المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب ما جاء في الرياء: - القول المفيد على كتاب التوحيد - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثاني

- ‌باب ما جاء في التنجيم

- ‌باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

- ‌باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتحذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله}

- ‌باب قول الله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [

- ‌باب قول الله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}

- ‌باب قول الله تعالي:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}

- ‌باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله:

- ‌باب ما جاء في الرياء:

- ‌باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا:

- ‌باب قول الله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}

- ‌باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات:

- ‌باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

- ‌باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

- ‌باب: قول ما شاء الله وشئت

- ‌باب: من سب الدهر فقد آذى الله

- ‌باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

- ‌باب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

- ‌باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

- ‌باب: قول الله تعالي: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [

- ‌باب: قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [

- ‌باب: قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

- ‌باب: قول: اللهم اغفر لي إن شئت

- ‌باب: لا يقول: عبدي وأمتي

- ‌باب: لا يرد من سأل بالله

- ‌باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

- ‌باب ما جاء في "لو

- ‌باب: النهي عن سب الريح

- ‌باب: قول الله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}

- ‌باب: ما جاء في منكري القدر

- ‌باب: ما جاء في المصورين

- ‌باب: ما جاء في كثرة الحلف

- ‌باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌باب: ما جاء في الإقسام على الله

- ‌باب: لا يستشفع بالله على خلقه

- ‌باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد

- ‌باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

الفصل: ‌باب ما جاء في الرياء:

‌باب ما جاء في الرياء:

.......................................................................

المؤلف رحمه الله تعالى أطلق الترجمة; فلم يفصح بحكمه لأجل أن يحكم الإنسان بنفسه على الرياء على ما جاء فيه.

تعريف الرياء: مصدر راءى يرائي; أي: عمل عملا ليراه الناس، ويقال مراءاة كما يقال: جاهد جهادا ومجاهدة، ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسمعه الناس ويقال له مسمع، وفي الحديث عن النبي (أنه قال:(من راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به ((1)

والرياء خلق ذميم، وهو من صفات المنافقين، قال تعالى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} ، [النساء: من الآية142] .

والرياء يبحث في مقامين:

المقام الأول: في حكمه.

فنقول: الرياء من الشرك الأصغر; لأن الإنسان قصد بعبادته غير الله، وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر; فقال:"مثل يسير الرياء"، وهذا يدل على أن الرياء الكثير قد يصل إلى الأكبر.

_________

(1)

أخرجه البخاري في (الرقاق، باب الرياء والسمع/4/191) ، ومسلم في (الزهد، باب تحريم الرياء/4/2289) . حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 124

.....................................................................

المقام الثاني: في حكم العبادة إذا خالطها الرياء، وهو على ثلاثة أوجه:

الأول: أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل، كمن قام يصلي من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله; فهذا شرك والعبادة باطلة.

الثاني: أن يكون مشاركا للعبادة في أثنائها، بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة.

فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها; فأولها صحيح بكل حال، والباطل آخرها. مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال قد أعدها للصدقة فتصدق بخمسين مخلصا وراءى في الخمسين الباقية; فالأولى حكمها صحيح، والثانية باطلة.

أما إذا كانت العبادة ينبني آخرها على أولها; فهي على حالين:

أ- أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه; فإنه لا يؤثر عليه شيئا; لقول النبي ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ((1)، مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء، فصار يدافعه; فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئا.

ب- أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه; فحينئذ تبطل جميع

_________

(1)

أخرجه: البخاري في (الأيمان، باب إذا حنث ناسيا، 4/ 222) ، ومسلم في (الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس، 1/ 116) ; من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 125

العبادة; لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به. مثال ذلك: رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه، فاطمأن لذلك ونزع إليه; فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض.

الثالث: ما يطرأ بعد انتهاء العبادة; فإنه لا يؤثر عليها شيئا، اللهم إلا أن يكون فيه عدوان; كالمن والأذى بالصدقة، فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلا لأجر الصدقة فيبطلها; لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} ، [البقرة: من الآية264] .

وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته; لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة.

وليس من الرياء أيضا أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفسه، بل ذلك دليل على إيمانه، قال النبي (:(من سرته حسناته وساءته سيئاته; فذلك المؤمن ((1)، وقد سئل النبي (عن ذلك; فقال:(تلك عاجل بشرى المؤمن ((2) .

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ؛ يأمر الله نبيه أن يقول للناس: إنما أنا بشر مثلكم، وهو قصر النبي (على البشرية، وأنه ليس

_________

(1)

أخرجه أحمد (1/18، 26) ، والترمذي في (الفتن ، باب ما جاء في لزوم الجماعة/6/333) - وقال: "حسن، صحيح، غريب"-; من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في (البر والصلة، باب إذا أثنى على الصالح/4/2034) .

ص: 126

......................................................................

ربا ولا ملكا، وأكد هذه البشرية بقوله:"مثلكم"، فذكر المثل من باب تحقيق البشرية.

قوله: (يُوحَى إِلَيَّ (الوحي في اللغة: الإعلام بسرعة وخفاء، ومنه قوله تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} ، [مريم:11] .

وفي الشرع: إعلام الله بالشرع.

والوحي: هو الفرق بيننا وبينه (فهو متميز بالوحي كغيره من الأنبياء والرسل.

قوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} : هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل "يوحى"، وفيها حصر طريقه " أنما"; فيكون معناها: ما إلهكم إلا إله واحد، وهو الله، فإذا ثبت ذلك; فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه، ولذلك قال تعالى بعد هذا:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، [الكهف: من الآية110] .

فقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} ، المراد بالرجاء: الطلب والأمل; أي: من كان يؤمل أن يلقى ربه، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة; لأن اللقيا على نوعين:

الأول: عامة لكل إنسان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} ؛ [الانشقاق:6]، ولذلك قال مفرعا على ذلك:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} ، [الانشقاق:7-10] ، الآية.

الثاني: الخاصة بالمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه

ص: 127

......................................................................

الآية، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.

فقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} : الفاء رابطة لجواب الشرط، والأمر للإرشاد; أي: من كان يريد أن يلقى الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه; فليعمل عملا صالحا.

والعمل الصالح: ما كان خالصا صوابا، وهذا وجه الشاهد من الآية.

فالخالص: ما قصد به وجه الله، والدليل على ذلك قوله (:(إنما الأعمال بالنيات ((1) .

والصواب: ما كان على شريعة الله، والدليل على ذلك قوله (:(من عمل عملا ليس عليه أمرنا; فهو رد ((2) .

ولهذا قال العلماء: هذان الحديثان ميزان الأعمال; فالأول: ميزان الأعمال الباطنة. والثاني: ميزان الأعمال الظاهرة.

قوله:" وَلَا يُشْرِكْ": لا: ناهية، والمراد بالنهي الإرشاد.

قوله:" بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا": خص العبادة لأنها خالص حق الله، ولذلك أتى بكلمة "رب" إشارة إلى العلة، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك; فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولذلك لم يقل:(لا يشرك بعبادة الله)، فذكر الرب من باب التعليل; كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، [البقرة: من الآية21] .

_________

(1)

أخرجه البخاري (1) ، ومسلم (3/ 1515) .

(2)

أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم في (البيوع، باب النجش/3/100) ومسلم موصولا في (الأقضية، باب نقض الأحكام، 3/ 1343) .

ص: 128

وعن أبي هريرة مرفوعا: قال الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري..... .....................

وقوله: "أحدا" نكرة في سياق النهي; فتكون عامة لكل أحد.

والشاهد من الآية: أن الرياء من الشرك، فيكون داخلا في النهي عنه.

وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله; لأن الملاقاة معناها المواجهة.

وفيها دليل على أن الرسول (بشر لا يستحق أن يعبد; لأنه حصر حاله بالبشرية، كما حصر الألوهية بالله.

