المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثاني: ما يتوقف عليه الاستدلال من جهة فهم المعنى، وهو اللغة - الفوائد السنية في شرح الألفية - جـ ٢

[شمس الدين البرماوي]

الفصل: ‌النوع الثاني: ما يتوقف عليه الاستدلال من جهة فهم المعنى، وهو اللغة

‌النوع الثاني: ما يتوقف عليه الاستدلال من جهة فَهْم المعنى، وهو اللغة

369 -

كِتَابُ رَبِّنا وَسُنَّةُ النَّبِيْ

أَفْصَحُ لَفْظٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ

الشرح:

لَمَّا فرغتُ مِن النوع الأول مما يتوقف عليه الاستدلال بالأدلة الثلاثة -الكتاب والسُّنة والإجماع- وهو طريق ثبوتها، شَرعتُ في النوع الثاني، وهو ما يتوقف عليه مِن جهة دلالتها، وذلك في الكتاب والسنة اللذين هما أصل الإجماع، بل وأصل القياس، وربما كانا دالَّين على الأصل المقيس عليه كما سيأتي، وذلك هو اللغة؛ لأن فَهْم المعاني [فيهما]

(1)

متوقف على معرفة أن هذا هو مدلوله لُغةً؛ لأن القرآن والسنة عربيان، فلا بُدَّ للمستدل بهما مِن معرفة لُغة العرب، بل هما أفصح الكلام العربي، قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]، وقال تعالى:{وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 102]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، وغير ذلك من الآيات.

فإنْ قيل: مَن سَبقَ نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن الأنبياء المرسلين إنما كان مبعوثًا لقومه خاصة، فهو مبعوث بلسانهم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فمبعوث لجميع الخلْق، فَلِمَ لَمْ يُبعَث بسائر الألسنة ولم يُبعث إلا بلسان بعضهم وهُم العرب؟

فالجواب: أنه لو بُعث بلسان جميعهم لكان كلامه خارجًا عن المعهود، وَيبْعُد -بل يستحيل- أن تَرِد كل كلمة مِن القرآن مكررة بكل الألسنة؛ فتَعَيَّن البعض، وكان لسان العرب أَحَق؛ لأنه أوسمع وأفصح، ولأنه لسان المخاطَبين وإنْ كان الحكم عليهم وعلى

(1)

كذا في (ز، ت، ش، ض)، لكن في (ص): منهما.

ص: 761

غيرهم.

كذا قرر ابن السمعاني السؤال والجواب، وهو حَسَن.

قولنا في التر جمة: (فَهْم المعنى) هو مَفْعَلٌ مِن "عَنيتُ كذا" أيْ: قصدتُه، فالمراد به المصدر منه، ثم المراد بالمصدر المفعول، كالصيد بمعنى المصيد. و"عَنَى" يتعدى لمفعولين ثانيهما بالجارِّ، تقول: عَنيتُ زيدًا بكذا.

قال أبو علي: "المعنى": هو القصد إلى ما يُقصَد إليه. وقال الخليل: معنى كل شيء: محنته وحاله التي يصل إليها أمرُه. وقال ابن الأعرابي يقال: ما أَعرِفُ معناه ومعناته.

ف "المعنى" في كل شيء كما قال ابن فارس: (هو المقصد الذي يُبْرَزُ ويُظهر في الشيء إذا بحِث عنه)

(1)

.

وأما " اللغة " فقال الجوهري: (أصلها "لُغَيٌ" أو "لُغَوٌ")

(2)

.

فردد بين أن يكون من ذوات الياء أو من ذوات الواو، قال:(والهاء عوض، وجمعها "لُغا" و"لغات"، والنسبة إليها " لُغَويٌّ "، ولا يقال: " لَغَوي ")

(3)

. أي: بفتح أوله. انتهى

لكن فيها لُغة ضعيفة حكاها صاحب "تثقيف اللسان"، كما قالوا:"أَمَوي" بفتح أوله نِسبةٌ إلى "أُميَّة" وإن كان ضعيفًا.

والمراد بِ "اللغة": اللفظ الموضوع، فخرج المهمل، وسيأتي تفسير الوضع.

وللُّغة علوم كثيرة تُسمَّى "علوم اللسان"، سنشير إليها بعد ذلك.

(1)

مقاييس اللغة (4/ 148).

(2)

الصحاح تاج اللغة (6/ 2484).

(3)

الصحاح (6/ 2484).

ص: 762

تنبيه:

مِن لطف الله تعالى حدوث الموضوعات اللغوية ليُعَبَّر بها عمَّا في الضمير، سواء قلنا: الواضعُ الله تعالى أو البشر بإقداره تعالى وإلهامه. ووَجْه الحاجة إلى ذلك أنَّ الله عز وجل لَمَّا خلق النوع الإنساني وجعله محتاجًا لأمور لا يستقل بها بل يحتاج فيها إلى المعاونة، ولا بُد للمعاون مِن الاطلاع على ما في نفس المحتاج إليه بشيء يدل، وذلك إما لفظ أو إشارة أو كتابة أو مثال، وكان اللفظ هو أكثر إفادة وأيسر.

أما كونه أكثر فلأنَّ اللفظ يقع على: المعدوم والموجود، الغائب والحاضر، الحسي والمعنوي، ولا شيء مِن الباقي يستوعب ذلك.

وأما كونه أَيسر؛ فلأنه موافق للأمر الطبيعي؛ لأن الحروف كيفيات تعْرِضُ للنفَس الضروري.

وإذا تَقرر الاحتياج للوضع، فكلما اشتدت الحاجة إليه افتقر إلى ما يُوضَع له وإلا لكان ذلك مُخِلًّا بمقصود الوضع، وما لا تشتد إليه الحاجة يجوز أن يوضع له (لِمَا فيه مِن الفوائد) وأنْ لا يوضع له الأنه قد لا يُحتاج إليه).

قال الماوردي في "أدب الدين والدنيا": (وإنما كان نوع الإنسان أكثر حاجة من جميع الحيوان؛ لأن غيره قد يستقل بنفسه عن جنسه، وأما الإنسان فمطبوع على الافتقار إلى جنسه في الاستعانة به، فهو صفة لازِمةٌ لطبعه وخِلقةٌ قائمة في جوهره؛ ولذلك قال تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، أي: ضعيفًا عن الصبر عمَّا هو إليه مفتقر واحتمال ما هو عنه عاجز. وإنما خُصَّ الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز نعمة عليه ولُطفًا به؛ ليكون لِذُل الحاجة و [مهانة]

(1)

العجز خارجًا مِن طغيان الغِنى وبَغْي القدرة؛ إذ هما مركوزان في

(1)

كذا في (ز، ت)، لكن في (ص، ض): مهابة.

ص: 763

طَبْعه، قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6 - 7]؛ ولذلك لَمَّا خلقه محتاجًا عاجزًا جعل له فيما يحتاج إليه في دفع حاجته وقضاء وطره حِيَلًا، وخَلَق له عقلًا يهتدي إليها به، وكل ذلك ليتصف بالرغبة إلى الله تعالى والرهبة منه)

(1)

.

فسبحان مَن هذا مِن بديم صُنعِه!

قولي: (أَفْصَحُ) إشارة إلى أن الكتاب والسنة -مع أنهما عربيان- جاءَا على أفصح لغات العرب.

قال ابن مالك: (نزل القرآن بلغة الحجاز، وما فيه من لغة تميم -أيْ: ونحوهم- إلا قليلًا، كإدغام {وَمَنْ يُشَاقِّ} [الحشر: 4] و {مَنْ يَرْتَدَّ} [المائدة: 54] في قراءة غير نافع وابن عامر، والأكثر إنما هو لغة الحجاز بالفك، نحو: {فَلْيُمْلِلْ} [البقرة: 282]، و {يُحْبِبْكُمُ} [آل عمران: 31]، و {يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125]، {وَمَنْ يُشَاقِقِ} [النساء: 115]، و {مَنْ يُحَادِدِ} [التوبة: 62]، {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64]، ونحو ذلك، وهو كثير).

قال: (وقد أجمع القراء على نَصْب {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] ونَصْب {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31])

(2)

.

وقد عنيَ بعض العلماء بجمع ما في القرآن مِن غير لغة الحجاز ونسبها إلى أهلها. والله تعالى أعلم.

(1)

أدب الدنيا والدين (ص 129 - 131).

(2)

شرح التسهيل (2/ 286 - 287).

ص: 764

ص:

370 -

وَلَيْسَ في الْقُرْآنِ مِنْ مُعَرَّبِ

وَهْوَ الَّذِي لَيْسَ بِلَفْظٍ عَرَبِي

371 -

أَمَّا الَّذِي كَـ "سُنْدُسٍ" وَ" اسْتَبْرَقِ "

وَعِدَّةٍ مِنْ نَحْوِ ذَا الْمُحَقَّقِ

372 -

فَإنَّهُ تَوَافُق في اللُّغَة

فَعَرَبِيٌّ كُلُّهُ، فَأَثْبِتِ

373 -

لَكِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَا عَلَمَا

فَهْوَ حِكَايَةٌ لِمَا قَدْ عُلِمَا

الشرح:

لَمَّا ذكرتُ أن التوقف على معرفة لغة العرب لكون الكتاب والسنة عربيين ذكرتُ جوابًا عن سؤال مُقدَّر وهو أن:

في القرآن ما ليس بعربي، وهو المسمَّى بِ "المُعَرَّب" بتشديد الراء؛ لأنهم تَكلفوا بإدخاله في لُغتهم وليس منها. و"المُعَرَّب": لفظ استعملته العربُ في معنى وُضِع له في غير لُغتهم. وفي القرآن مِن ذلك ألفاظ كثيرة جمعها بعضهم في قوله:

السَّلْسَبِيلُ وَطَهَ كُوِّرَتْ بِيَعٌ

إسْتَبْرَقٌ صَلَواتٌ سُنْدُسٌ طُورُ

والزنجبيلُ ومِشْكاةٌ سرادق مع

رُومٌ وَطُوبَى وسِجِّيلٌ وكافُورُ

كذا قَرَاطِيسُ ربَّانِيُّهُم وغَسَّا

قٌ ثُمَّ دِينارٌ القسطاسُ مَشْهورُ

كَذَاكَ قَسْوَرَةٌ وَاليَمُّ ناشِئةٌ

ويُؤْتِ

(1)

كِفْلَيْنِ مَذكُورٌ ومَنْظُورُ

لَهُ مقاليدُ فِرْدَوْسٌ فَعُدَّ كَذَا

فيما حَكَى ابنُ دُريد مِنْهُ تَنُّورُ

(2)

(1)

في (ق): مؤت. يقصد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28].

(2)

هناك أبيات زادها الحافظ ابن حجر والإمام السيوطي، أمَّا الحافظ ابن حجر فقد ذكر زياداته في كتابه=

ص: 765

على ما في بعض هذه الألفاظ مِن خلاف -في كونه عربي الأصل أوْ لا- مشهور في التفاسير، وقد ذكر في غير ما نُظم كثير فيه خلاف كَـ "مرجان" وغيره، ولسنا بصدد الكلام في ذلك ولا تفسير معانيها ولا عزو كل إلى أهلٍ، بل الإشارة إلى هذا النوع فقط، على أنه قد عَنيَ بجمع ما في لغة العرب مطلقًا مِن ذلك ابن الجواليقي، وربما جعل بعض اللغويين وغيرهم لكثير مِن المعرَّب ضوابط، كقول ابن جنى وغيره مِن النُّحَاة: متى خلا اسمٌ رباعي الأصول أو خماسيها عن بعض حروف الذلاقة الستة المجموعة في "فرّ مَنْ لَبَّ" يكون أعجميًّا. وقول الجوهري وغيره: متى اجتمع جيمٌ وقاف في كلمة فهي أعجمية، كَ " منجنيق " و " جَرْدَق " و " جِلَّق " ونحوها.

= (فتح الباري شرح صحيح البخاري) وقد انتهى مِن شرحه هذا عام 842 هـ كما ذكر الحافظ السخاوي في كتابه (الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، 2/ 675)، أيْ بعد وفاة الحافظ البرماوي.

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري شرح صحيح البخاري، 8/ 252): (تَتبَّعَ الْقَاضِي تَاجُ الذَينِ السُّبْكِيُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَظَمَهُ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُخْتَصَرِ. . وَقَدْ تَتبَّعْتُ بَعْدَهُ زِيَادَة كَثِيرَةً عَلَى ذَلِكَ تَقْرُبُ مِنْ عِدَّةِ مَا أَوْرَدَ، وَنَظَمْتُها أَيْضًا، وَلَيْسَ جَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ هُوَ مُتَّفَقًا عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنِ اكْتَفَى بِإِيرَادِ مَا نُقِلَ فِي الْجُمْلَةِ، فَتَبِعْتُهُ فِي ذَلِكَ).

وقال السيوطي في كتابه (الإتقان، 1/ 407): (فَهَذَا مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْألفَاظِ المُعَرَّبَةِ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَحْصِ الشَّدِيدِ سِنِينَ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلُ فِي كِتَابٍ قَبْلَ هَذَا. وَقَدْ نَظَمَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ بْنُ السُّبْكِيِّ مِنْهَا سَبْعَة وَعِشْرِينَ لَفْظًا فِي أَبْيَاتٍ، وَذَيَّلَ عَلَيْهَا الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَير بِأَبْيَاتٍ فِيهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ لَفْظًا، وَذَيَّلْتُ عَلَيْهَا بِالْبَاقِي وَهُوَ بِضْعٌ وَسِتُونَ؛ فَتَمَّتْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ لَفْظَةٍ).

وانظر: رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (1/ 416)، والتحبير شرح التحرير (ص 471).

ص: 766

إلى غير ذلك من الضوابط.

فقلتُ في جواب هذا السؤال: إنه مِن تَوافُق وَضْع العجم مع وضع العرب، فيظن الظان أن العرب أخذت لفظ العجم واستعملته في لغتها، وليس كذلك، وهذا إنما نَدَّعيه في الواقع في القرآن فقط؛ لِمَا سيأتي من الدليل على أن القرآن كله عربي، وأما وقوعه في لغة العرب فَبِلَا خلاف وإنْ كان حازم في "منهاج البُلغاء" قد ذكر تقسيمًا طويلًا ربما قدح في حكاية الاتفاق لسنا بصدد بسطه، إنما الحاجة إلى وقوعه في القرآن أوْ لا.

فممن أثبته فيه: ابن عباس وعكرمة ومجاهد وجمعٌ، واختاره ابن الحاجب مع نقل نَفْيِه عن الاكثرين، وإنْ كان الآمدي لم يرجح شيئًا، ولكن ما ذهب إليه الأكثرون هو الأرجح، منهم القاضي أبو بكر والقفال وأبو الوليد الباجي والشيخ أبو إسحاق، وابن القشيري قال: وعليه المحققون. وجرى عليه الإمام الرازي وأتباعه. وقال ابن فارس في "فقه اللغة": إنه قول أهل العربية.

ونَصَّ عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الرسالة" في الباب الخامس، فقال: (وقد تكلم في العلم مَن لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أوْلى له، فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيًّا وأعجميًّا. والقرآن يدل على أنه ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، أووجدنا قائل هذا القول ومَن قَبِل ذلك منه تقليدًا وتركًا للمسألة عن حُجة ومسألة عصره ممن خالفه،

(1)

، وبالتقليد أغفلَ مَن أغفلَ منهم، والله يغفر لنا ولهم). انتهى

وممن نقل هذا النص: الشيخ أبو حامد في "تعليقه"، وقال:(إنه قول عامة أهل العلم وقول المتكلمين بأسرهم). ثم نَصَره.

(1)

كذا في جميع النُّسخ، ولفظ الشافعي في (الرسالة، ص 42): (وَوَجَدَ قائل هذا القول مَن قَبِلَ ذلك منه تقليدًا له وتَرْكًا للمسألة عن حُجته ومسألةِ غيره ممن خالفه).

ص: 767

فإنْ قُلتَ: المنقول عنهم إثباته أئمة، فكيف يقول الشافعي ذلك؟

قلتُ: قد أجاب هو في "الرسالة" عنه بأنه لعلَّ قائله أراد به ما جهل معناه بعض العرب، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لَمَّا سمع {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]: (لا أدري ما "الأَبُّ"). وقال ابن عباس: (ما كنتُ أدري معنى {افْتَحْ بَيْنَنَا} [الأعراف: 89] حتى سمعتُ أعرابية تقول: تعال إلى القاضي يفتح بيننا). ولا يَلزم مِن كونه غير معلوم لواحد أو اثنين أن لا تكون عربية.

وأجاب غير الشافعي: بأن الوضع في الأصل للعجم، فلمَّا استعملتها العرب في لُغتها، كان ذلك وضعًا موافقًا لُغة غيرهم.

وإليه ذهب أبو عبيد في "غريبه" بعد أن نقل عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنَّ مَن زعم أنَّ في القرآن لسانًا سِوَى العربية فقد أعظم على الله تعالى القول. وقال: إنَّ مَن ذهب إلى إثباته -كابن عباس وغيره- وإنْ كانوا أَعْلم مِن أبي عبيدة فإنما أرادوا باعتبار الأصل، وهو أراد باعتبار أنها لَمَّا استعملته صار عربيًّا، فكلاهما مُصيبٌ إن شاء الله تعالى.

وهذا الجواب قريب مما ذكرتُه في النَّظم الذي سبق تقريره، إلا أنَّ ذاك أَحْسن باعتبار جريانه على أن اللغة توقيفية أو اصطلاحية، وهذا إنما هو على كونها اصطلاحية.

أما وقوع المعرَّب في السُّنة فجزَم به كثير وإنْ كان ابن القشيري وغيره نصبوا الخلاف الذي في القرآن فيها أيضًا، ولكون هذا بعيدًا لم أتعرض في النَّظم له.

وقد بوَّب البخاري في "صحيحه" باب "مَن تكلم بالفارسية والرَّطَانة"، وأسند فيه عن أُم خالد:"أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلَيَّ قميصٌ أصفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سَنَهْ سَنَهْ"

(1)

. قال ابن المبارك: هي بالحبشية: حسنة.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2906).

ص: 768

وفي "الصحيح" أيضًا: "ويكثر الهَرْجُ. قيل: وما الهرج؟ قال: القتل"

(1)

. قال أبو موسى الأشعري: هي لغة الحبشة.

قولي: (لَكِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَا عَلَمَا) إلى آخِره -إشارة إلى أنَّ الأعلام الأعجمية خارجة عن الخلاف في المعرَّب كما قرره الهندي وغيره، وإنما الخلاف في أسماء الأجناس كاللجام والفرند والفيروزج والياقوت والسمور والسنجاب والإبريق والطست والخوان والفلفل والقرفة والخولنجان والياسمين والكافور، ونحو ذلك مما سبق من المذكور في القرآن وغيره، وذلك لأنَّ نحو "إبراهيم" و"إسماعيل" و"إسحاق" و"يعقوب" من أسماء الأنبياء والملائكة -عليهم الصلاة والسلام- حتى قال أبو منصور: كُل أسماء الأنبياء أعجمية إلا أربعة: آدم وصالح وشعيب ومحمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا تكون الأعلام معرَّبة لكن واقعة في القرآن قَطعًا، ولا يستطيع مَن أجاب عن المعرَّب غيرها بأنه مِن تَوافُق اللغتين أن يقول به فيها؛ لأنه متى وُجد وضع العرب وجبَ أن يكون عربيًّا وصُرف، والفَرْضُ منعه من الصرف؛ للعَلَمِثة والعجمة، إلا أن يُقال بأنه لَمَّا كان في الأصل مِن وضْعهم تَمَيَّز عمَّا لم يكن مِن وضعهم أصلًا، بل محض وضع عربي [بِمَنعْ]

(2)

ذاك من الصرف دُون هذا -على ما فيه من بُعْد. وحينئذٍ فلا يُعَد شيء مِن الأعلام الأعجمية مُعرَّبًا.

ولعل صاحب "جمع الجوامع" أخرجه مِن تعريف "المعرَّب" لذلك، حيث قال:("المعرَّب" لفظ غيرُ عَلَم استعملته العرب في معنى وُضع له في غير لغتهم)

(3)

.

لكن انتُقِد عليه بأنه إنما يخرج من الخلاف في وقوعه لا مِن تسميته معرَّبًا؛ لأنه أعجمي

(1)

صحيح البخاري (رقم: 5690).

(2)

كذا في (ز، ت)، لكن في (ص، ظ، ق): يمنع.

(3)

جمع الجوامع (1/ 426) مع حاشية العطار.

ص: 769

استعملته العرب، وهذا معنى التعريب.

وعندي أنها خارجة مِن المعرَّب بالطريق الذي أشرتُ إليه في النَّظم، وهو أنه حكاية ألفاظ الأعلام كما هي كما أن العجم إذا حكت أعلامًا عندنا ك "محمد" و"أحمد" لا يَصِير بذلك وضعًا أعجميًّا؛ إذْ لا سبيل إلى أنْ يُعَبَّر في الأعلام عن مدلولها إلا بها، بخلاف أسماء الأجناس، لكون العَلَم وُضِع لِمُعَيَّن لا يتناول غيره.

تنبيهات

أحدها: قال ابن دقيق العيد: الخلاف في المعرَّب مبني على إثبات الحقيقة الشرعية، فَمَن أَثبتها وجعلها مجازات لغوية، لا يلزم مِن قوله أنْ يكون القرآن غير عربي.

ولكن يَرُد ذلك قول أبي نصر القشيري: إنَّ هذا ليس هو الخلاف في الأسماء الشرعية. وهو ظاهر؛ لأنَّ الأسماء الشرعية نُقِلت إلى معنى غير الأول، والمعرَّب باقٍ على معناه، فكيف يكون هو إياه أو مُفَرَّعًا عليه إلا بِعُسْر؟ !

الثاني: عُلم مِن إخراج الأعلام مِن الخلاف أن استدلال ابن الحاجب تبعًا لشيخه الأبياري بذلك ليس بجيد؛ لكونه إما غير مُعرَّب أو مُعرَّبًا ليس الخلاف في وقوعه في القرآن كما سبق، بل سبقهما إلى ذلك خَلْقٌ. وربما عزوا ذلك إلى نَص سيبويه في "كتابه" فيما لا ينصرف وفي النسب وفي الأمثلة وغير ذلك، وجرى عليه ابن خروف وغيرُه.

الثالث: إن منشأ الخلاف في اشتمال القرآن على المعرَّب أنه لَمَّا وُصف في عِدة آيات بكونه عربيًّا كما سبق أول الباب وكما أشار إليه الشافعي فيما ذكرناه مِن نَص "الرسالة" فهل يكون المراد الجميع كما فهمه مَن مَنع؟ أو الأكثر كما أَوَّله مَن أَثبت وقوعه؟ لكن الحقيقة هو الكل؛ فلذلك كان أَرْجَح، والله أعلم.

ص: 770

ص:

374 -

لِذَا تَوَقَّفَ الدَّلِيلُ مِنْهُمَا

عَلَى الَّذِي في لُغَةٍ قَدْ رُسِمَا

375 -

وَفي الْأُصُولِ يُعْتَنَى بِذِكْرِ

مُهِمِّ أَقْسَامٍ؛ لِجَوْلِ الْفِكْرِ

الشرح:

أي: لأجل أنَّ القرآن والسنة عربيان تَوقَّف الاستدلال بهما على حكم من الأحكام على معرفة ما نُقل مِن لغة العرب ورُسم فيها على اختلاف فنونه؛ لأن عِلم لسان العرب:

- إما أن يُبحث فيه عن مدلول اللفظ، فهو عِلم "اللغة"، وإنْ كان في الأصل يشمل كل علومها لكن له إطلاقان: عام، وخاص.

- وإما أن يُبحث فيه عن بنية المفردات وأحوالها، وهو عِلم "التصريف".

- أو عن المركبات وما يعرض لها، فهو علم "النحو".

- أو عن فصاحتها وبلاغتها ووجوه حُسنها، وهو علم "المعاني والبيان والبديع".

فمَن لا يَعرف قَدْر الحاجة من هذه العلوم ولا يخوض في أسرارها لا يفهم القرآن والسنة على الوجه اللائق.

فإنْ قيل: سيأتي أنَّ الألفاظ تكون غير لُغوية إما شرعية أو عُرفية، فلا يكون الاستدلال في تلك متوقفًا على لغة العرب؛ فلا يُطْلق أن الاستدلال دائمًا متوقف على معرفة اللغة، ولذلك قال الأبياري في "شرح البرهان": إنَّ الافتقار إلى اللغة إنما هو حيث عُلم أن الشرع لم يتصرف في ألفاظ اللغة وأنها باقية، أي: ولا أرشد فيها إلى اتِّباع العُرف في مدلول اللفظ، فإنْ عُلِم تَصَرُّفه بذلك فلا يحتاج إلى معرفة اللغة، بل لمعرفة تلك الأوضاع الشرعية. أي: أو العرفية.

ص: 771

فالجواب: أن معرفة اللغة لا بُد منها مع معرفة هذه الأوضاع؛ لجواز أن يَصرف اللفظ عنها إلى اللغة قرينةٌ كما سيأتي ذلك في أحوال التعارُض؛ فقدْ تَوقَّف في الجملة.

ثم النظر في علوم اللغة المذكورة لا يخلو إما أن يكون عن جزئيات أو كليات، وعادة الأصوليين أن يتكلموا على بعض أنواع من الكليات؛ لكثرة دورانها، ولأن لها ضوابط تضبطها، فتشتد الحاجة في الاستدلال إليها، فهي من الأقسام المهمة في فن الأصول؛ فلذلك اعتنوا بها.

وهذا معنى قولي: (لِجَوْلِ الْفِكْرِ). أي: لجولان الفكر، أي: في أي شيء يكون منه اللفظ لمستدَل به حتى يُرَد إليه، والله أعلم.

376 -

فَ "اللَّفْظُ ": صَوْتٌ بَعْضَ أَحْرُفٍ وَعَى

بِالْقَصْدِ، وَ"الْقَوْلُ" لِمَعْنًى وُضِعَا

الشرح:

لَمَّا سبق أنَّ مِن لُطف الله تعالى حدوث اللفظ الموضوع للمعنى، احتِيجَ إلى تفسير اللفظ والوضع وبيان الاصطلاح في أسمائها؛ لِيُفهم المراد عند إرادة تلك الأقسام، وقد اشتمل هذا البيت على تفسير "اللفظ" وما يُسمى إذا وُضِع.

فَ "اللفظ" في اللغة: مصدر "لفظ الشيء"، أي: طرحَه، ثم استعمل في المطروح، كالصيد بمعنى المصيد.

وفي الاصطلاح: الصوت المشتمل على بعض الحروف قصدًا. ليخرج بذلك تصويت الجمادات وغيرُ الناطق مِن الحيوان وإنْ تخيل في صوته بعض أَحْرُف لكنه بغير قصد، فليس بلفظ" فلذلك قيدته بقولي:(بِالْقَصْدِ). وربما عُبِّر عن ذلك بالصوت المعتمد على مقاطع

ص: 772

الحروف؛ حتى يخرج بالاعتماد ما ذكرناه.

وهو معنى قولي: (بَعْضَ أَحْرُفٍ وَعَى)، فَ "بعض" مفعولٌ مُقدَّم على ناصِبِه وهو " وَعَى "، أي: حَوَى.

وإنما سُمي "لفظًا"؛ لأنه مطروح بلسان اللافظ إلى سمع السامع ولو بتقدير أن لو كان سامع.

وأما "القول" فهو في اللغة: مصدر "قال يقول" إذا نطق.

ثم نُقل اصطلاحًا إلى المقول مِن اللفظ المستعمل، فَ "القول": هو اللفظ الموضوع لمعنًى. وهو معنى قول بعضهم: (المستعمل)؛ ليخرج بذلك اللفظ المهمل وهو الذي لم يوضع، كَ "ديز" مقلوب لفظ "زيد"، و"رفعج" مقلوب "جعفر"، فاللفظ أعم من القول مطلقًا.

وهو معنى قولي: (وَ"الْقَوْلُ" لِمَعْنًى وُضِعَا)، أي: الذي من اللفظ وُضع لمعنى، والله أعلم.

ص:

377 -

وَ"الْوَضْعُ": جَعْلُهُ دَلِيلَ مَعْنَى

أَوْمَا كَجَعْلٍ في اشْتِهَارٍ يُعْنَى

الشرح:

لَمَّا سبق أنَّ "القول" ما وُضع لمعنى، احتيجَ إلى تفسير "الوضع" في الاصطلاح، وله إطلاقان:

خاص: وهو تخصيص اللفظ بمعنى ليدُل عليه. وهو المراد هنا، فاللام فيه للعهد الذهني؛ لأن الكلام في الألفاظ.

وعام: وهو تخصيص شيء بشيء بحيث يدل عليه، سواء فيه ما سبق وجَعْل المقادير دالة

ص: 773

على مقدراتها مِن موزون ومكيل ومزروع ومعدود، وجَعْل مركبات الأدوية والأغذية بإزاء ما وُضعت له.

فالضمير في قولي: (جَعْلُهُ) عائد على اللفظ، سواء أكان اسمًا كَـ "زيد" و"رجُل" و"قائم"، أو فِعلًا ك "قام"، أو حرفًا كَـ "ثم" و"بل".

وقولي: (أوْ مَا كَجَعْلٍ) إشارة إلى أن الوضع قد لا يكون تخصيصَ واضعٍ بإرادته، بل اشتهار لفظ في معنى إما في الشرع أو في العُرف، فالاشتهار ليس حقيقة الجعل، بل يُشْبه الجعل. ويَصْدُق أن يُقال: الواضع الشرع أو العُرف، والمراد ما ذكرناه مع أن الشارع لم يَقُل: اعلموا أنَّ هذا اسم لذلك. وكذلك أهل العُرف لم يقولوا ذلك.

فمَن يُعَرِّف "الوضع" بأنه "جَعْل اللفظ دليلًا على المعنى" يُورِد عليه الوضع الشرعي والعُرفي إلا أنْ يذكر في تعريفه هذه الزيادة أو يريدبِ "الجَعْل" الحقيقي والمجازي.

تنبيه:

قد يؤخذ من قولي: (جَعْلُهُ) -أي: جَعْل اللفظ- أنَّ المركَّب موضوع؛ لشموله المفرد والمركب، بل زعم بعضهم أنَّ "اللفظ" جمعٌ واحِدُه "لفظة"، والحقُّ أنه اسم جنس، و [التاء في]

(1)

"لفظة" إنما هي للوحدة من الجنس، لا لتمييز المفرد عن الجمع، إلا أن المفرد موضوع قطعًا، وفي المركب خلاف:

- فقيل: ليس بموضوع؛ ولهذا لم يتكلم أهل اللغة فيه ولا في أنواع تأليفه؛ لكون الأمر فيه موكولًا إلى المتكلم. واختار هذا الإمام الرازي، وهو ظاهر كلام ابن مالك حيث قال: إن دلالة الكلام عقلية. واحتج له في "الفَيْصَل على المُفصل" بأنَّ مَن يعرف لفظين لا يفتقر

(1)

في (ز): الباقي.

ص: 774

عند سماعهما مع إسنادٍ إلى مُعَرِّف لمعنى الإسناد، بل يُدركه ضرورةً، ولأنه لو كان المركب موضوعًا، لافتقر كل مُركَّب إلى سماعه من العَرَب كما في المفردات.

ونحوه ما حكاه ابن إياز عن شيخه.

- وقيل: بل المركب موضوع؛ بدليل أن له قوانين في العربية لا يجوز تغييرها، ومتى غُيرت حُكِم عليها بأنها ليست عربية، كتقديم المضاف إليه على المضاف وإنْ قُدِّم في غير لُغة العرب، وكتقديم الصلة أو معمولها على الموصول، وغَيْر ذلك مما لا ينحصر، فحجروا في التركيب كما في المفردات.

هالى هذا ذهب ابن الحاجب حيث قال: (وأقسامها مفرد ومركَّب)

(1)

.

قال القرافي: وهو الصحيح. وعزاه غيره للجمهور.

والتحقيق أن يقال: إنْ أُرِيدَ أنواع المركَّبات فالحقُّ أنها موضوعة، أو جزئيات النوع فالحقُّ المنع.

وينبغي أن يتنزل المذهبان على ذلك، وعلى هذا فيقال:

إنَّ كَوْن "الوضع" جَعْل اللفظ دليلًا على المعنى -صادقٌ على المفردات مطلقًا، وعلى المركبات باعتبار الأنواع لا الجزئيات.

أو يقال: إنَّ مَن قال: (المركَّب موضوع) قد يعني به أن مفرداته موضوعة، فيصدُق كونه موضوعًا بهذا الاعتبار.

ويصح تفسير "الوضع" السابق وتقسيم "القول" إلى مفرد ومركَّب كما سيأتي.

ومما يتفرع على هذا الخلاف ما سيأتي أن المجاز هل يكون في التركيب؟ وأن العلاقة هل

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 149).

ص: 775

تشترط في آحاده؟ ونحو ذلك.

نعم، المثنى والجمع هل هو مِن قبيل المفرد فيكون موضوعًا؟ أو مِن قبيل المركَّب؛ لِشبَهِه به فلا يكون موضوعًا؟ على الخلاف السابق فيه.

ظاهر كلام ابن مالك في "التسهيل" الثاني، حيث قال:("التثنية" جَعْل الاسم القابل دليل اثنين متفقين) إلى آخِره. وقال في "الجمع": (جَعْله دليل ما فوق اثنين)

(1)

إلى آخرِه.

وبعضهم يقول: "المثنى" ما وُضع لاثنين، و"الجمع" ما وُضِع لأكثر، فيقتضي أنه موضوع؛ لأنه مفرد على قوانين لا يجوز الإخلال بها، وينبغي أن يجري فيه ما سبق في المركَّبات وهو الوضع في الأنواع [لا]

(2)

الجزئيات، ويُحمل كلام الفريقين على ذلك.

ولا ينبغي أن يقال: إن كلام ابن مالك مفرَّع على مذهبه في [وضع]

(3)

المركب؛ لانتفاء النسبة في المثنى والجمع، فيفترقان من المركَّبات، لأنهما مفردان قطعًا، وإنما المدرك ما سبق.

فائدة:

اختُلف في أن اللفظ إذا وُضع لمعنًى:

هل هو موضوع للمعنى الخارجي (أي: الموجود في الخارج)؟ أو للمعنى الذهني وهو ما يتصوره العقل، سواء طابق ما في الخارج أوْ لا؟ أو للمعنى مِن حيث هو مِن غير ملاحظة كَوْنه في الذهن أو في الخارج؟

(1)

تسهيل الفوائد (ص 12).

(2)

في (ز): لا في.

(3)

عبارة الزركشي في (البحر المحيط، 1/ 396): (وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: "فَرَّعَهُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَدَمِ وَضْعِ المُرَكَّبَاتِ"؛ لِأنَّهُ لَا تَرْكِيبَ فِيهَا، لَا سِيَّمَا أَنَ المُرَكَّبَ فِي الحقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الْإِسْنَادُ).

ص: 776

على ثلاثة أقوال:

الراجح منها: الأول، وبه جزم أبو إسحاق في "شرح اللمع"؛ لأن به تستقر الأحكام، ونصره ابن مالك في كتاب "الفيصل".

واختار الثاني الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي؛ لدوران الألفاظ مع المعاني الذهنية وجودًا وعدمًا، فإنَّ الإنسان إذا رأى شخصًا مِن بُعد تخيله طللًا، سَمَّاه بذلك، فإذا قرُبَ منه وظنه شجرًا، سمَّاه بذلك، فإذا قرب منه ورآه رجُلًا، سماه بذلك.

ورُدَّ بأن ذلك إنما هو لاعتقاد مطابقة الذهني للخارج، فالمدار على الخارجي.

والثالث: هو مختار الشيخ تقي الدين السبكي، وأفرد المسألة بالتصنيف.

وإنما أَسْقَطتُ هذه المسألة من النَّظم وهي في "جمع الجوامع"؛ لقِلة جدواها.

وكذلك أسقطتُ مسألة "إنه ليس لكل معنى لفظ، بل كل معنى محتاج للفظ يدل عليه إما بخصوصه حقيقةً أو مجازًا أو في ضمن عموم"؛ لوضوح المراد بها، وقِلَّة نفعها في الاستدلال، والله أعلم.

ص:

378 -

وَالرَّسْمُ لِلدِّلَالَةِ اللَّفْظِيَّهْ

وَرُبَّمَا عُدِّيَ لِلْتقِيَّهْ

379 -

هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ حَيْثُ أُطْلِقَا

يُفْهَمُ مَعْنَاهُ الَّذِي تُحُقِّقَا

الشرح:

لمَّا ذكرت في "الوضع" أنه جَعْلُ اللفظ دليلًا، احتجتُ لتفسير الدلالة التي صار بها دليلًا.

فذكرتُ في رسم "الدلالة اللفظية" التي الكلام فيها أنها: كَوْن اللفظ بحيث إذا أُطلِق،

ص: 777

فُهِم منه المعنى الذي هو له محقق بالوضع، فيفهمه مَن يَعرف أنه موضوع له، كدلالة "إنسان" على حيوان ناطق.

وأما مَن يذكر في رسم هذه الدلالة أنها "فَهْم المعنى عند ذِكر اللفظ" فمردود مِن وجهين:

أحدهما: أنَّ فَهْم المعنى فرعٌ عن كون اللفظ دل عليه، فلو عُرِّف به، لَتَوَقَّف معرفة الدلالة عليه، فيلزم الدور.

الثاني: أن الدلالة في اللفظ موجودة سواء فهمها فاهم أوْ لا.

فالصواب ما قلناه: إنَّ الدلالة هي كون اللفظ بالحيثية المذكورة، لا الفهم.

وقولي: (مَعْنَاهُ) أعم من أن يكون دلالته عليه مِن حيث وضع اللغة أو مِن حيث اشتهاره شرعًا أو عرفًا.

وقولي: (وَرُبَّمَا عُدِّيَ لِلْتقِيَّهْ) الضمير في "عُدِّيَ" للرسم المذكور، أي: وربما عُدِّي هذا الرسم لبقية الدلالات بعد اللفظية، فَجُعل رسمًا لها مُعَرِّفًا لمعناها.

والمراد بِ "البقية" ما يقابل "اللفظية" مِن "العقلية" و"الطبيعية"، فَفُهِما وإنْ لم يسبق لهما ذِكر، لأن ذِكر الضد يُشْعر بضده، كالعمى والبصر، والحر والبرد، كما في قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، ولم يَقُل:"والبرد"؛ لِعِلمه مِن ضِده، وما أَشْبه ذلك.

ولمَّا كان الكلام في الدلالة اللفظية التي هي وضعية، دخل أيضًا في لفظ "البقية" ضد الوضعية مِن اللفظية ما هو لفظي لكن غير وضعي كما سنوضح ذلك.

والحاصل أن الدلالة مِن حيث هي يمكن تعريفها بهذا الرسم، فيقال: كون الشيء يَلزم مِن فَهْمه فَهْم شيء آخَر.

ص: 778

وتفصيل الدلالات أنا الدلالة من حيث هي:

- إما وضعية: كدلالة الأقدار على مقدراتها، ونحو ذلك كما سبق، ومنه دلالة السبب على المسبَّب، كالدلوك على وجوب الصلاة، ودلالة المشروط على وجود الشرط، كالصلاة على الطهارة وإلا لَمَا صَحَّت.

- أو عقلية: كدلالة الأثر على المؤثِّر، ومنه دلالة العالَم على مُوجِدِه وهو الباري جل جلاله، وعلى ما يجب له من الصفات الثبوتية والسلبية، وما يجوز له من صفات الأفعال، ومنه أيضًا دلالة الدليل على ما يُستدل به عليه، كالمقدمتين على النتيجة.

- أو لفظية: وهي المستندة لوجود اللفظ إذا ذكر.

وهذه الثالثة ثلاثة أقسام:

- إما عقلية: كدلالة الصوت على حياة صاحبه.

- أو طبيعية: كدلالة "أح أح" على وجع الصدر.

- أو وضعية: أي بوضع اللغة أو الشرع أو العرف لذلك اللفظ. فهي غير الوضعية التي هي قسيم اللفظية.

فالوضعية مِن الدلالات اللفظية هي المرادة، وبِ "البقية" ما سواها، والله أعلم.

ص: 779

ص:

380 -

[مِنْ هَذهِ]

(1)

"دِلَالَةُ الْمُطَابَقَهْ"

يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ فِيهَا طَابَقَهْ

381 -

وَمَا عَلَى بَعْضٍ لَهُ "تَضَمُّنُ"

وَ" لَازِمٍ " هِيَ الْتِزَامٌ بَيِّنُ

382 -

وَالْعَقْلُ في ذَيْنِ لَهُ دُخُولُ

مِنْ حَيْثُ الِانْتِقَالُ إذْ يَجُولُ

383 -

ثُمَّ الْمُرَادُ بِ " اللُّزُومِ " الذِّهْنِي

لَا خَارِجٌ فَإنَّهُ لَا يُغْنِي

الشرح:

هذا تقسيم للدلالة اللفظية الوضعية إلى ثلاثة أقسام: مُطَابَقة، وتَضَمُّن، والتزام.

فَ "دلالة المطابقة": هي دلالة اللفظ على مُسَمَّاه، ك "إنسان" على حيوان ناطق.

ويقع في عبارة كثير: "على تمام مسماه"، وهي قاصرة، لخروج ما لا جُزء له، كاسْم "الله" تعالى، وكالجوهر الفرد، فلا يقال فيه:"تمام"؛ لأنه لا جُزء له.

و"دلالة التضمن" هي: دلالة اللفظ على جزء مسماه، كدلالة "إنسان" على حيوان فقط أو ناطق فقط، سُمي بذلك لتضمنه إياه.

و"دلالة الالتزام": دلالة اللفظ على ما هو خارج عن المسمَّى لكنه لازِم له، كدلالة "إنسان" على كونه ضاحكًا.

قيل: ينبغي أن يُزاد في تعاريفها "مِن حيث هو كذلك"، ففي "المطابقة": من حيث هو مسماه، وفي "التضمن": من حيث هو جزؤه، وفي "الالتزام": من حيث هو لازِم؛ لِدَفْع ما يَرِد على ذلك مِن كون اللفظ قد يكون مشتركًا بين المسمَّى وجزئه، أو بين المسمى ولازِمه،

(1)

في (ن 1، ن 3، ن 4): فهذه.

ص: 780

كَـ "مصر" اسم للمدينة و [لإقليمها]

(1)

جميعه، و"الشمس" لِقُرصها وللضوء الذي هو لازِمها. فإنما يكون مطابقة من حيث الوضع للمسمَّى، وتَضمُّنًا من حيث الوضع للجزء، والتزامًا من حيث الوضع لِلازم.

وكذلك قيَّد به صاحب "المحصول" وتلميذه صاحب "التحصيل"، لكن في دلالتَي التضمن والالتزام فقط. وينبغي أن يُقيِّدا به في المطابقة أيضًا على ما قصداه.

لكن المتقدمون وكثير من المتأخرين لم يقيدوا بذلك؛ لأن الكلام في كل دلالة مِن حيث الوضع للمسمَّى، لا مِن وضع آخر؛ لأن ذلك حينئذٍ هو تمام مسماه، وهو واضح.

وزعم ابن الحاجب في "المنتهى" أنه ينبغي أن يُزاد: "المراد لمعنًى"؛ للاحتراز عن دلالة اللفظ إذا أُريد نفس اللفظ لا مدلوله، كما تقول:"زيد" مبتدأ، "قام" فِعل ماض، "ثُم" حرف عطف. فإن الدلالة حينئذٍ ليست راجعة إلى معنى اللفظ.

قلتُ: لكن مدلوله حينئذٍ هو ذاك، كأنك قلتَ: لفظ "زيد"؛ ولذلك تصير كلها أسماء وتُعرب أو تُبنى.

كما قال ابن مالك في "الكافية":

وإنْ نَسبْتَ لأداةٍ حُكْمَا

[فابْنِ]

(2)

أو اعرِبْ، واجْعَلنهَا اسْمَا

نعم، استُشكِل انحصار الدلالة في الثلاث بدلالة العام على جزئي منه، كدلالة "المشركين" على "زيد" منهم، فإنه:

- ليس مطابقة؛ إذ ليس هو جميع المشركين.

(1)

في (ز): لما يليها.

(2)

كذا في جميع النُّسخ، وفي (الكافية): فاحْكِ. وقال ابن مالك في شرحها: (وإذا نسب إلى حرف أو غيره حكم هو للفظه دُون معناه، جاز أن يُحْكَى، وجاز أن يعرف بما تقتضيه العوامل. فمن الحكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم: إياكم و"لو"، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان).

ص: 781

- ولا تَضَمُّنًا؛ لأنه ليس جزءًا منهم، بل جزئيًّا، وسيأتي بيان الفرق بينهما في باب العموم.

- ولا التزامًا؛ لأنه داخل في مدلول "المشركين" بوصف الشرك.

وقد يُجاب بادِّعاء كونه مِن المطابقة باعتبار صِدق المشرك عليه مِن حيث هو، وهو موضوع اللفظ، والكمية فيه بالكلية، والجزئية خارجة عما وُضع له اللفظ الذي هو كُلي.

وبادِّعاء كونه مِن الالتزام؛ لأن لازم هذه الماهية الموضوع لها العموم كل فردٍ فردٍ، فالفرد لازم، وسيأتي في باب العموم فيه مزيد بيان.

قولي: (يَكُونُ مَعْنَى اللَّفْظِ) إلى آخِره -أي: المطابقة أن تكون كذلك.

وقولي: (وَمَا عَلَى بَعْضٍ لَهُ) أي: الذي وضع اللفظ له.

وقولي: (ولازم) أي: وما هو دال فيه على لازم للمعنى هو التزام.

وقولي: (وَالْعَقْلُ في ذَيْنِ لَهُ دُخُولُ) إلى آخِره -إشارة إلى التحقيق من الخلاف المشهور في الدلالات الثلاث:

- أنها كلها لفظية.

- أو المطابقة فقط، والأخريان عقليتان.

- أو المطابقة والتضمن لفظيتان، والالتزام عقلية.

ثلاثة مذاهب:

الأول: هو المَعْزيُّ للأكثرين؛ لأن الاستناد لِلَّفْظ في كل مِن الثلاث، إذْ هو واسطة في الدلالة على الجزء واللازم، فكان كالمطابقة.

الثاني: هو اختيار الإمام في "المحصول"، وتبعه ابن التلمساني والهندي وغيرهما؛ لأن اللفظ الموضوع للكل لم يوضع للجزء ولا للازم، فما دل إلا بواسطة تَضمُّنه له عقلًا

ص: 782

ولازِميَّته له عقلًا؛ فلذلك ينتقل الذهن من المسمَّى إليهما انتقالًا من الملزوم إلى اللازم.

والثالث: هو رأي الآمدي وابن الحاجب؛ لأن الجزء داخل فيما وُضع له اللفظ، بخلاف اللازم؛ فإنه خارج عنه.

فذكرتُ في النَّظم ما هو الحقّ أن للعقل دخولًا في التضمن والالتزام مع الاستناد للفظ، فليسا لفظيًّا محضًا كما في المطابقة، ولا عقليًّا محضًا حتى لا يحتاج للفظ فيهما، فكأنهما لفظيتان باعتبارٍ عقليتان باعتبارٍ، حتى زعم بعضهم أن الخلاف لفظي وأنه لا خلاف في المعنى؛ ولأجل ذلك كان تقسيم الدلالة اللفظية إلى الثلاثة، فاللفظ معتبَر فيها قطعًا وإلا فكان يلزم أن يدخل في المقسم ما ليس منه.

وقولي: (ثُمَّ الْمُرَادُ بِ "اللُّزُومِ" الذِّهْنِي) إشارة إلى أن المعتبر في دلالة الالتزام اللزوم الذهني (على المرجَّح)، لا الخارجي؛ وذلك لأن اللفظ غير موضوع للازم، فلو لم يكن اللازم بحيث يَلزم مِن تَصَوُّرِ مُسَمَّى اللفظ تَصَوُّرُه، لَمَا فُهم مِن اللفظ، وهو معنى تعليل المنطقيين لِكَوْنه المختار عندهم بِكَوْن الذهن ينتقل مِن المسمَّى إليه.

نعم، قيَّد في "المحصول" اللزوم الذهني بالظاهر؛ لأن القطع غير معتبر وإلا لم يَجُز إطلاق "اليد" على القدرة، فإن "اليد" ليست مستلزمة للقدرة بحسب القطع؛ إذ قد تكون شلَّاء.

قلتُ: لزوم القدرة لليد إنما هو لزوم خارجي باعتبار ما ركَّبه الله فيها؛ دليلُه أنَّ "اليد" لا يَلزم مِن تصوُّرها تَصوُّر القدرة لها، والتخلف في الخارج قد يكون لمانع كما في الشلاء، فالذهني لا يحتاج لهذا القيد أصلًا، وإنما لم يعتبر اللزوم الخارجي كالسرير مع الإمكان؛ لأنه إذا لم ينتقل الذهن إليه، لم تحصل الدلالة البتة، وقد تحصل الدلالة وليس هناك لزوم خارجي، كدلالة العمى على البصر، والحر على البرد.

ص: 783

واعتبر كثير مِن الأصوليين وأهل [البيان]

(1)

اللزوم مطلقًا، أَعَم من الذهني والخارجي. وسواء أكان الذهني في ذهن كل أحد -كما في العدم والملكة- أو عند العالم بالوضع أو غير ذلك؟ ولهذا يجري فيها الوضوح والخفاء بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال.

