الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة أخرى: ماذا لو رفض الأب تزويج ابنته من شاب صالح، لكونه أرفع منه نسباً، الذي يظهر لي أن عليها طاعته، وإن كان قد خالف الصواب في نظرك ، ولو كانت الفتاة لا ترى الكفاءة في النسب حقاً لأوليائها ولجأت للمحكمة ورفعت أمرها إلى القاضي لينظر فيه ويتخذ اللازم فيه فلا تثريب عليها وإن كان الأولى والأفضل طاعتها لأبيها درءاً للشقاق.
وهنا تنبيه أيضاً مهم: وهو إذا كان الحكم في المحاكم الشرعية بخلاف ما يراه المسلم في اعتبار الكفاءة في النسب من عدمها، فإنه يلزم المسلمين في ذلك البلد الخضوع للقضاء الشرعي ببلدهم.
هل اعتبار النسب في مسألة الكفاءة في النكاح، عند أهل العلم مبني على الهوى
؟ الجواب لا ،فإن مسألة الكفاءة في النسب ليس مردها إلى الأهواء والشهوات والنعرات الجاهلية، بل المرجع في ذلك هو إلى الشريعة الغراء، وإذا تأملت بإنصاف وعدل لوجدت أن الإمام الأعظم أبا حنيفة رحمه الله وهو فارسي يعتبر النسب من ضمن الكفاءة في النكاح، فيرى أن الفارسي ليس كفؤا للعربية، والإمام مالك بن أنس العربي يعتبر أن النسب ليس من كفاءة النكاح، فيعتبر غير العربي كفؤا للعربية والقرشية، فهؤلاء عند ما قرروا الأحكام الشرعية لم ينطلقوا من منطلقات عنصرية.
واعلم أيضاً أن كثيراً ممن ينقدون هذا الرأي الفقهي هم أشد الناس تطبيقاً له، فلو تقدم إلى بنت أحدهم -وهو مدير إدارة- صاحب حرفة دنيئة كفرَّاش أو مُرَقع أحذية لما قبله، بل لربما آذاه بالقول والفعل.
واعلم أن لمن اعتبر الكفاءة في النسب شرط صحة أو لزوم حججاً من الشرع والمعنى يركنون إليها ويعتمدون عليها، ومن ذلك:
أولاً: ما رواه مسلم من حديث واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. وهذا الحديث وإن كان صحيحاً؛ إلا أن الاستدلال به على الكفاءة في النسب فيه نظر، كما قال ذلك الحافظ في الفتح وغيره.
ثانياً: يستدلون بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض إلا حائكاً أو حجاماً" رواه الحاكم. لكن هذا الحديث قد حكم عليه ابن عبد البر بأنه منكر أو موضوع، وله طرق إلا أنها كلها واهية، فلا يثبت بمثله حكم.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام عن ما رواه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، إلا حائك أو حجام) وفي إسناده راو لم يسم، واستنكره أبو حاتم.
ثالثاً: ما رواه النسائي وابن ماجه إن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت له: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء.
وابن العم وإن كان كفؤا في النسب إلا أن موطن الشاهد في الحديث أنه كان فيه خسة فلم يكن كفؤا لها، وهو يدل على أن الكفاءة حق للمرأة لما يلحقها من النقص والعار بالزواج ممن ليس كفؤا لها، ولها أن تسقط الحق كما فعلت هذه المرأة.
وأما حجتهم من المعنى فهي أن قبول الأولياء بمن تقدم إليهم لا يجب عليهم، بل لهم أن يرفضوه ولو كان ذا نسب رفيع، فكيف إذا كان يلحقهم بذلك العار، ويصل إليهم من سباب الناس وشتمهم لكونهم قبلوا بفلان زوجاً لابنتهم.
والذي يظهر أن مذهب الجمهور هو الراجح وهو أن الكفاءة حق للزوجة والأولياء، فإذا أسقطوه فلهم ذلك والنكاح صحيح.
ولتعلم أخي القارىء أن كثيراً من أهل العلم الذين اشترطوا الكفاءة في النسب قد دفعهم لذلك زيادة على ما أسلفنا أنه لما بَعُد الناس عن الشرع وتعلَّقوا بأنسابهم القبلية وانتماءاتهم الأسرية ورفض الكثير منهم مبدأ المساواة في النسب من حيث النكاح، ووصل الحال إلى الإنكار والاستنكاف حتى إن من يقدم على التزوج من غير طبقته قد يخاطر بنفسه خاصة في المناطق القبلية والعشائر والبوادي، وإذا وصل الحال إلى الإنسان بأن يصبح في خطر من تزوجه من غير طبقته بحيث يتعرض للتهديد أو الضرر أو الإساءة إلى أسرته بالاستهزاء والسخرية والسب والأذى فإن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، بل قد يصل الحال إلى التهديد بالقتل في بعض الأحيان والشرع لا يأمر بالمخاطرة إلى درجة أن تذهب النفس أو يسفك الدم، أيعيش الإنسان مرعوباً مهدداً لا يأمن على أسرته ونفسه من أجل تطبيق بعض أفراد الشريعة ولهذا نصَّ بعض الأئمة الكبار على اشتراط الكفاءة بالنسب كشرط صحة، وهو قول ضعيف لكن بعضهم نظر إلى ما قد يترتب على هذا الأمر من مفاسد، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم:«إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه» ،، فإن الناس جميعاً خُلقوا أحرارا، كما قال عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم