ لأمور:

أحدها: أنهم أشد تَجوُّزًا فيمن يروون عنه.

والآخر: أنهم تُؤخَذ عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.

والآخر: كثرة الإحالة في الأخبار، وإذا كثرت الإحالة في الأخبار كان أمكن للوهم وضعف من يُقبل عنه)

(3)

. انتهى

وممن روى كلام الشافعي هذا: أبو بكر الخطيب في "الكفاية"، وأبو بكر البيهقي في "الدخل" بإسنادهما الصحيح إليه.

فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع بن سليمان.

وقال الخطيب: (أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله الكاتب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر ابن محمد بن سلم، قال: أنا أحمد بن موسى الجوهري، ح. وأخبرنا محمد بن عبد العزيز الهمداني، قال: أخبرنا صالح بن أحمد الحافظ، قال: أخبرنا محمد بن حمدان الطرائفي، قالا: أخبرنا الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: المنقطع مختلف

)

(4)

إلى آخِره.

(1)

كذا في جميع النُّسخ. لكن العبارة في "الرسالة، ص 465": فيمن وافقه من بعض الفقهاء.

(2)

الرسالة (ص 461 - 464).

(3)

الرسالة (ص 465).

(4)

الكفاية (ص 405).

ص: 668

ففيه ذكر الشروط الثلاثة السابقة.

ولا يُقال: إنَّ قوله: (ثم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى مَن روى عنه لم يُسم مجهولًا) إنما هو من العواضد كما زعمه الإمام في "المحصول" وأتباعه حتى لا يكون شرطًا في كل مرسَل.

لأنَّا نقول: لو أراد ذلك لقال: (وكذلك أن يكون إذا سمى) إلى آخِره، أو نحو ذلك، فعدوله إلى قوله:(ثم يعتبر) إلى آخِره - كالصريح في اعتباره في المرسل من حيث هو، والمعنى في اشتراطه مطلقًا واضح؛ ولهذا عطف عليه قوله:(ويكون إذا شرك أحدًا من الحفاظ)؛ فإثه لا يصح أن يُجعل من المقويات، بل اشتراط أنَّ المرسَل إذا رُوي معناه من وجهٍ آخَر أنْ يكون مساويًا لِمَا رواه الثقات في المعنى، وهو معنى قوله أولًا: فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما رَوى. فإنْ خالفهم، اشترط أنْ تكون نحالفتهم له بالنقصان في المعنى.

فإن قيل: ففي "مختصر المزني" في حديث: "إذا كان الماء قُلتين، لم يحمل نجسًا"

(1)

أو قال: "خبثًا"

(2)

. أخرجه الشافعي بسنده، ثم قال: إنَّ ابن جريج روى بإسناد -لم يحضر الشافعي ذلك- بزيادة: "بِقلال هجر"

(3)

. وكذا قال في "الأم" و"المسند".

وقال ابن الأثير والرافعي في شرحيهما للمسند: إن الإسناد الذي لم يحضر الشافعي كما

(1)

مسند الشافعي (ص 7)، سنن أبي داود (رقم: 63) بلفظ: (إذا كان الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لم يَحْمِل الْخَبَثَ). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 63).

(2)

مسند الشافعي (ص 7) بلفظ: (إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ، لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا أَوْ خَبَثًا).

(3)

مختصر المزني (ص 9).

ذكر الحافظ ابن حجر إسناده في كتابه (التلخيص، 1/ 18)، وفي إسناده محمد بن يحيى، قال الحافظ ابن حجر: مجهول الحال.

ص: 669

ذكره أهل العلم بالحديث: محمد [بن]

(1)

يحيى بن عقيل، أن يحيى بن يعمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا بلغ الماء قُلتين بِقلال هجر"

(2)

الحديث. وأخرجه كذلك الدارَقطني.

قال ابن الأثير: (وهو مرسل، فإنَّ يحيى تابعي مشهور). انتهى

فقد عمل الشافعي بالمرسل مع كونه مخالفًا للمسند بزيادة.

فالجواب: أنه أنقص معنًى؛ لعموم قوله: "قلتين" -الواقع في جواب الشرط- كل قلتين، فتخصيصه بِقلال هجر نقص معنوي، فهو أنقص.

وكذا يُجاب عن كل ما أشبه ذلك، كحديث:"قضى بالشاهد واليمين"

(3)

، ونحوه.

والعلة في اشتراط عدم مخالفة المرسل رواية الثقات أنه لا يقوى حينئذٍ بما رووه، بل يضعف.

ثم حاصل ما في كلام الشافعي من المقويات أربعة:

أحدها: أن يأتي معناه مسندًا من طريق آخر، وهو أقوى الأربعة.

ويُعْلم من تعبير الشافعي فيه بقوله: (شَرِكهُ فيه الحفاظ المأمونون فأسندوه) أنَّ مِن شرط ذلك المسند أنْ يكون صحيحًا، خِلافًا لما زعمه الإمام في "المحصول" أنَّ مراد الشافعي المسند الضعيف.

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب:(عن) كما هو مَقْتَضى ما في السنن الكبرى للبيهقي (1173)، (التلخيص الحبير، 1/ 18). وفي (سنن الدارقطني، 1/ 24): (محمد بن يحيى أنَّ يحيى بن عقيل أخبره).

(2)

سنن الدارقطني (1/ 24)، السنن الكبرى للبيهقي (1173) بلفظ:("إذا كان الماء قُلتين، لم يحمل نجسًا ولا بأسًا" فقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ قال: قلال هجر).

(3)

مسند أحمد (2888)، وفي صحيح مسلم (رقم: 1712) بلفظ: (قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ).

ص: 670

ثانيها: أن يوافقه مرسَلٌ أَخَذَ مَن أرسله العِلم مِن غيْر مَن أَخَذ منه مرسِلُ الأول.

ثالثها: أن يوافقه قول بعض الصحابة.

رابعها: أن يوافقه قول أكثر العلماء، وهو معنى قول الشافعي:(عوام من أهل العلم)؛ إذْ لم يَقُل: (عوام أهل العلم) حتى يكون إجماعًا، ولا قال:(بعض أهل العلم) حتى يكون أقَل.

وزاد الماوردي وغيره عن الشافعي: أن يوافقه قياس أو انتشار من غير دافع، أو عمل أهل العصر به، أو فِعل صحابي.

وهذا الأخير ربما رُوي في النص السابق، ففيه بعد ما سبق من المقويات ما لفظه: نُظر إلى ما يُروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قولاً له أو فعلاً.

لكن هذا داخل فيما ذكره الشافعي ثالثًا، وهو عمل بعض الصحابة، فإنه يشمل القول والفعل؛ فلذلك صرحتُ بهما في النَّظم، وذكرت هذه السبعة لا على ما وقع في ترتيب الشافعي كما تراه؛ لأجل النَّظم. وأسقطتُ التقوية بعمل أهل العصر؛ لأنه إذا كان قول الأكثر عاضدًا، فقول الكل أَوْلى، ويأتي فيه ما سنذكره في اجتماع المرسل والمسند من كونهما دليلين.

وزاد الماوردي تاسعًا: وهو أنْ لا يوجد دليل سواه.

ونقله أيضًا إمام الحرمين عن الشافعي، فقال:(وقد عثرتُ في كلامه على أنه إذا لم يجد إلَّا المرسَل مع الاقتران بالتعديل على الإجمال، عمل به)

(1)

.

ورُدَّ بأنه لا يُعرف ذلك عن الشافعي.

وبالغ ابن السمعاني في التغليظ على الإمام، وقال: (أجمع كل مَن نقل عن الشافعي من

(1)

البرهان في أصول الفقه (1/ 411).

ص: 671

العراقيين والخراسانيين أنَّ أصله رذُ المراسيل، وأنها لا تُقبَل بنفسها بحال)

(1)

.

وأيضًا فإن كان في نفسه حُجة، فلا حاجة لفقد الدليل. وإنْ لم يكن حُجة، فسواء وجُد دليل آخَر أوْ لا، ومثل هذا بعيد عن التعقل.

نعم، إنْ أُريدَ -على بُعْد- بفقد الدليل فقدُ دليل يُخالفه، فيرجع حاصله إلى أنه حُجة ضعيفة لا تقاوم شيئًا من الأدلة إلَّا البراءة الأصلية؛ لفقد غيرها، فإنها أضعف منه.

قلتُ: ورأيت في كلام الماوردي ما يرشد لذلك، فقال في "باب زكاة الفطر" في قول الشافعي:(أخبرنا مالك بن أنس، عن حميد بن قيس، عن طاووس أنَّ معاذًا أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا، ومن أربعين بقرة مسنة):

(فإنْ قيل: حديث معاذ مرسل؛ لأنَّ طاووسًا ولد في زمن عمر، وكان له سَنة حين مات معاذ، والشافعي لا يقول بالمراسيل، فكيف يعتد بها؛ قيل: الجواب عنه من ثلاثة أوجُه).

إلى أن قال: (والجواب الثاني: أنَّ الشافعي يمنع مِن أخذ المراسيل إذا كان هناك مسند يعارضه، فإن كان مشتهرًا لا يعارضه فالأخذ به واجب)

(2)

. انتهى

نعم، تسميته لذلك "مرسلًا" إنما هو على طريقةٍ كما سبق، إلَّا أن يحمل على أنَ معاذًا إنما أخذ من ثلاثين بقرة تبيعًا ومن أربعين مُسنّة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك حين وجَّهه إلى اليمن كما جاء في أصل الحديث، فإنه ينحل إلى رواية طاووس عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو مرسَل على كل حال على هذا التقرير.

ويمكن جواب آخَر عن قول الماوردي والإمام، وهو: أنَّ المرسَل إذا دل على منع شيء

(1)

قواطع الأدلة (1/ 379).

(2)

الحاوي الكبير (3/ 107).

ص: 672

مباح بالبراءة الأصلية، وجبَ أنْ يُكَف عنه احتياطًا، لا لكون المرسَل حُجة كما قاله إمام الحرمين في المجهول إذا روى خبرًا أنه يجب الانكفاف ويُبحث عن حاله، وقد سبقت المسألة.

وزاد بعضهم مقويًّا عاشرًا كما هو ظاهر عبارة "المحصول": أن يكون ممن سُبر مرسَلُه فوُجد مسندًا، كابن المسيب.

لكنه تفريع على أنَّ مرسَل ابن المسيب ونحوه يُحتج به بمجرده مِن غير انضمام عاضِدٍ، وسبق أنَّ الراجح خِلافه. وبتقدير التسليم فهو في الحقيقة مسند.

ومعنى قول الشافعي: (أحببنا) كما قال البيهقي: اخترنا. وكذلك قال القفال في "شرح التلخيص": إنَّ الشافعي يقول: "أحب" ويريد به الإيجاب.

ووقع في "تقريب" القاضي أبي بكر أنَّ معناه: الاستحباب، فيُفهم أنَّ الأخذ بالمرسَل عنده مستحب، لا واجب.

وضُعِّف بأن الشافعي لم يُرِد به قسيم الواجب؛ إذ ليس في الأدلة ما يُستحب الأخذ به ولا يجب، فالمراد قصوره عن رُتبة المسند كما صرح به عَقِبَهُ.

وأعجَبُ من ذلك قول النووي في "شرح الوسيط": (إنَّ المرسَل ليس بحجة عندنا، إلا أن الشافعي قال: يجوز الاحتجاج بمرسل الكبار من التابعين بشرط أن يعتضد بأحد أمور أربعة) إلى آخِره.

وهو إشارة إلى النّص، فعبَّر بالجواز تَعَلُّقًا بِقول الشافعي:(أحببنا)، لكن قد سبق المراد به، إذِ الجواز لا معنى له هنا؛ لأنه إنْ كان دليلاً، وجب العمل به، أو غير دليل، لا يجوز العمل به، اللهم إلا أن يريد النووي بالجواز أنه يسوغ الاستدلال به كسائر الأدلة، بمعنى أنه دليل، لا التخيير في تركه.

ص: 673

قولي: (فَيَحْصُلُ حُجَّيَّةُ الْمَجْمُوعِ) إلى آخِره -إشارة إلى سؤال مشهور أورده القاضي أبو بكر على الشافعي وتداوله الأصوليون، ونقله الإمام فخر الدين عن الحنفية، وتقريره:

- إنَّ المرسَل إذا أُسند مِن طريق آخَر، فالعمل بالمسنَد.

- وإنْ لم يسند وانضم إليه ما يكون حُجة (كعوام الفقهاء إنْ كان الشافعي أراد به الإجماع، وكالقياس الصحيح ونحوه)، فالعمل بالمنضم؛ لأنه حُجة على استقلاله.

- وإنْ لم ينضم إليه ما ليس بحجة (كمرسل آخَر، وقول صحابي، وفتوى الأكثر إنْ أراده الشافعي بقوله: "عوام من أهل العلم"، ونحو ذلك)، فقد انضم غير مقبول إلى مِثله؛ فلا حُجة فيهما.

فيجاب عن هذا الشق: بأنَّ المرسَل لَّمَا كان ضعيفًا، انجبر بما انضم إليه، وزال ضعفه بما يزيل التهمة فيه عن الراوي المحذوف، فالحجة بمجموع الأمرين كما يُفهمه قول الشافعي:(يقوي له مرسله).

وسبق تقرير الماوردي له بأن الحجة ليست في المرسَل وحده ولا في المنضم وحده.

وأما الجواب عن الشق الأول: فإن المسند إذا انضم إلى المرسل -كما قاله ابن الصلاح- كأنه بيَّن أن الساقط في المرسَل عَدْل محتج به، فوجب أن يكون دليلًا، ولا امتناع أن يكون للحكم دليلان، وتظهر فائدته في الترجيح عند التعارض.

وأما عند انضمام إجماع أو قياس فكذلك فيه دلالة على صحة سند المرسل، [فيكونان]

(1)

دليلين أيضًا، كما في انضمام المسند.

لكن في حالة انضمام إجماع نَظَر؛ فإنَّ الإجماع على وَفْق دليل لا يَلزم أنْ يكون مستندَه،

(1)

في (ض، ص، ظ): فيكونا.

ص: 674

والقياس على وَفق شيء لا يَلزم منه صحته؛ لأنَّ الاعتماد في القياس على دليل الأصل المُقاس عليه؛ فلذلك لم أذكر في النَّظم إلا حالة انضمام المسند التي ذكرها ابن الصلاح، على أنَّ ابن الحاجب قد سلَّم ورود الاعتراض في هذا الشق، واقتصر على الجواب عن الشق الآخَر.

تنبيهان

أحدهما: مما ذكره الشافعي في كون المرسَل إذا لم يعتضد لا يكون حجة ما قال فيه: أخبرنا ابن عيينة عن محمد بن المنكدر أنَّ رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، إنَّ لي مالًا وعيالًا، وإنَّ لأبي مالًا وعيالًا ويريدُ أنْ يأخذَ مالي فيُطعم عياله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك لأبيك"

(1)

.

قال الشافعي: محمد بن المنكدر غاية في الثقة والفضل والدِّين والورع، ولكن لا ندري عمن قبل هذا الحديث.

الثاني: هل تنحصر التقوية فيما ذُكر؟ أوْ لنا أن نُقوي بغيرها إذا ظهر؟

الظاهر: نعم؛ لأن المراد معلوم. ويحتمل المنع؛ لأنها من تخريج الراسخين في العِلم العالمين بمواقع الانجبار ومناسبة الجوابر، وفي هذه الأزمان قَصُرَت الأفهام عن التدقيق، فَيبعُد الإتيان بمثلها، والله تعالى يؤتي الحكمة مَن يشاء، ويختص بفضله مَن يريد، والله أعلم.

(1)

سنن ابن ماجه (رقم: 2291)، وقال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 2322). وفي سنن أبي داود (رقم: 3530) بلفظ: (أنت وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ) بإسناد اَخر، وقال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 3530).

ص: 675

ص:

341 -

وَالْأَخْذُ بِالَّذِي يَقُولُ الصَّاحِبُ:

"قَالَ رَسُولُ اللهِ" حُكْم وَاجِبُ

الشرح:

لَمَّا كان الاتصال شرطًا في السند ليتحقق اجتماع الشروط كما سبق، وَجبَ أن يكون للراوي عن غيره صيغة تدل على عدم الوسط:

- صريحة: نحو: "حدَّثني" و"أخبرني" و"سمعتُ" و"رأيتُ"، ونحو ذلك، وهذه أرفع الدرجات، سواء في الصحابي وغيره وإنْ قصرها الإمام الرازي وأتباعه على ألفاظ الصحابي.

- أو راجحة من احتمالين: وعليها اقتصرتُ في النظم، لأنَّ الأُولى واضحة.

لكن لغير [الصريح]

(1)

مراتب وهي في الصحابي، وأما غيره فسنتعرض لِمَا يمكن أن يجرى فيه من ذلك.

فالمرتبة الأولى: إذا قال الصحابي: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو "فعل كذا" أو نحو ذلك، وجب أن يحمل على الاتصال، وأنْ لا واسطة بينهما، فيكون ذلك حُكمًا شرعيًّا يجب العمل به.

ويُعبر عن هذه المسألة بِ: مُرسَل الصحابي هل هو حُجة؛ أوْ لا؟

الأكثرون أنه حُجة، خلافًا لما يُحكى عن الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني أنه ليس بحجة إلا أن يقول إنه لا يروي إلا عن صحابي، أي: فيما لا يمكنه إدراكه وأمما،

(2)

يمكن أنه لا يروى إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعتضد بما سبق في مراسيل التابعين.

(1)

في (ز): الصحابي.

(2)

في (ش): فيما.

ص: 676

وهذا بناء على المشهور في تعليل المنع بأن الصحابي قد يروي عمن لا تُعلم عدالته ما لم يُنقَّب عنها كالتابعين، ومقابِله تعليل القرافي ذلك باحتمال روايته عن صحابي قام به مانع، كماعز وسارق رداء صفوان، ولا يَخفى ما فيه من نظر.

وفي بعض كُتب الحنفية التصريح بأنه لا خلاف في الاحتجاج به، وكذا في "النهاية" للهندي أنه لا يتجه في قبوله خلاف، قال: لظهوره في الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، وبتقدير روايته عن الصحابة فغير قادح؛ لثبوت عدالتهم، وأما احتمال رواية الصحابي عن تابعي فنادِر.

وقد جرى على نحو هذا السبكي في شرح "المختصر" حيث قال ابن الحاجب: (إنه محمول على أنه سمعه منه، وقال القاضي: متردد). أيْ: بيْن ذلك وبين أن يكون سمعه من غيره عنه صلى الله عليه وسلم، بناء على عدالة الصحابة. أي: فإنْ قُلنا: الكل عدول، قُبل، وإلَّا كان كمرسل التابعي، بل يحتمل أن يكون الصحابي سَمعه مِن تابعي [عن]

(1)

، صحابي

(2)

فقال: (هذا الذي نقله المصنف عن القاضي تبع فيه الآمدي، ولا نعرفه، والذي نَص عليه القاضي في "التقريب" حَمْلُ "قال" على السماع ولم يَحْكِ فيه خلافًا، بل ولا أحفظُ عن أحدٍ فيه خِلافًا)

(3)

. انتهى

وهو عجيب؛ فإن ظاهر إطلاق الغزالي وابن برهان وغيرهما أن الشافعي يَرُد المرسل مطلقًا ولو كان مرسل صحابي إلَّا بانضمام مقوٍّ، وأنَّ الذي يحتج بمرسل الصحابة إنما هو بعض المنكرين للمرسَل، وكذا قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": إنَّ مذهب الشافعي

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): غير.

(2)

عبارة ابن الحاجب في (مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني، 1/ 718): (إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: "قَالَ صلى الله عليه وسلم"، حُمِلَ عَلَى منهُ سَمِعَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الْقَاضِي: مُتَرَدِّدٌ. فَيُبْتَنَى عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ).

(3)

رفع الحاجب (2/ 408).

ص: 677

رد [المراسيل]

(1)

مطلقًا. ومن أصحابه مَن يقول: إنَّ مذهبه قبول مراسيل الصحابة.

وفي "الوسيط" لابن برهان: (اختلف أصحابنا في مراسيل الصحابة، فمنهم مَن قال: إنها مقبولة؛ لأنَّ الشافعي قد قبل مراسيل سعيد، فلأنْ يَقبل ذلك مِن الصحابة أَوْلى. ومنهم مَن قال: لا يُقبل؛ لأنَّ الشافعي ما قَبِل المراسيل، وإنما عمل بمراسيل سعيد؛ لأنه تتبعها فوجدها مسندة، فقبلها من حيث الإسناد، لا من حيث الإرسال. وهذا هو الأصح). انتهى

ونقله سليم عن الأشعري وأن الشيخ أبا إسحاق حكاه في "التبصرة" عن الأشعرية، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة ونقله أيضًا عن الأشعرية، وقد حكى الخلاف أيضًا بعض المحدثين.

نعم، ابن الصلاح جَزَم بأنَّ ذلك في حُكم الموصول المسند، لكنه فرض المسألة في أحداث الصحابة، ويؤخَذ منه أن كبار الصحابة مِن باب أَوْلى.

وكذلك مَثَّله النووي في "شرح مسلم" بقول عائشة رضي الله عنها: "أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة"

(2)

. وهي من كبار الصحابة، [فقد]

(3)

روت قضية لا يمكن أن تكون حضَرتها؛ فيُحمل على أنه صلى الله عليه وسلم حدَّثها بذلك.

وإنما قَبِلنا مراسيل الصحابة -كما قال ابن الصلاح- لأنَّ روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة؛ لأنَّ الصحابة كلهم عدول.

وما أشار إليه من روايتهم عن الصحابة إنما هو بحسب الغالب، وربما كانت روايتهم عن التابعين، وقد ذكر الخطيب فيما صَنَّفه فيمن روى مِن الصحابة عن التابعين نحو ثلاث

(1)

في (ز): المرسل.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3).

(3)

في (ز): نعم قد.

ص: 678

وعشرين رواية وإن كان الغالب أنها إسرائلي أو موقوف أو حكاية، والمرفوع من ذلك قليل.

كحديث سهل بن سعد، عن مروان بن الحكم، عن زيد بن ثابت:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95]، فجاء ابن أم مكتوم"

(1)

الحديث. رواه البخاري.

وحديث السائب بن يزيد، عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَن نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل"

(2)

. رواه مسلم.

وحديث يعلى بن أمية، عن عنبسة بن أبي سفيان، عن أخته أم حبيبة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن صلَّى ثنتي عشرة ركعةً بالنهار أو بالليل، بُني له بيت في الجنة"

(3)

. رواه النسائي.

وغير ذلك مما يطول ذكره، والله تعالى أعلم.

ص:

342 -

وَ"عَنْ" وَ"أَنَّ" وَالَّذِي كَ "أُمِرَا"

أَوْ "حُرِّمَ" اوْ"رُخِّصَ" فِيمَا أُثِرَا

الشرح:

هذه المرتبة الثانية من ألفاظ الصحابي المحتملة للاتصال -بِرُجْحان- ولغَيْره.