ولكن عند التحقيق تراهم يرجعون إلى لزوم ذهني ولو بقرينة تدل عليه وأصله خارجي، وذلك حتى ينتقل الذهن كما بيناه؛ فلذلك جريتُ في النَّظم على إطلاق اعتبار اللزوم الذهني؛ وفاقًا لمن قاله، فإنه الظاهر.

وقولي: (لَا خَارِجٌ) أي: ليس المعتبر مجرد اللزوم الخارجي؛ لأنَّ الدلالة قد توجد وليس هناك لزوم خارجي كما سبق، والله أعلم.

ص:

384 -

وَالْقَوْلُ إنْ جُزْءٌ لَهُ دَلَّ عَلَى

جُزْءٍ لِمَعْنَاهُ بِقَصْدٍ وُصِلَا

385 -

" مُرَكَّبٌ " وَمَا سِوَاهُ " الْمُفْرَدُ "

وَالْبَدْءُ في تَقْسِيمِ هَذَا أُورِدُ

الشرح:

لَمَّا بيَّنتُ أنَّ اللفظ الموضوع لمعنى يُسمى "قولًا" وبيَّنتُ معنى "الوضع" ومعنى "الدلالة" وتقسيمها، ذكرتُ هنا أن القول ينقسم إلى مفرد ومركب، وقدمتُ في النظم تعريف "المركَّب"؛ لأن التقابل بينهما مِن تقابُل العدم والملَكَة، والأعدام إنما تُعرف بملكاتها. وإنما قَدَّم ابن الحاجب "المفرد" لمناسبة مختارِه في الفَرْق بين "المفرد" و"المركب" كما سيأتي.

فَ "المركَّب": ما دَلَّ جزؤه على جزء معناه الذي وُضع له، سواء أكان تركيبه إسناديًّا كَ

(1)

في (ز): الشأن.

ص: 784

"قام زيد"، أو إضافيًّا ك "غلام زيد"، أو تقييديًّا ك "زيد العالم "، لا مزجِيًّا ك "خمسة عشر" و"بعلبك"، فإنه لا يدل -حين كونه عَلَمًا- جزؤه على جزء معناه. وكذا المضاف إذا كان عَلَمًا، نحو"عبد الله".

وقولي: (بِقَصْدٍ وُصِلَا) أي: إنما يكون مُركبًا إذا كان ذلك الجزء منه دالًّا على جزء معناه بالقصد؛ ليخرج نحو: "حيوان ناطق" عَلَمًا على إنسان؛ فإنه مفرد وإنْ كان جزؤه دل على جزء معناه من حيث هو.

وبعضهم يقول: لا حاجة لهذا القيد؛ لأنه بعد العَلَمية لا يَصدُق أنَّ جزءه دلَّ على جزء معناه؛ لأن كُلًّا مِن جزئَيه صار بالعَلَمية بمنزلة حَرْف الهجاء فيه، ك "الزاي" من "زيد"، فكما لا يدل على جزء من ذات "زيد" كذلك هذا. وعلى هذا يكون هذا القيد إيضاحًا.

وقولي: (إنْ جُزْءٌ لَهُ دَلَّ عَلَى جُزْءٍ لِمَعْنَاهُ) خرج به نحو "إنسان"، فإنه وإنْ دلَّ فيه "إنْ" على [الشرط]

(1)

لكن لم يدل على جزء معناه، وبعضهم يُسمي هذا مؤلفًا لا مركبًا، والمشهور المنع وأنَّ المؤلَّف بمعنى المركَّب.

ومنهم مَن يُفرق بينهما بأن المؤلَّف يكون بين جزئيه ألفَة، بخلاف المركب.

ورُدَّ بأن المراد بالتركيب إنما هو على الوجه المعتبر في كلام العرب، لا مطلق انضمام لفظ إلى آخَر، فحينئذٍ لا يوجد مركَّب إلا وبين جزئيه ألفة.

وزعم بعضهم أنه يخرج بذلك أيضًا أنَّ حروف "زيد" -مَثلًا- كل واحد يدل على شيء في الجملة وهو ذلك الحرف، ف "الزاي" يدل على "زه"، وكذا الباقي.

وهو فاسد؛ لأنه إن أراد بالدال اللفظ المعبَّر عنه ب "الزاي والياء والدال" فليس لذلك دلالة أصلًا، وإنْ أراد هذا اللفظ وهو "زاي ياء دال" فهذا ليس الذي تركب منه "زيد"، بل

(1)

كذا في (ز، ص)، لكن في (ت): الشرطية.

ص: 785

مِن مدلولاته، فَتَأَمَّلَه.

وقولي: (إنْ جُزْءٌ لَهُ دَلَّ) ولم أَقُل: (كل جزء)؛ إشارة إلى أنك إذا قلتَ: (زيد قائم) فإنما دل من الأجزاء كلمة "زيد" وكلمة "قائم"، لا كل حرف من حروفها؛ لأن كل حرف من حروف الكلمتين معًا لا دلالة له أصلًا، لا على جزء المعنى ولا غيره كما بيناه. وإنما يكون ذلك في الجزء القريب؛ فلذلك قيَّد به بعضهم.

فإنْ قُلتَ: فَدَلَّ قولك ذلك أنه إذا دل جزءٌ على جزءِ المعنى، يكتفَى بذلك وإنْ لم تدل بقية الأجزاء على باقي المعنى، والفرض أنك إذا قلت مثلًا:(زيد قائم)، ف "زيد" دل على جزء المعنى و"قائم" دَلَّ على جزئه الآخَر، فكان ينبغي أن تقول:[(كل واحد من أجزائه) أو: (من أجز ائه القريبة)]

(1)

إذا أردت الإيضاح كما تَقدم.

قلتُ: لم أحْتج لذلك؛ لأنه متى دَلَّ جزء على جزء المعنى كان الجزء الآخَر دالًّا على باقي المعنى بالضرورة؛ لئلا يَلزم ضَم مُهْمَل إلى مستعمَل، بل يصير مجموع اللفظ غيرَ وافٍ بجملة المعنى، والفَرْضُ خِلَافُه.

أو يقال: المراد ما ذكرتم، ويدل عليه أن النكرة في سياق الشرط للعموم، ويكون المراد أن كل جزء قريب يدل على جزء من المعنى.

وقولي: (وَمَا سِوَاهُ "الْمُفْرَدُ") بيان؛ لأن كل ما اختل فيه قيد من تعريف المركَّب يكون "مفردًا"؛ فيدخل:

- ما لا جزء له أصلًا، ك "باء" الجر، فإنها مفرد وإن لم تستقل بالنطق بها ولا بالدلالة على معنى في نفسها؛ لكونها حرفًا.

- وما له جزء لكن لا يدل، ك "زيد".

(1)

كذا في (ز، ظ، ت). لكن في سائر النُّسخ: كل واحد من أجزائه القريبة.

ص: 786

- أو يدل لا على جزء المعنى، كما سبق في "إنْ" مِن "إنسان".

- أو يدل على جزء المعنى لكن في وضع آخَر لا في ذلك الوضع، كما سبق في "حيوان ناطق" عَلَمًا على "إنسان".

تنبيه:

هذا التعريف للمركَّب والمفرد هو اصطلاح المنطقيين وغيرهم مِن أهل الأصول، وأما أهل العربية فتُعزى إليهم تفرقة أخرى، وهي: أنَّ "المفرد" اللفظ بكلمة واحدة، و"المركَّب" بخلافه. واختار هذا ابن الحاجب.

فخرج بِ "الكلمة" في تفسير المفرد: الكلام ونحوه من المتضايفين وغيرهما.

وبِقَيْد الوحدة: المركَّبات الناقصة والمركَّب الذي هو عَلَم، ك "عبد الله" و"حيوان ناطق" عَلَمًا على إنسان، فهو وإن كان كلمة لكنه غير مفرد؛ إذِ "المفرد" عندهم أخص من الكلمة.

ثم فرَّع ابن الحاجب على الفرقين أنَّ نحو: "بعلبك" مركَّب على طريق أهل العربية، واختاره دُون الأخرى، ونحو:"يضرب" بالعكس، أي: يكون على طريقة المنطقيين وأهل الأصول مركَّبًا، وعلى طريق أهل العربية مفردًا، وهو واضح.

ثم قال: (ويَلزمهم -أي: المنطقيين ومَن [تبعهم]

(1)

- أن نحو "ضارب" مِن أسماء الفاعلين و"مخرج " ونحو ذلك مما لا ينحصر مُركَّب)

(2)

. أي: لأن "الألف" من "ضارب" و"الميم" من "مخُرج" جزء دل على جزء من المعنى.

وما ادَّعاه مِن الإلزام لهم غير سديد؛ لأنَّ الدال على وصفيَّة الفاعل مجموع اللفظ، لا

(1)

كذا في (ز، ت)، لكن في (ص): معهم.

(2)

مختصر المنتهى (1/ 152) مع (بيان المختصر).

ص: 787

" الألف " وحدها و [لا]

(1)

" الميم " وحدها.

وقد أوضح هو هذا في "أماليه "، فقال: إنَّ "الألف" من "ضارب" و"الميم" من "مخرج" وأَحرُف المضارعة و"الألف" في "سكرى" و"غضبى" ونحو ذلك ليست كلمات مستقلة، بل جزء كلمة.

قال: (وقد تَخيل كَوْن حروف المضارعة كلمة بعض المتأخرين، وهو غلط، والفرق بين هذه الحروف وأشباهها مما ليس بكلمة وبين التي هي كلمات أنَّ هذه لا تدل على المعنى الذي قُصِد بزيادتها له إلا بِسَبْك ما انضم إليها معها حتى صار كالجزء منه، وأما الحرف الذي هو كلمة فتجد ما ينضم إليه مستقلًّا في دلالته قبله، وتجده موضوعًا لذلك بمجرده وإنِ اشترط في استعماله ذِكر متعلقه، ك "اللام" مِن "لزيد"، فإن كُلًّا منهما يُفهم معنًى مستقلًّا، بخلاف " الألف " مِن " ضارب " و" الياء" من "يخرج"). انتهى مُلخصًا.

وبه يُعلم أن قوله: (ونحو "يضرب" بالعكس) أي: ما يكون مركَّبًا على طريقة المناطقة قد يمنع؛ لعدم استقلاله بالدلالة على ما قرره، فَحَقِّقْ ذلك؛ فإنه نفيس، والله أعلم.

وقولي: (وَالْبَدْءُ في تَقْسِيمِ هَذَا أُورِدُ) إشارة إلى أن كُلًّا من "المفرد" و"المركب" له تقسيمات من وجوه لا بُد من معرفتها، فنشرع في ذِكر ذلك.

وبدأتُ هنا بالمفرد؛ لسبقه على المركَّب وإنْ كان في تفسيره وقع الأمر بالعكس؛ لِمَا قررناه.

فمِن تقسيم "المفرد" ما ذكرتُه بقولي:

(1)

من (ظ، ت).

ص: 788

ص:

386 -

فَإنْ يَكُنْ تَصَوُّرُ الْمَعْنَى مَنَعْ

مِنْ شِرْكَةٍ فِيهِ، فَجُزْئِيًّا يَقَعْ

387 -

وَمَا سِوَى هَذَا هُوَ "الْكُلِّىُّ"

تَقْسِيمُهُ يَكْثُرُ، وَالْمَرْضِىُّ

الشرح:

وهو أنه ينقسم إلى جزئي وكُلي. وفي الحقيقة إنما هما قسمان لمعنى اللفظ، لا لنفس اللفظ، لكن بطريق التبعية، فنقول:

معنى اللفظ إنْ مَنَع تَصَوُّره مِن وقوع الشركة فيه عقلًا فجزئي، ك "زيد"، وإنْ لم يمنع فكُلى، ك "إنسان".

وقال الغزالي: الكلي ما قبل الألف واللام.

ورُدَّ بنحو: "ابن آدم".

وقد يجاب بأنه يقبل لولا مانع الإضافة.

والكلى له تقسيمات، منها:

أنه إما أنْ يوجد منه شيء في الخارج، أوْ لا.

فإنْ وُجِد فإما أن يوجد واحد فقط أو كثير.

وما وُجد منه واحد إما أن يكون غيره ممتنعًا وجوده أو جائزًا.

وما وُجد منه كثير فإما أن يكون متناهيًا أو غير متناهٍ.

والذي لم يوجد منه شيء إما أن يمكن وجوده أو يستحيل.

فهذه ستة أقسام.

ص: 789

وبهذا يُعلم أن التعبير بقولنا: (إن لم يمنع) إلى آخِره -أَوْلى من نحو قول ابن الحاجب: (إن اشترك في مفهومه كثيرون)

(1)

؛ لخروج بعض هذه الأقسام عن تعبيره، إلا أن يحمل قوله:(إن اشترك) على الأَعَم من الاشتراك بالفعل أو بالقوة، ولا يخفَى ما فيه.

فمثال ما وُجد منه واحد وغيرُه ممتنع: "إله"، فإنه الله تعالى لا إله غيره، ولا يمكن وجود إله غيره:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، ومعنى دخول لفظ "إله" في تعريف الكُلي أنه لا يمنعُ تَصورُ معناه مِن الشركة في معناه باعتبار التصور في الذهن، لا باعتبار الممكن في الخارج؛ فلهذا ضَلَّ مَن ضل بالإشراك. ولو كانت الوحدة بضرورة العقل، لما وقع ذلك من عاقل، ولكنها عقول أضلها بارئها بما قضى مِن شقاوتها.

وعلى كل حال: في ذِكر المناطقة هذا المثال نوع من إساءة الأدب؛ فلذلك أهملتُ في النَظم ذِكر هذا التقسيم بالكُلية، وأشرتُ إلى أنه غير مُرْضٍ بقولي:(وَالْمَرْضِىُّ كذا وكذا) لِمَا أذكره من التقسيم بعد ذلك، وتعرضتُ له في الشرح؛ لئلا يظن الناظر في كتبهم ما لم يقصدوه، فيضل عن سواء السبيل.

ومثال ها وُجد منه واحد ولا يمتنع وجود غيره: "الشمس".

ومثال ما يوجد منه في الخارج كثير متناه: "إنسان".

ومثال الكثير الذي لا يتناهى متعذرٌ على قول أهل السُّنة؛ إذْ ما في العالم شيء من الموجودات إلا وهو متناهٍ.

ومثال ما لا يوجد منه شيء أصلًا ويمكن وجوده: بحر من زئبق.

ومثال ما يستحيل وجوده: شريك الإله، فإنه مُحال. ولا يخفَى ما في التمثيل به من الإساءة على نحو ما سبق.

(1)

مختصر المنتهى (1/ 158) مع (بيان المختصر).

ص: 790

تنبيهات

أحدهما: لا بُد في الجزئي من ملاحظة قيد التشخيص والتعيين في التصور وإلا لَصَدق أنه لم يمنع تَصوُّره من وقوع الشركة فيه، إذْ لا بُد مِن اشتراك ولو في أخص صفات النفس.

ثم المراد به الجزئي الحقيقي؛ لأن الجزئي قد يكون إضافيًّا، أي: بالنسبة لإضافته لِمَا هو أَعَم منه مع كونه كُليًّا بالنسبة إلى ما هو أخص منه، ك "حيوان"، فإنه جزئي بالنسبة إلى "جسم"، كُلي بالنسبة إلى "إنسان"، كما يسمى مثل ذلك نوغا إضافيًّا وإن كان النوع الحقيقي إنما هو المقول على كثيرين متفقين بالحقيقة.

الثاني: زاد التستري في تفسير "الكُلي" قَيْد أن يكون ذلك في الإيجاب، قال: فإن "زيدًا" يشترك في [مفهومه]

(1)

كثيرون باعتبار سلبه عن مفهوم خِلافِهِ مع أنه ليس بِكُلي.

قلتُ: وهذا عجيب، فإن الكلام في تَصور حقيقتَي الكُلي والجزئي، والسلب والإيجاب أمر زائد على ذلك.

قولي: (وَالْمَرْضِىُّ) تمامه ما بعده، وقد سبق أني أشرتُ بذلك إلى عدم ارتضاء نحو ما سبق من تقسيم الكلي إلى وحدته وكثرته، ومثل ذلك تقسيم الكلي إلى طبيعي ومنطقي وعقلي.

مثاله: "الإنسان" من حيث الحيوانية التي فيه فقط هو "كُلي طبيعي"، وهذا موجود في الخارج؛ لأنه جزء الإنسان الموجود، وجزء الموجود موجود.

ومن حيث إن تَصوُّره غير مانع من تَصوُّر الشركة فيه "كُلي منطقي"، وهذا لا وجود له؛ لأنه من حيث لا يتناهى. وقد سبق أن وجود ما لا يتناهى في العالم محُال.

(1)

في (ز): فهمه.

ص: 791

ومن حيث ملاحظة الأمرين معًا "كُلي عقلي"، ولا وجود له أيضًا، لاشتماله على ما لا يتناهى. وخالف في ذلك أفلاطون، فقال: إنه موجود.

ومحل ذلك الأليق به غير هذا المختصر.

ومثل ذلك أيضًا: تقسيم الكُلي إلى جنس ونوع حقيقيَّين، فَـ "الجنس" هو المقول على مختلف بالحقيقة، و"النوع " هو المقول على متفق بالحقيقة، وقد يكونان إضافيين، أي: بالنسبة إلى ما فوقهما ودُونهما كما سبقت الإشارة إليه، ونحو ذلك. والله أعلم.

ص:

388 -

مِنْ ذَلِكَ: الْكُلِّيُّ إنْ تَسَاوَتْ

أَفْرَادُهُ وَمَا [بِهَا]

(1)

تَفَاوَتْ

389 -

فَـ "مُتَوَاطِئٌ"، وَمَا سِوَاهُ

"مُشَكِّكٌ"؛ لِشَكِّ مَنْ يَرَاهُ

الشرح:

أي: مِن المرْضِي في تقسيم "الكلي" انقسامه إلى "متواطئ" و"مُشَكِّك".

فالمتواطئ: ما تساوت أفراده باعتبار ذلك الكلي الذي تشاركت فيه، كالإنسان بالنسبة إلى أفراده، فإنَّ الكلي فيها -وهو الحيوانية الناطقية- لا تفاوُت فيها بِزَيْد ولا نقصٍ، وسُمي بذلك من "التواطؤ" وهو التوافق، قال تعالى:{لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، وهذا معنى قولي:(وما بها تفاوت) أي: ولم يتفاوت ذلك الكلي بها، أي: فيها، ف "ما" نافية، و"الباء" في "بها" متعلق بِ "تَفَاوَتْ"، وهو فعل ماض، والضمير في "بها" للأفراد، وموضعه نَصبٌ على الحال.

(1)

في (ض، ن): به.

ص: 792

و"المشَكِّك": ما سوى ذلك، وهو ما تَفَاوَت في أفراده الكُلي:

- إما باعتبار الوجوب وا لإمكان، كالوجود للقديم والحادث.

- وإما باعتبار الاستغناء والافتقار، كالموجود الممكن للجوهر المستغني عن محل، والعَرَض المفتقر إلى محل يقوم به.

- أو بالشدة، كبياض الثلج وبياض العاج، وكالنور لضوء الشمس وضوء السراج.

وسمى "مُشَكِّكًا"؛ لِمَا فيه من تشكيك الناظر في معناه: هل هو متواطئ؛ لوجود الكُلي في أفراده؟ أو مشترك؛ لتغاير أفراده؟

فهو اسم فاعل من "شَكك" المضعَّف من "شك" إذا تَرَدَّد.

تنبيه:

اشتراط عدم التفاوت في "المتواطئ" كيف يجامع قولهم: (سُمي "مشككًا" لشك الناظر في كونه متواطئا)؟ كيف يقع الشك والفرضُ أنه متفاوت وقد شُرِط في "المتواطئ" عدم التفاوت؟

ويمكن الجواب عنه بأنَّ تَقابُل المتواطئ والمشكك تقابُل الأَعَم والأَخَص. فالمتواطئ أعم من المشكك. ويكون المراد بقولهم: (إن تساوت أفراده) أي: لم يُشرَط فيها تفاوُت، بل سواء اتفق فيها وقوع تفاوُت أوْ لا؟ لأن النظر إلى كونه متواطئًا من حيث الاشتراك.

وبذلك يجمع بين قول ابن الحاجب: (فإنْ تَفاوَت كالوجود للخالق والمخلوق، فمشكك، وإلا فمتواطئ)

(1)

، وقوله في مسألة "وقوع المشترك" في جواب استدلال لا

(1)

مختصر المنتهى (1/ 158).

ص: 793

يرتضيه: (وأُجيب بأن الوجوب والإمكان لا يمنع التواطؤ)

(1)

.

فجعله متواطئًا مَرة ومشككًا أخرى، فليس ذلك إلا لِمَا ذكرناه، لا تناقضًا.

ومن هنا يُعلم جواب سؤال ابن التلمساني المشهور: (أنه لا حقيقة للمشكك؛ لأن ما حصل به الاختلاف إنْ دخل في التسمية كان اللفظ مشتركا، وإلا كان متواطئا).

لأنَّا نقول:

- هو داخل في التسمية، ولا يلزم أن يكون مشتركًا؛ لأن "المشترك" ما ليس بين معنييه قَدْرٌ مشترك به سُمي بذلك الاسم.

- ولا يكون خارجًا من المتواطئ؛ لأن التواطؤ أعمُّ مما تساوَت أفراده أو تفاوتت، إلا أنه إذا كان فيه تفاوت فهو مشكك.

وهذا أحسن من جواب القرافي عنه بأن كُلًّا من المتواطئ والمشكك موضوع للقَدْر المشترك، ولكن الاختلاف إن كان بأمور من جنس المسمَّى فمشكك، أو بأمْرٍ خارج فمتواطئ.

لأن ذلك إنما يمشي فيه التفاوت بالشدة والضعف فقط، لا فيما هو مختلف بالإمكان والوجوب أو بالاستغناء والافتقار ونحو ذلك.

واعْلم أنه سيأتي لنا في مسألة "حمل المشترك على معنييه" أن الشافعي يجعله من قبيل العموم، ولا يكون ذلك إلا إذا كان بينهما قَدْر مشترك، فإذا قُدِّر قَدْر مشترك، أَشْبه ذلك المشكك. وسيأتي [فيه]

(2)

مزيد بيان هنالك، والله أعلم.

(1)

مختصر المنتهى (1/ 170).

(2)

في (ص): له.

ص: 794

ص:

395 -

وَأَيْضًا الْكُلِّيُّ إنْ يَسْتَغْرِقِ

أَشْخَاصَهُ، فَذُو " الْعُمُومِ " حَقِّقِ

391 -

وَإنْ يَكُنْ دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّهْ

فَقَطْ فَ "مُطْلَق" بِلَا كَمِّيَّهْ

الشرح:

هذا هو التقسيم الثاني من تقسيمَي "الكُلي" اللذين ذكرتهما، وهو انقسامه إلى: عام، ومطلق.

وذلك أن الكلي إن وُضع اللفظ [فيه]

(1)

لاستغراق مَحاله لُغةً أو عُرفا فهو "العام"، نحو:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ونحو:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، إذ المراد جميع أنواع الإيذاء، فعمومه عُرفي كما سيأتي في باب "المفهوم" وفي باب "العموم"، ويأتي فيه مزيد بيان [لحقيقته]

(2)

وأقسامه. وقد يكون العموم عقليًّا ولا يذكر هنا؛ لأن الكلام في تقسيم اللفظ، وذاك يذكر في باب العموم من حيث هو.

وإن لم يكن كذلك بل دل على الماهيَّة من حيث هي من غير نظر إلى أفرادها -أي محَالها التي لا توجد حقيقتها إلا في شيء منها- فهو "المُطْلَق"، كقولك:(الرجُل خير من المرأة)، أي: هذه الحقيقة خير من هذه الحقيقة وإنْ كان في بعض أفراد هذه ما هو أفضل من أكثر تلك لكن لأمر خارجي، وسيأتي إيضاح ذلك في موضعه والفرق بينه وبين النكرة وما يترتب على ذلك.

وقولي: (بِلَا كَمِّيَّهْ) أي: بلا مراعاة أفراد لا كثيرة ولا قليلة، فهو منسوب إلى "كَمْ"

(1)

كذا في (ز، ت)، لكن في (ص): له.

(2)

في (ص): تحقيقه.

ص: 795

المسئول بها عن عدد الشيء، والقاعدة في مِثله التضعيف للحَرف الثاني، فلذلك شُدِّدت الميم، والله أعلم.

ص:

392 -

وَذَلِكَ "الْجُزْئِيُّ "إمَّا شَائِعُ

فَسَمِّهِ "بمِرَةً" لَا مَانِعُ

393 -

وَإنْ يَكُنْ مُعَيَّنًاتَ "الْمَعْرِفَهْ"

فَمَا بِوَضْعٍ التَّعَيُّنُ اعْرِفَه

394 -

بِ "الْعَلَمِ" الْمَعْرُوفِ، ذَا "شَخْصِىُّ"

إنْ كَانَ في الْخَافيِ، وَ"الْجِنْسِيُّ"

395 -

إنْ كانَ في الذِّهْنِ، بِهَذَا افْتَرَقَا

مِنِ اسْمِ جِنْسٍ، قَالَهُ مَنْ حَقَّقَا

الشرح:

لَمَّا فرغتُ من تقسيم "الكُلي" شرعتُ في تقسيم مُقابِلِه وهو "الجزئي"، فذكرتُ أنه ينقسم إلى: نكرة، ومعرفة.

وذلك أن الجزئي إنْ قُصد به فردٌ مشخصٌ مِن محَال الكُلي ولم يقصد عموم المَحال كلها كما هو العام على ما سبق، فذلك الفرد:

- إنْ قُصد شيوعه في الأفراد (أي: يكون مُبْهمًا يحتمله كل فرد فرد على البدل) فهو "النكرة"، مفردًا كان (ك "رجل") أو جَمعًا حقيقيًّا (ك "رجال" و"مسلمين") أو ما كالجمع (ك "قوم" و"نساء" و"تمر") أو محتملًا (كـ " لبن " و" عسل ").

- وإنْ قُصد به فردٌ مُعَين فهو "المعْرِفة".

والتفرقة بينهما بعلامة لفظية، وهو قبول النكرة "رُب" أو "ال" المؤثرة للتعريف، أو نحو ذلك من وظيفة النحوي.

فإنْ قيل: إذا كانت "النكرة" فيها شيوع، كانت مما لا يمنع تَصوُّره من وقوع الشركة فيه،

ص: 796

وهو خلاف ما سبق أن الجزئي هو ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.

قيل: المراد بالشركة في "الكُلي" التعدد لمحاله، وإذا كانت النكرة فردًا واحدًا واللفظ إنما دل عليه من حيث هو فرد، فقد منع تصوره من وقوع الشركة فيه من حيث فرديته، ولهذا كان داخلًا في الجَمْع ونحوه -كما سبق- وفي الأعداد نحو ثلاثة [وعشرة]

(1)

؛ لأن الجمع ليس قابلًا لأن يكون جمعين ولا العشرة [عشرتين]

(2)

، فَتَأَمَّل ذلك، فإنه دقيق.

وقولي: (بِوَضْعٍ التَّعَيُّنُ) إلى آخِره -تقسيم للمعرفة إلى عَلَم وغير عَلَم، والعَلَم إلى عَلَم شخصي وعَلَم جنسي، فالباء في "بِالْعَلَمِ" متعلق بفعل الأمر في قولي:(اعْرِفَه)، أي: اعْرف هذا النوع بِاسْم "العَلَم"، أي: بكون "العَلَم" اسمًا له.

والحاصل أنه لَمَّا تَقرر أنَّ المعرفة هي التي فيها تَعَيُّن بخلاف النكرة فإنها شائعة، انقسمت المعرفة إلى:

- ما يكون التعيُّن فيه بالوضع، وهو العَلَم.

- وإلى ما يكون التعين فيه لا بالوضع، بل بأمر خارجي، وهو غيره من المعارف كما سيأتي بيانه.

ثم التعين الوضعي في العَلَم إما أن يكون بحسب الوجود الخارجي، فيُسمى العَلَم حينئذٍ "عَلَم شخص"، نحو "زيد" و"هند".

وإما باعتبار التصور في الذهن، فيُسمى "عَلم الجنس"، ك "أسامة" عَلَمًا على حقيقة "الأسد" المشخصة في الذهن.

وهو معنى قولى: (ذَا "شَخْصِىُّ") إلى آخِره، والضمير في قولي:(إنْ كَانَ) عائد على

(1)

في (ز): عشر.

(2)

في (ز): عشرين. وفي (ش): عشرة.

ص: 797

التعين في البيت الذي قبله، وكذا في قولي:(إنْ كَانَ في الذِّهْنِ).

وينقسم [العلمان]

(1)

باعتبارات: مرة بكون المدلول ذا عِلم، كأسماء الله تعالى الأعلام، ومن ذلك أعلام العقلاء من الملائكة (ك "جبريل") أو الأنبياء (ك "محمد").

أو عَلَم لغير ذي عِلم إما لحيوان غير مألوف (ك "أسامة" للأسد و"ثُعالة" للثعلب) أو مألوف (ك " لاحق " فرس لمعاوية، و"شذقم" لجمل، و" واشق " لكلب) أو للأمكنة (ك "بغداد") أو الأزمنة (ك "رمضان")، وغير ذلك.

وينقسم مرة إلى اسم وكنية ولقب؛ لأنه إن بُدئ بـ "أب" أو "أم" فكُنية، أو دَلَّ على رفعة المسمَّى" "زين العابدين" أو ضِعَتِه ك "إبليس" فلقب، وإلا فاسْم.

ومرة إلى منقول (ك "فضل") وغير منقول وهو المرتجل (ك "أدد" و" غطفان ").

وينقسم مرة إلى مفرد (ك "زيد") ومركب إضافي (ك "عبد الله") أو إسنادي (ك "برق نحرُه") أو غير ذلك.

وكل هذه الأقسام موضحة في محلها من النحو.

وقولي: (بِهَذَا افْتَرَقَا) الضمير فيه عائد إلى عَلَم الجنس، أي: بهذا المعنى المذكور في علم الجنس -وهو قيد التشخُّص في الذهن- افترق من اسم الجنس الذي هو النكرة، نحو "أسد"، فإن أسدًا إنما دل على فرد شائع كما سبق، لا على الحقيقة من حيث هي بقيد تشخُّص [فرد منها]

(2)

في الذهن، أي: حضور فرد مشتمل على الحقيقة مما يمكن أن تكون الحقيقة فيه

(1)

في (ز، ظ): العلم.

(2)

في (ز): فرديتها.

ص: 798

[كسائر]

(1)

الأفراد في الذهن مطلقًا.

وقولي: (قَالَهُ مَنْ حَقَّقَا) أي: قاله المحققون، وملخص الخلاف في المسألة أن "عَلَم الجنس" و"اسم الجنس" هل معناهما واحد وإنما فُرق بينهما في الأحكام اللفظية (كمنع الصرف في عَلم الجنس مع عِلة أخرى، ووقوعه مبتدأ بلا مسوغ، وكذا في الحال منه بلا مسوغ، وكامتناع دخول "أل" و" الإضافة " فيه، وغير ذلك)؟

أو بينهما فرق من جهة المعنى؟

فالأول قال به جمعٌ من النحاة، منهم ابن مالك كما قرره في شرح "التسهيل"، إذ قال: إنه نكرةٌ معنًى، معرفةٌ لفظًا. وكذا عبر في "خلاصته" بقوله:

ووضعوا لبعض الأجناس عَلَم

كعَلم الأشخاص لفظًا، وهو عم

أي: في الأحكام اللفظية، وهو عام في الأفراد عمومًا بدليًّا كاسم الجنس.

والثاني هو قول كثير من المحققين، قال القرافي:(إن الخسروشاهي كان يفرق بين علم الجنس واسم الجنس ويقرره بتقرير لم أسمعه من أحد إلا منه، وكان يقول: ما في البلاد المصرية من يعرفه).

أي: لأن الفرق مشكِل حتى إن بعض الأئمة ينفيه كما سبق، فقال الخسر وشاهي:(إن الموضوع للماهية من حيث خصوصها في الذهن "عَلَم الجنس"، ومن حيث عمومها ذهنًا في أفرادها "اسم الجنس")

(2)

.

وهو معنى ما ذكرناه من كون "أسد" مثلًا موضوعًا للحقيقة من غير اعتبار قيد معها

(1)

في (ز، ص): لسائر.

(2)

شرح تنقيح الفصول (ص 33).

ص: 799

أصلًا، وعلم الجنس الذي هو "أسامة" مثلًا موضوع للحقيقة باعتبار حضورها الذهني الذي فيه نوع تشخص لها مع قطع النظر عن أفرادها.

ونظيره الفرق بين النكرة وبين المعرَّف بلام الحقيقة بأنه دال عليها باعتبار حضورها في الذهن وإن كانت عامةً بالنسبة إلى أفرادها، فهي باعتبار حضورها أخص من مُطلق الحقيقة، فإن الصورة الكائنة في الذهن من حقيقة الأسد جزئية بالنسبة إلى مطلق الحقيقة؛ لأن هذه الصورة واقعة لهذا الشخص في زمان، ومِثلها يقع في زمان آخَر وفي ذهن آخَر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد.

وفي كلام سيبويه إشارة إلى هذا الفرق، إذ قال في ترجمة "باب من المعرفة يكون الاسم الخاص فيه شائعًا في أمته ليس واحدٌ منها بأوْلى من الآخَر" ما نَصه:

(إذا قلتَ: "هذا أبو الحارث"، إنما تريد هذا الأسد، أي: هذا الذي سمعت باسْمه أو عرفتَ أشباهه ولا تريد أن تُشير إلى شيء قد عرفتَه بمعرفته ك "زيد"، ولكنه أراد هذا الذي كل واحد من أمته له هذا الاسم)

(1)

.

ومعنى قوله: (عرفته بمعرفته) عرفته بشخصه الخارجي. فانظر كيف جعله سيبويه بمنزلة المعرف باللام التي للحقيقة، وقوله "هذا" إشارة إلى شيء بعَيْنه، فصار "أسامة" يغني عن هذا كما أن "زيدًا" يغني عن قولك:(الرجُل المعروف بكذا وكذا)، وكون "أسامة" واقعًا على كل أسد إنما كان لأن التعريف فيه للحقيقة وهي موجودة فيه.

هكذا قرره ابن عمرون في شرحه، قال:(ونظيره "يا رجُل" إذا أردت مُعَينًا، فأيُّ رجُل أقبلتَ عليه وناديتَه كان معرفة؛ لوجود القصد إليه، فكذا أسامة، أي أسد رأيته فإنك تريد هذه الحقيقة المعروفة بكذا، فالتعدد ليس بطريق الأصل). انتهى

(1)

الكتاب لسيبويه (2/ 94).

ص: 800

وأما ابن مالك فقال بعد حكاية نَص سيبويه: إنه جعله خاصًّا شائعًا في حالة واحدة، فخصوصه باعتبار تعيينه الحقيقة في الذهن، وشياعُه باعتبار أن لكل شخص من أشخاص نوعه قسطًا من تلك الحقيقة في الخارج.

قلتُ: وهذا يعكر على ما ادَّعاه من كونه مِثل العَلم الشخصي لفظًا ومِثل النكرة في المعنى.

وفرق ابن الحاجب في "شرح المفصل" بين أسامة وأسد بأن "أسدًا" موضوع لفرد من أفراد النوع لا بعينه، فالتعدد من أصل الوضع، و"أسامة" موضوع للحقيقة المتحدة في الذهن.

واختار الشيخ تقي الدين السبكي أن "عَلم الجنس" ما قُصد به تمييز الجنس عن غيره مع قطع النظر عن أفراده، و"اسم الجنس" ما قُصد به [اسم]

(1)

الجنس باعتبار وقوعه على الأفراد حتى إذا أدخلتَ عليه الألف واللام الجنسية، صار مساويًا لعَلم الجنس؛ لأن الألف واللام الجنسية لتعريف الماهية.

وفرّع على ذلك أنَّ "عَلَم الجنس" لا يُثنى ولا يجُمع؛ لأن الحقيقة من حيث هي لا تقبل جَمعًا ولا تثنية، والجمع إنما هو للأفراد

(2)

.

لكن صرح ابن السمعاني بأن الألف واللام الداخلة على اسم الجنس لعهد الجنس لا للتعريف

(3)

.

(1)

في (الإبهاج، 2/ 46): مُسمَّى. الناشر: دار البحوث - الإمارات، الطبعة: الأولى - 1424 هـ/ 2004 م.

(2)

الإبهاج (1/ 20).

(3)

قواطع الأدلة (1/ 34).

ص: 801

وبالجملة فهذه الفروق متقاربة، لكن تحتاج إلى نقل يدل على قصد العرب في وضعها ذلك.

قال أبو حيان بعد أن قرر ما حكيناه عن ابن مالك من ترادُف "اسم الجنس" و"عَلم الجنس" وإنِ اختص أحدهما بأحكام لفظية - كَـ "ذِي" بمعنى صاحب- مع افتراقهما في أحكام لفظية، قال:(وقد رام بعض المتنطعين من المتأخرين التفرقة بين أسامة وأسد من جهة المعنى).

فذكر ما نقلناه عن ابن الحاجب، ثم قال:(وما أظن العرب قصدت شيئًا من هذا الذي ذكره هذا المتأخر في "عَلم الجنس"، وأيضًا فإنه ما من نكرة إلا ومعناها الذهني مفرد لا متكثر، فلا اختصاص لأسامة بذلك).

انتهى وقد علمت أن في كلام سيبويه -إمام اللغة والعربية- الإشعار بالفرق، فكيف يدعي أنه مِن تفرقة المتنطعين؟ ! أي: المتعمقين في الكلام.

وأمَّا أن العرب لا تقصد ذلك فقد يُمْنَع بأنها كان لها دقائق في كلامها لا تنحصر وإنْ لم يدل دليل على أنها قصدتها بل يُستدل عليها بالاستقراء لتراكيبها، بل مما وضع لاستخراج تلك الأسرار المستقرأة من كلمها علم المعاني والبيان ونحو ذلك.

والخسر وشاهي السابق ذِكره في كلام القرافي هو الإمام العلامة شمس الدين الشافعي أبو محمد، تلميذ الإمام الرازي، روى عنه الحافظ الدمياطي، وأخذ عنه أيضًا الخطيب زين الدين ابن المرحل، رحمهم الله تعالى. والله أعلم.

ص: 802

ص: 396 - أَوْ بِقَرِينَةٍ يُرَى التَّعَيُّن

فَ "مُضْمَرٌ" وَنَحْوُهُ يُبَيَّنُ

الشرح:

هذا مقابل لقولي: (إن كان التعين بالوضع)، وهو القسم الثاني من "المعرفة"، أي: وهو ما يكون فيه التعيُّن لا بالوضع بل بقرينة، وهو "المضمر"؛ لأن التعين بقرينة خارجية وهي التكلم (نحو:"أنا")، والخطاب (نحو:"أنت")، والغيبة (نحو:"هو").

ومثله بقية المعارف، كاسم الإشارة، فإنها بقرينة الإشارة إليه، والمعرَّف باللام بقرينة انضمامها إليه، والمضاف بقرينة الإضافة لمعرفة، والموصول بقرينة الصلة أو اللام الفظًا فيما هي فيه كَـ"الذي"، وتقديرًا فيما تَجَرَّد منها كَـ "مَن" و"ما")، والمنادى بقرينة القصد والإقبال. وهذا كله مبيَّن في محله في كتب النحو.

وهو معنى قولي: (يُبَيِّن). وأما بيان تفاوتها في التعريف فمبيَّن في محله، وقد عُلم بهذا أن قول جمعٍ كالبيضاوي:(إنَّ الذي لا يستقل بإفادة المعنى بل يحتاج لقرينة هو "المضمر") ليس جيد، بل وغير المضمر كالإشارة وغيره من بقية المعارف كما سبق.

تنبيه:

اختُلف في "المضمر" هل هو جزئي؟ . أو كُلي؟

فالأكثرون على الأول؛ لأنه لِمُعَيَّن، بل هو أعرف المعارف عند الأكثر، ونقل القرافي والأصفهاني في "شرح المحصول" عن الأوَّلين أنه كُلي، ورجَّحاه. وقال بعض المتأخرين: إنه الصواب؟ لأن نحو: "أنا" و"أنت" ليس لمتكلِّم أو مخاطَب بالتعيين، بل كل مَن كان كذلك،

ص: 803

وهذا حقيقة الكلي، [فالتعيين]

(1)

إنما هو عند الإرادة وتعريفه على حسب الواقع، فأشبه لفظ "الشمس" من حيث إن الواقع منه في الوجود واحد، بل ولا ينبغي أن يختص هذا الخلاف بالضمير، بل كل المعارف غير العَلم كذلك؛ ولهذا قال الشيخ أَبو حيان: الذي نختاره أن الضمير كُليٌّ وضعًا جزئيٌّ استعمالًا.

قلت: إذا كان الوضع إنما هو لإفادة المعنى وقت النطق لا لمعنى يشترك في مفهومه كثيرٌ أو يقبل الاشتراك من حيث هو و [كأنّ]،

(2)

الوضع إنما هو لجزئي، والكلي إنما هو الذي وُضع لِمَا لا يمنع تصوُّره مِن وقوع الشَّرِكةَ فيه، فيستوي الوضع والاستعمال في كون ذلك جزئيًا.

مثاله: "أنا"، لم تضعْه العرب لمعنًى لا يمنع تصوُّره من وقوع الشَّرِكةَ فيه مع المتكلِّم به، بخلاف "إنسان"، فمن أجل ذلك أدخلنا المعارف كلها في قسم الجزئي، والله أعلم.

ص:

397 -

وَكُلُّ ذَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى

وَاللَّفْظِ، لَا تَعَدُّدٍ إذْ يُعْنَى

الشرح:

أي: كل ما قُلناه - من تقسيم المفرد إلى كلي وجزئي وتقسيم كل منهما - حيث كان اللفظ واحدًا والمعنى واحدًا، لا حيث تَعدد اللفظ وتَعدد المعنى، ولا حيث اتحد اللفظ وتعدد المعنى، ولا حيث تعدد اللفظ واتحد المعنى. فالقسمة رباعية، سبق منها القسم الأول، والثلاثة الأخرى المشار إليها بقولي:(لَا تَعَدُّدٍ إذْ يُعْنَى) فإنه يشمل التعدد في كل من

(1)

كذا في (ز، ظ، ض). وفي سائر النُّسخ: التعين.

(2)

كذا في (ز)، لكن في سائر النُّسخ: كان.

ص: 804

اللفظ والمعنى والتعدد في اللفظ فقط والمعنى فقط - يأتي بيانها واحدًا واحدًا، والله أعلم.

ص:

398 -

فَفِيهِمَا "الْمُبَايِنُ" الْمُنَاصِفُ

وَاللَّفْظُ وَحْدَهُ هُوَ "الْمُرَادِفُ"

الشرح:

اشتمل هذا البيت على قسمين:

أحدهما: إذا كان التعدد فيهما معًا بشرط مساواة عدد كلٍّ عددَ الآخَر بحيث يكون لكل لفظ معنًى يخصه، فهو المسمى بالألفاظ المتباينة.

وهذا معنى قولي: ("الْمُبَايِنُ" الْمُنَاصِفُ)، أي: الذي وقع فيه التناصف من الجانبين بحيث لا يزيد عدد الألفاظ على عدد المعاني، سواء:

- تفاصلت، أي: ليس لأحدها ارتباط بالآخَر، كَـ "الإنسان" و"الفرس" ونحو:"ضرب زيد عمرًا".

- أو تواصلت، بأنْ كان بعض المعاني صفة للبعض الآخَر، كَـ "السيف" و"الصارم"، فإنَّ "السيف" اسم للحديدة المعروفة ولو مع كونها كالَّةً، و"الصارم" اسم للقاطع، وكَـ "الناطق" و"الفصيح" و"البليغ".

والمراد أنَّه يمكن اجتماعها في شيء واحد ونحوه لو كان أحدهما جزءًا من الآخَر كالإنسان والحيوان.

ص: 805

القسم الثاني: أن يكون اللفظ كثيرًا والمعني واحدًا، فيسمى "مترادفًا"؛ لأن كل لفظ مرادف في المعنى للفظ الآخَر، مأخوذ مِن "الرديف" وهو ركوب اثنين دابة واحدة، كَـ "الإنسان" و"البشر"، و"البُر" و"الحنطة"، و"جلس" و"قعد"، و"دخلت النار في هرة" و"لِهرة"، والله أعلم.

ص:

399 -

ذَا وَاقِعٌ كَمَثَلِ "اجْلِسْ" وَ"اقْعُدِ"

وَاغْنَ بِكُلٍّ غَيْرِ ذِي تَعَبُّد

الشرح:

اشتمل هذا البيت أيضًا على [مسألتين متعلقتين]

(1)

بالمترادف:

إحداهما: أنَّه واقع في كلام العرب في الأسماء والأفعال والحروف، ففي الأسماء: جلوس وقعود، وفي الأفعال: جلس وقعد، وهو ما مَثَّلتُ به في النَّظم بقولي:("اجْلِسْ" وَ"اقْعُدِ")، وفي الحروف:"إلى" و"حتَّى" لانتهاء الغاية.

هذا أصح المذاهب في المسألة وقول الجمهور، وفي "سنن أبي داود" و"التِّرمِذي" و"ابن ماجة" من حديث العباس رضي الله عنه:"كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، فمرت سحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؛ فقلنا: السحاب. قال: والمزن. قلنا: والمزن. قال: والعنان"

(2)

الحديث.

الثاني: أن المترادف لم يقع مطلقًا، لأنَّ وضع اللفظين لمعنى واحد غش يجل الواضع

(1)

في (ز، ق): أمرين متعلقين.

(2)

سنن أبي داود (4723)، سنن التِّرمِذي (3320)، سنن ابن ماجة (193)، وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف أبي داود: 4723).

ص: 806

عنه، ولأنه لا فائدة فيه.

ورُدَّ بأن الأكثر في سبب المترادف أن يقع مِن واضعَين. قال الإمام الرازي: ويلتبسان. واعتُرض بأنه لا معنى للالتباس.

وقد يكون مِن واضع واحد لفائدة التوسعة في التعبير عن المعاني المطلوبة حتَّى نُقل عن واصل بن عطاء المعتزلي - وكان ألثغ في الراء - أنَّه كان يجتنبها بالإتيان بالمرادف الذي لا راء فيه.

والثالث ونُقل عن شذوذ: امتناع وقوع المترادف في اللغة؛ لِما سبق في المذهب الذي قبله وسبق رده.

ومن فوائده أيضًا تيسير النظم للروي والنثر للوزن والجناس والمطابقة.

واختار هذا القول ابن فارس في "فقه العربية" وحكاه عن شيخه ثعلب، وكذا حكاه عنه ابن السراج.

ورُد عليه بأنَّ اللغة طافحة به، كَـ "مضى" و"ذهب" ونحو ذلك.

وممن منع ذلك أيضًا الزجاج، وصنَّف في رده كتابًا سماه "الفروق"، كجلوس وقعود، ف "القعود" ما كان عن قيام، و"الجلوس" ما كان عن نوم ونحوه؛ لدلالة المادة على معنى الارتفاع.

قال: وإليه ذهب المحققون مِن العلماء.

وأشار إليه المبرد وغيره حتَّى إنَّ بعض أهل العربية فرَّق بين صيغ المبالغة مثلًا فجعل فعولًا كَـ "صبور" على معنى القوة في الفعل، وفَعَّالًا لِمَا يمرر منه كَـ "علَّام"، ومِفعالًا لما كان عادةً له كَـ "مِغْوار"، وأشباه ذلك.

ولهذا قال أيضًا المحققون: إن حروف الجر لا تتعاقب.

ص: 807

وقال سيبويه: في جواز تعاقبها إبطال حقيقة اللغة وإفساد الحكم فيها.

وممن اختار ذلك مِن المتأخرين الخُوَبي في "الينابيع"، وقال: أكثر ما يظن أنه مترادف مختلف، لكن وجه الاختلاف خفي.

وبالجملة فلا يخفَى بُعْدُ ما ذكروه وصحةُ القول بوقوع الترادف.

نعم، هو على خلاف الأصل، حتى إذا دار اللفظ بين أنْ يُجعل مترادفًا أو متباينًا، يرجَّح التباين؛ لأنه الأصل.

تنبيهات

الأول: محل الخلاف في وقوعه مِن لغة واحدة، أمَّا مِن لغتين فلا ينكره أحد. قاله الأصفهانى

(1)

، وكذا العسكري مع أنه ممن ينكر المترادف.

الثاني: يقع الترادف أيضًا في الأسماء الشرعية كما في اللغة.

وقيل: لا. واختاره في "المحصول"

(2)

، ولكنه مخالف لقوله:(إن الفرض والواجب مترادفان، خِلافًا لأبي حنيفة)

(3)

.

الثالث: إذا قلنا بوقوعه في اللغة، فهل وقع في القرآن؟

نقل أبو إسحاق - الشهير بابن المرأة - في أول كتاب "الإرشاد" عن أبي إسحاق الأسفراييني منعه، وهو ظاهر كلام المبرد وغيره ممن يُبدِي لكل لفظ معنًى مغايرًا.

(1)

الكاشف عن المحصول (2/ 120).

(2)

المحصول في أصول الفقه (1/ 439).

(3)

المحصول في أصول الفقه (1/ 119).

ص: 808

لكن الصحيح الوقوع؛ لقوله تعالى: " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 36]

(1)

، وفي الآية الأخرى:{أَرْسَلْنَا} [الأنعام: 42] وهو كثير.

