الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا اعتددنا بما تقدم، قلنا: إن استقبالها بما ذكر إهانةٌ لها، ولذا نراه بيِّنًا عند التحقيق باعتبار القصد والنية، ألا ترى أن أهل الشام لما كانوا يذكرون عليًّا عليه السلام بلفظ "أبو تراب" قاصدين الغضَّ منه، كان ذلك شتمًا، وإن لم تكن تلك الكنية في نفسها دالَّةً على نقصٍ ولا مُشعِرةً به، بل تُشعِر بالمدح بالنظر إلى سببها. وكذلك لما كتب زياد إلى الحسن عليه السلام:"إلى الحسن بن فاطمة" قاصدًا الغضَّ منه، عدَّ الحسن ذلك غضًّا [منه].
ويَهجِسُ
(1)
في نفسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان يستقبل أولًا بيت المقدس، ثم حُوِّل إلى الكعبة، وغاظ اليهودَ تركُه قبلتَهم إلى غيرها غيظًا شديدًا كما هو معروف، كان ذلك مظنةَ أن يَحمِلَ بعضَهم الغيظُ على أن يتحرى استقبال الكعبة بالبول والغائط، قائلًا: إنها لا تصلح لأن تُستقبلَ بل لأن تُستقبلَ بهذا، ويكون فعله هذا تغاليًا في الكفر، وتكذيبًا بآيات الله، وإهانةً للقبلة.
[ص 3]
فقه هذا الحديث
الذي يتحقق من الواقعة هو استقبال الشام بالبول.
أما الشام: فإن الرواية اختلفت؛ فجاء "مستقبلَ الشام"، وجاء "مستقبلًا بيتَ المقدس".
وبيت المقدس من الشام، لكن الذي يترجح "مستقبلًا بيتَ المقدس"، فإنها الثابتة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أكبر من عبيد الله وأجلُّ، وموصوف بالفقه، وبأنه كان يؤدي الحديث على وجهه.
(1)
أي: يخطر في البال.
وأما البول: فلأن الجالس لحاجته إن كان للبول فقط فواضح، وإن كان للغائط فمن لازمهِ عادةً البولُ وإن قلَّ، وليس في كلام ابن عمر ذكرٌ للغائط، والظاهر أنه لم يُثبِته؛ لأنه إنما حانتْ منه التفاتةٌ، والظاهر أنه يَصرِف نظره قبل أن يستثبت، وأقوى من هذا أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليكشف لأحدٍ تلك الحالَ من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا تقرر هذا فقد يقال: لا حجة للمرخصين في هذه الواقعة البتة.
أما أولًا: فلأن من كان بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى جهة الشرق، فلو كان ثَمَّ تغوّط لما كان إلى القبلة.
وأما ثانيًا: فلأنه ليس في الواقعة ذِكرٌ للغائط.
فإن قيل: فما وجه احتجاج ابن عمر بالقضية على ما أنكره من قول الناس: "لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس"؟
قلت: أما احتجاجه بالنسبة إلى بيت المقدس فواضح، وأما بالنسبة إلى القبلة فلعله لم يُرِد إنكارَ قولِ الناس فيها، وإنما أنكر التسويةَ بينها وبين بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تَستقبلِ القبلةَ ولا بيتَ المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت أن لا تُستقبلَ القبلةُ، فأما بيت المقدس فالواقعة تردُّه.
وقد يؤيد هذا أنه لم يتعرض في قوله: "إن أُناسًا يقولون .... " لاستدبار القبلة.
فإن قيل: فلماذا ذكر في وصف الواقعة قوله: "مستدبر القبلة"؟
قلت: ليس هذا في رواية يحيى، وإنما هو في رواية عبيد الله، واختُلِف
فيه تقديمًا وتأخيرًا وغير ذلك كما مر، ويحيى أكبر وأجلُّ وفقيه، وممن يؤدي الحديث على وجهه، وعبيد الله إمام في الرواية، ولكن من المحتمل أن يكون تصرَّفَ في اللفظ بحسب ما فهمه من المعنى، كأنه سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، فوقع في نفسه أن مقصود ابن عمر إنكار النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالحاجة، فلما أدّى الحديث تصرَّفَ في لفظه بحسب ذلك، فأسقط أول الكلام "إن أُناسًا يقولون
…
" كما مر، وقال: "مستقبل الشام" بدل "مستقبلًا بيت المقدس" كأنه علم ما قدمتُه من أن [مَن] بالمدينة إذا استَقبَل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا؛ فوقع له أن مراد ابن عمر ببيت المقدس مطلقُ الشام، ومَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا يكون مستقبلًا مشارقَ الشام. وزاد قوله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت" لأنه فهم أن ذلك هو المقصود من القصة.
ومما يُقوِّي هذا اضطرابُه في هذه اللفظة، فتارةً يؤخِّرها على الأصل من كونها زيادة، وتارةً يقدِّمها نظرًا إلى أنها هي المقصودة بحسب ما فهمه، وتارةً يقول:"القبلة" على الأصل، وتارةً يقول:"الكعبة أو البيت"، حرصًا على أداء ما فهمه من المعنى؛ لأن استقبال الشام يصدق باستقبال بيت المقدس، فلا يلزم منه استدبار الكعبة كما مر، وإن لزم استدبار القبلة، على رأي من يقول: إنها الجهة، أي: سمت البيت وما عن يمينه ويساره إلى حد ربع السماء.