قوله في حديث أبي هريرة: " قال الله تعالى": هذا الحديث يرويه النبي (عن ربه، ويسمى هذا النوع بالحديث القدسي.

قوله: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ".

قوله: " أغنى": اسم تفضيل، وليست فعلا ماضيا، ولهذا أضيفت إلى الشركاء. يعني: إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره; فالله أغنى الشركاء عن المشاركة

فالله لا يقبل عملا له فيه شرك أبدا، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده، فكما أنه الخالق وحده; فكيف تصرف شيئا من حقه إلى غيره؟!

فهذا ليس عدلا، ولهذا قال الله عن لقمان:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، [لقمان: من الآية13] ، فالله الذي خلقك وأعدك إعدادا كاملا بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه، ثم تذهب وتصرف شيئا من حقه إلى غيره؟! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم.

ص: 129

تركته وشركه) رواه مسلم (1) .

قوله: "عملا": نكرة في سياق الشرط; فتعم أي عمل من صلاة، أو صيام، أو حج، أو جهاد، أو غيره.

قوله: "تركته وشركه": أي: لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه.

وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر، فيترك الله جميع أعماله; لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه.

والمراد بشركه: عمله الذي أشرك فيه، وليس المراد شريكه; لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يتركه، كمن أشرك نبيا أو وليا; فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي.

ويستفاد من هذا الحديث:

1-

بيان غنى الله تعالى; لقوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك.

2-

بيان عظم حق الله، وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحدا مع الله في حقه.

3-

بطلان العمل الذي صاحبه الرياء; لقوله: "تركته وشركه".

4-

تحريم الرياء; لأن ترك الإنسان وعمله، وعدم قبوله، يدل على الغضب، وما أوجب الغضب; فهو محرم.

5-

أن صفات الأفعال لا حصر لها; لأنها متعلقة بفعل الله، ولم يزل الله ولا يزال فعَّالا.

_________

(1)

أخرجه مسلم في (الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله/4/2289) .

ص: 130

وعن أبي سعيد مرفوعا: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ..................................... ..................

قوله في حديث أبي سعيد: " ألا": أداة عرض، والغرض منها تنبيه المخاطب; فهو أبلغ من عدم الإتيان بها.

قوله: " بما هو": ما: اسم موصول بمعنى الذي.

قوله: " أخوف عليكم عندي ": أي عند الرسول (لأنه (من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن، وأعظم فتنة في الأرض هي فتنة المسيح الدجال، لكن خوف النبي (من فتنة هذا الشرك الخفي أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال، وإنما كان كذلك; لأن التخلص منه صعب جدا، ولذلك قال بعض السلف: (ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص (وقال النبي (: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه ((1) ولا يكفي مجرد اللفظ بها، بل لا بد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله.

قوله: " المسيح الدجال": المسيح; أي: ممسوح العين اليمنى، فذكر النبي عيبين في الدجال:

أحدهما: حسي، وهو أن الدجال أعور العين اليمنى; كما قال النبي ((إن الله لا يخفى عليكم، إنه ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى ((2) .

والثاني: معنوي، وهو الدجال; فهو صيغة مبالغة، أو يقال بأنه نسبة إلى وصفه الملازم له، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم،

_________

(1)

أخرجه البخاري في (العلم، باب الحرص على الحديث/1/52) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري في (الأنبياء، باب واذكر في الكتاب مريم/2/488) ، ومسلم في (الفتن، باب ذكر الدجال/4/2247) ; من حديث ابن عمر.

ص: 131

قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي،........................................

ولكن الله- سبحانه وتعالى بحكمته يخرجه ليفتن الناس به، وفتنته عظيمة; إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال.

والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة; لأن النبي (أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة.

وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا: ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به، لكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم، وقدرة الله بقدرتهم، ويقولون: كيف يكون اليوم الواحد عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه؟

وهذا لا شك جهل منهم بالله; فالذي جعل هذا النظام هو الله، وهو القادر على أن يغيره متى شاء; فيوم القيامة تكور الشمس، وتتكدر النجوم، وتكشط السماء، كل ذلك بكلمة "كن".