المسألة الثانية: مما ذُكر في النظم أن أحد المترادفين هل يقوم مقام الآخر؛ فأما من حيث هو فبلا خلاف كما قاله ابن الحاجب في "المنتهى"

(2)

وغيره.

وأما إذا فرض أحدهما في تركيب فهل يلزم صحة وقوع الآخَر في محله في ذلك التركيب؟ فيه مذاهب:

أصحها: نعم، وربما يعبَّر عن ذلك باللزوم كما قال في "المحصول"

(3)

وأتباعُه، والمراد: يلزم أن يصح وقوع كل من الرديفين مكان الآخَر؛ لأن كل واحد معناه معنى الآخر، وكل ما في أحد المثلين من حيث هما مِثلان يجب أن يكون في الآخر ضرورةً. وصححه ابن الحاجب.

الثاني: المنع، واختاره في "الحاصل" و"التحصيل" تبعًا "للمحصول" في موضع وإنْ صرح في موضع آخَر بخلافه.

والثالث: يصح إذا كان مِن لغة واحدة، لا من لغتين. واختاره البيضاوي والهندي.

الرابع: الجواز ما لم يكن تُعُبِّد بلفظه.

(1)

في جميع النُّسخ: (ولقد بعثنا في كل قرية).

(2)

مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل (1/ 230)، الناشر: دار ابن حزم.

(3)

المحصول في أصول الفقه (1/ 352)، الكاشف عن المحصول (2/ 126) حيث فسر الوجوب باللزوم.

ص: 809

ويتفرع على هذه القاعدة مسائل:

منها: عقود البياعات ونحوها مما لم يُتعبد بلفظه، يجوز فيها استعمال أحد الرديفين مكان الآخر.

أما ما تُعبد بلفظه فالمنع منه لأمر خارجي؛ لأن جوهر لفظه مقصود، فلو تغير لَاخْتَل المراد، وهو منشأ الخلاف في انعقاد النكاح بالعجمية، والصحيح الجواز.

ثالثها: لمن لم يُحسن العربية، بناءً على أن ذلك اللفظ مُتعبَّد به أو لا.

ومنعوا لذلك قراءة القرآن بالعجميَّة؛ لِتَعَيُّن لفظه، خِلافًا لمن أجازه، ونحوه التكبير والتشهد.

تنبيه:

مما يشبه المترادف وليس منه: الحد والمحدود، كَـ "الإنسان حيوان ناطق"، ولا خلاف في وقوعه، وإنَّما لم يجعل مترادفًا؛ لأن الترادف مِن عوارض المفردات؛ لأنها الموضوعة كما سبق، والحدُّ مركَّب. ولو سُلِّم فالمترادف ما اتحد فيه المعنى، ولا اتحاد؛ لأن المحدود دَلَّ مِن حيث الجملة والوحدة المجتمعة، والحد دَلَّ من حيث التفصيل بذكر المادة والصورة مِن غير وحْدة.

ومن ذلك أيضًا: التوابع، نحو حسن بسن، وشيطان ليطان، وخاز باز، ونحو ذلك. وزَعْم بعضهم أنَّه من المترادف.

ورُدَّ بأن التابع وحده غير مفيد، إنما يتبع للتقوية. وصنف فيه ابن خالويه كتابًا سماه "الإتباع والألباع"، وكذلك عبد الواحد اللغوي وابن فارس.

وهو في ثلاثة ألفاظ كثير، كَـ: حَسَن بَسَن فَسَن.

ص: 810

ولم يسمع في أكثر من خمسة، نحو: كثير [بثير]

(1)

برير بجير [بذير]

(2)

.

وقيل: [بحير]

(3)

.

ومن ذلك: التأكيد، نحو: قام القوم كلهم أجمعون أكتعون أبصعون أبتعون. فليس أيضًا من المترادف؛ لعدم استقلاله كما سبق في الذي قبله، والله أعلم.

ص:

400 -

أَمَّا الَّذِي الْمَعْنَى فَقَطْ تَعَدَّدَا

فَإنْ يَكُنْ بِالْوَضْعِ قَدْ تَفَرَّدَا

401 -

فَذَلِكَ "الْمُشْتَرَكُ" الْمَشْهُورُ

وُقُوعُهُ فِيمَا تُلي مَسْطُورُ

الشرح:

هذا هو القسم الرابع: وهو المتحد لفظه المتعدد معناه، وله أنواع:

الأول: أن يُوضع لكل واحد مِن ذلك المعنى المتعدد، فيسمى "المشترك"، وأصله أن يقال:"المشترك فيه"، فحذف لفظة "فيه"؛ توسعًا؛ لكثرة دوره في الكلام أو لكونه صار لقبًا كما قاله ابن الحاجب في "شرح المفصل"

(4)

، نحو "القُرْء" للطهر والحيض، و"العين" للباصرة وعين الذهب وعين الشمس وعين الميزان، وغير ذلك كما هو مشهور.

(1)

في (ز، ق): عمير.

(2)

كذا في (ص، ت). لكن في سائر النسخ: بدير.

(3)

في (ز): مجير.

(4)

الإيضاح في شرح المفصل (2/ 288) الناشر: دار سعد الدين - دمشق، الطبعة: الأولى 1425/ هـ - 2005 م. أو: (2/ 291)، الناشر: وزارة الأوقاف والشئون الدينية - العراق.

ص: 811

نعم، قال الإمام فخر الدين في "تفسيره": إنه حقيقة في الباصرة، مجاز في غيرها

(1)

.

وإلى هذا النوع أشرتُ بقولي: (بِالْوَضْعِ قَدْ تَفَرَّدَا) أي: كل فرد من المعنى المتعدد هو موضوع له، لا لمجموعها، نحو:"العشرة" فإنها لمجموع ذلك العدد، لا لكل واحد منه. واحترزتُ بالوضع عما لو وُضع لواحد فقط ثم نُقل إلى غيره، فإنه لا يكون "مشتركًا"، وسيأتي بيانه.

وقولي: (وُقُوعُهُ فِيمَا تُلي مَسْطُورُ) متضمن لمسألتين في "المشترك":

إحداهما: أنَّه واقع في اللغة، ويَلزم من ذلك أنَّه جائز الوقوع؛ لأن مِن لازِم الوقوع الجواز بالضرورة.

والمسألة الثانية: أنَّه مع وقوعه في اللغة وقع في القرآن، وهو معنى قولي:(فِيمَا تُلي)؛ لأن المتلو هو القرآن، فاكتفيتُ بأَخَص المسألتين عن أَعَمهما، فتصير المسائل ثلاثًا:

- هل هو جائز الوقوع في اللغة؟ أم لا؟

- وإذا جاز، فهل وقع فيها؟ أم لا؟

- وإذا وقع فيها، فهل وقع في القرآن؟ أم لا؟

وما قلتُه هو الأصح في الثلاث، ولا بأس ببسطها قليلًا.

الأولى:

المخالف فيها ثعلب وأَبو زيد البلخي والأبهري على ما حكاه كثيرٌ عنهم.

وفَصل الإمام الرازي، فمنعه في النقيضين فقط، قال: لخلوه عن الفائدة؛ (لأن سماعه

(1)

التفسير الكبير (29/ 34).

ص: 812

لا يفيد غير التردد بين الأمرين، وهو حاصل بالعقل، فالوضع له عبث)

(1)

.

لكن هذا إنما يكون عند اتحاد الواضع، أما إذا تَعدد - وهو السبب الأكثري - فلا، وذلك كالسُّدْفة (بضم [السين المهملة وسكون الدال المهملة]

(2)

وبعدها فاء)، ففي "الصحاح":(إنها في لُغة نجد: الظُّلمة، وفي لُغة غيرهم: الضوء)

(3)

.

وعلى تقدير أن يكون الواضع واحدًا فلا نُسَلم انتفاء الفائدة، بل له فوائد هي لأصل وضع المشترك.

منها: غرض الإبهام على السامع حيث يكون التصريح سببًا لمفسدة.

ومنها: استعداد المكلَّف للبيان كما قاله الإمام الرازي وغيره.

نعم، منع المبرد -وغيرُه مِن أئمة اللغة- وقوعه مِن واضع واحد، وحكاه الصفار في "شرح سيبويه".

الثانية:

أنَّه واقع في اللغة كثيرًا في الأسماء كما سبق وفي الأفعال، كَـ "عسعس" لأَقْبَل وأَدْبَر، و"عسي" للترجي والإشفاق، و"المضارع" للحال والاستقبال على أرجح المذاهب الخمسة فيه. وكذا وقوع الفعل الماضي خبرًا ودعاءً، نحو:"غفر الله لنا ولك"، وإنشاءً، نحو:"بعتُ". وفي الحروف على طريقة الأكثر كما سنذكره في فصل الأدوات، كَـ "الباء" للتبعيض وبيان الجنس والاستعانة والسببية وغيرها.

(1)

المحصول في أصول الفقه (1/ 368).

(2)

في (ص، من، ض): السين المهملة وسكون الدال. وفي (ت، ظ): السين وسكون الدال المهملة.

(3)

الصحاح تاج اللغة (4/ 1372).

ص: 813

وذهب قوم إلى المنع، وحُكي عن ثعلب والأبهري والبلخي أنهم لا يحيلون وقوعه كما سبق نقله عنهم، بل يمنعون وقوعه وَيرُدُّون ما نُقل من ذلك إلى المتباين لكن بتكلُّف في الفرق وتعسُّف.

ثم القائلون بالوقوع اختلفوا، فقيل: واجب الوقوع، لأن الألفاظ قليلة والمعاني كثيرة، فإذا وُزَعت، حصل الاشتراك.

وهو ظاهر الفساد، لا حاجة إلى الإطالة فيه.

ومنهم مَن رَدَّ القول بوجوب الوقوع والقول بالإحالة إلى أنَّه هل وقع؟ أو لا؟

فإنَ الواقع يجب أن يكون موجودًا، وما لم يقع يمتنع أن يكون موجودًا، ولذلك لم يَحْكِ ابنُ الحاجب إلَّا قول الوقوع وعدمه.

ورُدَّ بأن سبب الوجوب أمر زائد على ذلك، وكذا سند المنع كما بيَّناه، فالتغاير ظاهر.

الثالثة:

حُكي عن ابن داود الظاهري أنَّه لم يقع في القرآن.

ورُدَّ بنحو "القُرْء" و"الصريم" و"عسعس" وغيره مما سبق مِن اشتراك الفعل الماضي في الخبر والدعاء، نحو:{وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور: 9]، على قراءة تخفيف النون وكسر الضاد من "غَضبَ"، ومن اشتراك الحروف.

ونقل عن قوم منعُه في الحديث، ولَعلَّهم هم المانعون في القرآن؛ لأن الشُّبهة في ذلك واحدة كما قاله صاحب "التحصيل" وهي أنَّه لو وقع فإما أن يقع مُبَينًا فيطول الكلام بغير فائدة، أو غير مُبيَّن فهو غير مفيد

(1)

.

(1)

التحصيل من المحصول (1/ 219 - 220).

ص: 814

وأُجيب بأنَّ فائدته إجمالية كما في فائدة أسماء الأجناس، وأيضًا فمن فائدته في الأحكام الاستعداد للامتثال إذا بُيِّن المراد.

تنبيه:

المشترك ولو ثبت وقوعه فإنه على خلاف الأصل، أي: الغالب خِلافه، حتَّى إذا جُهل كَوْنه مشتركًا أو منفردًا، رُدَّ إلى الغالب.

واختلف في وقوعه في الأسماء الشرعية، فقال الإمام الرازي: الحقُّ الوقوع؛ لأن لفظ "الصلاة" مستعمَل في معانٍ شرعية مختلفة بالحقيقة ليس فيها قَدْر مشترك بين الجميع، والله أعلم.

ص:

402 -

كَـ "الْقُرْءِ"، ذَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا

كُلُّ مَعَانِيهِ لِمَنْ أَرَادَا

403 -

ثُمَّ إذَا خَلَا عَنِ الْقَرَائِنِ

فَاحْمِلْ عَلَى الْكُلِّ مَعَ التَّبَايُنِ

404 -

لَا إنْ تَنَافَيَا كَـ "أَعْطِ عَيْنَا"

يُعْطَى الَّذِي يُمْكِنُ أنْ يَبِينَا

الشرح:

قولي: (كَـ "الْقُرْءِ") مثال لما سبق مِن وقوع المشترك في القرآن، وقد سبق بيانه.

وقولي: (ذَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَا) إلى آخِر الأبيات الثلاثة - فيه مسألتان متعلقتان بالمشترك:

الأولى:

يصح أن يريد المتكلم بالمشترك جميع معانيه إذا أمكن، فلو كان ذا معنيين فكذلك.

فليس قولي: (مَعَانِيهِ) قَيْدًا، فاستعمال المشترك في أحد معنييه أو معانيه جائز قطعًا، وهو

ص: 815

حقيقة؛ لأنه فيما وُضع له.

وأما إطلاقه على الكل معًا في حالة واحدة ففيه مذاهب:

أحدها وهو الصحيح: يصح، ونُسب للشافعي، وقطع به مِن أصحابه ابن أبي هريرة في "تعليقه"، ومَثَّله بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، [فإن الصلاة من الله تعالى الرحمة ومن الملائكة دعاء]

(1)

وإن كان في الاستدلال بذلك مباحث مشهورة، وكذلك لفظ "شهد" في {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران: 18]، إذ شهادته تعالى علمه وغرره إقرارٌ بذلك، وقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، النكاح: العقد والوطء مرادان منه إذا قُلنا: مشترك.

وقطع بذلك أيضًا القاضي أَبو بكر، ونقله إمام الحرمين في "التلخيص" عن مذهب المحققين وجماهير الفقهاء، ونقل ابن القشيري عن القاضي أنَّه قال:(إنه المختار عندنا إذا دلت عليه قرينة) وإن نازع ابن تيمية في صحة ذلك عن القاضي.

وحُكي هذا أيضًا عن أكثر المعتزلة وأكثر أصحاب أبي حنيفة، وحكاه أَبو سفيان في "العيون" عن أبي يوسف ومحمد، وحملوا مَن حلف "لا يشرب من النهر" على الكرع والشرب من الإناء وإن كان أَبو حنيفة يحمله على الكرع وحده، ونسبه القاضي عبد الوهاب لمذهبهم، قال: وهو قول جمهور أهل العلم. وقد قال سيبويه: يجوز أن يراد باللفظ الواحد الدعاء على الغير والخبر عن حالِه في نحو: "الويل له".

ثم اختلف المجوِّزون، فقيل: إن ذلك بطريق الحقيقة.

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والعبارة في (البحر المحيط، 1/ 493) للزركشي: (فَكَانَت الصَّلَاةُ مِن الله رَحْمَةً، وَمن الْمُؤْمِنِينَ دُعَاءً، وَمن الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارًا).

ص: 816

قال الأصفهاني: (وهو اللائق بمذهب الشَّافعي)

(1)

؛ لأنه يوجب حمله على الجميع كما سنذكره.

ونقله أيضًا عن الشَّافعي والقاضي، ونقل صاحب "التلخيص" عن الشَّافعي أنَّه بطريق المجاز، وإليه مال إمام الحرمين، واختاره ابن الحاجب، وتبعه في "جمع الجوامع".

المذهب الثاني: المنع. ونصره ابن الصباغ في "العُدة"، وبه قال أَبو هاشم والكرخي وأَبو عبد الله البصري والإمام الرازي وغيرهم، وحكاه الكرخى عن أبي حنيفة، ونقل عن جمع مِن أصحابه.

ووقع في "الرافعي" في "باب التدبير" أن: (الأشبه أن اللفظ المشترك لا يراد به جميع معانيه، ولا يُحمل عند الإطلاق على جميعها)

(2)

.

وقال في "باب الوصية" في مسألة الوصية بِعُود: (في حمل المشترك على الجميع نظرٌ للأصوليين)

(3)

.

ولم يرجح شيئًا، فلا ينبغي أنْ يُعوَّل على ذلك، لِمَا سبق من النقل عن الشَّافعي والأصحاب من مخالف ذلك.

واختلف المانعون في سبب المنع:

فقيل: لأنه لا يصح أن يقصد من حيث اللغة؛ لكونه لم يوضع إلَّا لواحد. قاله الغزالي وأَبو الحسين البصري.

وضُعِّف بأنه لم يخرج بذلك عن استعمال اللفظ فيما وُضع له.

(1)

الكاشف عن المحصول (2/ 154).

(2)

العزيز شرح الوجيز (13/ 414).

(3)

العزيز شرح الوجيز (7/ 79).

ص: 817

وقيل: السبب أنَّه استعمال في غير ما وضع له، وهو على البدل؛ فيكون مجازًا.

وهو في الحقيقة راجع لما قَبْله، وفيه تسليم الجواز ولكن مجازًا كما سبق أنَّه أحد القولين تفريعًا على الجواز.

المذهب الثالث: أنَّه يجوز استعماله في معنييه إنْ كان معه قرينة متصلة. وهو ظاهر كلام الإمام في "البرهان"، وسبق نقل ابن القشيري له عن القاضي.

الرابع: يجوز في النفي دون الإثبات؛ لأن النكرة في النفي تَعُم.

ورُدَّ بأن النفي لا يرفع إلَّا ما يقتضيه الإثبات. وقد حكى هذا القول ابن الحاجب، وإنَّما هو احتمال لصاحب "المعتمد" تبعه عليه الإمام الرازي.

نعم، الماوردى حكاه وجهًا لأصحابنا في "كتاب الأشربة"، وهو ظاهر كلام الحنفية، فحكى ثلاثة أَوْجُه، ثالثها: الفرق بين الجمع والسلب.

الخامس: يجوز إنْ كان المشترك جمعًا (كَـ "اعْتَدِّي بالأقراء") أو مثني (كَـ "قُرْءَين")، لا إن كان مفردًا؛ لأن الجمع في حكم تعدد الألفاظ، وهو وجه لأصحابنا فيما حكاه الماوردي كما سبق، وهو مُفرع على جواز تثنية المشترك وجمعه باعتبار معنييه أو معانيه. وقد منعه أكثر النحاة كما حكاه ابن الحاجب في "شرح المفصل" واختاره، ورجح ابن مالك الجواز مطلقًا كما في حديث:"الأيدي ثلاث"

(1)

، وحديث:"ما لنا إلَّا الأسودان"

(2)

. واستعمل الحريري ذلك في "المقامات" في قوله: (فانثني بلا عَيْنين). يريد الباصرة والذهب.

وفصل ابن عصفور بين أن يتفقَا في معنى التسمية (نحو: الأحمران الذهب والزعفران) فيجوز، أو لا فلا (كالعين الباصرة والذهب).

(1)

مسند أحمد (4261)، سنن أبي داود (1649) وغيرهما.

(2)

مسند أحمد (9248)، صحيح ابن حبان (683) وغيرهما، وبنحوه في صحيح البخاري (2428).

ص: 818

ولا يخفى ما فيه من نظر؛ لأن الإطلاق إن كان باعتبار ذلك الوصف فليس ذلك من المشترك اللفظي، بل من المعنوي الذي هو المتواطئ، وإن كان لا باعتباره فلا موقع لهذا التفصيل. ووجه تفريع هذا المذهب على هذا الخلاف واضح.

ومنهم من يعكس البناء، فيجعل تثنية المشترك وجمعه مبنيًّا على استعماله في كل معانيه أو لا.

قال ابن الحاجب: (والأكثر أن جمعه باعتبار معنييه مبني عليه)

(1)

. أي: على الخلاف في المفرد، إنْ جاز، ساغَ وإلَّا فلا. ووجْه البناء أن التثنية والجمع تابعان لما يسوغ استعمال المفرد فيه.

وقال بعضهم: يجوز وإنْ لم يَجُز في المفرد؛ لأنه كما سبق في حُكم ألفاظ متعددة.

السادس: التفصيل بين أن يتعلق أحد المعنيين بالآخَر فيجوز، نحو:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، فإنَّ كلًّا من اللمس باليد والوطء لازِمٌ للآخَر، والنكاح للوطء والعقد كذلك. وإنْ لا فلا. حكاه بعض شراح "اللمع".

ولا يخفَى - مع غرابته - ضعفُه.

السابع: الوقف. واختاره الآمدي.

تنبيه:

محل هذا الخلاف استعمال المشترك في كل من معنييه أو معانيه في حالة واحدة، لا في الكل المجموعي كَـ "الخمسة"؛ لأن كل واحد حينئذٍ جزء مِن المدلول، بخلاف استعماله في الجميع؛ لأن كل واحد تمام المدلول.

(1)

مختصر المنتهى (2/ 162) مع (بيان المختصر).

ص: 819

نعم، ادَّعى الأصفهاني في "شرح المحصول" أنَّه رأى في مصنف آخَر لصاحب "التحصيل" أن الخلاف في الكل المجموعي، قال: الأن أكثرهم صرحوا بأن المشترك عند الشَّافعي كالعام)

(1)

.

قلتُ: هذا عليه، لا لَهُ؛ فإن دلالة العام من دلالة الكلي على جزئياته، لا الكل على أجزائه، وإلَّا لَتَعذر الاستدلال بالعام على بعض أفراده.

وأما إذا لم يستعمل في وقت واحد بل في وقتين مثلًا، فإنَّ ذلك جائز قطعًا.

ومما اختلف فيه القائلون بالجواز أن ذلك هل هو بإرادة واحدة لكل المعاني؛ أو لكل معنى إرادة؟ وهو من الخلاف الذي لا طائل تحته.

المسألة الثانية:

هل يجب على سامع المشترك المكلَّف بمعناه عملًا أو اعتقادًا أن يحمله على معنييه أو معانيه؟

وهي ما أشرتُ إليه في النَّظم بقولي: (ثُمَّ إذَا خَلَا عَنِ الْقَرَائِنِ) إلى آخِره، وتحته صُوَرٌ:

- أن لا يكون هناك قرينة لا بإعمال ولا بإلغاء.

- أو قرينة بإعمال في متعدد.

- أو بإلغاء بعضٍ وغيرُه متعدد، لا قرينةٌ في بعضه.

وعُلم من ذلك أنَّه:

- إذا دلت على إرادة واحد مُعَين قرينةٌ، وجب الحمل عليه.

- أو إلغاء البعض وبقي واحد مُعَين، فكذلك.

(1)

الكاشف عن المحصول (2/ 155).

ص: 820

- أما لو دلت قرينة على أن المراد واحد لا الكل ولا مُعَين ولكن مُبْهَم، فهو مُجْمَل قطعًا؛ لعدم إمكان حمله على مُعَين بلا دليل وعلى الكل.

وحاصل ما في مسألتنا - المقيدة بما سبق - مذاهب:

أصحها: وجوب الحمل على الكل. نقله الرافعي في "المناقب" عن القاضي عبد الجبار، ونقله البيضاوي عن الجبائي، قال ابن القشيري: وعليه يدل كلام الشَّافعي؛ فإنه حمل {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على الجس باليد الذي هو فيه حقيقة وعلى الوقاع الذي هو فيه مجاز.

قال: وإذا قال ذلك في الحقيقة والمجاز، ففي الحقيقتين أَوْلى.

وقال الأستاذ أَبو منصور: إنه قول أكثر أصحابنا.

قال: ولهذا حملنا اللمس على الجماع والجس باليد.

ونقله غيرهما أيضًا عن الشَّافعي والقاضي صريحًا، لكن قال القرطبي: الحقَّ أن في النقل عنهما في هذا خللًا.

وقال أَبو العباس بن تيمية: (ليس للشافعي فيه نَص صريح، بل مستنبط من قوله فيما لو أوصى لمواليه وله مَوَالٍ من أعلى وَموَالٍ من أسفل أو وقف والأمر كذلك: إنه يصرف للجميع. ولكن يجوز أن يكون ذلك لكون المولى عنده لفظًا متواطئًا؛ لِمَا بينهما من القَدْر المشترك وهو الموالاة والمناصرة)

(1)

.

ونقله ابن الرفعة في "الكفاية" عن شيخه الشريف عماد الدين.

وقيل: يحتمل أن ذلك لكون المضاف يَعُم. ولا يخفى ما فيه؛ فإن العموم تابع للمدلول المراد.

(1)

المستدرك على مجموع الفتاوى (2/ 189).

ص: 821

قال: (والنقل عن القاضي أيضًا غير سديد؛ لأنَّ مِن أصله الوقف في صيغ العموم وأنه لا يحملها على الاستغراق، فكيف يجزم في المشترك بالحمل على معانيه؟ ! ).

قال: (والذي في كُتبه أن المشترك لا حقيقة له، وإنَّما هو متواطئ باعتبار معنًى مشترك بين الأفراد). انتهى

نعم، أجاب الأبيارى والقرافي عن القاضي بأنه إنما ينكر وضعها، لا الاستعمال، والكلام فيه، والحمل فرع عنه.

لكن بعض المحققين قال: إن الذي في كلام القاضي في "التقريب" ونقله عنه الإمام في "التلخيص" أنَّه إنما يحمل على الكل بقرينة وإلَّا فيتوقف، فلم يخرج عن قاعدته في الصيغ.

وأما إنكار ما عُزي للشافعي فَردَّه بعض شيوخنا بنصوصه، إذْ قال في "الأم" في "الكتابة" في قوله تعالى:{إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] أن المراد بالخير الأمانة والقوة، إذ قال ما نَصه: (وأظهر معاني الخير قوة العبد - بدلالة الكتاب -[للاكتساب]

(1)

مع الأمانة، فأحب أن لا يمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا). انتهى

وفي "الأم" أيضًا في حديث حكيم بن حزام: "لا تَبع ما ليس عندك"

(2)

.

قال الشَّافعي: (فكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع المرء ما ليس عنده يحتمل أن يبيع بحضرته فيراه المشتري كما يراه البائع عند تبايعهما)

(3)

. أي: فيكون المعتبر في سلامته من النهي أن يكون كذلك.

(1)

كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: الاكتساب. ولفظ الشافعي في (الأُم، 8/ 31): (كَانَ أَظْهَرُ مَعَانِيهَا - بِدَلَالَةِ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِن الْكِتَابِ - قُوَّةً عَلَى اكْتِسَابِ المَالِ وَأَمَانَةً).

(2)

سنن أبي داود (3503)، سنن التِّرمِذي (1232) وغيرهما، وصححه الألباني (إرواء الغليل، 1292).

(3)

النص في (الرسالة، ص 339).

ص: 822

قال: (ويحتمل أن يبيع ما ليس عنده ما ليس يملك [لغيبته]

(1)

، فلا يكون موضوعًا مضمونًا على البائع يُؤخَذ به ولا في مِلكه، فيلزمه أن يسلمه إليه؛ لأنه كغيبته)

(2)

. انتهى

وعَنَى هذين المعنيين

(3)

. وكذا في {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} كما سبق، وغير ذلك.

قلتُ: ولكن هذه المواضع كلها قد ترجع إلى المتواطئ، ألا ترى إلى قوله:(إن الخير القوة)؟ ثم جعل القوة أمرين: الاكتساب والأمانة، وكذا الباقي لمن تأمله.

الثاني: ونقله الهندي عن الأكثرين، أنَّه لا يُحمل أصلًا. وقد سبق ما في "باب التدبير" من"الرافعي" وأنه مُعترَض بأنَّ ذلك إنما هو قول الحنفية كما قاله أَبو زيد الدبوسي في "تقويم الأدلة"، قال:(ولهذا قال علماؤنا: مَن أوصى لمواليه وله موالٍ مِن أعلى وأسفل، أن الوصية باطلة. وإذا قال لامرأة: "إنْ نكحتك فأنت طالق" لم ينصرف للعقد والوطء جميعًا؛ لأنهما مختلفان)

(4)

. انتهى

وبه قال الإمام أيضًا؛ تفريعًا على جواز الاستعمال.

الثالث: الوقف؛ إذ ليس بعضها بِأَوْلى مِن بعض، فيجب التوقف حتَّى يدل الدليل على الكل أو البعض.

الرابع: إن كان بلفظ المفرد فمُجْمَل، أو بلفظ الجمع فيجب الحمل. وبه قال القاضي من

(1)

في (ز): تعينه.

(2)

الرسالة (ص 339).

(3)

كذا في جميع النُّسخ، وعبارة الشَّافعي في (الرسالة، 339 - 340): (ويحتمل أن يبيعه ما ليس عنده: ما ليس يملك بِعَيْنه، فلا يكون موصوفًا مضمونًا على البائع يُؤْخَذُ به، ولا في مِلْكِهِ، فيلزم أن يُسَلِّمَهُ إليه بِعَيْنه، وغيْرَ هذين المعنيين).

(4)

تقويم الأدلة (ص 95).

ص: 823

الحنابلة.

فإنْ قيل: إذا كان المرجَّح في مذهب الشَّافعي الحمل على الكل، فَلِمَ لا حمل ما لو قال:"أنت طالق في كل قرء طلقة" على أنَّها تُطلق في الطُهر طلقة وفي الحيض طلقة؟

قلتُ: إما حملًا للقُرء على أنَّه حقيقة في الطهر فقط؛ فلا يدخل الحيض، وإما لكون قرينة كَوْنه في الحيض بِدعيًّا عَيَّنَتْ إرادة الطهر ولو قُلنا: مشترك.

تنبيهان

الأول: القائلون بوجوب الحمل على الجميع اختلفوا في سبب ذلك: هل هو لكونه من باب العموم؟ أو أن ذلك احتياط؟

فبالأول قال إمام الحرمين وابن القشيرى والغزالي والآمدي، وجرى عليه ابن الحاجب حتَّى إنه ذكر المسألة في باب العموم. وقال الأستاذ أَبو منصور: إنه قول الواقفية في صيغ العموم.

وتوجيه ذلك أن نسبة المشترك إلى معانيه كنسبة العام إلى أفراده، وعند التجرد يَعُم الأفراد، فكذا المشترك، والجامع صِدق اللفظ بالوضع على كل فرد كما يصدق العام على كل فرد مِن أفراده وإنِ افترقا مِن حيث إنَّ العام صِدقه بواسطة أمر اشتركت فيه، والمشترك صِدقه بواسطة الاشتراك في أن اللفظ وُضع لكل واحد.

فعُلِم من هذا التقرير الرد على مَن ضَعَّف ذلك بأن العام إنما دَلَّ بالقدر المشترك والمشترك ليس مثله، حتَّى قال النقشوانى: لا يَبعُدُ أن الأئمة لم يريدوا العموم حقيقة، وإنَّما هذه الزِّيادة من جهة النَّقَلة عنهم لَمَّا رأوا أنهم يقولون بإطلاق المشترك على معنييه، ظنوا أنهم ألحقوه بالعام في معنى استغراقه لمدلولاته ووجوب الحمل على جميع معانيه.

ص: 824

وبالثاني - وهو كونه احتياطًا - قال الإمام الرازي، وينقل ذلك عن القاضي أيضًا، لكن سبقت المنازعة في ثبوت قوله بالحمل.

الثاني: محل الحمل على الكل - عند القائل به - حيث لا يكون بين المعنيين أو المعاني تنافٍ، كاستعمال لفظ "افْعَل" في الأمر والتهديد، وهذا قيد في الاستعمال أيضًا. وإلى ذلك أشرتُ بقولي:(لَا إنْ تَنَافَيَا). أي: فإنه لا يُستعمل ولا يُحمل، فهو راجع للمسألتين.

وهذا التقييد ذكره ابن الحاجب بقوله: (إن صح الجمع)

(1)

، والبيضاوي بقوله:(في جميع مفهوماته الغير المتضادة)

(2)

وإنْ لم يذكره إمامه، لكن في عبارته - مع ضَعْفها بإدخال "ال" على "غَيْر" - خَلَل؛ فإنَّ التضاد لا يلزم منه التنافي، بدليل أنَّه لو قال:(اعْتَدِّي بِقُرْء) وأراد الحيض والطهر معًا، صح، أو قال:(الجونُ ملبوسُ زيد) وأراد الأبيض والأسود، فكذلك، إلَّا أن يُريد بتضادهما في العمل بهما، أي: بالنسبة إلى الجمع، فيعود إلى معنى التنافي، ولهذا مَثَّل الإمام وغيره محل النزاع بلفظ "القروء" مع وجود التضاد من حيث هو.

ويؤخذ مِن قيد عدم التنافي أن بعض المعاني إذا تعذر أن يُراد مع الآخَر، كان خارجًا من المسألة قطعًا، كما لو قال لوكيله:(أَعْطِه عَيْنًا)، فإنما يحمل على ما يمكن أن يَبِين مِن محله ويُعْطَى، كعين الذهب وعين الميزان والعين الجارية على معنى تمليكها له أو نحو ذلك، لا عين الشمس ولا العين الباصرة ولا عين الركبة ونحوها، فإنه لا يكون مرادًا. وهو معنى قولي:(يُعْطَى الَّذِي يُمْكِنُ أنْ يَبِينَا).

إذا علمتَ ذلك، فمما يتخرج على القاعدة في جانب الممكن:

إذا قال: (أنتِ عَلَيَّ كظهر أُمي خمسة أشهر) مثلًا وقُلنا بصحة الظهار المؤقت وهو

(1)

مختصر المنتهى مع شرحه (2/ 162).

(2)

منهاج الوصول (ص 152) بتحقيقي.

ص: 825

الصحيح، فإنه يكون مع ذلك موليًا؛ لامتناعه من الوطء مدة تزيد على أربعة أشهر مقيدًا بوقوع محذور، فكان موليًا على الصحيح.

وقيل: لا، بل يُحمل على الظهار خاصةً؛ لِمدْرك آخَر خارج عن الجمع في المشترك بين معنييه، وهو عدم الحلف صريحًا. ولكن الصحيح أنَّه لا يتقيد.

وفي جانب المتنافي: إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة وخيَّرناه، فقال لواحدة منهن:(فارقتُك)، فقال القاضي أَبو الطيب: يكون ذلك اختيارًا للزوجية ثم تطلق؛ لأنه صريح في الطلاق، والطلاق يستلزم الزوجية، فأشبه ما لو قال: طلقتُك.

والأصح - كما قاله الرافعي - أنَّه فسخ للنكاح، كقوله:(اخترتُ قطعَ نكاحك)، وليس بطلاق.

قال ابن الصباغ: فيكون حقيقة فيهما، ولكن تُخصص بالموضع الذي يقع فيه.

قيل: والأمر على ما قاله ابن الصباغ من كونه على هذا التقدير مشتركًا ولكن بين معنين متضادين، فإن أحدهما يقتضي اختيارها للنكاح والآخَر يقتضي خِلافه، فلا يصح الإعمال فيهما ولا الحمل عليهما؛ لأنهما متنافيان، فينبغي أن لا يحمل على أحدهما إلَّا بالنية.

نعم، دعوى ابن الصباغ أنَّه [يخصص]

(1)

بالموضع - ضعيف؛ لأن الموضع هنا صالح لهما، فالحمل على الفسخ ترجيح بلا مرجّح. هذا مقتضَى القواعد، فينبغي حمل كلام الرافعي عليه وهو أن محله إذا نوى بالفراق فرقة الفسخ.

لكن يشكل من وجه آخر وهو أن لفظ "الفراق" حقيقة في بابه وهو الطلاق، ووجد نفاذًا في موضوعه؛ فلا يُصرف إلى غيره بالنية.

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): تخصَّص.

ص: 826

ونحو ذلك لفظ "شَري" يكون بمعني اشترى وبمعني باع؛ لقوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]، ويتصور التردد فيه بأنْ يكون وكيلان كُل منهما في بغ وشراء فيقول أحدهما للآخر:(شريتُ منك كذا)، ونحو ذلك، والله أعلم.

ص:

405 -

وَالْجَمْعُ في الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ

أَوْ في مَجَازينِ كَذِي الطَّرِيقَةِ

الشرح:

لَمَّا ذكرتُ مسألتَي استعمال المشترك في معانيه والحمل من السامع استطردتُ منه إلى ذكر المسألتين في أمرين آخَرين، وهُما: الحقيقة والمجاز، والمجازان.

فيُقال في اللفظ الذي له حقيقة ومجاز: هل يصح إطلاقه عليهما؟

وهل يجب على السامع الحمل عليهما؟

وفيما إذا تَعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي أو قام دليل على أنَّه غير مُراد وعدل إلى المعنى المجازي إطلاقا أو حملًا وكان المجاز متعددًا، فهل يجوز إرادة الكل؟

وهل يجوز للسامع الحمل على الكل؟

فهي في الحقيقة أربع مسائل، فذكرتُ أن حُكمها على الأصح كما مضى في "المشترك" إطلاقًا وحَملًا، وهذا معنى قولي:(كَذِي الطَّرِيقَة)، أي: كما في الطريقة المذكورة في "المشترك".

نعم، محل ذلك في الحقيقة والمجاز ما إذا رجح المجاز بمرجِّح من الخارج حتَّى ساوى الحقيقة، وفي المجازين إذا لم يرجح أحدهما، وإلَّا فالحقيقة مقدَّمة قطعًا والراجح من المجازين مقدَّم قطعًا، وإنَّما أهملتُ التقييد بذلك في النَّظم، لظهوره من التشبيه بالمشترك، إذ

ص: 827

هو بالنسبة إلى معانيه سواء؛ لعدم القرينة كما سبق.

فلو لم يكن في الحقيقة والمجاز أو في المجازين تساوٍ، لم يكن شبيهًا بالمشترك، ولا يخفَى أيضًا أن محل الجواز فيهما حيث لا تنافي كما هو في "المشترك". ولا بأس ببسط المسائل قليلًا:

أما مسألة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه (كإطلاق النكاح للعقد والوطء معًا إذا قُلنا: حقيقة في أحدهما مجاز في الآخَر) ففيها مذاهب:

أحدها: وهو مذهب الشَّافعي وجمهور أصحابنا كما قاله النووي رحمه الله في "كتاب الأيمان" من "الروضة"

(1)

أنَّه يجوز وإنْ كان الرافعي قد خالف ذلك كما سبق أنَّه قال: إن استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز مستبعَد عند أهل الأصول. وهو قول القاضي، صرح به في كتاب "التقريب"، ونقل بعضهم أن الرافعي قال بالمنع، وهو غلط عليه، إنما قال ذلك في مسألة [الحَمْل]

(2)

الآتية.

وحيث قُلنا بالإطلاق هنا على الكل فهو مجاز قطعًا؛ لأن بعض المعاني مجاز قطعًا.

قيل: ولا يُعْرف أحدٌ يقول: (حقيقة) والمراد حقيقة في كل منهما.

أما كونه في الحقيقة حقيقة وفي المجاز مجازًا فهو ظاهر لا شك فيه، بل هو التحقيق في المسألة، خلافًا لإطلاق ابن الحاجب وغيره أن ذلك مجاز.

الثاني: المنع. وهو قول الحنفية، واختاره من أصحابنا ابن الصباغ وابن برهان، ونقله صاحب "المعتمد" عن أبي عبد الله البصري وأبي هاشم والكرخى، وتجري بقية المذاهب السابقة في "المشترك" هنا أيضًا، ويقال: كل مَن جَوَّز هناك جَوَّز هنا، ومَن منع منع، ومَن فصَّل يأتي تفصيله؛ ولهذا قَرن ابن الحاجب بينهما في الخلاف والحجاج.

(1)

روضة الطالبين (11/ 48).

(2)

في (ز، ظ، ق): الاستعمال.

ص: 828

نعم، خالف القاضي في ذلك وقال: إن استعماله فيهما هنا محُال؛ لأن "الحقيقة" استعمال اللفظ فيما وُضع له، و"المجاز" فيما لم يوضع له، وهُما متناقضان، فلا يصح أن يُراد بالكلمة الواحدة معنيان متناقضان.

لكن قد سبق أن محل الخلاف عند تساوي المجاز والحقيقة، وحينئذٍ فلا تناقض في المرادَين، وموضع البيان ليس محل النزاع.

ومنهم مَن قال: إن القاضي إنما يخالف في الحمل. ومنهم مَن نقل أنَّه لا يمنع إلَّا عند تَعذُّر الجمع، وهو وفاق، ومنهم مَن نقل عنه غير ذلك، فالنقل عنه مضطرب.

وأما مسألة حمل اللفظ على حقيقته ومجازه عند المساواة كما سبق فالمنقول عن الشَّافعي وجوب الحمل؛ طردًا لأصله في مسألة الإطلاق في الحقيقة والمجاز، وطردًا لأصله في الإطلاق والحمل في المشترك.

قال ابن الرفعة في "باب الوصية" من "المطلب": إنه نَص على ذلك فيما إذا عقد لرجُلين على امرأة ولم يُعلم السابق منهما.

وقال إمام الحرمين وابن القشيرى: إنه اختيار الشَّافعي، فإنه قال في آية اللمس: هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازًا.

وقد سبق أن منه استُنبط قوله في حمل المشترك.

ومن نصوصه أيضًا في ذلك ما قاله في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، حيث احتج به على جواز العبور في المسجد؛ لقوله تعالى:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيل} [النساء: 43]، وقال: أراد الصلاة؛ لقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا

ص: 829

تَقُولُونَ} [النساء: 43] ومواضع الصلاة؛ لقوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}

(1)

.

نعم، نَص في البويطي على أنَّه لو أوصي لواليه وله عتقاء ومعتقون أنَّها تختص بالأولين؛ لأن الآخَرين مجاز بالسببيَّة، وكذلك لو وقف على أولاده لم يدخل ولد ولده على الأصح.

وجوابه أن المجاز إذا لم يرجح حتَّى ساوى الحقيقة، فالحقيقة مقدَّمة؛ لرجحانها، وهنا كذلك؛ لأن معتقيه ليس إرثهم له، بخلاف العكس. وأما ولد الولد فلا قرينة فيه مرجِّحة.

وفى المسألة مذهب ثالث قاله القاضي عبد الوهاب: وجوب الحمل على الحقيقة دُون المجاز.

ورابع حكاه القاضي أيضًا: الوقف حتَّى يتبين المراد.

وأما مسألة استعمال اللفظ في جميع مجازاته عند انتفاء الحقيقة ومسألة الحمل ففيهما ما سبق في الحقيقة والمجاز.

مثاله: حلف لا يشتري دار زيد، وقامت قرينة على أن المراد أنَّه لا يعقد بنفسه، وتردد الحال بين السوم وشراء الوكيل، هل يحمل عليهما؛ أو لا؛ فمَن جوَّز الحمل فيقول: يحنث بكل منهما.

وقَل مَن تَعرَّض لمسألتَي المجازين، وقد ذكر ذلك إمام الحرمين وابن السمعاني والأصفهاني في "شرح المحصول"، وكذا الآمدي وابن الحاجب في باب "المجمل" لكن اختارا فيهما الإجمال، عكس اختيارهما في الحقيقتين والحقيقة والمجاز.

نعم، اختار الإمام الرازي الإجمال في الموضعين.

(1)

الأم (1/ 54).

ص: 830

تنبيهات

الأول: احتج ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" على جواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "صُبوا عليه ذَنوبًا مِن ماء"

(1)

من حيث إنَّ صيغة الأمر توجهت إلى صب الذنوب، والواجبُ مِن ذلك القَدْرُ الذي يغمر النجاسة ويزيلها، والزائد مستحب، فقد استعمل صيغة الأمر في الحقيقة والمجاز.

الثاني: إذا قُلنا: يجوز الحمل على الكل في الحقيقة والمجاز، فقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] شاملٌ للواجب والمندوب، خلافًا لمن خَصَّه بالواجب؛ بِناءً على منع الاستعمال في الكل. وبعضهم قال: للقَدْر المشترك وهو مُطْلَق الطلب؛ فرارًا من الاشتراك والمجاز.

ونحو ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، عند مَن يرى بأنَّ العمرة غير واجبة، فحمل الأمر بالإتمام على الوجوب في الحج والسُّنة في العمرة.

ومَن يرى وجوب العمرة يجعله إما مِن حمل المشترك على حقيقتيه أو للقدر المشترك بينهما.

الثالث: قد عُلِم مما سبق أن محل الحمل على الكل في الحقيقة والمجاز عند التساوي؛ فلذلك قال أصحابنا فيما لو قال: (وقفتُ على أولادي): لا يدخل أولاد الأولاد. وسبق نقله عن النص. ولو أوصى لإخوة زيد، لا يدخل أخواته كما قال إمام الحرمين في "النهاية": إنه مذهب الشَّافعي وأبي حنيفة، وقال أَبو يوسف ومحمد: للجميع.

الرابع: نقض ابن السمعاني على الحنفية أصلهم في منع حمل اللفظ على حقيقته ومجازه

(1)

سنن أبي داود (380)، السنن الكبرى للبيهقي (4039)، وبنحوه في صحيح البخاري (217).

ص: 831

بقولهم: (لو حلف لا يضع قَدَمه في الدار فدخل راكبًا أو ماشيًا، حنث) فعمَّموه في الحقيقة والمجاز. وكذا لو قال: (اليوم الذي يدخل فيه فلان الدار عبدي فيه حر) أنَّه إنْ دخل ليلًا أو نهارًا حنث. وقالوا: إن في "السير الكبير" أنَّه لو أخذ الكافر الأمان لِبَنِيه، دخل بنو بَنِيه

(1)

. انتهى

أما مذهبنا في الأُولى: فالظاهر عدم الحنث، تقديمًا للحقيقة، لرجحانها، وليس في المجاز قرينة إلحاق بالحقيقة.

وأما الثانية: فالظاهر موافقتهم، لأنَّ الرافعي نقل عن"التتمة" أنَّه: الو قال: "أنت طالق اليوم"، طلقت في الحال وإن كان بالليل ويلغو اليوم، لأنه لم يُعلِّق ولم [إن]

(2)

سمَّى الوقت بغير اسمه)

(3)

.

قلتُ: مِن إطلاقات "اليوم" في اللغة: مُطْلق الزمان كما صرح به أهل اللغة، وهو شاع في الاستعمال كما يقول الفقهاء: قيمة يوم التلف ومهر المثل يوم الوطء ويوم الولادة ويوم الترافع للقاضي وغير ذلك. ولا يُراد بذلك النهار فقط، بل مطلق الزمان.

وأما المسألة الثالثة: فمقتضَى قولهم في الوقف على الأولاد: (إنه لا يدخل أولاد الأولاد) جريان مثله في الأمان، إلَّا أنْ يقال: دخولهم في الأمان أَوْلى؛ لقوة الاستتباع في الأمان؛ ولذلك لو قال: "أَمَّنْتُك"، تَعدَّى الأمان إلى ما معه مِن أهل ومال على وجهٍ مع أن اللفظ لا يَصْدُق عليهما لا بالحقيقة ولا بالمجاز، قال الرافعي: وفي "البحر" تفصيل حَسَن. وذكَره، فليراجَع منه، فإنَّ ذاك محله، والله أعلم.

(1)

قواطع الأدلة (1/ 280).

(2)

في (ز): إنما.

(3)

العزيز شرح الوجيز (9/ 64).

ص: 832

ص:

406 -

وَمَا لِبَعْضٍ وَضْعُهُ في الِابْتِدَا

مُسْتَعْمَلًا "حَقِيقَة" في الْمُبْتَدَا

407 -

في لُغَةٍ أَوْ شَرْعٍ أوْ في عُرْفِ

لِذِي عُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ تُلْفِي

الشرح:

هذا قسيم قولي فيما سبق: (فَإنْ يَكُنْ بِالْوَضْعِ قَدْ تَفَرَّدَا)، وهو أن يكون اللفظ واحدًا والمعنى كثيرًا وليس منفردًا بالوضع لكل واحد، بل وُضع لبعض المعاني وضعًا أولًا ثم استُعمل بعد ذلك في غير ما وُضع له، فيسمَّى بالنسبة إلى ما وُضع له أولًا "حقيقة"، وأما في غيره فسيأتي تفصيله، لكن إنما يكون حقيقة في الأول إذا استُعمل فيه، فإنْ وُضع ولم يُستعمل، لا يكون حقيقة. وهو معنى قولي:(مُسْتَعْمَلًا). وهو حال مِن الضمير في الجار والمجرور الأول أو الثاني مِن السابقين عليه حيث خبر المبتدأ الذي هو "وضعه"، أو من الضمير في "وضعه"؛ لأنَّ المضاف عامل في المضاف إليه في "وضعه"، أي: وضع اللفظ في الابتداء لمعنًى حال كونه مستعملًا فيه.

فتعريف "الحقيقة": قولٌ مُستعمَلٌ فيما وُضع له ابتداء.

فخرج المجاز مِن قَيْد كونه في الابتداء، فإنه بوضعٍ ثانٍ؛ بناءً على أنَّه موضوع. أمَّا مَن يقول بأنه غير موضوع فيخرج بقيد الوضع، ولا حاجة حينئذٍ إلى التقييد بكونه "أوَّلًا"، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه.

وخرج بقيد "الاستعمال" ما لم يُستعمل، فإنه لا حقيقة ولا مجاز؛ إذِ المجاز يُعتبر فيه أيضًا الاستعمال كما سيأتي.

فإنْ قيل: يَرِد على التعريف "العَلَم"، فإنه يَصْدُق عليه هذا التعريف وليس حقيقة.

ص: 833

قيل: الذي [في "العَلَم" تعليق اسم يُخَصُّ ذلك المسمَّى]

(1)

به، لا من حيث وضع الواضع في اللغة، بل كل أحد له جَعْل عَلَم على ما يريده، والذي ذكر من الوضع إنما هو من جهة مَن يُعْتبر وضعه لِلُّغات.

ولكن فيه نظر؛ فإنَ الأعلام قد تكون بوضع اللغة.

قولي: (في لُغَةٍ) إلى آخِره - تقسيم للحقيقة إلى ثلاثة أقسام: لُغوية، وشرعية، وعُرْفية. وذلك باعتبار الوضع الأول.