[ص 4] قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط"، احتج به بعضهم على أن النهي لا يتناول البيوت؛ لأن الغائط هو المكان المنخفض من الأرض في الفضاء، ونسب ذلك إلى البخاري؛ إذ ترجم لحديث أبي أيوب بقوله: "باب لا
تُستقبل القبلةُ ببولٍ ولا غائطٍ إلا عند البناء: جدارٍ أو نحوه".
وبسط الحافظ في "الفتح"
(1)
الكلام على ذلك بما لا أرى تحته طائلًا، فإن المتبادر من الحديث أن قوله:"إذا أتى أحدكم الغائط" إنما هو كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما أن قوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} كناية عن الحدث.
فحاصل معنى الجملة: إذا أراد أحد منكم أن يقضي حاجته، والمعتبر في الكنايات هو المعنى، ولا يفهم منها موافقة الحقيقة ولا مخالفتها، كما في قولنا:"يد السلطان طويلة" فإنما فيها أنه يقدر على تنفيذ إرادته فيمن يبعد عنه، ولا يفهم من ذلك طول الجارحة البتة.
فإن قيل: فعلى هذا لا يظهر لهذه الجملة فائدة، إذ لو تُرِكتْ واقتُصِر على قوله: "لا يستقبل أحد منكم القبلة
…
" لكان المقصود واضحًا.
قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي النظر قبل الجلوس حتى لا يغفل قاضي الحاجة عن التحري، أو يحتاج إلى الاستدارة بعد جلوسه، وقد لا يمكنه ذلك.
نعم، في شرح الموطأ للباجي
(2)
ما يتحصل منه دعوى أن هذه العبارة إنما تكون كنايةً عن الخِراءة.
أولًا: لأن الشارع لا يستنكر التصريح بالبول، بل جاء: "لا يقلْ أحدكم:
(1)
(1/ 245).
(2)
"المنتقى"(2/ 390) ط. دار الكتب العلمية.
هَرَقْتُ الماء، وليقلْ: بُلْتُ"
(1)
.
ثانيًا: لأن الملازمة الغالبة التي بُنِي عليها مدارُ الكناية إنما هي بين إتيان المكان المنخفض في الفضاء وبين الخِراءة؛ لأن العرب لها كانوا يأتون الغِيطانَ، فأما البول وحده فلم يكونوا يأتونها له.
وهذا أيضًا ليس بشيء.
أما الوجه الأول: فلأنه أريد هنا ما يشمل البول والخِراءة، فجيء بهذه الكناية لتعمَّهما، ولو لُوحِظ عدم الكناية عن البول لاحْتِيجَ أن يقال مثلًا:"إذا أراد أحدكم أن يبول أو أتى الغائط". وهو تطويل لا حاجة إليه، وما ورد من كراهية أن يقال:"هَرَقْتُ الماء" إنما هو ــ والله أعلم ــ لأن هذه الكناية غير واضحة، فارتكابها أقبح من التصريح.
أما الوجه الثاني: فقد دفعه في الحديث قوله: "فلا تستقبلوا القبلةَ ببولٍ ولا غائطٍ"، ومن الواضح أنه لا معنى للمنع من استقبالها بالبول حال التغوط، وإباحته عند عدم التغوط.
وقد ظهر من الحديث أن المدار على استقبالها بالنجس حال خروجه، ولا يختص ذلك باجتماعٍ ولا افتراقٍ، ولا بمكان دون مكان، والذين فرَّقوا بين الأبنية وغيرها، عللوا ذلك بأمور:
الأول: تضايق المنازل، وتعسر التحرف فيها. قال الشافعي في "كتاب
(1)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 62) وفي "مسند الشاميين"(3394) عن واثلة بن الأسقع بنحوه، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 210): فيه عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة، وقد أجمعوا على ضعفه.
اختلاف الحديث" هامش "الأم" (7/ 270)
(1)
: "وكانت المذاهب بين المنازل متضايقةً، لا يمكن من التحرُّفِ فيها ما يمكن في الصحراء".
وهذا حق، ولا يقتضي الإباحة في البيوت مطلقًا، ولا في المراحيض مطلقًا، بل المدار على التعسُّر، فمن لم يتيسَّر له لقضاء حاجته إلا موضعٌ يتعسَّر فيه عدمُ الاستقبال أو الاستدبار جاز له ذلك.
ومع هذا فإنما يحتاج إلى هذا إذا قلنا: إن الاستقبال يحصل باستقبال الجهة كالجنوب لأهل المدينة، وكذلك الاستدبار على ما يظهر من قوله:"ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
وليس هذا بلازم؛ لاحتمال المدار على تحرِّي استقبال يمين الكعبة واستدبارها، كما هو مذهب الشافعي.
ومعنى قوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" شرِّقوا عن القبلة أو غرِّبوا عنها، فيصدق ذلك بالتحرُّف عن يمين البيت.
فأهل المدينة ــ وهم المخاطبون بهذا ــ البيتُ جنوبَهم بانحرافٍ يسيرٍ جدًّا في الجنوب، فإذا اتجه أحدهم نحو البيت فقد استقبل القبلة، وإذا تحرَّف إلى الشرق أو الغرب لم يصدُقْ عليه أنه استقبلها أو استدبرها، وصدق عليه أنه شرَّق عنها أو غرَّب.
والسر في ذلك أنه إذا اعتُبِرت السماءُ أرباعًا: شرق وغرب وشمال وجنوب، فإن أحدنا إذا كان مستقبلًا بعض أجزاء الجنوب ثم تحرَّف يمنةً يقال: شرَّق، لا يقال: إلى جهة المشرق، وإن كان لا يزال مستقبلًا بعض
(1)
(10/ 220) طبعة دار الوفاء.