أن يقول الراوي عن الصحابي بَعْد ذِكره: "عن النبي صلى الله عليه وسلم "، أو:"عن رسول الله".

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2677).

(2)

صحيح مسلم (رقم: 747).

(3)

سنن النسائي (رقم: 1799). قال الألباني: صحيح الإسناد. (صحيح النسائي: 1798).

ص: 679

أو يقول: "أنَّ النبي- أو: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا"، أو:"فَعل كذا".

فأما "عَنْ " فتكون فيما بين الصحابي والنبي صلى الله عليه وسلم، وفيما بين من دُونه وبين مَن فوقه. وُيسمَّى ذلك كله عند المحدثين "العنعنة"، وهي: إيراد الحديث بلفظ "عن" مِن غير تصريح بالتحديث.

قال ابن الصلاح: (عَدَّه بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بغيره)

(1)

.

أي: محتجًّا بأنه لَمَّا احتمل الاتصالَ والانقطاعَ، احْتيط في أمره وجُعل مُرْسَلاً إنْ كان مِن قِبَل الصحابي، ومنقطعًا إنْ كان مِن قِبَل غيْره.

وأُجيب بأنَّ "عن" لا بُد لها من متعلق كـ "رَوى" أو "حدَّث" أو نحوه، فيكون متصلًا.

قال ابن الصلاح: (والصحيح الذي عليه الجمهور أنه من قبيل الإسناد المتصل، أي: حتى لو تَبيَّن عدم اتصاله بوجه آخَر، يكون ذلك كالإرسال الخفي. وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه، وكاد ابن عبد البر يَدَّعي إجماع أئمة الحديث على ذلك)

(2)

. انتهى

ولا حاجة [إلى قوله]

(3)

: (كاد يدعي)؛ فقد ادَّعاه صريحًا في مقدمة "التمهيد"، فقال: (اعلَم -وفقك الله- أني تأملتُ أقاويل أئمة الحديث ونظرتُ في كتب مَن اشترط الصحيح في النقل ومَن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمعَ شروطا ثلاثة، وهي: عدالة المخبرين، ولقاء بعضهم بعضا مجالسةً ومشاهدةً،

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 61).

(2)

معرفة أنواع علوم الحديث (ص 61).

(3)

كذا في (ز، ض). وفي (ص، ق، ت، ظ): لقوله.

ص: 680

وأن يكونوا بُرَآءَ من التدليس).

ثم قال: (وهو قول مالك وعامة أهل العلم)

(1)

. انتهى

قال ابن الصلاح: (وادَّعى أبو عمرو الداني المقرئُ الحافظ إجماعَ أهل النقل على ذلك)

(2)

.

قلمتُ: وكذلك أيضًا ادَّعى مسلم الإجماع في خطبة "الصحيح" وإنِ اعترض عليه في ذلك.

نعم، يُشترط في غير الصحابة ما سبق نَقله عن ابن عبد البر ثلاثة شروط، وذكرها أيضًا ابن الصلاح سِوى شرط العدالة، فإنه لم يذكره؛ لأنه شرط في الاحتجاج بالحديث، لا في كَونه متصلًا؛ ولذلك لا يتعرضون له في تعريف "المتصل" ونحوه.

وجرى البيضاوي والهندي على تصحيح الاتصال فيما إذا كانت العنعنة بين الصحابي والنبي صلى الله عليه وسلم، ومُقَابِلُه التوقّف كما اقتضاه "المحصول".

وأمَّا "أنَّ" فقال ابن الصلاح: (اختلفوا في قول الراوي: "أنَّ فلانًا قال كذا وكذا" هل هو بمنزلة "عن" في الحمل على الاتصال إذا ثبت التلاقي بينهما حتى يتبين فيه الانقطاع؛ مثاله: مالك عن الزهري أنَّ سعيد بن المسيب قال كذا)

(3)

.

قلمتُ: في كون محل النزاع مثل ما ذكره من التصريح بعد "أنَّ" بلفظ "قال" ونحوه- نَظَرٌ؛ فإنَّ ذلك لا ينحط عن درجة "قال" المجردة عن "أنَّ"؛ إذْ لم يَرِد فيه

(4)

إلا ما يدل على

(1)

التمهيد (1/ 12 - 13).

(2)

مقدمة ابن الصلاح (ص 62).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 62).

(4)

يقصد صيغة: أنَّ فلانًا قال كذا.

ص: 681

التأكيد.

والذي يظهر أن يكون محل النزاع أنْ يقول -مَثلًا- فلان: (أنَّ فلانًا فَعل كذا) أو: (قال لفلان كذا)، أو نحو ذلك مِن غير أنْ يذكر لفظًا يدل على أنه حدَّثه بذلك أو سمعه منه.

قال ابن الصلاح: (ورُوينا عن مالك أنه كان يرى "عن فلان" و"أنَّ فلانًا" سواء، وعن أحمد:[لَيْسَا]

(1)

سواء)

(2)

. انتهى

واعتُرض عليه بأنَّ أحمد لم يَقُل ذلك كما رواه الخطيب في "الكفاية" بسنده إلى أبي داود فيما قيل له: إنَّ رجُلًا قال: "عروة أنَّ عائشة قالت: يا رسول الله"، و"عروة عن عائشة" سواء. فقال: ليس هذا بسواء.

أي: لأنَّ عروة في الأول استند إلى قول عائشة ولا أدرك القصة؛ فكان منقطعًا، و"عن" بمجرفى ها تدل على التحديث، ولا إشكال في ذلك، فكان متصلًا. فلو قال:(أنَّ عائشة قالت: قلتُ: يا رسول الله)، كان متصلًا.

وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم أنَّ "عن" و"أنَّ" سواء، وعن البرديجي أبي بكر أنَّ حرف "أنَّ" محمول على الانقطاع حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بِعَيْنه من جهة أخرى.

قال ابن عبد البر: (وعندي لا معنى لهذا؛ لإجماعهم على أنَّ الإسناد المتصل بالصحابب سواء قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" أو "أنَّ رسول الله" أو "عن رسول الله" أو "سمعتُ")

(3)

. انتهى

(1)

كذا في (ص، ت، ش)، لكن في (ص، ض): لنا.

(2)

معرفة أنواع علوم الحديث (ص 62).

(3)

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (1/ 26).

ص: 682

قال ابن الصلاح: (ووجدتُ مثل ما حكاه عن البرديجي للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في "مسنده " الفحل، فإنه ذكر فيه ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال:"أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلي فسلمت عليه، فَرَدَّ عليّ السلام"

(1)

، وجعله مسندًا موصولًا. وذكر رواية قيس بن سعد لذلك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية:"أنَّ عمارًا مَرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي"

(2)

، فجعله مرسَلًا)

(3)

.

وأُجيب عن ذلك بمثل ما سبق في قول أحمد؛ وذلك لأنَّ ابن الحنفية لم يُسند القصة إلى قول عمار، ولو قال: أنَّ عمارًا قال: (مررتُ بالنبي صلى الله عليه وسلم) لَمَا كان مرسلاً، ولكنه لَمَّا قال:(أنَّ عمارًا مَر)، كان حاكيًا لقصة لم يدركها، فتحَصَّلَ أنه ليس في كلام ابن أبي شيبة ولا أحمد ما يدل على الاستواء، إلا أن يريدا ما سبقت الإشارة إليه من أنَّ "عن" تتعلق بِـ "حدَّث" أو "قال" محذوفة، ولا كذلك "أنَّ"؛ فافترقا.

ويظهر أثر هذا الفرق في نحو حديث عائشة في بدء الوحي، فإنه مرسَل صحابي كما قاله النووي كما سبق؛ لأنها لم تسنده إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدركَتْ الواقعة.

ولو أُتِي هنا بِ "عن" بدل "أنَّ" كما لو قيل: (عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أول ما بُدئَ به الوحي) إلى آخره، كان ذلك ظاهرًا في أنه صلى الله عليه وسلم حدَّثها بذلك أو سَمعَته يقوله وإنْ لم يُؤتَ في ذلك بلفظ "قال" ونحوه.

فالضابط كما قاله ابن عبد البر أنَ الراوي لقضية:

- إنْ أمكن أن يكون أدركها، حُكِم بالاتصال.

(1)

مصنف ابن أبي شيبة (رقم: 4823).

(2)

معجم الصحابة لابن قانع (2/ 250) بلفظ: (أن عمار بن ياسر مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي

).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 62).

ص: 683

- أو لم يدركها وكان صحابيًّا، فمرسل صحابي.

- أو تابعيًّا، حُكِم بالانقطاع، إلا أنْ يُسندها إلى صحابي.

وممن حكى اتفاق أهل النقل على ذلك أبو عبد الله بن المواق، فذكر من عند أبي داود حديث عبد الرحمن بن طرفة:"أنَّ جدَّه عرفجة قُطع أنفه يوم الكُلَاب"

(1)

الحديث، وقال: إنه عند أبي داود هكذا مرسَل. قال: وقد نبه ابن السكن على إرساله. قال: وهذا بيِّن، لا خلاف بين أهل التمييز من أهل هذا الشأن في انقطاع ما يروى.

كذلك إذا عُلم أنَّ الراوي لم يدرك زمان القصة كما في هذا الحديث ونحوه.

قولي: (وَالَّذِي كـ "أُمِرَا" أَوْ "حُرمَ" اوْ "رُخِّصَ") هو بضم أولها على البناء للمفعول، والمراد مِن ذلك أن الصحابي إذا قال:(أُمرنا بكذا) أو (نُهينا عن كذا) أو (رُخص لنا في كذا) أو: (حُرم علينا كذا)، يكون ذلك محمولًا على الاتصال، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرهم ونهاهم ورَخص لهم وحَرم عليهم تبليغًا عن الله عز وجل، وإنْ كان يحتمل أنَّ ذلك من بعض الخلفاء لكنه بعيد" فإن المشَرِّع لذلك هو صاحب الشرع.

هذا قول الشافعي وأكثر الأئمة، خلافا للصيرفي والإسماعيلي وإمام الحرمين وللكرخي والرازي من الحنفية ولأكثر مالكية بغداد، ونقله ابن القطان عن نَص الشافعي في الجديد وأنَّ القول بأنه مرفوع هو القديم.

وحكى ابنُ السمعاني قولًا ثالثًا بالوقف، وابنُ الأثير في أول "جامع الأصول" قولًا رابعًا: إنْ كان من قول أبي بكر الصديق فمرفوع؛ لأنه لم يتأمَّر عليه غيرُه، أو مِن قول غيره فلا.

(1)

سنن أبي داود (رقم: 4232)، سنن النسائي (5161) وغيرهما. قال الألباني: حسن. (صحيح أبي داود: 4232).

ص: 684

وفي "شرح الإلمام": إنْ كان قائله من أكابر الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ ابن جبل رضي الله عنه، وفي معناهم مَن كَثُر إلمامُهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وملازمتهم، كأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس. وأمَّا غير هؤلاء فالاحتمال فيهم قوي.

ثم قال القاضي في "التقريب": إنه لا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده.

أما لو قال التابعي ذلك فقد تردد الغزالي بين كونه موقوفًا أو مرفوعًا مرسَلًا، وجزم ابن عقيل من الحنابلة بأنه مرسل.

تنبيهان

أحدهما: عُلم من ذلك أنه إذا صرح الصحابي بالفاعل، يكون متصلاً مِن باب أَوْلى، بأنْ يقول:(أَمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو:(نهانا)، أو:(حَرم علينا)، أو:(فَرض)، أو:(رَخص)، أو نحوه، وأنَّ ذلك مِثل "قال".

وقد سبق بيان ما فيه؛ لأنه مرسل صحابي، إلا أنَّ هذا يطرقه أمر آخَر من حيث يحتمل أنْ يَظن ما ليس بأمرٍ أمرًا، لكنه بعيد، فلذلك ذهب الجمهور إلى أنه حُجة.

وخالف داود، فقال: لا يُحتج به حتى ينقل لفظ الرسول. ونازع ابنُ بيان -من أصحاب داود- في ثبوت ذلك عن داود.

أمَّا حملُ لفظ الأمر على الوجوب والنهي على التحريم أوْ لا فسيأتي في محله من باب "الأمر والنهي".

وفي المسألة مذهب ثالث بالتفصيل بين أن يكون الناقل له من أهل المعرفة باللغة فيجعل قوله: (أمر) -ونحوه- كحكاية لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، أوْ لا يكون كذلك فلا. حكاه القاضي في

ص: 685

"التقريب" وإمامُ الحرمين في "التلخيص".

قال القاضي: والصحيح عندنا أنه إن كان المعنى المنقول بحيث تعتور عليه العبارات المختلفة فلا نجعل نقله ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم، وإلَّا فلا.

ثم هل يحمل ذلك على أمر العموم ونهيهم؛ أو على خصوص؛ أو [يُوقف]

(1)

؛ اختار القاضي الوقف. قال ابن القشيري: جرى فيه على معتقده في الوقف.

الثاني: من أمثلة القسم الأول وهو البني للمفعول:

"أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"

(2)

. رواه البخاري وغيره عن أنس.

وقول أم عطية رضي الله عنهما: "أُمرنا أن نخرج في العيدين الحيَّض وذوات الخدور، وأُمر الحيضُ أن يعتزلن مصلى المسلمين"

(3)

.

وقولها أيضًا: "نُهينا عن اتِّباع الجنائز ولم يُعزم علينا"

(4)

. وكلاهما في الصحيحين.

وفي حديث زيد بن ثابت في "النسائي": "أُمروا أن يُسبحوا دُبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين"

(5)

.

وفي "مسلم" عن عائشة: "أُمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد، فسبوهم"

(6)

.

(1)

كذا في (ز، ظ). لكن في (ص): توقف.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 578)، صحيح مسلم (378).

(3)

صحيح البخاري (رقم: 344)، صحيح مسلم (رقم: 890).

(4)

صحيح البخاري (رقم: 1219)، صحيح مسلم (رقم: 938).

(5)

سنن النسائي (رقم: 1350). وقال الألباني: صحيح. (صحيح النسائي: 1349). وفي: مسند أحمد (21640)، سنن الترمذي (3413) وغير هما، بلفظ:"أُمِرْنَا".

(6)

صحيح مسلم (رقم: 3022).

ص: 686

وفي "البخاري" عن أنس: "حُرمت علينا الخمر، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلًا، وعامَّةُ خمرنا البُسر"

(1)

.

وفي أبي داود والترمذي عن عمار رضي الله عنه: "رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفرَ إِذَا حَاضَتْ"

(2)

.

وأما أمثلة المبنى للفاعل مصرحًا به فكثيرة: كحديث عبد الله بن مغفل في "مسلم": "أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب"

(3)

الحديث.

وحديث البراء بن عازب في الصحيحين: "أَمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع"

(4)

الحديث.

وحديث عقبة بن عامر في "أبي داود" و"الترمذي" و ["النسائي"])

(5)

: "أَمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرأ المعوذات دبر كل صلاة"

(6)

.

وحديث أبي هريرة في ["مسلم"]

(7)

: "حَرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابَتَي المدينة"

(8)

.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 5258).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 323) عن ابن عباس رضي الله عنه.

(3)

صحيح مسلم (رقم: 280).

(4)

صحيح البخاري (رقم: 1182)، صحيح مسلم (رقم: 2566).

(5)

في (ز): النسائي وابن ماجه.

(6)

سنن أبي داود (1523)، سنن النسائي (1336) وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1523).

(7)

في (ص، ض): مثله. وفي (ز): مسلم أيضا.

(8)

صحيح مسلم (رقم: 1372)، صحيح البخاري (1770).

ص: 687

وحديث جابر في مسلم أيضًا: "رَخص النبي صلى الله عليه وسلم لآل عمرو بن حزم في الرقية"

(1)

الحديث. إلى غير ذلك، والله أعلم.

ص:

343 -

وَقَول رَاوٍ في الصَّحَابِي الْمُنْتَبِهْ:

"يَرْفَعُهُ"، "يَنْمِيهِ"، أو "يَبْلُغُ بِهْ"

الشرح:

من الألفاظ المتعلقة برواية الصحابي وإن لم يذكر فيها لفظه: أنْ يقول راوي الحديث عنه: (يرفعه)، أو:(ينميه)، أو:(يبلغ به)، فإنه محمول على أنه يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم أو ينميه عنه (أي: ينقله ويعزوه إليه) أو يبلغ به (أي: يبلغ به منتهى الحديث وهو كوْنه عن النبي صلى الله عليه وسلم).

قال ابن الصلاح: (حُكم ذلك عند أهل العلم حُكم المرفوع صريحًا)

(2)

.

وذلك كقول سعيد بن جبير: عن ابن عباس: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكيَّة نار". ثم قال: رفع الحديث

(3)

. رواه البخاري.

وكحديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به، قال:"الناس تبع لقريش"

(4)

.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رواية: "تقاتلون قومًا صغار الأعين"

(5)

الحديث.

(1)

صحيح مسلم (رقم: 2199).

(2)

مقدمة ابن الصلاح (ص 50).

(3)

صحيح البخاري (رقم: 5356).

(4)

صحيح البخاري (رقم: 3305)، صحيح مسلم (رقم: 1818).

(5)

صحيح البخاري (رقم: 2771)، صحيح مسلم (رقم: 2912) واللفظ لمسلم.

ص: 688

وروى مالك في "الموطأ" عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال:"كان الناس يؤمَرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". قال أبو حازم: الا أعلم إلا أنه ينمِي دلك)

(1)

. قال مالك: رَفعَ ذلك. هذه رواية عبد الله بن يوسف.

ورواه البخاري من حديث القعنبي عن مالك بلفظ: "يَنْمِي ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم "

(2)

. فصرح بالرفع.

والمراد بقولي: (رَاوٍ في الصَّحَابِي) الراوي عن الصحابي، أما إذا لم يكن الراوي أدرك الصحابي فالحديث مرفوع منقطع، وكذا إذا كان مَن دُون التابعي -مثلًا- يقول عن التابعي:(إنه يرفعه) أو: (ينميه) أو: (يبلغ به)، فهو مرسل؛ لسقوط الصحابي، والله أعلم.

ص:

344 -

وَهَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِي يَأْثِره:

"إنَّ مِنَ السُّنَّةِ ذَا" وَيَذْكُرهُ

الشرح:

أي: من ألفاظ الصحابي أن يقول: (مِن السُّنَّة كذا)، ويذكره، فإنه أيضًا محمول على الرفع عند الاكثرين، وأن المراد سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: شرعُه الذي تلقَّاه الصحابة عنه. وذلك مثل قول علي رضي الله عنه: "مِن السُّنَّة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة"

(3)

. رواه أبو داود في رواية ابن داسة وابن الأعرابي.

قال ابن الصلاح: (فالأصح أنه مُسْنَدٌ مرفوع؛ لأنَّ الظاهر أنه لا يريد به إلا سُنَّة رسول

(1)

الموطأ (رقم: 376) رواية يحيى الليثي.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 707).

(3)

سنن أبي داود (رقم: 756). قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 756).

ص: 689

الله صلى الله عليه وسلم وما يجب اتِّباعه)

(1)

.

وحكى ابن الصباغ في "العدة" عن أبي بكر الصيرفي وأبي الحسين الكرخي وغيرهما أنهم قالوا: (يحتمل أن يريد به سُنَّة غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يُحمل على سُنته). انتهى.

ونقل هذا إمام الحرمين عن المحققين، وجرى عليه القشيري.

وقال الماوردي: (إنَّ القول الجديد للشافعي أنه مجمل، وإنَّ كوْنه محمولًا على سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم هو القول القديم). انتهى

وحكى نحوه ابن فورك وسليم في "التقريب" وابن القطان والصيدلاني في "شرح المختصر" في باب "أسنان إبل الخطا" وغيرهم، حتى قيل: إنها من المسائل التي يفتى فيها بالقديم في الأصول.

لكن المشهور أن هذا هو الجديد، فإن الشافعي قال في القديم: المرأة تُعاقِل الرجل إلى ثلث الدية. أي: تساويه في العقل. فإنْ زاد الواجب على الثلث، صارت على النصف.

قال الشافعي في الجديد: كان مالك يذكر أنه السُّنَّة، وكنت أتابعه على ذلك وفي نفسي منه شيء، حتى علمتُ أنه يريد سُنَّة أهل المدينة، فرجعتُ عنه.

فَدَلَّ هذا على أنَّ عنده أنَّ مَن يقول: (السُّنَّة كذا) إنما يعني به سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، سواء الصحابي أو مَن دُونه -إلا أنَّ مَن دُون الصحابي يكون مُرْسلًا- ما لم يتبين أنَّ القائل:(مِن السُّنة كذا) لا يريد به سُنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومثله ما قال الشافعي أيضًا: وقد روي عن سفيان عن أبي الزناد قال: سألتُ سعيد بن المسيب أنَّ الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: يفرق بينهما؟ قال أبو الزناد: قلتُ: هو

(1)

معرفة أنواع علوم الحديث (ص 50).

ص: 690

سُنَّة؛ فقال سعيد: سُنَّة.

قال الشافعي: والذي يُشبه قول سعيد أنْ يكون سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجمن ثَمَّ قال القاضي أبو الطيب: إنه ظاهر مذهب الشافعي؛ لأنه احتج على قراءة الفاتحة بصلاة ابن عباس وقراءتها والجهر بها، وقال: إنما فعلتُ هذا لتعلموا أنها سُنة.

وكذا قال ابن السمعاني أيضًا: إنه مذهب الشافعي.

قلتُ: ونَص عليه في "الأم" في باب "عدد الكفن"

(1)

، فقال بعد ذِكر ابن عباس والضحاك:(ذلك أنهما رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقولان: "السُّنَّة" إلا لِسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم)

(2)

.

وحينئذٍ فقد تَلَخَّص أنه منصوص في القديم والجديد، وجزم به الرافعي في "كتاب التيمم"، وقال النووي في "شرح المهذب" في المقدمة: إنه المذهب الصحيح المشهور. وجرى عليه من المتأخرين الإمام الرازي والآمدي.

نعم، شرط الحاكم وأبو نعيم كون الصحابي معروفًا بالصحبة، وفيه إشعار بأنَّ مَن قَصُرت صحبته، لا يكون كذلك. فيكون ذلك قولًا ثالثًا مُفَصلًا.

وفي المسألة قول رابع: إنه في حكم الموقوف. ونقله ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي.

(1)

كذا في جميع النُّسخ، لكنه في (الأُم، 1/ 309) باب (الصلاة على الجنازة).

(2)

الأم (1/ 309).

ص: 691

تنبيهان

أحدهما: إذا قُلنا بأنَّ "مِن السُّنَّة" مرفوع، لا يكون في ذلك دلالة على تعيين الحكم من وجوب أو ندب؛ فقد يأتي ويُراد به:

- الندبُ، كما في:"مِن السُّنة وضع الكف على الكف في الصلاة"

(1)

.