ورد هذه الأحاديث بمثل هذه التعاليل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقدير الله حق قدره، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، [الأنعام: من الآية91] .

فالذي نؤمن به أنه سيخرج في آخر الزمان، ويحصل منه كل ما ثبت عن رسول الله (.

ونؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادر على أن يبعث على الناس من يفتنهم عن دينهم; ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب، مثل ما ابتلى الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، ومثل ما ابتلى الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم، تناله أيديهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب، وقد يبتلي الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} ، [الحج: من الآية11] .

قوله: "الشرك الخفي": الشرك قسمان خفي وجلي.

ص: 132

يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه (، رواه أحمد (1) .

فالَجِليّ: ما كان بالقول مثل: الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل مثل: الانحناء لغير الله تعظيما.

والخفي: ما كان في القلب، مثل الرياء; لأنه لا يبين; إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويسمى أيضا "شرك السرائر"، وهذا هو الذي بينه الله بقوله:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ، [الطارق:9] ؛ لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى:{أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، [العاديات:9-10] .

وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله: أنه " يلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيسألونه، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله (2) ".

قوله: " يقوم الرجل، فيصلي، فيزين صلاته ": يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، والتخصيص هنا يسمى مفهوم اللقب، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف، لا لقصد التخصيص، ولكن لضرب المثل.

وقوله: " فيزين صلاته ": أي: يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير، ونحو ذلك.

قوله: " لما يرى من نظر رجل إليه ": " ما" موصولة، وحذف العائد;

_________

(1)

أخرجه أحمد (3/30) ، وابن ماجه في (الزهد، باب الرياء والسمعة/2/1406)،- وقال في "الزوائد":"إسناده حسن، وكثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما"-، وأخرجه الحاكم (4/329) وصححه.

(2)

أخرجه البخاري في (بدء الخلق، باب صفة النار/2/436) ، ومسلم في (الزهد، باب عقوبة من يأمر بمعروف ولا يفعله/4/2290) .

ص: 133

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية الكهف.

الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.

الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.

الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء.

الخامسة: خوف النبي (على أصحابه من الرياء.

أي: للذي يراه من نظر رجل، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة; فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه، وهذا شرك.

فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية الكهف: وسبق الكلام عليها.

الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله:

وذلك لقوله: "تركته وشركه"، وصار عظيما; لأنه ضاع على العامل خسارا، وفحوى الحديث تدل على غضب الله (من ذلك.

الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى: يعني: الموجب للرد؛ هو كمال غنى الله (عن كل عمل فيه شرك، وهو غني عن كل عمل، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه.

الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء: أي: من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحدا أن الله خير الشركاء، فلا ينازع من جعل شريكا له فيه.

الخامسة: خوف النبي (على أصحابه من الرياء: وذلك

ص: 134

السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.

(لقوله (: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال (، وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه; فالخوف على من بعدهم من ذلك من باب أولى.

السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه: وهذا التفسير ينطبق تماما على الرياء; فيكون أخوف علينا عند رسول الله (من المسيح الدجال.

ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي (على أمته من المسيح الدجال; لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي (على أمته.

ص: 135

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا:

.......................................................................

قوله: "من الشرك": "من" للتبعيض; أي: بعض الشرك.

قوله: "الدنيا": مفعول بإرادة; لأن إرادة مصدر مضاف إلى فاعله.

وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافا إلى فاعله أو مفعوله; فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن، فإذا قلنا: باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا فالإنسان فاعل، وعلى هذا; فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله، والدنيا مفعول به.

وعنوان الباب له ثلاثة احتمالات:

الأول: أن يكون مكررا مع ما قبله، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعنى واحد.

الثاني: أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب; لأنه خاص في الرياء، وهذا أعم، وهذا محتمل.

