المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول القيامة الصغرى - القيامة الصغرى

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الباب الأول القيامة الصغرى

‌الباب الأول القيامة الصغرى

تعريف وبيَان

يطلق على المرحلة التي يمر بها الإنسان بعد هذه الحياة الدنيا عدة أسماء، منها: القيامة الصغرى، والبرزخ، والموت.

وسنعرض لهذه الأسماء الثلاثة بشيء من التفصيل فيما يأتي:

المبحث الأول

تعريف القيامة الصغرى

القيامة الصغرى هي الموت، فكل من مات فقد قامت قيامته، وحان حينه، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة قالت: كان رجل من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه متى الساعة، فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول:" إن يعش هذا، لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم "(1) .

قال ابن كثير: " والمراد انخرام قرنهم، ودخولهم في عالم الآخرة، فإن من مات فقد دخل في حكم الآخرة، وبعض الناس يقول: من مات فقد قامت قيامته، وهذا الكلام بهذا المعنى صحيح "(2) .

وقد أشار ابن كثير إلى أن هذا القول يقوله الفلاسفة، ويريدون به معنى

(1) البخاري: 6511. ومسلم: 2952. واللفظ للبخاري.

(2)

البداية والنهاية لابن كثير: (1/24) .

ص: 11

فاسداً. فإن الملاحدة يريدون أن الموت هو القيامة ولا قيامة بعدها. يقول ابن كثير: " وقد يقول هذا بعض الملاحدة، ويشيرون به إلى شيء آخر من الباطل، فأمّا الساعة العظمى، وهي وقت اجتماع الأولين والآخرين في صعيد واحد، فهذا ما استأثر الله بعلم وقته "(1) .

وتسمى القيامة الصغرى أيضاً بالمعاد الأول، كما تسمى البرزخ.

يقول ابن القيم: " الموت بعث ومعاد أول " فإن الله جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزي فيهما الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء الأول " (2) .

(1) المصدر السابق.

(2)

الروح، لابن القيم: ص103.

ص: 12

البرزَخ

البرزخ في كلام العرب الحاجز بين الشيئين، قال تعالى:(وجعل بينهما برزخاً)[الفرقان: 53]، أي: حاجزاً والبرزخ في الشريعة: الدار التي تعقب الموت إلى البعث. قال تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 100] . قال مجاهد: هو ما بين الموت والبعث، وقيل للشعبي: مات فلان، ليس هو في دار الدنيا، ولا في الآخرة (1) .

وقال ابن القيم: " عذاب القبر ونعيمه اسمه لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 100] . وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة ".

(1) تذكرة القرطبي: 177.

ص: 13

الموت

المطلب الأول

الموت في اللغة والاصطلاح

الحياة والموت متناقضان تناقض النور والظلام والبرودة والحرارة، ولذا فإن معاجم اللغة العربية تُعرِّف كل واحد منهما بأنه نقيض الآخر، ففي تعريف الحياة تقول:" الحياة نقيض الموت، والحيّ من كلِّ شيء: نقيض الميت، والجمع أحياء "(1)، وفي تعريف الموت تقول:" الموت والمَوَتَان ضد الحياة "(2)، وأصل الموت في لغة العرب: السكون، وكل ما سكن فقد مات (3)، فتراهم يقولون:" ماتت النار موتاً: إذا برد رمادها، فلم يبق من الجمر شيء، ومات الحر والبرد إذا باخ، وماتت الريح: ركدت وسكنت، وماتت الخمر: سكن غليانها، والموت ما لا روح فيه "(4) .

وإذا كان السكون أصل الموت في لغتنا، فإن الحركة أصل الحياة، ففي لسان العرب:" الحي كل متكلم ناطق، والحي من النبات ما كان طرياً يهتز "(5) ، والحياة الإنسانية تتحقق بنفخ الروح في جسد الجنين في رحم أمِّه، والموت:" انقطاع تعلق الروح بالبدن، ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقال من دار إلى دار "(6) .

(1) لسان العرب، لابن منظور:(1/774) .

(2)

لسان العرب: (3/547) .

(3)

لسان العرب: (3/547) .

(4)

لسان العرب: (3/547) .

(5)

لسان العرب: (1/773) .

(6)

التذكرة للقرطبي: 4.

ص: 14

المطلب الثاني

الوفاة الكبرى والوفاة الصغرى

النوم شبيه الموت، ولذلك يسميه علماؤنا بالوفاة الصغرى، فالنوم وفاة، والقيام من النوم بعث ونشور (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) [الأنعام: 60] وفي النوم تقبض أرواح العباد، ومن شاء الحق أن يمسك روحه في حال نومه أمسكها، ومن شاء بقاءها ردها إلى الأجل الذي حدده الحق، قال تعالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)[الزمر: 42] . " فقد أخبر الحق أن كلا من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، وأمّا التي توفيت وفاة الموت فتلك قسم ثالث، وهي التي قدمها بقوله:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)[الزمر: 42] .. فإن الله ذكر توفيتين: توفي الموت، وتوفي النوم، وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى.

ومعلوم أنه يمسك كل ميتة سواء ماتت في النوم أو قبل ذلك، ويرسل من لم تمت، وقوله:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)[الزمر: 42] يتناول ما ماتت في اليقظة وما ماتت في النوم، فلما ذكر التوفيتين ذكر أنه يمسكها في إحدى التوفيتين ويرسلها في الأخرى، وهذا ظاهر اللفظ بلا تكلف " (1) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (5/452) .

ص: 15

المطلب الثالث

الموت حتم لازم

الموت حتم لازم لا مناص منه لكل حي من المخلوقات، كما قال تعالى:(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88]، وقال:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27] . وقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185] .

ولو نجا أحد من الموت لنجا منه خيرة الله من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)[الزمر: 30]، وقد واسى الله رسوله بأن الموت سنته في خلقه (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء: 34] .

والموت حق على الإنس والجن، ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:" أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون "(1) .

(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد: (7383) .

ص: 16

المطلب الرابع

للموت أجل محدد

للموت وقت يأتي فيه، فلا يستطيع أحد أن يتجاوز الأجل الذي ضربه الله، وقد قدر الله آجال العباد، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، وكتبته الملائكة الكرام والمرء في بطن أمه، فلا يتأخر المرء عما كتب له ولا يتقدم، وكل إنسان مات أو قتل أو غرق أو سقط من طائرة أو سيارة أو احترق أو غير ذلك من الأسباب، فإنه قد مات بأجله الذي قدره الله وأمضاه، وقد دلت على ذلك نصوص كثيرة، قال تعالى:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً)[آل عمران: 145]، وقال:(أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)[النساء: 77] .

وقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34] وقال: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)[الجمعة: 8] وقال: (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)[الواقعة: 60] .

في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها:" اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية ".

ص: 17

قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيء قبل حِلِّه، ولن يؤخر الله شيئاً بعد حِلِّه، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيراً أو أفضل "(1) .

المطلب الخامس

وقت الموت مجهول لنا

لا علم للعباد بالوقت الذي يحضر فيه الموت، وينزل بهم، فإن علم ذلك لله وحده، وهو واحد من مفاتيح الغيب التي استأثر الله بعلمها، قال تعالى:(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ)[الأنعام: 59]، وقال:(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 34] .

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مفاتيح الغيب خمس: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) "[لقمان: 34](2) .

وقد روى أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان والحاكم وقال صحيح، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني عن جماعة من الصحابة قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له فيها حاجة "(3) .

(1) رواه مسلم في كتاب القدر من صحيحه: (2663)، وأحمد في المسند:(1/390، 413، 445) .

(2)

رواه البخاري، في كتاب التفسير:4627.

(3)

سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني: 1221.

ص: 18

الاحتضار

المبحث الأول

حضُور ملائكة الموت

إذا حان الأجل وشارفت حياة الإنسان على المغيب أرس الله رسل الموت لسلِّ الروح المدبِّرة للجسد والمحركة له، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام: 61] ، وملائكة الموت تأتي المؤمن في صورة حسنة جميلة، وتأتي الكافر والمنافق في صورة مخيفة، ففي حديث البراء بن عازب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط (1) من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدَّ بصره، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (وفي رواية: المطمئنة) اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فيِّ السقاء، فيأخذها

(1) بفتح الحاء، ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى وأجسامهم خاصة.

ص: 19

وإن العبد الكافر (وفي رواية الفاجر) إذا كان في انقطاع من الآخرة، وإقبال من الدنيا، نزل إليه من السماء ملائكة [غلاظ شداد] سود الوجوه، معهم المسوح (1)[من النار] فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود [الكثير الشعب] من الصوف المبلول، [فتقطع معها العروق والعصب] " (2) .

وما يحدث للميت حال موته لا نشاهده ولا نراه، وإن كنا نرى آثاره، وقد حدثنا ربنا تبارك وتعالى عن حال المحتضر فقال:(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ - وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ)[الواقعة: 83-85] : والمتحدث عنه في الآية الروح عندما تبلغ الحلقوم في حال الاحتضار، ومن حوله ينظرون إلى ما يعانيه من سكرات الموت، وإن كانوا لا يرون ملائكة الرحمن التي تسلُّ روحه (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة: 85] كما قال تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)[الأنعام: 61] .

(1) جمع المسح، بكسر الميم، هو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً، وقهراً للبدن.

(2)

جمع الشيخ ناصر الدين الألباني جميع روايات هذا الحديث، وساقه سياقاً واحداً ضاماً إليه جميع الزوائد والفوائد التي وردت في جميع طرقه الثابتة في كتابه القيم:(أحكام الجنائز: ص59) ، وقد عزاه الشيخ إلى أبي داود (2/281) والحاكم (1/27-40) والطيالسي (رقم 753) وأحمد (4/287، 288، 295، 296) والسياق له، والآجري في الشريعة (367-370) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، وهو كما قالا، وصححه ابن القيم في أعلام الموقعين (1/214) وتهذيب السنن (4/337) ، ونقل فيه تصحيحه عن أبي نعيم وغيره.

ص: 20

وقال في الآية الأخرى: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)[القيامة: 26-30] والتي تبلغ التراقي هي الروح، والتراقي جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعانق.

وقد صرح الحديث بأن ملك الموت يبشر المؤمن بالمغفرة من الله والرضوان، ويبشر الكافر أو الفاجر بسخط الله وغضبه، وهذا قد صرحت به نصوص كثيرة في كتاب الله، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ - نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ - نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ)[فصلت: 30-32] .

وهذا التنزُّل - كما قال طائفة من أئمة التفسير منهم مجاهد والسدي - إنما يكون حالة الاحتضار (1) ، ولا شك أن الإنسان في حالة الاحتضار يكون في موقف صعب، يخاف فيه من المستقبل الآتي، كما يخاف على من خلَّف بعده، فتأتي الملائكة لتؤمنه مما يخاف ويحزن، وتُطَمئِنُ قلبه، وتقول له: لا تخف من المستقبل الآتي في البرزخ والآخرة، ولا تحزن على ما خلفت من أهل وولد أو دَيْنٍ، وتبشره بالبشرى العظيمة، (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30] ، (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصلت: 31] ، وما دام العبد قد تولى الله وحده،

(1) تفسير ابن كثير: (6/174) .

ص: 21

فإن الله يتولاه دائماً، وخاصة في المواقف الصعبة، ومن أشقها هذا الموقف، (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [فصلت: 31] .

أما الكفرة الفجرة فإن الملائكة تتنزل عليهم بنقيض ذلك (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا)[النساء: 97] ، وقد نزلت هذه الآية كما أخرج البخاري عن ابن عباس في فريق أسلم، ولكنه لم يهاجر فأدركه الموت، أو قتل في صفوف الأعداء (1) ، فإن الملائكة تقرِّع هؤلاء في حال الاحتضار وتوبخهم، وتبشرهم بالنار.

وقد حدثنا ربنا عن توفي الملائكة للكفرة في معركة بدر فقال: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ)[الأنفال: 50-51] .

قال ابن كثير في تفسير الآيات: " ولو ترى يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً فظيعاً منكراً، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون ذوقوا عذاب الحريق "(2) .

وقد أشار المفسر المدقق العلامة ابن كثير إلى أن هذا وإن كان في وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال:(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ..)(3) .

(1) تفسير ابن كثير: (2/369) .

(2)

تفسير ابن كثير: (3/335) .

(3)

تفسير ابن كثير: (3/335) .

ص: 22

وهذا الذي قاله ابن كثير صحيح يدل عليه أكثر من آية في كتاب الله تعالى، كقوله:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ)[الأعراف: 37]، وقوله:(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل: 28]، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ - فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [محمد: 25-27] .

ص: 23

سكرات الموت

للموت سكرات يلاقيها كل إنسان حين الاحتضار، كما قال تعالى:(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19] ، وسكرات الموت كرباته وغمراته، قال الراغب في مفرداته:" السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما تستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس والغشي الناشيء عن الألم وهو المراد هنا "(1) .

وقد عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه السكرات، ففي مرض موته صلوات الله وسلامه عليه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول:" لا إله إلا الله، إن للموت سكرات "(2) .

وتقول عائشة رضي الله عنها في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم "(3) وقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه، تمثلت بقول الشاعر:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ××× إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

(1) فتح الباري: (11/362) .

(2)

هذا الحديث أخرجه البخاري عن عائشة في كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، فتح الباري:(11/361) ورقمه: 6510.

(3)

أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، انظر جامع الأصول:(11/69) .

ص: 24

فكشف عن وجهه، وقال رضي الله عنه، ليس كذلك، ولكن قولي:(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)(1)[ق: 19] .

ولا شك أن الكافر والفاجر يعانيان من الموت أكثر مما يعاني منه المؤمن، فقد سقنا طرفاً من حديث البراء بن عازب وفيه:" أن روح الفاجر والكافر تفرق في جسده عندما يقول له ملك الموت: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، وأنه ينتزعها كما ينتزع السفود الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب ".

ووصف لنا القرآن الكريم الشدة التي يعاني منها الكفرة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام: 93] .

وهذا الذي وصفته الآية يَحْدُثُ - كما يقول ابن كثير - إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن، فتفرق روحه في جسده وتعصي وتأبي الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين:(أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ)[الأنعام: 93]، وقد فسر ابن كثير بسط الملائكة أيديهم في قوله:(وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ)[الأنعام: 93] بالضرب، ومعنى الآية هنا

(1) رواه ابن أبي الدنيا، وقد قال ابن كثير في تفسيره:(6/401) بعد سياقه له: لهذا الأثر طرق كثيرة.

ص: 25

كمعناها في قوله: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي)[المائدة: 28] وقوله: (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ)[الممتحنة: 2] وقد يُحدِّث العقلاء في حال الاحتضار عما يعانونه من شدة الموت وسكراته، وممن حدَّث بهذا عمرو بن العاص فعندما حضرته الوفاة، قال له ابنه: يا أبتاه! إنك لتقول: يا ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيباً عند نزول الموت حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي، فقال: يا بني، والله كأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سمّ إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ثم أنشأ يقول:

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ××× في تلال الجبال أرعى الوعولا (1)

الذي يخفف عنه سكرات الموت:

أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشهيد الذي يسقط في المعركة تخفف عنه سكرات الموت، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة " رواه الترمذي والنسائي والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (2) .

(1) التذكرة، للقرطبي: ص19.

(2)

مشكاة المصابيح: (2/358) ورقم الحديث: (3836)، وقال محقق المشكاة: إسناده حسن.

ص: 26

تمنّي الإنسان الرجعَة عند الاحتضار

إذا نزل الموت بالإنسان تمنى العودة إلى الدنيا، فإن كان كافراً لعله يسلم، وإن كان عاصياً فلعله يتوب (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ - لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99-100] ، والإيمان لا يقبل إذا حضر الموت، والتوبة لا تنفع إذا غرغر العبد، (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [النساء: 17-18] ، وقد ساق الحافظ ابن كثير من الأحاديث ما يدل على أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " رواه الترمذي وابن ماجة (1) ، وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ولكن شرط التوبة والإخلاص والصدق، وقد لا يتمكن المرء من التوبة في تلك الأهوال، فعلى المرء أن يسارع بالتوبة قبل حلول الأجل:

قدم لنفسك توبة مرجوة ××× قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها ××× ذخر وغنم للمنيب المحسن

(1) تفسير ابن كثير: (3/224) .

ص: 27

فرَح المؤمن بلقَاء رَبّه

إذا جاءت ملائكة الرحمن العبد المؤمن بالبشرى من الله ظهر عليه الفرح والسرور، أما الكافر والفاجر فإنه يظهر عليه الضيق والحزن والتعب، ومن ثم فإن العبد المؤمن في حال الاحتضار يشتاق إلى لقاء الله، والعبد الكافر أو الفاجر يكره لقاء الله تعالى، فقد روى أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت، قال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِر بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكر الله لقاءه "(1) ولذلك فإن العبد الصالح يطالب حامليه بالإسراع به إلى القبر شوقاً منه إلى النعيم، بينما العبد الطالح ينادي بالويل من المصير الذاهب إليه، ففي صحيح البخاري وسنن النسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق "(2) .

(1) رواه البخاري: كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ورقمه:6507.

(2)

رواه البخاري، كتاب الجنائز، قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، ورقمه: 1316، ورواه النسائي في كتاب الجنائز، باب السرعة في الجنازة:(4/41) .

ص: 28

حضور الشيطان عند المَوت

إذا حضر الموت كان الشيطان حريصاً على الإنسان حتى لا يفلت منه، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة، فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليعلق أصابعه، فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة ".

وقد ذكر علماؤنا أن الشيطان يأتي الإنسان في تلك اللحظات الحرجة في صورة أبيه أو أمه أو غيرهم ممن هو شفيق عليه ناصح له، ويدعوه إلى اتباع اليهودية أو النصرانية أو غيرها من المبادئ المعارضة للإسلام، فهناك يزيغ الله من كتبت له الشقاوة (1)، وهو معنى قوله تعالى:(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8] .

وقد حدث عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي خرقة لأشد لحييه، فكان يغرق، ثم يفيق، ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، فعل هذا مراراً، فقلت له: يا أبت أي شيء يبدو منك؟ قال: إن الشيطان قائم بحذائي عاض على أنامله، يقول: يا أحمد فتني، وأنا أقول: لا بعد، لا بعد، حتى أموت (2) .

(1) انظر تذكرة القرطبي: 33.

(2)

التذكرة للقرطبي: 34.

ص: 29

وقال القرطبي: سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي، يقول: حضرت أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد القرطبي بقرطبة، وقد احتضر، فقيل له: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا، لا، فلما أفاق، ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا، لا.. " (1) .

ولكن هذا ليس لازماً لكل أحد كما يقول ابن تيمية، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام، وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا (2) ، وقد ذكر الشيخ ابن تيمية أن الشيطان أحرص ما يكون على إغواء الإنسان وقت موته، لأنه وقت الحاجة، واستدل بالحديث الذي في الصحيح:" الأعمال بخواتيمها "، وقال صلى الله عليه وسلم:" إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها "، ولهذا روي:" أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه: دونكم هذا فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبداً "(3) .

(1) التذكرة للقرطبي: 34.

(2)

مجموع الفتاوى: (4/255) .

(3)

مجموع الفتاوى: (4/256) .

ص: 30

أسَباب سوء الخاتمة

بعض الذين يظهرون الإسلام ويعملون به يختم لهم والعياذ بالله بخاتمة سيئة، وقد تبدو تلك الخاتمة من بعض من حضرهم الموت، وقد تحدث صديق حسن خان عن سوء الخاتمة فقال:" وله أسباب يجب على المؤمن أن يحترز عنها "(1)، ثم ذكر هذه الأسباب فقال:

1-

منها الفساد في الاعتقاد: وإن كان مع كمال الزهد والصلاح، فإن كان له فساد في اعتقاده مع كونه قاطعاً به متيقناً له غير ظان أنه أخطأ فيه قد ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده من الاعتقادات الحقة مثل هذا الاعتقاد باطل لا أصل له إن لم يكن عنده فرق بين اعتقاد واعتقاد، فيكون انكشاف بطلان بعض اعتقاداته سبباً لزوال بقية اعتقاداته، فإن خروج روحه في هذه الحالة قبل أن يتدارك ويعود إلى أصل الإيمان يختم له بالسوء ويخرج من الدنيا بغير إيمان، فيكون من الذين قال الله تعالى فيهم:(وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47] وقال في آية أخرى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 103-104] .