- والوجوبُ كما في "الصحيحين" من حديث أبي قلابة عن أنس: "مِن السنة: إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعًا ثم قَسم. وإذا تزوج الثيب على البكر، أقام عندها ثلاثًا، ثُم قسم". قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إنَ أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قال ابن دقيق العيد: (يحتمل قول أبي قلابة وجهين:

أحدهما: أن يكون ظن ذلك مرفوعًا لفظًا من أنس، فتحرز عن ذلك؛ تَوَزُعًا.

والثاني: أنْ يكون رأَى أنَّ قول أنس: "مِن السُّنَّة" في حُكم المرفوع، فلو شاء لَعَبَّر عنه بالمشهور على حسب ما اعتقده).

قال: (والأول أقرب)

(3)

. انتهى

وفي الحديث مباحث أخرى ذكرتها في "جمع العُدة لفهم العمدة"، فراجعها.

ومن هذا يُعلم أن إطلاق "السُّنَّة" هنا كما [يُطلق]

(4)

في مقابَلة "الكتاب".

(1)

سبق تخريجه.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 4916)، صحيح مسلم (رقم: 1461).

(3)

إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (4/ 41).

(4)

في (ز): تطلق.

ص: 692

الثاني: عُلم مِن قولي: (وَهَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِي) أنَّ مَن دُون الصحابي لا يُحتج بقوله ذلك، بل يكون مرسَلًا وإنْ كان مرفوعًا كما فُهم ذلك مِن نَص الشافعي السابق. فإنْ كان مِن مِثل سعيد بن المسيب، ففيه ما سبق في مراسيله، ولهذا قال القاضي أبو الطيب في "شرح الكفاية": قول التابعي: "من السُّنَّة كذا" في حُكم المراسيل، إنْ كان قائله سعيدًا؛ فهو حُجة، وإلَّا فلا.

وفي "تعليقه" في "باب الجمعة والعيد": وجهان، أصحهما وأشهرهما: أنه موقوف على بعض الصحابة، وثانيهما: مرفوع مرسَل.

والله أعلم.

345 -

"كُنَّا مَعَاشِرَ الْأُنَاسِ نَفْعَلُ

بِعَهْدِهِ" وَ"النَّاسُ فِيهِ تَفْعَلُ"

(1)

346 -

وَ [مِثْلُهُ]

(2)

: "كنَّا نَقُولُ" أَوْ "نَرَى"

أَوْ "نَفْعَلُ الشيْءَ" بِعَهْدٍ ذُكِرَا

347 -

قِيلَ: وَإنْ لَمْ يَذْكرِ الْعَهْدَ، وَذَا

النَّوَوِي قَوَّاهُ في الْمَعْنَى خُذَا

348 -

كَذَاكَ: "كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَا"

وَ"مَا عَلَى التَّافِهِ يَقْطَعُونَا"

الشرح:

هذه صيغ مِن ألفاظ الصحابي محمولة على الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنْ كانت دُون ما سبق. وبؤخذ ذلك من النَّظم من تأخيرها عنها؛ لأن المقام لبيان المراتب، وبعض هذه تَكون الحجة

(1)

في (ن 1، ن 3، ن 4، ن 5) هكذا: كُنَّا مَعَاشِرَ الْأناسِ نَفْعَلُ * * أو كان عهدُه الأناسُ يَفْعَلُ.

(2)

في (ز، ظ، ن 2): نحوُه.

ص: 693

فيه من إلحاقه بالإجماع، لا من جهة كوْنه سُنَّة مرفوعة كما سيأتي بيانه، وبعضها أقوى من بعض.

أولها وهو أعلاها: إذا قال الصحابي: "كنا معاشر الناس نفعل كذا بعهد النبي صلى الله عليه وسلم". وعبرتُ في النظم بِ "الْأُنَاسِ" باعتبار الأصل.

قال الجوهري

(1)

: (والناس قد تكون مِن الإنس والجن، وأصله:"أُناس"، فخفف، ولم يجعلوا الألف واللام فيه عوضًا من الهمزة المحذوفة؛ لأنه لو كان كذلك لَمَا اجتمع مع المُعَوض منه في قول الشاعر:

إن المنايا يَطَّلِعـ

ـن على الأُناس الآمِنِينا).

انتهى

ومثل هذه المرتبة: "كان الناس يفعلون في عهده صلى الله عليه وسلم "، وهو معنى قولي:(فِيهِ)، أي: في عهده.

وإنما حُمل ذلك على الرفع؛ لأنَّ الظاهر من حال الصحابي تبليغ ما يتلقاه من الشارع.

قال الشيخ تاج الدين السبكي في "شرح المختصر": (إنَّ هذا مما لا يتجه -في كونه حُجة- خِلافٌ)

(2)

.

ومراده مِن حيث كونه مرفوعًا، لا من حيث إنه إجماع اعتضد بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم كما نقله شيخنا الزركشي في "شرح جمع الجوامع" عنه؛ لفساد ذلك؛ لأن الإجماع لا ينعقد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكما سبق بيانه.

(1)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (3/ 987).

(2)

رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (2/ 413 - 414).

ص: 694

الثانية: قول الصحابي: "كنا نقول -أو نرى، أو نفعل- كذا بعهده صلى الله عليه وسلم "، أو:"في عصره"، أو:"في حياته"، أو نحو ذلك. وهذه دُون ما قبلها؛ لاحتمال عَوْد الضمير على طائفة مخصوصة، لا جميع الناس.

قلتُ: لكن المدار على التقييد [بعهده]

(1)

صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ ظاهره أنه اطّلَع عليه وأقره؛ فلذلك قلتُ: ونحوه كذا. ولم أقُل: ودُونه.

مِثال ذلك قول جابر: "كنا نَعزِل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم "

(2)

. متفق عليه.

وقوله: "كنا نأكل من لحوم الخيل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم "

(3)

. رواه النسائي وابن ماجه.

فهذا قطعَ الحاكم وغيره مِن أهل الحديث وغيرهم بأنه مِن قبيل المرفوع، وصححه الإمام الرازي والآمدي وأتباعهما وغيرهم مِن الأصوليين.

قال ابن الصلاح: (وهو الذي عليه الاعتماد؛ لإشعار ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم اطَّلع عليه وأقره، و"تقريرُه" أحد وجُوه السُّنن المرفوعة)

(4)

.

قال: (وبلغني عن البرقاني أنه سأل الإسماعيلي عن ذلك، فأنكر كونه من المرفوع)

(5)

.

أي: فهو موقوف عنده؛ لاحتمال أنه لم يَبْلُغه صلى الله عليه وسلم أما لو صرح بِاطِّلاعه فَبِلَا خلاف، كقول ابن عمر: "كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أَفْضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر،

(1)

في (ز): بعهده النبي.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 4911)، صحيح مسلم (رقم: 1440).

(3)

سنن النسائي (رقم: 4330)، سنن ابن ماجه (رقم: 3197). قال الألباني: صحيح الإسناد. (صحيح النسائي: 4341).

(4)

مقدمة ابن الصلاح (ص 47).

(5)

المرجع السابق.

ص: 695

وعمر، وعثمان. ويسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ينكره"

(1)

. رواه الطبراني في "المعجم الكبير"، والحديث في "الصحيح"

(2)

لكن بدون التقييد باطِّلاعه.

قال ابن الصلاح: (ومن هذا القبيل قول الصحابي: كنا لا نرى بأسًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا)

(3)

.

وقد أشرتُ إلى شمول ذلك -بقولي: (أَوْ "نرَى") - قوله: "كنا نرى" أو "لا نرى"؛ إذْ لا فرق بين النفي والإثبات.

الثالثة: أن يقول الصحابي ما سبق من: "كنا نفعل"، أو:"نقول"، أو:"نرى"، ولكن لا يُقَيد بعهده صلى الله عليه وسلم، فالمختار كما قاله ابن الصلاح أنه موقوف تبعًا للخطيب وغيره.

وإنْ كان الحاكم والإمام الرازي أطلقَا أنَّ هذه الصيغة للرفع، فيشمل ما قُيِّد بعهده وما لم يُقيد بعهده.

نعم، قال ابن الصباغ في "العدة": إنه الظاهر.

ومَثَّله بقول عائشة رضي الله عنها: "كانت اليد لا تقطع في الشيء التافه"

(4)

.

وقال النووي في "شرح المهذب": (إنه قال به أيضًا كثير من الفقهاء، وهو قوي من حيث المعنى). انتهى

ولكن هذا التمثيل إنما يَحسُن أنْ يكون من القسم الرابع الذي ذكرته في البيت الرابع

(1)

المعجم الكبير (رقم: 13132).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3494).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 47).

(4)

مصنف ابن أبي شيبة (28114) بلفظ: "لَمْ يَكُنْ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الشَّيْءِ التَّافِه". قال الإمام الدارقطني في كتابه (العلل، 14/ 252): (حديث عائشة صحيح، ويشبه أن يكون هشام وصله مرة وأرسله مرة).

ص: 696

بقولي: (كَذَاكَ: "كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ") إلى آخِره.

فإذا قال الصحابي: (كان الناس يفعلون) أو: (كانوا لا يقطعون في التافه) أو نحو ذلك ولم يقيد بعهده أو في عصره أو زمانه أو نحو ذلك، فقيل: يحتج به؛ لأن ظاهره أنه إجماع.

وجمع ابن الحاجب بينه وبين القسم الذي قبله، وسوى بينهما في الاحتجاج به على قول الأكثر لهذا المعنى، فقال:(إذا قال -أيِ الصحابي-: "كنا نفعل" أو: "كانوا يفعلون"، فالأكثر: حُجة؛ لظهوره في عمل الجماعة)

(1)

. انتهى

ولم يذكر المرتبتين الأولتين؛ لأنهما حينئذٍ حجة من باب أَوْلَى، ومقتضى كلام القاضي في "التقريب" أنه لا يحتج بمثل ذلك إلا إنْ أضافه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم أو أسنده للإجماع صريحًا؛ فإن هذا ليس فيه تصريح بكل الأُمة، وكأن الأولين اكتفوا بظهور ذلك في الاتفاق؛ لأنَّ "الناس" ظاهرُه العموم بالألف واللام، و"كانوا لا يقطعون" أيْ: مَن لهم التصرف في الشرع، وهُم أهل الإجماع.

ويظهر أثر ذلك فيما إذا كان القائل لذلك تابعيًّا، فإنْ قيَّده بعهد النبي صلى الله عليه وسلم فهو كالمرسل، وإنْ لم يقيد وقُلنا: إنه كالإجماع، فكأنه حاكٍ للإجماع.

وقد ذكر المسألة في "المستصفى" إلا أنه خبر واحد واختلف في ثبوت الإجماع به، ومختار الغزالي أنه لا يَثْبُت، وهو قول الأكثر، واختار الرازي ثبوته، وجزم به الماوردي، قال: وليس آكد مِن السُّنة، وهِي تَثبت به.

وقد سبقت المسألة أول هذا الباب.

ومما يشبه ذلك حديث الغيرة بن شعبة: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه

(1)

مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 607)، الناشر: دار ابن حزم.

ص: 697

بالأظافير"

(1)

. قال الحاكم: هذا يتوهمه مَن ليس مِن أهل الصنعة مُسنَدًا -أيْ مرفوعا- لِذِكْر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وليس بمسنَد، بل موقوف.

وذكر الخطيب نحوه.

قال (أَعْني ابن الصلاح): لكنه مرفوع، بل أَوْلى مما سبق؛ لكونه أحرى باطِّلاعه صلى الله عليه وسلم عليه، ولعل الحاكم -وهو ممن يرى بأنَّ ما سبق مرفوعًا- إنما قال ذلك هنا نَفْيًا لكونه مرفوعًا لفظًا، بل هو مرفوع عنده معنًى.

هذا معنى كلام ابن الصلاح.

ونقل النووي [أوائل]

(2)

"شرح مسلم" في فصوله المفرقة عن جماعات في أصل المسألة أنه إنْ كان ذلك الفعل لا يخفَى غالبًا، كان مرفوعًا، وإلا كان موقوفًا، كقول بعض الأنصار:"كنا نجامع، فنكسل ولا نغتسل". قال: وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية.

واختار القرطبي أيضًا هذا التفصيل، ومثّل الشرع المستقر الذي لا يخفى بقول أبي سعيد:"كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير"

(3)

الحديث، ومثّل ما يمكن خفاؤه بحديث رافع بن خديج:"كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك"

(4)

.

وقال في القطعة التي له على "البخاري": إنَّ ظاهر كلام كثير من المحدثين والفقهاء أنه

(1)

المدخل إلى السنن الكبرى (ص 381، رقم: 659).

(2)

في (ز): في أوائل.

(3)

صحيح مسلم (رقم: 985).

(4)

سنن أبي داود (رقم: 3395)، وبنحوه في سنن ابن ماجه (رقم: 2450). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3395).

ص: 698

مرفوع مطلقًا، وهو قوي.

وهذه العبارة في الترجيح أقوى مما نقلناه آنفا عن"شرح المهذب" وإنْ كنتُ في النَّظم إنما ذكرتُ مقالته في "شرح المهذب". والله أعلم.

ص:

349 -

وَمَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيْ مِمَّا

لَمْ يَكُنِ الرَّأْيُ لَهُ قَدْ عَمَّا

350 -

فَحُكْمُ مَرْفُوعٍ، وَأَمَّا مُسْتَنَدْ

غَر الصَّحَابِيِّ [فَرَتِّبْ]

(1)

، يُعْتَمَدْ

الشرح:

إذا قال الصحابي شيئًا ليس للاجتهاد فيه مجال ولا يُقال مِثله من [قِبَل الرأي]

(2)

، فحُكمه حُكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الظاهر أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قاله الإمام في "المحصول" والحاكم في "علوم الحديث"، ومثّل ذلك بقول ابن مسعود:"مَن أتى ساحرًا أو عرافًا فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"

(3)

، ونحو ذلك. واقتضاه أيضًا كلام ابن عبد البر وغيره من الأئمة.

ولا التفات إلى قول ابن حزم: إنَّ ذلك وإنْ كان لا يُقال مِثله من جهة الرأي فلعل الصحابي سمعه من أهل الكتاب كما سمع جمعٌ من الصحابة من كعب الأحبار. فقد روى عنه العبادلة وغيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"حَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"

(4)

.

(1)

في (ن 2، ن 5): قريب.

(2)

في (ص): قبيل الرأي. وفي (ض، ظ): قبل الراوي.

(3)

مسند أبي يعلى (9/ 280، رقم: 5408)، السنن الكبرى للبيهقي (16274) وغيرهما.

(4)

صحيح البخاري (3274) وغيره.

ص: 699

قيل: ويخرج كوْن ذلك مرفوعًا من قول الشافعي في مسألة الاحتجاج بقول الصحابي الآتي ذِكرها في باب "الأدلة المختلف فيها" فيما نقله إلْكِيَا أنَّ مذهبه قديمًا وجديدًا اتِّباع قضاء عمر في تقدير دية المجوسي بثمانمائة درهم ونحو ذلك على ما قاله بعض الأصحاب في سبب ذلك أنه كان يرى الاحتجاج بقول الصحابي إذا خالف القياس مِن حيث إنه لا مَحْمَل له سِوَى التوقيف.

فتلخص أنَّ قوله: (حُجة) إذا لم يكن مُدْرَكًا بالقياس، دُون ما إذا كان للقياس فيه مجال.

قال بعض المحققين: وهذا القول هو المختار، وبه تنجمع نصوص الشافعي، فحيث قال:(إنَّ قول الصحابي غير حجة) أراد إذا كان للقياس فيه مجال، وحيث قال:(إنه حجة) أراد إذا لم يكن للرأي فيه مجال.

وكذا حكاه القاضي في "التقريب" والغزالي استنباطًا من قول الشافعي في "اختلاف الحديث": إنه روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى في ليلة ست ركعات، كل ركعة بست سجدات.

ثم قال: إنْ ثبت ذلك عن عَلِي، قلتُ به؛ فإنه لا مجال للقياس فيه

(1)

.

فالظاهر أنه جعله توقيفًا.

قال القاضي: (وهذا من قول الشافعي يدل على أنه كان يعتقد أنَّ الصحابي إذا قال قولًا ليس للاجتهاد فيه مدخل فإنه لا يقوله إلا سمعًا وتوقيفًا، وأنه يجب اتِّباعه عليه؛ لأنه لا يقول ذلك إلا عن خبر). انتهى

نعم، الغزالي جعله من تفاريع القديم، وهو مردود؛ لأنَّ كتاب "اختلاف الحديث" من الكتب الجديدة قطعًا، رواه عنه الربيع بن سليمان بمصر، وجزم بهذا الحكم أيضًا ابن الصباغ في "الكامل في الخلاف"، وقال إلْكِيَا في "التلويح": إنه الصحيح.

(1)

انظر: الأم (7/ 168).

ص: 700

وسيأتي في الكلام على قول الصحابي مزيد بيان إن شاء الله تعالى.

نعم، هنا تنبيه:

وهو أن ما ذكرناه عن الغزالي نقله الشيخ صلاح الدين العلائي في قواعده عن "المستصفى" وتعقب نقله له عن القديم بما سبق مِن كوْن "اختلاف الحديث" جديدًا، وقال: إنما هذا تفريع على قوله: "إنَّ مذهب الصحابي حجة"، وليس هو قديما، بل هو جديد.

ثم ذكر نصوصًا له في "الأم" تدل على أنه حجة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذِكرها هناك. وذكر أيضا نحو هذا في كتاب "إجمال الإصابة في أقوال الصحابة".

ولكن الشيخ تقي الدين السبكي جعله مستثنى مما هو مشهور عن الجديد أنه ليس بحجة، ثم ذكر نَص "اختلاف الحديث"، وجَرَى على هذا الشيخ جمال الدين الأسنائي في "التمهيد".

وقال بعض المحققين في عصرنا: إنَّ نَقل ذلك عن"اختلاف الحديث" غلط، والظاهر أنهم قلدوا فيه الغزالي، فليس ذلك في "اختلاف الحديث"، فقد تَتبَعنا الكتاب في عِدة نُسَخ فلم نجده.

نعم، في كتاب "اختلاف عِلي وابن مسعود" من كتاب "الأم" في ترجمة الصلاة في الزلزلة قال الشافعي ما نَصه: (عبَّاد عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن عِلي رضي الله عنه أنه [صلَّى في زلزلة ست ركعات، أربع سجدات في خمس ركعات، وسجدتين في ركعة]

(1)

، ولسنا نقول بهذا، نقول: لا يُصَلَّى في شيء من الآيات إلا في كسوف الشمس والقمر. ولو ثبت هذا الحديث

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والعبارة في "الأم، 7/ 168" هكذا: (صَلَّى فِي زَلْزَلَة لِستَّ رَكعَاتٍ فِي أَرْبَعِ سَجدَاتٍ، خَمْسَ رَكعَاتٍ وَسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ، وَرَكْعَةٍ وَسَجْدَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ).

ص: 701

عندنا عن عِلي لَقُلْنَا به، وهُم يثبتونه ولا يقولون به، يقولون: يُصلى ركعتين في الزلزلة، في كل ركعة ركعة. هشيم عن يونس، عن الحسن: أنَّ عليًّا صلَّى في كسوف الشمس خمس ركعات في أربع سجدات. ولسنا ولا إياهم نقول بهذا، أما نحن فنقول بالذي روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أربع ركعات وأربع سجدات")

(1)

(2)

. إلى آخِر ما ذكر.

وقد أخرج في الزلزلة ابن أبي شيبة في مُصنفه بسنده عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: "صلَّى بهم في زلزلة كانت أربع سجدات، [سجد]

(3)

فيها ستًا"

(4)

.

قال: (فلعل الغزالي وقع له نسخة صحف فيها الناسخ لفظ "زلزلة" بِ "ليلة"، وسبق وهْمه إلى أنَّ ذلك في "اختلاف الحديث"، وإنما هو في "اختلاف علي وابن مسعود"). انتهى

والله أعلم.

وقولي: (وأما مستند غير الصحابي) تمامه قولي بعده:

ص:

351 -

قِرَاءَةُ الشَّيْخِ، فَرَاوٍ يَقْرَأُ

ثُمَّ سَمَاعُ مَا عَلَيْهِ يُقْرَأُ

(1)

سنن أبي داود (رقم: 1179)، سنن النسائي (1478). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 1179).

(2)

الأم (7/ 168).

(3)

ليس في (ص، ض).

(4)

لفظ "مصنف ابن أبي شيبة" هكذا: (صَلَّى بهم في زلزلة كانت أربع سجدات، ركع فيها سِتًّا). كذا بتحقيق محمد عوَّامة (5/ 432)، وبتحقيق حمد الجمعة ومحمد اللحيدان (3/ 527) طبعة الرشد، وجاء في هامش طبعة الرشد:(في "ط س" وحدها: "أربع سجدات فيها وست ركوعات").

ص: 702

الشرح:

والمراد بذلك أنَّ مستند غير الصحابي في الرواية له مراتب وإنْ كان بعضها يكون في الصحابي مِثله كما سبق في عكسه، وهو أن ألفاظ الصحابي قد يكون منها ما هو في غير الصحابي لكن الضرورة داعية إلى بيان مستند غير الصحابي والاصطلاح فيه ولو كان الحكم فيهما سواء.

وقد اشتمل هذا البيت على ثلاث منها:

إحداهما: وهو أعلى المراتب كلها عند الأكثر، أنْ يقرأ الشيخ والراوي عنه يسمع، سواء كان إملاءً أو تحديثًا لا إملاء فيه، وسواء أكان من حِفظه أو من كتابه.

قال الماوردي والروياني: (وسواء أكان عن قصد أو اتفاقًا، وسواء أكان ما بالقصد استرعاء أو في مذاكرة أو غير ذلك، بخلاف الشهادة. وسواء أكان المحدِّث أعمى أو أصم أو سليمًا، فلو كان المتحمِّل أعمى، صَحَّ سماعُه إذا عَرف أنَّ ذلك صوت شيخه بطريق مُعتبر. فإذا حدَّث ما سمعه: فإنْ كان مِن حِفظه، صَح إذا وثق به، أو من كتابه، صَح إن كان بصيرًا بشرط أن يكون ذاكرًا لوقت سماعه، واثقًا بكتابه. ومنع أبو حنيفة أنْ يروي إلا من حفظه كالشاهد)

(1)

.

قال الماوردي والروياني: (ولو صح ذلك لبطلت فائدة الكتابة، فقد صارت الرواية في عصرنا من الكتاب أثبت عند أصحاب الحديث من [الحفظ]

(2)

(3)

.

ومقابل قول الأكثر: أنَّ القراءة على المحدِّث أقوى من قراءته؛ لأنه أَبْعَد من الخطأ

(1)

الحاوي الكبير (16/ 89).

(2)

كذا في (ز، ص)، لكن في (ت): الحفاظ.