فإنْ كان مِن حيث اللغة فهي الحقيقة اللغوية، أو الشرع فالشرعية، أو العرف فالعرفية، وهذا بناء على أن الوضع أعم مِن جَعْلِ اسمٍ لمعنى أو ما أكان،

(2)

كالجعل وهو الاشتهار في شرع أو عُرف كما سبق تقريره.

نعم، إطلاق الوضع بحسب الاشتهار مجاز، فيكون استعمال الوضع في جميع ذلك استعمالًا للفظ في حقيقته ومجازه معًا، وهو جائز كما سبق ما لم يجعل لِقَدْرٍ مشترك بين الجعل وما كالجعل وهو مطلق تخصيص اللفظ بمعني يدل عليه حيث أُطْلِق.

تنبيه:

إطلاق لفظ "الحقيقة" على المعنى المذكور حقيقة عُرفية؛ لأنه مِن الاصطلاحي، لا من وضع اللغة.

نعم، هي منقولة منها، واختُلف في كيفية النقل، فقال البيضاوي تبعًا لإمامه ما معناه: (إن الحقيقة فعيلة مِن الحقِّ بمعنى الثابت أو المثبَت، نُقِل إلى العقد المطابق ثم إلى القول

(1)

في (ز): للعلم تعليق اسم تخص تلك الحقيقة. وفي (ق): للعلم تعليق اسم يخص تلك الحقيقة.

(2)

من (ز).

ص: 834

المطابق ثم إلى المعنى الاصطلاحي)

(1)

.

يريد بذلك أن فعيلًا منه إن كان:

- بمعنى فاعِل، فمعناه: الثابت، مِن"حَق الشيء يَحقُّ" بالكسر والضم

(2)

- بمعني "ثَبتَ"، والتاء حينئذ على بابها في إفادة التأنيث.

- أو بمعنى مفعول، مِن "حَققتُ الشيء": أثبتهُ، فهذا وإنْ كان يستوي فيه المذكر والمؤنث (كَـ "جريح") لكن التاء فيه لنقل اللفظ فيه مِن الوصفية إلى الاسمية بأن يستعمل بدون موصوفه، كقوله تعالى:{وَالْنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3] أي: والبهيمة النطيحة، ولولا إخراجها للاسمية لَقِيل:"البهيمة النطيح" بلا تاء، ثم نقل هذا اللفظ - وهو الحقيقة سواء بمعني الثابت أو المثبت - إلى العقيدة الحق، ثم نقل منها إلى النسبة الصادقة، ثم إلى الكلمة الباقية على مدلولها الأول.

وهذا أحسن ما يُقرَّر به كلامه وإلَّا فالعقد والقول المطابق واللفظ الموضوع أولًا لا تأنيث في شيء منها، فكيف أتى بالتاء ولا تأنيث أصلًا؟ !

نعم، تُعُقِّب على القول بذلك بأنه لِمَ احتيج في النقل إلى هذه الوسائط؟ ولمَ لا يقال: إنه نقل إلى الاصطلاحي من الأول [من غير]

(3)

ضرورة إلى وساطة؟

بل مقتضَى كلام ابن سِيدَه أن لا نَقْل أصلًا، فإنه قال في "المحكم":(الحقيقة في اللغة ما أُقِرَّ في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز بخلافه)

(4)

.

(1)

منهاج الوصول (ص 152)، بتحقيقي، الناشر: مكتبة التوعية الإسلامية بالقاهرة - 2013 م.

(2)

بالكسر: يَحِق، وبالضم: يَحُق.

(3)

كذا في (ز، ق، ظ). لكن في سائر النُّسخ: إذ لا.

(4)

المحكم والمحيط الأعظم (2/ 474).

ص: 835

وحكاه في "المحصول" عن ابن جني، واعترضه بأنه غير جامع؛ لخروج الشرعية والعُرفية.

ورُدَّ بأن المراد أنَّه في اللغة ما بقِي على وضعٍ أولٍ بأي وضعٍ كان، لا بوضع اللغة فقط، والله أعلم.

ص:

408 -

وَذِي الثَّلاثُ وَاقِعَاتٌ، كَـ "الْأَسَدْ "

وَكَـ "الصَّلَاةِ" وَكَـ "دَابَةٍ" وَرَدْ

الشرح:

أي: إذا ثبت انقسام الحقيقة إلى هذه الثلاث، فاعلم أنَّها واقعة.

أما اللغوية: فقطعًا، كالأسد للحيوان المفترس.

وأما الشرعية: فكإطلاق "الصلاة" على ذات الركوع والسجود، وهذه على الأرجح كما سيأتي، وإنَّما أصلها الدعاء.

وأما العُرفية:

- فالعام منها: كَـ "الدابة" على ذوات الأربع، وإنَّما أصلها لُغةً لِمَا يدب على الأرض.

وهو معنى قولي: (وَكَـ "دَابَةٍ")، ولكني قصرته وتركت مَده وتشديده؛ للضرورة، فزالت منه إحدى الباءين.

- والخاص منها: كًـ "النقض" كما ذكرته في أول البيت الذي بعد هذا، وهو ما يذكره الأصوليون وأهل الجدل كما سيأتي في "باب القياس"، ومثله الكسر والجمع والفرق، وكالمبتدأ والخبر والحال والتمييز في اصطلاح النحاة، وكاصطلاح علماء الجبر على المال والعدد والجذر، وما أَشبه ذلك في سائر العلوم، وكذا أرباب الصنائع في تسمية آلاتها

ص: 836

وغيرها. وهذا القسم لا خِلاف فيه.

قيل: ولا الذي قَبْله وهو العامة.

ورُدَّ بحكاية الآمدي الخلاف فيه تبعًا "للمحصول"، لكن استغربه شارحه الأصفهاني عليه. ولا غرابة؛ فقد حكى الخلاف فيه صاحب "المعتمد" وإنْ كان الأكثر على الوقوع، ثم قال في "المعتمد":(إن مَن أجاز ذلك شَرَط أن لا يتعلق بالاسم اللغوي حُكم شرعي، فإنْ تَعلق، لم يَجُز نقله للعُرف قطعًا).

قال: (لأنه يرجع حينئذٍ إلى التكليف). انتهى

فيخرج فيه ثلاثة مذاهب.

[بل]

(1)

يخرج مِن كلام القاضي وأتباعه والإمام الرازي مذهب رابع: وهو جوازه إن خَصص العُرفُ عمومَ المعنى اللغوي، كَـ "الدابة" خُصت بِ "ذي الحافر"، أو كان له باللغوي مناسبة ما ولو هُجرت الحقيقة، كلفظ "الغائط"، بخلاف غيرها.

ورُدَّ ذلك بأنهم قد نقلوا فيما ليس مِن الأمرين، كَـ "عسى"، فإنه وُضع أولًا للفعل الماضي ولم يستعمل فيه قط، بل استعمل في الإنشاء بوضع العُرف.

أما الخلاف [في]

(2)

"الشرعية"، وهي:"المستفاد وضعها لذلك المعنى مِن الشرع" كما فسرها به في "المحصول" تبعًا "للمعتمد"، والمراد بالوضع اشتهار ذلك في ألفاظ الشرع كما سبق في تفسير أصل الوضع أول الفصل، وأنه ليس المعْنى إعلام الشارع بأنه وضعه له.

وقال ابن برهان: "الشرعي" أنْ يستفاد اللفظ مِن اللغة والمعنى مِن الشرع، أو المعنى مِن اللغة واللفظ مِن الشرع.

(1)

في (ت): قيل.

(2)

في (ش، ت، ظ): ففي.

ص: 837

لكن القول الأول أَعَم؛ لشموله أربعة أقسام:

- ما إذا كان اللفظ والعنى معلومين من اللغة لكن لم يضعوا ذلك اللفظ لذلك المعنى، كلفظ "الرحمن" اسمًا لله عز وجل؛ ولهذا قالوا:"وما الرحمن؟ لا نعلم إلَّا رحمان اليمامة".

- وما إذا لم يُعلم من اللغة لا اللفظ ولا المعنى، كأوائل السُّوَر.

- وما إذا عُلم اللفظ ولم يُعلم المعنى، كالصوم والصلاة والحج وغالب الأمور الشرعية.

- وما إذا عُلم المعنى ولم يُعلم اللفظ، كَـ "الأَب" بالتشديد وهو "المرعى"؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه:"ما الأَبّ؟ ".

وكذا قرر الهندي الأقسام الأربعة ومَثلها بذلك.

نعم، حكي الماوردي في"كتاب الصلاة" خلافا لأصحابنا في أن الشارع أَحْدَث وجود اللفظ كما أحدث المعنى أوْ لا.

وقد عُلم مما قررناه أنَّه ليس مِن الألفاظ التي الكلام فيها - وفيها الخلاف في الشرعية - ما اصطلح عليه علماء الشرع مِن الفقهاء والأصوليين مِن الفرض والواجب والمندوب ونحوها، وكذا السبب والشرط والماخ وما أَشبه ذلك، بل هي عُرفية محضة مِن عُرف علمائه كما تَقدم في "النَّقض" ونحوه. كذا قرره القاضي عضد الدين، وهو واضح؛ ولذلك تراهم في الاستدلال إنما يقولون:"الشارع وضعها" و"هي بوضع الشارع"، ونحو ذلك.

نعم، قد يقع مِن ألفاظ الشارع صلى الله عليه وسلم أو الراوي عنه لفظٌ ويتكرر في المعنى الذي اصطلح أهل الشرع على وضعه له، فيكون عُرفًا للشارع وعرفًا لأهل الشرع، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"خشيت أنْ تُفرض عليكم"، وقول [الصحابة]

(1)

: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا"، فلا منافاة،

(1)

في (ز): الصحابي.

ص: 838

فاعْلَمه.

إذا علمتَ ذلك:

فالقول الأول مِن الخلاف في الأسماء الشرعية: إنها لم تقع. قال المازري في "شرح البرهان": (وهو رأي المحققين مِن أئمتنا الفقهاء والأصوليين)

(1)

.

وبه قال القاضي أَبو بكر، وابن القشيري ونقله عن أصحابنا وأنهم قالوا: لم ينقل الشارع شيئًا مِن الأسامي اللغوية، إنما خاطبنا صلى الله عليه وسلم بلسان العرب.

ونقله الأستاذ أَبو منصور عن القاضي أبي حامد [المروروذي]

(2)

وعن الأشعري كما سيأتي، فَ "الصلاة": الدعاء، و"الزكاة": النمو، و"الصوم": الإمساك، و"الحج": القصد لكن كُلٌّ على وجه مخصوص؛ ولهذا يعرفونها بمثل ذلك.

نعم، اختُلف هل زِيدَ في معناها في الشرع على المعنى اللغوي ما هو داخل في المدلول الشرعي؟ أوْ لا؟

والأول هو المختار عند ابن فورك، ونقله عن الأشعري، وبه قال طائفة من الفقهاء كما نقله إمام الحرمين وابن السمعاني، إلَّا أنَّه يؤول إلى القول بالنقل؛ لأن تلك الزيادات تصير داخله في المدلول الشرعي مع خُلو المدلول اللغوي عنها، وهذا حقيقة النقل.

ونَقَلًا الثاني عن القاضي، وهو أنَّها لم تُنقل ولم يُزد في معناها. أي: وإنْ زِيدَ في المعتبر فيها شرطا وحُكما ونحوهما مِن الأمور الخارجية.

والقول الثاني مِن الأصل: إن الشرعية واقعة. وهو قول الجمهور مِن الفقهاء والمعتزلة، وحكاه ابن برهان وابن السمعاني عن أكثر المتكلمين والفقهاء، وصححاه.

(1)

إيضاح المحصول (ص 154).

(2)

في (ز): المروذي. وفي (ظ): المروزي.

ص: 839

قال الأستاذ أَبو منصور: (أجمع أصحاب الشَّافعي على أنَّه قد نُقل في الشرع أسماء كثيرة عن معانيها في اللغة إلى معانٍ سواها، إلَّا أبا حامد المروروذي كالأشعري).

قال: (كَـ "الإيمان" في اللغة، فإنه بمعنى التصديق، وقد صار عند أصحاب الشَّافعي اسمًا لجميع الطاعات، وعند الأشعري أنَّه الآن أيضًا بمعنى التصديق، وذلك نحو الصلاة والحج والعمرة). انتهى

ونقل نحوه أيضًا عن الأشعري ابنُ فورك في جزءٍ جمعه في "الإسلام" و"الإيمان".

نعم، هذا يُشعر بدخول "الإيمان" في الخلاف، وذلك هو إثبات الألفاظ الدينية - على أحد تفسيريها الآتيين - كالشرعية، وهو ما نُقل عن المعتزلة أنهم أثبتوها مغا لكن على معنى أن الشارع اخترع أسماء خارجة [عن]

(1)

اللغة لمعانٍ أثبتها شرعًا كما سيأتي، فمخالفتهم في إثبات الشرع الأمرين على الوجه المذكور وإنْ أَوْهمت عبارة ابن الحاجب بعض شراحه أنهم [لا يخالفون في الدينية بل]

(2)

يخالفون في الشرعية، لكن الصواب أن خلافهم في الدينية أيضًا، وإنَّما لم يصرح ابن الحاجب في نَصْب الأدلة بذلك؛ لأنه محل وفاق.

نعم، اختلف النقل عنهم في تفسير "الدينية"، ففي "التقريب" للقاضي و"تلخيص" الإمام و"بُرهانه" أنَّه ما تعلق بأصول الدِّين كالإيمان والكفر والفسق، بخلاف نحو الصلاة والحج والزكاة والصيام. وكذا نقل عنهم القشيري والغزالي وغيرهم، وهو الصواب.

ونقل الإمام الرازي وجَمعٌ عنهم أن الديني أسماء الفاعلين، كالمؤمن والفاسق والمصلِّي والصائم، بخلاف الإيمان والفسق والصلاة والصيام، فإنَّ ذلك شرعي لا ديني.

ورُدَّ بأنه يلزم تسمية اللفظ باسم لا يجري في المشتق منه.

(1)

كذا في (ص، ش). لكن في (ت، ق، ظ، ض): من.

(2)

في (ز، ظ): يثبتون الدينية و.

ص: 840

والمختار - وفاقًا للشيخ أبي إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وأكثر أصحابنا - أن النقل إنما وقع في الشرعية، لا في الدينية. واختاره ابن الحاجب وغيره.

ومنهم مَن يجعل الخلاف في الإيمان فقط، لا في كل ديني. وقد نقل محمد بن نصر المروزي عن أبي عُبيد أنَّه استدل على أن الشارع نقل "الإيمان" بأنه قد نقل "الصلاة" و"الحج" ونحوهما إلى معانٍ أُخَر. قال: فما بالُ "الإيمان"؟

فهذا يدل على تخصيص الخلاف بالإيمان، إلَّا أن يُراد: و [نحوه]

(1)

من الألفاظ المتعلقة به، وهو الأمور الدينية.

وعلى كل حال ففيه إشارة إلى أن مَن أثبت الدينية - كالإيمان - دُون غيرها خارقٌ للإجماع.

فالحاصل مِن الخلاف:

- إما نفي النقل مطلقًا، كما هو قول القاضي ومَن سبق.

- وإما إثباته مطلقًا، كالمعتزلة ومن وافقهم كما سبق.

- وإما التفرقة بينه وبين الدينية بوقوع الشرعية دُون الدينية، وهو المختار، ولم يَقُل أحد بعكسه.

وإنَّما لم أَتَعرَّض في النَّظم لنفي وقوع الدينية؛ لأن المثبِت لها هُم المعتزلة، وأما غيرهم فلا يثبت أن الشارع له في ذلك عُرف مُغايِر لِلُّغة حتَّى يُحتاج إلى إجراء الخلاف فيها.

ثم اختلف المثبتون للشرعية في أن الشارع اخترع لهذه المعاني ألفاظًا فصادفت ألفاظًا مِن اللغة؛ أو أنَّه نقلها عن معناها اللغوي؟

(1)

في (ص، ش، ض): نحوهما.

ص: 841

والثاني هو اختيار الإمام في "المحصول"، فلم يخرج عن كلام العرب وإنْ لم تَعرف العرب ذلك المعنى الذي آلَتْ إليه دلالة اللفظ، وأنَّ المجاز منسوب للغة العرب باعتبار العلاقة، فَيُعَدُّ مِن أوضاعهم بهذا الاعتبار، وحينئذٍ فيقال: إنه بوضع الشرع باعتبار ما آلَ إليه.

قال الماوردي في "كتاب الصلاة" من "الحاوي": (إنَّ الذي عليه جمهور أهل العلم أن الشرع لاحَظَ في الألفاظ الشرعية المعنى اللغوي)

(1)

. انتهى

وقال الشيخ شمس الدين ابن اللبان في "ترتيب الأُم" للشافعي رضي الله عنه: إن نصوصه صريحة في أنَّها مجازات لُغوية.

وبالأول قالت المعتزلة، قالوا: وتارةً يصادفُ الوضع الشرعي علاقة بينه وبين اللغوي، لا قصدًا، بل اتفاقًا، وتارةً لا يُصادف، فليست حقيقة لغوية ولا مجازًا لُغويًّا.

ووافقهم مِن أصحابنا كثير كابن السمعاني، إلَّا أنَّه قال في ذيل المسألة:(ويجوز أن يُقال: هذه الأسماء حقائق شرعية فيها معنى اللغة؛ لأن الصلاة لا تخلو عن الدعاء في غالب الأحوال، والأخرس نادر، فقد تخلو في بعض المواضع عن معظم الأفعال)

(2)

. انتهى

وهو ظاهر في عَوْدِه إلى القول الآخَر.

وتظهر ثمرة هذين القولين في أن المعنى الشرعي هل يحتاج لعلاقة؛ أوْ لا؟

فعَلَى القول الأول: لا يحتاج، وعلى الثاني: يحتاج.

(1)

الحاوي الكبير (2/ 10).

(2)

قواطع الأدلة (1/ 274).

ص: 842

تنبيهات

الأول:

قد عُلم أن الخلاف السابق إنما هو في وقوع الشرعية، أما الجواز فزعم الإمام الرازي والآمدي والهندي أنَّه لا خلاف فيه، حتَّى عبَّر ابن الحاجب في "المنتهى" بأنَّ الجواز ضرورة، وأسقط المسألة في "الصغير"

(1)

؛ لاعتقاده الاتفاق أو أن الخلاف شاذ، لكن أَبو الحسين في "المعتمد" حكى عن بعضهم أنَّه منع مِن إمكانها، وكذا نقله ابن برهان في "الوجيز" عن طائفة يسيرة، قال: وبناءُ المسألة على حرف واحد، وهو أن نقلي مِن اللغة إلى الشرع لا يؤدي إلى قلب الحقائق، وعندهم يؤدي.

ثم حكى ابن برهان خلافا آخَر تفريعًا على الجواز: هل يصير [حسنًا كالفسخ]

(2)

؛ أو [قبيحًا]

(3)

لِمَا يَلْزَم عليه مِن إسقاط الأحكام الشرعية؟

الثاني: لا يختص الخلاف في الوقوع بالحقيقة الشرعية، بل يجري في المجاز أيضًا. وإنَّما لم أذكره في النظم؛ لأن الحقيقة إذا ثبتت، لزم ثبوتُ مجازها؛ لأن كل مجاز ناشئ عن [حقيقته]

(4)

كما سيأتي.

نعم، لا يختص ذلك بالأسماء ولا بنوع منها، بل يكون في الألفاظ المتباينة - كالصلاة

(1)

يقصد: مختصر المنتهى.

(2)

ي (ز): حسيا كالنسخ.

(3)

في (ز): فسخا. وفي (ظ): نسخا.

(4)

في (ز، ق): حقيقة.

ص: 843

والزكاة - والمشتركة، فالأصح وقوعها في الشرعية كَـ "القرء" إنْ قُلنا حقيقة في الحيض والطهر، وكالصلاة على الكاملة وعلى ناقصة رُكن أو شرط، كصلاة المصلوب ونحوه ومُصلِّي الفرض قاعدًا للعجز عن القيام.

ومَثَّله الهندي بِـ "الطهور" للماء والزاب، وفيه نظر؛ فإنَّ بينهما قَدْرًا مشتركًا وهو [التطهير]

(1)

بالماء والتيمم بالتراب، خلافًا لن زعم أن هذا مِن المشترك.

وكَـ "الصلاة" للفرض والنفل، وفيه النظر السابق، بل و [فيما مُثِّل]

(2)

به قَبْله أيضًا.

وأما المترادفة ففي "المحصول": الأظهر أنَّها لم توجد.

ورُدَّ بأن الفرض والواجب مترادفان شرعًا، لكن سبق أنَّ عُرْفَ أهلِ الشرع غَيْرُ عُرْف الشرع الذي الكلام فيه، وقد يجتمعان، ولكن يمنع بأنهما في ذلك اجتمعا.

قلتُ: ويمكن تمثيله بالزكاة مع الصدقة، فإن الصدقة كثيرًا ما تُطلق شرعًا على الزكاة، نحو:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، {) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 9 - 60]، الآية.

وفي الحديث: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلَّا زكاة الفطر في الرقيق"

(3)

. فاستثنى بلفظ "الزكاة" مما هو بلفظ "الصدقة"، ونحو ذلك. ومن ذلك أيضًا لفظ التزويج والإنكاح، وما أَشبهه.

وأما الأفعال فلم توجد إلَّا تبعًا لمصادرها، كَـ "صلَّى" من"الصلاة"، و"زكَّى" من "الزكاة"، ونحو ذلك.

(1)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): التطهر.

(2)

كذا في (ص، ض، ش). لكن في (ظ): قد قيل. وفي (ت): فيما قيل.

(3)

صحيح ابن حبان (رقم: 3272)، السنن الكبرى للبيهقي (رقم: 7194). قال الألباني: صحيح. (التعليقات الحسان: 3261).

ص: 844

وأما الحروف فليس في الشرع استعمال حرف بغير معناه اللغوي يكون منقولًا منه إلَّا باعتبار متعلَّقه، فيكون نَقْلُه شرعًا نقلًا للحرف بالتبع.

الثالث:

سبق أن"الشرعي"المراد به هنا: ما لم يُستفَد معناه إلَّا من الشرع. وربما يُطلق "الشرعي" على بعض أحكام الشرع.

قال إمام الحرمين في "الأساليب": الذي يعنيه الفقيه بِـ "الشرعي" هو الواجب والمندوب. ويشهد له قول الأصحاب: إن الجماعة في النفل المطلق لا تشرع. أي: لا تندب وإنْ كانت مباحة.

وفي زيادات "الروضة" في "باب صلاة الجماعة": معنى قولهم: "لا تشرع" لا تستحب. وقد يطلق المشروع على المباح، كما تقول: بيع المجهول غير مشروع، وشرع السلم للحاجة، ونحو ذلك.

الرابع:

قيل: الخلاف في هذه المسألة يضمحلُّ عند التحقيق؛ فإن الزِّيادة على المعنى اللغوي لم تُستفَد إلَّا مِن الشرع، والمعنى اللغوي موجود في الشرعي.

وهذا مردود بما سبق من تقسيم الشرعية أول المسألة.

وأيضًا فمن فائدة الخلاف أن الفسق عند المعتزلة منزلة بين الإيمان والكفر؛ بِناءً على أن الإيمان نُقِل إلى جميع الطاعات، والفاسق مُخِلٌّ ببعضها، فليس مؤمنًا، ولا هو كافر؛ لتصديقه.

قيل: وللإجماع على أنَّه ليس بكافر.

وفيه نظر؛ فإن الخوارج تُكَفره بالكبيرة.

ص: 845

وعلى كل حالٍ فَحَمَلَ المعتزلةَ على ذلك الأحاديثُ الواردة في نَفْي الإيمان عنه، مثل:"لا يَزْنِي الزاني حين يَزْنِي وهو مؤمن"

(1)

، ونحو ذلك.

وغيرُ المعتزلة رأَى أن الإيمان بإزاء المعنى اللغوي وإنْ زِيدَ في مدلوله، فلم يخرج الفاسق بذلك عن الإيمان، وأَوَّلوا الوارد إما على نفي الكمال أو على المستحِل، وأنه ليس [متلبسًا]

(2)

بفعل من الإيمان بل بخارج عن الإيمان وإنْ كان في ذاته مؤمنًا، إلى غير ذلك.

وكذا القول في الأسماء الفرعية، كمن صلَّى بغير قراءة، هل يقال: لم يُصلِّ؛ لأن الصلاة نُقلت شرعًا للهيئة المجموعة؟ أو [يُسمَّى]

(3)

بذلك؛ لوجود المعنى اللغوي وهو الدعاء بالفعل أو بالقوة؟

ومن ثَم استشكل الإمام في "المعالم" على الشَّافعي أن الماهية المركبة تنتفي بانتفاء جزئها، وإذا كان الإيمان مركَّبًا من قول وعمل واعتقاد، فينبغي إذا انتفى العمل أنْ ينتفي الإيمان. وزعم أنَّه سؤال صعب.

لكن قد ذكر هذا السؤال محمد بن نصر المروزي، وأجاب عنه بأن الإيمان له أصل مَتَى نقص ذَرَّةً، زال اسمُ الإيمان عنه، وما بَعْده إنْ فَعله فقد زاد إيمانًا على إيمانه. وإنْ لم يفعل الزِّيادة، لم [ينقص]

(4)

الأصل الذي هو التصديق. قال؛ كَـ "شجرة" تُطلَق على مجموعها، وإذا أُزِيل منها غُصن، لا يزول اسم الشجرة عنها، بل تبقى شجرة ناقصة.

ومن ثمرة الخلاف أيضًا: أنَّ الاسم الشرعي إذا ورد في كلام الشارع مجردًا عن القرينة

(1)

صحيح البخاري (رقم: 2343)، صحيح مسلم (رقم: 57).

(2)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): ملتبسا.

(3)

كذا في (ز). لكن في (ص): سمي. وفي (ش، ض): انه يسمى. وفي (ق، ظ، ت): لا يسمى.

(4)

في (ز): ينقض.

ص: 846

محتملًا للغوي والشرعي، فمَن يقول بنقل الشارع، يحمله على الشرعي، ومَن ينفي كالقاضي، فقياسه أن يحمل على اللغوي، لكن المنقول عن القاضي أنَّه مُجْمل، وعبارته في "التقريب":(يجب التوقف؛ لجواز أن يُراد اللغة أو الشرع أو هُما).

وهو مُشْكِل على أصله إنْ لم يكن له قول آخَر بإثبات الحقيقة الشرعية.

نعم، قال السهروردي: إنَّ تَردُّد القاضي بين الكمال والصحة في نحو: "إنما الأعمال بالنية"

(1)

، "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"

(2)

- ليس لاعترافه باللغات الشرعية، بل لأنه يرى الإضمار، ولا تعيين لأحد الإضمارين.

والله أعلم.

الخامس:

من المنقولات الشرعية: صِيَغ العقود، كَـ "بِعْتُ" و"اشتريتُ"، والحلول كَـ "فسختُ" و"طلقتُ" و"أعتقتُ". وإنَّما أصلها الخبر. هذا قول الأكثرين، منهم الإمام الرازي وأتباعه.

ونُقل عن الحنفية أنَّها إخبارات على حالها يُقَدَّر وقوع معانيها قبل اللفظ بها؛ ليطابق خبرُها مُخْبَرَها. لكن أنكر القاضي شمس الدين السروجي - من الحنفية - في كتاب "الغاية" ذلك، وقال: المعروف عند أصحابنا أنَّها إنشاءات. وقال صاحب"البديع" منهم: إنه الحقُّ.

وإنَّما اختلفوا بعد إجماعهم على ثبوت أحكامها عند التلفظ بها: هل يَثبت مع آخِر حرف من حروفها؟ أو عَقبه؟

نعم، قال الأصبهاني فى "شرح المحصول": (إن الأول اختيار أئمة النظر من

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 847

الخلافيين)

(1)

.

والله أعلم.

ص:

409 -

وَ"النَّقْضِ"، وَ"الْمَجَازُ" مَا يُسْتَعْمَلُ

في ثَانِ وَضْعٍ حَسْبَمًا يُفَصَّلُ

410 -

عِلَاقَةٌ لَهُ، وَوَضْعُهُ انْقَسَم

كَفِي حَقِيقَةٍ ثَلَاثًا، [فَلْيُضَمْ]

(2)

الشرح:

قولي: (وَ"النَّقْضِ") بالجر عطف على الأمثلة السابقة، وسبق بيانه.

وقولي: (وَ"الْمَجَازُ") مبتدأ خبره ما بعده، وهو إشارة إلى تعريف "المجاز" في الاصطلاح.

أما لفظ المجاز في الأصل فَـ "مَفَعْل" من الجواز وهو العبور والانتقال، فأصْله "مَجْوَز"، استثقلَت حركة "الواو"، لأنها حرف علة، فنُقِلت إلى الساكن قبلها، فانقلبت "الواو" ألِفًا، لسكونها بعد فتحة. والـ "مفعل" يكون مصدرًا ومكانًا وزمانًا.

فَـ"المجاز" بالمعنى الاصطلاحي إما مأخوذ مِن الأول أو مِن الثاني، لا مِن الثالث؛ لعدم العلاقة فيه، بخلافهما" فإنه إن كان مِن المصدر فهو مُتَجَوَّز به إلى الفاعل" للملابسة، كَـ "عَدْل" بمعنى "عادل"، أو من المكان له، فهو من إطلاق المحل على الحالّ.

ومع ذلك ففيه تَجَوُّز آخَر؛ لأن الجواز حقيقة للجسم لا للفظ؛ لأنه عَرَض لا يقبل

(1)

الكاشف عن المحصول في علم الأصول (2/ 257).

(2)

في (ن 1، ن 3، ن 4): فلتضم.

ص: 848

الانتقال، فهو مجاز باعتبارين، لا أنَّه مجاز منقول من مجاز آخر فيكون بمرتبتين كما زعم الإمام وأتباعه كالبيضاوي.

فالمجاز هو اللفظ الجائز مِن شيء إلى آخَر، تشبيها بالجسم المنتقل مِن موضع إلى آخر. فَحَقِّقْ ذلك.

والتعبير في هذا المعنى الاصطلاحي أن يقال: "المجاز" قولٌ مستعمَل بوضحٍ ثانٍ؛ لِعلاقة.

فَـ "قول": جنس، مُعَبَّر عنه في النظم بـ "مَا"؛ لأن الكلام في تقسيم القول المفرد، فيعلم أنَّه المراد، ولا يقال:"لفظ"؛ لأنه جنس بعيد.

والعلاقة: هي العُلْقة الحاصلة بين المعنى الأول والمعنى الثاني بحيث ينتقل الذهن بواسطتها على ما سنفصله بعد ذلك. وكان القياس فتح عَيْنها؛ لأن الفتح في المعاني، كما تقول: علقت زوجتي عَلاقة، أي: أحببتها حُبًّا شديدًا. والكسر في الأجسام، ومنه عِلاقة السوط، وحينئذٍ فإما أن يُقرأ بالفتح على الأصل أو بالكسر على التشبيه بالجسم.

وخرج بقيد الاستعمال في وضع ثانٍ: الحقيقةُ، فإنها المستعمل بوضع أولٍ كما سبق.

ومَن لم يَرَ المجاز موضوعًا يقول: (في غير ما وُضع له)، لكن المرجح - كما سيأتي - أنَّه موضوع على الوجه الآتي بيانه.

وعُلم أنَّه لا يشترط في المجاز إلَّا سَبْق وضعٍ فقط، سواء سَبَق استعماله أوْ لا، وهي مسألة أن المجاز هل يستلزم الحقيقة؟ أوْ لا؟

والثاني: هو ما رجحه الآمدي، ونقله صاحب "البديع" عن المحققين، واختاره في "المحصول" في موضع.

وبالأول قال أَبو الحسين وابن السمعاني والإمام الرازي في موضع آخَر. واحتجوا على

ص: 849

ذلك بأنه لو لم يستلزم لَعَرِيَ الوضع عن الفائدة.

ورُدَّ بأن الفائدة لا تنحصر في استعماله فيما وُضع له أولًا، فقد يُتَجَوَّز؛ فتحصل الفائدة بالمجاز.

وخرج بقيد العلاقةِ: العَلمُ المنقول، ولو لُحِظت العلاقة في أول نقله إلَّا أن استمرار دلالته إنما هو لمجرد الوضع مع عدم الالتفات إلى غيره.

وحينئذٍ فالقول إما حقيقة أو مجاز، أو لا حقيقة ولا مجاز، وهو ما وُضع لشيء ولم يُستعمل فيه ولا نُقل عنه، ومنه الأعلام على ما قررناه.

وقد يكون حقيقة ومجازًا باعتبارين:

- إما بحسب وضعين لُغوي وعُرفي، أو لُغوي وشرعي، أو نحو ذلك.

- أو بمعنيين مختلفين، كألفاظ العام المخصوص على قول مَن يقول: إنه حقيقةٌ باعتبار دلالته على ما بقي، مجازٌ باعتبار سلب دلالته على ما أُخْرِج.

أما بحسب وضع واحد فمُحال؛ لامتناع اجتماع النفي والإثبات مِن جهة واحدة.

واعْلَم أن ما سبق في تعريف "المجاز" قد يُورَد عليه مجازُ التركيب، فإن المركب غير موضوع، فيكون غيرَ جامعٍ لأنواع المجاز، إلَّا أن يُقال: الكلام إنما هو في المجاز اللغوي، وأما المجاز العقلي الواقع في الإسناد فَمَعَ كوْنه في ثبوته خلاف (كما سيأتي بيانه) ليس مقصودًا.

وقولي: (ووَضْعُهُ انْقَسَمْ) إلى آخِره - إشارة إلى أن المجاز ينقسم بحسب جهة وضعه إلى ثلاثة أقسام: لُغوي، وشرعي، وعرفي، كما انقسمت الحقيقة إلى ذلك.

فاللغوي: كَـ "الأسد" للشجاع؛ لعلاقة الوصف الذي هو الجرأة. فكأن أهل اللغة باعتبارهم النقل لهذه المناسبة وضعوا الاسم ثانيًا للمجاز.

ص: 850

والشرعي: كَـ "الصلاة" لمطلق الدعاء؛ انتقالًا من ذات الأركان للمعنى المضمن لها مِن الخضوع والسؤال بالفعل أو القوة. وكأن الشارع بهذا الاعتبار وضع الاسم ثانيًا لَمَّا كان بَيْنه وبين اللغوي هذه المناسبة.

والعُرفي الخاص والعام كذلك، فكل معنى حقيقي في وضعٍ هو مجاز بالنسبة إلى وضعٍ آخَر؛ ولهذا مَثَّلنا به فيما سبق لِمَا يكون حقيقة ومجازا باعتبارين، وعلى هذا فيُرَد كل مجاز إلى حقيقته كما قررناه، وهو معنى قولي:(فَلْيُضَمْ).

تنبيهات

أحدها: قد سبق الخلاف في استلزام المجاز للحقيقة، ووقع في "جمع الجوامع" - تفريعًا على أنَّه لا يشترط سَبْق الاستعمال - أنَّه:(قيل بذلك مطلقًا، والأصح لِمَا عَدَا المَصْدَر)

(1)

.

وتَوقَّف كثير مِن العَصريين في مراد المصنِّف بذلك، حتَّى إنَّ شيخنا بدر الدين الزركشي (رحمه الله تعالى) لم يتعرض لشرح ذلك، بل بيض له.

وقد ألهمني الله سبحانه وتعالى مقصوده بذلك من كلامه في "شرح المختصر"، فإنه لَمَّا تكلم على استدلال ابن الحاجب على عدم الاستلزام بأنه لو استلزم لكان للفظ "الرحمن" حقيقة، أي: وليس كذلك؛ لأنَّ "رحمان" فَعْلان للمبالغة في الكثرة، وصفاتُ الله تعالى لا تقبل ذلك، قال:

(وأيضًا فهو مِن معنى الرقة وميل القلب، وهو مستحيل على الله تعالى، ولم يُستعمل إلَّا

(1)

جمع الجوامع (1/ 401) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

ص: 851

في الله تعالى، وهذا بناء على أن أسماءه تعالى صفات لا أعلام. أما إذا قلنا: أعلام، فالعَلَم ليس حقيقة ولا مجازًا. وما يقال:"قد قال بنو حنيفة: رحمان اليمامة، ولا زلت رحمانًا في مسيلمة" فقد أجاب الزمخشري بأن ذلك من تَعنّتهم في كفرهم. وهو غير مفيد؛ لأن التعنت سبب في الإطلاق، ومتى ثَبتَ الإطلاق، قام الدليل. وإنَّما الجواب السديد أنهم لم يستعملوا "الرحمن" بالألف واللام والكلام فيه)

(1)

.

ثم قال: (وعند هذا أقول: مذهبي أن المجاز يستلزم استعمال اللفظ المشتق منه بطريق الحقيقة، سواء استُعمل مع ذلك بالحقيقة فيما استعمل بالمجاز أم لا. فأقول مثلًا: إنما استعمل "رحمن" إذا استعملت العرب الرحمة، ثم إذا استعملت الرحمة، كان لنا أن نتصرف فيما يُشتق منها مِن فَعْلان وفاعل ومَفْعُول وغير ذلك وإنْ لم تنطق به العرب البتَّة، ولا أَشترِط أن تكون العرب استعملت "رحمن" - الذي هو فَعْلان - بالحقيقة).

ثم قال: (إن بهذا يَخْلُصُ ابن الحاجب مِن الاعتراض عليه في استدلاله بأنَّ هذا مشترك الإلزام في الوضع بعين ما ذكره، لا مَخْلَصَ له غيره)

(2)

. انتهى ملخصًا.

قلت: وفيما قاله نَظر مِن وجوه:

الأول: أن قوله: (إن صفات الله تعالى لا تَقبل القِلة والكثرة) إنما ذاك في صفات الذات؛ لأنها قديمة، أما صفات الأفعال - على القول الراجح وهو قول الأشاعرة بحدوثها - فتَقبل باعتبار متعلقها.

ثانيها: أنَّ هذه المسألة عَيْن مسألة الإمام أن المجاز لا يدخل في المشتقات بالذات بل بطريق التبع للمصدر، ثم هذا إنما هو إذا قُلنا: المجاز في "رحمان" باعتبار المبالغة في "فَعْلان".

(1)

رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (1/ 384).

(2)

رفع الحاجب (1/ 385).

ص: 852

أما إذا قُلنا بأنَّ المجاز في المادة، فلا.

ثالثها: أن قوله: (إن الأصح لِمَا عَدَا المصْدَر) يقتضي أنه خِلافٌ منقول، وهو في شرح "المختصر" إنما جعله مذهبًا لنفسه.

رابعها: أن قوله: (لما عدا المصدر) يقتضي اشتراط الاستعمال في المصدر على الإطلاق، سواء تُجُوِّز بالمصدر لِغَير معناه أو بالنسبة لِمَا اشتق منه إذا تجوّز به عن معنى ذلك المشتق حقيقة أَم إليهما معًا، لكن كلامه في الشرح يقتضي أن ذلك إنما هو بالنسبة للمشتقات فقط.

خامسها: أن قوله: (إن جواب الزمخشري عن "رحمان اليمامة" لا يفيد) ممنوع؛ وذلك لأن تعنتهم في كفرهم أدَّاهم إلى أن يأخذوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الألفاظ التي لا يعرفونها ويستعملونه فيما شاءوا، ولا يَلزم من ذلك استعمالهم لها قبل أن يأتي بها الشارع.

نعم، إنْ ثبت استعمالهم لها قبل ذلك، اتضح ما قاله من الرد.

سادسها: أن ما أجاب به من أنهم لم يستعملوه بالألف واللام - عجيبٌ؛ فإنَّ المجاز والحقيقة للمفرد، ولا مدخل للمركب في ذلك، ولا شك أن "أل" كلمةٌ أخرى زائدة على المفرد الذي الكلام فيه.

الثاني: ما أطلقتُه مِن وقوع المجاز هو الأصح، خِلافًا للأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني كما نُقل عنه، لكن استبعده الإمام والغزالي؛ باعتبار جلالته، فلا يقع ذلك منه.

قال الإمام

(1)

: (فإنْ أراد الأستاذ أن أهل اللغة لم يسموه "مجازًا" بل حقيقة عند القرينة،

(1)

هذا ليس كلام إمام الحرمين، بل هو كلام الزركشي في (البحر المحيط)، وبيان ذلك كما يلي:

قال إمام الحرمين في (التلخيص، 1/ 193): (هَذَا الْقَائِل. . إِنْ ذهب إِلَى نفي المْجَاز عَن اللُّغَة =

ص: 853

فممنوع؛ فإنَّ كُتبهم مشحونة بتلقيبه "مجازًا"، و [لو سُلِّم ذلك لم يَقدح في تسميتهم بانفراده]

(1)

مجازًا). انتهى

فيتعجب من إلْكِيَا كيف أجاب عنه بهذا الجواب وإمامه قد ضعفه؟ !

وقال الغزالي في "المنخول": إنَّ [مراده]

(2)

: ليس ثابتًا ثبوت الحقيقة.

ونَقَل عنه في موضع آخَر أن النص عنده هو الحقيقة وأن الظاهر هو المجاز

(3)

. وقد قال جَمْعٌ بأن المجاز من النص.

= جملَة فقد أَخطَأ، وَقد حُكيَ عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق، وَالظَّن بِهِ أَنَّ ذَلِك لَا يَصح عَنهُ). وهنا انتهى كلامه بخصوص ذلك.

فقال الإمام الزركشي في (البحر المحيط، 1/ 536): (قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي "التَّلْخِيصِ": "وَالظَّنُّ بِالْأُسْتَاذِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُ". وَإنْ أَرَادَ أَهْل اللُّغَةِ لَمْ يُسَمُّوهُ بِذَلِكَ بَلْ اسْمُهُ مَعَ قَرِينَةٍ حَقِيقَةٌ، فَمَمْنُوعٌ؛ فَإِنَّ كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةٌ بِتَلْقِيبِهِ "مَجَازًا"، وَلَوْ صَحَّ كَوْنُ الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً، لَمْ يَقْدَحْ فِي تَسْمِيتِهِمْ الِاسْمَ بِانْفِرَادِهِ "مَجَازًا"). انتهى

قلتُ: فَتَوَهَّم الإمام البرماوي أنَّ الكلام كُله لإمام الحرمين، لكن الصواب أن كلام الزركشي يبدأ بقوله: (وإنْ أراد

).

(1)

هكذا يوافق كلام الزركشي في (البحر المحيط، 1/ 536).

والعبارة في (ز، ق): [لولا ذلك لم يقدح في تسميتهم الاسم بانفراده). وفي (ص، ش): (لو سلم ذلك لم يقدح نفي تسميتهم الاسم في أن الشيء يكون). وفي (ض، ت): (لو سلم ذلك لم يقدح نفي تسميتهم الاسم في كون الشيء يكون).

(2)

في (ز، ق): طرده.

(3)

عبارة الغزالي في (المنخول، ص 166): (وأما الظاهر، قال الأستاذ أبو إسحاق: هو المجاز، والنص هو الحقيقة. ورب مجاز هو نَص).

ص: 854

نعم، الفارسي منعه مطلقًا كما نقله عنه ابن الصلاح في "فوائد الرحلة"، لكن تلميذه ابن جني -وهو أَخْبر بمذهبه- نقل عنه في "الخصائص" أن المجاز غالب على اللغات كما هو اختيار ابن جني أنه غالب على لغة العرب وغيرها.

كذا نقل عنه في "المحصول" وأنه ادَّعى أن نحو: "قام زيد" يقتضي نسبة جميع أفراد القيام إليه؛ لأن القيام جنس.

قال: (وهو ركيك؛ لأن المصدر إنما دَل على ما يَصْدق عليه مِن القدْر المشترك، لا على جميع أفراده)

(1)

.

نعم، ابن جني قال: إن نحو: "ضربت زيدًا" لم يضرب إلا بعضه.

واعترضه تلميذه ابن مَتُّويه المتكلم بأن التأَلُّم وقع لكله.

وما قاله ضعيف؛ لأن الكلام في نسبة الضرب لا التألم. ولا شك أن الضرب الذي هو الإمساس إنما وقع في بعضه، والتألم أثَرُه وإنْ كان في الكل.

ونقل ابن السمعاني عن أبي زيد الدبوسي أن المجاز غالب على اللغات كما نقل عن ابن جني.

قيل: وغرض ابن جني بذلك نفي خلق الله عز وجل لأفعال العباد؛ لقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة: 36]، قال: ولو لم يكن ذلك لكان خالقًا لأفعالنا، فيكون خالقًا للكفر والعصيان ونحوهما، تعالى الله عن ذلك.

وقد استدرج إلى أمور [صعبة]

(2)

، منها: نفي عِلمه تعالى، و [غيرها]

(3)

. وخَطَأُ ابن

(1)

المحصول في علم أصول الفقه (1/ 468).

(2)

في (ز): ضعيفة.

(3)

في (ص، ض، ت): غيره.

ص: 855

جني في ذلك كُله ظاهرٌ.

ومنع قوم وقوع المجاز في القرآن، ونَسبه الغزالي في "المنخول" للحشويه، وحُكي عن الأستاذ وابن خويز منداد، وبه قال أيضًا ابن القاص مِن أصحابنا كما حكاه عنه العبادي في "الطبقات"، وحكوه عن داود وابنه وعن جماعة آخرين.

وقيل: إنما أنكرت الظاهرية مجاز الاستعارة؛ لأنها عند الضيق، وأنه مُنَزه عن ذلك.

ورُدَّ بأنه يَلزم أن لا يكون في القرآن توكيد ولا نحوه مِن تثنية القصص، وأيضًا فالمجاز يكون أَبْلَغ مِن الحقيقة، ولامتحان السامعين به، وغير ذلك من المقاصد.

ومنع ابن داود وقوعه في السُّنة أيضًا كما حكاه في "المحصول"، لكن استنكره الأصفهاني في "شرحه"، وقال:(إنه تفرد بنقله)

(1)

.

لكن هذا مردود بقول ابن حزم في "الإحكام": (إن قومًا منعوه فيهما)

(2)

.

وفي "شرح المفصَّل" لابن الحاجب في "باب الإضافة": (ذهب القاضي إلى أنه لا مجاز في القرآن، وأن مِثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] محمول على أن القرية تُطلَق على الأهل والجدران معًا على وَجْه الاشتراك)

(3)

.

ورُدَّ بتبادر الجدران وتَوقُّف الأهل على القرينة.

وقيل: إنْ تَعلق به حُكم شرعي، لا يجوز، وإلا جاز.

وقد أَلجأَتْ هذه المذاهب الفاسدة سلطان العلماء ابن عبد السلام إلى أن يصنف كتابه

(1)

الكاشف عن المحصول (2/ 307، 310).

(2)

الإحكام في أصول الأحكام (4/ 437).

(3)

الإيضاح في شرح المفصل (1/ 424). الناشر: وزارة الأوقاف والشئون الدينية - العراق.

ص: 856

الحافل في مجاز القرآن الذي أطال فيه وأجاد وعَمَّ نفعُه أقطار البلاد.

الثالث:

المجاز خلاف الأصل؛ لأن الأصل بقاء اللفظ على دلالته على معناه الأول. وكذا يقال في المنقول شرعًا أو عُرفًا: الأصلُ عدم النقل، وعدم الاشتهار الذي يصير به حقيقةً فيهما، وحينئذٍ فالعدول إلى المجاز -مع إمكان الحمل على الحقيقة- غير جائز.

نعم، هو والنقل أَوْلى من الاشتراك؛ لاحتياج "المشترك" إلى قرينة، فإنْ لم تكن قرينة فهو مُخِل بالفَهم، بخلاف الحقيقة والمجاز، فإنَّ اللفظ يُحمل على الحقيقة ما لم تكن قرينة للمجاز فيُحمل عليه بها.

وقيل: الاشتراك أَوْلى؛ لِتوقُّف المجاز على وَضْعَين وعلاقة، بخلاف "المشترك" مِن واضع واحد، ولتوقُّفه على نَسخ الحقيقة اللغوية.

قلتُ: لكن مَن يحمل "المشترك" على معنييه لا يرجح المجاز والنقل عليه مطلقًا، بل من حيث يتعذر الحمل، فتأمله.

نعم، إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز مع الإمكان:

- لِثقل لفظ الحقيقة على اللسان، كَـ "الخنفقيق" اسم للداهية، فيُعدل إلى لفظ النائبة أو الحادثة أو نحو ذلك.

- أو بشاعتها، كالعدول في اسم الخارج البشع إلى "الغائط"، أو جهل الحقيقة مِن المتكلِّم أو المخاطَب.

- أو يُعدَل إلى المجاز؛ لبلاغته في سجع أو تجنيس أو غير ذلك مِن أنواع البلاغة.

- أو لكونه أشهر من الحقيقة.

- أو حيث لا يكون للمعنى الذي عُبِّر عنه بالمجاز لفظ حقيقي أو يقصد المتخاطبان

ص: 857

إخفاءه، أو نحو ذلك.

أما إذا تعذرت الحقيقة؛ للاستحالة وأمكن المجاز، فيُعدَل إليه قطعًا.

الرابع:

إذا استحالت الحقيقة، لا يتعين كَوْن المجاز معتمَدًا بمجرد ذلك، بل لا بُد من دليل للحمل على أن المتكلم أراده. وخالف أبو حنيفة فقال: يتعين حملُ اللفظ على المجاز بمجرد تَعذُّر الحقيقة؛ تصحيحًا للكلام حيث ما أَمكن.

وانبنى على هذا الخلاف ما لو قال لغلامه الذي هو أسن منه: (هذا ابني)، فعنده يتعين حمله على المجاز، أي: مِثل ابني في الحرية؛ فيُعتق.