الثالث: أن يكون هذا الباب نوعا مستقلا عن الباب الذي قبله، وهذا هو الظاهر; لأن الإنسان في الباب السابق يعمل رياء؛ يريد أن يمدح في العبادة، فيقال: هو عابد، ولا يريد النفع المادي.

وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة، بل يعبد الله مخلصا له، ولكنه يريد شيئا من الدنيا; كالمال، والمرتبة، والصحة في نفسه، وأهله، وولده، وما أشبه ذلك; فهو يريد بعمله نفعا في الدنيا، غافلا عن ثواب الآخرة.

ص: 136

......................................................................

أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا:

1-

أن يريد المال; كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال.

2-

أن يريد المرتبة; كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة؛ فترتفع مرتبته.

3-

أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه: كمن تعبد لله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا، بمحبة الخلق له، ودفع السوء عنه، وما أشبه ذلك.

4-

أن يتعبد لله: يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير.

وهناك أمثلة كثيرة.

تنبيه:

فإن قيل: هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها، يريدون شهادة، أو مرتبة بتعلمهم؟

فالجواب: أنهم يدخلون في ذلك؛ إذا لم يريدوا غرضا شرعيا، فنقول لهم:

أولا: لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق; لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة.

ثانيا: أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات; فيدخل الكلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة; فإنها لا تهمه.

ص: 137

............................................................

ثالثا: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين- حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة-; فلا شيء عليه لأن الله يقول:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، [الطلاق: من الآية2-3] ، فرغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب.

فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص، مع أنه أراد المال مثلا؟

أجيب: إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم، بل قصد أمرا ماديا; فإخلاصه ليس كاملا لأن فيه شركا، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقرب إلى الله، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك، بل أراد شيئا دنيئا غيره.

ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته، ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلي من أجل هذا الشيء; فهذه مرتبة دنيئة.

أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية; كالبيع، والشراء، والزراعة; فهذا لا شيء فيه، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة؛ إذا خالطها الرياء، في باب الرياء.

ملاحظة:

بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات، يحولونها إلى فوائد دنيوية. فمثلا يقولون: في الصلاة رياضة، وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترتيب الوجبات، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل; لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه، بل ذكر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن الصوم أنه سبب للتقوى; فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية، لكن عندما نتكلم عند عامة

ص: 138

الناس; فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي; فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية، ولكل مقام مقال. قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، أي: البقاء في الدنيا.

قوله: {وَزِينَتَهَا} : أي: المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة; كما قال الله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، [آل عمران: من الآية14] .

قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة- الياء-; لأنه جواب الشرط.

والمعنى: أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا; كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} ، [الأحقاف: من الآية20] .

ولهذا (لما بكى عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أثر في جنبه الفراش، فقال صلى الله عليه وسلم:" ما يبكيك؟ ". قال: يا رسول الله كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذه الحال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم (1، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم; لأنهم إذا

_________

1أخرجه البخاري في (المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة/2/197-199) ، ومسلم في (الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء/2/1105-1108) .

ص: 139

......................................................................

انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم; صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا.

قوله: {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} ، البخس: النقص; أي: لا ينقصون مما يجازون فيه; لأن الله عدل لا يظلم، فيعطون ما أرادوه.

قوله: "أولئك": المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها.

قوله: {لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} ، فيه حصر، وطريقه النفي والإثبات، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة; لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة، والعياذ بالله.

قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} ، الحبوط: الزوال، أي: زال عنهم ما صنعوا في الدنيا.

قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، " باطل": خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما" في قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط، وأن أعمالهم باطلة.

وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} ، مخصوصة بقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} ، [الإسراء:18] .

فإن قيل: لماذا لا نجعل آية هود حاكمة على آية الإسراء، ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد، ثم وعد أن يعطيه ما يشاء؟

أجيب: إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين:

ص: 140

......................................................................