(3)

الحاوي الكبير (16/ 91).

ص: 703

والسهو، وإنما كان أكثر التحمل عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحديثه لأنه لا يُعْلَم إلا منه، وهو لا يحدِّث إلا مِن حِفظه، وغيْره ليس كذلك.

وجواب الأكثرين: أنَّ تجويز الخطأ والنسيان -في صورة القراءة على الشيخ وهو يسمع - أَقْرَب، وسيأتي لذلك مزيد بيان.

واعْلم أن كل مرتبة للمتحمل بها لفظ يخبر به عن تحمله هو من وظيفة أهل الحديث؛ ولذلك لم أتعرض له في النظم، لكني أتعرض هنا لشيء منه؛ تتميمًا للفائدة.

ففي هذه المرتبة يقول: "حدثنا"، و"أخبرنا"، و"أنبأنا"، و"سمعت فلانًا يقول"، و"قال لنا فلان"، و"ذكر لنا فلان". وقد نقل القاضي عياض الإجماع في هذا كله.

فلذلك تعقب بعضهم على ابن الصلاح في قوله بعد أن حكى ذلك: (إنَّ فيه نظرًا، وإنه ينبغي -فيما شاع استعماله من هذه الألفاظ مخصوصًا بما سمع من غير لفظ الشيخ على ما سيأتي- أنْ لا يُطْلَق فيما سمع من لفظ الشيخ؛ لِمَا فيه من الإيهام والإلباس)

(1)

.

ووجه التعقب عليه: معارضته للإجماع، وأنه لا يجب على السامع أن يُبين هل كان السماع من لفظ الشيخ أو عرضًا.

نعم، إطلاق لفظ "أنبأنا" بعد أن اشتهر استعمالها في الإجازة يُوهِم أن يكون ذلك إجازة، والفرض أنه قد سمعه من الشيخ.

قال الخطيب: أرفع العبارات: "سمعتُ"، ثم "حدثنا" و"حدثني"، ثم "أخبرنا" وهو كثير في الاستعمال، ثم "أنبأنا" و"نبأنا" وهو قليل في الاستعمال. وقال أحمد بن صالح:" أخبرنا" و"أنبأنا" دُون "حدثنا". وقال أحمد

(2)

: "أخبرنا" أسهل من "حدثنا"، فإنَّ "حدثنا"

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 132).

(2)

يقصد: أحمد بن حنبل.

ص: 704

شديد.

وبَسْط هذا الخلاف وتوجيهه محله كُتب علم الحديث.

المرتبة الثانية: أن يقرأ هو على الشيخ، والشيخ يسمع. ويسميها أكثر المحدثين "العَرْض"، وكأن القارئ يَعْرِض ذلك على الشيخ.

وأصل ذلك حديث أَنس رضي الله عنه في الرجل الذي جاء من البادية -وهو ضمام بن ثعلبة- فقال: "يا محمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أنَّ الله أرسلك. قال: صَدَق.

قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله.

قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله.

قال: فمن نَصَب هذه الجبال؟ ونصب فيها ما جعل؟ قال: الله.

قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونَصَب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال: نعم.

قال: وزعم رسولك أنَّ علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: صدق"

(1)

الحديث. واختُلف -في كون هذه المرتبة دون التي قبلها أو فوقها أو مثلها- على ثلاثة أقوال: أرجحها -وهو قول الجمهور من أهل المشرق- الأولُ.

وذهب ابن أبي ذئب وأبو حنيفة إلى الثاني، وحكاه ابن فارس عن مالك وعن ابن جريج والحسن بن عمارة، ورواه الخطيب عن مالك والليث وشعبة وابن لهيعة ويحيى بن سعيد ويحيى بن بكير وغيرهم.

والثالث: التسوية، وهو مشهور مذهب مالك ومعظم علماء الحجاز والكوفة وقول البخاري.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 63)، صحيح مسلم (رقم: 12) واللفظ لمسلم.

ص: 705

الثالثة

(1)

: أن يقرأ غيرُ الشيخ على الشيخ، والراوي يسمع، ويُسمى هذا "عَرْضًا" كالذي قبله، وفي الرواية به خلاف، فحكى الرامهرمزي عن أبي عاصم النبيل المنع، وحكاه الخطيب عن وكيع وعن محمد بن سلام، وكذا عبد الرحمن بن سلام الجمحي.

وجمهور العلماء -منهم الأئمة الأربعة- على خلاف ذلك.

نعم، شرط بعض العلماء في العَرْض أن يكون الشيخ مُمْسِكًا لأصله إن لم يكن حافظًا ما يُقرأ عليه، أو يمسك غير الشيخ من الثقات- على خلاف في هذا لبعض الأصوليين.

وفي معنى إمساك الثقة أصل الشيخ: حِفظه ما يُعرض على الشيخ والثقة مستمع، أو يكون القارئ بنفسه هو الحافظ، فيقرأ مِن حِفظه والشيخ يسمع.

نعم، شرَط بعض الظاهرية إقرار الشيخ بصحة ما قُرئ عليه [نُطقًا]

(2)

. والصحيح أن عدم إنكاره -ولا حامل له على ذلك من إكراه أو نوم أو غفلة أو نحو ذلك- كافٍ؛ لأنَّ العُرْف قاضٍ بأن السكوتَ تقريرٌ في مثل هذا وإلا لكان سكوتُه -لو كان غير صحيح- قادحًا فيه.

واعْلَم أنَّ التحديث بهذا العَرْض المسمَّى عندهم "عَرْض القراءة" يقول فيه الراوي: "حدثنا" أو "أخبرنا"، سواء قيَّد ذلك بقوله:"بقراءتي عليه" أو "سماعي عليه" أو أَطلق -على الأصح عند ابن الحاجب وغيره، فقد نقله الحاكم أبو عبد الله عن الأئمة الأربعة.

وذهب ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد في رواية والنيسابوري إلى المنع مطلقًا.

وقيل: يجوز "أخبرنا" ولا يجوز "حدثنا". وهو قول الشافعي ومسلم وجماهير أهل المشرق، وعليه العمل.

(1)

المرتبة الثالثة.

(2)

في (ص، ش، ض): مطلقا.

ص: 706

وذهب سليم الرازي وأبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني إلى أنه لا يقول شيئا من ذلك إنْ لم [يقر الشيخ نُطقًا]

(1)

، وإنما يقول:"قرأتُ عليه" أو "قُرئ عليه وهو يسمع"، كما إذا قرأ على إنسان كتابًا فيه أنه أقَر بِدَيْن أو بَيْع أو نحو ذلك فلم يقر به، لا يجوز أن يشهد عليه.

وقد يُفرق بما سبق من اطِّراد العُرْف في نحو ذلك، بخلاف باب الشهادة، فإنه ضيق.

قولي: (يقرأ) في آخِر النصف الأول من البيت بفتح أوله، وفي آخِر النصف الثاني بالضم مبنيًّا للمفعول، والله أعلم.

ص:

352 -

ثُمَّ إجَازَةٌ مَعَ الْمُنَاوَلَهْ

فَأَنْ يُجيزَ دُونَ أَنْ يُنَاوِلَهْ

الشرح:

هذان النوعان دُون ما سبق:

أولهما: أن يجيزه بشيءٍ ناوله إياه بأنْ يدفع الشيخ إلى الطالب أصلَ مَرويه أو فرعًا مقابَلًا به ويقول له: "هذا سماعي أو مَرْوي بطريق كذا عن فلان، فارْوه عني"، أو:"أَجَزْتُه لك أن تَرويه عني"، ثم يُملِّكه إياه بِطَريقٍ، أو يعيره له ينقله ويقابله به.

وفي معناه أن يجيء الطالب بذلك إلى الشيخ ابتداءً ويعرضه عليه، فيتأمله الشيخ العارف اليقظ ويقول:"نعم، هذا مسموعي أو روايتي بطريق كذا، فارْوه عني" أو: "أَجَزْتُه لك". ويُسمى هذا "عَرْض المناولة" كما أنَّ سماع الشيخ يُسمى "عَرْض القراءة" كما سبق.

(1)

في (ص): يقرا الشيخ مطلقا.

ص: 707

والرواية بهذا النوع جائزة، قال القاضي عياض في "الإلماع": بالإجماع. وكذا قال [المازري]

(1)

: إنه لا شك في وجوب العمل به. وقد ذكر ابن وهب أن يحيى بن سعيد سأل مالكًا عن شيءٍ من أحاديثه، فكتب له مالك بيده أحاديث وأعطاها له. فقيل لابن وهب:[أَقَرَأَهَا]

(2)

يحيى عليه؟ فقال: يحيى أَفْقَه من ذلك. أي: لاستواء الأمرين.

لكن الصيرفي حكى الخلاف في المسألة وأن المانع خَرَّجه على الشهادة [بما]

(3)

في الصك ولم يقرأ على المشهود عليه بل قال: اشهدا علَيَّ بما فيه، فإنَّ القول بمنعه مشهور، وبه قال الشافعي في كتاب القاضي للقاضي: لا يقبله حتى يشهدا بأن القاضي قرأه عليهما أو نحو ذلك، دون ما إذا كان مختومًا، إلا أنْ يُقال: باب الرواية أوسع.

وإن كان كلام البيهقي يقتضي أن الشافعي يرى التسوية بينهما في ذلك.

ومما استُنِد إليه في أصل المناولة بدون القراءة ما قال البخاري: (إنَّ أهل الحجاز احتجوا به عليها): حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السرية كتابًا وقال: "لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا"، فلمَّا بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

لكن أشار البيهقي إلى أنه لا حُجة في ذلك، وهو ظاهر؛ لاحتمال أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأه عليه " فيكون واقعة عَيْن يسقط بها الاستدلال، للاحتمال.

(1)

في (ص): الماوردي.

(2)

في (ز، ص، ض): أقرأهما.

(3)

في (ز): كما.

(4)

صحيح البخاري (1/ 35) بَاب "ما يُذْكَرُ في الْمُنَاوَلَةِ"، قال البخاري:(وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: "لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا". فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

ص: 708

وأمير السرية هو عبد الله بن جحش المُجَدَّع في الله، وذلك في رجب في السَّنة الثانية. والحديث المذكور رواه الطبراني موصولًا

(1)

.

واعْلَم أني أشرتُ بقولي: (ثُمَّ إجَازَةٌ مَعَ الْمُنَاوَلَهْ) إلى أنَّ هذا ليس كالسماع، بل منحط عنه، وهو الصحيح. حكاه الحاكم عن فقهاء الإسلام المفتيين في الحلال والحرام: الشافعي، وصاحبيه المزني والبويطي، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك، ويحيى بن يحيى، قال: وعليه عَهِدْنَا أئمتنا، وإليه نذهب.

وأي مُقابلة: فقول الزهري، وربيعة، ويحيى بن سعيد، ومالك، ومجاهد، وأبي الزبير، وابن عيينة، وقتادة، وأبي العالية، وابن وهب، وآخَرين.

قولي: (فَاَنْ يُجِيزَ دُونَ أَنْ يُنَاوِلَهْ) بفتح (أَن) فيهما إشارة إلى أنه أعلى من الإجازة المجردة، وهو الراجح الذي قال به المحدِّثون وإنْ كان الأصوليون خالفوهم في ذلك كما صرح به إمام الحرمين وابن القشيري والغزالي، وقالوا: المناولة ليست شرطًا ولا فيها مزيد تأكيد، وإنما هو زيادة تكلف أَحْدَثه بعضُ المحدثين.

واعْلم أنَّ ألفاظ الراوي بهذا النوع أنْ يقول: "ناولني فلان كذا، وأجازني بما فيه"، أو نحو ذلك، أو يقول:"أخبرني -أو: حدثني- مناولةً"، وهذا باتفاق، أمَّا الاقتصار على "حدثني " و"أخبرني" فالأصح المنع. ومَن أجاز، قاسَه على ما لو قُرئ عليه وهو ساكت، بل هذا أَوْلى، ولا يخفَى ما فيه، والله أعلم.

(1)

المعجم الكبير (2/ 162) من حديث أبي السوار عن جندب بن عبد الله، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في (تغليق التعليق، 2/ 76) كلام الإمام البخاري وذكر عدة طُرُق، ثم قال:(وَله شَاهد جيد مُتَّصِل من حَدِيث أبي السوار الْعدوي عَن جندب بن عبد الله).

ص: 709

ص:

353 -

وَهَذِهِ لِذِي خُصُوصٍ أُفْرِدَا

بِمَا يَخُصُّ، أَوْ يَعُمُّ الْمَوْرِدَا

354 -

فَعَكْسُ ذَا، ثُمَّ عُمُومٌ يُطْرَدُ

ثُمَّ "فُلَانٌ مَعَ نَسْلٍ يُوجَدُ"

الشرح:

هذا تقسيم للإجازة المجردة عن المناولة.

و"الإجازة": مَصدر "أَجَزْتُ لفلان كذا" و"أجزت فلانًا".

فمَن عَدَّاه بحرف الجر فهو بمعنى سوغتُ له وأبحتُ له، ومَن عدَّاه بنفسه فهو بمعنى عدَّيته إلى ما لم يكن مُتحمِّلًا له وراويًا. أو من قولهم:"أَجَزْتُه ماءً"، أي: أسقيته ماءً لأرضه أو لماشيته، أو نحو ذلك.

ومنهم مَن قال: هي مِن المجاز المقابل للحقيقة؛ لأن حقيقة التحمل هو بالقراءة والسماع، فما سواه مجاز.

وصيغتها في الاصطلاح ما نذكره في كل قسم من أقسامها، وقبل ذلك نقول:

وقع الخلاف فيها في مواضع، منها ما يتعلق بها من حيث هي، ومنها ما يتعلق ببعض الأقسام، [فيُقدم]

(1)

الأول هنا:

فمنه: اختلفوا في العمل بها، فالجمهور على الجواز، وحكى القاضي عن أهل الظاهر أنها كالمرسل. وضُعِّف بأنَّ في الإجازة من اتصال المنقول بها و [الثقة]

(2)

به ما ليس في المرسل.

(1)

كذا في (ش). وفي (ص، ت، ظ): فتقدم.

(2)

في (ز، ق، ش): في الثقة.

ص: 710

وفي "المنخول" للغزالي قول غريب: إنه يعمل بها في أحكام الآخرة دُون ما سواها.

ومنه: اختلفوا في الرواية بها، والراجح الجواز، بل حكى القاضي أبو بكر والباجي وغيرهما من الأصوليين الاتفاق عليه.

وهو عجيب؛ فقد قال بالمنع شعبة، قال:(ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة). وقال به أيضًا أبو زرعة الرازي، وقال: الو صحت لذهب العلم)، وإبراهيم الحربي كما نقله عنه الخطيب ثم ابن الصلاح وإنِ اضطرب في النقل عنه.

واختاره القاضي الحسين والماوردي والروياني، ونقلوه عن نَص الشافعي.

وحكى ابن وهب عن مالك أنه قال: لا أرى هذا يجوز، ولا يعجبني.

قال أبو طاهر الدباس من الحنفية: مَن قال لغيره: (أجزتُ لك أنْ تروي عني)، فكأنه يقول:(أجزتُ لك أنْ تكذب علَيَّ). وكذا قال غيره: إنه بمنزلة: (أبحتُ لك ما لا يجوز في الشرع)؛ لأنَّ الشرع لا يبيح رواية ما لم يُسْمَع.

واحتج ابن الصلاح للإجازة بأنه إذا أجاز له أن يروي عنه مروياته، فقد أخبره بها جملة، فهو كما لو أخبره تفصيلًا، وإخباره بها غير متوقف على التصريح نُطقًا كما في القراءة على الشيخ كما سبق

(1)

. انتهى

فتقدير قوله: "أجزتُ لك" أخبرتك أني أروي هذا الكتاب وأذنتُ لك أن تنقله عني.

وما معنى قول الراوي: (أخبرنا فلان إجازةً) إلَّا هذا، فهو شبيه بمن يكتب الوصية ويقول لشخص:(اشْهَد علَيَّ بما في هذا المكتوب)، فقد جَوَّز محمد بن نصر المروزي -مِن أصحابنا- أن يشهد عليه بما فيه، والرواية أَوْلى.

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 152).

ص: 711

وأما ما حُكي عن الشافعي فمحمول على كراهة ذلك، لا أنه ممتنع. كذا اقتضاه كلام البيهقي، وحكى عن شيخه الحاكم أنه قال:(فرَضي الله عن الإمام الشافعي كيف كره المكروه عند أكثر أئمة هذا الشأن). انتهى

وقد صرح بالجواز في القديم والجديد.

أما في القديم: فقال الكرابيسي: إنَّ الشافعي لَما قَدِم -يَعْني إلى بغداد- أتيتُه، فقلتُ: أتأذن لي أنْ أقرأ عليك الكُتب؟

قال: خُذ كُتب الزعفراني فانسخها، فقد أجزتها لك. فأخذتها إجازةً.

وأما في الجديد: فروى الربيع عن الشافعي الإجازة لمن بلغ سبع سنين.

واختُلِفَ أيضًا فيما يقول الراوي بالإجازة، فإنْ قال:"أجازني" أو "أجاز لنا" فهو الأجود. وهل يقول: "أخبرنا" أو "حدثنا"؟

قال أبو الحسين بن القطان: لا يقول ذلك، بل يحكي لفظ الشيخ. قال: وذهب إلى هذا أبو بكر.

وقال المازري: يمتنع حتى يقول بالإجازة. وقال إمام الحرمين: الأَوْلى التصريح به. وأقره ابن القشيري.

وسيأتي في بعض الأقسام في ذلك زيادة بيان.

إذا تَقرر ذلك، عُدنا إلى الأقسام، وذكرتُ منها خمسة:

الأول: إجازة خاصٍّ بخاص، وهي أعلاها. فيقول مثلًا: (أَجَزْتُك -أو: أجزتُ فلانًا أو عددًا [بعينهم]

(1)

- الكتاب الفلاني)، أو:(ما اشتملت عليه فهرستي هذه). وذلك مُعَيَّن

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): يعينهم.

ص: 712

فيها.

وزعم بعضهم أنه لا خلاف في جوازها وأنَّ الخلاف إنما هو في غير هذا القسم. والصحيح شمول الخلاف للكل كما أطلقنا فيما سبق.

الثاني: الإجازة لِخَاصٍّ لكن بِعَامٍّ، وهو معنى قولي:(أَوْ يَعُمُّ الْمَوْرِدَا)، فإنه وإن كان معطوفًا بِـ "أو" فهو دُون الذي قَبْله، اعتمادًا على ظهور ذلك بالتقديم ووضوح أنَّ الإجازة [بالعام]

(1)

دون الإجازة بالخاص حتى كان ذلك بديهي، وذلك مثل أنْ يقول:(أجزتُ لك -أو: لكم- جميع مسموعاتي). فالخلاف في هذا النوع أقوى وأكثر.

وإلى المنع ذهب إمام الحرمين، إذ قال:(يَبعُد أنْ يحصل العلم إلا بالتعويل على خطوط مشتملة على سماع الشيخ، فإنْ تحقق ظهور سماع لوثوق به، فإذْ ذاك، وهيهات)

(2)

. انتهى

والجمهور على جوازه أيضًا، وغاية ما قاله استبعاد.

الثالث: عكس الثاني، وهو الإجازة لعام بخاصٍّ، نحو: أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي أو نحو ذلك -بالكتاب الفلاني.

الربا: الإجازة لعام بعام، كـ "أجزتُ أهل العصر بجميع مروياتي". وهو دُون الذي قبله.

وقد منعه جماعة، وجوَّزه الخطيب وغيره، وقد فعله ابن منده، فقال: أجزتُ لمن قال: لا إله إلا الله.

وحكى الحازمي عمن أدركه من الحفاظ كأبي العلاء الحسن بن أحمد [القطان]

(3)

(1)

في (ز): بالمعدوم.

(2)

البرهان (1/ 415).

(3)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب: العطار. (سير أعلام النبلاء، 21/ 40).

ص: 713

الهمداني وغيره أنهم كانوا يميلون للجواز.

وحكى الخطيب عن القاضي أبي الطيب الطبري أنه جوَّز الإجازة لجميع المسلمين مَن كان منهم موجودًا عند الإجازة.

وقال ابن الصلاح: (لم نر ولم نسمع عن أحدٍ ممن يُقتدَى به استعمل هذه الإجازة، ولا عن الشرذمة المجوزة، والإجازة في أصلها ضعفٌ، وتزداد بهذا التوسع ضعفًا كثيرًا لا ينبغي احتماله)

(1)

.

قال بعض شيوخنا: ممن أجازها أبو الفضل بن خَيرون البغدادي وابن رشد المالكي والسلفي وغيرهم.

ورجحه ابن الحاجب، وصححه النووي من زيادة "الروضة".

وأفرد الحافظ أبو جعفر محمد بن حسين بن أبي البدر البغدادي كتابًا فيمن أجاز هذه الإجازة ومن عمل بها مُرَتبِين على حروف المعجم؛ لكثرتهم.

واعْلَم أنَّ مِن الإجازة للعموم أنْ يصفهم بوصفٍ خاص، فيكون إلى الجواز أقرب كما قاله ابن الصلاح، ومَثَّله القاضي عياض بقوله:(أجزتُ لمن هو الآن من طلبة العلم ببلد كذا) أو: (لمن قرأ علَيَّ قبل هذا).

قال: (فما أحسبهم اختلفوا في جوازه، أي: ممن يصحح الإجازة؛ لأنه محصور، فهو كقوله: لأولاد فلان، أو: لإخوة فلان)

(2)

.

الخامس: الإجازة للمعدوم تبعًا للموجود، كـ "أجزتُ لك ولولدك ولعقبك ما تناسلوا". وهى جائزة، فقد أجاز الفقهاء في الوقف مثل هذا، وقد فعل هذا أبو بكر بن أبي

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 155).

(2)

الإلماع (ص 101).

ص: 714

داود السجستاني، فإنه سُئِل الإجازة، فقال:(قد أجزتُ لك ولأولادك ولحبل الحبلة). يعني: مَن لم يولد بعدُ، وهذا معنى قولي:(ثُمَّ "فُلَانٌ مَعَ نَسْلٍ يُوجَدُ") أي: هي دون ما سبق في المرتبة.

تنبيهان

أحدهما: دخل في إطلاق جواز الإجازة على ما فُصل إجازةُ المُجَاز كـ: "أجزتُ لك مجُازاتي"، أو:"إجازة ما أُجِيزَ لي روايته". وهو الصحيح، خلافًا لبعض المتأخرين، وقد كان الفقيه نصر المقدسي يروي بالإجازة عن الإجازة، وعليه العمل إلى زماننا.

الثاني: عُلم مِن اقتصاري على هذه الخمسة الأقسام أنَّ ما سواها لا يجوز ولا يُعمل به، فمِن ذلك:

الإجازة للمعدوم ابتداءً دُون ذكر موجود يكون تابعًا له، نحو:"أجزتُ لمن يولد لفلان". وقد أجازها أبو يعلى من الحنابلة، وأبو الفضل بن عمروس مِن المالكية، والخطيب من الشافعية.