وعندنا يُلغَى لفظه؛ لِتعذُّره، ولا يُعتق، فقد يقصد المتكلم مجازًا آخَر، أي: مثل ابني في الحنو، أو نحو ذلك.

ولو قال: (أوصيت له بنصيب ابني) فوجهان:

أصحهما عند العراقيين والبغوي: بُطلان الوصية؛ لورودها على حق الغير، وعزاه الرافعي لأبي حنيفة، وهو مُشْكل على أصله.

والثاني وبه قال مالك: يصح وكأنه قال: (مثل نصيب ابني)؛ لكثرة استعمال مِثل ذلك، وصححه الإمام والروياني وغيرهما.

ويجريان فيما لو قال: (بعتُ عبدي بما باع به فلان فرسه) وهُما يَعْلمان قَدْره ولم يكن ذلك بعينه، انتقل إلى مِلك المشتري، ونحو ذلك.

واعْلَم أن الفرق بين هذه المسألة وبين ما سبق مِن أن "الحقيقة إذا تَعذرت، يُعدَل للمجاز" أنَّ ذلك في الاستعمال، وهذه في الحمل.

قلتُ: ومِن هنا نشأ كلام العلماء في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات المشكلة،

ص: 858

فإن الحقيقة فيها متعذرة بالأدلة القطعية عقلًا ونقلًا على طريق أهل السُّنة، فهل يُقال حينئذٍ: يجب الحمل على المجاز بمجرد التعذر؟ أوْ لا؛ لاحتمال إرادة ما يليق مما لا نعرفه مُعَيَّنًا؟ طريقتان:

طريقة السلف الثانية مع اعتقاد التنزيه، خِلافًا لِمَا ينسبه المبتدعة لهم مِن الإجراء على الظاهر.

وطريقة مَن بَعْدهم هي الأَوْلى الآن؛ محافظةً على التنزيه ونَفْي التوهُّم. فالفريقان متفقان على التنزيه.

بل أقول: الواجب في هذا الزمان العمل بطريق التأويل

(1)

، لِمَا سلكه المبتدعة مِن الحلول والاتحاد ومِن الجهة والتجسيم وتسمية مَن لم يعتقد ذلك "مُعَطِّلًا" والدعاء لهذه البدعة العوام؛ لضعف عقولهم عن إدراك حقائق التوحيد ودقائق الشرع. وقد بينتُ في مقدمة كتابي المُسمى بـ "تحقيق القول بالصمات عن مشكلات الصفات" وجوهًا مِن الترجيح:

منها: ما نقلناه عن أبي حنيفة مِن وجوب الحمل على المجاز بمجرد تَعذُّر الحقيقة وقوة ما تمسك به؛ لأن خطاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو باللسان العربي، ووجدنا العرب تستعمل مثل ذلك في هذه المعاني التي يُؤَوَّل بها المُشْكل مجازًا، فنكاد أنْ نَقطع بأنَّ ذلك هو المراد.

ومنها: أنَّ سلوك التأويل يدفع تَوهُّم ما هو محُال والضرر العظيم الحاصل مِن عوامِّهم لعوامّ آخَرين.

وعدمُ تَعرُّض الأوَّلين لذلك إنما كان لخلو زمانهم عن مثل هذا الفساد، وربما نَهوا عن الاشتغال بعلم الكلام كما يُروى ذلك عن الإمام الشافعي وغيره رضي الله عنه خشيةً من

(1)

هذا يخالف منهج السلف الصالح وما عليه أهل السُّنة والجماعة، وتم بيان ذلك في مُقدمتي لهذا الكتاب.

ص: 859

تخيُّل ضعفاء العقول ما يجب من التنزيه [عنه]

(1)

. أما مَن كمل رأيه وأدواته فواجب عليه ذلك؛ لردِّ المُبْطِلين وإقامة الحجج عليهم، وقد تكلم في ذلك نفس الأئمة الناهين عن ذلك بما يشفي الصدور، رضي الله عنهم أجمعين.

وقد أوسعَ العلماء في كل فَنٍّ مِن الفقه وغيره في بيان أحكام عسى أن تقع أو تجري في الخيال، فادِّعاء أن الصحابة ما كانوا يتكلمون في العقائد - يُوهم أن ذلك لِمَا قرروه مِن اعتقاد ظواهر المُحَالات، وليس كذلك، إنما هو خشية الوقوع فيما لا يجوز كما وقع في هذا الزمان. وكل هذا ظاهر لا خفاء به، والله أعلم.

ص:

411 -

وَاللَّفْظُ دَائِمًا عَلَى عُرْفِ الَّذِي

خَاطَبَ مَحْمُولٌ، فَغَيْرَهُ انْبِذِ

412 -

فَفِي خِطَابِ الشَّرْعِ شَرْعِيٌّ قَوِي

وَبَعْدَهُ الْعُرْفِيُّ، ثُمَّ اللُّغَوِي

الشرح:

لما بينتُ أن الحقيقة إما لُغوية أو شرعية أو عُرفية وأن المجاز كذلك، ذكرتُ هنا أن اللفظ إذا سُمع من كلٍّ من الجهات الثلاثة فإنما يجب حمله على ما هو المتعارف في تلك الجهة. فإذا سُمع مِن الشارع، وجبَ حملُه على ما بَيَّنه الشرع مِن مدلول اللفظ. وإذا سُمع من أهل اللغة، حُمل على ما يُعرف في اللغة. وإذا سُمع في عُرفٍ عام أو خاص، حُمل على ذلك العرف. فإذا تَعذَّر الحمل عليه، وجب الحمل على ما يدل عليه الدليل من المجاز في عُرف مَن يُخاطِب به، أي: بحسب العلاقة المعروفة فيه، وعلى ذلك يجري كثير مِن مسائل الفقه.

والأهم من هذا ما أشرتُ إليه بقولي: (فَفِي خِطَابِ الشَّرْعِ) إلى آخِره - معطوفًا على ما

(1)

من (ت، ش، ظ).

ص: 860

سبق بـ "الفاء" المشعِرة بتَسَبُّبه عنه وهو أن خطاب الشرع بلفظٍ يجب حمله على عُرف الشرع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ لبيان الشرعيات؛ ولأنه كالناسخ المتأخر، فيجب حمله عليه.

ولهذا ضعَّفوا حمل حديث: "مَن أكل لحم الجزور فليتوضأ"

(1)

على التنظيف بغسل اليد، ورجَّح النووي التوضؤ منه؛ لضعف الجواب عن الحديث الصحيح بذلك.

هذا هو أرجح المذاهب في المسألة.

فإنْ تَعذَّر الحمل على الشرعي، حُمل على العُرفي؛ لأنه المتبادر إلى الفَهم؛ ولهذا اعتبر الشرع العادات في مواضع كثيرة كما سيأتي ذلك في قواعد الفقه التي ذكرها القاضي الحسين في الكلام على قاعدة تحكيم العادة ودليلها من السُّنة.

فإذا تَعذَّر العُرفي أيضًا، حُمل على اللغوي، كقوله عليه الصلاة والسلام:"مَن دُعي إلى وليمة فليُجب، فإنْ كان مفطرًا فليأكل، وإنْ كان صائمًا فَلْيُصَلِّ"

(2)

. حمله ابن حبان في "صحيحه" على معنى "فَلْيَدْعُ"

(3)

.

فإن تعذَّر حَملُه على الحقائق الثلاث، حُمل على المجاز كما سبق بيانه آنفًا.

فإنْ قيل: هذا يخالف قول الفقهاء: (ما ليس له ضابط في الشرع ولا في اللغة، يُرجع فيه إلى العُرف)؛ فإنَّ فيه تأخير العُرف عن اللغة.

(1)

لم أجده بهذا اللفظ، ولكن في صحيح مسلم (رقم: 360) بلفظ: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ. قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ).

(2)

صحيح مسلم (رقم: 1431) بلفظ: (إذا دُعِيَ أحدكم فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كان صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كان مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ).

(3)

يعني: الصلاة هنا بمعنى الدعاء.

ص: 861

فالجواب من وجوه:

أحدها: حمل ما قاله الأصوليون على لفظ الشارع، وما قاله الفقهاء على لفظِ غيره.

وضُعِّفَ بأن الفقهاء قد استعملوا ذلك في القبض والإحياء والحرز ونحوها مِن ألفاظ الشرع.

وثانيها وبه أجاب الباجي: أن كلام الأصوليين في العُرف الكائن في زمنه صلى الله عليه وسلم، وكلام الفقهاء في عُرفِ غيره.

وضُعِفَ أيضًا بأنه لا يظهر بينهما فرق في المخاطبات حيث يتبادر الذهن إليه.

وثالثها وهو الأَجود: أن مراد الأصوليين مدلول اللفظ، ومراد الفقهاء ضبط المعنى المقصود وتحديده؛ ولهذا يقولون:(ما ليس له حَد في اللغة) ولم يقولوا: (ما ليس له معنى في اللغة).

أما بقية المذاهب في الوارد مِن لفظ الشارع: فقال أبو حنيفة: يُحمل على اللغوي إلا أن يدل دليل على إرادة الشرعي. قال: لأن الشرعي مَجاز، والكلام بحقيقته حتى يدل دليل على المجاز.

وأجيب بأنه بالنسبة إلى الشرع حقيقة وإلى اللغة مجاز. فذلك دليل عليه، لا لَهُ.

وثمرة الخلاف في مسائل، منها:

أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة عندنا، ويوجب عنده؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وهو لُغةً: الوطء، فغيرُه مجَاز.

فيُقال له: هو في العقد حقيقة شرعية، وفي الوطء مجاز؛ فيُحمل على الحقيقة. وإلحاق الشبهة به للمعنى الذي ليس مثله في الزنا.

ص: 862

ومنها: في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح"

(1)

. جَوَّز الحنفية عقد النكاح للمحرم؛ حملًا للحديث على أن النكاح بمعنى الوطء.

ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الآية. جَوَّزوا للحر نكاح الأَمة بدون خوف العنت لذلك.

ومنها حديث: "لا صلاة إلا بطهور"

(2)

، وحديث:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"

(3)

وحديث: "لا نكاح إلا بولي"

(4)

، كلها تُحمل عندنا على الشرعي.

نعم، إذا دل دليل على إرادة غيره، حُمل عليه، كما في حديث:"لا صلاة خلف الصف"

(5)

كما بُيِّن ذلك في الفقه.

وقال الغزالي والآمدي: يحمل اللفظ في الإثبات وما في معناه - كالأمر- على الشرعي؛ لِمَا سبق، كقوله عليه الصلاة والسلام:"إني إذَن أصوم"

(6)

، أي: الصيام الشرعي، حتى يُستدل به على جواز النية في النَّفْل بالنهار.

وأما في النفي وما في معناه -وهو النهي- فاختلفا فيه:

(1)

صحيح مسلم (رقم: 1409).

(2)

صحيح مسلم (رقم: 224) بلفظ: (لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ)، سنن ابن ماجه (رقم: 271) بلفظ: (لَا يَقْبَلُ الله صَلَاةً إلا بِطُهُورٍ)، سنن أبي داود (رقم: 59) بلفظ: (ولا صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

سنن ابن ماجه (رقم: 1003) بلفظ: (لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ)، صحيح ابن حبان (2203) بنحوه، وغيرهما. قال الألباني: صحيح. (صحيح ابن ماجه: 829).

(6)

صحيح مسلم (رقم: 1154) بلفظ: (فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ).

ص: 863

فقال الغزالي: مُجْمَل

(1)

. كالنهي عن الصيام يوم النحر، إذْ لو حُمل على الشرعي، لَلَزِمَ صحة الصوم فيه؛ لأنه لا ينهى إلا عمَّا يمكن. ولو حُمل على اللغوي، لكان حَملًا لكلام المتكلم على غير عُرفه.

وقال الآمدي: يُحمل على اللغوي؛ للاستحالة المتقدمة، والأصلُ اللغة

(2)

.

ويُضعِّف مذهبَهما الاتفاقُ على حَمل نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "دَعِي الصلاة أيام أَقرائك"

(3)

على المعنى الشرعي باتفاق مع أنه في معنى النهي.

تنبيه:

قد يرجح المجاز حتى يصير مُعادِلًا للحقيقة، لاشتهاره، فيصير حقيقة شرعية أو عُرفية، أو تدل قرائن على ضعف الحقيقة اللغوية بحيث لا تُمَاتُ أصلًا، وإنما تتساوى مع المجاز، وفي ذلك حينئذٍ مذاهب:

أحدها: تُقدم الحقيقة اللغوية؛ لأنها الأصل. وهو قول أبي حنيفة، وسبق ذلك في معارضتها الشرعية والعُرفية. والغرض هنا مسألة ضَعْفها بالقرائن، وذلك كما لو حلف ليشربنَّ مِن هذا النهر، فإن حقيقته أن يكرع منه، ومجازه الراجح المعادل للحقيقة أن يغترف بإناء منه ويشرب، فالحقيقة ليست مماتة أصلًا؛ لأن كثيرا مِن الرعاة وغيرهم يكرع بِفِيه.

وثانيها: يقدم المجاز؛ لِغَلبته. وهو قول أبي يوسف، واختاره القرافي؛ لأنه هو الظاهر، والتكليف إنما هو بالظهور.

(1)

المستصفى (ص 160).

(2)

الإحكام للآمدي (3/ 27).

(3)

سنن الدارقطني (1/ 212، رقم: 36)، وفي صحيح البخاري (رقم: 314)، صحيح مسلم (رقم: 333) بلفظ: (فإذا أَقْبَلَت الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ)

ص: 864

وثالثها وهو المختار عند البيضاوي وجمعٍ وعُزيَ للشافعي رحمه الله: مُجْمَل؛ للتعارض؛ لأن كُلًّا منهما راجح مِن وَجْه.

ويجوز أن يُقال: إنما يحكم بأنه مجمل إذا لم يحمل اللفظ على حقيقته ومجازه عند عدم القرينة، أما إذا قُلنا بذلك فيحمل عليهما معًا.

وفي "كتاب الأيمان" مِن "الرافعي": (لو حلف لا يأكل مِن هذه الشجرة، حُمل على الأكل مِن ثمرها دُون الورق والغصون، بخلاف ما لو حلف لا يأكل من هذه [الشاة]

(1)

، فإن اليمين تحمل على لحمها دُون لبنها ولحم ولدها؛ لأن الحقيقة فيه متعارفة)

(2)

.

نعم، في "المطلب" لابن الرفعة في "باب الإيلاء" أنَّ:(محل الخلاف في الإثبات، أما في النفي فيعمل بالمجاز الراجح جزمًا؛ فلهذا كان "لا أجامعك" صريحًا في الإيلاء مع أن حقيقته الاجتماع). انتهى

ومما يقرُب مِن هذه المسألة مسألة ذكرها في "المحصول"

(3)

، وهي: أن يكون للفظ حقيقة ومجاز ويدل على إرادة الحكم في المعنى المجازي دليل مِن إجماع أو غيره لكن يمكن أن يكون هو المراد مِن هذا الخطاب ويمكن أن يراد معه غيره، هل يتعين المجاز؟ أو يحمل اللفظ عليه وعلى الحقيقة؟

ذهب الكرخي والبصري إلى الثاني.

وذهب القاضي عبد الجبار - وتبعه في "المحصول"- إلى الأول.

والصحيح الثاني؛ لأن المرجح -كما سبق عن الشافعي وغيره- حمل اللفظ على حقيقته

(1)

في (ز، ظ): البقرة.

(2)

العزيز شرح الوجيز (12/ 347).

(3)

المحصول في أصول الفقه (1/ 587 - 588).

ص: 865

ومجازه عند عدم الدليل على تَعيُّن أحدهما. مثاله قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، فالتيمم لمعنى اللمس المجازي -وهو الجماع- ثابت بالدليل، فهل هو المراد من الآية حتى لا يُستدل بها على الانتقاض باللمس الذي هو المعنى الحقيقي في {أَوْ لَامَسْتُمُ} وهو تماس البشرتين؟ أو لا يدل على أنه المراد بل يجوز أن يكون المراد المعنيين المجازي والحقيقي؟

ويرجع حاصل الخلاف فيها إلى أن المجاز هل رجح ها هنا حتى صارت الحقيقة مماتة؛ لكون الدليل قام على إرادته؟ أو لم تمت الحقيقة؛ إذْ لا مانع من إرادتها أيضًا، بل يُعمل باللفظ فيهما معًا؟

ولا يتأتى هنا القول بأنه يَكون مُجْمَلًا؛ لأن المجاز هنا مراد قطعًا؛ للدليل، والحقيقة ليست مماتة؛ لأن كون الدليل قائمًا على أن المجاز مراد -لا يدل على إماتة الحقيقة.

نعم، قال الشيخ علاء الدين بن نفيس في كتابه "الإيضاح": إنه وإن لم يمنع إرادة الحقيقة مع المجاز لكنه يُرجح اعتبار المجاز.

وذهب الأصفهاني في "شرح المحصول" إلى أن هذه المسألة إنما هي مُفرعة على القول بمنع الحمل على الحقيقة والمجاز معًا، وأن الذي يقول بأن الحقيقة تُراد مع المجاز لا من حيث الحمل عليهما، بل لأن موجب الحقيقة قائم لم يمنعه مانع، وغايته أن المجاز دل دليل على إرادته وتلك المسألة حيث لا قرينة.

قلتُ: لكن سبق تقرير أن الدليل الذي قام على المجاز لم يدل على أنه هو المراد فقط، فيقال: إنه لم يقم دليل على أن أحدهما هو المراد، بل على أنه مراد. وفَرْقٌ بينهما؛ ولهذا قال بعضهم: إنَّ هذه المسألة شبيهة بما سبق مِن أن الإجماع على وَفْق دليل لا يدل على أن ذلك الدليل هو مستندهم، بل يجوز أن يكون دليلًا آخَر (على الأصح).

أي: الإجماع لَمَّا قام على أن المجاز مراد، هل مستنده أن الحقيقة لا يُعمل بها؛ فيتَعَيَّن

ص: 866

المجاز؟ أو أن اللفظ يحمل على الحقيقة والمجاز معًا؟ والله أعلم.

ص:

413 -

أَمَّا الْعِلَاقَةُ الَّتِي تُعْتَبَرُ

بِنَوْعِهَا فِيهِ فَوَصْفٌ يَظْهَرُ

414 -

أَوْ شَكْلٌ، اوْ مَا كَانَ أَوْ يَؤُولُ

بِالْقَطْعِ أَوْ بِالظَّنِّ، لَا الْمَجْهُولُ

415 -

أَوْ بِتَجَاوُرٍ، وَكَالزِّيَادَهْ

وَالنَّقْصِ، وَالضِّدِّ لِمَنْ أَرَادَهْ

416 -

أَوْ سَبَبًا يَكُونُ أَوْ مُسَبَّبًا

وَالْكُلُّ لِلْبَعْضِ، وَعَكْسٌ نُسِبَا

417 -

وَمُتَعَلَّقٌ لِمَا تَعَلَّقَا

وَعَكْسُهُ بِصُوَرٍ قَدْ حُقِّقَا

418 -

وَمَا بِفِعْلٍ أَطْلَقَوا بِالْقُوَّهْ

لِهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مَدْعُوَّهْ

الشرح:

هذا تفسير لما سبق مِن اعتبار العلاقة في المجاز وبيان اعتبار الواضع معناها وأنواعها.

أما اعتبارها في الجملة فباتفاق وإلا لكان الكلام كذبًا أو خارجًا عن كلام الذي المجاز باعتبار وضعه من شرع أو لغة أو عرف

(1)

.

وأمَّا اعتبار الواضع معناها: فالمراد اعتبار نوعها مِن كونها مِن إطلاق الكل على البعض أو عكسه أو المجاورة أو نحو ذلك مما سيأتي، فإن ذلك هو معنى الوضع في المجاز كما سبق. وليس المراد اعتبار وضع كل فرد مِن النوع.

ويُعبر عن هذه المسألة أيضًا باشتراط السمع في المجاز، أي: السمع في النوع، لا في الفرد المشخص قطعًا، ولا في كون العلاقة لا حاجة إليها أصلًا، إذ لا بُد مِن عُلقة باتفاق، بل

(1)

كذا في جميع النُّسَخ.

ص: 867

المراد اعتبار النوع. وهو ما اختاره إمام الحرمين في "التلخيص" والإمام الرازي وأتباعه.

وقيل: لا حاجة إلى سماع النوع أيضًا، بل يكفي وجودها وإنْ لم يسمع نوعها. ورجحه ابن الحاجب وغيره وإنْ لم يرجح الآمدي مِن القولين شيئًا.

نعم، في كلام السمرقندي من الحنفية في كتاب "الميزان" ما يُشعر بخلاف في جزئيات كل نوع، فإنه قال: (قيل: إنه موضوع كالحقيقة إلا أنها بوضع أول.

وقيل: الموضوع طريقُه دُون لفظِه.

وقيل: لم يضعوا لفظَه ولا طريقَه؛ لأن العلاقة عِلة، فإذا وُجدت العلة، وُجد المعلول، فلو شرطنا سماع العلاقة لَزِمَ أن يكون الحكم منصوصًا كما في عِلل الأحكام، فيرتفع المجاز أصلًا)

(1)

. انتهى

ولا يخفَى ما في ذلك مِن نظر؛ لأن النَّص على العلة لا يَلزم منه أن يصير الحكم منصوصًا.

وقال ابن الحاجب في "أماليه"

(2)

: الإنصاف أن المجاز إن كان باعتبار الألفاظ مفردة، احتاج إلى النقل، وإن كان باعتبار المعاني الحاصلة باعتبار تَعدُّد الألفاظ - مثل "طلع [فجرُ عُلاه]

(3)

" وشابت لمَّةُ رأسه وأشباهه - لم يحتج لنقل.

قلتُ: وكأنه يشير إلى أن المجاز العقلي غير موضوع، بخلاف المجاز في المفرد وإنْ كان في أمثلته مجاز الإفراد ومجاز التركيب، على أنه في "مختصره" يَرُد المجاز العقلي في مثل ذلك إلى مجاز المفرد كما سيأتي، فتضعف هذه التفرقة.

(1)

ميزان الأصول في نتائج العقول (ص 382 - 383).

(2)

أمالي ابن الحاجب (2/ 790).

(3)

في (ز): فجره وعلاه.

ص: 868

أما بيان أنواع العلاقة: فقال في "المحصول": (الذي يحضرنا منها اثنا عشر قِسمًا)

(1)

.

وأنهاها الهندي في "النهاية" إلى أحد وثلاثين، وزاد غيره على ذلك، وقال بعضهم: إنَّ فيها تَداخُلًا.

وقد ذكرت في النظم منها طائفة مهمة، فنشرحها ثم نذكر بعض زيادة، ونشير إلى وجه التداخل فيما لم نذكره:

الأول: مجاز المشابهة في معنى، كَـ "الأسد" للشجاع بشرط أن يكون صفة ظاهرة، لا خَفية؛ ليخرج إطلاق الأسد على الأبخر؛ لأن البخر خفي. وقال القرافي: أن يكون أشهر صفات المشبَّه به، ومنه نحو قوله تعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، أي: في الحرمة، وكذلك لو قال لعبده:(أنت ابني) وكان بحيث يمكن، فإنه يعتق.

الثاني: مجاز المشابهة الصورية، كالأسد على ما هو بشكله مِن مُجَسَّد أو منقوش، وربما وجدت العلاقتان نحو:{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [طه: 88].

الثالث: إطلاقه باعتبار ما كان وزال، كتسمية العتيق عبدًا، لكن يُشترط أن لا يكون متلبسًا الآن بضده، فلا يقال للشيخ:(إنه طفل) باعتبار ما كان، ولا للثوب المصبوغ:(أبيض) باعتبار ما كان، ولا لمن أسلم:(كافر) باعتبار ما كان.

وكأنهم يريدون بذلك أنْ لا يطرأ وصف وجودي محسوس قائم به، وإلا فما الفرق بين ذلك وبين تسمية العتيق عبدًا باعتبار ما كان؟ وقد قال أصحابنا في حديث المفلس:"فصاحب المتاع أحق بمتاعه"

(2)

: إنه جُعل كذلك باعتبار ما كان مع أن صاحب المتاع الآن

(1)

المحصول (1/ 323).

(2)

سنن ابن ماجه (رقم: 2360)، سنن الدارقطني (3/ 29)، مستدرك الحاكم (2314)، وغيرها. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف ابن ماجه: 468). لكنه صححه في (صحيح ابن ماجه: 1923) بلفظ: =

ص: 869

هو المفلس إلا أنها ليست صفة وجودية فيه.

وبالجملة فلا يخلو ذلك كله مِن نظر.

الرابع: إطلاقه باعتبار ما يَؤُول إليه:

إما بالفعل: كإطلاق الخمر على العنب، كما في قوله تعالى:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36].

أو بالقوة: كإطلاق المسكر على الخمر، ومنهم مَن اعتبر أن يؤول بنفسه؛ ليخرج أن العبد لا يُطلق عليه "حُر" باعتبار ما يؤول إليه.

وقولي: (بِالْقَطْعِ) إلى آخِره - إشارة إلى اعتبار كَوْن المآل مقطوعًا بوجوده، نحو:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، أو غالبًا كما سبق في تسمية العصير خمرًا، فإنَّ الغالب أنه إذا بقي، ينقلب خمرًا، لا ما إذا كان نادرًا أو محتملًا على السواء.

وهو معنى قولي: (لَا الْمَجْهُولُ)؛ فلذلك ضعَّف أصحابنا حمل الحنفية "فنكاحها باطل"

(1)

على أن المراد: يَؤول إلى البطلان؛ لِكون الولي قد يَرده ويفسخه، فإن ذلك ليس قطعيًّا ولا غالبًا.

وشَرَطَ إلْكِيَا القَطع، وكذا محمد بن يحيي في "تعليقه"، والجمهور على أن الغَلَبة كالقَطْع.

الخامس: إطلاقه باعتبار المجاورة، كإطلاق لفظ "الراوية" على ظرف الماء، وإنما هي في الأصل للبعير، ومنه: جَرَى الميزاب و {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25] إذا لم يُجعَل مِن مجاز الحذف، أي: ماء الميزاب أو ماء الأنهار.

= (مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ).

(1)

سبق تخريجه.

ص: 870

السادس: الزيادة، كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالكاف زائدة، أي: ليس مِثله شيء.

وقيل: الزائد لفظ "مثل". حكاه إمام الحرمين، وكذا حكاهما الماوردي وغيره وجهين لأصحابنا.

وإنما حُكِم بزيادة أحدهما لئلا يَلزم أن يكون للباري تعالى مِثْل؛ لأنَّ نفي مِثل المِثل يقتضي ثبوت مِثل، وهو مُحال، أو يَلزم نفي الذات الشريفة؛ لأنَّ مِثل مِثل الشيء هو ذلك الشيء، وثبوته واجبٌ؛ فتَعَيَّن أن المراد نَفْي المِثل، وذلك إما بزيادة "الكاف" أو "مِثل".

نعم، ادَّعى كثيرٌ عدمَ الزيادة والتخلصَ مِن المحذور بغير ذلك، لاسيما على القول بأنه لا يُطلق أنَّ في القرآن ولا في السُّنة زائدٌ كما سبق بيانه، وذلك من وجوه:

أحدها: أن سلب المعنى عن المعدوم جائز، كسلب الكتابة عن ابن فلان الذي هو معدوم، فلا يلزم مِن نفي المِثل عن المِثل ثبوت المِثل.

ثانيها: أن المراد هنا بلفظ "المثل" الصفة كالمَثَل -بفتحتين- كما قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، فالتقدير: ليس كصفته تعالى شيء.

ثالثها: أن المراد بـ "مثل" ذاتٌ، نحو قولك: مثْلك لا يبخل. أي أنت لا تبخل. قال الشاعر:

ولم أقُل مثلك أَعْني به

غيرَك يا فردًا بلا مُشبه

بل هذا النوع مِن الكناية أَبلغ من الصريح؛ لتضمنه إثبات الشيء بدليله.

رابعها: أنه لو فُرض لشيءٍ مِثلٌ ولذلك المثل مِثل، كان كلاهما مِثلًا للأصل، فيَلزم مِن نفي مِثل المثل نفيُهما معًا، ويبقى المسلُوب عنه ذلك بالضرورة؛ لأنه الموضوع وكلٌّ منهما مُقَدَّرٌ مِثْليته وقد نُفِيَا عنه.

ص: 871

خامسها: قاله يحيى بن إبراهيم السَّلمَاسي في كتاب "العَدْل في منازل الأئمة الأربعة": (إنَّ الكاف لتشبيه الصفات، و"مِثل" لتشبيه الذوات، فنَفَى الشبهين كليهما عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أي: ليس له مِثل ولا كهو شيء)

(1)

. انتهى

ولا يخفى بُعْدُه ومنافرته لكلام العرب.

تنبيه:

قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص": (قد اختُلف في كون هذا مجازًا، فقال الجمهور: إن الكلام يصير بالزيادة مجازًا. وقيل: إن نفس الزيادة هي المجاز دُون سائر الكلمات؛ لأن "الكاف" مثلًا هي المستعملة في غير موضوعها، وأما "المِثل" فمستعمل في موضوعه).

قال: والصحيح الأول؛ لأن الحرف الواحد لا يفيد بنفسه، وما لا يفيد بنفسه لا يوصَف بأنه حقيقة ولا مجاز، وإنما يوصف بذلك الكلام المفيد.

[ففي]

(2)

هذا تفريع على أن المجاز لا يكون في الحرف، وستأتي المسألة.

السابع: علاقة النقصان، بأنْ ينقص لفظ من المركب ويكون كالموجود؛ للافتقار إليه، سواء أكان مفردًا أو مركبًا، جملة أو غيرها، كقوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33]، أي: يحاربون عباد الله أو أهل دين الله أو نحو ذلك، ومثل:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه: 96]، أي: من أثر حافر فرس الرسول، وبه قُرِئ شاذًّا، ومثل:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، أي: فأفطر.

وهو كثير جدًّا، والقرآن مملوء منه، وقد أورد منه ابن عبد السلام في كتاب "المجاز" على

(1)

منازل الأئمة الأربعة (ص 149).

(2)

كذا في (ت، ش، ق، ظ، ض)، وفي (ص): لكن.

ص: 872

ترتيب نظم القرآن من أوله إلى آخِره، بل هو غالب كتابه.

لكن حكى الإمام خلافًا في أن ذلك هل يسمى مجازًا؟ أو لا؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل؟ كما جرى مثله في الزيادة حتى زعم بعضهم أنهما مِن مجاز التركيب، واختاره الأصفهاني وغيره، ولا يخفَى ضعفه.

نعم، دخوله في المجاز الإفرادي قيل: باعتبار تغيُّر الإعراب الذي شرَطه بعضهم في المجاز حتى يخرج مِن ذلك ما سبق في نحو: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} .

قال: فلا يُسمى ذلك مجازًا؛ لعدم تغيُّر الإعراب؛ لأنه لم يستعمل في غير ما وُضع له.

قال: وميل القاضي للأول، وهو الظاهر. والخلاف في ذلك سهل.

ولهذا قال إلْكِيَا: إن الخلاف لفظي، على أن طريقة البيانيين تقتضي الثاني.

ومن أمثلته المشهورة قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهل القرية، لكن هذا إذا لم نجعل القرية اسمًا للناس المجتمعين بها، مِن "قرأتُ الشيء": جمعتُه، ومنه نحو:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11].

أو القرية مشتركة بين الأبنية والمجتمعين بها، وأُريدَ الثاني.

أو أن يجعل المجاز فيه مِن إطلاق المحل على الحالّ.

أو المراد سؤال الأبنية؛ لِتُجِيب، ويكون ذلك معجزة.

والأرجح مِن هذه الأقوال أنه من مجاز الحذف، ونَص عليه الشافعي في "الرسالة" وجعله من الدال لفظه على باطنه دون ظاهره، فقال بعد ذِكر الآية: (لا يختلف أهل العلم باللسان أنهم إنما يخاطبون أباهم بمسألة أهل القرية وأهل العير؛ لأن القرية والعير لا يُنبئان

ص: 873

عن صدقهم)

(1)

. انتهى

تنبيه:

قال المطرزي: (إنما يكون كل من الزيادة والنقصان مجازًا إذا تغير بسببه حُكم، فإنْ لم يتغير فلا. فلو قلت: "زيد منطلق وعمرو" وحذفت الخبر، لم يوصف بالمجاز؛ لأنه لم يؤَد إلى تغيير حُكم من أحكام ما بقي من الكلام). انتهى

الثامن: علاقة المضادة، بأن يطلق اسم الضد على الضد، كإطلاق البصير على الأعمى. ووَهِمَ مَن يمثلها بإطلاق "الجون" للأسود أو للأبيض؛ لأن اللفظ مشترك، فإطلاقه على كُلٍّ حقيقةٌ، وأكثر ما تقع هذه العلاقة عند التقابل، نحو:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فإن الله لا يمل حتى تملوا"

(2)

، على أن بعضهم رَد هذا النوع إلى مجاز المشابهة ولو بوجهٍ ما.

ووجَّه بعضهم هذه العلاقة باللزوم الذهني.

ورُدَّ بأنه كان يلزم أن يسمَّى الابن أبًا، وإنما هو من قبيل الاستعارة بتنزيل القابل منزلة المناسب بواسطة تمليح أو تهكم، كإطلاق الشجاع على الجبان.

التاسع: إطلاق السبب على المسبَّب، وربما قيل: العِلة على المعلول. وتحته أربعة أقسام؛ لأن العلة:

إما فاعلية، نحو: نزل السحاب، أي: المطر، لكن فاعليته باعتبار العادة، كما تقول:

(1)

الرسالة (ص 64).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 1100)، صحيح مسلم (رقم: 782).

ص: 874

أحرقت النار، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:"بلوا أرحامكم ولو بالسلام"

(1)

. أي: صلوها.

أو مادية: كتسمية العصير عنبًا، وقد يُرَدّ هذا إلى المجاز باعتبار ما كان.

أو صورية: كإطلاق اليد على القدرة في نحو قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. وقد يُرَدّ هذا لمجاز المشابهة في أمر لائق بالمقام.

أو غائية: كتسمية العصير خمرًا والحديد خاتمًا. وبعضهم يَرُد هذا إلى مجاز ما يَؤول، لكن سبق أن شرطه أن يكون بقَطْعٍ أو غَلَبة، لا باحتمال.

نعم، هو يشبه ما سيأتي مِن إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة - على أن فيه نظرًا من حيث إنَّ العِلة الغائية إنما هي في الذهن وهي معلولة في الخارج، فإنْ رُوعِي:

- الخارج، فهو مِن إطلاق المعلول على العلة، كتسمية الخشب سريرًا.

- أو الذهن، فهو من إطلاق العلة على المعلول؛ لأن العلة حينئذٍ إرادة خمريته بالعصير أو إرادة كونه سريرًا قبل عمله، لكن العلة في الحقيقة هي إرادة ذلك.

العاشر: عكسه، وهو إطلاق المسبَّب على السبب، كتسمية المرض المهلك "موتًا" وهو من السبب العادي، ومنه قوله:

شربتُ الإثم حتى ضَلَّ عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

قال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} [آل عمران: 164] الآية، أي: أعطاهم؛ لأنَّ مَن يُعطي يَمُن، لكن الامتنان ليس بمحمود إلا مِن الله؛

(1)

مسند الشهاب (1/ 397، رقم: 424)، شعب الإيمان (6/ 226، رقم: 7972).

قال الألباني في (السلسلة الصحيحة: 1777): (هذا إسناد صحيح ولكنه مرسل

، وقد رُوي موصولًا

، وجملة القول أن الحديث بمجموع طُرُقه حسنٌ على أقَل الدرجات).

ص: 875

لأن عطاءه مِن فضله، فله المنة، وأما مَنُّ غيره تعالى فمذموم، قال تعالى:{ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262].

وإنما أخرتُ هذا النوع عن الذي قبله لأولويَّة ذلك؛ لأن السبب المعيَّن يستدعي مُسبَّبًا معيَّنًا، كزنا المحصن في الرجم، والمسبَّب المعيَّن لا يستدعي سببًا مُعيَّنًا، كإباحة الدم، إما لِرِدَّة أو زِنَا مُحصَن أو ترك صلاة أو موجب قصاص أو دفع صِيال أو بَغْي.

وما يقتضي المعيَّن أقوى مما يقتضي المطلَق؛ لأنه يقتضي المطلق وزيادة.

ويأتي فيه الأقسام الأربعة السابقة: إطلاق المسبَّب على السبب الفاعلي والمادي والصوري والغائي، ولا يخفى أمثلتها مما سبق في عكوسها.

الحادي عشر: باعتبار الكُلية، وهو إطلاق الكل على الجزء، كقوله تعالى:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19]، أي: أناملهم؛ لأن العادة أن الإنسان لا يضع جميع الإصبع في الأذن.

ومثله قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22]، فإن الناظر من الوجهِ العينُ فقط.

ومَثَّله البيضاوي بإطلاق القرآن على بعضه.

وفيه نظر؛ فإنَّ ذلك مِن الكُلي على الجزئي، ومثل ذلك إنما هو حقيقة كما قرر ذلك فخر الإسلام وهو ظاهر؛ لأن المجاز هو المستعمل في غير ما وُضع له أولًا، والجزئي ليس غير الكلي كما أنه ليس عَيْنه؛ ولأجل ذلك لم أذكر في النَّظم إطلاق الكُلي وإرادة الجزئي.

الثاني عشر: باعتبار الجزئية، عكس ما قبله، بأنْ يُطلق الجزء ويُراد الكل، نحو:"فعتق رقبة"، والعتق إنما هو للكل، لا للرقبة فقط.

ص: 876

و"على اليد ما أخذته حتى تؤديه"

(1)

، المراد صاحب اليد بكماله.

ونحو ذلك: "فلان يملك كذا رأسًا من الغنم"، وقولهم للجاسوس:"عَيْن"، وإطلاق "الكلمة" على الكلام، نحو:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99 - 100].

وقيل: العلاقة في هذا أن له وحْدَةً جعلته كالمفرد، فأطلق عليه اسم المفرد.

ومثَّله البيضاوي بإطلاق "الأسود" على الزنجي، فإن بياض عينيه وسنِّه مانع مِن كونه حقيقة.

وتعقب ذلك بعضهم بأنه من القسم الذي قبله، وهو إطلاق الكل للبعض.

وفساده ظاهر؛ لأنه مشتمل على بعضٍ أسود وبعضٍ أبيض، فإطلاق اسم أحد البعضين على الكل مجاز باعتبار ذلك قطعًا.

وقد فرَّع بعض أصحابنا على ذلك إضافة الطلاق إلى جزئها مِن يد ونحوها، لكن الأصح أن ذلك من باب السراية، لا من إطلاق البعض على الكل.

ويجري ذلك في العتق وفي البيع ونحوه لو قال: (بعتُ نصفك هذه الدار)، هل هو كناية؟ أوْ لا؟ ومحل بسط ذلك كتب الفقه.

(1)

سنن الترمذي (رقم: 1266)، سنن ابن ماجه (رقم: 2400) وغيرهما. قال الألباني: ضعيف. (ضعيف الترمذي: 1266).

ص: 877

تنبيه:

إذا تعارض هذا والذي قبله، كان ذلك أوْلى؛ لأن الكل يستلزم الجزء، ولا عكس.

نعم، تعقب ذلك الهندي بأن الجزء الخاص يستلزم الكل، كالناطق يستلزم الإنسان.

وفيه نظر؛ فإن استلزامه ليس مِن حيث كونه مطلق جزءٍ، بل بكونه جزءًا خاصًّا، وهو كونه جُزئيًّا للجزء الأعم الذي هو الحيوان. أشار إلى ذلك الهندي.

الثالث عشر: علاقة التعلق، وهو إما إطلاق المتعلَّق (بالفتح) على ما تعلق به، وإما بالعكس، وذلك يستدعي صُوَرًا كثيرة لا تكاد تنحصر؛ وذلك لأن المصدر اسم للمعنى الصادر مِن الفاعل أو ما هو كالصادر كالحادث القائم به، ثم يُصاغ منه الأفعال الثلاثة ووَصْفَا الفاعل والمفعول، ومِن وَصْف الفاعل صيغة المبالغة بشرطها، وهى الخمسة المشهورة: فَعَّال، ومِفْعَال، وفعول، وفعيل، وفَعِل، وغيرها، وأسماء الآلات والزمان والمكان، وغير ذلك مما هو مشهور في التصريف واللغة.

فإذا أُطلق المصدر على شيء من ذلك أو أُطلق شيء منها وأُريدَ به المصدر، كان مجازًا، والعلاقة فيه التعلق، إما إطلاق المتعلِّق على المتعلَّق أو بالعكس أو إطلاق بعض المتعلقات على بعض، ولا بأس بذكر بعض صُوَر منه:

فمنه نحو قول تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]، أي: مخلوقه، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] أي: مِن معلومه، ولو كان المراد حقيقة العِلم لَمَا دخلت عليه "مِن" التبعيضيَّة؛ لأن القديم لا يتبعض.

ونحو: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] أي: مصيدُه.

ومنه: إطلاق الفقه على المفقوه والنحو على المنحو، وهو باب واسع.

ومثله إطلاق المصدر على الفاعل، كَـ "عَدْل" و"صوم" بمعنى "عادل" و"صائم"، ما لم

ص: 878

يُقَدَّر "ذو عدل" أو "ذو صوم"، فيكون من مجاز الحذف.

وعكسه، نحو: قُم قائمًا، أي: قيامًا. وأَنصِتْ ساكتًا، أي: سكوتًا، ما لم يجعل ذلك حالًا مؤكدة.

ويتفرع على الأول من الفقه: ما لو قال لها: (أنت طلاق)، أو للعبد:(أنت عِتقٌ) أو: (حريَّة)، فإنه كناية فيهما، إنْ نَوَى أنه بمعنى "طالق" و"مُعْتَق" أو "محرر"، وقع.

ومنه قولك: (ضربًا زيدًا) بمعنى: اضرب زيدًا؛ لأنه أُقيم مقام الفعل، فهو مجاز.

ومن عكسه نحو: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، أي: إراءتكم، و"تسمع بالمُعَيدي"

(1)

أي: سماعك.

ومن مجاز التعلق نحو: نهارُه صائم وليلُه قائم، على الخلاف بين السكاكي وغيره في كونه مجازًا أو كناية كما هو مبين في علم البيان.

ومنه قوله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] أي: في الجنة؛ لأنها محل الرحمة.

ومنه: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء: 45] أي: ساترًا، {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61] أي: آتِيًا على طريقة.

وفي تقرير هذه المواضع أبحاث لا يليق ذكرها بهذا المختصر، إنما الغرض تقرير أصل هذه العلاقة بأمثلة توضحها.

ومن أمثلتها أيضًا نحو: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] أطلق

(1)

"تسمع بالمُعَيدي خير مِن أنْ تراه" مَثَل يُضرَب يضرب للرجل الذى له صيت وذِكر في الناس، إذا رأيته ازدريت مرآته. (الصحاح تاج اللغة، 2/ 506).

ص: 879

اسم الآلة -وهو اللسان- على المعمول بها وهو الذِّكْر.

وإلى كثرة الصُّوَر والأنواع أشرتُ في النَّظم بقولي: (بِصُوَرٍ قَدْ حُقِّقَا)، أي: كثيرة، نَكَّرْتُها؛ للكثرة.

الرابع عشر: إطلاق ما بالفعل على ما بالقوة، وربما عُبر عنه بمجاز الاستعداد، كإطلاق "الخمر" على العصير في الدن قبل أن يتخمر، وإطلاق "كاتب" على العارف بالكتابة حالة تركها.

واعلم أن منهم مَن يُوَحِّد بين هذه العلاقة وبين علاقة ما يَؤول السابق ذِكرها، وهو ظاهر تمثيل "المحصول" وابن الحاجب.

والحقُّ تغايرهما كما غايرتُ بينهما في النَّظم؛ لأن المستعد للشيء قد لا يَؤول إليه، بأن يكون مستعدًّا له ولغيره، كما أن العصير قد لا يؤول إلى الخمرية وإن كان مستعدًّا لها.

نعم، سبق أنه يشابه مجاز العلة الغائية، وسبق تقريره وبيان النظر فيه.

قلتُ: لكنه على كل حال يعكر على مَن شرط في مجاز الأيلُولة القَطْع أو الغَلَبة، لا مطلق الاحتمال. غايته أنه عند مطلق الاحتمال لا يُسمى مجازًا بما يؤول إليه، ويُسمى مجاز القابلية، فإنْ أُريدَ ذلك فالتسمية اصطلاح لا أثر له مع وجود أصل التجوز.

فصل في علاقات أخرى قد يُدَّعى زيادتها على ما سبق، وقد يُدَّعى دخولها فيها:

نذكرها لتمام الفائدة:

منها: إطلاق اللازم على الملزوم، كالمس على الجماع، وهذا على الغالب، وإلا فقد يكون الجماع بحائل.

ومنه قوله:

قَومٌ إذا حاربوا شَدُّوا مآزِرهُم

دُونَ النساء ولو باتَتْ بأطْهار

ص: 880

فالمراد بالشد الاعتزال عن النساء؛ لأنه مِن لوازم الاعتزال، وهذه العلاقة قد يُدَّعى دخولها في إطلاق السبب على المسبَّب.

ومنها عكس ذلك: وهو إطلاق الملزوم على اللازم، كقوله تعالى:{أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] أي: يدل على ذلك، والدلالة مِن لازم الكلام.

ومنه قولهم: (كلُّ صامتٍ ناطقٌ بموجِدِه)، أي: دال على وجود مُحْدِثه. وقد يُدَّعَى دخول هذه أيضًا في إطلاق المسبَّب على السبب.

ومنها: تسمية الحالّ باسم المحل، كقوله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] إن لم يُجعل من الحذف، أي: أهل ناديه، أو يُقَلْ: إن النادي اسم لهم.

وكَـ "الغائط" للخارج، وإنما أصله المكان المطمئن من الأرض، كانوا ينتابونه لقضاء الحاجة.

ومنه قولهم: (لا فَضَّ الله فاك) أي: أسنان فِيك، إنْ لم يجعل من الحذف، وقد يُدَّعَى أيضًا أنه من مجاز المجاورة.

ومنها: عكسه، نحو قوله تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] أي: ثيابكم التي هي محل الزينة. وقد يُدَّعَى أنه من المجاورة كما في عكسه أو من إطلاق المسبَّب على السبب.

ومنها: إطلاق المنكَّر وإرادة المعرَّف، نحو:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] إن كان المراد بها مُعيَّنة. وقد يقال: إن المعرَّف جُزئيٌّ للمنكَّر، وسبق أن إطلاق الكلي على الجزئي حقيقة، لا مجاز.

ومنها عكسه، نحو:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء: 154] إنْ قُلنا: المأمور به دخول أَيِّ باب كان. وقد يقال: إذا كانت اللام فيه للجنس، كان المراد ذلك، وكون اللام للجنس

ص: 881

حقيقة.

ومنها: إطلاق المعرَّف باللام على الجنس، نحو: الرجل خير من المرأة.

وجوابه كالذي قبله، إلا أن الجنس قد يقصد به واحد منه كالذي سبق. وقد يقصد به الحقيقة من غير نظر للأفراد كهذا.

ومنها: إطلاق اسم المقيد على المطلق، كقول القاضي شريح: أصبحتُ ونصفُ الناس عَلَيَّ غضبان. المراد مطلق البعض، لا خصوص النصف.

ونحوه قول الشاعر:

إذا مت، كان الناس نصفان: شامت

وآخَر مُثن بالذي كنت أفعل

بدليل الرواية الأخرى: كان الناس صنفان.

وحمل عليه بعضهم: "الطهور شطر الإيمان"

(1)

المراد: بعضٌ منه. وقيل فيه غير ذلك، وقد يقال: إنما قصد في ذلك حقيقة النصفية باعتبارٍ ما، لا باعتبار الأفراد.

ومنها عكسه، نحو قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عند مَن يرى بأن المراد بها مؤمنة. وقد يقال: إن التقدير "رقبة مؤمنة" فحُذفت الصفة، فهو مِن مجاز الحذف.

ومنها: تسمية البدل بِاسْم المبدل، كتسمية الدِّيَة دمًا، نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"

(2)

. وقد يقال: إنه من مجاز الحذف، أي: بدل دمه.

ومنها تسمية الأداء قضاء في نحو قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 103].

وجواب ذلك أن المراد بالقضاء المعنى اللغوي، ولا فرق بين أن يكون في الوقت أو

(1)

صحيح مسلم (رقم: 223).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 6769)، صحيح مسلم (رقم: 1669).

ص: 882

خارجه، فهو حقيقة، والتفرقة اصطلاحية شرعية حادثة.

وذكر أبو إسحاق النهَاوَندي مِن النحاة في "شرح الجمل" أنواعًا لم يتعرض لها الأصوليون.

قيل: لأنَّ المجاز فيها في التركيب، لا في الإفراد.

وعندي أنه ولو سُلِّم التجوز فيها في الإفراد فدخولها فيما سبق ممكن، من ذلك:

القلب، نحو:(خرق الثوبُ المسمارَ)، وعليه:{إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [القصص: 76] على القول بأن المراد: تنوء العُصْبةُ.

وجواب ذلك أن المختلف الإعراب لا المدلول، فأين المجاز؟ وإلا فنحو:(جحر ضب خرب) بالجر مع كونه صفة من ذلك، ولا قائل به.

ومنه التشبيه، كقوله تعالى:{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]. كذا قاله أبو حيان في "الارتشاف" تبعًا لبعض المغاربة.

والحقُّ أن التشبيه حقيقة، لا مجاز.