أجزاء الجنوب. وقِسْ على ذلك.
وعلى هذا فلا حاجة لتخصيص النهي بالفضاء البتةَ؛ لأن المراحيض وإن كان قد يتعسَّر فيها جعلُ القبلة يمينًا أو يسارًا على التحقيق، فلا يتعسَّر فيها التحرُّف، وبه يحصل المقصود من عدم استقبال القبلة أو استدبارها.
[ص 5] 6 - أخرج الإمام أحمد وابن ماجه
(1)
وغيرهما من حديث عائشة قالت: ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلةَ بفروجهم، فقال:"أوَقد فعلوها، حوِّلوا مقعدي قِبَلَ القبلة".
هذا الحديث ينفرد به خالد الحذاء، واختلف عنه فيه على أوجه:
الأول: عنه عن عراك عن عائشة. ذكره الدارقطني
(2)
من طريق يحيى بن مطر عن خالد، وذكر أنه تابعه أبو عوانة والقاسم بن مُطيَّب.
الوجه الثاني: عنه عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة. قال البخاري في التاريخ (2/ 1/
…
)
(3)
.
الوجه الثالث: عنه عن رجل عن عراك عن عائشة. قال أحمد في المسند (6/ 183): ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا خالد
…
الوجه الرابع: عنه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك عن عائشة. هكذا قاله حماد بن سلمة، فيما رواه عنه وكيع وبهز وأبو كامل ويزيد بن هارون، رواه عنهم أحمد في المسند (6/ 137 و 219 و 227 و 239).
(1)
أحمد (6/ 227) وابن ماجه (324). وسبق تخريجه من مصادر أخرى.
(2)
في "السنن"(1/ 59).
(3)
"التاريخ الكبير"(3/ 156). وسبق نقل العبارة فيما مضى.
وكذلك يحيى بن إسحاق عند الدارقطني
(1)
وغيرهم.
وأخرجه ابن ماجه
(2)
من طريق وكيع عن حماد فذكره، وفي النسخة بعده:"قال أبو الحسن القطان: حدثنا يحيى بن عبيد ثنا عبد العزيز بن المغيرة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت مثله".
الوجه الخامس: مثل الذي قبله، إلا أن فيه عن عراك:"حدثتني عائشة".
هكذا رواه على بن عاصم عن خالد الحذاء، أخرجه عن علي أحمد في "المسند"(6/ 184) وغيره، وتابعه موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. قال البخاري في التاريخ [
…
]
(3)
.
الكلام في الحديث
حكم الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم بأنه مرسل، وأن عراكًا لم يسمع من عائشة. وزاد البخاري وأبو حاتم فحكما بأنه مع إرساله غلط، وأن الصواب موقوف على عائشة. قال البخاري في التاريخ [
…
]
(4)
.
وساق الدارقطني
(5)
الحديث من طريق من رواه عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة، ثم قال: وهذا القول أصح. ثم قال: "ورواه علي بن عاصم وحماد بن سلمة عن خالد بن أبي الصلت عن عراك
…
" ثم ذكره من طريق
(1)
في "السنن"(1/ 60).
(2)
رقم (324).
(3)
هنا بياض في الأصل، والنص فيه (3/ 156)، وسبق ذكره.
(4)
بياض في الأصل، وانظر "التاريخ الكبير"(3/ 156). ونقل النص فيما مضى.
(5)
في "السنن"(1/ 59).
علي بن عاصم، ثم قال:"وهذا أضبط (كذا) إسناد، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب".
فيظهر دفعًا للتناقض عن كلامه أن مراده بقوله في الأول: وهذا القول أصح" أراد به صحته في عنعنة عراك. وأما قوله في الثاني: "وهذا أضبط إسناد
…
وهو الصواب "، فإنما صوَّب به زيادة خالد بن أبي الصلت في السند، ولم يتعرض للسماع، فكلامه موافق لكلام أحمد ومن معه، أو غير مخالفٍ له، فمن توهم خلاف ذلك فلم يتدبر.
وخالفهم بعض المتأخرين فقال: "إسناده حسن، ورجاله ثقات معروفون، وأخطأ من قال خلاف ذلك، وقد علل البخاري الخبر بما ليس بقادح
…
فإن ثبوت ما قال لا يستلزم نفي هذا، فبعد صحة الإسناد يجب القول بصحتهما".
واختار بعض أجلة العصر أن الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصلت من "الميزان"
(1)
: "هذا حديث منكر .... ".
أقول: ههنا مباحث:
الأول: في سماع عراك من عائشة. احتج بعضهم عليه برواية علي بن عاصم التي مرّت وما معها، وبأن مسلمًا أخرج في "الصحيح"
(2)
حديث عراك عن عائشة: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين .... ". وبأنه عاصرها وكان
(1)
(1/ 632).
(2)
رقم (2630).
معها في المدينة، والحجة في المعاصرة أنه سمع من أبي هريرة، وإنما ماتت عائشة في رمضان سنة 57، فصلى عليها أبو هريرة ثم مات بعدها في السنة، ورواية الرجل عمن عاصره واحتمل لقاؤهما محمول على السماع عند الجمهور، كما شرحه مسلم في مقدمة "صحيحه"
(1)
، وشدد النكير على من خالفه.
أقول: أما الحجة الأولى: ففيها أن علي بن عاصم كذَّبه جماعة، وقال يزيد بن زريع: لقيتُ علي بن عاصم بالبصرة وخالد الحذاء حي، فأفادني أشياء عن خالد، فسألته عنها فأنكرها كلها، وأفادني عن هشام بن حسان حديثًا، فأتيت هشامًا فسألته عنه فأنكره".