فإن كل من اعتقد شيئاً على خلاف ما هو عليه إما نظراً برأيه وعقله أو أخذاً

(1) يقظة أولي الاعتبار: 211.

ص: 31

ممن هذا حاله فهو واقع في هذا الخطر، ولا ينفعه الزهد والصلاح، وإنما ينفعه الاعتقاد الصحيح المطابق لكتاب الله وسنة رسوله، لأن العقائد الدينية لا يعتد بها إلا ما أخذت منهما.

2-

ومنها الإصرار على المعاصي: فإن من له إصرار عليها يحصل في قلبه إلفها، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره عند موته، فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وإن كان ميله إلى المعاصي أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصي، فربما يغلب عليه حين نزول الموت به قبل التوبة شهوة ومعصية من المعاصي، فيتقيد قلبه بها، وتصير حجاباً بينه وبين ربه، وسبباً لشقاوته في آخر حياته لقوله صلى الله عليه وسلم:" المعاصي بريد الكفر ".

والذي لم يرتكب ذنباً أصلاً، أو ارتكب وتاب فهو بعيد عن هذا الخطر، وأما الذي ارتكب ذنوباً كثيرة حتى كانت أكثر من طاعاته ولم يتب عنها، بل كان مصراً عليها، فهذا الخطر في حقه عظيم جداً إذ قد يكون غَلَبَةُ الإلف بها سبباً لأن يتمثل في قلبه صورتها، ويقع منه ميل إليها، وتقبض روحه عليها فيكون سبباً لسوء خاتمته.

ويعرف ذلك بمثال، وهو أن الإنسان لا شك أنه يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى إن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط إذ لا يحضر في حال النوم إلا ما حصل له مناسبة مع قلبه لطول الألف.

والموت وإن كان فوق النوم لكن سكراته وما يتقدمه من الغشي قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي ذكرها عند الموت، وعودها في القلب وتمثلها فيه وميل النفس إليها، وإن قبض روحه في تلك الحالة يختم له بالسوء ".

ص: 32

قال الذهبي في الكبائر: " قال مجاهد: ما من ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم، فاحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج، فقيل له: قل: لا إله إلا الله. فقال: شاهك. ثم مات. فغلب على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب، فقال عوض كلمة التوحيد: شاهك.

وهذا كما جاء في إنسان آخر ممن كان يجالس شُرَّاب الخمر أنه حين حضره الموت، فجاءه إنسان يلقنه الشهادة، فقال له: اشرب واسقني، ثم مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " (1) .

3-

ومنها العدول عن الاستقامة (2) : فإن كان مستقيماً في ابتدائه ثم تغير عن حاله وخرج مما كان عليه في ابتدائه يكون سبباً لسوء خاتمته، كإبليس الذي كان في ابتدائه رئيس الملائكة ومعلمهم وأشدهم اجتهاداً في العبادة، ثم لما أمر بالسجود لآدم أبى واستكبر وكان من الكافرين، وكبلعام بن باعور الذي آتاه الله آياته فانسلخ بإخلاده إلى الدنيا، واتبع هواه وكان من الغاوين، وكبَرْصِيصا - عابد من بني إسرائيل- الذي قال له الشيطان: اكفر، فلما كفر، قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، فإن الشيطان أغراه على الكفر، فلما كفر تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك، كما قال تعالى:(فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)[الحشر: 17] .

4-

ومنها ضعف الإيمان: فإن كان في إيمانه ضعف يضعف حب الله تعالى فيه، ويقوى حب الدنيا في قلبه، ويستولي عليه بحيث لا يبقى فيه موضع لحب الله

(1) الكبائر للذهبي: ص91.

(2)

يقظة أولي الاعتبار: ص212.

ص: 33

تعالى، إلا من حيث حديث النفس بحيث لا يظهر له أثره في مخالفة النفس، ولا يؤثر في الكف عن المعاصي، ولا في الحث على الطاعات، فينهمك في الشهوات، وارتكاب السيئات، فتتراكم ظلمات الذنوب على القلب، فلا تزال تطفيء ما فيه من نور الإيمان مع ضعفه، فإذا جاءت سكرات الموت يزداد حب الله ضعفاً في قلبه لما يرى أنه يفارق الدنيا، وهي محبوبة له، وحبها غالب لا يريد تركها، ويتألم من فراقها، ويرى ذلك منه الله تعالى، فيخشى أن يحصل في باطنه بغضه تعالى بدل الحب، وينقلب ذلك الحب الضعيف بغضاً، فإن خروج روحه في اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة يختم له بالسوء ويهلك هلاكاً مؤبداً.

والسبب المفضي إلى هذه الخاتمة حب الدنيا، والركون إليها، والفرح بها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى، وهو الداء العضال الذي قد عم أكثر الخلق، فإن من يغلب على قلبه عند الموت أمر من أمور الدنيا يتمثل ذلك الأمر في قلبه، ويستغرقه، حتى لا يبقى لغيره متسع، فإن خرجت روحه في تلك الحالة يكون رأس قلبه منكوساً إلى الدنيا، ووجهه مصروفاً إليها، ويحصل بينه وبي ربه حجاب.

حُكي أن سليمان بن عبد الملك لما دخل المدينة حاجاً قال: هل بها رجل أدرك عدة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: إنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، ثم قال: ليت شعري ما لنا عند الله تعالى؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله، قال فأين أجده؟ قال في قوله تعالى:(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)[الإنفطار: 13-14] .

ص: 34

قال: فأين رحمة الله؟ قال: رحمة الله قريب من المحسنين.

قال: يا ليت شعري كيف العرض على الله تعالى غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب الذي يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان حتى علا صوته واشتد بكاؤه ثم قال: أوصني، قال إياك أن يراك الله تعالى حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك ".

ونقل صديق حسن خان عن الغزالي في ((الإحياء)) أن سوء الخاتمة على رتبتين: إحداهما أعظم من الأخرى، فأما الرتبة العظيمة الهائلة فهي أن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود، فتقبض الروح على تلك الحالة، فتكون حجاباً بينه وبين الله تعالى أبداً، وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد.

والثانية: وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا أو شهوة من شهواتها، فيتمثل ذلك في قلبه، ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره، فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا، فالأمر مخطر، لأن المرء يموت على ما عاش عليه، وعند ذلك تعظم الحسرة إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة، وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة، يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت، فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب، وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار، ولكن لو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار، ولو بعد آلاف السنين، وكل من اعتقد في الله تعالى وفي صفاته وأفعاله شيئاً على خلاف ما هو به إما تقليداً وإما نظراً بالرأي والمعقول فهو في هذا الخطر، والزهد والصلاح لا يكفي لدفع هذا الخطر، بل لا ينجي منه إلا الاعتقاد الحق على وفق الكتاب العزيز والسنة المطهرة، والبُلْهُ بمعزل عن هذا الخطر (1) .

(1) يقظة أولي الاعتبار: ص216.

ص: 35

تخيير الأنبيَاء عند المَوت

عندما يحضر الأنبياءَ الموتُ فإن الله يريهم ما لهم عنده من الثواب الجزيل والأجر العظيم، ثم يخيرون بين البقاء في الدنيا والانتقال إلى ذلك المقام الكريم، ولا شك أن كل رسول يفضل النعيم المقيم، وقد حدث هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، خُيِّر فاختار، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: " إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخيّر، فلما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف، ثم قال: " اللهمَّ الرفيق الأعلى "، قلت: إذن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، قالت: " فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " اللهم في الرفيق الأعلى "(1) وجاء في إحدى رواياته (2) : " فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه: وأخذته بُحَّةٌ يقول: (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء: 69] . قالت فظننت أنه خُيَّر يومئذ.

(1) رواه البخاري: كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ورقمه: 6509، واللفظ له، وقد أخرجه أيضاً مسلم في صحيحه، ورقمه: 2444، ورواه مالك في موطئه، والترمذي في سننه، وقد ساق روايات الحديث عن عائشة ابن الأثير في جامع الأصول:(11/67) .

(2)

وهي عند جميعهم.

ص: 36

رحلة الرُّوح إلى السماء بعد نزعها

عن أبي هريرة عند مسلم قال: " إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان - يُصعدانها ". قال حماد (1) : فذكر من طيب ريحها، وذكر المسك قال:" ويقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل ".

قال: " وإنّ الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد: وذكر من نتنها، وذكر لعناً - ويقول أهل السماء: روح خبيثة من قبل الأرض، قال: فيقال: انطلقوا به آخر الأجل "(2) .

وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء التكريم الذي يكون لروح العبد الصالح بعد خروجها من جسده، حيث تصلي ملائكة الله على تلك الروح الطيبة، وتفتح له أبواب السماء، وتجعل في كفن من الجنة وحنوط من الجنة، وتخرج منها روائح طيبة عطرة تفوق رائحة المسك، ثم تأخذها الملائكة في رحلة علوية كريمة، وتفتح لها أبواب السماء، أما الروح الخبيثة، فتلعنها ملائكة السماء

(1) أحد رواة حديث أبي هريرة عند مسلم.

(2)

صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت، (4/2202) حديث رقم (2872) .

ص: 37

عند خروجها، وتغلق أبواب السماء دونها، ويدعو كل فريق من ملائكة الرحمن على باب ألا تعرج من قبلهم وتجعل تلك الروح الخبيثة في حنوط من النار وكفن من النار، وتفوح منها الروائح الخبيثة التي تؤذي ملائكة الرحمن.

ويعرج بها إلى السماء فلا تفتح لها أبواب السماء، فتلقى روحه من شاهق، ففي حديث البراء بن عازب الذي يصف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه رحلة الإنسان من الموت إلى البرزخ قال: " حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يعرج من قبلهم، فإذا أخذها (يعني ملك الموت) لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، فذلك قوله تعالى:(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)[الأنعام: 61] ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.

قال: فيصعدون بها، فلا يمرون - يعني - بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان - بأحسن أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها، إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ - كِتَابٌ مَّرْقُومٌ - يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين: 19-21] ، فيكتب كتابه في عليين، ثم يقال: أعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى.. ".

وتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح الخبيثة التي نزعت من العبد الكافر أو الفاجر، فقال عنها بعد نزعها: " [فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل

ص: 38

ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تعرج روحه من قبلهم] ، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)[الأعراف: 40] .

فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى [ثم يقول: أيعدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء، طرحاً [حتى تقع في جسده]، ثم قرأ (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: 31] ، فتعاد روحه إلى جسده " (1) .

وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، وربّ غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقول: فلان، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير

(1) حديث صحيح، سبق تخريجه ص:22.

ص: 39

غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله تبارك وتعالى (1) فإذا كان الرجل السُّوءُ: قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغسّاق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لا تفتح لَكِ أبواب السماء، فيرسل بها من السماء، ثم تصير إلى القبر

" (2) .

(1) ليس المراد أن السماء تحوي الله وتحصره، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل الله فوق سماواته بائن من خلقه، وقد قال الحق في كرسيه:(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)[البقرة: 255] ، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السماوات في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، والكرسي في العرش. كحلقة ملقاة في فلاة الأرض، وهذه الآية كقوله تعالى:(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)[طه: 71] وقوله: (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ)[براءة: 2] ليس المراد أنهم في جوف النخل، وجوف الأرض، بل معنى ذلك أنه تبارك وتعالى فوق السماوات وعليها، وهذا الحديث مثل قوله تبارك وتعالى:(أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ)[الملك: 16] أي في العلو، ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية " أين الله؟ قالت: في السماء، قال عليه السلام: أعتقها فإنها مؤمنة " والحديث رواه مسلم في صحيحه.

(2)

رواه ابن ماجة في سننه وقد أورده الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير: (2/169) .

ص: 40

القبر

المبحث الأول

هول القبر وفظاعته

روى هانئ مولى عثمان بن عفان، قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى، حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّ القبر أول منزلة من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه "(1) أخرجه الترمذي (2)، ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا فإن العبد المؤمن إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم يقول:" رب عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي "(3) والعبد الكافر الفاجر إذا رأى ما أعد الله له من العذاب الشديد فإنه يقول

(1) أفظع، الفظيع: الشديد الشنيع.

(2)

رواه الترمذي: 2308، وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، انظر مشكاة المصابيح:(1/48) وجامع الأصول: (11/164)، وقال الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة:" وسنده حسن "، وانظر صحيح الجامع الصغير:(2/85) .

(3)

هذه قطعة من حديث البراء، وقد سبق تخريجه في حاشية (حضور ملائكة الموت) .

ص: 41

على الرغم مما هو فيه من عذاب: " رب لا تقم الساعة "(1) ، لأن الآتي أشدُّ وأفظع.

ظلمة القبر:

ماتت امرأة كانت تَقُمُّ المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أنها ماتت من الليل، ودفنوها، وكرهوا إيقاظه، فطلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، فجاء إلى قبرها فصلى عليها، ثم قال:" إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم " رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة والبيهقي وأحمد (2) .

(1) هذه قطعة من حديث البراء، وقد سبق تخريجه في حاشية (حضور ملائكة الموت) .

(2)

أحكام الجنائز: ص87. وهو في البخاري برقم: 460، 1337. ومسلم: 956. واللفظ لمسلم.

ص: 42

ضمَّة القبرة

عندما يوضع الميت في القبر فإنه يضمه ضمة لا ينجو منها أحد كبيراً كان أو صغيراً، صالحاً أو طالحاً، فقد جاء في الأحاديث أن القبر ضم سعد بن معاذ، وهو الذي تحرك لموته العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، ففي سنن النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه "(1) .

وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن للقبر ضغطة لو كان أحد ناجياً منها نجا سعد بن معاذ " رواه أحمد في مسنده (2) وفي معجمي الطبراني الكبير والأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" لو نجا أحد من ضمة القبر، لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضمَّ ضمة، ثم روخي عنه "(3) . ومما يدل على أن ضمة القبر لازمة لكل إنسان أن الصبيان لا ينجون منها، ففي معجم الطبراني الكبير عن أبي أيوب الأنصاري بإسناد صحيح وهو في معجمه الأوسط، وفي الكامل لابن عدي عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" لو أفلت أحد من ضمة القبر لنجا هذا الصبي "(4) .

(1) رواه النسائي: في كتاب الجنائز، باب ضمة القبر وضغطته، (4/100) ، وقال الشيخ ناصر الدين الألباني في مشكاة المصابيح، (1/49) : وسنده صحيح على شرط مسلم.

(2)

قال الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع (2/236) : إسناده صحيح.

(3)

قال في صحيح الجامع (5/71) : إسناد صحيح.

(4)

صحيح الجامع: (5/56) .

ص: 43

فتنة القبر

المطلب الأول

كيف تكون فتنته

إذا وضع العبد في قبره جاءته ملائكة على صورة منكرة، ففي سنن الترمذي " إذا قبر الميت - أو قال: أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، فيقولان، ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما كان يقول، هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.. وإن كان منافقاً، قال: سمعت الناس يقولون قولاً، فقت مثله، لا أدري

" (1) .

وجاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب عن الرسول صلى الله عليه وسلم: " فيأتيه ملكان [شديدا الانتهار] فـ[ينتهرانه، و] يجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل:(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[إبراهيم: 27]، فيقول: ربي

(1) رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، (3/383) وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال محقق الكتاب الشيخ أحمد شاكر: لم يخرجه من أصحاب الكتب الستة سوى الترمذي، وقد رمز له الشيخ ناصر الدين الألباني بالحسن في صحيح الجامع الصغير:(1/259) وأورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (1391) .

ص: 44

الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي "، وقال في العبد الكافر أو الفاجر: " ويأتيه ملكان [شديد الانتهار، فينتهرانه، و] ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه، هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد، فيقول: هاه، هاه لا أدري، [سمعت الناس يقولون ذاك، قال: فيقولان: لا دريت][ولا تلوت](1) فينادي منادي أن كذب عبدي " (2) .

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم، إذا انصرفوا: أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟ فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله..، وأما الكافر أو المنافق، وفي رواية: وأما الكافر والمنافق - فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس فيه، فيقال: لا دريت، ولا تليت.." رواه البخاري ومسلم وأبو داو والنسائي (3) .

ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم في أول الأمر أن هذه الأمة تفتن في قبورها، ثم أوحى الله له بهذا العلم، فقد حدث عروة بن الزبير عن خالته عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:" إنما تفتن اليهود "، قالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل شعرت أنه أوحي إليَّ أنَّكم

(1) أي لا دريت ولا تبعت الناس بأن تقول شيئاً يقولونه.

(2)

حديث صحيح، وسبق تخريجه في ص (22) .

(3)

جامع الأصول: (11/173) .

ص: 45

تفتنون في القبور؟ " قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد: يستعيذ من عذاب القبر (1) .

المطلب الثاني

هل يفتن الكافر في قبره

دلت الأحاديث التي سقناها على أن الكفار يفتنون في قبورهم، وقد خالف في ذلك الحكيم الترمذي وابن عبد البرّ والسيوطي (2) ، واحتج الحكيم الترمذي على عدم السؤال بأن الأمم الماضية إن رفضت الاستجابة لرسلها عوجلت بالعذاب، بخلاف هذه الأمة، فقد أمسك عنها العذاب، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيف، فمن دخل في الإسلام مخافة القتل، ثم نافق عذب في قبره، وهذا الذي قاله فيه نظر، فإن الله لم يهلك مكذبي الأمم بعد نزول التوراة (3)، واحتج ابن عبد البرّ بقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، ومنهم من يرويه: تسأل (4) ، والأحاديث الصحيحة ترد هذا الفهم، وتدل على أن هذا ليس خاصاً بالمؤمنين، وليس خاصاً بهذه الأمة.

وقد ذهب إلى أن السؤال عام عبد الحق الإشبيلي، وابن القيم، والقرطبي، والسفاريني وغيرهم (5) .

(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، حديث رقم (584) ، (1/410) .

(2)

لوامع الأنوار البهية: (2/10) .

(3)

انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني: (2/10) .

(4)

لوامع الأنوار البهية للسفاريني: (2/10)، وتذكرت القرطبي:(147) .

(5)

لوامع الأنوار البهية للسفاريني: (2/10)، وتذكرت القرطبي:(147) .

ص: 46

المطلب الثالث

هل يفتن غير المكلفين

الفتنة عامة لجميع المكلفين إلا النبيين فقد اختلف فيهم (1) ، وإلا الشهداء والمرابطين ونحوهم ممن جاءت النصوص دالة على نجاتهم من الفتنة كما سيأتي بيانه.

واختلف في غير المكلفين من الصبيان والمجانين، فذهب جمع من العلماء إلى أنهم لا يفتنون، منهم: القاضي أبو يعلى وابن عقيل، ووجهة نظر هؤلاء أن المحنة تكون لمن كلف، أما من رفع عنه القلم فلا يدخل في المحنة، إذ لا معنى لسؤاله عن شيء لم يكلف به.

وقال آخرون: بل يفتنون. وهذا قول أبي الحكيم الهمداني، وأبي الحسن ابن عبدوس، ونقله عن أصحاب الشافعي، وقد روى مالك وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على الطفل، فقال:" اللهم قه عذاب القبر وفتنة القبر " وهذا القول موافق لقول من قال: إنهم يمتحنون في الآخرة، وأنهم مكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام، وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد (2) .

(1) مجموع الفتاوى: (4/257) .

(2)

راجع مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية:(4/257، 277) .