ومنه قلب التشبيه: نحو: (كأن لون أرضه سماؤه). ولا يخفَى أنه من المبالغة في التشبيه التي جعلت حقيقة ذلك ادَّعاء.

ومنه: الكناية والتعريض على رأي، لكن الراجح أنهما حقيقة كما سيأتي بيانه.

ومنه: المدح في صورة الذم، وعكسه، نحو:"ما أشعره قاتله الله"، ونحو:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49].

ويمكن دخولهما تحت مجاز المضادة؛ تمليحًا أو تَهكُّمًا.

ومنه: المستثنى المنقطع من غير الجنس.

وقد يقال: إنه بتأويله بدخوله تحت الجنس يكون من مجاز المشابهة أو نحو ذلك.

ص: 883

ومنه: ورود الأمر بصيغة الخبر، وعكسه، نحو:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38].

وقد يقال: إن ذلك من المضادة أو المبالغة بتنزيله منزلة الذي استعمل فيه حقيقةً بحسب اعتقاده.

ومنه: ورود الواجب أو المُحَال في صورة الممكن، كقوله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].

وقد يقال: إنه لا يخرج عن إطلاق الملزوم على اللازم؛ لِتَعَذُّر الحقيقة.

ومنه: التقدم والتأخر، نحو:{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 4 - 5]، والغثاء: ما احتمله السيل مِن الحشيش، والأحوى: الشديد الخضرة، وذلك سابق في الوجود.

ويمكن أن يُدَّعَى أنه مِن التجوز بما كان عليه.

ومنه: إضافة الشيء إلى ما ليس له، نحو:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33].

وقد يُدَّعَى أن الإضافة بأدنى ملابسة، فلم تخرج عن كونها حقيقة.

ومنه: إيراد المعلوم مساق المجهول. وربما عُبر عن ذلك بتجاهل العارف إذا كان في غير كلام الله، ومَثَّلوه بنحو:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

وقد يقال: إن هذا من باب التشكيك على المخاطب، فلم يخرج عن كونه حقيقةً.

وقولي: (لِهَذِهِ أَمْثِلَةٌ مَدْعُوَّهْ) أي: وإن كانت في النظم غير ممثَّلة، أي: فينبغي أن يُبْحث عن أمثلتها ويُسْتَدْعَى حضورها. والله أعلم.

ص: 884

ص:

419 -

وَقَدْ يُرَى الْمَجَازُ في الْإسْنَادِ

كَـ "أَهْلَكَ الدَّهْرُ" بِلَا اعْتِقَادِ

الشرح:

لَمَّا بينتُ أن المجاز في المفرد وذكرتُ أنواعه، شرعتُ في مسائل جرى الخلاف فيها في بعض المفردات وفي غير المفرد بالكُلية، وجريتُ فيها على الراجح:

الأولى:

هل يجري المجاز في الإسناد؟ أو لا؟

الراجح: نعم، فيجري فيه وإن لم يكن في لفظَي المسند والمسند إليه تجوزٌ، وذلك بأنْ يُسنَد الشيء إلى غير مَن هو له بِضرب من التأويل بلا واسطة وضعٍ.

فخرج بِقَيْد ضرب التأويل الكذبُ، وبقيد نَفْيِ الوضعِ مجازُ المفرد.

ومثال مجاز الإسناد قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 36]. فكل مِن طَرَفَي الإسناد حقيقة، وإنما المجاز في إسناد الزيادة إلى الآيات والإضلال إلى الأصنام، وكذا نحو:{يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] والفاعل لذلك في الكل هو الله تعالى.

ويُسمى ذلك المجاز العقلي والحكمي ومجاز التركيب؛ لأن النسبة في المركب أمر عقلي، بخلاف المجاز في المفرد، فإنه وضعي مِن اللغة. وهذا مذهب عبد القاهر الجرجاني.

وأنكر السكاكي

(1)

المجاز العقلي، ورَدَّه إلى أنه استعارة بالكناية، فنحو قولهم: (أنبت

(1)

مفتاح العلوم (ص 401). الناشر دار الكتب العلمية.

ص: 885

الربيع البقل) استعارة عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه على قاعدة الاستعارة، ونسبةُ الإنبات إليه قرينةُ الاستعارة، وهكذا يُصنع في بقية الأمثلة.

وتُعُقِّب عليه بما هو موضح في فن المعاني والبيان، فيؤول إلى أن ذلك إما حقيقة أو من مجاز المفرد.

وجرى على ذلك ابن الحاجب في "أماليه" وفي "مختصره الكبير" في أصول الفقه، واستبعده في "الصغير" وحاول رده إلى الحقيقة.

وعَلَى المنع:

فقيل: المجاز في المُسْنَد، فنحو:(أنبت الربيع البقل)"أنبت" فيه بمعنى "تَسَبَّب"، والمراد التسبب العادي. وهذا رأي ابن الحاجب.

وقيل: في المُسْنَد إليه، فهو في "الربيع" في المثال، فأطلق على الفاعل الحقيقي مجازًا ثم وقع الإسناد. وهو رأي السكاكي إذ جعله مِن الاستعارة بالكناية.

واختار الإمام الرازي في "نهاية الإيجاز" مذهبًا رابعًا: أن هذا ونحوه من باب التمثيل، فلا مجاز فيه، لا في المفرد ولا في الإسناد، بل هو كلام أُورِد لِيُتَصَوَّر معناه، فينتقل الذهن منه إلى إنبات الله تعالى في المثال المذكور، ويُقاس عليه غيره.

وقال القاضي عضد الدين: (والحقّ أنها تصرفات عقلية، ولا حجر فيها، فالكل ممكن، والنظر إلى قصد المتكلم)

(1)

.

وقولي: (كَـ "أَهْلَكَ الدَّهْرُ" بِلَا اعْتِقَادِ) أي: إنَّ هذا إذا صدر من المسلم السُّني، كان مجازًا؛ لأنه لا اعتقاد له في كون الدهر أو غيره من المخلوقات موجِدًا لشيء، بخلاف ما لو

(1)

شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي (ص 46).

ص: 886

صدر من غير المسلم؛ لاعتقاده أن الدهر فَعَّال، فإنه يكون حقيقة، كقولهم فيما حكى الله تعالى عنهم:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24].

ونحو ذلك لو قال المعتزلي: (خلق الله فِعل المعصية)، فإنه إنما يريد: خَلَق للعبد قُدرة الخلْق للفعل، وأن إسناده ذلك لله تعالى مجاز. وربما احتمل كون المتكلم بذلك معتقدًا أوْ لا، فيُعتمد على قرينة إنْ وُجدت، نحو قول أبي النجم:

قد أَصبحتْ أُمُّ الخيار تَدَّعِي

عَلَيَّ ذئبًا كُلّه لم أَصْنَعِ

مِنْ أنْ رأَتْ رأسي كرأسِ الأَصْلَعِ

مَيَّزَ عنه قُنْزعًا عن قُنْزعِ

جَذْبُ الليالي، أَبطئِي أو أسرعي

فلما قال بعد ذلك: (أفناه قِيلُ اللهِ للشمس: اطلعي)، عرفنا أنه قصد المجاز في إسناد "مَيَّز" إلى "جذب الليالي".

تنبيه:

هل المسمى بالمجاز في العقلي نفس الإسناد؟ أو الكلام المشتمل عليه؟

قال صاحب "الكشاف" بالأول، ونقله ابن الحاجب عن عبد القاهر، لكن الموجود في "دلائل الإعجاز" له أن المسمى بالمجاز الكلام لا الإسناد، وعليه جرى السكاكي في "المفتاح".

قيل: والخُلْفُ لفظي.

وقد اختُلف فيه أيضًا: هل هو أمرٌ عقلي؟ أو لفظي؟ وبنوه على أن المركبات موضوعة؟ أَمْ لا؟ وليس هذا محل التطويل في ذلك؛ لِقِلَّة جدواه فيما نحن فيه، والله أعلم.

ص: 887

ص:

420 -

وَهَكَذَا في الْفِعْلِ وَالْحُرُوفِ

وَمَنَعُوا في الْعَلَمِ الْمَعْرُوفِ

الشرح: المسألة الثانية:

هل يجري المجاز في الأفعال؟ أي: وما كان في معناها من اسمَي الفاعل والمفعول والصفة المشبهة ونحو ذلك مما اشتق من المصدر؟ أوْ لا؟

الراجح: الجريان في ذلك كله كما يجري في الجوامد، كَـ "الأسد" للشجاع.

وسواء أكان المجاز في الأفعال وغيرها مِن المشتقات:

- بطريق التبعية للمصدر، كما يقال:"صلَّى" بمعنى دَعَا فهو "مُصَلٍّ" بمعنى دَاعٍ تبعًا لإطلاق الصلاة، وقِسْ على ذلك.

- أوْ لا بطريق التبع، كإطلاق الفعل الماضي بمعنى الاستقبال، نحو:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: 20]، أي: يُنفخ، {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 44] أي: ينادون.

وإطلاق المضارع بمعنى الماضي، نحو:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102]، أي: تلته.

والتعبير بالخبر عن الأمر، نحو:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233].

وعكسه، نحو:{فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، "فليتبوأ مقعده من النار"

(1)

، "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"

(2)

على أحد الأقوال كما سيأتي في باب الأمر.

(1)

صحيح البخاري (108)، صحيح مسلم (2).

(2)

صحيح البخاري (رقم: 3296).

ص: 888

وكإطلاق اسم الفاعل بمعنى الاستقبال أو الماضي على الراجح كما سيأتي في مسائل الاشتقاق.

ومنع الإمام في "المحصول" دخول المجاز في الأفعال والمشتقات إلا بالتبع للمصدر الذي هي مُشتقة منه، قال:(لأن المصدر في ضمن الفعل وكل مشتق، فيمتنع دخول المجاز في ذلك إلا بعد دخوله فيما هو في ضمنه)

(1)

.

وضَعَّف شُراح "المحصول" وغيرهم مقالة الإمام بما سبق مِن التجوز في [الفعل]

(2)

بالاستقبال والمضي، وكذا في الأوصاف؛ إذ لا مدخل للمصدر في التجوز بذلك.

واكتفيتُ في النَّظم بذكر الفعل عن بقية المشتقات؛ لأن المعنى في الجميع واحد والخلاف واحد.

المسألة الثالثة:

هل يجري المجاز في الحروف كما في الأسماء والأفعال؟

الراجح: نعم، كما في "هل" تجوَّزوا بها عن:

الأمر، كقوله تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] أي: فأسلِموا.

والنفي، نحو {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أي: ما ترى.

والتقرير، نحو:{هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28]، وشبه ذلك، لاسيما على القول بأن كل حرف ليس له إلا معنى واحد، وإذا استعمل في غيره، كان مجازًا، خلاف مَن يرى بالاشتراك اللفظي أو بوضعه للقَدْر المشترك

(1)

المحصول (1/ 328).

(2)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): الأفعال.

ص: 889

من باب التواطؤ، ولبسط ذلك موضع أَليق به.

وخالف الإمام في "المحصول" في المسألة، وقال: لا يجري المجاز في الحروف إلا بالتبع؛ لوقوع المجاز في متعلقه.

قال: (لأن مفهوم الحرف غير مستقل، فإن ضُم إلى ما ينبغي ضمه إليه، كان حقيقة وإلا كان مجازًا، لكن مِن مجاز التركيب، لا من مجاز الإفراد)

(1)

.

وتُشبه مخالفة الإمام في المشتقات والحروف منعَ البيانيين الاستعارة في ذلك إلا بالتبع للمصدر ولمتعلِّق الحرف، فيقع التجوز في ذلك أولًا ثم يَسري إلى هذه، فلا يقال:(نَطقَت الحال بكذا) ويراد به "دَلَّت عليه" حتى يُستعار نُطق الحال لمعنى دلالتها ثم يُعَدَّى ذلك [مِن الفعل للحرف]

(2)

.

وكذا "لَعلَّ" مثلًا تُقدر الاستعارة في معنى الترجي ثم تستعمل "لعل" في ذلك المعنى.

وممن خالف الإمام في ذلك كله ابن عبد السلام، وأطال في ذلك في كتاب "مجاز القرآن"، وكذا النقشواني ورَدَّ مقالة الإمام بأن الحرف مثلًا إذا نُقل مِن موضوعه الأول لعلاقة واستُعمل في الثاني، كان مجازًا، نحو:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، فنقلت "في" عن الظرفية واستعملت في غيرها.

المسألة الرابعة:

هل يجري المجاز في الاسم العَلَم المعرَّف عند أهل العربية بِـ: "ما وُضع لمعَيَّن لا يتناول غيره" كما سبق بيانه وانقسامه إلى "عَلَم شخص" و"عَلَم جنس"؛ أوْ لا يجري فيه؟

(1)

المحصول (1/ 328).

(2)

في (ز): للفعل.

ص: 890

الأصح من المذاهب: المنع مطلقًا، لا بالذات ولا بالواسطة؛ لأن الأعلام وُضعت للفرق بين ذاتٍ وذاتٍ، فلو تُجُوِّز فيها، لَبَطل هذا الغرض، وأيضًا فنقْلها إلى مسمى آخَر إنما هو بوضع مستقل، لا لعلاقة، وشرط المجاز العلاقة. وهذا مذهب الإمام الرازي، وتبعه البيضاوي وغيره.

وثانيها: يجري فيها مطلقًا. حكاه الأبياري، كما تقول:"قرأتُ سيبويه"، تريد كتاب سيبويه، نقلتَ عَلَم صاحبه إليه مجازًا.

ورَدَّه بأنه على حذف مضاف، فهو مِن مجاز الإضمار. وقد قال ابن يعيش في "شرح المفصل":(قال النحويون: العَلَم ما يجوز تبديله وتغييره، ولا تتغير اللغة بذلك. فإنه يجوز أن تسمي ولدَك خالدًا ثم تُغيره إلى جعفر أو محمد، بخلاف اسم الجنس مثلًا، بل لو أردت تسمية الرجُل فرسًا والفرس رجُلًا، غيَّرتَ اللغة).

وممن حكى القولين فيه القاضي عبد الوهاب في "الملخص" وصاحب "الميزان" من الحنفية، وقال:(إن الأكثرين على دخول المجاز فيه)

(1)

.

نعم، قال الهندي:(إن الخلاف في الأعلام المنقولة)

(2)

.

وقال غيره: الصواب جريانه في الأَعَم مِن المنقول والمرتجل.

وثالثها: التفصيل بين ما يُلمح فيه صفة فيجوز (كأَسْود وحارث) دُون العَلَم الذي وُضع للفرق المحض بين الذوات (كزيد وعمرو). وبه قال الغزالي، واستحسنه بعضهم.

لكن في بعض شروح "المحصول" أن الغزالي إنما فصَّل ذلك بناء على رأيه في عدم اعتبار العلاقة.

(1)

ميزان الأصول في نتائج العقول (ص 384).

(2)

نهاية الوصول في دراية الأصول (2/ 395).

ص: 891

وفيه نظر؛ لأنَّ مقتضاه حينئذٍ أنه يجوز مطلقًا مِن غير تفصيل؛ لأنه يَصْدُق على كُلٍّ أنه [استُعمل]

(1)

في غير موضوعه.

قيل: ويجب أيضًا أن يختص الخلاف بالأعلام المتجددة، أما الأعلام التي بوضع اللغة فيجب أن يقال: إنها حقائق.

فقولهم: (العَلَم لا يوصف بكونه [حقيقة]

(2)

ولا مجازًا) مَحَلُّه في غير ذلك، والله أعلم.

ص:

421 -

وَيُعْرَفُ الْمَجَازُ مِنْ تَبَادُرِ

غَيْرٍ بِلَا قَرِينَةٍ في الْحَاضِرِ

422 -

وَصِحَّةِ النَّفْيِ، وَأَنْ لَا يُطْرَدَا

حَتْمًا، وَبِالْتِزِامِ أَنْ يُقَيَّدَا

423 -

وَنَحْوِهِ، وَالسَّمْعُ فِيهِ مُشْتَرَطْ

لَا في مُشَخَّصٍ، بَلِ النَّوْعِ فَقَطْ

الشرح:

قد اشتملت هذه الأبيات على مسألتين:

إحداهما:

بماذا يُعرَف المجاز مِن الحقيقة؟ وقد ذكرتُ عدةً من العلامات، وأشرتُ إلى عدم الانحصار في ذلك بقولي:(وَنَحْوِهِ).

أحدها: بِتَبادُر غيره إلى الفَهْم عند الإطلاق حيث لا قرينة هناك حاضرة، بخلاف

(1)

في (ز، ق، ظ): استعملته العرب.

(2)

كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: لا حقيقة.

ص: 892

الحقيقة، فإنها هي المتبادرة إذا كانت واحدة، أو لا تتبادر لا هي ولا غيرها إذا تَعددت الحقائق.

فإنْ قِيل: المجاز الراجح يتبادر أيضًا.

قيل: إنْ رجح بقرينة فالكلام حيث لا قرينة، أو رجح باشتهاره فَقَدْ صار حقيقة بحسب ما اشتهر فيه مِن عُرف أو شرع، فما تبادر إلا لكونه حقيقة وإنْ كان مجازًا باعتبار وضع آخَر، ولم يتبادر مِن حيث كونه مجازًا.

ثانيها: بصحة النفي، كقولك للبليد: ليس بحمار، وللجد: ليس بِأَبٍ، بخلاف الحقيقة، فإنها لا تُنفَى.

وزاد بعضهم: (في نَفْس الأمر)؛ احترازًا عمَّا إذا كان ذلك لظنِّ ظانٍّ، فإنه لا يدل عليه.

وقال صاحب "البديع": هذا حُكم المجاز بعد ثبوت كونه مجازًا، فلو تَوقف عليه عِلمه، لَزِمَ الدَّور

(1)

.

وقد يجاب بأن نفيه إنما صحته باعتبار التعقُّل، لا باعتبار أنْ يُعلم كونه مجازًا فتنفيه.

ثالثها: بعدم وجوب اطراده، بل قد يطَّرد تارةً، كالأسد للشجاع، ولا يطَّرد أخرى، نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها، فلا يقال:(واسأل البساط)، أي: أهله، بخلاف الحقيقة، فإنها واجبة الاطراد.

وأما قول ابن الحاجب: (إن الاطراد ليس دليل الحقيقة؛ لأن المجاز قد يطرد)

(2)

.

(1)

بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام - نهاية الأصول (1/ 33 - 35). رسالة دكتوراة للباحث: سعد السلمي، جامعة أم القرى.

(2)

هذا كلام العضد في شرحه مختصر ابن الحاجب (ص 44).

ص: 893

فَمُسَلَّم، لكن الذي هو علامة الحقيقة إنما هو وجوب الاطراد، لا وقوع الاطراد، عَكْس المجاز، فإنه لا يجب، وقد يطرد.

فإنْ قِيل: فالحقيقة قد لا تطرد، كَـ "القارورة" للزجاجة مع كونها من "القر"، و"الدبران" لمنزلة القمر مع كونه من الدبور، فلا يُسمى كل ما فيه قرار أو دبور بذلك.

قيل: عدم اطراده لكون المحل المعيَّن قد اعتُبر في وضع الاسم، فلا يُسمى ما وُجد أصل المعنى فيه غير هذا بذلك الاسم؛ لفقدان تمام مُوجِب التسمية.

والحاصل الفرق بين تسمية غير ذلك لوجود المعنى فيه أو بوجود المعنى فيه، والمراد الثاني، فلا يتعدى.

ونظيره لو عُلل في باب القياس بالمحل أو جزئه أو لازمه، لم يُقَس غيرُه عليه، كجوهرية النقدية الغالبة في الربا في الذهب والفضة إنما لم تطَّرد ولم تُعَد لشيء آخَر؛ لِتَعذُّر وجود العِلة فيه، وسيأتي بيانه في القياس.

رابعها: بالتزام تقييده، فلا يُستعمل في ذلك المعنى بالإطلاق، كَـ "جناح الذل" و"نار الحرب"؛ إذ لو استعملت الجناح والنار في معناهما الأصلي لجاز بلا تقييد، لكن لو قيَّدتَ، لم يمتنع، كالمشترك قد يُقيَّد في أحد المعنيين لكن لا لزومًا. وهو معنى قولي:(وَبِالْتِزِامِ أَنْ يُقَيَّدَا).

ومما يدخل تحت قولي: (ونحوه) اعتبار المجاز بأن يكون صيغة جَمْعه على خلاف صيغة جمع الحقيقة، كالأمر [للصيغة]

(1)

الآتي ذِكرها في باب "الأمر" يُجمع على "أوامر"، وأما بمعنى الفعل أو نحوه مما سيأتي بيانه فيُجمع على "أمور"، لكن سيأتي أن هذا على رأي الجوهري وأنه لا يُوافَق عليه في اللغة.

(1)

في (ز، ظ): لصيغته.

ص: 894

وكذا أن يتوقف جواز استعماله على وجود مُسمَّى آخَر له يكون حقيقة فيه، سواء أكان ملفوظًا به نحو:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، فلا يُقال ابتداءً:(مكر الله)، أو مقدَّرًا نحو:{قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21]؛ لأنه مذكور فيما سبق بالمعنى.

وزعم بعضهم أنه لا بُد مِن سَبْق المعنى الحقيقي كما مَثَّلنا.

وهو مردود بنحو ما جاء في حديث: "فإن الله لا يمل حتى تملوا"

(1)

، فإن المجازي فيه متقدِّم [لمقابَلة]

(2)

الحقيقي المتأخِّر.

وكذا أن يكون معناه الحقيقي مستحيلًا، فيدل إطلاقه في المحل الذي هو مستحيل فيه على أن المراد المجاز، نحو:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} .

ومِن هذه الآياتُ والأحاديثُ الواردة في الصفات التي معناها الحقيقي مستحيل في حقه تعالى، كاليد والعين والنزول والاستواء ونحو ذلك. فيجب أن يعتقد أن الحقيقة ليست مُرادة بلا خلاف.

وأما غيرها فللناس طريقان فيها:

أحدهما: تعيين ما يحمل عليه مِن المجاز، وهُم الذين يرون التأويل.

والثانية: طريقة السلف، عدم التعرض للتأويل، والإيمان بها على ما أراد الله منها من غير الحقيقة المستحيلة، وهو معنى قولهم:"مع التنزيه"، فالإحالة على تعيين مجاز، لا على الترديد بين حقيقة ومجاز كما يزعمه المبتدعون تلبيسًا على مَن لا ملكة عنده، فإياك وتلبيساتهم، وقد سبق - في مسألة كون المجاز معتمَدًا حيث تستحيل الحقيقة أوْ لا -ما يُعرف منه الفَرق بين جعل استحالة الحقيقة مِن علامات المجاز وكون المرجح أن المجاز

(1)

سبق تخريجه.

(2)

يحتمل أن المؤلِّف يقصد: لِمُقَابِلِه.

ص: 895

ليس يُعتمَد [حيث]

(1)

تستحيل الحقيقة، وسبق التحذير مِن تدليسهم، فراجعه.

المسألة الثانية:

لا بُدَّ في المجاز من سمع، والمراد (كما سبق) أن يُسْمع اعتبار العرب نوع العلاقة - على المختار وقول الجمهور، وأنه لا يشترط سماع كل فرد فرد من محالّ كل علاقة حتى يتوقف إطلاق الأسد مثلًا على الشجاع على نقلٍ عن العرب، بل المراد إطلاق التجوُّز بالمشابهة المعنوية، وسبق بيان ذلك كله وما فيه. وسبق أيضًا الإشارة إليه في النَّظم لكن من حيث تفسير اعتبار العلاقة، ثم زدناه هنا إيضاحًا، والله أعلم.

ص:

424 -

ثُمَّ "الْكِنَايَةُ": [الَّذِي يُسْتَعْمَلُ]

(2)

في أَصْلِ مَعْنَاهُ، وَلَكِنْ يُعْمَلُ

425 -

في لَازِمٍ قَصْدًا كَمِثْلِ الْكَرَمِ

بِكَثْرَةِ الرَّمَادِ يُعْنَى إذْ نُمِي

426 -

فَهْيَ حَقِيقَةٌ، وَ"تَعْرِيضٌ" كَذَا

لَكِنْ بِتَلْوِيحٍ بِغَيْرٍ نُبِذَا

الشرح:

لَمَّا فرغتُ مِن المجاز وأنواعه، ذكرتُ ما قد يلتبس به وليس منه، وهو "الكناية" و"التعريض" وهُما المقابلان للتصريح.

فأما "الكناية" فهي: القول المستعمل في معناه الموضوع له حقيقة ولكن أُريدَ بإطلاقه لازِم المعنى، كقولهم:"كثير الرماد" يكنون به عن كرمه، فكثرة الرماد مستعمل في معناه

(1)

في (ز): حتى.

(2)

في (ن 3، ن 4، ن 5): التي تستعمل.

ص: 896

الحقيقي ولكن أريد به لازِمُه وهو الكَرَم وإنْ كان بواسطة لازم آخَر؛ لأن لازم كثرة الرماد إنما هو كثرة الطبخ، ولازِم كثرة الطبخ كثرةُ الضيفان، ولازم كثرة الضيفان الكرم، وكل ذلك عادة. فالدلالة على المعنى الأصلي بالوضع، وعلى اللازم بانتقال الذهن مِن الملزوم إليه.

ومِثله قولهم: "طويل النجاد" كناية عن طول القامة؛ لأن نجاد الطويل يكون طويلًا بحسب العادة، وعلى هذا فهو حقيقة؛ لأنه استُعمل في معناه وإنْ أريدَ به اللازم، فلا تنافي بينهما.

فإنْ لم يُرَد المعنى الحقيقي وإنما عُبر بالملزوم عن اللازم بأنْ يُطلق المتكلم "كثرة الرماد" على اللازم وهو الكَرَم و"طول النجاد" على اللازم وهو طول القامة - مِن غير ملاحظة الحقيقة أصلًا، فهو مجاز؛ لأنه استُعمل في غير معناه، والعلاقة فيه إطلاق الملزوم على اللازم.

وقد عُلِم من ذلك أن الكناية تكون حقيقة وتكون مجازًا، ولا مخرج لها عنهما، وهذا على طريقة بعض المتأخرين، وإليه ذهب الشيخ تقي الدين السبكي وغيره، وهو الراجح.

ووراء ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: [أنها]

(1)

مجاز مطلقًا؛ نظرًا إلى المراد منه، وهو مقتضَى قول صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] حيث فَسَّر "الكناية" بأن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له.

نعم، شَرَط في الكناية إمكان المعنى الحقيقي، ذَكَره في قوله تعالى:{وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77]، فقال: إنه مجازٌ عن الاستهانة والسخط، فإطلاق النظر إلى فلان

(1)

في (ز، ظ، ق): أنه.

ص: 897

بمعنى الاعتداد به والإحسان إليه كناية إذا أُسند إلى مَن يجوز عليه النظر، ومجاز إذا أُسند إلى مَن لا يجوز عليه النظر. وعلل ذلك بأنَّ مَن يجوز عليه النظر إذا اعتد بإنسان، التفت إليه وأعاره نظره، فكثر حتى صار عبارة عن الإحسان.

وحاصل ما ادَّعاه أن المجاز أعَم مِن الكناية، فَمِمَّن يجوز عليه النظر كناية ومجاز، وممن لا يجوز عليه النظر مجاز فقط.

ثانيها: إنها حقيقة مطلقًا. وإليه جنح كثير من البيانيين، وتبعهم ابن عبد السلام في كتاب "المجاز"، فقال: الظاهر أن "الكناية" ليست من المجاز؛ لأنها وإن استُعملت فيما وُضع له لكن أُرِيدَ بها الدلالة على غيره، كدليل الخطاب في قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وكذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء والعرجاء.

قلتُ: ونحوه النهي عن الدباء والحنتم و [المقَيَّر]

(1)

، فإنه يَنْصَبُّ إلى ما يَلزم منه وهو النبيذ.

ثالثها: أنها لا حقيقة ولا مجاز. وهو قول السكاكي، وتبعه في "التلخيص"، ووافق السكاكي في موضع آخَر البيانيين في كونها حقيقة. وجمع بعض الشُّراح بين كلاميه بتأويل.

وقال الإمام في "نهاية الإيجاز": (إن اللفظ إذا أُطلق وأريد به معناه الأصلي ولازِمه، يكون كناية، وإنْ أريد اللازم فقط يكون مجازًا).

ثم قال: (وليست الكناية من المجاز؛ بدليل أنها ضد المقصود بمعنى اللفظ)

(2)

إلى آخِره.

ولكن هذا يقتضي أنه لا يكون كناية حتى يُراد المعنى الحقيقي والمجازي معًا، فلا يُقال:

(1)

صحيح البخاري (رقم: 500)، صحيح مسلم (رقم: 17).

(2)

نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز (ص 160 - 162).

ص: 898

"كثير الرماد" إلا عند وجود رماد حقيقةً وإلا لكان كذبًا؛ لأنه بلا تأويل. فإنْ كان المراد الكَرَم ليس إلَّا، فهو مجازٌ، إلا أنْ يُقال: إنما يكون كذبًا أنْ لو أريد باللفظ المعنى الحقيقي بالذات فقط، فأما إنْ أريد به التوصل إلى المعنى اللازم، فلا يكون كذبًا.

فإنْ قِيل: هل يُطابق تفسيرُ "الكناية" بما ذُكِر تفسيرَ الأصوليين والفقهاء بأنها اسمٌ استتَر فيه مرادُ المتكلم؛ لِتردده بين محتملين؟ كقوله في البيع: "جعلته لك بكذا"، وفي الطلاق:"أنت خَلِيَّة"، فيدخل في ذلك المجمَل ونحوه مما لم تتضح دلالته، مأخوذًا مِن "كَننتُ" و"كَنيتُ" إذا لم تُفْصح بالشيء.

ويقابلها "الصريح"؛ لأنه اسمٌ لِمَا هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فَهْمه المراد، ولا يَسبق غيرُه عند الإطلاق. كقوله:(أنت طالق)، و:(أنت حر)، و:(بعتُ واشتريت)، ومنه سُمي القصرُ صَرْحًا؛ لظهوره وارتفاعه على سائر الأبنية.

والغرض من العدول إلى "الكناية" وغيرها إما التحرز عن قبح [الصريح]

(1)

، نحو:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، وإما إخفاء المكني عنه عن السامع، أو نحو ذلك.

قلتُ: نعم؛ لأن قوله مثلًا: "حبلك على غاربك" حقيقته إلقاء الحبل على رقبتها، وليس المراد إلا لازِمه فيما يفعل بالبعير عند إرادة تسييبه إلى حيث شاء، وكذا الباقي، فأحَدُ المعنيين لازِمٌ للآخَر، والمقصود اللازم، لا الملزوم؛ فلذلك افتقر إلى نيةٍ تُميزه عن إرادة المعنى الأصلي.

ومِن هنا يخرج جوابُ سؤال، وهو أن من قاعدة الشافعي حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، فلِمَ لا يُحمل لفظ الكاني عليهما حتى يقع على كل حال وإنْ لم يَنْوِ؟

(1)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): التصريح.

ص: 899

لأنَّا نقول: ذاك في لفظٍ وُضِع لمعنى حقيقةً ثم لمعنى آخَر مجازًا، فيُحمل عليهما؛ احتياطًا؛ للظفر بمراد التكلم، وذلك في ألفاظ الشرع التي اضطُررنا إلى العمل بها. أمَّا في غير كلام الشارع فليس لنا أن نحتاط ونوقع بالاحتمال، لاسيما و"الكناية" إنما تدل على الشيء بالإرادة، لا بالوضع كما سبق تقريره.

وأما "التعريض" فهو: القولُ المستعمل في معناه مرادًا منه ذلك لكن مع التلويح بغيره، كقول إبراهيم عليه السلام:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، غَضِبَ أن عُبدت هذه الأصنام الصغار، فكسرها، فإنما القصد التلويح بأنَّ الله تعالى يغضب لعبادة غيره ممن ليس بإله مِن طريق الأَوْلى مما ذُكِر.

وبذلك يُعْلم أن اللفظ إذا لم يطابق في الخارج معناه الحقيقي، لا يكون كذبًا إذا كان المراد به التوصل إلى غيره بكناية (كما سبق) أو تعريض (كما هنا).

وإنْ سُمي هذا كذبًا فمجاز باعتبار الصورة، كما جاء:"لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"

(1)

المراد صورة ذلك، وهو في نفسه حق وصدق؛ لأنه هو وسائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- معصومون. وقد عُلم مِن تفسير "التعريض" بذلك أنه حقيقة، لا مجاز؛ لأنه مستعمَل فيما وُضع له أوَّلًا.

والفرق بين "التعريض" وأحد قِسمَي "الكناية" أن الملازمة هناك واضحة بانتقال الذهن إليها سريعًا.

تنبيه:

"الكناية" تنقسم إلى أقسام، ذكر شيخنا الشيخ بدر الدين الزركشي في كتاب "علوم

(1)

صحيح البخاري (رقم: 3179)، صحيح مسلم (رقم: 2371).

ص: 900

القرآن" منها عشرة أقسام، أغربها أنْ تعمدَ إلى جملة وَرَدَ معناها على خلاف الظاهر فتأخذ الخلاصة منها مِن غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز، فتعبر بها عن مقصودك

(1)

.

وهذه "الكناية" استنبطها الزمخشري، وخرَّج عليها قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فإنه كناية عن الملك؛ لأن الاستقرار على السرير لا يحصل إلا مع الملك، فجعلوه كناية عنه

(2)

. وقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67] الآية، فإنه كناية عن عظمته وجلاله [مِن غير]

(3)

ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهتين: حقيقة، ومجار.

وقد اعترض الإمام فخر الدين ذلك بأنَّ فيه فتح باب تأويلات الباطنية، فلهُم أنْ يقولوا: المراد مِن قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] الاستغراق في الخدمة مِن غير ذهاب إلى نعل وخلعه، ونظائر ذلك

(4)

.

وجوابه: أن "الكناية" إنما يصار إليها عند قيام دليل على عدم إجراء اللفظ على ظاهره مع قرائن تحتف به دالَّة على المراد كما سبق من الأمثلة، بخلاف خلع النعلين ونحوه.

وقولي: (لَكِنْ بِتَلْوِيحٍ بِغَيْرٍ نُبِذَا) أي: لم يقصد باللفظ الدلالة عليه مع عدم قصد الأصلي، بل المقصود هو الأصلي، والآخَر إنما لُوِّح به من غير أن يكون مقصودًا بدلالة اللفظ، بل مُطَّرحًا، والله أعلم.

(1)

البرهان في علوم القرآن (2/ 309).

(2)

الكشاف (3/ 54).

(3)

في (ز، ق): فعبر.

(4)

مفاتيح الغيب (22/ 7).

ص: 901

ص:

427 -

أَمَّا "الْمُرَكَّبُ" الَّذِي تَقَدَّمَا

فَإنْ يُفِدْ فَبِـ "الْكَلَامِ" وُسِمَا

الشرح:

لَمَّا فرغتُ من بيان المفرد من القول وأقسامه، شرعتُ في ذِكر المركَّب منه وأقسامه.

فالمركب إنْ أفاد فهو الموسوم بِـ "الكلام"، وإلا فلا.

فَـ "الكلام": قول مفيد، ويُسمى أيضًا "جُملة"، نحو:"زيد قائم" و"خرج عمرو".

وظاهر كلام الزمخشري وابن الحاجب -واختاره أبو حيان- أن الجملة والكلام مترادفان.

والصواب أنَّ "الجملة" أعم؛ لصدقها على ما لا يفيد أو لا يفيد فائدة يحسُن السكوت عليها، كجملة الصِّلَة وجملة الشرط وجملة الجزاء، ونحو ذلك.

فدخل في قولنا في تعريف الكلام: (قول) كلُّ لفظ له معنى، سواء المفرد والمركب التامُّ وغيرُ التام، وسواء الكَلِمُ (وهو ما فيه ثلاث كلمات) وما ليس بكلم (وهو ما دُون ذلك)، وخرج بقيد "الإفادة" كل ما سِوى الكلام.

وقد عُلم من تعريف "الكلام" بذلك أمور:

الأول: اعتبار التركيب فيه؛ لأنَّ الفائدة إنما هي من الحكم بشيء على شيء. وخالف ابن طلحة - مِن المغاربة- في ذلك؛ تَعلُّقًا بأن حرف الجواب كَـ "نعم" و"بلى" و"لا" في جواب نحو: (أقام زيد؟ ) أو (ألم يَقُم زيد؟ ) مفيدٌ؛ فيكون كلامًا مع كونه مفردًا.

ورُدَّ بأن الفائدة مِن المقَدَّر بعده، فهو الكلام، إذِ التقدير:(نعم، قام زيد)، أو:(بلى، قام)، أو:(لا، ما قام).

ص: 902

الثاني: اشتراط الإفادة فيه، وهو المشهور، وزعم بعضهم أن المهمل يُسمى "كلامًا". حكاه ابن فارس، ونحوه ما حكى بعض شُراح "اللمع" في الأصول أن أبا إسحاق حكى في كتابه "الإرشاد" وجهين لأصحابنا في أن المهمل كلام؛ أَمْ لا؟ قال: والأشبه أنه يسمى "كلامًا" مجازًا.

الثالث: أنَّ التركيب المفيد هو الذي يتألف مِن مُسنَدٍ ومُسنَدٍ إليه، وذلك المسنَد أَعم أنْ يكون اسمًا أو فِعلًا، فلا يتألف الكلام إلا مِن اسمين أو اسم وفِعل، لا مِن حرفين؛ لعدم ما يَصلح أن يكون مُسنَدًا أو مُسنَدًا إليه، ولا مِن حرف واسم؛ لعدم صلاحية الحرف أن يكون مسنَدًا أو مسنَدًا إليه.

وخالف في ذلك الجرجاني وطائفة؛ تمسُّكًا بنحو: (يا زيد)، فتألَّف مِن حرف النداء والمنادَى.

ورُدَّ بأنه مفعول بفعل محذوف دَلَّ عليه حرف النداء، والتقدير:(أدعو -أو أنادي- زيدًا).

ومعناه حينئذٍ الإنشاء، لا الخبر كما سيأتي.

على أنه قيل: العامل فيه هو الحرف؛ لأنه صار بدلًا مِن الفعل، ولا ينافي ذلك كونه تَرَكَّب مِن المحذوف الذي هذا بدل منه. ألا ترى إلى قول سيبويه في "أمَّا": (إن معناها مهما يكن من شيء [فكذا]

(1)

(2)

؟

فجعل الحرف قائمًا مقام أداة شرط وجملة شرط، فالكلام في الحقيقة هو ذلك المحذوف مع ما بَعده.

(1)

في (ز، ق، ظ): فكذا وكذا.

(2)

الكتاب لسيبويه (3/ 137).

ص: 903

ولا يتركب الكلام أيضًا مِن حرف وفعل؛ لعدم المسنَد إليه.

وخالف القاضي وإمام الحرمين، تَعَلُّقًا بإفادة نحو:(قد قام).

ورُدَّ بأن فيه ضميرًا مستترًا.

ولا مِن فعلين؛ لعدم المسنَد إليه أيضًا.

فالأقسام ستة: اثنان صحيحان، وأربعة لغو.

الرابع: لا فرق في المركَّب بين ما فيه مستتر (نحو: "قُم". أي: أنت) أو محذوف إما بعضه (نحو: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] أي: خلقهن الله) أو كُله (كما في حروف الجواب كما سبق).

الخامس: المراد بـ "المفيد" هو ما يحسُن السكوت عليه، فلا يحتاج لتقييد الإفادة بذلك؛ لأن الإفادة هي ذلك، خلافاً لمن زعم أن المفيد ضربان: تام وناقص. فالتام ما يحسُن السكوت عليه، فيقيَّد؛ ليخرج الناقص، كجملة الصلة ونحوها. زعم ذلك ابن طلحة في "شرح الجزولية" وغيره، وتبعهم بدر الدين ابن مالك في "شرح الخلاصة"، والجمهور على خِلافِه، فقد قرر والده في "شرح الكافية" أن في الاقتصار على "مُفِيد" كفاية، وهذا ظاهر؛ لأن الفائدة هي حصول حُكم زائد، والناقصة ليس فيها حُكم مُحَصَّل.

نعم، كثير مِن النحاة -كالزمخشري وابن الحاجب كما سبق- يُسمِّي جملة الشرط وجملة الصلة ونحوهما "كلامًا"؛ لوجود أصل الفائدة وإنْ لم يَحسُن السكوت عليها، [و]

(1)

اختاره أبو حيان. فهو أَبلغ مِن جعلها مفيدة لا كلامًا كما سبق عن ابن طلحة ومَن تبعه. والذي نَص عليه سيبويه في مواضع وتبعه المحققون أنه لا يُسمَّى "كلامًا"[و]

(2)

"مفيدًا" إلا ما

(1)

كذا في (ظ، ق). لكن في سائر النُّسخ: وأنه.

(2)

ليس في (ز، ظ).

ص: 904

يحسُن السكوت عليه، وجرى عليه الجزولي وابن معطي والحريري وغيرهم.

السادس: يؤخذ من الاقتصار على قول الإفادة أيضًا أنه لا يشترط أن يكون مقصودًا، وعبارة "التسهيل" تُوهم اشتراطه، إذ قال:(والكلام ما تضمَّن مِن الكلم إسنادًا مفيدًا مقصودًا لذاته)

(1)

. وقال المصنف في شرحه: (إنه احترز بِ "القصد" عن نحو كلام النائم والساهي وبعض الطيور، وإنه احترز بِ "ذاته" عن الجمل الموصول بها، فإن جملة الصلة مقصودة للتتميم لا لذاتها)

(2)

.

ولكن يُقرَّر كلامه بأنه إنما شرط ذلك في الإسناد، لا في اللفظ المتضمن له؛ لأن الإسناد وإن كان مفيدًا فقد يقع لا بالقصد أو بالقصد لكن لا لذاته، وأما اللفظ فإنما يكون مفيدًا إذا تضمن الإسناد المقيَّد بهذه القيود، وإلا فتنتفي عنه الإفادة أصلًا.

والحاصل أن مَن قيَّد اللفظ بالإفادة لم يحتج إلى قصده لذاته، ومَن قيد [به الإسناد]

(3)

الذي تضمنه اللفظ فهو محتاج للتقييد المذكور.

نعم، قد يُدَّعَى أن التصريح بالإسناد يُغْني عن التقييد المذكور؛ لأن غير القاصد لا يقال: إنه أَسْنَد. ومما يوضح ذلك أن المفيد في الحقيقة إنما هو المتكلِّم، وإسناد الإفادة لغيره إنما هو مجاز؛ لكونه مِن إسناد الشيء إلى متعلَّقه، وهو آلتُه هنا.

وما قررتُ به كلام "التسهيل" أَجْوَد مِن تأويله بالحمل على مطلق الفائدة لا الفائدة المصطلح عليها وحمل كلامه في "الكافية" و"الخلاصة" على الفائدة المصطلح عليها. أو أنه في "التسهيل" أراد أن ينص بالصريح على ما يُفْهَم مِن "مفيد" بطريق الالتزام.

(1)

تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد (ص 3)، الناشر: دار الكاتب العربي، تحقيق: محمد بركات.

(2)

شرح تسهيل الفوائد (ص 5، 8).

(3)

كذا في (ز، ت، ق)، لكن في (ص): بالإسناد.

ص: 905

فإنَّ في ذلك تعسُّفًا ونظرًا.

وبنى بعضهم على اشتراط القصد في الكلام مسائل في الفقه، كسجود التلاوة لقراءة النائم والساهي وبعض الطيور وغير ذلك. فكلام أصحابنا مجزوم فيه بعدم الاستحباب في الجميع، ولو حلف لا يكلمه فكلمه وهو نائم أو مغمى عليه، لم يحنث.

السابع: يؤخذ مِن الاقتصار على "مفيد" أيضًا أنه لا يشترط في الإفادة تحصيل عِلم للسامع بما ليس عنده، وقد حكى ابن دقيق العيد أن بعضهم شرط ذلك.

وضُعِف بأنه يَلزم منه أن القضايا البديهية لا يُسمى شيء منها "كلامًا" نحو: (الواحد نِصف الاثنين) وليس كذلك، بل يُسمى "كلامًا"؛ لأنها [فائدة]

(1)

يصح السكوت عليها، والمدار إنما هو على ذلك سواء استفاد المخاطَب [أوْ]

(2)

لا؛ بدليل أن المخاطَب إذا كان يَعلم حُكمًا وأُخبر به، لا يخرج الكلام بذلك عن كونه كلامًا.

الثامن: يؤخذ مِن إطلاق كونه مفيدًا أنه لا فرق بين أن يصدر مِن متكلم أو أكثر، وذلك بأن يصطلح اثنان على أن يذكر هذا الفعلَ والآخَرُ الفاعلَ، أو أحدهما المبتدأَ والآخَرُ الخبرَ.

وخالف في ذلك القاضي والغزالي في "المستصفى" في الكلام على تخصيص العموم، فشرَطَا اتحاد المتكلم، ونقله ابن مالك في "شرح التسهيل" عن بعض العلماء، ولعله قصد هذين؛ لأن ظاهره أن مَن قال به ليس من النحاة وأن النحاة إنما يطلقون ذلك.

وردَّه بأن الخط لا يخرج بتعدد الكاتب عن كونه كتابة، فكذلك هذا، وممن صحح العموم أيضًا أبو حيان في "الارتشاف".

(1)

في (ز): مفيدة فائدة.

(2)

كذا في (ص، ض، ش، ق)، لكن في (ز، ت): أم.

ص: 906

وذكر ابن مالك في الشرح أيضًا جوابًا آخَر وهو التحقيق: أن الكلام لا بُدَّ له من إسناد، وهو لا يكون إلا مِن واحد، فإنْ وُجِد مِن كل منهما إسناد بالإرادة، فكل منهما متكلم بكلام مركب ولكن حذف بعضه لدلالة الآخَر عليه، فلم يوجد كلام مِن متكلمَين، بل كلامان مِن اثنين.

ومما يتفرع على ذلك: لو قال: (لي عليك ألف)، فقال المخاطَب:(إلا عشرة) أو: (غير عشرة) أو نحو ذلك، هل يكون مُقِرًّا بباقي الألف؟ فيه خلاف، قال في "التتمة": المذهب أنه لا يكون مُقِرًّا.

التاسع: هذا التعريف للكلام إنما هو في الاصطلاح النحوي، ومَن يذكره مِن الأصوليين فإنما أخذه منهم.

وأما الكلام في اللغة فله خمس إطلاقات:

أحدها: مطلق التلفظ، ومنه حديث البراء بن عازب:"فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام"

(1)

، وحديث ابن مسعود:"وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة"

(2)

، وتقول:(يَكَلم الصبي) تُريد أصل التلفظ وإنْ لم يُفِد. ولو حلف لا يتكلم، حنث بمطْلَق اللفظ.

ثانيها: المعنى القائم بالنفس، وسيأتي بيان الخلاف في إثباته.

ثالثها: الخط، ومنه قولهم: ما بين دَفتَي المصحف كلام الله.

رابعها: الرَّمز، ومنه قوله تعالى:{أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41].

(1)

صحيح البخاري (4260)، صحيح مسلم (رقم: 539) من حديث زيد بن أرقم.

(2)

سنن أبي داود (رقم: 924) بلفظ: (وَإِنَّ الله جَلَّ وَعَزَّ قد أَحْدَثَ من أَمْرِهِ أَنْ لَا تَكَلَّمُوا في الصَّلَاةِ). قال الألباني: حسن صحيح. (صحيح أبي داود: 924).

ص: 907

خامسها: ما يفهم من حال الشيء، ويُذكر مِن شواهده قوله تعالى:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] على أحد التفسيرين، والآخَر أنه نُطْقٌ حقيقةً، ونحو قول الشاعر:

امتلأ الحوضُ وقال قطني

مهلًا رويدًا قد ملأتُ بطني

كما استدل على الرمز بقوله:

أشارت بطرف العين خِيفةَ أهلها

إشارةَ مذعورٍ ولم تتكلم

فأَيقنتُ أن الطرفَ قد قال مرحبا

وأهلًا وسهلًا بالحبيب المتيَّم

ولكن ليس في هذا كله لفظ الكلام، بل القول، وإنما ينبغي أن يستشهد في الرمز بقوله:

أرادت كلامًا فاتَّقَتْ من رَقِيبها فلم [يك]

(1)

إلا [رمزها]

(2)

بالحواجب

أقامه مقام الكلام اللفظي، على ما فيه من نظر.

وفي حديث النفس بقوله:

لو كنتَ قد أوتيتَ عِلم الحُكْل

عِلمَ سليمان كلام النمل

قال الجوهري: (الحُكْل -بضم الحاء وسكون الكاف- ما لا يُسمع له صوت)

(3)

.

فَعَلَى هذا يكون المراد ما يُفهم مِن أحوال النمل وما في نفسها.

نعم، إنْ جُعل كلامها نطقًا حقيقيًّا لا يسمعه إلا سليمان معجزةً له، فلا شاهد فيه حينئذٍ.

(1)

في (ز، ظ): يكن.

(2)

كذا في (ص، ق). لكن في سائر النُّسخ: ومؤها.

(3)

الصحاح (4/ 1672).

ص: 908

العاشر: حقيقة لفظ "الكلام" أنه اسم مصدر لِـ "تكلم تكلُّمًا".

وأما مصدر "كلم" فَ "تكليم"، ومصدر "كالَمَ": مُكالمة وكِلام (بكسر الكاف والتخفيف) كـ "جادل مجُادلة وجِدالًا".

وجعل الجوهري "كِلَّامًا"(بكسر الكاف والتشديد) مصدرًا آخر لـ "كلم"، قال: نحو: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} [النبأ: 28]

(1)

.