وفي رواية أخرى عن يزيد بن زريع: "ثنا علي ــ بن عاصم ــ عن خالد بسبعة عشر حديثًا، فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره، ثم آخر فأنكره، ثم ثالث فأنكره، فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه". ذكر ذلك في "التهذيب"
(2)
.
وأقوى ما اعتُذِر به عن علي بن عاصم قول عبّاد بن العوّام: "كان رجلًا موسرًا، وكان الوراقون يكتبون له، فنراه أُتِي من كتبه". ذكره في "التهذيب"
(3)
، ونحوه عن يعقوب بن إسحاق.
أقول: إذا قبلنا هذا فلا مَحِيصَ عن القول بأنه كان يعتمد على وراقين لا يُوثَق بهم، ثم لا يَفْطَن لتخليطهم، بل ولا لكذبهم، وفوق ذلك فقد ذكروا أنه
(1)
(1/ 29 وما بعدها).
(2)
(7/ 347).
(3)
(7/ 345).
كان يحتقر كبار العلماء ويعيبهم، وإذا نبَّهه أحد منهم على غلط لم يقبل منه، ومثل هذا لا يصلح للمتابعة فضلًا عن الحجة.
فأما رواية أحمد عنه وتقويته من شأنه، وقوله:"إنما كان كثير الغلط"، فالظاهر أن أحمد لم يبلغه كلام يزيد بن زريع، أو حملها على أن ذلك كان من علي أولًا، ثم تاب وصلح في الجملة، وعلى كل حال فالجرح المفسر الواضح يجب قبوله.
وأما متابعة حماد بن سلمة فيما رواه موسى بن إسماعيل عنه، فحماد تغير حفظه بأَخَرة، وموسى ممن سمع عنه بأخرة، وقد رواه القدماء الأثبات من أصحاب حماد عنه فقالوا: عن عائشة، أو نحو ذلك.
وهناك أمور أخرى تُبطل ما ذكر في الرواية المذكورة:
منها: أن خالدًا الحذاء تغير حفظه بأخرة، وقد ظهر أن ذلك في هذا الحديث كما مر، وقد رواه عنه وهيب أحد الأثبات المتقنين فقال: "
…
خالد عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة" كما مر، فأدخل بين عراك وعائشة واسطة، وإذا ثبتت الواسطة بطل السماع، وتجويز الرواية من الوجهين كما تقدم في شأن مجاهد [ص 6] إنما يُصار إليه في الأسانيد القوية الثابتة، وليس ما هنا كذلك.
ومنها: حال خالد بن أبي الصلت، وسيأتي.
وأما الحجة الثانية: وهي أن مسلمًا أخرج لعراك عن عائشة في صحيحه.
فجوابه من وجوه:
الأول: أن مسلمًا رحمه الله أخرج حديث المسكينة أولًا من حديث عروة عن عائشة
(1)
، ثم أخرجه من حديث عراك عن عائشة، فطريق عراك متابعة، وهم يتسامحون فيها.
الثاني: أنه في فضائل الأعمال، وهم يتسامحون في روايتها.
والثالث: فإن عراكًا معروفٌ بالرواية عن عروة، وإذا انضمَّ إلى هذا أن عروة قد روى الحديث المذكور، وقع في النفس أن عراكًا إنما سمعه من عروة، وبذلك تُعلَم الواسطة، وإذا عُلِمت الواسطة صار الإرسال صوريًّا فقط. غاية الأمر أن يكون انضمَّ إلى هذه الأمور تجويز مسلم أن يكون عراك سمع من عائشة، وهذا التجويز تتفاوت درجاته، كما يأتي في الحجة الثالثة، وإن صح استناد مسلم إلى تجويز سماع عراك من عائشة، فإنما ذلك عند انضمامه إلى الأوجه المتقدمة، ومع هذا فرأيُ مسلم ــ إن صح أنه كان يجوِّز سماع عراك من عائشة ــ معارِضٌ لرأي أحمد والبخاري وأبي حاتم. والله أعلم.
وأما الحجة الثالثة: فالمذهب الذي انتصر له مسلم في أول صحيحه، حاصله أنه إذا روى ثقة غير مدلِّس عن ثقة، وكانا معًا في عصر، وكان جائزًا ممكنًا أن يكون سمع منه وشافهه، فالرواية محمولة على السماع.
وعلى هذا فالشروط ثلاثة:
الأول: الثقة مع عدم التدليس.
الثاني: ثبوت المعاصرة.
(1)
رقم (2629).
الثالث: أن يكون جواز اللقاء والسماع جوازًا ظاهرًا.
وهذا مأخوذ من قول مسلم في المقدمة
(1)
: "وجائزٌ ممكنٌ لقاؤه والسماع منه".
فقوله: "ممكن" في معنى قوله: "جائز"، وإنما زاده تأكيدًا، ليفيد أنه لابد أن يكون الجواز ظاهرًا قريبًا.
فأما الشرط الأول، فعراك ثقة، ولم يوصف بالتدليس نصًّا، إلا أن في كلام أحمد وغيره في إنكار سماعه من عائشة الحكم عليه بأنه قال عن عائشة، ولم يسمع منها.