والصحيح الذي استقر عليه رأي القاضي أبي الطيب وابن الصباغ أنها لا تصح؛ لأنَّ الإجازة في حكم الإخبار جملةً بالمُجَاز كما تَقدم، فكما لا يصح الإخبار للمعدوم لا يصح إجازته. قال ابن الصلاح: وهو الصحيح الذي لا ينبغي غيره.

ونظيره في الوقف لا يجوز عندنا، وأجازه أصحاب مالك وأبي حنيفة، فجوَّزوا الوقف على مَن سيولد أو يوجد مِن نسل فلان.

أمَّا الإجازة للمعدوم على العموم -كَ "أجزتُ لمن يوجد بعد ذلك مطلقًا"- فلا يصح بالإجماع، وكأنها إجازة من معدوم لمعدوم.

ص: 715

ومنه: الإجازة للمجهول أو بالمجهول، كـ:"أجزتُ لرَجُلٍ مِن الناس" أو: "لفلان". ويشترك في ذلك الاسم جمع، أو:"أجزتُك أنْ تروي عني شيئًا" أو: "تروي كتاب السُّنن " وهو يروي عِدَّةً مِن كُتب في السُّنن المعروفة بذلك ولا قرينة ترشد للمراد، فهي إجازة فاسدة، لا فائدة لها.

وليس من هذه: الإجازة لِمُسَمين معينين بأنسابهم والمجيز جاهل بأعيانهم، فلا يقدح كما لا يقدح عدم معرفته بمن هو حاضر يسمع بشخصه.

وكذا لو أجاز للمُسَمَّين في الاستجازة ولم يعرفهم بأعيانهم ولا بأنسابهم ولا [تَصَفَّحَهم]

(1)

واحدًا واحدًا، فإنَّ ابن الصلاح قال:(ينبغي أن يصح كما يصح مَن حضر مجلسه للسماع منه وإنْ لم يعرفهم ولا عددهم ولا أشخاصهم).

ومنه: الإجازة المعلَّقة بشرط، مثل:"أجزتُ لمن يشاء فلان" أو نحو ذلك، فلا يصح أيضا كالذي قبله؛ لِمَا فيه من الجهالة والتعليق. وقد أفتى القاضي أبو الطيب بأنه لا يجوز؛ لأنه إجازة لمجهول، قال: كقوله: (أجزتُ بعض الناس).

وقال أبو يعلى الحنبلي وابن عمروس المالكي: يجوز ذلك.

فلو قال: "أَجزتُ مَن شاء" فهو كـ: "أَجزتُ مَن شاء فلان"، بل [هذا]

(2)

أكثر جهالة وانتشارًا مِن جهة تعليقها بمشيئة مَن لا يُحصَر عددهم.

نعم، هذا فيمن أجاز لمن شاء الإجازة منه، أمَّا لو أجاز لمن شاء الرواية عنه فهو أَوْلى بالجواز مِن حيث إنَّ قضية كل إجازة تفويض الرواية بها إلى مشيئة مَن أجاز له، فكان هذا مع كونه بصيغة التعليق تصريحًا بما يقتضيه الإطلاق من حكاية الحال، لا تعليقًا؛ ولهذا أجاز

(1)

كذا في (ز، ق). لكن في (ص، ش): يصحبهم. وفي (ظ، ت): بصحبتهم.

(2)

في (ص): هو.

ص: 716

بعض أصحابنا في البيع: "بِعْتُك هذا إنْ شئتَ"، فيقول: قَبلتُ.

ومنه: الإجازة لمن ليس أهلًا، كالطفل والمجنون والكافر والحمل.

قال الخطيب: (سألتُ القاضي أبا الطيب عن الصبي: هل يُعتبر تمييزه في الإجازة له كالسماع؟ فقال: لا.

فقلتُ: قد منع بعض أصحابنا أنه [تصح]

(1)

الإجازة لمن لا يصح سماعه.

فقال: قد يصح أنْ يُجيز للغائب عنه، ولا يصح السماع له)

(2)

.

واحتج الخطيب بأنَّ [الإجازة]

(3)

إباحة للرواية؛ فلا فرق بين المكلَّف وغيره، فيدخل الصبي والمجنون، وأما الكافر فقد صححوا تَحَمُّلَه إذا أدَّاه بعد الإسلام، فالقياس جواز الإجازة له.

ووقعت المسألة في زمن الحافظ أبي الحجاج المزي بدمشق، فكان طبيب يسمى محمد بن عبد السيد يسمع الحديث -وهو يهودي- عَلَى أبي عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصُّوري، وكَتب اسمه في طبقات السماع مع الناس، وأجاز ابنُ عبد المؤمن لمن سمع، وهو مِن جُملتهم، وكان السماع والإجازة بحضرة المِزِّي وبعض السماع بقراءته ولم ينكره، ثُم هَدَى الله عز وجل ابنَ عبد السيد للإسلام وحدَّث وتحمل الطلاب عنه.

(1)

كذا في (ز، ق)، وفي سائر النُّسخ:(لا يصح) أو: (لا تصح). وحذف "لا" هو الصواب؛ فعبارة الخطيب في (الكفاية، ص 225): (فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَارةُ لمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ). وهذا هو معنى عبارة: (فقلتُ: قد منع بعض أصحابنا أنه تصح الإجازة لمن لا يصح سماعه).

(2)

الكفاية (ص 325).

(3)

في (ز): الرواية.

ص: 717

قال شيخنا الحافظ عبد الرحيم بن العراقي: ورأيتُه ثَمَّ، ولم أسمع منه.

وأما الإجازة للمجهول فصحيحة إذا [علم بشخصه أو بنسبه]

(1)

أو نحو ذلك كما سبق.

وأما الإجازة للفاسق أو المبتدع فأَوْلى مِن الكافر، بل لا ينبغي الشك في جوازها لهما.

وأما الحمل فيفهم من قول الخطيب أنه لم يقع؛ لأنه قال: لم نرهم أجازوا لمن لم يكن مولودًا.

لكن لا نعلم إذا وقع، هل يجوز؟ أو لا؟ وهو أَوْلى بالصحة من المعدوم، ويقوى إذا أجيز له تبعًا لأصله.

ويحتمل أنْ يُبنى على أن الحمل يُعلم، أي: يُعطى حكم المعلوم؟ أم لا؟

إنْ قلنا: نعم وهو الأصح، فيصح.

ومِنه: الإجازة لِمَا لم يتحمله المجيز ليَرْوِيَهُ المُجَاز له إذا تحمله المجيزُ.

قال القاضي عياض في "الإلماع": لم أرهم تكلموا فيه، ورأيتُ بعض العصريين يفعله.

لكن قال أبو مروان عبد الملك الطُّبني -أيْ بضم الطاء والموحدة مشددة ثم نون-: كنتُ عند القاضي أبي الوليد يونس بقُرْطُبة، فسأله إنسان الإجازة بما رواه وما يرويه مِن بَعد، فلم يُجِبه؛ فغضب.

فقلتُ: يا هذا، يعطيك ما لم يأخذ؟ !

فقال أبو الوليد: هذا جوابي.

(1)

في (ز): علمه بشخصه أو نسبه.

ص: 718

قال عياض: (فهذا هو الصحيح)

(1)

.

وعلى هذا ينبغي أنْ تُبنى المسألة على أن الإجازة إخبار بالمُجَاز جُملةً؟ أو إذن؟

فَعَلَى الأول: لا يصح؛ إذْ لا يُجيز عما لم يوجد.

أو بالثاني، فينبني على الخلاف في نظيره من الوكالة فيما لو أَذِنَ في بيع العبد الذي يريد أنْ يشتريه. وقد أجازه بعضُ أصحابنا، والصحيح خِلافه.

ومنه: الإذن في الإجازة، كَـ "أذنتُ لك أنْ [تُجِيزَ]

(2)

عني مَن شئت".

قال السبكي في "شرح منهاج البيضاوي": (لم أَرَ مَن ذكره، وقد وقعت في عصرنا، وسُئلتُ عنها، فقلتُ: المُتَّجِه الصحة، كـ "وَكِّل عني"، وعلى هذا يكون مُجَازًا من جهة الآذِن، وينعزل "المأذون له في أنْ يجيز" بموت الآذِن كما ينعزل الوكيل بموت الموكِّل).

قال: (ولو قال: "أذِنتُ لك أنْ [تجيز]

(3)

عني فلانًا"، فأَوْلى بالجواز)

(4)

.

والله أعلم.

(1)

الإلماع (ص 106).

(2)

في (ظ، ص): تخبر.

(3)

في (ص): تخبر.

(4)

الإبهاج (2/ 328).

ص: 719

ص:

355 -

"تَنَاوُلٌ"، "إعْلَامُهُ"، "وَصِيَّهْ"

" وِجَادَةٌ"[تَرْتِيبُ ذِي]

(1)

الْبَقِيَّهْ

الشرح:

هذه أنواع أخرى منحطة عما سبق، وقد رجح كثيرٌ فيها المنع كما سنفصله، لكن جريتُ فيها على قول المجوِّزين؛ لقوته، بل كلام الشافعي يدل على الجواز في أَدْوَنها وهو الوجادة كما سيأتي، وأيضًا فلتكثير الفائدة باستيعاب ما ذكر مِن المراتب.

وقولي: ([تَرْتِيبُ ذِي]

(2)

الْبَقِيَّهْ) تنبيه على ترتيبها، فكل واحد أعلى مما بعده.

أولها: المناولة المجردة عن الإجازة.

وأصلها لُغةً: الإعطاء باليد، ثم استُعملت عند [المحدِّثين]

(3)

وغيرهم في إعطاء كتاب أو ورقة مكتوبة أو نحو ذلك، ويقول المناوِل له:(هذا سماعي من فلان) أو: (مَرْوِيِّي عنه بطريق كذا). سواء قال مع ذلك: (خُذه) أو ناوله بالفعل ساكتًا.

فإذا لم ينضم إليها إذْنٌ بالرواية على ما مضى ذِكره، يُسمى "المناولة المجردة"، وهي المراد بقولي:(تَنَاوُلٌ)؛ لأنه مطاوع ناوله مناولةً.

والمرجَّح عند الأكثرين فيها أنه لا تصح الرواية بها.

وحكى الخطيب عن قوم أنهم صححوها، وبه قال ابن الصباغ.

(1)

كذا في (ص، ظ، ت). لكن في (ض): (ترتيب)، وبها ينكسر الوزن. وفي (ز، ن): (فرتب). وفي (ش): (ترتب). وبهما يصح الوزن أيضًا.

(2)

في (ز): فرتب. وفي (ش): ترتب.

(3)

كذا في (ز، ش، ض، ق). لكن في (ص، ت): المحققين.

ص: 720

قال الهندي

(1)

: وكلام الإمام فخر الدين صريح فيه، وكلام غيره يدل على المنع.

وقال ابن الصلاح: (إنها [إجازة مجملة]

(2)

لا [تجوز]

(3)

الرواية بها، وعابها غير واحد مِن الفقهاء والأصوليين على المحدثين)

(4)

.

وقال النووي: إنَّ الصحيح المنعُ عند الأصوليين والفقهاء.

الثانية: الإعلام المجرد عن المناولة والإجازة، كأنْ يقول:(هذا سماعي مِن فلان) أو: (روايتي عنه) أو نحو ذلك ولا يزيد على هذا، وهي أَوْلى بالمنع مِن التي قبلها، وإليه ذهب غير واحد مِن المحدثين وغيرهم، وبه قطع أبو حامد الطوسي مِن الشافعية كلما قاله ابن الصلاح.

والظاهر أنه أراد به الغزالي؛ فإنه كذلك في "المستصفى"، قال:(لأنه لم يأذن في الرواية، فلَعَلَّهُ لا يُجوِّز الرواية؛ لخلل يعرفه فيه وإنْ سمعه)

(5)

. انتهى

وإنْ كان في الشافعية كثير أبو حامد الطوسي لكن لا يُعْرف لهم تصنيف فيه هذا غير "المستصفى".

وبالجملة فالمنع هو المختار كما قال ابن الصلاح، وهو مقتضَى كلام الآمدي.

وذهب كثيرون إلى الجواز، منهم ابن جريج وعُبيد الله الغَمري -بفتح الغين المعجمة وبالراء المهملة- وأصحابه المدنيون وطائفة من المحدثين والفقهاء والأصوليين وأهل

(1)

نهاية الوصول (7/ 3011).

(2)

في (ص، ض): إجازة محتملة. والعبارة في (مقدمة ابن الصلاح، ص 169) هكذا: فهذه مناولة مختلة.

(3)

في (ص، ض): مجرد.

(4)

مقدمة ابن الصلاح (ص 169).

(5)

مقدمة ابن الصلاح (ص 176).

ص: 721

الظاهر، ونصره أيضًا الوليد بن بكر الغَمري -بالمعجمة أيضًا- وبه قطع ابن الصباغ، وحكاه القاضي عياض عن كثير.

وأجازه أبو محمد بن خلاد الرامهرمزي، قال: حتى لو قال: "هذه روايتي لكن لا تَرْوِها عني ولا أُجيزه لك"، لم يضره ذلك.

قال القاضي عياض: (وما قاله صحيح، لا يقتضى النظر سواه؛ لأنَّ منعه -لا لِعِلة ولا لريبة- لا يؤثر؛ فهو مِن الذي لا يُرجَع فيه)

(1)

.

ورَدَّ ذلك ابن الصلاح بأنه كالشاهد يسمع مَن يذكر شيئًا في غير مجلس الحكم ليس له أنْ يشهد على شهادته إذا لم يأذن له. قال: (وذلك مما تساوت فيه الرواية والشهادة). انتهى

لكن القاضي عياض قد تعرَّض للجواب عن هذا بأنَّ الشهادة على الشهادة لا تصح إلا مع الإشهاد أو الإذن في كل حال سوى ما لو سمعه أدَّى عند الحاكم فإنَّ فيه اختلافًا، وأما الرواية فليس فيها ذلك؛ فإنَّ الحديث عن السماع والقراءة لا يحتاج فيه إلى إذنٍ باتفاق؛ فافترقَا.

وقد يخدش هذا الجواب: بأنَّ الحديث عن السماع والقراءة وِزان سماعه عند القاضي يؤدي أو نحو ذلك؛ لأنه لا يحتمل شيئًا آخر، بخلاف ما لو سمع شخصًا يقول:(أنا شاهد على فلان بكذا)، فلا فرق بينهما في ذلك حينئذٍ.

واعْلَم أنَّ هذا كله في جواز الرواية، أما العمل بما أخبره به الشيخ أنه سماعه أو مَرْوِيُّه فإنه يجب عليه إذا صح إسناده كما جزم به ابن الصلاح، وحكاه عياض عن محققي أصحاب الأصول أنهم لا يختلفون فيه.

(1)

عبارة القاضي عياض في (الإلماع، ص 110): (وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ، لَا يَقْتَضِي النَّظَرُ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ أَلَّا يُحدِّثَ بِمَا حَدَّثَهُ -لَا لِعِلَّةٍ وَلَا رِيبَةٍ فِي الحَدِيثِ- لَا تُؤَثِّرُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَهُ، فَهُوَ شَيْءٌ لَا يُرْجَعُ فِيهِ).

ص: 722

الثالث: الوصية: بأنْ يوصي قبل موته أو عند سفره بأنَّ فلانًا يروى عنه كذا كذا.

فَعَنْ بعض السلف أنه يجوز للموصَى له أنْ يرويه عن الموصي، فروى الرامهرمزي من رواية حماد بن زيد عن أيوب قال: قلتُ لمحمد بن سيرين: إنَّ فلانًا أوصى لي بكُتبه، أفأُحَدِّث بها عنه؟

قال: نعم. ثم قال لي بعد ذلك: لا آمُرك ولا أنهاك.

قال حماد: وكان أبو قلابة قال: ادفعوا كُتبي إلى أيوب إنْ كان حيًّا، وإلا فاحرقوها.

وعَلل ذلك القاضي عياض بأنه نوع مِن الإذن.

قال ابن الصلاح: (وهذا بعيد جدًّا، وهو إما زَلَّة عالِم أو مُؤَوَّل على أنه أراد أن يكون ذلك على سبيل الوجادة)

(1)

.

الرابع: "الوِجادة" بكسر الواو: مصدر [مُوَلَّدٌ]

(2)

لِـ "وَجَد". قال المعافَى بن زكريا النهرواني: إنَّ المولدين ولدوه وليس عربيًّا، جعلوه مباينًا لمصادر "وجد" المختلفة المعنى، فكما ميزت العرب بين معانيها فَرَّقَ هؤلاء بين ما قصدوه مِن هذا النوع وبين تلك.

قال ابن الصلاح: (يعني قولَهم: وَجَد ضالَّتَه وِجْدانًا، ومطلوبَه وُجُودًا، وفي الغضب: مَوْجِدةً، وفي الغِنَى: وُجْدًا، وفي [الخير]

(3)

: وَجْدًا)

(4)

. انتهى

وزِيد عليه "جِدة" في الغضب، وفي الغِنَى "إجْدان" بكسر الهمزة. حكاهما ابن الأعرابي. وبَسْط ذلك له موضع أَلْيَق مِن هذا.

(1)

مقدمة ابن الصلاح (ص 176).

(2)

كذا في (ز، ت) وهو الصواب. وفي سائر النُّسَخ: مؤكد.

(3)

كذا في جميع النُّسخ. واللفظ في (مقدمة ابن الصلاح، ص 178): الحب.

(4)

مقدمة ابن الصلاح (178).

ص: 723

و"الوجادة" في الاصطلاح: أن يجد الحديث أو نحوه بخط مَن يعرفه ويثق بأنه خطه، حيًّا كان أو ميتًا.

فأما الرواية به فأنْ يقول: (وجدتُ بخط فلان كذا). وإذا لم يثق بذلك، يقول:(ذُكر أنه خط فلان). ولا يقول لا "حدَّثنا" ولا "أخبرنا"، خلافًا لمن جازف في إطلاق ذلك.

قال القاضي عياض: (لا أعلم أحدًا ممن يُقتدَى به أجاز ذلك)

(1)

.

وأما أنْ يقول: (عن فلان) فقال ابن الصلاح: (إنه تدليس قبيح إذا كان يُوهم سماعه منه)

(2)

.

أما العمل بها فمعظم المحدثين والفقهاء والأصوليين على المنع.

وحُكي عن الشافعي الجواز، وهو الذي نَصره الجويني، واختاره غيره مِن أرباب التحقيق.

قال ابن الصلاح: (قطع به بعض المحققين من أصحابه، وهو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة)

(3)

.

وقال النووي أيضًا: إنه الصحيح.

تنبيهان

أحدهما: سبق في الرواية بالوجادة اللفظ الذي يروى به وينبغي في الوصية أن يصرح

(1)

الإلماع (ص 117).

(2)

مقدمة ابن الصلاح (ص 179).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 180).

ص: 724

بذلك بأن يقول: (أوصَى لي فلان أن [أروي]

(1)

عنه كذا). ولا يُطْلِق "حدَّثنا" و"أخبرنا"، وكذا في "الإعلام".

وأما "المناولة" وكذا ما قبلها وهو "الإجازة" فلا يُقال فيهما: (حدثنا) ولا: (أخبرنا) على الصحيح المختار عند الجمهور.

وقال الزهري وما لك: يجوز فيهما إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا".

وحُكي عن قوم أنَّ ذلك جائز في "الإجازة" مطلقًا مِن غير أن يُقيد بكونها إجازة. فحكاه عياض عن ابن جريج وجماعة مِن المتقدمين. وقال الوليد بن بكر: إنه مذهب مالك وأهل المدينة. وذهب إليه أيضًا إمام الحرمين، وخالفهم غيرهم مِن أهل الأصول وغيرهم.

وجوَّز أبو نُعيم وأبو عبد الله المَرْزَباني -بميم مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي مفتوحة ثم موحدة وبعد الألف نون- أن يقول: (أخبرنا) دُون (حدثنا) إلَّا أن يقول: (حدثنا - أو: أخبرنا - إجازةً) كما يقول في المناولة: (أخبرنا - أو: حدثنا - مناولة) أو نحو ذلك، وللمحدثين ألفاظ أخرى في ذلك موضحة في عِلم الحديث، لا نُطَول بها.

الثاني: "المكاتبة": بأن يكتب الشيخ إلى غيره: (سمعت من فلان كذا).

للمكتوب إليه -إذا عَلم خطه أو ظنه بإخبار عدلٍ أنه خطه أو شاهده يكتب -أنْ يعمل به ويرويه عنه إنْ أجازَه به، وكذا إن لم يُجِزه عند كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني: إنها أقوى من الإجازة.

واقتضى كلام إلْكِيا [أنها]

(2)

كالسماع، قال: لأنَّ الكتابة أحد اللسانين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُبلِّغ الغائب بالكتابة إليه.

(1)

كذا في (ز، ص، ق). وفي سائر النُّسخ: أؤدي.

(2)

كذا في (ز). لكن في سائر النُّسخ: أنه.

ص: 725

قال: ولو بعث إليه رسولًا وأخبره بالحديث، حَلَّت له الرواية؛ لأنَّ الرسول ينقل كلام المرسِل؛ فهو كالكتاب، بل أَوْثق منه، وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى عُماله تارةً ويُرسل أخرى.

ونقل الصيرفي عن مالك أنه كان يكتب ويقول: كتبتُ كتابي هذا وختمته بخاتمي، فارْوِه عني.

قال البيهقي: (الآثار فيه كثيرة عن التابعين وأتباعهم مِن بعدهم؛ فدَلَّ على أنه واسمع عندهم، وكُتُب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عُمَّاله بالأحكام شاهدة لقولهم. إلا أن ما سَمِعَه مِن الشيخ فوعاه أو قُرئ عليه وأقرَّ به فحَفظه يكون أَوْلى بالقبول مما كتب به إليه؛ لِما يخاف على الكتاب مِن التغيير والإحالة). انتهى

ونقل أبو الحسين بن القطان عن بعضهم اعتبار شاهدين على الكاتب بأنه كتبه على حد شرط كتاب القاضي.

وصِفَةُ الرواية بهذا النوع: (كَتب إلَيَّ)، أو:(أخبرني كتابةً).

وجَوَّز الإمام فخر الدين أن يُطلق "أخبرني" وإنْ لم يقُل: (كتابةً). وجرى عليه ابن دقيق العيد في "شرح العنوان"، فجعل قول الراوي:(كتابةً) أدبًا لا شرْطًا، ونُقل نحو ذلك عن الليث بن سعد أنه يجوز إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا".

والمختار الراجح: الأول.

ومنع قوم مِن الرواية بالكتابة، كالماوردي والروياني، وأجابا عن كُتب النبي صلى الله عليه وسلم بأن الاعتماد كان على إخبار المرسَلة على يده، ونُقل إنكار ذلك أيضًا عن الدارقطني.