أولا: أن القاعدة الشرعية في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم، وآية هود عامة; لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفي إليه العمل وأعطي ما أراد أن يعطى، أما آية الإسراء; فهي خاصة:{عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} ، [الإسراء: من الآية18] ، ولا يمكن أن يحكم بالأعم على الأخص.

الثاني: أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء; لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين; فيكون عموم آية هود مخصوصا بآية الإسراء; فالأمر موكول إلى مشيئة الله وفيمن يريده.

واختلف فيمن نزلت فيه آية هود:

1-

قيل: نزلت في الكفار; لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا، فكل من شاركهم في شيء من ذلك; ففيه شيء من شركهم وكفرهم.

2-

وقيل: نزلت في المرائين; لأنهم لا يعملون إلا للدنيا; فلا ينفعهم يوم القيامة.

3-

وقيل: نزلت فيمن يريد مالا بعمله الصالح.

والسياق يدل للقول الأول; لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، [هود:16] .

تنبيه:

اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى، وزدنا الآية التالية سهوا وعسى أن يكون خيرا.

ص: 141

وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط......................................

قوله: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة": سبق الكلام على قول المؤلف: "وفي "الصحيح"" في باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله.

قوله: "تعس": بفتح العين أو كسرها; أي: خاب وهلك.

قوله: "عبد الدينار" الدينار: هو النقد من الذهب، والدينار الإسلامي زنته مثقال، وسماه عبد الدينار; لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب، فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار، والدرهم هو النقد من الفضة، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال; فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.

وقد أراد المؤلف بهذا الحديث أن يبين أن من الناس من يعبد الدنيا; أي: يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته، فيغضب إذا فقدت ويرضى إذا وجدت، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم من هذا شأنه عبدا لها، وهذا من يعنى بجمع المال من الذهب والفضة; فيكون مريدا بعمله الدنيا.

قوله: (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة (1: وهذا من يُعْنى بمظهره وأثاثه; لأن الخميصة كساء جميل، والخميلة فراش وثير، ليس له هم إلا هذا الأمر، فإذا كان عابدا لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته; فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئا من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا؟! فهذا أعظم.

قوله: (إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط (2، يحتمل أن يكون

_________

1 البخاري: الرقاق (6435)، وابن ماجه: الزهد (4136) .

2 البخاري: الجهاد والسير (2887) .

ص: 142

تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. .................................

المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدريا; أي: إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله، كأن يقول: لماذا كنت فقيرا وهذا غنيا؟ وما أشبه ذلك; فيكون ساخطا على قضاء الله وقدره لأن الله منعه.

والله- سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمة، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب.

والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره; إن أعطي شكر، وإن منع صبر.

ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي; أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وإن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له، ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبدا له.

قوله: " تعس وانتكس": تعس; أي: خاب وهلك، وانتكس; أي: انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له، فكلما أراد شيئا انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد، ولهذا قال:" وإذا شيك فلا انتقش ": أي: إذا أصابته شوكة; فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.

وهذه الجمل الثلاث؛ يحتمل أن تكون خبرا منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة، وانتكاس، وعدم خلاص من الأذى، ويحتمل أن تكون من باب الدعاء على من هذه حاله; لأنه لا يهتم إلا للدنيا، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئا، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله؛ حتى أصبح لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له.

ص: 143

طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه،

قوله: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله (: هذا عكس الأول; فهو لا يهتم للدنيا، وإنما يهتم للآخرة; فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله.

و" طوبى" فعلى من الطيب، وهي اسم تفضيل، فأطيب للمذكر وطوبى للمؤنث، والمعنى: أطيب حال تكون لهذا الرجل، وقيل: إن طوبى شجرة في الجنة، والأول أعم; كما قالوا في ويل: كلمة وعيد، وقيل: واد في جهنم، والأول أعم.