وأما الشرط الثاني، فإنما يتحقق بثبوت أن الراوي بلغ سنَّ السماع والضبط قبل وفاة الشيخ بمدة يتحقق فيها الشرط الثالث، وليس هنا من هذا الثبوت إلا أن عراكًا سمع من أبي هريرة وضبط عنه، وأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة أي بنحو ثلاثة أشهر على الأكثر، ومن البعيد بالنظر إلى العادة أن يقال: إنه سمع من أبي هريرة وضبط عنه في وقتٍ كان قبله بشهر أو شهرين أو ثلاثة غيرَ أهلٍ للسماع والضبط.
والجواب [عن] هذا:
أولًا: أن في هذا الاستبعاد نظرًا.
ثانيًا: أن القول بأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة، وإنما نُقل عن هشام بن عروة، ومولد هشام سنة 61.
(1)
(1/ 29).
ثالثًا: قد خالف هشامًا غيرُه في موت أبي هريرة، فقد قال ضمرة بن ربيعة وأبو معشر والهيثم بن عدي: مات سنة 58. وقال الواقدي وأبو عبيد وغيرهما: مات سنة 59. زاد الواقدي أنه صلى على أم سلمة في شوال سنة 59، ثم توفي بعد ذلك فيها.
وغلَّطه ابن حجر
(1)
في وفاة أم سلمة، وغلَطُه في ذلك لا يلزم منه غلطه في موت أبي هريرة، نعم رجح ابن حجر قول هشام ومن تبعه، ولكن ترجيحه لا يوجب أن يكون قوله حجة تبنى عليه الأحكام.
ثالثًا: قد استقرأتُ حديث أبي هريرة في "مسند أحمد"، فلم أجد لعراكٍ عنه إلا أحرفًا يسيرةً بمتونٍ قصيرة، والذي رأيتُه منها حديث:"ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة"
(2)
، وحديث:"إن شرَّ الناس ذو الوجهين، يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ"
(3)
، وحديث:"لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فإنه كفر"
(4)
، وحديث:"من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها"
(5)
. فهذه الأربعة متون قصيرة كما ترى. والخامس: "خُثَيم بن عراك عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينةَ في رهطٍ من قومه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر
…
"
(6)
. وظاهر هذا الإرسال.
(1)
"تهذيب التهذيب"(12/ 266).
(2)
"المسند"(2/ 242، 254 ومواضع أخرى).
(3)
"المسند"(2/ 307، 455).
(4)
"المسند"(2/ 526).
(5)
"المسند"(2/ 265).
(6)
"المسند"(2/ 345).
هذا ولا آمَنُ أن يكون زاغ نظري عن حديث أو حديثين آخرين
(1)
، ولا أن يكون لعراك عن أبي هريرة شيء آخر في غير "مسند أحمد"
(2)
، ولكن هذا كافٍ فيما أريده، وهو أن عراكًا إنما أدرك من السماع والضبط قبل وفاة أبي هريرة بيسير، فإن أبا هريرة مع كثرة حديثه كان يبذل نفسه للحديث، ويكثر من التحديث، وكان يكون تارةً هو الإمام فيخطب الناس ويحدِّثهم، وتارةً يكون الإمام غيره فيقوم أبو هريرة عند المنبر قبل أن يخرج الإمام فيذكِّر ويحدِّث.
فلو قيل: إن عراكًا إنما سمع من أبي هريرة وضبط عنه في مجلس أو مجلسين قبيل وفاته، لما كان بعيدًا؛ إذ لو أدرك مدةً طويلة من حياة أبي هريرة لكثرت روايته عنه.
[ص 7] وأما الشرط الثالث: فلو تحقق الشرط الثاني لتحقق هذا، فإن عراكًا كان مع عائلته بالمدينة، فمدارُ الكلام عند التحقيق إنما هو على الشرط الثاني.
فإن قيل: إنما مدار اشتراط العلم باللقاء وعدمه إنما هو على أن المحدث إذا روى عن رجل ولم يصرح بالسماع، هل يكون الظاهر السماع؟ قد اتفقوا على أنه إذا تحقق اللقاء ولو مرةً كان الظاهر في كل ما يحدث به الراوي عن ذلك الشيخ السماع، وإن عُلِم أن تلك اللُّقية لا تَسَعُ تلك الأحاديث كلها، بل يشمل كلامهم ما لو قال الراوي: كنت جالسًا مع
(1)
رحم الله المؤلف، فلم يفته شيء مما في "المسند" من هذا الطريق.
(2)
يراجع لأحاديث عراك عن أبي هريرة في غير "المسند": "إتحاف المهرة"(15/ 367 ــ 369).
جماعة فمرّ بنا فلان فسلّم، ويعني: ولم يكلِّم أحدًا، فمثل هذا يثبت به اللقاء، حتى لو حدَّث هذا الراوي عن ذلك المارِّ بألف حديث، ولم يُصرِّح في شيء منها بالسماع؛ لكانت كلها محمولةً على السماع.
ثم اتفقوا على أن الراوي إذا عُرِف منه التدليس، كان كلُّ ما رواه ولم يصرِّح بالسماع محمولًا على الانقطاع.
فهذا يدل على أن رواية الرجل عن آخر ظاهرها السماع، وإنما لم يُحمل على ذلك روايةُ المدلس؛ لأنه قد عُرِف منه مخالفة هذا الظاهر، فصار ذلك قرينةً يسقط بها الظهور.
ثم إذا تقرر هذا، فقد يقال: ينبغي أن يُكتفَى باحتمال الإدراك؛ لأن الرجل إذا روى عمّن لم يتحقق إدراكه له ولكنه محتمل، كان الظاهر السماع؛ لأنه لم يتحقق ما ينافيه. وبعبارة أخرى: ليس هناك قرينة يُردُّ بها ذلك الظاهر.