قال إمام الحرمين في "النهاية": (كل كتاب لم يُذكر حامله فهو مرسَل)

(1)

.

(1)

نهاية المطلب (1/ 21).

ص: 726

قلتُ: وإنما لم أذكر هذا النوع في النَّظم؛ لأنَّ مَردَّه عند القائل به أحد أمرين:

[أحدهما]

(1)

: "الوجادة" وإنْ فارقها مِن حيث إنه هنا قصده بالكتابة، بخلاف "الوجادة".

[والآخَر]

(2)

: "الإجازة" على ما سبق مِن تفاصيلها وإنْ فارقها مِن حيث إنَّ فيها لفظًا، بخلاف الكتابة، فاكتفي بذكرهما. ومَن أراد التوسع في ذلك فليراجعه من محله وهو عِلم الحديث، والله تعالى أعلم.

خاتمة:

356 -

تَكْذِيبُ أَصْلٍ فَرْعَهُ لَا يُسْقِطُ

مَرْوِيَّهُ؛ فَإنَّهُ قَدْ يَضْبِطُ

357 -

وَالشَّيْخُ نَاسٍ، فَإذَا مَا ظَنَّا

أَوْ شَكَّ فَهْوَ لِلْقَبُولِ أَدْنَى

الشرح:

هذه الخاتمة في مسائل كالمفرَّعة على ما تأَصَّل مِن القواعد في خبر الواحد وما شُرط فيه، وربما يخرج مِن ذلك شروط أخرى في قبول خبر الواحد سوى ما تَقدم لكن على آراء تارةً ترجح وتارةً تضعف، والفَطِن ينظر في الراجح [فيزيده]

(3)

.

الأُولى:

إذا كذَّب الأصلُ فرعَه فيما رواه عنه، هل يسقط ذلك المروي عن درجة الاعتبار فَيُرَد

(1)

من (ز، ق).

(2)

في (ز): الثاني.

(3)

كذا في (ظ، ت، ص، ق). لكن في (ز، ش): فيريده.

ص: 727

ولا يُعمل به؟ أوْ لا؟ قولان:

أحدهما: وهو المختار وعليه جَريتُ في النظم وفاقًا لابن السمعاني كما سيأتي وجرى عليه صاحب "جمع الجوامع"، لموافقته للقواعد -أنه لا يُسقط مَرْوِيَّه؛ لأنه قد يضبط الفرعُ ويكون الشيخ ناسيًا له؛ فينكره اعتمادًا على غَلبة ظنه أنه ما أخبره؛ ولهذا كان الحالف على غلبة ظنه -والأمر بخلافِه- لا يحنث.

وممن اختار ذلك أيضًا أبو الحسين بن القطان وابن السمعاني في "القواطع".

وجزم به الماوردي والروياني إلا أنهما قالا: إن الفرع لا يجوز أن يرويه عن الأصل.

وهو مُشْكل؛ لأنه إذا كان المروي معتبرًا، فَلِمَ لا يُعزى للشيخ؟

القول الثاني: سقوط ذلك المروي، وهو المشهور، وذكر إمام الحرمين أن القاضي عزاه للشافعي، ونقله ابن السمعاني في كتاب "القواطع" عن الأصحاب وإنْ خالفهم.

بل ربما حكى بعضهم الاتفاق عليه كما هو مقتضَى كلام الهندي في بعض كُتبه ومقتضَى كلام النووي في "شرح مسلم" في "باب الذكر بعد الصلاة".

وفيه نَظر؛ لِمَا سبق.

وفى المسألة قول ثالث بالوقف؛ لتعارُض قَطعْ الشيخ بكذب الراوي وقَطْع الراوي [بأن الشيخ رواه له]

(1)

وليس أحدهما بأَوْلى مِن الآخَر. وهو ظاهر كلام ابن الصباغ في "العدة"، ونقله ابن القشيري عن اختيار القاضي أبي بكر على خلاف ما نقله عنه إمام الحرمين والخطيب في "الكفاية" من الرد.

وعلى قول الوقف: يُطلب الترجيح.

(1)

في (ز): بالنقل.

ص: 728

وفي "شرح المختصر" لابن السبكي تأييد القول الأول بأنه كان يلزم أن يقول الأصحاب: إنه لو اجتمع الأصل والفرع في شهادة، تُرد.

قال: (وما أراهم يقولون بهذا)

(1)

.

فقضيته أنه إجماع، وصرح بأنه حكى الاتفاق فيه الشيخ بدر الدين في "شرح جمع الجوامع"، ثم قال:(لكن ينازع في ذلك قول الهندي: إنه لا يصير بذلك واحد منهما بِعَيْنه مجروحًا وإنْ كان لا بُدَّ مِن جَرْح واحد منهما لا بِعينه، كالبينتين المتكاذبتين).

قال: (وفائدته تظهر في قبول رواية كل واحدٍ منهما وشهادته إذا انفرد، وعدم قبول شهادته وروايته مهما اجتمعا ولو كان في غير ذلك الحديث)

(2)

. انتهى

قال السبكي: (وقد حكوا قولين فيما إذا ادَّعى رجل على رجلين أنهما رهناه عبدهما، فزعم كل واحد منهما أنه ما رهن نصيبه وأن شريكه رهن وشهد عليه بذلك:

أحدهما: لا يقبل؛ لطعن كل واحد منهما في صاحبه.

وأصحهما: يقبل، وبه قال الأكثرون؛ لأنهما ربما نسيا)

(3)

.

ومما يشبه ذلك من الفقه:

البينتان تتكاذبان بتعارضهما، ولا يقدح ذلك في عدالتهما.

وإذا قال لامرأته: (إنْ كان هذا الطائر غرابًا فأنت طالق) وعَكَس آخَر ولم يُعْرف الطائر، لا يُمْنَع أحد منهما غشيان امرأته مع أنَّ امرأة أحدهما طالق في نَفْس الأَمْر.

(1)

رفع الحاجب (2/ 431).

(2)

تشنيف المسامع (2/ 971).

(3)

رفع الحاجب (2/ 431).

ص: 729

وكذا المجتهدان في إناءين كل منهما توضأ بإناء، لا يَؤُم أحدهما الآخر.

وما لو عَلَّقَ عتق عبده بكون الطائر غرابًا والآخَرُ بكونه ليس غرابًا ثُم ملك أحدهما العبد الآخَر واجتمعا في ملكه، عُتق أحدهما لا بعينه.

وهو كثير، إلا أنَّ الفرق أن مسألتنا يقال فيها: إنَّ يقين أحدهما لا ينافي كونه ناسيًا، فلا تُرد شهادته بالاحتمال.

تنبيهات

أحدهما: محل الخلاف: إذا أنكر الشيخ الحديث بالجملة، أما لو أنكر لفظةً منه فقط فلا خلاف في وجوب العمل به. قاله القاضي في "التقريب".

ومحله أيضًا: إذا كان الشيخ المنكِر واحدًا، أمَّا لو كانوا كثيرًا يَبعد أنهم نسوا وحَفظ الراوي فإنه يكون قادحًا قطعًا. قاله ابن فورك.

ومحله أيضًا: إذا كان الفرعُ جازمًا به، فإن كان شاكًّا فلا يخفى أنه لا يُعمل به؛ لأن شرط الرواية الجزم وإنْ لم ينكر الشيخ، فكيف مع الإنكار؟

ومحله أيضًا: إذا أنكره لفظًا، وهو معنى قولي:(تَكْذِيبُ).

أما لو أنكره فِعلًا بأن رواه له ثم عمل بخلافه:

- فإنْ كان مما يَقبل التأويل، فيجوز أن يكون ذلك؛ لأنه أَوَّلَه.

- وإنْ لم يقبل فقال ابن الأثير في "شرح مسند الشافعي": إنه مردود. وبمثله قال أبو زيد الدبوسي من الحنفية.

لكن قياس مذهبنا أنه لا يُرد بذلك مطلقًا؛ لأنَّ العبرة بما روى الراوي، لا بما يرى، كما لو كانا مِن واحد.

ص: 730

فإنْ لم يعمل الشيخ بخلافه ولكن ترك العمل به، فهو يُشْعر بأنه لو كان صحيحًا لَمَا تركه، والظاهر أنه كالذي قبْله.

الثاني: أنَّ الرواية في هذا [تخالف]

(1)

الشهادة، فمانَّ الأصل إذا أنكر، بطلت شهادة الفرع الذي هو شاهد على شهادته.

الثالث: إذا لم يقع الإنكار إلا من أصحاب الشيخ، لا مِن الشيخ، فإن لم يكن المنكِر عليه من مشاهير أصحابه فنقل ابن برهان عن أصحابنا أنه يُرد، كما ردوا حديث أبي خالد الدالاني:"ليس الوضوء على مَن نام قائمًا أو قاعدًا أو راكعًا أو ساجدًا، وإنما الوضوء على مَن نام مضطجعًا"؛ لقول أحمد: إنَّ أبا خالد الدالاني يُزاحم أصحاب قتادة وليس منهم.

قال ابن برهان: وما تخيلوه لا يصح؛ لأنَّ الفرض أنَّ الناقل ثقة عدل، فكيف يُرد وغاية ذلك زيادة ثقة؟ ! فاللائق بمذهبنا أنه لا يُرد.

فإنْ كان الإنكار من الراوي نفسه بأنْ قال: (كنتُ وهمتُ أو أخطأتُ)، فقال ابن القطان: الظاهر أن يكون كما سبق؛ لاحتمال النسيان. وقال القاضي أبو الطيب: يُقبل إنكاره كما قُبل أولا تحديثه.

أما لو قال: (تعمدتُ الكذب)، فقال الصيرفي: لا يُعمل بذلك الحديث ولا بشيء مِن نَقْله.

فإنْ قال عدل مرتضى في رواية عدل: (إنها ليست بصحيحة)، ولم يُبين لقوله وَجْهًا، لم يُسْمع منه. قاله إلْكِيا الطبري، قال: وبمثله رددنا قول ابن معين: لم يصح في "النكاح بغير ولي" حديثٌ.

(1)

في (ز): بخلاف.

ص: 731

الرابع

(1)

: مِن أمثلة المسألة: ما رواه البخاري في رفع الصوت بالذكر عن عمرو - يعني ابن دينار - عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس، فإن الشافعي ثُم مُسْلمًا قالا: إنَّ الحديث معلول بأنَّ أبا معبد أنكر تحديثه عَمرًا بذلك. قال الشافعي: وكأنه نَسيَ.

ومنها: ما في سؤالات الآجُري لأبي داود: سمعتُ أبا داود يقول: قال ابن المبارك: كابرني روح بن شيبان مكابرة، حدَّثني بحديث، ثم قال: لم أُحدثك.

المسألة الثانية:

إذا لم ينكِر الشيخ وإنما شك أو ظن أنه لم يحدِّث فرعَه أو قال: (لا أدري صحة ما عزاه إلَيَّ) والراوي ثقة جازم بذلك، فالأكثر على قبوله والعمل به.

وإليه أشرتُ بقولي: (فَإذَا مَا ظَنَّا أَوْ شَكَّ فَهْوَ لِلْقَبُولِ أَدْنَى) أي: أقرب للقبول من الذي سبق في إنكار الشيخ، وعلى هذا أصحابنا ومحمد بن الحسن.

قال القاضي: وهو مذهب أكثر العلماء والفقهاء مِن أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة. وقال سليم: إنه قول أصحاب الحديث بأسْرهم وبعض الحنفية.

قال ابن القشيري: وهو ما اختاره القاضي، وادَّعاه مذهب الشافعي.

كما روى ربيعة عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين"

(2)

. ثم قال سهيل: لا أدري. ثم صار بعد ذلك يقول: حَدَّثني ربيعة عني

(1)

التنبيه الرابع كُله ليس في (ز).

(2)

صحيح ابن حبان (رقم: 5073)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 20431). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 5050).

ص: 732

أني حَدَّثته بذلك، كذا رواه أبو داود

(1)

.

وهو في "الترمذي"

(2)

و"ابن ماجه"

(3)

بدون قول سهيل لربيعة: لا أدري.

واستُدل -باشتهار ذلك ولم ينكره أحد- على جوازه وإنْ كان ابن الحاجب ضَعَّف الاستدلال به بأنه ليس فيه ما يدل على وجوب العمل، والخلاف إنما هو في ذلك.

ورُدَّ بأنه إذا جاز أنْ يُعمل به، ثَبتَ أنه حق يجب العمل به.

قال السبكي في "شرح المختصر": (ومن ظريف ما اتفق في ذلك أنَّ أبا القاسم بن عساكر -وهو أستاذ زمانه حفظًا وإتقانًا وورعًا- حدَّث عن سعيد بن مبارك الدهان ببغداد، قال: رأيت في النوم شخصًا أعرفه وهو ينشد صاحبًا له:

أيُّها [الماِطلُ]

(4)

دَيْني أَمليٌّ ومماطِل

عَلِّلِ القلبَ فإني قانِعٌ منك بِبَاطِل

وحدَّث ابن عساكر بذلك الحافظ أبا سعد بن السمعاني. قال ابن السمعاني: فرأيت سعيد بن البارك وعرضتُ عليه هذه الحكاية، فقال: ما أعرفها. قال ابن السمعاني: وابن عساكر مِن أوثق مَن رأيتُ؛ جُمع له الحفظ والمعرفة والإتقان، ولَعَلَّ ابن الدهان نسيَ)

(5)

.

وذهب الكرخي والرازي وأكثر الحنفية إلى أنَّ الحديث في هذه المسألة لا يُقبل؛ ولذلك ردُّوا خبر: "أيما امرأة نُكحت بغير إذن وَليها فنكاحها باطل"

(6)

؛ لأنَّ راويَه الزهري قال: لا

(1)

سنن أبي داود (رقم: 3610). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 3610).

(2)

سنن الترمذي (رقم: 1343). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1343).

(3)

سنن ابن ماجه (رقم: 2368). قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1932).

(4)

في (ص، ض، ظ): المماطل.

(5)

رفع الحاجب (2/ 433).

(6)

سنن الترمذي (رقم: 1102). قال الألباني: صحيح. (صحيح الترمذي: 1102).

ص: 733

أذكره. وكذا حديث سهيل في "الشاهد واليمين" كما سبق، وذكر الرافعي في "باب الأقضية" أنَّ القاضي ابن كج حكاه وجهًا عن بعض الأصحاب، ونقله شارح "اللمع" عن اختيار أبي حامد [المروروذي]

(1)

[وأنه]

(2)

قاسه على الشهادة. فإنْ كان المراد في شهادة الشاهدين على القاضي وهو يقول: (لا أعلم)، فهو ما استدل به مَن قاله مِن الحنفية، ولكن الفرق أنَّ باب الشهادة أضيق.

وفى المسألة مذهب ثالث قاله أبو زيد الدبوسي: التفصيل بين أن يكون الأصل ممن يغلب نسيانه واعتياد ذلك فيُقبل، أوْ لا فلا.

ورابع قاله إلْكِيا: التفصيل بين أن يكون هناك دليل مستقل فلا يُعمل به؛ لأنه بمنزلة خبرين تعارضَا، والتردد يورث ضعفًا؛ فقُدِّم الأخير. وإنْ لم يوجد دليل مستقل فهو أَوْلى. قال: وهو حسن جدًّا.

وقول خامس: إنه يجوز لكل أحد أن يرويه إلَّا الذي نسيه. حكاه بعض شراح "اللمع" عن أهل اليمن أنَّ صاحب "الاتصال"

(3)

حكاه عن بعض أصحابنا، وهو معنى ما حكاه ابن كج وجهًا أنه هو لا يَعمل به، ويعمل به غيره، وكأنَّ ذلك لكون المرء لا يعمل بخبر أحد عن فعل نفسه، كما في المصَلِّي يُنَبَّه على ما لا يعتقده.

دليلُه: حديث ذي اليدين، لم يَعمل بخبره حتى أخبره غيره، وتذكر بذلك ما نسي.

وبه أُجيب عن رد الشاهدين يشهدان على القاضي وهو لا يستحضر، لكن الفرق في القاضي كما سبق، وأما في مسألتنا فموضع الفائدة من الرواية نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والناس في

(1)

في (ز): المروذي.

(2)

في (ص، ض، ت): فإنه.

(3)

في (البحر المحيط، 4/ 325) طبعة دار الصفوة: الأمثال.

ص: 734

ذلك كلهم سواء.

قال الصيرفي: فإنْ قيل: هلا حملتم النسيان على الفرع.

قيل: هو جازم مثبت، والنسيان إنما هو في جانب مَن قال:"لا أدري" وشَكَّ.

أما إذا لم يكن الراوي جازمًا، فإنْ قال:"أشك" فلا يُقبل قطعًا، وإنْ قال:"أظن" فيقدح كما قاله ابن القطان.

وقال صاحب "الإنصاف": فيه نظر أصوليٌّ، ولتجويزه وَجْه؛ ولهذا يجوز أن يروي على الخط، بخلاف الشهادة. وفي "مسلم" في "باب الاغتسال" عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: أكثر ظني والذي يخطر على بالي أنَّ أبا الشعثاء أخبرني عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة"

(1)

. واعتذر بعضهم عن مُسلم بأنه إنما ذكره متابعةً لا اعتمادًا.

نعم، ينبغي أن يجري في العمل بها الخلاف في الشاهد بالاستفاضة إذا ذكرها في مستنده، وكان شيخنا شيخ الإسلام البلقيني يختار أنه لا يضر ذلك؛ لأنه إذا كان حقًّا فلا يضر التعرض له.

قال الهندي: (إذا قال: "أظن أني سمعته منك" فقال الشيخ: "أشك" أو "لا أذكر"، فالأشبه أن يكون مِن صُوَر إنكار الشيخ، فلا يُقبل، أو يُقبل على الخلاف السابق)

(2)

.

تنبيه:

كره العلماء لأجل هذا الخلاف الرواية عن الأحياء، منهم الشعبي وعبد الرزاق

(1)

صحيح مسلم (رقم: 323).

(2)

نهاية الوصول (7/ 2926).

ص: 735

والشافعي. حكاه الخطيب في "الكفاية"، وذكر البيهقي في "المدخل" أن ابن عبد الحكم روى عن الشافعي حكاية فأنكرها الشافعي ثُم ذكرها، فقال له:"لا تُحدِّث عن حي؛ فإنَّ الحي لا يُؤْمَن عليه النسيان".

وصنَّف الدارقطني جُزءًا فيمن روى عنه بعد نسيانه، ثُم صنَّف في ذلك الخطيب وذكر ما أهمل الدارقطني من ذلك. والله أعلم.

ص:

358 -

وَزَائِدٌ عَلَى الثِّقَاتِ مِنْ ثِقَهْ

[يُقْبَلُ؛ فَهْوَ قَدْ يَكُونُ]

(1)

حَقَّقَهْ

359 -

إلَّا إذَا كَانَ الَّذِي لَمْ يَرْوِهَا

مِثْلُهُمُ لَا يُغْفِلُونَ مِثْلَهَا

360 -

أَوْ مَا دَوَاعِي [نَقْلِهَا]

(2)

تَوَفَّرَتْ

[فإنْ يُرَ]

(3)

الْأَحْفَظُ عَنْهَا قَدْ سَكَتْ

361 -

أَوْ كَانَ قَدْ صَرَّحَ بِالنَّفْيِ لَهَا

عَلَى الَّذِي يُقْبَلُ حَيْثُ وُجِّهَا

362 -

تَعَارَضَا، فَإنْ رَوَاهَا [كَرَّهْ]

(4)

وَتَرَكَ التَّحْدِيثَ فِيهَا مَرَّهْ

363 -

[فَكَرِوَايَتَيْنِ]

(5)

فِيمَا قُدِّمَا

وَإنْ تَكُنْ قَدْ غَيَّرَتْ إعْرَابَ مَا

364 -

يَبْقَى، تَعَارَضَا، وَمَا فِيهِ انْفَرَدْ

عَنْ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، اقْبَلْ إنْ وَرَدْ

(1)

في (ز، ظ): فاقبل ولو بمجلس إذ. وفي (ن 2): فاقبل ولو بمجلس إن.

(2)

كذا في (ز، ظ، ت، ن 2، ن 3، ن 4). وفي (ص، ض): بعده. وفي (ش، ن 1، ن 5): نقله.

(3)

في (ت، ن 1): فإن يرى. وفي (ز): وإن ير. وفي (ظ): وإن يرى. وفي (ص، ش، ن 2، ن 3، ن 4، ن 5): فإن تر.

(4)

في (ص، ظ، ض): كثرة.

(5)

في (ن 3، ن 4): فَكَرَاوِيَيْن.

ص: 736

الشرح:

المسألة الثالثة من مسائل هذه الخاتمة: زيادة الثقة في الحديث ما لم يَرْوِه غيرُه من الثقات الذين رووا الحديث، ولها ثلاثة أحوال: أنْ يُعْلَم تَعدُّد المجلس أو اتحاده أو لا يُعلم واحد منهما.

فالأُولى: وهي أن يُعلم تعدد المجلس فيُقْبَل ما انفرد به. قال الأبياري وابن الحاجب والهندي: بلا خلاف.

وانتُقد بأن ابن السمعاني قد أجرى فيها الخلاف الآتي.

الثانية: أن لا يُعلم واحد منهما، فكالذي قبْله.

الثالثة: أن يعلم اتحاد المجلس، فإما أن يصرح الذي لم يَرْوِها بنفيها أو يسكت، فإن صرَّح بنفيها فسيأتي أن حكمها التعارض وطلب الترجيح.

وإن لم يصرح بنفيها بل سكت ففيها مذاهب:

أحدها: وهو قول الجمهور مِن الفقهاء والمحدثين أنها مقبولة مطلقًا؛ ولهذا قَبِل النبي صلى الله عليه وسلم خبر الأعرابي عن رؤية الهلال مع انفراده، وقَبِل خبر ذي اليدين وأبي بكر وعمر رضي الله عنه وإنِ انفردوا عن جميع الرُّواة.

وممن نُقل عنه إطلاق القبول مالك كما حكاه عنه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" وعن أبي الفرج مِن أصحابه وعن أصحاب الشافعي.

وجرى على الإطلاق أبو الحسين بن القطان وإمام الحرمين في "البرهان" والغزالي في "المستصفى" وقال: (سواء أكانت الزيادة مِن حيث اللفظ أو المعنى)

(1)

، والشيخ أبو

(1)

المستصفى (ص 133).

ص: 737

إسحاق في "اللمع" وابن برهان، واختاره ابن القشيري أيضًا.

وأطلق إمام الحرمين وغيرُه نَقْل ذلك عن الشافعي، لكن سبق في المرسَل أن كلام الشافعي في "الرسالة" يدل على أنَّ الزيادة ليست مقبولة مطلقًا، بل مقيدة بما سبق هناك. نعم، له نَص آخَر في "الأم" يأتي ذِكره.