وظاهره أنه قياس، لكنه سماع.

ومصدر "تكالم": التكالُم (بضم اللام).

على أنه قد اختُلف في مدلول اسم المصدر هل هو مدلول المصدر حتى يكونا مترادفين؟ أو مدلوله لفظ المصدر، فدلالته على مدلول المصدر بواسطة، لا أنه مرادف له؟ فيه خلاف للنحاة لا طائل تحته.

الحادي عشر: عُلِم مِن تعريف "الكلام" أنه مما يحتاج للتعريف، ونُقل عن القاضي أبي بكر قولان في كونه يُحَد أو لا يُحَد.

والمانِعُ قال: إنه مركب مِن الأمر والنهي والخبر والاستخبار وغير ذلك، ولا عبارة تحيط به، وإنما يتبين بالتفصيل.

كأنه يشير إلى أنه ليس له حقيقة مشتركة بين أقسامه، وهذه الشبهة هي المذكورة في أن "العلم" لا يُحَد، والحقُّ خلافه كما سبق. والله أعلم.

(1)

الصحاح (1/ 210، 5/ 2023).

ص: 909

ص:

428 -

وَالْخُلْفُ فِيهِ قِيلَ: في النَّفْسَانِي

حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ: وَاللِّسَانِي

429 -

مُشْتَرَكًا، وَحُكِيَ الْقَوْلَانِ

عَنِ الْإمَامِ الْأَشْعَرِيْ، وَالثَّانِي

430 -

مَحَلُّ بَحْثِ الْفَنِّ أَوْ كَنَحْوِ:

تَفْسِيرٍ، اوْ بَيَانٍ، اوْ كَالنَّحْو

الشرح:

قد سبق أن "الكلام" قِسم مِن المركَّب القولي، لكن قد يقوم معناه بنفس المتكلم مِن غير تَلفُّظ، ويسمى هذا "الكلام النفساني"، وهو في المخلوق: الفِكر الذي يُزَوِّرُه الإنسان في نفْسه قبل أن يُعَبر عنه باللسان، كما قال الأخطل:

إن الكلام لَفِي الفؤاد، وإنما

جُعلَ اللسانُ على الفؤاد دليلا

وعبَّر عنه ابن مالك بِ "المعنوي"، قال: وهو الذي أشار إليه عمر رضي الله عنه بقوله: "وكنت زَوَّرْتُ مقالةً أعجبتني أردتُ أن أقدمها بين يدي أبي بكر"

(1)

.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، ومن المعلوم أن قولهم:(إنه رسول الله) حقٌّ وأن التكذيب إنما هو لعدم مواطأة لسانهم ما أَسَرُّوه في أنفسهم؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، إلى غير ذلك مما لا سبيل إلى إنكاره.

وأما في الخالق عز وجل فالمراد به صفة قائمة بذاته تعالى ليست بحرف ولا صوت ولا

(1)

صحيح البخاري (رقم: 6442).

ص: 910

غير ذلك مما يكون حادثًا.

وقد اختُلف في إطلاق "الكلام" على كل مِن الأمرين اللفظي المفسِّر لمَا في النفس وحديثِ النفس في الموضعين على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه حقيقة في النفساني، مجاز في اللساني، مِن باب إطلاق اسم المدلول على الدالّ، كما تقول:(سمعتُ عِلمًا) تريد: سمعتُ عبارة تدل على عِلم. واختاره إمام الحرمين في "باب الأوامر" من "البرهان"، وهو أحد قولَي الأشعري وطوائف، ولكن قصدهم النفساني القديم، لا مطلق النفساني، فإنهم يوافقون على أنه في الحادثِ حقيقةٌ في اللفظ، فَعَلَى هذا لا يكون ما سبق مِن إطلاق "الكلام" على النفسي فيه دلالة في محل النزاع وإنْ كانوا يذكرونه في الاستدلال، إنما يستشهد به على إثبات النفساني في الجملة، ولو كان يُطلق عليه "كلام" مجازًا.

وأما إثباته في القديم فإنما ثَبتَ بالبراهين القاطعة المذكورة المشهورة في فن أصول الدين، فإنها أصعب مسائله.

وإنما صاروا إلى إثباته بالدلائل ردًّا على المعتزلة دعواهم المؤدِّية إلى خَلْق القرآن وعلى الحشوية دعواهم المؤدية إلى أن ذاته تعالى تكون مَحلًّا للحوادث.

القول الثاني: أنه مشترك بين النفساني واللساني، وهذا هو القول الثاني مِن قولَي الأشعري، ونقله الهندي عن الأكثرين، وحكاه في "المحصول" عن المحققين، وقال إمام الحرمين: إنه الطريقة المرْضية عندنا. وكذا قال ابن القشيري والشيخ أبو إسحاق، وعبارته في ذلك في كتاب "الحدود":

("الكلام" نوعان: قديم ومحدَث. فالمحدَث: كلام المخلوقين، وينقسم إلى معنى في النفس يجده كل عاقل بالضرورة قبل أن ينطق به، وإلى ما يكون أصواتًا تترتب، وكلاهما على الحقيقة "كلام". والقديم: هو كلام الله سبحانه وتعالى، قائم بذاته المقدسة، لا يشبه كلام

ص: 911

المخلوقين، فليس بحرف ولا صوت؛ لأنَّ الكلام صفة، ومن شأن الصفة أن تتبع الموصوف، فإذا كان الموصوف لا يشبهه شيء، فكذلك صفاته، وإنما غلط الخصوم في إلحاقهم الغائب بالشاهد).

قال: (فحصل أن كلام الخلق ينقسم إلى نفسي ولفظي، بخلاف القديم، كما تقول: عِلم المخلوق ينقسم إلى ضروري وكَسْبي، بخلاف القديم. فكما أن عِلمنا لا يُشبه عِلمه كذلك كلامنا لا يُشبه كلامه وإنْ كان للكلام في الجملة حد جامع وهو الصفة التي يستحق مَن قامت به أن يشتق منها اسم "المتكلِّم"، لكن يختلفان في التفصيل).

قال: (ومن أصحابنا مَن قال: كلام الخلق في الحقيقة هو ما في النفس، وما يوجد بالنطق يسمَّى "كلامًا" مجازًا).

قال: (والأول أصح؛ لِمَا قُلناه، ولأنه أحسم [للتشعث])

(1)

. انتهى

وعلى هذين القولين اقتصرتُ في النَّظم؛ لأنهما الراجحان والمنقولان عن الأشعري، ولا يكاد يرجح أحدهما على الآخر.

وأما القول الثالث وهو قول المعتزلة: (إنه حقيقة في اللساني) فقول ضعيف لم يشتهر عن أحدٍ مِن أئمة أهل السُّنة موافقةٌ عليه.

نعم، نُقل عن الأشعري أيضًا، لكنه بعيد عن قواعده؛ فلذلك لم أَتعَرَّض في النَّظم له.

وهذه المسألة أصل عظيم مِن أصول الدين حتى قيل: إنه إنما سُمي عِلم الكلام لأجلها؛ لأنها أعظم مسألة فيه. وقيل: لغير ذلك.

وقولي: (مُشْتَرَكًا) نصب على الحال.

(1)

في (ش): للتشغب.

ص: 912

وقولي: (عَنِ الْإمَامِ الْأَشْعَرِيْ) إشارة إلى أنه إمامنا وقدوتنا، نلقَى الله عز وجل باتِّباعه في معتقداته، وهو الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، إمام المتكلمين وناصر السُّنة، مولده سَنة ستين ومائتين، ووفاته سَنة أربع وعشرين وثلاثمائة ببغداد.

تنبيه:

مِن فوائد الخلاف في هذه المسألة المذكورة في الفقه أن المصلِّي إذا نظر في مكتوب وهو في الصلاة وقرأه في قلبه مِن غير تلفُّظ، لم تبطل، وقيل: تبطل إنْ طال. حكاه ابن كج.

ومنها: لو قرأ الجنُب أو الحائض القرآن في نفسه ولم يتلفظ، لا يكون حرامًا؛ لأنَّ المدار في الأمرين على اللفظ باللسان ولم يوجد، بخلاف ما إذا دار الحكم على الأعم كالغيبة بالقلب من غير تلفُّظ فإنه حرام كما صرح به الغزالي في "الإحياء" وتبعه النووي في "الأذكار"؛ لأن "الغيبة" ذِكر الشخص بما يكرهه، فلا فرق بين اللسان والجنَان.

ومنها: في قوله صلى الله عليه وسلم في الصائم: "فإنِ امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم"

(1)

هل يقول بقلبه أو بلسانه؟ وجهان:

نقل الرافعي عن الأئمة الأول، ورجح النووي في "الأذكار" و"لغات التنبيه" الثاني، وفي "شرح المهذب":(إنه الأقوى، فإنْ جَمع بينهما فَحَسَن)

(2)

.

واستحسن الروياني وَجْه التفصيل بين النفل (فيقوله بقلبه) والفرض (فبلسانه).

(1)

صحيح البخاري (رقم: 1795)، صحيح مسلم (رقم: 1151) واللفظ لمسلم.

(2)

المجموع شرح المهذب (6/ 398) الناشر: مكتبة الإرشاد - جدة.

ص: 913

ومنها: حلف لا يتكلم، فتكلم في نفسه. قال الخوارزمي في "الكافي": يحتمل وجهين، أحدهما: لا يحنث، ويحمل على الكلام المتعارف بين الناس.

قال: والأصح أنه يحنث؛ لأنه كلامٌ حقيقة.

ومنها: لو تكلم بطلاقها في قلْبه من غير تلفُّظ، لا يقع عليه طلاق. وكذا العتق ونحوه، وكذا العقود والفسوخ والاستثناء في الطلاق ونحوه بالقلب، وكأنَ ذلك كله لحديث:"إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفُسها ما لم تتكلم أو تعمل"

(1)

.

نعم، لو حرَّك لسانه بالطلاق ولم يرفع صوته بحيث يسمع السميع لكن يُدرك من التحريك أنه نطق به، يقع الطلاق على أحد الوجهين، والثاني: لا؛ لأن المدار فيه على التصويت، فكما لم يجعل مِثله قراءة لم يجعل كلامًا.

وفي النذر بالقلب وجهان، أصحهما عدم الصحة.

وقولي: (وَالثَّانِي مَحَلُّ بَحْثِ الْفَنِّ) أي: إن "الكلام" وإن كان يُطلق على النفساني -على الخلاف السابق- فإنما محل كلام أهل فن أصول الفقه في اللساني؛ لأنه الذي يُستدل به في الأحكام ويُتكلم على الأقسام الموصلة إلى فَهْمه، وكذلك هو أيضًا محل كلام المفسرين وأهل عِلم المعاني والبيان والنحو ونحو ذلك من تصريف وعَروض وغيرهما كما سبق بيانه في تعريف القرآن أول الباب الأول، والله تعالى أعلم.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 914

ص:

431 -

فَمَا بِذَاتِهِ يُفِيدُ الطَّلَبَا

فَـ "أَمْرٌ" اوْ "نَهْيٌ" إذَا مَا طُلِبَا

432 -

فِعْلٌ وَتَرْكٌ، وَكذَا "اسْتِفْهَامُ"

إنْ كَانَ فِيهِ يُطْلَبُ الْإعْلَامُ

433 -

وَشِبْهُ ذَا "التَّنْبِيهُ" فِيمَا يَعْنِي

كالْعَرْضِ وَالتَّحْضِيضِ وَالتَّمَنِّي

434 -

وَكَالرَّجَا، وَمَا بِلَفْظِهِ حَصَلْ

وُجُودٌ "الْإنْشَاءَ" سَمِّ حَيْثُ حَلْ

الشرح:

أي: إذا كان الكلام اللساني هو محل بحث أصول الفقه، فلا بد مِن بيان أنواعه والفرق بينها؛ ليحصل الاستدلال بها على المراد، وإنْ كانت تلك الأقسام في النفساني -على المرجَّح أيضًا- لكن الحاجة لِمَا في اللساني كما بيناه.

وللناس في التقسيم طُرُق:

فمنهم مَن يقسمه إلى خبر وإنشاء؛ لأنه إن احتمل الصدق والكذب فهو الخبر، وإلا فهو الإنشاء.

وذلك الإنشاء إما طلب أو غيره، وهو المشهور باسم الإنشاء.

والطلب إما أمر أو نهي أو استفهام، نحو:(قُم ولا تقعد)، و:(هل عندك أحد؟ ).

و[مثال]

(1)

الإنشاء (وهو الذي [يُقْتَرف]

(2)

معناه بوجود لفظه): بعتُ واشتريتُ وأعتقتُ وطلقتُ، وما أَشْبَه ذلك.

ومنهم من يقسمه ثلاثة أقسام: خبر، وطلب، وإنشاء، ويرى بأن الإنشاء ليس منه

(1)

كذا في (ص). لكن في سائر النُّسخ: بيان.

(2)

كذا في (ز، ت). لكن في (ص، ظ): يقترن. وفي (ش): يفترق.

ص: 915

الطلب، بل قسيمه؛ لأن المطلوب مستدعَى الحصول في المستقبل، والإنشاء مدلوله يحصل في الحال، ولفظ الإنشاء سبب لوجود معناه، ولفظ الطلب ليس سببًا لوجود معناه.

وإنْ أُريدَ بالإنشاء إحداث شيء لم يكن فالكل إنشاء؛ لأن الخبر إحداث الإخبار به، ولا قائل بذلك.

ومنه مَن يقسمه إلى: خبر، وطلب كما قال ابن مالك في "كافيته":

قولٌ مفيدٌ طلبًا أو خبرا

هو الكلام، كاستمع وسترى

وكأنه رأَى أن الإنشاء فرع عن الخبر كما سيأتي بيانه، فيكتفي بذكر الخبر أو غير ذلك، وقد بسطتُ المسألة بسطًا شافيًا في "شرح الصدور بشرح زوائد الشذور" لابن هشام في النحو، فليطلَب منه؛ فإنه مهم.

وقد جريتُ في هذا النَّظم على تقسيمه إلى ثلاثة أقسام؛ لأنه أرجح الطرق وأوضحها.

فبدأتُ بذكر الطلب بقولي: (فَمَا بِذَاتِهِ يُفِيدُ الطَّلَبَا)، والتقييد بلفظ "بذاته" للاحتراز عما يفيده باللازم أو بالقرينة.

نحو: (أنا أطلب منك أن تخبرني بكذا)، أو:(أن تسقيني ماء)، أو:(أن تترك الأذى) أو نحو ذلك، فإنَّ هذا وإنْ كان دالّا على الطلب لكن لا بذاته، بل هذه إخبارات لازِمُها الطلب، ولا يُسمَّى الأول استفهامًا ولا الثاني أمرًا ولا الثالث نهيًا لذلك.

وكذا نحو قوله: (أنا عطشان)، كأنه قال:(فاسْقني)، فإن هذا طلبٌ بالقرينة، لا بذاته.

وربما عُبِّر عن هذا القيد بكونه بالوضع، وربما عُبِّر بما يُفيده إفادةً أوليَّة، والكل صحيح.

وقولي: (فَـ "أَمْرٌ" اوْ "نَهْيٌ") إلى آخِره -إشارة لانقسام الطلب لأمر ونهي واستفهام؛ لأنه إنْ طلب به تحصيل فِعل فأمر، أو ترك فنهيٌ.

وربما قُيدا بكونهما مِن الأعلى لِمَن دُونه، فإنْ كان بالعكس فدعاء، وإنْ كان مِن مساوٍ

ص: 916

فالتماس.

هذا في الاصطلاح، وأما في اللغة فلا فرق، وستأتي المسألة في باب الأوامر والنواهي وأن الاستعلاء أيضًا لا يُعتبر.

وإنْ كان الطلب للإعلام بشيء لا لتحصيل فِعل ولا ترك فهو استفهام (استفعال مِن "الفَهْم")، فَ "السين" للطلب.

وما أحسن ما عبَّر عن ذلك البيانيون، فقالوا في "الأمر" و"النهي": إنهما طلب ما هو حاصل في الذهن أن يحصل في الخارج، وفي "الاستفهام" بالعكس، أي: طلب ما في الخارج أن يحصل في الذهن.

وقولي: (وَشِبْهُ ذَا "التَّنْبِيهُ") إلى آخِره -إشارة إلى قسم آخَر غير الثلاثة المذكورة، وهو المسمى بِـ "التنبيه"، وتحته أقسام:

العَرْض، نحو: ألا تنزل عندنا.

والتحضيض، نحو: هلا تنزل. وهو أشد وأَبْلَغ من العرض.

والتمني، نحو: ليت لي مالًا فأُنفِقه.

والرجاء، نحو:{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52].

والفرق بينه وبين التمني أن الترجي في الممكن، وأما التمني فيكون في المستحيل، واستُغني بذكر الترجي عن الإشفاق وهو ما يكون في المكروه.

وربما تُوُسِّع بإطلاق الترجي على الأعم، وقد اجتمعا في قوله تعالى:{عَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].

وهذا القِسم ليس طلبًا صريحًا، بل إيماء إلى الطلب؛ فلذلك عبَّرتُ عنه بقولي:(وَشِبْهُ ذَا)، أي: شبه الطلب الصريح، فليست الإشارة إلى الاستفهام، بل لمطلق الطلب.

ص: 917

ولكونه ليس طلبًا بالوضع جعله قومٌ -كالبيضاوي- قَسِيمًا له، حيث قال: إن الكلام إما أن يفيد طلبًا بالوضع وهو الأمر والنهي والاستفهام، أوْ لا، فما لا يحتمل الصدق والكذب تنبيهٌ وإنشاء، ومحتملهما الخبر.

وكذا عبَّر به في "جمع الجوامع"، ولكنه لا يُعرف منه ما يتميز به "التنبيه" من "الإنشاء"، ولا كَوْنه فيه طلبٌ ما، على أنَّ البيانيين يُطْلقون عليه اسم الطلب، فيجعلون الطلب أمرًا ونهيًا واستفهامًا وتنبيهًا.

وقولي: (وَمَا بِلَفْظِهِ حَصَلْ وُجُودٌ "الْإنْشَاءَ") إشارة إلى ما سبق في تعريف الإنشاء بأنه الذي يحصل معناه بوجود لفظه، فـ "الْإنْشَاءَ" منصوب بالفعل الذي بعده وهو "سَمِّ".

تنبيهات

الأول: ادَّعى القرافي في "الفروق" الإجماع على أن "الأمر والنهي والقَسَم والترجي والنداء" مِن أقسام الإنشاء، وهو جارٍ على ما قرره مِن تقسيم الكلام إلى خبر وإنشاء، وجرى عليه البيانيون في جعلهم الإنشاء أَعَم مِن الطلب.

أما على الطريقة الراجحة في جعله ثلاثة أقسام فلا يتأتى ذلك؛ ولهذا جعل الإمام الرازي وأتباعه الطلب غير الإنشاء.

نعم، جَعْلُه القَسَم والنداء من الإنشاء قطعًا ظاهر؛ لأن القَسَم جملة إنشائية يؤكَّد بها جملة خبرية ولو كانت صيغتها "أقْسم" ونحوه من المضارع، إذْ لو قلنا:(إنها خبرٌ)، لكان وَعْدًا بالقَسم، لا قَسَمًا.

وأما النداء فدائر بين:

- كَوْنه طلبًا؛ ولهذا يُقال في المنادَى: هو المطلوب إقباله بـ "يا" ونحوها.

ص: 918

- وكونه تنبيهًا؛ لأن "يا" فيه لتنبيه السامع؛ ولهذا يذكر غالبًا للإقبال بالقلب والخاطر لسماع كلام المتكلم وتَلَقِّي ما يريده.

- وكونه إنشاءً؛ لأنَّ "يا" في نحو: "يا زيد" نائبةٌ منابَ "أدعو" ونحو ذلك، وهذه الصيغة المقصود بها إنشاءٌ لا إخبار.

وقد يُدفع بذلك تعقُّب الإمام الرازي في تفسيره

(1)

-في سورة البقرة- وغيْره بأنَّ "يا" إنشاء و"أدعُو" خبر، فكيف يُقدر ذلك؟ وبأمور أخرى كلها ترجع إلى هذا التشكيك الذي قد علمتَ جوابه بادِّعاء أن "أدعو" أو "أنادي" إنشاء، لا خبر.

وكذا ما أَوْرَدَه على [مذهب]

(2)

سيبويه حيث قَدَّر في "يا زيد": (يا أنادي زيدًا) مِن أنَّ "أنادي" خبر عن النداء، والخبر عن الشيء غَيْرُه، أي: و"يا زيد" نداء قطعًا، فلا يكون تقديره "أنادي زيدًا".

وجوابه ما سبق: أن "أنادي" إنشاء، فيكون "يا" للتنبيه، و"أنادي" بعدها لإنشاء النداء وهو تنبيه أيضًا، لكن الأول تنبيه عام والثاني تنبيه خاص.

نعم، وقع خلاف في بعض المنادَى أنه خبر، لا إنشاء، فقال ابن بابشاذ في نحو:"يا زانية" أو "يا فاسقة": إنه خبر؛ لأنه مما يدخله الصدق والكذب.

وغَلَّطوه؛ إذْ لا فرق بين نداء الاسم ونداء الصفة، واحتمال الكذب إنما هو مِن جهة الوصف، لا مِن جهة النداء بالوصف، وهما غَيْران.

وفي "الغُرَّة" لابن الدَهَّان قريب مِن مقالته، فإنه قال:(إذا ناديتَ وصفًا فالجملة خبرية، أو اسمًا فالجملة غير خبرية؛ ولهذا لو قال: "يا زانية" وَجَبَ الحد). انتهى

(1)

التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)(2/ 76).

(2)

ليس في (ز، ق).

ص: 919

وقد فرَّع أصحابنا على البحث الذي ذكرناه في المنادى فيما لو قال لها: (يا طالق إنْ شاء الله) أنه لا يصح عَوْدُ الاستثناء إلى المنادى؛ لأنه ليس بإنشاء، فقالوا: لو قال لها: (يا طالق، أنت طالق ثلاثًا إنْ شاء الله) إنَّ الاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة؛ لكونه إنشاء يَقبل الاستثناء، فلا يقع الثلاث، ويقع عليه بقوله:(يا طالق) طلقة. فلو أَخَّر النداء فقال: (أنت طالق ثلاثًا إنْ شاء الله يا طالق)، لا يقع عليه شيء؛ لأن قوله:(يا طالق) مُرتَّبٌ على قوله أولًا: (أنت طالق ثلاثًا)، وذاك لم يقع به شيء، لتعقيبه بالاستثناء بالمشيئة.

لكن كوْن المنادَى لا يكون إنشاء إنما هو مِن جهة إنشاء الطلاق وأما مِن حيث إنه إنشاء لدعائه وطلبه فلا يمتنع.

الثاني:

مِن الإنشاء صِيَغُ العقود والفسوخ كما تَقدم، وهي خبر في الأصل بلا شك، ولكن لَمَّا استُعملت في الشرع في معنى الإنشاء، اختُلف فيها: هل هي باقية على أصلها من الخبرية؟ أو نُقلت؟

الأكثرون على الثاني، والحنفية على الأول على معنى الإخبار عن ثبوت الأحكام. فمعنى قولك:"بِعتُ" الإخبار عمَّا في قلبك، فإنَّ أصل البيع هو التراضي، فصار "بِعتُ" لفظة دالة على الرضَا بما في ضميرك، فيُقدَّر وجودها قبيل اللفظ؛ للضرورة، وغاية ذلك أن يكون مجازًا، وهو أَوْلى مِن النقل.

ودليل الأكثرين أنه لو كان خبرًا لَكان إما عن ماضٍ أو حالٍ أو مستقبلٍ، والأوَّلان باطلان؛ لِئلَّا يَلْزَم أنْ لا يَقْبَل الطلاق ونحوُه التعليق، لأنه يقتضي توقُّف شيء لم يوجد على ما لم يوجد، والماضي والحال قد وُجِدَا، لكن قبوله التعليق إجماع.

والمستقبل يَلزم منه أن لا يقع به شيء؛ لأنه بمنزلة "سأُطَلِّق" والفَرْض خِلافُه. إلى غير

ص: 920

ذلك من أدلته التي لسنا بصددها في هذا المختصر، والله أعلم.

ص:

435 -

وَمَا لَهُ مِنَ الْكَلَامِ خَارِجُ

يَصْدُقُ أَوْ يَكْذِبُ، ذَاكَ الرَّايِجُ

436 -

فَخَبَرٌ، وَفِيهِمَا يَنْحَصِرُ

بِطِبْقِهِ لَهُ وَنَفْيٍ يُقْصَرُ

437 -

لَا [الِاعْتِقَادُ مُفْرَدًا]

(1)

أَوْ مَعْهُ

فَيَنْتَفِي تَوَسُّطٌ، فَدَعْهُ

الشرح:

اشتملت هذه الأبيات على أمرين:

أحدهما: تعريف الخبر الذي هو أحد الأقسام الثلاثة للكلام كما بيناه.

والثاني: بيان أقسامه.

فأما الأول:

فالخبر: ما له من الكلام خارج، أي: لنسبته وجود خارجي في زمن غير زمن الحكم بالنسبة، وربما فسر ذلك بما هو خارج عن كلام النفس المدلول عليه بذلك اللفظ.

فيخرج عن ذلك "الطلب" أمرًا أو نهيًا أو استفهامًا، فإنه كلام محكوم فيه بنسبة ولكن ليست خارجية، إذ ليس لنسبته الطلبية خارج عن زمن الطلب، ولا وجود لها خارج عن نفس المتكلم، فالخارج على كل حال قابِل لمطابقة ما في النفس من الحكم بالنسبة فيكون صدقًا، ولعدم المطابقة فيكون كذبًا، وهو معنى قولي:(يَصْدُقُ أَوْ يَكْذِبُ).

ويخرج أيضًا بقيد كونه له خارج: الإنشاء، فإنَّ مدلوله موجود به، فلا خارج له.

(1)

في (ن): لاعتقادٍ مفردٍ.

ص: 921

وهذا التعريف يرجع [إلى]

(1)

قول مَن عَرَّفه بما يحتمل الصدق والكذب أو بما يحتمل التصديق والتكذيب، فإن ذلك متضمن لكونه له خارج، فهو [الفصل]

(2)

المُخْرج للطلب والإنشاء، لا أن نفس كونه محتملًا هو المُخْرِج لهما خلافًا لمن تَوهَّم ذلك حتى توَجَّه -بمقتضى ذلك- على التعريف أسئلة تحتاج إلى جواب:

منها: على مَن قال: (ما يحتمل التصديق والتكذيب) أنهما نوعان للخبر، والنوع إنما يعرف بعد معرفة الجنس، فإذا عُرِّف به الجنس، لَزِمَ الدَّور.

وجوابه: ما قررناه أن القيد المخرج إنما هو تضمن التصديق والتكذيب كون الكلام له خارج، وأيضًا التصديق أو التكذيب اعتقاد كوْن الخبر صدقًا أو كذبًا، لا الإخبار بذلك، ولو سُلِّم أن المراد الإخبار به فتوقف الخبر عليهما توقُّف على وجود أحدهما لا على تَصوُّره، فاختلفت جهة التوقف، فلا دَوْر.

وأجاب القرافي بأن السائل عن الخبر يعرف التصديق والتكذيب إجمالًا ولا يعرف نفس الخبر، فإذا ذكر له ذلك، انتظم له بالتفصيل معنى الخبر، وتَبيَّن له مدلوله بمدلول لفظ الصدق والكذب.

ومنها: على مَن يقول: (ما يحتمل الصدق والكذب) أنه لا يحتمل إلا واحدًا منهما وإلا لزم اجتماع الضدين، فينبغي أن يُقال:(الصدق أو الكذب)؛ حتى يكون الواقع أحدهما فقط. كذا جنح إليه إمام الحرمين.

وجوابه: أن القابلية لهما لا بُدَّ منها في حالة واحدة، وأما الوقوع فلا يكون إلا أحدهما فقط، وذلك أنه لا يَلزم مِن تنافى المقبولين تنافي القَبولين، ألا ترى أن الممكن قابل للوجود

(1)

كذا في (ز)، لكن في (ص): إليه.

(2)

كذا في (ز، ق، ظ، هامش ت). لكن في (ص، ض، ت): القيد. وفي (ش): العقد.

ص: 922

والعدم، ولو وُجد أحد القَبولين دُون الآخر لَزِمَ استحالة ذلك [المقبول]

(1)

، فإنْ كان المستحيل هو الوجود، لَزِمَ كون الممكن مستحيلًا، وإنْ كان المستحيل هو العلم، لزم كون الممكن واجب الوجود، وهُما مُحالان، فلا يُتصور الإمكان إلا باجتماع القبولين.

ومنها: ما قاله القرافي في "الفروق" وغيرها: إن الخبر بالوضع اللغوي إنما هو للصدق ولا يحتمل الكذب؛ لأن معنى "قام زيد" حصول قيامه في زمن ماض

(2)

. فالاحتمال للكذب إنما جاء مِن حيث المخبر، لا مِن حيث الخبر.

وجوابه: أن المركب غير موضوع، وعلى تسليم كونه موضوعًا فالواضع إنما وضع نحو "قام زيد" للحُكم بالنسبة، لا لوقوع النسبة، فمدلوله الحكم، لا الوقوع، والحكم محتمل للأمرين من حيث هو.

وأما كونه قد يكون صدقًا قطعًا [فخبر]

(3)

المعصوم والمعلوم بالضرورة، كقولنا:(الواحد نصف الاثنين) أو بالاستدلال كالحكم بحدث العالم، وقد يكون كذبًا قطعًا كالمعلوم خِلافه ضرورةً أو استدلالًا، فإنما ذلك لأمر الخارج كما قرر الإمام ذلك في "المحصول"، وأطال في الاستدلال عليه، ولا التفات إلى ما تُعُقِّب به عليه، فإنه ظاهر الفساد، وأيضًا فالاتفاق على انقسام الخبر إلى صدق وكذب.

وبهذا التقرير يُعلم جواب مَن قال: (ينبغي التعبير بالتصديق والتكذيب، لا بالصدق والكذب؛ لأن مِن الأخبار ما يحتمل أحدهما دُون الآخَر)، فيُجاب بما سبق.

(1)

في (ز، ص، ظ): القبول.

(2)

الفروق (1/ 44).

(3)

في (ص، ش): كخبر.

ص: 923

تنبيهات

أحدها: قد عُلم أن الخبر مشتمل على محكوم عليه ومحكوم به، وربما عُبر عن ذلك بمُسنَد إليه ومُسْنَد، وهو عبارة البيانيين، ويعدونه إلى مطلق الكلام.

وأما المنطقيون فيسمون الخبر "قضيةً"، لِمَا فيها مِن القضاء بشيء على شيء، ويسمون المقضي عليه "موضوعًا"، والمقضي به "محمولًا"؛ لأنك تضع الشيء وتحمل عليه حُكمًا، ويقسمون القضية إلى:

طبيعية: وهي ما حُكم فيها بأحد أمرين مِن حيث هو على الآخَر مِن حيث هو، لا بالنظر إلى أفراده، نحو:"الرجل خير من المرأة"، ونحو:"الماء مُرْوٍ".

وغير طبيعية: وهي التي قصد الحكم فيها على مشخص في الخارج، لا على الحقيقة مِن حيث هي، ثم يُنظر: فإن حُكم فيها على جُزئي مُعَين، سميت "شخصية" نحو: زيد قائم، أوْ لا على مُعَين، فإنْ ذكر فيها سورُ الكل أو البعض في نفي أو إثبات، سميت "محصورة"، نحو:"كل إنسان كاتب بالقوة، وبعض الإنسان كاتب بالفعل"، ونحو:"لا شيء أو لا واحد مِن الإنسان بجماد، وليس بعض الإنسان بكاتب بالفعل، أو بعض الإنسان ليس كذلك".

وإنْ لم يكن للقضية سور والمراد الحكم فيها على الأفراد لا على الحقيقة مِن حيث هي، سُميت "مهملة"، نحو:"الإنسان في خسر"، والحكم فيها على بعضٍ ضروريٌّ، فهو المتحقق، ولا يصدق عليها كُلية.

نعم، إذا كان فيها "أل" كما في "الإنسان كاتب"، يُطلِق عليها ابن الحاجب وغيره كثيرًا أنها "كُلية"؛ نظرًا إلى إفادة "أل" العموم، فهي مِثل "كُل" وإن لم يكن ذلك مِن اصطلاح

ص: 924

المنطقيين.

الثاني:

سأل بعضهم: إنَّ سُنة النبي صلى الله عليه وسلم فيها الأمر والنهي والاستفهام وأنواع التنبيه وغير ذلك، فكيف تُسمَّى كلها أخبارًا فيقال: أخبار النبي صلى الله عليه وسلم؟

وأجاب عنه القاضي أبو بكر بجوابين:

أحدهما: أن الكل أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن حُكم الله تعالى، فأمره ونهيه وما أشبههما هو في الحقيقة خبر عن حكم الله عز وجل.

الثاني: إنها سُميت أخبارًا لنقل المتوسطين، فَهُم يخبرون بها عَمَّن أخبرهم، إلى أن ينتهي إلى مَن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أو نهاه، فإن ذلك يقول:(أمرَنا ونهانا)، والذي بعده يقول:(أخبرنا فلان عن فلان بأنه صلى الله عليه وسلم أمرَ ونهى).

التنبيه الثالث: زعم قوم أن الخبر ضروري فلا يُحَد، منهم الإمام الرازي، قال:(لأن كل أحد يعلم أنه موجود ويُخبر به، والخبر بذلك جُزئي مِن مُطلِق الخبر)

(1)

.

ونظيره ما قيل في "العلم"، وجوابه كجوابه، وقد سبق.

وقيل: لا يحد؛ لأنه عسر كما سبق أيضًا في "العلم"، ومثلهما الوجود والعدم ونحوهما.

الرابع: ذكر القرافي

(2)

فروقًا بين الخبر والإنشاء:

أحدها: قبول الخبر الصدق والكذب كما سبق، بخلاف الإنشاء.

الثاني: أن الخبر تابع لمخبَره في أي زمان كان ماضيًا أو حالًا أو مستقبلًا، والإنشاء متبوع

(1)

المحصول في أصول الفقه (4/ 314).

(2)

الفروق (1/ 37).

ص: 925

لمتعلَّقه، فيترتب عليه بعده.

الثالث: أن الإنشاء سبب لوجود متعلقه، فَيَعقُب آخِر حَرْفٍ منه، أو يوجد مع آخر [حرف]

(1)

منه على الخلاف في ذلك إلا أن يمنع مانع، وليس الخبر سببًا ولا معلَّقًا عليه، بل مُظهِر فقط.

قلتُ: وهذه الفروق راجعة إلى أن الخبر له خارج يصدق أو يكذب كما ذكرته في النظم.

فرع:

مما يبني على الفرق بينهما أن الظهار هل هو خبر؟ أو إنشاء؟

قال القرافي: (قد يتوهم أنه إنشاء، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى أشار إلى كذب المظاهِر ثلاث مرات بقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2]).

قال: (ولأنه حرام، ولا سبب لتحريمه إلا كونه كذبًا)

(2)

.

وأجاب عمن قال: سبب التحريم أنه قائم مقام الطلاق الثلاث وذلك حرام على رأي. وأطال في ذلك.

لكن الظاهر أنه إنشاء، خلافاً له؛ لأن مقصود الناطق به تحقيق معناه الخبري بإنشاء التحريم، فالتكذيب ورَدَ على معناه الخبري، لا على ما قصده من إنشاء التحريم.

وهذا مثل قوله: (أنتِ عَلَيَّ حرام)، فإنَّ قصده إنشاء التحريم؛ فلذلك وجبت الكفارة حيث لم يقصد به طلاقًا ولا ظهارًا، لا مِن حيث الإخبار.

(1)

في (ز، ت، ظ): جزء.

(2)

الفروق (1/ 55).

ص: 926

[لكن الإنشاء]

(1)

ضربان:

ضرب أَذِن الشرع فيه كما أراده المنشئُ، كالطلاق.

وضرب لم يأذن فيه الشرع ولكنه رتب فيه حُكمًا وهو الظهار رتب فيه تحريم المرأة إذا عاد حتى يُكفِّر. وقوله: (إنها حرام) لا بقصد طلاق أو ظهار رتب فيه التحريم حتى يُكفر.

قال الشيخ تقي الدين السبكي: (وينبغي أن يسمى هذا الإنشاء الثاني باطلًا، وأما الأول فإن وقع بشروطه الشرعية فصحيح وإلا ففاسد أو باطل)

(2)

.

قال: (والباطل هنا لا يترتب عليه أثرٌ أصلًا، بخلاف الباطل في القسم الثاني وهو الظهار والتحريم حيث يترتب عليهما حُكم شرعي؛ لأن البطلان فيهما لإلغاء الشارع لهما، لا لفوات شرط أو وجود مُفسدٍ، والبطلان في البيع والنكاح وغيرهما إما لفوات شرط أو لوجود مُفسد)

(3)

.

الأمر الثاني مما اشتملت عليه الأبيات:

أنه قد عُلم انقسام الحكم بحسب مطابقته للخارج الذي هو نفس الأمر وعدم مطابقته إلى: صدق، وكذب. ولا مخرج للخبر عنهما عند الجمهور، وخالف في كل مِن الأمرين مخالِف:

فأما الأول، فقد قيل: إنَّ صِدق الخبر هو مطابقته لاعتقاد المخبر، سواء طابق الخارج أوْ لا. وكِذبه عدم مطابقته لاعتقاده، سواء طابق الخارج أوْ لا، ويدخل في عدم مطابقته

(1)

في (ز، ق، ظ): فالإنشاء.

(2)

الإبهاج (1/ 293).

(3)

الإبهاج (1/ 294).

ص: 927

للاعتقاد "الشاكُّ"، وهو مَن لا اعتقاد له في شيء مِن الطرفين. كذا حكاه صاحب "التلخيص" البياني فيه وفي "إيضاحه".

قيل: وهو قول غريب لم يَحْكِه سِوى القاضي جلال الدين في هذين الكتابين وإن كان ظاهر عبارة ابن الحاجب تقتضيه أيضًا، لكن شُراحه حملوه على خلاف ذلك.

وجوَّز الخطيبيُّ في شرح "التلخيص" أن يكون [أراد]

(1)

بهذا القول أن بين الصدق والكذب واسطة باعتبار أنه إنْ طابق الاعتقاد فهو صدق، وإن خالفه فكذب، وإن لم يطابق ولا خالف يكون واسطة. وجرى على ذلك في "جمع الجوامع".

قيل: ولا يُعرف هذا القول عن أحد، وإنما إثبات الواسطة على ما سيأتي في الأمر الثاني.

وبالجملة فقد استُدل لهذا القول بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، فسماهم كاذبين مع مطابقة قولهم الواقع.

وأجيب بأن المراد: لَكاذبون في شهادتهم، لا في خبرهم، أو في مطابقتها لِمَا في اعتقادهم، أو في تسميتها "شهادة"، والشهادة هي المطابق لِمَا في الاعتقاد.

الأمر الثاني: وهو أنه لا واسطة بين الصدق والكذب، خالف فيه الجاحظ، فشرط في "الصدق" أن يطابق ما في نفس الأمر والاعتقاد معًا ولو يكون الاعتقاد ظنيًّا كما نقله أبو الحسين في "المعتمد" عنه، و"الكذب" عدم مطابقته لهما. فإن لم يطابق أحدهما سواء طابق الآخَر أوْ لا، فليس بصدق ولا كذب، فيدخل في الواسطة بينهما أربعة أقسام.

وقد استُدل له بقوله تعالى: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8] والمراد الحصر في الافتراء والجنون ضرورةَ عدم اعترافهم بصدقه، فعَلَى تقدير أنه كلام مجنون لا يكون صِدقًا؛ لأنهم لا يعتقدون صِدقه، ولا كذبًا لأنه قسيم الكذب على ما زعموه؛ فثبتت

(1)

في (ز، ق، ظ): أراد في التلخيص.

ص: 928

الواسطة بين الصدق والكذب.

وأجيب: بأنَّ المعنى: افْترى كذبًا أم لم يفتر فيكون مجنونًا؛ لأن المجنون لا افتراء له؛ لعدم قَصْده.

واستدلوا أيضًا بنحو قول عائشة عن ابن عمر في حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"

(1)

: ما كذب، ولكنه وَهِمَ.

وأجيب: بأنَّ المراد: ما كذب عمدًا، بل وَهِمَ.

وإلى التعريض بمخالفة هذين المذهبين أشرتُ بقولي في النظم: (لَا الِاعْتِقَادُ مُفْرَدًا) إلى آخِره، أي: ليس المدار على المطابقة لاعتقاد المتكلم وعدمه كما هو القول الأول، ولا له مع الخارج حتى تثبت الواسطة كما هو القول الثاني.

وفي المسألة مذهب رابع قال به أبو القاسم الراغب في كتاب "الذريعة": (إن الصدق التام هو المطابقة للخارج والاعتقاد معًا، فإن انخرم شرط مِن ذلك لم يكن صدقًا تامًّا، بل إما أن لا يوصَف بصدق ولا كذب كقول المبرسم الذي لا قصد له:"زيد في الدار"، فلا يُقال له: إنه صدق، ولا: كذب، وإما أن يقال له: صِدق، و: كذب؛ باعتبارين، وذلك إذا كان مطابقًا للخارج غير مطابق للاعتقاد أو عكسه، كقول المنافقين:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] فيصح أن يُقال لهذا: "صِدق"؛ اعتبارًا بالمطابقة لِما في الخارج، و:"كذب"؛ لمخالفة ضمير القائل؛ ولهذا أَكذبهم الله تعالى.

وكذلك إذا قال مَن لم يَعلم أن زيدًا في الدار: "إنه في الدار" والفرض أنه في الدار، يصح أن يُقال: صدق، وأن يُقال: كذب، بنظرين مختلفين)

(2)

. انتهى

(1)

صحيح البخارى (رقم: 1226)، صحيح مسلم (رقم: 927).

(2)

الذريعة إلى مكارم الشريعة (ص 193).

ص: 929

وتحرَّف هذا المذهب على صاحب "جمع الجوامع" فأورده على غير وَجْهه.

ويمكن أن لا يكون ذلك مذهبًا آخَر، بل توفيقًا بين الأقوال؛ فلذلك لم أُومِ له في النَّظم كغيره مما أُومِئ إليه غالبًا مِن المذاهب الضعيفة.

تنبيهات

أحدهما: مما يتفرع على انقسام الخبر إلى صدق وكذب فقط مسألة محمد بن الحسن في "الجامع": "إنْ أخبرتني أن فلانًا قَدِمَ فأنت طالق"، أنه يحنث بإخبارها صادقةً أو كاذبةً، وهو مذهبنا أيضًا.

ومثله "مَن أخبرني بقدوم زيد فهو حر" فأخبره كاذبًا، يُعتق، بخلاف "مَن بشرني" فإن البشارة الخبر الأول السارُّ الصادق.

نعم، يُشكِل على هذا الأصل قول أصحابنا فيما إذا قال:(إن لم تخبريني بعدد حَب هذه الرمانة فأنت طالق)، أن طريق الخلاص أن تذكر عددًا لا تنقص عنه ثم تزيده واحدًا واحدًا إلى حدٍّ لا يمكن أن تجاوزه الرمانة.

فإن مقتضَى كون الخبر يكون صدقًا وكذبًا أن تَبَر بأي شيء قالته ولو كان كذبًا، ونحوه:(إن لم تخبريني بعدد الصلوات في اليوم والليلة) ونحو ذلك.

وقد يجاب بأن القرينة قامت في هذه الصورة على أنه قصد الإخبار الصدق، لا مطلق الخبر.

الثاني: مورد الصدق والكذب في الخبر هو النسبة الإسنادية، لا ما يقع في أحد الطرفين من النِّسَب التقييدية، فإذا قلتَ:(زيدُ بنُ عمرو قائم)، فمحلهما إسناد القيام لزيد، لا نسبة بُنُوَّتِه لعمرو. وكذا قرره السكاكي وغيره من البيانيين.

ص: 930

ونشأ عن ذلك فرع ذكره الهروي في "الإشراف" والماوردي في "الحاوي" والروياني في "البحر"، وهو ما لو شهد شاهدان أن فلان بن فلان وَكَّل فلانًا، فهو شهادة بالتوكيل قطعًا، وهل يكون شهادة بالبُنَوة مع ذلك؟ منعه مالك وبعض أصحابنا.

والمذهب الصحيح عندنا أنه شهادة بالنسب ضِمنًا، ويشهد لذلك ما في "البخاري" مرفوعًا:"إنه يُقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله. فيقال: كذبتم؛ ما اتخذ الله مِن صاحبة ولا ولد"

(1)

.

وأيضًا فقد استدل الشافعي وغيره مِن الأئمة على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 9].

فتقرر أن مثل ذلك يدل على نسبة المحمول للموضوع بالمطابقة وعلى ما تضمنه التركيب مِن النِّسَب [وغير]

(2)

ذلك بالالتزام.

نعم، ينبغي فيما قصد فيه النسبة [التقييدية]

(3)

القطع فيها بالدلالة، نحو:"الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"، إذ المقصود الوصف بهذه الهيئة الحاصلة مِن النِّسَب التقييدية مع النسبة الإسنادية، فلو لم نَقُل بدلالتها فيه لَفَاتَ الغرض، ونحوه إذا قلتَ في التعريف للإنسان:(هو حيوان ناطق)، فإنَّ المراد الحكم بالمجموع، فلو جعل الإخبار بالموصوف فقط لَفَسد الحد، ونحوه:(الرمان حلو حامض)؛ فلذلك رُدَّ على مَن جعله مِن تَعدُّد الخبر، إنما المتعدد نحو:(زيد شاعر كاتب)، فإن كل واحد إسناده مقصود، والله أعلم.

(1)

صحيح البخاري (رقم: 4305)، صحيح مسلم (رقم: 183).

(2)

في (ز، ظ): غير.

(3)

كذا في (ز، ص، ق)، لكن في (ت): التقييد به.

ص: 931

ص:

438 -

وَمَا تَعَدَّى كِلْمَتَيْنِ "الْكَلِمُ"

وَاحِدُهُ "كَلِمَةٌ" إذْ [تُفْهِمُ]

(1)

الشرح:

لَمَّا بينتُ "الكلام" وأقسامه ذكرتُ الفرق بينه وبين "الكَلِم"، وهو أن "الكلم": ما زاد على كلمتين، كأنْ كان ثلاث كلمات فأكثر؛ لأنه اسم جنس جمعي يُفَرق بينه وبين مفرده بالتاء، كتمرٍ وتمرة ونبقٍ ونبقة.

وهو معنى قولي: (وَاحِدُهُ "كَلِمَةٌ") فهو كالتعليل لاشتراط أكثر مِن كلمتين في "الكلم".

وقولي: (إذْ تُفْهِمُ) معناه: أن يكون واحد "الكلم" ما يُسمى "كلمة"، وهو: ما وُضع لمعنى مفردٍ كما سبق، فتخرج اللفظة المفردة إذا لم يكن لها معنى، فإنها لا تُسمى "كلمة" ولا المجتمِع منها "كَلِمًا".

و"الكلمة" فيها ثلاث لُغات:

فتح الأول وكسر الثاني، وهي الفصيحة، وبها جاء القرآن؛ لأنها لغة الحجاز.

وفتح الأول وسكون الثاني تخفيفًا، وكسر الأول وسكون الثاني على نقل حركته لِما قبله بعد سلب حركته، وهاتان لُغتَا تميم.

واللغات الثلاث جارية في كل ما وزنه "فَعِل" بفتح أوله وكسر ثانيه، سواء أكان فيه تاء

(1)

في (ظ، ض، ش، ن 1): يُفهم.

ص: 932

التأنيث أوْ لا. فإن كان وسطه حرف حلق ففيه رابِعة

(1)

وهي كسر الأول اتِّباعًا لكسر الثاني.

وقد عُلم مِن تفسير "الكلم" بذلك أن بينه وبين "الكلام" عمومًا وخصوصًا مِن وَجْه؛ لأن أقَل ما يتركب منه "الكلام" -كما تَقدم- كلمتان مع الإفادة، و"الكلم" ثلاث فصاعدًا، أفاد أو لَم يُفِد.

واعْلَم أنَّ كثيرًا مِن الأصوليين يتعرض هنا لتقسيم "الكلمة" إلى اسم وفعلٍ وحرفٍ، والفعل إلى ماضٍ وأمرٍ ومضارع، وذِكر اسمَي الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة وشِبه ذلك، وللفرق بين هذه الحقائق، وقد أسقطتُ ذلك؛ لأن محله النحو، ولا حاجة إلى ذِكره هنا.

وإنما نذكر أقسام "الكلام" لتوقُّف الاستدلال عليها؛ لغموضها والاختلاف فيها.

ويتعرض بعضهم أيضًا إلى ما يُذكر في النحو مِن إطلاق "الكلمة" على "الكلام"، كقوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون: 100] إشارة إلى قول القائل: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]، ونحو ذلك. وهو من المجاز الشائع، إما من إطلاق الجزء على الكل أو باعتبار وحدةٍ حصلت فيه؛ فأَشبه الكلمة المفردة، وأشباه ذلك، والله أعلم.

(1)

يعني: لُغة رابعة.