ص: 47

عذابُ القبر ونعيمه

المطلب الأول

أحاديث عذاب القبر ونعيمه متواترة

يقول شارح الطحاوية: " وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، بل إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عودة الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا "(1) .

وقال في موضع آخر: " واعلم أن عذاب القبر وعذاب البرزخ حق، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما ورد من إجلاسه، واختلاف أضلاعه ونحو ذلك، فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير "(2) .

(1) شرح العقيدة الطحاوية: (450) .

(2)

شرح العقيدة الطحاوية: (451) .

ص: 48

وأنكرت الملاحدة ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة من الإسلاميين عذاب القبر، وقالوا: ليس له حقيقة، واحتجوا لذلك بأنهم يفتحون القبور فلا يرون شيئاً مما أخبرت به النصوص (1) .

وأنكره أيضاً الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسي، وخالفهم جميع أهل السنة، وأكثر المعتزلة (2) .

وهؤلاء كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وقد ظن هؤلاء أن أبصارهم يمكن أن ترى كل شيء، وأن أسماعهم يمكن أن تسمع كل شيء، ونحن اليوم نعلم من أسرار الكون ما كانت أسماعنا وأبصارنا عاجزة عن سماعه ورؤيته، ومن آمن بالله صدَّق خبره.

وقد وردت إشارات في القرآن تدل على عذاب القبر، وقد ترجم البخاري في كتاب الجنائز لعذاب القبر، فقال: باب ما جاء في عذاب القبر، وساق في الترجمة قوله تعالى:(إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)[الأنعام: 93]، وقوله تعالى:(سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)[التوبة: 101] . وقوله تعالى: (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ - النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر: 45-46] .

والآية الأولى التي ساقها البخاري إنما هي في تعذيب الملائكة الكفار في حال الاحتضار كما سبق بيانه، والآية الثانية تدل على أن هناك عذابين سيصيبان

(1) انظر تذكرة القرطبي: (125) .

(2)

فتح الباري: (3/233) .

ص: 49

المنافقين قبل عذاب يوم القيامة، العذاب الأول ما يصيبهم الله به في الدنيا إما بعقاب من عنده وإما بأيدي المؤمنين، والعذاب الثاني عذاب القبر، قال الحسن البصري:(سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ)[التوبة: 101] : عذاب الدنيا، وعذاب القبر " (1) ، وقال الطبري: " والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل والإذلال أو غير ذلك " (2) .

والآية الثالثة حجة واضحة لأهل السنة الذين أثبتوا عذاب القبر، فإن الحق تبارك وتعالى قرر أن آل فرعون يعرضون على النار غدواً وعشياً، وهذا قبل يوم القيامة، لأنه قال بعد ذلك:(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[غافر: 46]، قال القرطبي:" الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر "(3) .

ومن الإشارات القرآنية الواضحة الدالة على فتنة القبر وعذابه قوله تبارك وتعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم: 27] ففي الحديث الذي يرويه البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أقعد المؤمن في قبره أتى ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم: 27] ، وفي رواية أخرى: وزاد: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ) [إبراهيم: 27] نزلت في عذاب القبر "(4) .

(1) فتح الباري: (3/233) .

(2)

فتح الباري: (3/233) .

(3)

فتح الباري: (11/233) .

(4)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، فتح الباري:(3/231) .

ص: 50

وقد روت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها: " أن اليهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر، فقال: نعم، عذاب القبر. قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى إلا تعوذ من عذاب القبر " زاد غندر: " عذاب القبر حق " رواه البخاري (1) .

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت:" دخلت عليَّ عجوزان من عُجُز يهود المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتهما، ولم أنعم (2) أن أصدقهما، فخرجتا، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله إن عجوزين من عجز يهود المدينة دخلتا عليَّ، فزعمتا أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: " صدقتا، إنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم " قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر " (3) .

ولعظم هذا الأمر وخطورته كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه لأصحابه، بل وخطب فيهم مرة به، ففي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: قالت: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فذكر فتنة القبر التي يفتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة " رواه البخاري (4) والنسائي، وزاد النسائي:" حالت بيني وبين أن أفهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكنت ضجتهم، قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله لك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر قوله؟ قال: قد أوحى إلي: أنكم تفتنون في القبور قريباً من فتنة الدجال "(5) .

(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، فتح الباري:(3/231) .

(2)

(لم أنعم) أي: لم تطب نفسي أن أصدقهما.

(3)

صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر:(1/411) .

(4)

صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، فتح الباري:(3/232) .

(5)

رواه النسائي، انظر جامع الأصول:(11/170) .

ص: 51

سماع الرسول صلى الله عليه وسلم أصوات المعذبين:

وقد أعطى الله رسوله القدرة على سماع المعذبين في قبورهم، ففي الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:" بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة له، ونحن معه، إذ حادت به (1) ، فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا (2) ، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه "(3) .

وفي صحيح البخاري ومسلم وسنن النسائي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما غربت الشمس، فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها "(4) .

ويدل على سماع الرسول صلى الله عليه وسلم للمعذبين في قبورهم الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال:" إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.. " الحديث، وسيأتي ذكره بتمامه إن شاء الله.

(1) حادت به، أي: مالت عن الطريق ونفرت.

(2)

لا تدافنوا، أي: مخافة أن لا تدافنوا.

(3)

رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، (4/2199) .

(4)

جامع الأصول: (11/172) .

ص: 52

سماع غير الرسول صلى الله عليه وسلم أصوات المعذبين:

لم يزل بعض الناس يتحدثون عن سماعهم أو رؤيتهم للمعذبين في قبورهم، ومن هؤلاء ثقات أعلام لا مطعن في دينهم وأمانتهم، يقول ابن تيمية في ذلك:" قد يكشف لكثير من أبناء زماننا يقظة ومناماً، ويعلمون ذلك ويتحققونه، وعندنا من ذلك أمور كثيرة "(1) .

وقال في موضع آخر في معرض رده على المكذبين بعذاب القبر " وإذا عرف أن النائم يكون نائماً وتقعد روحه وتقوم وتمشي، وتذهب وتتكلم وتفعل أفعالاً وأموراً بباطن بدنه مع روحه، ويحصل لبدنه وروحه بها نعيم وعذاب، مع أن جسده مضطجع، وعينيه مغمضة، وفمه مطبق، وأعضاؤه ساكنة، وقد يتحرك لقوة الحركة الداخلة، وقد يقوم ويمشي ويتكلم ويصيح، لقوة الأمر في باطنه، كان هذا مما يعتبر به أمر الميت في قبره، فإن روحه تقعد، وتجلس، وتسأل، وتنعم، وتعذب، وتصيح وذلك متصل ببدنه، مع كونه مضطجعاً في قبره، وقد يقوى ذلك حتى يظهر ذلك في بدنه، وقد يرى خارجاً من قبره، والعذاب عليه، وملائكة العذاب موكلة به، فيتحرك بدنه، ويمشي ويخرج من قبره، وقد سمع غير واحد أصوات المعذبين في قبورهم، وقد شوهد من يخرج من قبره وهو معذب، ومن يقعد بدنه أيضاً إذا قوي الأمر، لكن ليس هذا لازماً في حق كل ميت، كما أن قعود بدن النائم لما يراه، ليس لازماً لكل نائم، بل هو بحسب قوة الأمر "(2) .