الثاني: أنها تُقبل إلا إذا كان الساكت عنها لا يَغْفُل مِثلهم عن مِثلها عادةً؛ إما لكثرتهم أو نحو ذلك. وبه قال ابن السمعاني، وابن الصباغ قال: فإنْ كان الراوي للزيادة واحدًا والساكت عنها واحدًا فالأخْذ برواية الضابط منهما، فإنْ كانا ضابطين ثقتين فالأخذ بالزيادة أَوْلى.

وفي "المحصول" قريب من ذلك.

وكذا قال الآمدي: (إنَّ مَن لم يَرْوِ الزيادة إنِ انتهى إلى حدٍّ لا تقضي العادة بغفلة مِثلهم عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة، وإلا فاتفق جماعة من الفقهاء والمتكلمين على القبول، خلافًا لجماعة من المحدثين ولأحمد في إحدى الروايتين عنه)

(1)

.

وجرى عليه أيضًا ابن الحاجب والقرافي وغيرهما.

ونقل ابن السبكي عن ابن السمعاني ذلك مع زيادة استثناء أَمْرٍ آخَر، وهو أن تكون الزيادة مما تتوفر الدواعي على نقله، قال: وهو المختار.

وعليه جريتُ في النَّظم بقولي: (إلَّا إذَا كَانَ الَّذِي لَمْ يَرْوِهَا) إلى آخِره.

و"مَا" في قولي: (أَوْ مَا دَوَاعِي) موصولة بمعنى "التي"؛ فلذلك أعَدتُ الضمير عليها مؤنثًا في "نَقْلها".

(1)

الإحكام (2/ 121).

ص: 738

و (يُغفِل) بضم أوله وكسر ثالثه -مزيد "غفل""يَغْفُل" بضم الفاء.

نعم، قال بعضهم: إن مسألة توفر الدواعي ليست في "القواطع" لابن السمعاني.

قلتُ: يجوز أن يكون قالها في موضع آخَر، وأيضًا فاستثناؤها واضح، فقد صرح الإمام الرازي وأتباعه بأن مِن المقطوع بكذبه الخبر الذي تتوفر الدواعي على نقله، وأبطلوا بذلك ما نقله الروافض من النَّص على إمامة علي رضي الله عنه، وأبطلوا به أيضًا قول العيسوية -وهُم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي- عن التوراة:(إنَّ موسى عليه السلام آخِر مبعوث) بأنه لو كان كذلك لَذَكَره أحبار اليهود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة عداوتهم وتبديلهم ما في التوراة مِن بَعْثه وإخفاء نَعْته.

بل زاد الإمام الرازي مِن المقطوع بكذبه "ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد استقرار الأخبار وفُتش عنه فلم يوجد في بطون الصحف ولا في صدور الرجال" وإنْ كان في القطع بكذبه نَظر، وإنما ينبغي أن يكون مُغلبًا على الظن كذبه. وعلى كل حال فجريان مِثل ذلك في الزيادة أَوْلى.

الثالث: لا يُقبل مطلقًا. وعزاه ابن السمعاني لبعض أهل الحديث ونقله عن الحنفية، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أبي بكر الأبهري وغيره من أصحابهم، قال: وعلى هذا بَنوا الكلام في الزيادة المروية في حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: "وإن أكل فلا تأكل"

(1)

.

الرابع: الوقف؛ لتَعارُض أصل عدم الزيادة مع أصل صِدق الثقة.

الخامس: أن الزيادة لا تُقبل إلا إذا أفادت حُكمًا شرعيًّا. حكاه ابن القشيري والقاضي عبد الوهاب. فإنْ لم تُفِده، لم تُقبل، كقولهم في مُحْرِمٍ: "وقصَتْه ناقتُه في [أخايين]

(2)

(1)

صحيح البخاري (رقم: 5167).

(2)

كذا في (ز، ق): أخايين. وفي (ص): أخابن. وفي (ض): أخابن. =

ص: 739

جرذان". فَذِكْر الموضع لا يتعلق به حُكم شرعي. قال البكري في "المعجم": الجرذان أيْ: بجيم ثم راء ثم ذال معجمة على لفظ جمع "جُرْذ" موضع بالشام معروف. لكن هذا لا يناسب تفسير الواقع في الحديث إلا بتأويل.

السادس: عكسه، وهو القبول إذا رجعت الزيادة إلى لفظ لا يتضمن حُكمًا زائدًا.

حكاه ابن القشيري.

السابع: تُقبل الزيادة إن كانت باللفظ دُون المعنى. حكاه القاضي في "التقريب".

الثامن: إنِ اشتهر بنقل الزيادات منفردًا بها، لم تُقبل، وإلا قُبل. نقله الأبياري في "شرح البرهان".

التاسع: لا يُقبل إن كان الساكت عنها أحفظ وأكثر ممن رواها، ونُقل عن نَص الشافعي في "الأم" في مسألة "إعتاق الشريك" في الكلام على زيادة مالك وأتباعه في حديث:"وإلا فقد عتق منه ما عتق"

(1)

، إذْ قال الشافعي: (إنما يُغلط الرجُل بخلاف مَن هو أحفظ منه أو

= جاء في (تاريخ دمشق، 36/ 413): (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَ وَاقِفًا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَوَقَصَتْ بِهِ دَابَّتُهُ أَوْ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "غَسِّلُوهُ وَكَفِّنُوهُ، وَلا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ أَوْ رَأْسَهُ؛ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا" .. ، قَالَ غَيْرُ هُشَيْمٍ: فَوَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَاقِيقَ جُرْذَانِ. قَالَ الأَصْمَعِيُّ: إِنَّمَا هُوَ "لَخَاقِيقُ" وَاحِدُهَا "لُخْقُوق"، وَهِيَ شُقُوقُ الأَرْضِ).

وانظر: غريب الحديث (1/ 95) لأبي عبيد القاسم بن سلام.

وذكر الأزهري في (تهذيب اللغة، 6/ 286) كلام أبي عبيد ثم قال: (قلتُ: وَقَالَ غَيره: "الأَخاقيق" صَحِيحَة كَمَا جَاءَ فِي الحدِيث، وَاحِدهَا "أُخْقوق" مثل أُخدُود، وأَخَاديد. و"الخَقّ" و"الخدّ": الشّقُّ فِي الأَرْض).

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2359)، صحيح مسلم (رقم: 1501)

ص: 740

يأتي بشيء يشركه فيه مَن لم يحفظ منه ما حفظ منه وهُم عدد وهو منفرد)

(1)

. انتهى

فظاهره أن زيادة الثقة إنما تُرد حيث [خالف]

(2)

بها مَن هو أحفظ منه، أو [لم]

(3)

يخالف وإنما انفرد بها عنه وهُم كثير وهو واحد.

ونحوه قول الشافعي أيضًا في حديث سعيد بن أبي عروبة: "وإن كان معسرًا استسعى العبد في قيمته": (إنَّ هذه الزيادة -وهي ذِكر الاستسعاء- تَفرَّد بها سعيد، وخالفه الجماعة؛ فلا يُقبل).

ومَن يرى مِن أصحابه قبول الزيادة مطلقًا -كما هو ظاهر ما اشتهر عن الشافعي- يُؤوِّل ذلك.

فقال سليم الرازي: أراد الشافعي أنَّ غير سعيد زاد: (قال قتادة: ويستسعى)، فجعله من قول قتادة؛ فيكون مُدْرَجًا في الرواية الأخرى، فقَدَّم مَن أوضح الإدراج، لا أنه ردَّ زيادة مَن زاد "الاستسعاء" لكونها زيادة.

وقال إلْكِيا الطبري: إن مُراد الشافعي أنَّ الزيادة لا يُعمل بها عند معارضة حديث آخَر لها؛ تقديمًا لأرجح الدليلين، فقدَّم خبر السراية على خبر السعاية؛ لتفرُّد راويه -وهو سعيد- مِن بين أصحاب الزهري، وسيأتي أنَّ المختار في هذه المسألة التعارض.

العاشر: ما عزاه بعض المتأخرين إلى المحققين مِن أهل الحديث -خصوصًا متقدميهم كيحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهما كأحمد وعلي بن المديني وابن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازي وسليم والترمذي والنسائي وأمثالهم والدارَقطني

(1)

معرفة السنن والآثار (7/ 492).

(2)

في (ز): يخالف.

(3)

في (ز): لا.

ص: 741

أنَّ مقتضَى تصرفاتهم في الزيادة قبولًا وردًّا الترجيح بالنسبة إلى ما يَقْوَى عند الواحد منهم في كل حديث.

قلتُ: كذا غاير بعضهم بين هذا وبين ما سبق مِن الأقوال، والظاهر أنه عَيْن قول الوقف الذي سبق، فتأمله.

ونُقلت مذاهب أخرى يمكن عَوْدُها إلى ما سبق، لا نُطَول بها.

قولي: (فإنْ يُرَ الْأَحْفَظُ عَنْهَا قَدْ سَكَتْ) إلى قولي: (تَعَارَضَا) إشارة إلى مسألتين كالمستثنى مما سبق أيضًا، فيكون عدمهما قيدًا للمختار في المسألة مضمومًا إلى ما سبق؛ لأنَّ الحكم فيهما التعارض حتى لا يرجح أحدهما إلا بمرجِّح مِن الخارج كما قاله الإمام في "المحصول".

إحداهما: أن يكون الساكت عن الزيادة أحفظ وأضبط ممن رواها.

والثانية: أن يُصرح مَن لم يَرْوِ الزيادة بنفيها.

نعم، تقييد الثانية بكون النفي على وجه يُقبل -مأخوذ مِن غضون كلام الإمام في المسألة وإنْ لم يصرح به في الأول، وذلك حيث قال:(لو صرح الممسك بنفي الزيادة فقال مثلًا: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قوله "فيما سقت السماء العشر" ولم يأت بعده بكلام آخَر مع انتظاري له، فهاهنا يتعارض القولان، ويصار إلى الترجيح)

(1)

.

وقال أبو الحسين في "المعتمد": (إن قال: "ما أعْلم بالزيادة" أو قال: "ما سمعتها" ولم يقطعه قاطع عن سماعها فإنه يكون ناقلًا للنفي ولارتفاع الموانع كما نقل الآخَر الزيادة؛ فتتعارض الروايتان.

(1)

المحصول (4/ 474).

ص: 742

وإنْ قال: "لم تكن هذه الزيادة" فإنه يحتمل أن يكون ذلك موضع اجتهاد ويحتمل أن يقال: رواية المثْبِت أَوْلى؛ لأنه يحتمل أن يكون النافي إنما نَفَى الزيادة بحسب ظنه، ويحتمل أن يرجع إلى النافي إذا كان أضبط)

(1)

.

ونقل الأبياري في المسألة أن قومًا قالوا بالتعارض وآخرون بتقديم الزيادة، قال:(وهو الظاهر عندنا؛ فإنه إذا لم يكن بُد مِن تَطَرُّق الوهم إلى أحدهما لاستحالة كذبهما وامتنع الحمل على تعمُّد الكذب، لم يبق إلا الذهول والنسيان، والعادة ترشد إلى أن نسيان ما جَرَى أقرب مِن تَخَيُّل ما لم يَجْرِ، وحينئذٍ فالمُثْبِت أَوْلى)

(2)

.

وقال ابن الصلاح: (إنَّ الزيادة إذا خالفت ما رواه الثقات فهي مردودة)

(3)

.

وكأنَّ ذلك حيث كان الساكتون أحفظ، فتنضم المخالفة مع كون الساكت أحفظ، أما غير ذلك فالذي يظهر ترجيح التعارض كما في مسألة النفي، بل أَوْلى.

وقولي: (فَإنْ رَوَاهَا كَرَّهْ وَتَرَكَ التَّحْدِيثَ فِيهَا مَرَّهْ فكَرِوَايَتَيْنِ فِيَما قُدِّمَا) إشارة أن إلى ما سبق فيما إذا كانت الزيادة مِن بعض الرواة دون بعض -يجري الحكم فيها أيضًا فيما إذا كان الراوي للزيادة هو الساكت عنها في مرة أخرى حتى يُفصَل فيه بين اتحاد مجلس سماعها مِن الذي روى عنه وتعدده، والمراد ما أمكن جريانه مِن الشروط والأقوال، لا ما لا يمكن، وهو ظاهر.

فلا يؤخذ من قولي: (مَا قُدِّمَا) شمول الكل، وما قلناه في المسألة هو ما قاله ابن الحاجب، وعبر بقوله:"فكروايتين". أيْ: حُكمه حُكم الروايتين، هكذا بخط المصنف،

(1)

المعتمد (2/ 131).

(2)

التحقيق والبيان في شرح البرهان (2/ 765).

(3)

مقدمة ابن الصلاح (ص 86).

ص: 743

ويقع في بعض النُّسخ: "فكراويين" تثنية "راوٍ"، وهو أوضح.

وقال في "المحصول": (إنْ روى الزيادة مرة ولم يروها أخرى فالاعتبار بكثرة المرات. وإنْ تساوت، قُبلت)

(1)

.

واعْلَم أن ابن القشيري وكذا القاضي في "التقريب" نقلَا عن فرقة أنها تُرد مِن الراوي الواحد ولا تُرد مِن أحد الراويين.

وقال ابن الصباغ في الواحد: إنْ صرَّح بأنه سمع الناقص في مجلس والزائد في آخَر، قُبلت. وإن عزاهما لمجلس واحد [أو]

(2)

تكررت روايته بغير زيادة ثم روى الزيادة فإنْ قال: "كنتُ نسيت هذه الزيادة"، قُبل منه، وإنْ لم يقُل ذلك، وَجَبَ التوقُّف في الزيادة.

وقال أبو الحسين في "المعتمد": (محله في الواحد إذا لم يقرنه استهانة، فلو روى الحديث تارةً بالزيادة وتارةً بحذفها استهانة وقِلَّة تحفُّظ، سقطت عدالته ولم يُقبل حديثه)

(3)

.

تنبيه:

مثال زيادة ثقة سكت عنها بقية الثقات: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله عز وجل: حمدني عبدي"

(4)

. وهو خبر صحيح.

ثم روى عبد الله بن زياد بن سمعان عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة

(1)

انظر: المحصول (4/ 475).

(2)

كذا في (ز)، لكن في (ص): و.

(3)

المعتمد (2/ 131).

(4)

صحيح مسلم (رقم: 395).

ص: 744

الخبر وذَكر فيه: "فإذا قال العبد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال تعالى: ذكرني عبدي"

(1)

. تفرد بالزيادة عبد الله بن زياد، وفيه مقال.

وحديث ابن عمر في صدقة الفطر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج صدقة الفطر صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر"

(2)

.

انفرد سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن [عبد الله]

(3)

بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بزيادة:"أو صاعًا من قمح"

(4)

.

وحديث ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن شرب مِن إناءٍ مِن ذهبٍ أو فضةٍ فإنما يُجرجر في جوفه نار جهنم"

(5)

.

(1)

السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 2198). وقال الإمام الدارقطني في (العلل، 9/ 23): (كُلُّهُمْ تَقَارَبُوا فِي لَفْظِهِ إِلَّا ابْن سَمْعَانَ، فَإِنَّهُ زَادَ عليهم

وَهُوَ ضَعِيفُ الحْدِيثِ).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 1432، 1436)، صحيح مسلم (رقم: 984) بلفظ: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر

).

(3)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب: عبيد الله. وقال الحاكم في (معرفة علوم لحديث، ص 132): (عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ صَغِير وَكَبِيرٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ قَمْحٍ. . " هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الحْدِيثِ عَنْ نَافِعٍ، فَلَمْ يَذْكُرُوا "صَاعَ الْقَمْحِ" فِيهِ إِلا حَدِيث عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الجْمحِيِّ يَتَفَرَّدُ بِهِ عَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ).

(4)

مستدرك الحاكم (1494)، سنن البيهقي الكبرى (رقم: 7492) بلفظ: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ بُرٍّ).

(5)

سنن النسائي الكبرى (6878)، المعجم الصغير للطبراني (1/ 339، رقم: 563). وقد ضَعَّف الألباني إسناد الطبراني في (إرواء الغليل: 33). وللحديث طُرُق أخرى صحيحة ذكرها الألباني في =

ص: 745

زاد فيه يحيى بن محمد [الحارثي]

(1)

عن زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، عن أبيه، عن جده، عن ابن عمر:"أو إناء فيه شيء من ذلك"

(2)

.

ومثال زيادة الراوي مرة وتركها أخرى: حديث سفيان بن عيينة عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن [عبيد الله]

(3)

بسنده إلى عائشة قالت: " [دخل]

(4)

عَلَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: إنا خبأنا لك [خبيئًا]

(5)

. فقال: أما إني كنتُ أريد الصوم ولكن قَرِّبيه"

(6)

. أسنده الشافعي عن سفيان هكذا. ورواه عن سفيان شيخ باهلي، وزاد فيه:"وأصوم يومًا مكانه"

(7)

.

: (ثم عرضته عليه قبل موته بِسَنة فذكر هذه الزيادة)

(8)

.

= (إرواء الغليل: 33).

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب: الجاري. انظر: سنن الدارقطني (1/ 40)، السنن الكبرى للبيهقي (106).

(2)

سنن الدارقطني (1/ 40). قال الألباني في (مشكاة المصابيح: 4285): (إسناده ضعيف). وانظر كلامه الألباني عليه تفصيلًا في (إرواء الغليل: 33)، وانظر أيضًا: البدر المنير (1/ 650).

(3)

كذا في (ق) وهو الصواب، وفي سائر النُّسخ: عبد الله.

(4)

كذا في (ز) وهو الصواب، وفي سائر النُّسخ: دخلت.

(5)

كذا في (ز، ظ، ق، ت). والصواب: (حيسًا) كما في (الأم، 1/ 286) للشافعي.

(6)

مسند الشافعي (ص 84).

(7)

مصنف عبد الرزاق (7793)، السنن الكبرى للنسائي (3300)، سنن الدارقطني (2/ 177)، السنن الكبرى للبيهقي (8125).

وانظر كلام الحافظ ابن حجر عليه في (التلخيص الحبير، 2/ 210) وكلام الألباني في (إراواء الغليل: 965).

(8)

هذا كلام الشافعي. انظر: معرفة السنن والآثار (3/ 419)، السنن الكبرى للبيهقي (4/ 275).

ص: 746

وقولي: (وَإنْ تَكُنْ قَدْ غَيَّرَتْ إعْرَابَ مَا يَبْقَى، تَعَارَضَا) إشارة إلى أن ما سبق كله محله ما لم تُغير الزيادة إعراب ما بقي مِن الحديث، كما لو روى راوٍ:"في كل أربعين شاةً شاةٌ" وروى الآخَر: "نصف شاة"، فيتعارضان كما هو الحق عند الإمام الرازي وأتباعه.

وحكاه الهندي عن الأكثرين، قال: الأنَّ كل واحد منهما يروي غير ما رواه الآخَر؛ فيكون نافيًا له).

قال: (وخالف أبو عبد الله البصري)

(1)

. انتهى

لكن الذي في "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري قبول الزيادة سواء أثَّرت في اللفظ أوْ لا إذا أثرت في المعنى، وأن القاضي عبد الجبار يقبلها إذا أثَّرت في المعنى دُون ما إذا أثَّرت في إعراب اللفظ.

وقولي: (وَمَا فِيه انْفَرَدْ) إلى آخِره -إشارة إلى أنه هل يُشترط العَدد في الرواية كالشهادة غالبًا؟ أوْ لا؟

الأكثرون على المنع؛ لإطلاق الأدلة في العمل بخبر الواحد؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل لتبليغ الأحكام وغيرها الواحد.

والمخالف في المسألة الجبَّائي، اشترط العدد في كل خبر. ونقل القرافي عن كتاب "المحصول" لابن العربي أن الجبائي اشترط في قبول الخبر اثنين وشرط على الاثنين اثنين، وهكذا إلى أن ينتهي الخبر إلى السامع. ونقله الشيخ عنه في "اللمع".

ويؤخذ مِن هذه المسألة أنَّ العَدد لا يُشترط في المنفرد عنه الثقة بالزيادة حتى لو انفرد بها واحد عن واحد، فإنها مقبولة عند الأكثر كما سبق في كلام ابن الصباغ.

(1)

نهاية الوصول (7/ 2952).

ص: 747

ومن ثَم غاير في "جمع الجوامع" بين هذه المسألة وبين مسألة الجبائي حيث ذكر هذه المسألة هنا ناقلًا لها عن الأكثر بعد أنْ سبق منه النقل عن الجبائي أنه لا بُدَّ مِن اثنين أو اعتضاد، فلا يُظَن الاتحاد وأنه كرر كما زعمه شيخنا في شرحه. ومعنى [الاعتماد]

(1)

الذي أشار إليه أنْ يأتي له شاهد -مَثَلًا- يُقَوِّيه. والله أعلم.

ص:

365 -

وَمُسْنِدٌ أَوْ رَافِعٌ مَا أَرْسَلُوا

أَوْ وَقفُوا مُقَدَّمٌ، فَيُقْبَلُ

الشرح:

هذا استطراد للزيادة في السند دون المتن، وقد ذكرتُ في هذا البيت منه مسألتين:

إحداهما: إذا أسند الراوي حديثًا ورواه غيرُه مرسلًا.

والثانية: إذا رفع الراوي الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورواه غيرُه موقوفًا، وهو معنى قولي:"مَا أَرْسَلُوا أَوْ وَقفُوا"، ففيه لف ونشر مرتب.

والحكم في المسألتين قبول مَن معه الزيادة وهو ثقة، فيُقدَّم مَن وصل ومَن رفع.

وفي حُكم مَن أسند وأرسلوا مَن وصل السند وقطعه غيرُه، أي: رواه منقطعًا؛ فلذلك اقتصرتُ في النَّظم على إحدى المسألتين؛ لكون الأخرى في معناها وإنْ كان ابن الحاجب صرح بالثلاثة.

مثال ما أسند وأرسلوا: إسناد إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والصواب: الاعتضاد. وعبارة السبكي في (جمع الجوامع، 2/ 164): (الْجُبَّائيُّ: لَا بُدَّ مِن اثْنَيْنِ أَوِ اعْتِضَادٍ). جمع الجوامع مع حاشية العطار.

ص: 748

أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث:"لا نكاح إلا بولي"

(1)

.

ورواه سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، فقضى البخاري لمن وصله وقال:(زيادة الثقة مقبولة) مع أنَّ المُرْسِل له شعبة وسفيان، وهُما مَن هُما حفظًا وإتقانًا.

ومثال مَن رفع ووقَّفوا: حديث مالك في "الموطأ" عن أبي النضر، عن [بُسر]

(2)

بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه موقوفًا عليه:"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة"

(3)

.

وخالفه موسى بن عقبة وعبد الله بن سعيد بن أبي هند وغيرهما، فرووه عن أبي النضر مرفوعًا. ومثل هذا كثير في حديث مالك.