ص: 933

ص:

439 -

وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ مِنْ مَعْنَى

فَذَلِكَ "الْمُهْمَلُ" حَيْثُ عَنَّا

(1)

الشرح:

لَمَّا سبق أن "القول" هو اللفظ الموضوع لمعنى وقسمناه إلى "مفرد" و"مركب" وذكرنا أقسامهما، بينتُ هنا أن اللفظ إذا لم يكن موضوعًا لمعنى، يُسمى "المهمل". ولم أُقيده بالمفرد؛ ليشمل ما كان مفردًا ومركَّبًا تبعًا للبيضاوي، ومثل "المركب" منه بالهذيان، مصدر "هَذَى" بالذال المعجمة، قال الجوهري:(هَذَى في منطقه يَهذِي ويَهذُو هَذْوًا وهَذَيانًا)

(2)

.

وقال الإمام في "المحصول" في المركب المهمل: (الأشبه أنه غير موجود؛ لأن الغرض مِن التركيب هو الإفادة)

(3)

.

وجزم بذلك في "المنتخب"، وتبعه عليه صاحبا "التحصيل" و"الحاصل".

وهو ضعيف؛ فإن ما قالوه دليل على أن المهمل غير موضوع، وهذا مُسلَّم، وإنما الكلام في أن العرب وضعت له اسمًا، والاسم يوضع للمعدوم وللمستحيل، ولا يَلزم مِن ذلك وجوده.

على أن الهندي قد قال: (إن ما قاله الإمام حق إنْ عَنَى بالمركب ما يكون جزؤه دالًّا على جزء المعنى حين هو جزؤه، فإن عَنى به ما يكون لجزئه دلالة في الجملة ولو في غير معناه كـ "عبد الله" عَلَمًا أو ما يكون مؤتلفًا مِن لفظين كيف كان وإن لم يكن لأجزائه دلالة كَـ

(1)

يعني: حيث عرض.

(2)

الصحاح (6/ 2535).

(3)

المحصول (1/ 236).

ص: 934

"الهذيان"، فهو باطل)

(1)

.

قلتُ: وأيضًا فليس المراد بالتركيب هنا إلا اجتماع لفظات، لا التركيب المعتبر للإفادة.

وقولي: (مِنْ مَعْنَى) - "من" فيه زائدة في اسم ليس، ومعنى "عَنَّا": عَرَض. والله أعلم.

تقسيم آخَر:

440 -

اللَّفْظُ جَامِدٌ، وَمُشْتَقًّا وَرَدْ

وَ"الِاشْتِقَاقُ" الِاقْتِطَاعُ، فَيُرَدْ

441 -

لِأَصْلِهِ اللَّفْظُ؛ لِوَفْقِ الْمَعْنَى

وَفي حُرُوفِهِ أُصُولُ الْمَبْنَى

442 -

مَعَ تَغَيُّرٍ وَلَوْ مُقَدَّرَا

وَلَوْ مَجَازًا، ثُمَّ طَرْدًا قَدْ يُرَى

الشرح:

هذا تقسيم للغة راجع للمفردات، يتوقف الاستدلال في كثير مِن المسائل عليه كما سيأتي بيانه، فاحتيج إلى ذكره في مباحث اللغة.

وهو أن اللفظ العربي إما جامد وإما مشتق.

وهو معنى قولي: (وَمُشْتَقًّا وَرَدْ)، فقدمتُ الحال مِن الضمير في "ورد" العائد على اللفظ.

والمشتق أشرف؛ لأن فيه فائدتين: إفادة ذات الشيء، وإفادة وصفه. وزاد [الخُوَيِّي]

(2)

فائدة ثالثة، وهي تسهيل السبيل على الواضع والمتعلم.

قال الأئمة: علم الاشتقاق مِن أشرف علوم العربية وأدقها، وعليه مدار علم

(1)

نهاية الوصول في دراية الأصول (1/ 143).

(2)

كذا في (ز، ص). لكن في سائر النسخ: الجويني.

ص: 935

التصريف.

وانقسام اللفظ إلى جامد ومشتق هو الصحيح المشهور، وعليه الخليل وسيبويه والأصمعي وأبو عُبَيد وقطرب وغيرهم.

وقيل: الألفاظ كلها جامدة، وليس شيء منها مشتقًّا مِن شيء، بل كلها موضوعات. وبه قال نفطويه؛ لأنه كان ظاهريًّا مِن أصحاب داود، فلذلك جنح إلى هذا.

وقيل: الكل مشتق. وتكلفوا للجامدات اشتقاقًا، وإليه ذهب ابن درستويه والزجاج حتى إنه صنف كتابًا ذكر فيه اشتقاق جميع الأشياء، وحتى إن ابن جني قال: إن الاشتقاق يقع في الحروف، فإنَّ "نَعَم" حرف جواب، ونِعْمَ والنعيم والنعماء ونحوها مشتقة منه

(1)

.

إذا علِمتَ ذلك فَـ "الاشتقاق" لغةً هو الاقتطاع، افتعال مِن "الشق" وهو القطع، والمعنى الاصطلاحي كأَخْذِ "ضَرَبَ" من "الضَّرْب" موجود فيه ذلك، ولذلك قال الجوهري: الاشتقاق: أَخْذ شق الشيء. قال: (واشتقاق الحرف من الحرف: أخذُه منه)

(2)

. انتهى

وأما معناه في الاصطلاح فهو على ثلاثة أقسام: أكبر، وأوسط، وأصغر.

فالأكبر: اتفاق اللفظين في بعض الحروف الأصلية، كَـ "ثلم" و"ثلب"، ومن هذا قول الفقهاء مئلًا: الضمان مشتق من الضم؛ لأنه ضَمُّ ذمة إلى أخرى، فلا يعترض بأنهما مختلفان في بعض الأصول؛ لأن النون ليست في الضم، والضمان ليس متحد العين واللام، بخلاف الضم.

قال أبو حيان: (ولم يَقُل به أحدٌ من النحاة إلا أبو الفتح، وكان ابن الباذش يأنس به،

(1)

الخصائص لابن جني (2/ 35).

(2)

الصحاح (4/ 1503).

ص: 936

والصحيح أنه غير مُعَوَّلٍ عليه؛ لعدم اطراده). انتهى

قيل: وقال به أيضًا ابن فارس، وبنى عليه كتابه "المقاييس" في اللغة.

وأما "الأوسط" وربما سمي الاشتقاق الصغير: فهو اتفاق اللفظين في المعنى وفي الحروف دون ترتيبها، كَـ "جبذ" و"جذب". وخرج باشتراط اتحاد المعنى نحو: حلم ولحم وملح، فليس بعضها مشتقًّا مِن بعض أصلًا.

وأما "الأصغر" وهو المراد حيث أطلقوا الاشتقاق في الغالب، وإذا أرادوا غيره قيدوه بالأكبر أو بالأوسط.

و"الصغير" فللعلماء فيه تعاريف، أشهرها تعريف الميداني، نقله عنه الإمام الرازي وأتباعه، فقال: هو أن تجد بين اللفظين تناسُبًا في المعنى والتركيب، فيُرد أحدهما إلى الآخر

(1)

.

فخرج باعتبار التناسب في المعنى نحو: اللحم والملح والحلم؛ لاختلاف المعنى.

وعُلم مِن قوله: "اللفظين" أنه لا بُدَّ مِن تغايُرٍ بتغيرٍ ما ولو تقديرًا كما سيأتي بيانه، وإلا فهُما لفظ واحد.

وإطلاقه اللفظين من غير تعيين اسمٍ أو فعلٍ جارٍ على كل مذهب من مذاهب النحاة، فإن البصريين يقولون باشتقاق الفعل والوصف من المصدر، و [الكوفيون]

(2)

يقولون باشتقاق المصدر والوصف من الفعل، وابن طلحة يقول:(إن كُلًّا من المصدر والفعل أصل بنفسه) كما نقله عنه في "الارتشاف".

وقيل غير ذلك كما هو مبسوط في محله، فلو لم يُطْلِق "اللفظين" لَجَرَى على بعض

(1)

المحصول (1/ 237).

(2)

في (ز): الكوفيين.

ص: 937

الأقوال دُون بعض أو خالف الكل.

فإنْ قيل: إطلاقه اللفظ يدخل فيه الحرف وليس بمشتق ولا مشتق منه قطعًا.

قيل: لم يُرد كل لفظ، بل مُطْلَق لفظين، فيحمل على الممكن، فهو مُطلق، لا عام.

وفيه نظر؛ فإن مقام الشرح والتعريف ينافي الإبهام.

والمراد بالتناسب في التركيب: الموافقة في الحروف الأصلية كما عبَّر بذلك البيضاوي؛ احترازًا مِن الزوائد، فإن التخالف فيها لا يضر، كَـ "ضَرب" و"ضارب".

وخرج بهذا القيد اللفظان المترادفان، فإن أحدهما وإنْ وافق الآخَر في المعنى لكنه لم يوافقه في الحروف الأصلية، وسواء أكانت الأصول موجودة لفظًا أو تقديرًا؛ ليدخل نحو:"خَفْ" من الخوف، و"كُلْ" من الأكل.

وعُلِم من هذا التعريف أن للاشتقاق أربعة أركان: مشتق، ومشتق منه، وموافقة في الحروف، وتناسب في المعنى.

غير أنهم أوردوا عليه أمورًا:

منها: أن المعدول والمصغر ليسَا مشتقين مِن المعدول عنه والمكبر مع صِدق التعريف عليهما؛ فلا يكون الحد مانعًا.

وجوابه: أن التناسب في المعنى يقتضي أن معناهما ليس متحدًا مِن كل وجه، وهذان متحدان في المعنى من كل وجه.

ومنها: أنه يقتضي أن الاشتقاق فِعل المتكلم؛ لأنه قال: (فَيُرَد أحدهما إلى الآخَر)، ولكن هذا إنما هو لواضع اللغة، ونحن إنما نستدل بأمارات استقرائية على وقوع ذلك منه.

وجوابه يؤخَذ مما سيأتي في جواب الذي بَعْده.

ومنها: قوله: (أن تجد) يقتضي أن الاشتقاق هو الوجدان، وليس كذلك، إنما الاشتقاق

ص: 938

الرد عند الوجدان، لا نفس الوجدان.

وجوابه متوقف على معرفة المراد بالرد في قوله: (فَيُرَد).

فإن أراد اقتطاع لفظٍ مِن لفظٍ، فالثاني هو المردود إليه، والمعنى أنه حُوِّل من الأول إلى الثاني حتى صار كذلك، فالرد حينئذٍ عملي، وحيمئذٍ فالإيراد متوجه.

وإن أراد بالرد الاعتبار والعلم، فيكون الثاني مردودًا للأول بمعنى اعتبار أنه قد أخذ منه، فالرد حينئذٍ علمي لا عملي، فلا إيراد حينئذٍ عليه لا بهذا ولا بالذي قَبْله، فإنَّ وجْدان التناسب المذكور هو الاشتقاق، أي: معرفة أن الثاني مأخوذ مِن الأول؛ لمعرفة ما بينهما مِن التناسب المشروح.

ولعلَّ هذا هو مراد الميداني وغيره؛ لأن المقصود بعد استقرار اللغة إنما هو معرفة المأخوذ والمأخوذ منه، لا الاقتطاع الأصلي؛ لأن ذاك أمر قد انْقَضَى، والمراد الآن إنما هو معرفة ما دَلَّ عليه الاستقراء حتى لا يحتاج في كل مشتق إلى نَقْل، فتأَمَّله؛ فإنه دقيق.

وقد أوضحتُ في "شرح لاميّة الأفعال" لابن مالك هذا المعنى، وذكرتُ الفرقَ بين الاشتقاق والتصريف بما يتعين الوقوف عليه.

إذا علمتَ ذلك، فاعلم أني أشرتُ في النَّظم إلى الاشتقاق بالاعتبارين؛ لأني فسرتُه بالاقتطاع، ومُرادي به اقتطاعٌ خاصٌّ، وهو ما ذكرت فيما بعد استغناءً به، فكأني قلتُ: اقتطاع لفظٍ من آخَر؛ لموافقته له في المعنى وفي الحروف الأصلية مع تغيُّرٍ ما. وهذا هو الذي باعتبار تصرف الواضع وصُنْعه.

ثم ذكرتُ الاشتقاق بالاعتبار الثاني وهو العلمي الذي هو مُراد الميداني (فيما يظهر) مُرتبًا عليه بالفاء المشعِرة بالسببية؛ لأنَّ الثاني مُسببٌ عن الأول، فقلتُ:(فَيُرَدْ لِأَصْلِهِ)، أي: فبسبب الاقتطاع يُرد المقتطَع -الذي هو فرعٌ- لأصله الذي هو مقتطع منه؛ لأجل العِلم

ص: 939

بموافقته له في المعنى وفي الحروف الأصلية التي هي حروف بنائه على هذه الصورة.

وصرحتُ باعتبار التغيير؛ لأجل قولي أولًا: (وَفْقِ الْمَعْنَى) بخلاف مَن يُعَبر بالتناسب، فإنه قد يُستغنَى به عن التصريح بالتغيير كما قدمناه.

ولذلك لَمَّا قال ابن الحاجب: (إنَّ المشتق ما وافق أصلًا بحروفه الأصول ومعناه)

(1)

، قال:(وقد يُزاد: "بتغييرٍ ما")

(2)

. أي: للإيضاح، خِلافًا لمن رد عليه بأنه يقتضي أنه مِن تمام الحد وإنما هو مِن شروط المغايرة، وليس كذلك؛ لِمَا علِمتَه.

وقولي: (وَلَوْ مُقَدَّرَا) تنبيه على أن التغيير قد يكون ظاهرًا كَـ "عالِم" من العِلم، وقد يكون مقدَّرًا كَـ"طَلَبَ" من الطَّلَب و"هَرَب" من الهرب و"جَلَبَ" من الجلَب، فيقدر زوال الفتحة التي في العين ومجيءُ فتحة أخرى بها بناء الفعل كما فعل سيبويه في "جُنُب" للمفرد والجمع، وأنَّ ضمةَ النون في الجمع غير ضمة النون في المفرد تقديرًا، وأيضًا فحركة لام الفعل في نحو "طَلَبَ" بِناءٌ، وآخِر المصدر إذا حُرِّك إنما هو إعرابٌ للعامل، فتغايَرَا.

وقولي: (وَلَوْ مَجَازًا) إشارة إلى مسألة خلافية، وهي أن المجاز هل يشتق منه؟ أوْ لا يكون الاشتقاق إلا من حقيقة؟ فنحو "الصلاة" إذا قُلنا: حقيقتها الدعاء ومجازها ذات الركوع والسجود، فهل يُقال مِن الثاني:"صلى، ويصلي، ومُصَلٍّ" من حيث كوْنه مجازًا قبل أن يصير حقيقة شرعية؟ أو يُقَدر أن هذا أُخِذَ من "الصلاة" بمعنى الدعاء ثم تُجُوِّز به كما تُجوز بأصله؟

الجمهور على الأول.

وخالف القاضي أبو بكر والغزالي وإلْكِيَا، فمنعوا الاشتقاق مِن المجازات وأنه لا

(1)

مختصر المنتهى مع شرح الأصفهاني (1/ 237).

(2)

مختصر المنتهى مع الشرح (1/ 241).

ص: 940

اشتقاق إلا مِن الحقائق.

ويدل للجمهور إجماع البيانيين على صحة الاستعارة بالتبعيَّة وهي مشتقة مِن المجاز؛ لأن الاستعارة تكون في المصدر ثم يشتق منه.

وقولي: (ثُمَّ طَرْدًا قَدْ يُرَى) بيان لكون الاشتقاق قد يكون مطردًا وقد [يُقْصَر]

(1)

على محله.

فمن الأول: غالب المشتقات، كاسْمَي الفاعل والمفعول ونحوهما.

ومن الثاني: نحو لفظ "القارورة" كما ذكرته أول البيت الذي بعد هذا ومثلتُه بذلك، فإن "القارورة" مختصة بالزجاج وإنْ كانت مأخوذة مِن "القَرِّ في الشيء"، فلم يعدوها إلى كُل ما يَقِرُّ فيه الشيء من خشب أو خزفٍ أو نحو ذلك.

وكَـ"الدبران" لمنزلة القمر وإنْ كان مِن الدبور، وكأن عدم الاطراد لكون التسمية لا لهذا المعنى فقط بل لمصاحبته له، وفرقٌ بين تسمية العين لوجود المشتق منه فيه (وهو الاطِّرادي) أو بوجوده فيه (وهو ما لا يطَّرِد).

تنبيه:

تَعَرَّض البيضاوي لأنواع التغيير، وبلغ بها خمسة عشر قِسمًا، وبيَّن أمثلتها وإنْ كان في بعضها نظر، ولم يذكر إمامُه إلا تسعة، فلنذكر الأقسام كلها وأمثلتها مستقيمة؛ لتكميل الفائدة، فنقول:

التغيير:

[1]

إما بزيادة حرف.

[2]

أو حركة.

[3]

أو هُما.

(1)

في (ز، ق، ظ): يقتصر.

ص: 941

[4]

أو بنقص حرف.

[5]

أو حركة.

[6]

أو هُما.

[7]

وإما بزيادة حرف ونقصانه.

[8]

أو زيادة حركة ونقصانها.

[9]

وإما بزيادة حرف ونقصان حركة.

[10]

أو بزيادة حركة ونقصان حرف.

[11]

وإما بزيادة حرف مع زيادة حركة ونقصانها.

[12]

وإما بزيادة حركة مع زيادة حرف ونقصانه.

[13]

أو بنقص حرف مع زيادة حركة ونقصانها.

[14]

أو نقص حركة مع زيادة حرف ونقصانه.

[15]

وإما بزيادة حرف وحركة معا مع نقصان حرف وحركة معًا.

أمثلتها:

أما الستة الأولى فنحو:

[1]

"كاذب" مِن: كَذِب.

[2]

"نَصَر" مِن: نَصْر.

[3]

"ضارِب" مِن: ضَرْب.

[4]

"ذَهَبَ" مِن: ذَهَاب.

[5]

"سَفْر" جمع سافر اسم فاعل مِن: سَفَر.

[6]

"سِرْ" مِن: سَيْر، لكن مع اعتبار حركة الإعراب، وقد يُمثل بِـ "صَبٍّ" اسم فاعل "الصبابة".

وأما الأربعة التي بعدها فنحو:

[7]

"مُدَحْرَج"[اسم مفعول]

(1)

مِن: دَحْرَجَة.

(1)

من (ز، ظ).

ص: 942

[8]

"حَذِر" وَصْفٌ مِن: حَذَر.

[9]

"عادٍّ" اسم فاعل من: عَدَدٍ.

[10]

"رَجَعَ" من: رجْعَى.

وأما الأربعة التي بعدها فنحو:

[11]

"اضْرِب" من: ضَرْب.

[12]

"خَافَ" من: خَوْف.

[13]

"عِدْ" فِعل أمر مِن: وَعْدٍ.

[14]

"كالٍّ" اسم فاعل من: كَلَالٍ.

ومثال الخامس عشر: "إرْمِ" من: رَمْيٍ.

وتقريرها واضح، فلا نُطَول به بعد أن تَعرف أن المراد بالحركة جنسها، لا خُصوص حركة، وأن حركات الإعراب لا أثر لها، ولا حركات البناء على ما قاله بعض المحققين؛ لأن الأصل في البناء السكون، وما في بعض ما سبق مِن الأمثلة من بنائه على اعتبار حركات الإعراب والبناء فقد ارتكبناه للضرورة في التمثيل مع ما سبق من التنبيه على شيء منه، ويُقاس الباقي، ويُعرَف أن التمثيل بناء على أن المصدر هو الأصل، وهو قول البصريين، وجردتها من الألِف واللام؛ إشارة إلى أنها لا مدخل لها في ذلك، والله أعلم.

ص:

443 -

أَوْ لَا، كَفِي "قَارُورَةٍ"، وَمَنْ بِهِ

وَصْفٌ فَيُشْتَقُّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ

444 -

إنْ يَكُ، وَالَّذِي خَلَا يَمْتَنِعُ

مَا لَمْ يَزُلْ، فَلِلْمَجَازِ يَرْجِع

الشرح:

قولي: (أَوْ لَا، كَفِي "قَارُورَةٍ") متعلق بما قبله مِن تمام التقسيم وتمثيله، وقد تَقدم

ص: 943

بيانه.

وقولي: (وَمَنْ بِهِ وصْفٌ) إلى آخِره - بيان لثلاث مسائل من الاشتقاق مهمة، وهي:

- أنَّ مَن قام به معنى هل يجب أن يُشتق له من اسم ذلك المعنى اسم؟

- ومَن لم يَقُم به، هل يجوز أن يُشتق منه له مع فَقْدِه فيه؟

- ومَن ثبت له وصفٌ وزال، هل يبقى ذلك الاسم -الذي سُمي به حين الوصف- حقيقةً؟ أو يكون مجازًا؟

والقصد بهذه المسائل تمهيد قواعد مِن أصول الدِّين والفقه كما سنذكره بعد ذلك.

فَمِنْ ما يتعلق بالأُولَتين أن أهل السُّنة يُسمون الله متكلمًا باعتبار الكلام النفساني القديم القائم به تعالى، وعند المعتزلة أنه متكلم لا بكلام قائم به؛ لأنهم يمنعون الكلام النفساني كما سبق، ويقولون: إنه تعالى يُسمى متكلمًا بِخَلْقِهِ كلامًا في اللوح المحفوظ أو في الشجرة في قضية تكليم موسى عليه السلام أو نحو ذلك.

فأثبتوا متكلمًا من غير قيام كلام به، ونفوا أن يُسمى اللوح أو الشجرة متكلمًا مع قيام الكلام بهما.

فالمسألة الأولى: يجب أن يُشتق [لمن قام به وصفٌ وله اسم مِن ذلك الوصف اسم]

(1)

، خلافًا لهم، كَـ "متكلِّم" لمن قام به الكلام، و"مريد" لمن قام به الإرادة، و"ضارِب" لمن قام به الضرب، وهكذا.

وهو معنى قولي: (إنْ يَكُ). أي: إن يكن له اسم. فإنْ لم يكن له اسم كأنواع الروائح والآلام، لم يجب ذلك. وهذا التفصيل هو الحقُّ كما قرره في "المحصول"، إلا أن في كلامه ما

(1)

كذا في (ز، ظ، ق)، لكن في (ص، ض، ش): اسم لمن قام به وصف وله اسم من ذلك الاسم.

ص: 944

يَميل إلى قول المعتزلة، فإنه قال:(ليس مِن شرط المشتق منه قيامه بمن له الاشتقاق، إذِ المكي والحداد ونحوهما مشتقة من أمور يمتنع قيامها بمن له الاشتقاق)

(1)

.

ورُدَّ ما قاله -بعد تسليم أن هذا من الاشتقاق- بأنَّ أهل السُّنة إنما ادَّعوا ذلك في المشتقات مِن المصادر التي هي [أسماء]

(2)

المعاني، لا من الذوات وأسماء الأعيان. قرر ذلك القرافي وغيره.

نعم، قال الجَزَري: إن النقض منه على الأصحاب بذلك في غير محله، إنما يرد على قولهم: إنَّ المعنى إذا لم يَقُم بالمحل، لم يُشتق له منه اسم. فيقال لهم: هذه أشياء لم تَقُم بمحالِّها وقد اشتُق منها أسماء. ولكن جوابه أنه لَمَّا كانت الأجسام لا لبْس في عدم قيامها بمحالِّها إنما اللبس في المعاني؛ لأنها يصح قيامها بالمَحالّ، فلو أُطلقت على غير محالها، التبس الأمر. قال: ولو قيل: إن المراد إنما هي النِّسَب وهي موجودة بالمَحالّ وإن لم يوجد المنتسَبُ إليه، لَكَان له وَجْه.

أي: فيكون كلام الناس على إطلاقه، ولا حاجة للتقييد بالمعاني.

المسألة الثانية: وإليها أشرتُ بقولي: (وَالَّذِي خَلَا) إلى آخِره، أي: الذي خلا من الوصف يمتنع أنْ يشتق له منه اسم، والفَرْضُ أنه لم يَقُم به.

والمعتزلة ورأسُهم فيها أبو على الجبائي وابنه أبو هاشم خالفوا في ذلك، فقالوا: إن الله عالم لا بِعلم قائم به، بل بالذات. وكذا قالوا في جميع الصفات الذاتية المجموعة في قول القائل:

(1)

المحصول في أصول الفقه (1/ 344).

(2)

كذا في (ص، ز، ش)، لكن في (ض، ت): من أسماء. وفي (ق): في أسماء.

ص: 945

حياةٌ وعِلمٌ قُدرةٌ وإرادة

وسمعٌ وإبصارٌ كلامٌ مع البقا

فهو -تعالى- عندهم حي بلا حياة، قادر بلا قُدرة، مريد بلا إرادة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، متكلم بلا كلام، باقٍ بلا بقاء. فَيُثبتون العالِميَّة والمُريدية ونحوهما بدون العِلم والإرادة.

نعم، تحرير النقل عن أبي علي وابنه كما صرَّحَا به في كُتبهما الأصولية أنهما يقولان: إن العالِمية بِعِلم لكن عِلم الله عَينُ ذاتِه، لا أنه عالم بدون عِلم كما اشتهر في النقل عنهما في كلام الإمام الرازي وأتباعه كالبيضاوي. وكذا القول في بقية الصفات.

وأما أهل السُّنة فيُعلِّلون العالِم بوجود عِلم قديم قائم بذاته تعالى، وكذا في الباقي، لكن اختلفوا في مَحَلين:

أحدهما: أن العِلم هو العالِمية والقدرة هو القادرية؟ أو وَصْفٌ زائد عليها؟ وكذا في الباقي. قال الأشعري بالثاني، والقاضي أبو بكر بالأول.

ثانيهما: أن ذلك كله في الصفات الثمانية غير البقاء، وأما البقاء فقال الأشعري وأتباعه: إنه صفة زائدة على الذات قائمة بها، فهو تعالى باقٍ بِبَقاءٍ قديم قائم بذاته.

وقال القاضي وإمام الحرمين والإمام الرازي ووالدُه والبيضاوي كما يقوله جمهور المعتزلة: إنه باقٍ؛ لِذاته، لا بِبَقاء، وإلا لزم أن يكون للبقاء بقاء، ويتسلسل.

ولكن جوابه: أن البقاء لا يحتاج إلى بقاء آخَر؛ فلا تَسلسُل، وكذا كَوْنه قديمًا هو بِقِدَم لكن لِذاته، لا بِقِدَم آخَر؛ لأن قيام الصفة بالصفة مُحَال.

احتجَّ أهل السُّنة بأنَّ موضوع اللغة في "عالِم" مثلَّا ذَاتٌ لها عِلم، فلو انتفى العِلم لَا نتفَى العالِم.

وأما شُبهة المعتزلة فَأنَّ هذه الصفات إنْ كانت حادثة، لَزِمَ قيام الحادث بالقديم، أو

ص: 946

قديمة، لَزِمَ تَعَدُّدُ القديم. والنصارى كفروا بالتثليث، فكيف بادِّعاء تسعةٍ: الذات وثمانية صفات؟ !

وأجاب الإمام عنها في "الأربعين" وغيرُه أنهم عدَّدُوا ذوات قديمة لِذَاتها، ونحن نقول: القديم واحدٌ، وهذه صفاته هي ممكِنة في نفسها ولكن وجبَتْ لِلذات، لا بالذات؛ فلا تَعَدُّد في قديم لِذاته، فلا قديم لِذاته إلا الذات الشريفة.

على أن المعتزلة لم يُصرحوا في قاعدة الاشتقاق بما نقل عنهم، وإنما أُخذ مِن إنكارهم الكلام النفساني، فلزم مِن مذهبهم صِدق المشتق على مَن لم يَقُم به المعنى المشتق منه، لكن لازِم المذهب ليس بمذهب؛ ولذلك لا يُنسَب للشافعي الأقوال المُخَرَّجة على أصوله.

فقد [يقول]

(1)

المعتزلة هنا: إنَّ مقتضي اللغة ما ذكرتم، ولكن الدليل العقلي منع منه هنا، فاستثنى ذلك من المشتقات؛ لوجود المانع الخاص.

ولهذا لا يقولون بذلك إلا في صفات الله تعالى فقط كما سيأتي.

وقال إمام الحرمين في "الرسالة النظامية": ظَنَّ مَن لم يُحصِّل عِلم هذا الباب أن المعتزلة وصفوا الربَّ تعالى بكونه متكلِّمًا، وزعموا أن كلامه مخلوق، وليس ذلك مذهب القوم، إنما الكلام عندهم فِعْل الخَلْق؛ فينحل كلامهم إلى أنه تعالى ليس متكلِّمًا ولا آمرًا ولا ناهيًا إلا بِخَلْق أصوات في جِسم مِن الأجسام تدل على إرادته.

نعم، [يؤول]

(2)

تقريرهم ذلك إلى عَوْده إلى صفات الأفعال، [و]

(3)

من قاعدتهم أن

(1)

كذا في (ت)، لكن في (ص): تقول.

(2)

في (ز، ظ): يعود.

(3)

كذا في (ص، ز)، لكن في (ت): فإن.

ص: 947

صفات الذات وصفات الأفعال حادثة. [لكن]

(1)

مذهب الأشعري و [غالب]

(2)

أهل السُّنة أن صفات الذات قديمة وصفات الأفعال حادثة.

فإذا قُلنا بذلك [و]

(3)

أنَّ صفات الأفعال (كَـ"الخالق" و"الرازق") حادثة -على قول الأشعري وقولهم خِلافًا للحنفية- فكيف يُشترط في الاسم [المشتق]

(4)

قيام المشتق منه به مع أن الخلق والرزق لم يَقُم به وإلا لزم قيامُ الحوادث به؟ تعالى الله عن ذلك، فما ذلك إلا لخروج صفاته عن قاعدة الاشتقاق؛ للدلائل العقلية، فاستُثني هذا، وحينئذٍ فيُحتاج إلى الفرق بينه وبين صفات الذات.

تنبيه:

لا فرق في هذه القاعدة بين اشتقاق وصف الفاعل والمفعول والزمان والمكان والآلة ونحو ذلك، فتنشأ من ذلك مسائل:

منها: ما [قاله]

(5)

المعتزلة في مسألة النسخ قبل الفعل: إنه لا يجوز.

فاستدل أهل السُّنة عليهم بأن إبراهيم عليه السلام أُمر بذبح ولده ثم نُسخ قبل التمكن.

فأجابوا بأنه ذَبح ولكنه كان يلتحم.

فأبطلوا عليهم ذلك باتفاقهم على أن إسماعيل عليه السلام (على القول بأنه المأمور

(1)

كذا في (ز، ظ). لكن في سائر النُّسخ: وإن كان.

(2)

في (ز): سائر.

(3)

كذا في (ز، ص)، لكن في (ت): و.

(4)

ليس في (ز، ظ، ص).

(5)

في (ز): قالت.

ص: 948

بذبحه) ليس بمذبوح، [فكيف يختلفون في تسمية إبراهيم ذابحًا]

(1)

؟

فقيل: يُسمى بذلك؛ لأنه كان يقطع وإنْ كان الولد غير مذبوح؛ للالتئام.

وقيل: لا؛ لأنَّ "ذابحًا ولا مذبوح" مُحَالٌ.

فيُقال لهؤلاء: كيف تُحِيلون "ذابحًا ولا مذبوح" مع قولكم بجواز اشتقاق اسم الفاعل لمن أيَقُم به الفعل؟ !

ولهم أنْ يجيبوا بأنَّ اعتبار الفعل اتفاق و [إنْ]

(2)

لم يكن مذبوح؛ لأن المذبوح مَن زهقت روحُه، فلا ذبح، وإذا انتفى الفعل فكيف يثبت وصف الفاعل؟

وقرره في "جمع الجوامع" على العكس من ذلك، فقال:(ومن بنائهم اتفاقُهم على أن إبراهيم عليه السلام ذابح، واختلافهم هل إسماعيل مذبوح؟ )

(3)

.

ولا يخلو مِن نَظَر

(4)

.

ومنها فى الفقه: قال الروياني في "البحر" فيما لو حلف لا يأكل مُسْتلَذًّا: (إنه يحنث بما يستلذه هو أو غيره، بخلاف ما لو حلف لا يأكل شيئًا لذيذًا، فإنَّ العبرة فيه بالحالف فقط؛ لأن المستلَذ من صفات المأكول واللذيذ من صفات الأكل، فيقال: أَكْلٌ لذيذ)

(5)

. انتهى

قيل: وفيه نظر.

قلتُ: وجهه أن "لذيذًا" فعيل بمعنى مفعول، فلا فرق بينه وبين مستلذ إلا أن تجعل

(1)

كذا في (ز، ص، ق). وفي (ت، ش، ظ، ض): واختلافهم في إبراهيم هل كان ذابحا.

(2)

في (ز، ظ): إذا.

(3)

جمع الجوامع (1/ 373) مع شرح المحلي وحاشية العطار.

(4)

هذه الفقرة ليست في (ز، ص، ق).

(5)

بحر المذهب (10/ 511).

ص: 949

"لذيذًا" صفة للمصدر لا مفعولًا كما هو ظاهر فرق الروياني، لكن هذا إنما هو بقصد الحالف ذلك.

ومنها: لو حلف لا يفعل كذا فَوَكَّل مَن يفعله، لا يحنث؛ لأن الفعل لم يقع منه، فلا يُسمى فاعلًا.

وكذا لو وكَّل في البيع أو الطلاق ثم قال: (والله لستُ ببائع ولا مُطَلِّق)، [لا]

(1)

يحنث.

المسألة الثالثة:

إطلاق المشتق باعتبار المستقبل مجاز اتفاقًا.

قيل: وفي حكاية الاتفاق نظر؛ فإن أبا حنيفة قال في حديث: "المتبايعين بالخيار"

(2)

: إنهما المتساومان، سُمِّيَا متبايعين لأخذهما في مبادئ البيع وسيصيران متبايعين.

فَردَّه الشافعي بأنه يصح نفيه، وهو دليل المجاز، فلا يحمل الحديث عليه.

قال الشافعي: (فيقال في المتساومين: إنهما غير متبايعين، حتى لو قال امرأته طالق "إنْ كنا تبايعنا" وقد كانا متساومين، لا حنث)

(3)

. انتهى

وقد يقال: يحتمل أن أبا حنيفة عمل به مع كونه مجازًا لانضمام قرينة إليه، فَرَدَّه الشافعي بأنه مجاز ولا قرينة؛ لأن الأصل عدمها.

وإطلاقه باعتبار الحال حقيقة اتفاقًا.

وباعتبار الماضي فيه ثلاثة مذاهب:

(1)

في (ص، ز، ق): هل.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

الأم (3/ 6 - 7).

ص: 950

أحدها (وعليه الجمهور، وفي "المحصول"

(1)

: إنه الأقرب): أنه مجاز باعتبار ما كان، كما سبق أن ذلك من أنواع العلاقة، كالضارب بعد انقضاء الضرب.

وُيعبر عنه باشتراط بقاء المشتق منه في صِدق المشتق حقيقة، سواء أكان المشتق مما يمكن حصوله بتمامه وقت الإطلاق (كالقيام والقعود) أو لا يمكن كما لو كان من الأعراض السيَّالة (كالكلام).

وإنما طريق الإطلاق الحقيقي في هذا ونحوه أن يكون عند آخِر جزء، فلا يُطلق على مَن قال:(زيد قائم) أنه متكلِّم أو مخبر أو محدِّث إلا عند نُطقه بالميم ونحوها؛ لأن الكلام اسم لمجموع الحروف، ويستحيل اجتماع تلك الحروف في وقت واحد؛ لأنها أعراض سيَّالة لا يوجد منها حرف إلا بعد انفصال الآخَر.

هذا ما بحثه في "المحصول"، وهو حَسنٌ يتنزل عليه إطلاق الجمهور وإنْ كان ظاهر كلام الهند -ووافقه ابن السبكي في "جمع الجوامع"- أن الجمهور صرحوا بذلك، وليس كذلك.

الثاني: أنه حقيقة مطلقًا، ونقل عن ابن سينا وأبي هاشم.

قيل: وإن كانا لا يشترطان صِدق الأصل، لكن ذاك في صفات الله تعالى، بخلاف صفات غيره، فإن المعتزلة كلهم موافقون عليها. وسبق مُدْركهم فيه.

نعم، قال الأصفهاني في "شرح المحصول": (إنَّ نَقْل هذا عن ابن سينا وأبي هاشم فيه نظر، أما ابن سينا فليس له موضوع في أصول الفقه ولا العربية حتى يؤخَذ خِلافُه منه.

نعم، قال: إن الاصطلاح في عِلم المنطق أن قولنا: "كُل ج ب" لا نعني به ما هو

(1)

المحصول في أصول الفقه (1/ 329).

ص: 951

[حينئذٍ]

(1)

دائمًا أو في الحال أو في وقت مُعَين، بل هو أَعَم من ذلك، فإذا قيل:"الضارب متحرك"، لا يلزم أن يكون ذلك حُكمًا على الضارب في الحال، بل على ما يَصْدُق عليه "الضارب" سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل.

وهذا اصطلاح، ومن المعلوم أن الاصطلاحات لا مناقشة فيها، ولا يلزم مِن الاصطلاح المنطقي أن يكون موافقًا للأوضاع اللغوية العربية إلا إنِ ادَّعى صاحب الاصطلاح الموافقة)

(2)

.

والمناطقة كلهم مصطلحون على ذلك، حتى الإمام الرازي، فتعيين ابن سينا لا معنى له.

وأما أبو هاشم فهو لا يشترط في صدق المشتق ثبوت أصله، إلا أن ذاك في صفات الله تعالى كما تقدم إيضاحه، وأن ذلك لا ينبغي أن يدخل في بحث اللغة.

المذهب الثالث: التفصيل بين الممكن وجوده (كالقاعد) فيكون بعد انقضائه مجازًا، وبين غير الممكن وجوده (كالمتكلم) فيكون بعد انقضائه حقيقة؛ للتعذر.

وجوابه: الإناطة بآخِر جُزء كما سبق.

وهذا المذهب نقله الآمدي، ولكن في موضع من "المحصول" أن هذا الفرق لم يَقُل به أحدٌ من الأُمة، وفي موضع صرح باختياره ومنع دعوى الإجماع فيه.

الرابع: الوقف. حكاه بعض المتأخرين، كالسبكي.

قيل: ولا يوجد منقولًا، وإنما جَوَّزه بعض شُراح "المختصر" فيه كالقاضي عضد الدين، إذْ قال: كأنَّ ميل ابن الحاجب إلى التوقف. وأما الشريف وغيره فصرحوا بأنَّ ابن الحاجب

(1)

كذا في جميع النُّسخ، والذي في (الكاشف عن المحصول، 2/ 90): ج.

(2)

الكاشف عن المحصول (2/ 90).

ص: 952

اختار القول الثالث المفصِّل.

نعم، الآمدي لَمَّا حكى المذاهب الثلاثة ولم يرجح منها شيئًا ربما يدل على أنَّه يقول بالوقف.

ويخرج مما سيأتي في التنبيهات في تقرير محل الخلاف مذاهب أخرى بتفاصيل، لكن الحق أنَّه تحرير لمحل الخلاف، لا تفصيل.

نعم، يخرج مِن كلام القاضي أبي الطيب في مسألة "خيار المجلس" قول آخَر بالتفصيل بين إطلاقه عقب المعنى المشتق منه فيكون حقيقة، وبين أن يتطاول الزمان فلا. وفي كلام أبي الخطاب الحنبلي نحوه.

تنبيهات

أحدها: محل الخلاف ما إذا لم يطرأ على المحل ما يُضاد الوصف الذي زال، كالقاتل والسارق، أما لو طرأ ذلك كتسمية اليقظان "نائمًا" باعتبار النوم السابق فمجاز قطعًا. وهو متجه؛ لأنه مِن إطلاق أحد الضدين على الآخَر. هذا مقتضَى كلام الإمام في "المحصول" و"المنتخب"، وتبعه صاحبا "الحاصل" و"التحصيل".

وصرح به الآمدي في "الإحكام"، إذْ قال في آخِر المسألة:(لا يجوز تسمية القائم "قاعدًا" والقاعد "قائمًا" للقيام والقعود السابق بإجماع المسلمين وأهل اللسان)

(1)

.

أي: حقيقةً، بل مجازًا.

ومحل الخلاف أيضًا إذا لم يمنع مانع مِن الخارج مِن إطلاقه، أما إذا منع فلا يطلق حقيقةً

(1)

الإحكام (1/ 88).

ص: 953

ولا مجازًا، كإطلاق "الكافر" على مَن أَسلم؛ لتضاد الوصفين، فلا يكون حقيقة، ولمَا فيه مِن إهانة المسلم والإخلال بتعظيمه، ولذلك يُسمى "مؤمنًا" في حالة نومه -ونحوه- إطلاقًا متعينًا شائعًا ولو كان مجازًا.

بل لو قيل: إنه حقيقة شرعية أو مستثنى مِن القواعد اللغوية لذلك، لم يكن بعيدًا كما سبق نحوه، وحينئذٍ فإسناد منع ذلك إلى المانع أَوْلى مِن القول بإسناده إلى عدم المقتضِي؛ لكون الأصل عدم المقتضِي وعدم المانع؛ لأنَّا نقول: إنما ذلك عند الاحتمال، وهُنا قد تحقق وجود مانع.

نعم، سيأتي في القياس لنا خِلاف في أن المانع يستدعي وجود المقتضِي أوْ لا.

ومحل الخلاف أيضًا كما قاله القرافي: إذا كان المشتق محكومًا به، كَـ "زيد مشرك" أو "زانٍ " أو "سارق". أما إذا كان متعَلَّق الحكم نحو:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]، الآيات، فيكون حقيقة؛ إذ لو كان مجازًا لَكان مَن أشرك أو زنى أو سرق بعد زمان نزول الآية والخطاب بها يكون مجازًا، فلا يدخل فيها؛ لأن الأصل عدم المجاز، ولا قائل بذلك.

أي: وإذا قُلنا باعتبار الانقضاء في الماضي فيقيد بذلك أيضًا.

قال: (ولا مخلص مِن الإشكال إلَّا بما قررناه؛ لأنَّ الله تعالى لم يحكم في تلك الآيات بشرك أحد ولا بزناه ولا بسرقته، وإنَّما حكم بالقتل والجلد والقطع على الموصوف بهذه الصفات. نعم، هو متعلَّق هذه الأحكام)

(1)

.

انتهى وقد خُولِفَ في زمانه واختبطوا في جوابه وإنْ كان الأصفهاني في "شرح المحصول" قد ذكر نحوه.

(1)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص 50).

ص: 954

فأجاب بعضهم عن ذلك بأنَّ المجاز وإنْ كان الأصل عدمه إلَّا أن الإجماع انعقد على أن المتصفين بهذه الصفات بعد ورود النصوص تتناولهم وتثبت تلك الأحكام فيهم.

ولكن الجواب الحقّ أن هنا شيئين:

إطلاق اللفظ وإرادة المعنى من غير تَعرُّض لزمان، كقولنا:(الخمر حرام)، فإنه صادق سواء أكانت الخمرية موجودة أوْ لا، فإطلاق "الخمر" في هذه الحالة حقيقة؛ لأن المراد بالحال حال التلبس، لا التلفظ، وكذلك نحو آيات:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لم يقصد إلَّا مَن اتصف بالشرك وبالزنا وبالسرقة وقت تَلبُّسه، وذلك حقيقة.

ومثلُه إطلاق ذلك بعد الانقضاء، فإنه لم يخرج عن ذلك الذي قد أُطلِق حقيقة واستمر، وإنَّما يقع التجوُّز عند إرادة المتكلم إطلاق الوصف باعتبار ما كان عليه أو ما يؤول إليه.

قال الشيخ تقي الدين السبكي: وإنَّما سرى الوهم للقرافي مِن اعتقاده أن الماضي والحال والمستقبل بحسب زمان إطلاق اللفظ، والقاعدة صحيحة في نفسها، ولكن لم [يفهمها]

(1)

حَق فهمها، فالمدار على حال التلبُّس، لا حال النُّطق.

على أنَّه قد نوقش القرافي في مواضع:

منها قوله: (إن متعلَّق الحكم ليس مرادًا)، يرد عليه قولك:(القاتل يقتل أو الكافر يقتل) تريد به معهودًا حاضرًا، فإنه لا يكون حقيقة حتَّى يكون القتل قائمًا به من حيث الخطاب.

وأيضًا فإنَّ قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ينحل إلى الذين هم يشركون، فَهُم محكم عليهم.

(1)

في (ص، ق، ش، ض): يفهموها.

ص: 955

وبالجملة فلا فرق بين أن يكون المشتق محكومًا عليه أو متعلق الحكم أو غير ذلك، فالمدار على ما قررناه.

الثاني:

تكميل ما تحرر في جواب شبهة القرافي أنَّ اللفظ على أربعة أقسام:

قِسم وُضع للزمان المعيَّن: كأمس وغدًا والآن.

وقِسم وُضع مجردًا عن الدلالة على الزمان تَضَمُّنًا والتزامًا: كأسد، فهذا لا يتصف من حيث الأزمنة لا بحقيقة ولا بمجاز.

وقِسم وُضع للحدث والزمان المعيَّن: كالأفعال، فالزمان فيها جزء مِن مدلولها، فهذه حقيقة فيما وُضعت له، مجاز إنِ استُعملت في غيره.

فالفعل الماضي وضْعُه للحدث والزمن الماضي، كَـ "قام"، فإذا أُريدَ به الاستقبال نحو:(غفر الله لك) ونحو: {وَنُفِخَ فِى الصُّورِ} [الكهف: 99]، أو الحال كَـ "قام الآن" ونحو ذلك، كان مجازًا قطعًا.

والمضارع فيه خمسة مذاهب:

- كَوْنه للحال لا للاستقبال، عكسُه.

- كونه حقيقة في الحال ومجازًا في الاستقبال، عكسُه.

- حقيقة فيهما، فيكون مشتركًا. وظاهر "التسهيل" اختياره، فمتى استُعمل في الماضي كان مجازًا قطعًا، وكذا لو استُعمل في غير ما هو موضوع له عند القائل به.

وقِسم رابع وهو نحو: أسماء الفاعلين والمفعولين والصفات المشبهة ونحو ذلك، فما أُريد فيه الثبوت مِن اسمَي الفاعل والمفعول وكالصفات المشبهة مطلقًا لا دلالة له على زمان أصلًا، بل يصير كلفظ "أسد" و"إنسان"، وعليه حُمل نحو:{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ونحو:

ص: 956

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} .

فإنْ قصد به الحدوث كما يقصد بالأفعال ولهذا أُعْمِل عَمَل الفعل، فدلالته على الزمان بالالتزام لا بالتضمن كما هو شأن الفعل، فيطرقه الانقسام للحقيقة والمجاز، ويأتي فيه ما سبق في أصل المسألة.

الثالث:

نشأ مما قررناه الاختلاف في مسائل:

منها: رجوع البائع في سلعته بفلس المشتري؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجُل مات أو أفلسَ فصاحب المتاع أحق بمتاعه"

(1)

. إنْ قُلنا: إنه صاحبه باعتبار ما مضى حقيقة، رجع وإلَّا فلا، فيتعين الحمل على المستعير.

وجوابه: أنَّه وإنْ كان مجازًا فقد قام الدليل على إرادته كما ذُكر ذلك في محله.

ومنها: قال الكافر: (أنا مسلم)، هل يحكم بإسلامه؛ فيه اضطراب في "الشرح" و"الروضة". وبالجملة فمنشأ الخلاف فيه أنَّه قد يريد "أنا أُسْلم بعد ذلك" فيكون وعدًا، وقد يريد الماضي وهو دِينه الذي هو عليه في الماضي ولكنه سماه إسلامًا.

ومنها: لو قال: (أنا مقرٌ بما يدَّعيه)، كان إقرارًا؛ لأنه حقيقة في الحال.

ومنها: قال لزوجته: (يا طالق)، طلقت لذلك، فإنِ ادَّعى أنَّه أراد الماضي وقد وقع عليه طلاق قبل ذلك، صُدِّق.

ومنها: هل تزول كراهة السواك للصائم بالغروب قبل فطره؟ أوْ لا بُدَّ من إفطاره؛ لأنه

(1)

سبق تخريجه.

ص: 957

ليس حينئذٍ صائمًا وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"

(1)

؟ فالأكثر على أنَّه يزول بالغروب؛ لأنه قد أفطر شرعًا.

ومنها: لو أوصى أو وقف على حُفاظ القرآن، لا يدخل مَن نسيه

(2)

؛ لأنَّ ذلك مجاز.

ومنها: وقف أو أوصى لورثة زيد وَزيد حي، لا يصح؛ لأنه ليس وارثا إلَّا باعتبار المستقبل وهو مجاز.

ومنها: في مسألة "كُلما وَلَدت واحدةٌ فصواحبها طوالق" هل يخرج عن الصحبة مَن وقع عليها الطلاق؟ أوْ لا؛ لأنها صاحبة باعتبار ما كان؟

تذنيب:

من مسائل الاشتقاق أن المشتق لا إشعار له بخصوصية الذات، فالأسود مثلًا ذاتٌ لها سواد، ولا يدل على حيوان ولا غيره، والحيوان ذات لها حياة، لا خصوص إنسان ولا غيره.

قال الهندي: (لا بالمطابقة ولا بالتضمن)

(3)

.

ومفهومه أنَّه يدل بالالتزام، فإنْ أراد مُطلق الجسم فمُسَلَّم، أو نوعًا معيَّنًا فلا. والله أعلم.

* * *

(تَمَّ بِعَوْن الله تعالى الجزءُ الثاني، وَيلِيه الجزء الثالث، وأوله: المنطوق والمفهوم)

(1)

صحيح البخاري (رقم: 1795)، صحيح مسلم (رقم: 1151).

(2)

يعني: مَن نسي القرآن.

(3)

نهاية الوصول في دراية الأصول (1/ 179).

ص: 958