فالجواب: أن ابن المديني والبخاري اشترطا ثبوت اللقاء، ومعنى هذا أنهما يريانِ أن رواية الرجل عن الشيخ بدون تصريحٍ بالسماع إنما يكون ظاهرها السماع إذا كان قد لقيه ولو مرةً.
نعم، زعم بعض أكابر العصر أن البخاري إنما يشترط اللقاء لصحة الحديث صحة أكيدة بحسب ما اشترطه في جامعه، وأنه لا يشترط اللقاء لأصل الصحة. وعلى هذا فلا خلاف بين قوله والقولِ الذي حكاه مسلم عن الجمهور.
وهذا لا يصح؛ فإن مسلمًا صحب البخاري وحذا حذوَه، وكان من أعرف الناس بقوله، فلو كان هذا هو قول البخاري لما خفي على مسلم، ولو
عرفه لما كان هناك ما يحمله على تشديد النكير على هذا القول، كما تراه في مقدمة "صحيحه".
وأوضح من ذلك: أننا نجد في كتب البخاري، كالتاريخ الكبير وغيره، أنه يحكم بعدم الصحة، ثم يُعلِّلها بعدم العلم باللقاء.
والمقصود أن ذهاب ابن المديني والبخاري هذا المذهب يدل أن عندهما أن رواية الراوي عن الشيخ بدون تصريح بالسماع لا يكون ظاهرها السماع إلا إذا كان قد تحقق اللقاء.
وأما مسلم ومن وافقه فإنهم وإن لم يشترطوا تحقُّقَ اللقاء فقد اشترطوا تحقُّقَ المعاصرة وإمكانَ اللقاء إمكانًا بينًا كما علمت، فكان من لازم قولهم أن رواية الرجل عن شيخٍ بدون تصريحٍ بالسماع، إنما يكون ظاهرها السماع بذينك الشرطين.
وإذ لم يكن هناك مذهبٌ ثالثٌ، فهذا إجماعٌ منهم على أنه عند عدم تحقق الشرطين المذكورينِ لا يُحَمل على السماع، ولزِمَ من ذلك إجماعهم على أنه حينئذٍ لا يكون ظاهرُ الرواية السماعَ.
وسرُّ المسألة: أن يُنظَر في الظهور المذكور من أين جاء؟ أمن وضع اللغة أم من العرف أم من العقل؟
فأقول: أما اللغة فلا شأنَ لها بهذا، فإن قول الرجل:"قال أو حدَّث أو ذكر أو نحو ذلك فلانٌ" حقيقة، سواء أكان سمعه منه أم لم يسمعه.
وأما العرف؛ فالعرف العام لا يتحقق، وما يتراءى منه مصدره العقل، كما يأتي.
وأما العرف الخاص بأن يقال: كان من عادة أهل الحديث أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه، أو عمّن عاصره، أو عمّن لم يتضح عدم سماعه منه إلا ما سمعه منه. فهذا يحتاج إلى [نقلٍ]، فإن عَدَدْنا كلامَ مسلم في المقدمة نقلًا، فقد خالفه قول ابن المديني والبخاري وهما أكبر منه وأجلُّ، وأعلمُ بمذاهب المحدثين وبعلل الحديث.
نعم، ما اتفق عليه المذهبان يمكن أن يسلَّم، لذا فيقال: الثابت أنه كان من عادة المحدثين أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه إلا ما سمعه منه، فإن بدا له أن يخبر عنه بما لم يسمعه بيَّن ذلك، كأن يقول: بلغني عن فلان.
وشذّ أفراد فكانوا يروون عمّن لقوه ما لم يسمعوا منه، ويكتفون في البيان الذي يُخرِجهم عن الكذب بأنه قد عُرِف من شأنهم ذلك، وهؤلاء هم المدلِّسون الثقات.
لكن يبقى علينا أمران:
الأول: النظر في هذه العادة متى ابتدأت، فإننا نعلم أن كثيرًا من الصحابة كانوا يحدِّثون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني: أن هذا إنما ينفعنا بالنظر إلى من اشتهر بطلب الحديث، وكثرت مجالسته لأهله حتى يظهر أنه [
…
]
(1)
، فيخرج المقلون، ويمكن التخلص عن هذين، كما يأتي إن شاء الله تعالى.
[ص 8] وأما العقل: فمدخله قوي هنا، بأن يقال: الإنسان العاقل المتثبت
(1)
هنا خرم في الأصل.
لا يخبر إلا بما يَثِقُ به، لأمرين:
الأول: التدين.
الثاني: خشية الاتهام بالكذب.
فإنه إذا أخبر عن رجل خبرًا
(1)
يحتمل أنه سمعه منه، ثم ظهر صحةُ عدمِ ذلك الخبر، اتُّهِم المخبر بالكذب، ولا يدفع ذلك عنه أن يقول: أنا لم أسمعه منه، إنما أخبرني عنه مخبر؛ لأنه يقال: يحتمل أن يكون صادقًا في هذا، وأن يكون إنما أراد أن يدفع عن نفسه الكذب، فإذا تكرر هذا منه قويت التهمة.
فالعاقل المتثبت ينفي هذا من أول الأمر، ولمّا عُرِف هذا في الناس علموا أن العاقل المتثبت لا يخبر إلا بما يثق به، ولمّا كانت الثقة التامة إنما تحصل غالبًا بالمشاهدة صار يتراءى للناس أن العاقل المتثبت إذا أخبر عن شخص بخبر، فالظاهر أنه سمعه منه، فهذا مصدر الظهور فيما أرى.