واعْلم أن قولي: (فَيُقْبَلُ) يحتمل أن يكون جزمًا ولو رددنا زيادة الثقة، ويحتمل أن يكون على الراجح؛ لكون الراجح قبولها، فيكون تفريعًا على الراجح في زيادة الثقة. وعبارة ابن الحاجب وابن السمعاني أن ذلك كالزيادة؛ فيقتضي جريان الخلاف الذي فيها فيه، وليس ببعيد وإنْ كان أكثر النَّقلة ساكتًا عنه. ونقل بعضهم أنَّ الراجح مِن قول أئمة الحديث أن الرفع والوقف يتعارضان، وكذا الوصل مع الإرسال، وهو نظير الوقف فيما سبق من الخلاف في زيادة الثقة.

(1)

سنن أبي داود (رقم: 2085)، سنن الترمذي (رقم: 1101). قال الألباني: صحيح. (صحيح أبي داود: 2085).

(2)

كذا في (ز)، لكن في (ص): بشر.

(3)

صحيح البخاري (رقم: 698) باللفظ المذكور، وفي الموطأ (1/ 130، رقم: 291) بلفظ: (أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلاتُكُمْ في بُيُوتِكُمْ إِلَّا صَلاةَ الْمَكْتُوبَةِ).

ص: 749

فرع:

لو كان الذي أرسل وأسند واحدًا مرة كذا ومرة كذا، فالظاهر القبول، وبه جزم الإمام وأتباعه وإنْ كان في عبارة البيضاوي في "المنهاج" حكاية خلاف، لكن الخلاف إنما يُنقل عن بعض المحدثين، فيبعد أن يكون البيضاوي أراده وخرج بحكايته عن طريقة إمامه.

وحمل السبكي في شرحه قوله: (إنْ أرْسلَ ثم أسْندَ، قُبِلَ. وَقِيلَ: لا) على أنه إذا كان من شأنه إرسال الأخبار وأسند خبرًا هل يُقبل؟ أوْ لا؟

والخلاف في هذه المسألة مشهور.

واحتج المانع بأنَّ إهماله ذِكر الرواة في الغالب يدل على ضعف الراوي، فيكون سَتْره له خيانة وتدليسًا؛ فلا يُقبل.

وفيه نظر؛ لاحتمال أنْ يكون آثَر الاختصار أو طَرَقه النسيان.

وإذا قُلنا بالراجح وهو القبول، فقال الشافعي: إنما يُقبَل مِن حديثه ما قال فيه: "حَدَّثَني" أو "سمعتُ"، لا باللفظ الموهِم.

وقال بعض المحدِّثين: لا يُقبل إلا إذا قال: سمعتُ فلانًا.

وقال شيخنا بدر الدين الزركشي في "شرح جمع الجوامع": (إن المصنِّف أهمل ما إذا أرسل ثم أسند أو وقف ثم رفع، وهو في "المنهاج" ورجَّح القبول)

(1)

. انتهى

وقد عرفتَ أنه إنما ذكر ما إذا أرسل ثم أسند، وفي كَوْن الوقف والرفع في معناه فيه نظر. وأيضا فقد حمله السبكي في شرحه على ما سبق، فلَعَلَّه لذلك أهمله في "جمع الجوامع"، على أنه في "جمع الجوامع" وقع له في المسألة سبق قَلَم، فإنه قال:(أو وقف ورفعوا)، وهو

(1)

تشنيف المسامع (2/ 980).

ص: 750

بالعكس، أي:"رفع ووقفوا"، والله أعلم.

ص:

366 -

وَحَذْفُ بَعْضِ خَبَرٍ مَا غَيَّرَا

حُكْمًا لِبَاقٍ جَائِزٌ قَدْ حُرِّرَا

الشرح:

من مسائل الخاتمة أيضًا: إذا انفرد الراوي الثقة عن الثقات بنقص بعض الحديث -عكس مسألة الزيادة- فهل يكون ذلك جائزًا؟

أوْ لا؟ الأكثرون على الجواز إذا كان مستقلًّا؛ لأنهما كخبرين، وقد فرَّق الأئمة حديث جابر الطويل في حج النبي صلى الله عليه وسلم على الأبواب، وكثيرًا ما يُفرق البخاري الحديث؛ لقصد الاستدلال أو لغير ذلك.

وأما إذا لم يكن مستقلًّا، فإما أنْ يتغير -بحذفه- حُكم الباقي أو لا.

إنْ لم يتغير حُكم الباقي فهو جائز، وإنْ تَعْير فلا يجوز، كما لو كان الساقط غايةً فيما بقي، نحو:"نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو"

(1)

.

أو استثناء، نحو:"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء"

(2)

.

أو صفة، نحو:"في الغنم السائمة الزكاة"

(3)

.

(1)

سنن ابن ماجه (رقم: 2217)، قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 1816). وفي صحيح البخاري (رقم: 2086)، صحيح مسلم (رقم: 1555) بنحوه.

(2)

صحيح البخاري (رقم: 2066)، صحيح مسلم (رقم: 1584) واللفظ للبخاري.

(3)

صحيح البخاري (رقم: 1386) أن أبا بكر رضي الله عنه كتب لأنس رضي الله عنه: (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين

وفي صَدَقَةِ الْغَنَمِ في سَائِمَتِهَا

).

ص: 751

أو شرطًا، نحو:

(1)

أو كان فيه تغيير معنوي كما في النَّسخ، نحو:"كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها"

(2)

. فلا يحذف "فزوروها".

أو بيان المُجْمَل فيه، أو تخصيص العام، أو تقييد المطْلَق، أو نحو ذلك.

وهذا التفصيل بين ما يُغَيِّر وما لا يُغَير هو ثالث المذاهب الصحيحُ المرضي عند القاضي، كما نقل المذاهب والترجيح إمام الحرمين وابن القشيري.

نعم، حكاية قول بالجواز مع التغيير للمعنى في ثبوته بُعْد، وقد قال الهندي والأبياري في التعليق: إنه لا خلاف في عدم جوازه.

وفي المسألة قول رابع حكاه القاضي في "التقريب" والشيخ في "اللمع": إنه إن كان نَقَل ذلك هو أو غيرُه مَرة بتمامه، جاز أن ينقل البعضَ. وإنْ لم ينقل ذلك لا هو ولا غيْره، لم يَجُز.

نعم، قيَّد الغزالي وغيْره الجواز كيف كان بأن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة باضطراب النقل.

وقول خامس: إن كان الحديث مشهورًا بتمامه، جاز نقْل بعضه، وإلا فلا. قاله بعض شُراح "اللمع".

وسادس: إن لم يُعلم إلا مِن جهته فإنْ تَعلق به حُكم، لم يَجُز أن يترك منه شيء. وإن لم يتعلق به حكم: فإنْ كان فقيهًا، جاز له ذلك الحذف، أو غير فقيه، لم يجز. قاله ابن فورك

(1)

هنا بياض في جميع النُّسخ.

(2)

سنن ابن ماجه (رقم: 1571) وغيره، وفي صحيح مسلم (رقم: 977) بلفظ: (نَهَيْتُكُمْ عن زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا).

ص: 752

وابن القطان في كتابيهما.

وقسَّم الأبياري غير المتعلق إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يُقْطع بذلك. ولا يَبْعُد طَرْد قول المنع هنا؛ حَسْمًا للذريعة، وحَذرًا مِن الإفضاء إلى موضع الإشكال.

ثانيها: أن يُظن، فلا يجوز الحذف بحال.

ثالثها: أن يُعْلم ذلك بنوع مِن النظر، فَعَلَى الخلاف في جواز الرواية بالمعنى للعارف.

وبالجملة فالمسألة قريبة مِن مسألة الرواية بالمعنى.

تنبيهان

أحدهما: جاء في حديث ابن مسعود في الاستنجاء بالحجر: "أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين ورمى بالروثة"

(1)

. زاد أحمد: "وقال: ائتني بحجر ثالث"

(2)

. فهذا

(1)

سنن الترمذي (رقم: 17) وغيره بلفظ: (فَأَتيْتُهُ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الحجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وقال: إِنَّهَا رِكْسٌ)، صحيح البخاري (رقم: 155) (فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فلم أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوثَةً فَأَتَيْتُهُ بها، فَأَخَذَ الحجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوثَةَ، وقال: هذا رِكْسٌ).

(2)

مسند الإمام أحمد بن حنبل (رقم: 4299) بلفظ: (فَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وقال: إنها رِكْسٌ، ائتني بِحَجَرٍ). قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير، ): (روى أحمد هذه الزيادة بماسناد رجاله ثقات).

وذكرها الإمام الدارقطني بإسناده في (العلل، 5/ 30) ثم قال: (هذه زيادة حسنة، زادها معمر، وافقه عليها أبو شيبة إبراهيم بن عثمان).

وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري، 1/ 257): (قيل: إنَّ أبا إسحاق لم يسمع من علقمة. لكن أثبت سماعه لهذا الحديث منه الكرابيسي).

ص: 753

يدل على جواز حذف بعض الخبر وإنْ تَعلق به حُكم يَفُوت بالحذف.

لكن قال إلْكِيَا الطبري: الحقُ التفصيل بين أن يكون الناقل فقيهًا -كابن مسعود- فيجوز الحذف، أوْ لا يكون فلا؛ لأنَّ ابن مسعود حيث لم ينقل الأمر بالإتيان بحجر ثالث كان مقصوده منع الاستنجاء بالروث، وحيث كان مقصوده مراعاة العدد نَقَل جميعه.

وكذا قاله إمام الحرمين.

نعم، للشافعي رضي الله عنه نَص على أن الإخلال بزيادة تُخِل بالمعنى لا يجوز، وحمل في حديث ابن مسعود طلب الحجر الثالث على أنه مما لم يسمعه بعض الرواة؛ فلم يَرْوِه.

وما أشار إليه الشافعي ظاهر؛ لأن الإيهام حاصل على أيِّ القَصْدَين كان.

الثاني: مما [يشبه]

(1)

هذا ما وقع البحث فيه أنه إذا استُدِل بآية وأَولها حرف عطف أو نحوه، هل يجوز إسقاط ذلك حيث استقام المعنى بدونه؟ ظاهر تَصرُّف الفقهاء جوازه.

ففي "الوسيط" للغزالي في أول الصلاة: قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، وفي كتاب البيع:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].

وفي "صحيح البخاري": "لم ينزل علَيَّ إلا هذه الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].

وفي "الترمذي": "إذا خطب لكم مَن ترضون خُلقه، فزوجوه، إلَّا تَفعلوا تَكُن فتنة في الأرض وفساد كبير"

(2)

.

(1)

في (ز): يشابه.

(2)

سنن الترمذي (رقم: 1084) بنحوه. قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح سنن الترمذي: 1084).

ص: 754

ونحو ذلك، والله أعلم.

ص:

367 -

ثُمَّ الصَّحَابِيُّ إذَا كَانَ رَوَى

ذَا مَعْنييْنِ [لِتَنَافٍ]

(1)

قَدْ حَوَى

368 -

يُقْبَلُ حَمْلُهُ عَلَى مَا أَدْرَكَا

مَا لَمْ يَكُنْ لِظَاهِرٍ قَدْ ترَكَا

الشرح:

هذه المسألة تُعرف بما إذا قال راوي الحديث فيه شيئًا، هل يُقْبَل؟ أو يُعمل بالحديث؟ ولها أحوال:

منها: أن يكون الخبر عامًّا فيحمله الراوي على بعض أفراده، وسيأتي ذلك في باب "تخصيص العام" موضحًا.

أو يدعي تقييدًا في مطلَق، فكالعام يُخصِّصه.

أو يدعي نَسْخَه، وسيأتي ذلك أيضًا في "النَّسخ".

أو يخالفه بِتَرْك نَص الحديث، كرواية أبي هريرة في الولوغ سبعًا وقوله:"يُغسل ثلاثًا". وبعضهم يمثل بذلك لتخصيص العام، ولا يصح؛ لأن العَدَد نَص.

أما مسألتنا فمذهب الشافعي فيها أن الاعتبار بروايته، لا برأيه، خلافًا للحنفية.

وحكى القاضي عن ابن أبان أنه إنْ كان مِن الأئمة فيدُل على نَسخ الخبر.

وقال إمام الحرمين وابن القشيري: (إنْ تَحقَّقْنا نسيانه للخبر أو فرضنا مخالفته لخبر لم يَرْوِه وجَوَّزنا أنه لم يَبْلُغه، فالعمل بالخبر، أو روى خبرًا يقتضي رفع الحرج فيما سبق فيه حظرٌ

(1)

كذا في (ز)، وبه ينضبط الوزن. لكن في سائر النُّسَخ:(ولتنافٍ)، وبه ينكسر الوزن.

ص: 755

ثُم رأيناه يتحرج، فالعمل بالخبر أيضًا، ويُحمَل تَحَرُّجُه على التورُّع. وإنْ ناقض عملُه روايتَه ولم نجد محمَلًا في الجمْع، امتنع التعلق بروايته، إذْ لا يُظَن بمن هو أَهْل للرواية أن يتعمد مخالفة ما رواه إلا عن ثبتٍ يُوجِب المخالفة)

(1)

.

قال ابن القشيري: وعلى هذا فلا يُقطع بأن الحديث منسوخ كما يقوله ابن أبان.

وربما ظن الراوي شيئًا ناسخًا وليس بناسخ؛ ولهذا إذا قال الصحابي في خبر: "إنه منسوخ"، لا يَثْبُت النسخ بذلك كما سيأتي.

ثم قال إمام الحرمين: (إن هذا غير مختص بالصحابي، بل لو روى بعض الأئمة خبرًا وعمل بخلافه، كان على هذا التفصيل)

(2)

.

وستأتي المسألة قريبًا.

وما نُقل مِن مخالفة أبي حنيفة حديث خيار المجلس وكذا مالك فمحمول على أن أبا حنيفة لَمَّا قَدَّم القياس ومالِكًا عملَ أهلِ المدينة

(3)

ترَكَا ظاهر الحديث لذلك، وقد بَيَّنَّا المسألتين في محلهما.

ومتى لم يُعْلم سبب المخالفة، كان في ذلك تضعيف للحديث عند المخالف.

ومنها وهو مسألة الكتاب: أن يروي الصحابي خبرًا محتملًا لمعنيين ويحمله على أحدهما. فإنْ تَنَافَيَا كالقروء ويحملُه الراوي على الأطهار، وَجبَ الرجوع إلى حمله كما قاله جمهور أصحابنا كالأستاذَين -أبي إسحاق وأبي منصور- وابن فورك وإلْكِيَا وسليم، ونقله القاضي أبو الطيب في باب "بيع الثمار" عن مذهب الشافعي؛ ولذلك رجع إلى تفسير ابن

(1)

البرهان (1/ 294).

(2)

البرهان (1/ 295).

(3)

يعني: قَدَّم مالك عملَ أهل المدينة.

ص: 756

عمر التفرق في خيار المجلس

(1)

بالأبدان، وإلى تفسيره "حبل الحبلة"

(2)

ببيعه إلى نتاج النتاج، هالى قول عمر في "هاءَ وهاءَ"

(3)

: إنه التقابض في مجلس العقد.

وقال الشيخ أبو إسحاق في "اللمع" بعد حكاية هذا القول: وفيه نظر عنده

(4)

.

فجعل ذلك بعضهم قولًا بالوقف، وعليه جَرَى في "جمع الجوامع". ولا يخفَى ما فيه؛ فإنَّ ظاهر المراد به تضعيف القول به، لا الوقف في المسألة.

وقال أبو بكر الصيرفي: تأويل الراوي أَوْلى؛ لأنه قد شاهد مِن الأمارات ما لا يَقدر على حكايته، إلا أن يقوم دليل على مخالفته، فالحكم للدليل.

وهذا معنى قولي في النَّظم: (يُقْبَلُ حَمْلُهُ عَلَى مَا أَدْرَكَا)، أي: يُقبل حَمل الصحابي الحديث على المعنى الذي رآه وأدركه باعتقاده.

وقولي: (ذَا مَعْنيينِ) أي: فأكثر، فهو مثال.

أما إذا لم يكن بين المعنيين تنافٍ:

فإنْ قُلنا: اللفظ المشترك ظاهر في جميع محامله كالعام، فتعود المسألة إلى التخصيص بقول الصحابي، وقد سبقت الإشارة إليه وإحالته على محله.

وإنْ قُلنا: لا يحمل على جميعها، ففي "البديع": يُحمل فيه على ما حمله راويه وعَيَّنَه؛ لأن الظاهر أنه لم يحمله عليه إلا بقرينة.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2001)، صحيح مسلم (رقم: 1531).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 2036)، صحيح مسلم (رقم: 1514).

(3)

صحيح البخاري (رقم: 2065)، صحيح مسلم (رقم: 1586).

(4)

كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الشيرازي في "اللمع، ص 37": (قِيلَ: إنه يُقْبَل ذلك

، وفيه نَظَر عندي).

ص: 757

قال: (ولا يَبْعُد أن يقال: لا يكون تأويله حُجة على غيره، فإنْ لاح لمجتهد تأويلٌ غيْره بدليل، [حَمَله]

(1)

عليه، وإلا فتعيين الراوي صالح للترجيح). انتهى

نعم، محل ذلك إذا لم يُجْمِعوا على أن المراد أحدهما وجوزوا كُلًّا منهما؛ ولهذا لَمَّا ذكر الماوردي في "الحاوي" حديث ابن عمر في التفرق في خيار المجلس هل هو التفرق بالأبدان؟ أو بالأقوال؟ قال:(وأجمعوا على أن المراد أحدهما، فكان ما صار إليه الراوي أوْلى)

(2)

.

قال: (وقال أبو علي بن أبي هريرة: أحمله عليهما معًا، فأجعل لهما في الحالين الخيار بالخبر)

(3)

.

قال الماوردي: (وهذا صحيح لولا أنَّ الإجماع منعقد على أن المراد أحدهما).

واعْلَم أن الخلاف -كما قاله الهندي- فيما إذا ذكر ذلك الراوي لا بطريق التفسير لِلَفْظةٍ

(4)

، وإلا فتفسيره أوْلى بلا خلاف.

وقولي في موضوع المسألة: (الصَّحَابِيُّ) -يقتضي قَصْر المسألة عليه، وهي طريقة الآمدي وابن الحاجب، ورجحها القرافي وإنْ كان إمام الحرمين والإمام الرازي وغيرهما فَرَضُوها في الراوي سواء أكان صحابيًّا أو غيْرَه، ورجَّحها كثيرٌ لكن بشرط أن يكون ذلك الراوي مِن الأئمة.

(1)

في (ز): حُمِل.

(2)

الحاوي الكبير (5/ 33).

(3)

الحاوي الكبير (5/ 34).

(4)

عبارة الهندي في (نهاية الوصول، 7/ 2959): (إذا حمل الراوي الخبر على أحد محتملاته، فهذا يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون ذلك بطريق التفسير للفظة، فهاهنا لا نعرف خلافًا أنَّ تفسيره أَوْلى، ولا يتجه فيه خِلاف. وثانيهما: أن يكون ذلك بطريق النظر والاجتهاد منه

).

ص: 758

ويأتي للمسألة مزيد بيان في تخصيص العموم يظهر منه ترجيح ما جَرَيْنَا عليه هنا من القَصْر على الصحابي.

وقولي: (مَا لَمْ يَكُنْ لِظَاهِرٍ قَدْ تَرَكَا) أي: محل قبوله في حمله على أحد المعنيين إذا استويَا أو حمله على الراجح، أما إذا حمله على المرجوح وترك الظاهر كما إذا حمل ما ظاهره الوجوب على الندب أو بالعكس أو ما هو حقيقة على المجاز أو نحو ذلك، فالعبرة بالظاهر، لا بحَمْله (على أصح المذاهب).

قال الآمدي: (ولهذا قال الشافعي: كيف أترك الخبر لأقوال أقوام لو عاصرتُهم لحججتهم؟ ! )

(1)

.

وهي أحسن من قول ابن الحاجب: (وفيه قول الشافعي: كيف أترك الحديث لمن لو عاصرته لحججته؟ ! )

(2)

.

فإنه يقتضي قصور قول الشافعي ذلك فيما نحن فيه وهو مخالفة الصحابي لظاهر ما روى، والفرض أنه قال ذلك في الأَعَم مِن هذا ومن مخالفة حديث وإنْ لم يكن هو راوِيه.

كذا قيل، ولكن في التغاير بينهما نظر.

ومقابل الراجح قول ثانٍ عن أكثر الحنفية: العمل بتعيين الراوي مطلقًا؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا عن توقيف.

وقول ثالث لأبي الحسين مِن المعتزلة: (إنه يحمل على تأويله إنْ صار إليه لِعِلمه بقصد النبي صلى الله عليه وسلم مِن مشاهدته قرائن تقتضي ذلك، فإنْ جهل وجَوَّزنا أن يَكون لظهور نَص أو

(1)

الإحكام (2/ 128).

(2)

مختصر المنتهى (1/ 749) مع (بيان المختصر).

ص: 759

قياس أو غيرهما، وجَبَ النظر في الدليل، فإنِ اقتضى ما ذهب إليه، وَجَبَ، وإلا فلا)

(1)

.

وذهب الآمدي إلى قول رابع: (إنه إنْ عُلِم مَأْخَذُ خِلافه وأنه مما يوجبه، صِيرَ إليه؛ اتِّباعًا للدليل. وإنْ جُهِل، عُمِل بالظاهر؛ لأن الأصل في خبر العَدْل وجوب العمل به، ومخالفة الراوي للظاهر يحتمل النسيان)

(2)

.

واعْلَم أن هذه المسألة غيرُ ما سبق في صدْر الكلام أن يكون الخبر نَصًّا في شيء فيخالفه الصحابي، وعلى ذلك ينزل ما رُوي مِن قول الشافعي: كيف [يترك]

(3)

كلام المعصوم إلى مَن ليس بمعصوم؟ !

وتلك أَوْلى مِن هذه أن يُعْمَل بما رَوى، لا بما رأى؛ فلذلك اقتصرتُ في النَّظم عليها.

فرع:

إذا خالف الحديثَ عَمَلُ أكثر الأُمة وقُلنا بالراجح: (إنَّ ذلك ليس إجماعًا)، فالعبرة بالحديث (على الصحيح).

واستثنى ابن الحاجب مِن ذلك إجماع أهل المدينة؛ بِناءً على قاعدة المالكية، وقد سبق بيانه في باب الإجماع وأنَّ ذلك ليس بحجة. بل مقتفَى كلامه هنا تقييد إجماع أهل المدينة بكونهم أكثر الأُمة، ولا قائل به، بل إما بحجِّيَّتهم وإنْ كانوا أَقَل الأُمة، أو لا حُجة في قولهم مطلقًا، إلا أنْ تُؤَوَّل عبارته بأنَّ الاستثناء منقطع.

وأما مسألة تعارض القياس مع خبر الواحد فستأتي في باب القياس. والله أعلم.

(1)

المعتمد (2/ 175).

(2)

الإحكام (2/ 128).

(3)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): نترك.

ص: 760