وقوله: " آخذ بعنان فرسه ": أي: ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه.

قوله: " في سبيل الله": ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلدا إسلاميا يجب الذود عنه; فهو في سبيل الله، وكذلك من قاتل دفاعا عن نفسه أو ماله أو أهله; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ذلك; فهو شهيد (1، فأما من قاتل للوطنية المحضة فليس في سبيل الله؛ لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه.

قوله: " أشعث رأسه، مغبرة قدماه ": أي: رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه، ما دام هذا الأمر ناتجا عن طاعة الله عز وجل، وقدماه مغبرة من السير في سبيل الله، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفا; فليس له هم فيه.

_________

1رواه البخاري: (2480) ، ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو، بلفظ:"من قتل دون ماله فهو شهيد". وانظر: "جامع الأصول"(2/742) .

ص: 144

إن كان في الحراسة; كان في الحراسة، وإن كان في الساقة; كان في الساقة، إن استأذن; لم يؤذن له، وإن شفع; لم يشفع (1.

قوله: (إن كان في الحراسة; فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة; فهو في الساقة (: الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش; فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش، والساقة أن يكون في مؤخرته، وللجملتين معنيان:

أحدهما: أنه لا يبالي أين وضع، إن قيل له: احرس; حرس، وإن قيل له: كن في الساقة; كان فيها، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلا.

الثاني: إن كان في الحراسة أدى حقها، وكذا إن كان في الساقة، والحديث صالح للمعنيين، فيحمل عليهما جميعا إذا لم يكن بينهما تعارض، ولا تعارض هنا.

قوله: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع (، أي: هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبة; فإن شفع لم يشفع، ولكنه وجيه عند الله، وله المنزلة العالية; لأنه يقاتل في سبيله.

والشفاعة: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

والاستئذان: طلب الإذن بالشيء.

والحديث قسم الناس إلى قسمين:

الأول: ليس له هم إلا الدنيا، إما لتحصيل المال، أو لتجميل

_________

1أخرجه البخاري في (الجهاد، باب الحراسة في الغزو/2/327) .

ص: 145

......................................................................

الحال; فقد استعبدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته.

الثاني: أكبر همه الآخرة; فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه.

ويستفاد من الحديث:

1-

أن الناس قسمان كما سبق.

2-

أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تتقلب عليه الأمور، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا، بل أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، وقنع بما قدره الله له.

3-

أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب، بل يكون همه القيام بما يجب عليه; إما في الحراسة، أو الساقة، أو القلب، أو الجنب; حسب المصلحة.

4-

أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس؛ لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله عز وجل فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفع، وإن استأذن لم يؤذن له، قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:" طوبى له"، ولم يقل: إن سأل لم يعط، بل لا تهمه الدنيا حتى يسأل عنها، لكن يهمه الخير فيشفع للناس، ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة.

ص: 146

فيه مسائل:

الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.

الثانية: تفسير آية هود.

الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.

الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط.

فيه مسائل:

الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة: وهذا من الشرك; لأنه جعل عمل الآخرة وسيلة لعمل الدنيا، فيطغى على قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة.

الثانية: تفسير آية هود: وقد سبق ذلك.

الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة: وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك، ولكنها نوع آخر يخل بالإخلاص; لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله عز وجل ومحبة أعمال الآخرة.

الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط: هذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: (عبد الدينار، عبد الدرهم، عبد الخميصة، عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط (، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعا لهذه الأشياء.

ص: 147

الخامسة: قوله: " تعس وانتكس ".

السادسة: قوله: " وإذا شيك; فلا انتقش ".

السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.

الخامسة: قوله: " تعس وانتكس ".

السادسة: قوله: " إذا شيك فلا انتقش ": يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبرا أو دعاء، وسبق شرح ذلك.

السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات: فقوله في الحديث: " طوبى لعبد

"؛ يدل على الثناء عليه، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير، وأصحاب الفرش والمراتب.

ص: 148