فأما الصحابة رضي الله عنهم فكانوا بغاية التحرز فيما يخبرون به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الرجل منهم يعلم تحرِّيَ الآخر الصدقَ وشدةَ احترازه عن الغلط، فإذا أخبره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء كان عنده في الوثوق نحوًا مما لو سمعه هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا مع ذلك معروفين عند إخوانهم وعند التابعين بالصدق والأمانة، فكان أحدهم إذا سمع من أخيه الحديث وثقَ به هذه الثقةَ، فيرى أنه ليس في الإخبار به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون بيان الواسطة غِشٌّ في الدين، ولا تعرُّضٌ للاتهام.
(1)
في الأصل: "أخبارًا".
أما عدم الغشّ فظاهر، وأما التعرُّض للاتهام؛ فلأنه يعلم صدق أخيه وتحرُّزه، فيثِقُ بأنه لن يظهر على الخبر المذكور أنه كذب، لا عمدًا ولا خطأً، فإن فُرِض في النادر أن يظهر أنه خطأٌ أمكنه أن يعتذر بأنه إنما أخبره فلان، ويرى أنه لن يُتَّهم بالكذب، لا هو ولا أخوه، ولا أن يُتَّهم بأنه كذب بقوله: إنما أخبره فلان؛ لعلمِ الناس بصدق الصحابة وأمانتهم.
فمن تدبَّر هذا وعلم مصدر الظهور السابق، علم أن قول الصحابي: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيتَ وكيتَ، لا يكون ظاهرًا في أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بل هو على الاحتمال في أن يكون سمعه منه صلى الله عليه وآله وسلم، أو من صحابي آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما التابعون فلم تكن لهم تلك الثقةُ، ولكن بقي قريبٌ منها، فإن العصر كان الغالب فيه الديانة والأمانة، واستعظام الكذب على الله وعلى رسوله، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام:
الأول: من جرى على نحو ما وقع من الصحابة، فربما روى عمّن لقيه ما لم يسمعه منه، فمن هؤلاء: أيوب السختياني، وزيد بن أسلم، وطاوس، وأبو قلابة الجرمي، وعمرو بن دينار، وموسى بن عقبة، وأبو مِجْلز، والحسن البصري، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعبد الملك بن عمير، وعكرمة بن عمار، وأبو الزبير المكي، وابن شهاب، ومكحول، وعدة قد جمعهم ابن حجر في "طبقات المدلسين".
وأكثر هؤلاء إنما كانوا يفعلون ذلك عند الوثوق بصدق من بينهم وبين من سَمَّوه، فيرون أنه ليس في فعلهم غِشٌّ في الدين، وأنه إن ظهر غلطٌ واعتذروا لا يُتَّهمون؛ لعلم الناس بصدقهم وأمانتهم، وأن من تدبر هذه
الحال وعرف مصدر الظهور الذي تقدم بيانه، يرى أنه لا يظهر من روايتهم على الوجه المذكور أنهم سمعوا، بل يكون على الاحتمال، فحالهم قريب من حال الصحابة رضي الله عنهم.
وقليلٌ من هؤلاء كانوا يتساهلون فيروون على الوجه المذكور وإن لم يَثِقُوا بمن بينهم وبين من سمَّوا، والعذر في حقهم أنهم إن شاء الله كانوا أولًا يفعلون ذلك ثم يبينون في المجلس إلى إن اشتهر عنهم أنهم يفعلون ذلك، فعدوا تلك قرينة تصرف عن الظهور، وأهل الحديث يسمون ما وقع من هذا القسم تدليسًا، وهذا الاسم مناسب للمتساهلين، ولكن قد أطلق عليهم وعلى الآخرين.
القسم الثاني: قوم لم يكونوا يفعلون ذلك، ولكنهم كانوا يروون عمن عاصروه ولم يَلْقَوه، كأنهم يرون أن الظهور الذي تقدم بيانه إنما يقوى إذا عُلِم أن الراوي قد لقي من سمى. وأنت إذا تدبرت لم تستبعد هذا، فاعتبِرْه بأهل عصرك، إذا أخبرك واحد منهم عن آخر لم تعلم أنه لقيه، هل يكون الظاهر عندك أنه سمعه منه؟
فإن قلت: بلى قد يكون الظاهر في ذلك إذا كانا في بلد واحد.
قلتُ: أَنْعِمِ النظرَ وكثِّر الأمثلة، فإنك تجد أنه لا يظهر السماع حتى يكون الظاهر اللقاء، بل قد ترتاب في ظهور السماع مع ظهور اللقاء، بل ومع العلم به إذا كان معروفًا أن اللقاء وقع نادرًا، كأن يكون تاجر لا شأن له بمخالطة الملك، ولكنك تعلم أنه قد رأى الملك مرةً في مجلسٍ وسمع كلامه، فتدبر.
والسرّ في هذا أن ذلك التاجر لا يخشى الاتهام بالكذب إذا ظهر بطلان الخبر؛ لأنه يقول: إنما أخبرني [تعلمون الملك ولا]، فإن قلت [
…
]
فلعل [
…
] أحدهم كان [
…
] مع من سمعه كذلك، وكان المعروف ذلك في عصرهم، وإن خفي بعضه [
…
] على من بعدهم.
ومن هؤلاء: قيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، [
…
] من القسم الأول في جماعة كثير. راجع إن أحببتَ "المراسيل" لابن أبي حاتم.
وحالهم في اشتراط الوثوق بالواسطة بينهم وبين من سمَّوا كحال القسم الأول.
[ص 9] القسم الثالث: الذين لم ينقل عنهم الرواية عمن لقوه لِما لم يسمعوا، ولا الرواية عمّن عاصروه ولم [
…
]، فأخذوا أنفسهم بالأحوط لدينهم، فمن هؤلاء فيما أرى: القاسم بن محمد بن أبي بكر، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبو بردة بن أبي موسى، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وموسى بن طلحة، وجابر بن زيد، في آخرين.
وكلام أئمة الحديث في تراجم من ذكرنا وغيرها يدل أن الإرسال الخفي كان فاشيًا في التابعين، ودونه التدليس عمّن يوثق به، ودونه التدليس مع التساهل، وتجدهم لا يحكمون بالتدليس إلا بحجة، وكثيرًا ما يكتفون في الحكم الإرسال
(1)
الخفي بالقرائن، بل وبعدم ثبوت السماع، فيقولون:
(1)
كذا في الأصل، ولعل الصواب:"بالإرسال".
لا يثبت له سماع من فلان، ونحو ذلك، يوجد هذا في كلام أحمد وابن معين وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم.
وذلك يرد على مسلم رحمه الله ما زعمه في مقدمة صحيحه من أن قول البخاري مُحدَث، ويدل دلالة واضحة أنه كان عندهم أنه لا يكون الظاهر السماع في رواية أحدهم عمّن عاصره، ولم يتبين لقاؤه له، أو تبين لقاؤه له لُقيةً لا يتضح فيها إمكان السماع، كأن يقول: رأيته يطوف بالبيت، ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فليس في روايته عنه ما لم يسمعه منه شبهة كذب، ولا ما يخالف الأمانةَ، وذلك أن السامع المتدبر يكون الأمر عنده على الاحتمال، فعليه أن يسأل ليتضح له الحال.
وإذا كان الأمر هكذا، فالقول بالنسبة إلى التابعين هو القول الذي زعم مسلم رحمه الله أنه محدث، وقد سبق أنه قول الأئمة أحمد ويحيى وعلي والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم ممن تجد كلامه في تراجم أصحاب القسم الثاني، وحجتهم واضحة، وبذلك يردُّ على مسلم قوله
(1)
: "فإن كانت العلة في تضعيفِك الخبرَ وتركِك الاحتجاجَ به إمكان الإرسال فيه لزمك أن لا تُثبِت إسنادًا معنعنًا
…
وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقينٍ نعلم أن هشامًا قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة
…
وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر
…
وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه، فهو أيضًا ممكن عن أبيه عن عائشة".
(1)
في مقدمة "صحيحه"(1/ 30، 31).
وإيضاح ذلك أن مسلمًا يوافق على عدم قبول عنعنة المدلس، وفي تمثيله بهشام نظر؛ لأنه وُصِف بالتدليس وإن لم يتفق عليه، فنحصر الكلام في عروة، فنقول: إنما قبلنا عنعنة عروة؛ لأن عروة لم يوصف بالتدليس، وقد عُرِف بالثقة والأمانة وكثرة السماع من عائشة.
ثم ههنا مسلكان:
الأول: ردّ ما قدمناه في الاعتذار عن المتثبتين من القسم الأول.
فنقول: لا يلزم من ثقة أحدهم بمن بينه وبين من سمَّى أن يكون في نفسه ثقة، فلعله قد بان لغيره منه ما لم يَبِنْ له، وعلى فرض أنه ثقة فلعله تبين لغيره منه أنه غلط في تلك الرواية.
مثال ذلك: أن يكون سمعه من عمرة أنها سمعت عن عائشة، فيرويه هو عن عائشة، وتكون عمرة قد غلطت فيه لمّا حدثته عروة، فيكون غلطها إنما يتبين برواية أخرى عنها، فلو رواه عن عمرة عن عائشة لعرفنا غلط عمرة بالمقابلة بروايتها الأخرى، ولما رواه عن عائشة لم يتبين ذلك، بل تترجح رواية عروة لظن أنه سمعه من عائشة، وإذا كان هذا الاحتمال قائمًا فروايته ذلك عن عائشة لا تخلو من الغش وقلة التثبت، وإذ كان الظن به أنه يتحفظ من مثل ذلك، فالظاهر من روايته عن عائشة أنه سمعه منها، وإذ كان الظاهر ذلك فروايته عنها تعرض للكذب، إن لم نقل: إنه كذب. وإنما تخلص المدلسون من الكذب بما قدمنا أن الظن بهم أنهم كانوا أولًا يدلسون ويبينون في المجلس، حتى عُرِف ذلك من شأنهم، فزال الظهور المذكور، وبزواله زال الغِشُّ، وعروة لم يفعل ذلك؛ وإلا لوصفه أهل العلم بأنه يدلس.
فأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كان معروفًا عنهم أنهم كثيرًا ما يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه.
المسلك الثاني: أن لا يتعرض لرد ما قدمناه في الاعتذار من المتثبتين من القسم الأول، ونقول:
[ص 10] [
…
] تتبعوا روايات التابعين، وبحثوا عنها، وقابلوا بعضها ببعض، فبان لهم من كان قد يقع منه التدليس من غيره، فبينوا ذلك، ولما لم يَصِفْ أحد منهم عروة بالتدليس ثبت عندنا أنه لم يكن يدلس، فأما الإرسال الخفي فقد عرف أنه كان فاشيًا في التابعين، وفُشوُّه يجعله محتملًا من كل أحد منهم، وبذلك يزول الظهور البتة، وبزواله يزول الغش والكذب البتة. والله المستعان.