(1) مجموع الفتاوى: (24/376) .

(2)

مجموع الفتاوى: (5/525) .

ص: 53

المطلب الثاني

صفة نعيم القبر وعذابه

ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب أن الملائكة تسأل العبد المؤمن في قبره فيحسن الإجابة وعند ذاك: " ينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه [وفي رواية: يمثل له] رجل حسن الوجه حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، [أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم] هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: [وأنت فبشرك الله بخير] من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح [فو الله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً] ، ثم يفتح له باب من الجنة، وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا، فإذا رأى ما في الجنة، قال: ربِّ عجل قيام الساعة، كيما أرجع إلى أهلي ومالي، [فيقال له: اسكن] ".

وذكر صلوات الله عليه وسلامه أن العبد الكافر (1) أو الفاجر بعد أن يسيء الإجابة " ينادي منادٍ في السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه (وفي رواية: ويمثل له) رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول:[وأنت فبشرك الله بالبشر] ، من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر،

(1) هذه اللفظ ومثله كثير في الأحاديث يرد على ابن عبد البرّ والسيوطي والحكيم والترمذي ومن ذهب مذهبهم من القائلين بأن عذاب القبر لعصاة المؤمنين دون الكفار.

ص: 54

فيقول: أنا عملك الخبيث، [فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله] ، [فجزاك الله شراً، ثم يقيض الله له أعمى أصم أبكم في يده مرزبة، لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه حتى يصير بها تراباً، ثم يعيده كما كان، فيضربه ضربة أخرى، فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له باب من النار، ويمهد من فرش النار]، فيقول: رب لا تقم الساعة " (1) .

وفي حديث أنس أن العبد المؤمن إذا أجاب الإجابة الصادقة في قبره، " يقال له: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعاً، قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره " وذكر في حديث أنس أن الكافر والمنافق بعد أن يجيب في قبره تلك الإجابة الكاذبة، يقال له: " لا دريت، ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين " أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ الحديث للبخاري، ولمسلم: " إن العبد إذا وضع في قبره، ثم ذكر نحواً مما تقدم إلى قوله: وذكر لنا: أنه يفسح فيه سبعين ذراعاً، ويملأ عليه خضراً إلى يوم تبعثون "، وفي رواية لأبي داود أن العبد المؤمن بعد أن يسأل ويجيب: " ينطلق به إلى بيت كان له في النار، فيقول له: هذا كان لك، ولكن الله عصمك، فأبدلك به بيتاً في الجنة، فيراه، فيقول: دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن " (2) .

وهذا الذي أشارت إليه الأحاديث من أنَّ كل إنسان يعرض عليه مقعده بعد أن يسأل في قبره مستمر طيلة بقائه في القبر، وقد صرح بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي

(1) حديث صحيح، سبق تخريجه في ص (22) .

(2)

انظر هذه الروايات في جامع الأصول: (11/173) .

ص: 55

الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " (1) .

وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملكين يقولان للعبد المؤمن بعد أن يجيب الإجابة السديدة: " قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول، أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ". وأنهما يقولان للمنافق: " قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك "(2) .

المطلب الثالث

هل يعذب المسلمون في قبورهم

قال القرطبي: " قال أبو محمد عبد الحق: اعلم أن عذاب القبر ليس مختصاً بالكافرين، ولا موقوفاً على المنافقين، بل يشاركهم فيه طائفة من المؤمنين، وكل على حاله من عمله، وما استوجبه من خطيئته وزلله "(3) ، والأدلة على أن المؤمن قد يعذب في قبره بسبب ذنوبه كثيرة، وسيأتي ذكر طائفة منها في المبحث التالي.

(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه مقعده في الغداة والعشي، فتح الباري:(3/243) ، ورواه مسلم في كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار، (4/2199) حديث رقم (2866) .

(2)

حديث حسن رواه الترمذي في سننه. كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر:(3/383) حديث رقم: (1071) .

(3)

تذكرة القرطبي: 146.

ص: 56

المطلب الرابع

أسباب عذاب القبر

" الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور على قسمين: مجمل ومفصّل، أمّا المجمل فإنهم يعذبون على جهلهم بالله وإضاعتهم لأمره وارتكابهم معاصيه "(1) .

أما المفصل فإن النصوص ذكرت منه الكثير، وسنشير إلى ما اطلعنا على ذكره في الأحاديث:

1، 2 - عدم الاستتار من البول والنميمة:

روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أمّا أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، ثم قال: ثم أخذ عوداً رطباً فكسره باثنتين، ثم غرز كل واحد منهما على قبر، ثم قال: لعله يخفف عنهما، ما لم ييبسا "(2) .

وروى النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: " دخلت عليَّ امرأة من اليهود، فقالت: إن عذاب القبر من البول، فقلت: كذبت، فقالت: بلى، إنا لنقرض منه الجلد والثوب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وقد ارتفعت أصواتنا، فقال: ما هذا؟ فأخبرته بما قالت فقال: صدقت. قالت: فما صلى

(1) لوامع الأنوار البهية: (2/17) .

(2)

رواه البخاري، واللفظ له في كتاب الجنائز، باب عذاب القبر من الغيبة والبول، فتح الباري:(3/242) ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على نجاسة البول، (1/240) ، حديث رقم (292)، ورواه النسائي:(4/106) .

ص: 57

بعد يومئذ إلا قال دبر كل صلاة: ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أعذني من حرّ النار وعذاب القبر " (1) .

وهذا الذي أشار إليه الحديث من أن بني إسرائيل كانوا يقرضون من البول الجلد والثوب - هو من الدين الذي شرعه الله لهم، ولذلك لما نهاهم عن فعل ذلك أحدهم عذب في قبره بسبب نهيه، ففي حديث عبد الرحمن ابن حسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ألم تعلموا ما لقي صاحب بني إسرائيل، كانوا إذا أصابهم البول قطعوا ما أصابه البول منهم، فنهاهم عن ذلك، فعذب في قبره "(2) .

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عامة عذاب القبر من البول، فقد روى أنس رضي الله عنه، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه "، ورواه ابن عباس بلفظ:" عامة عذاب القبر من البول، فتنزهوا منه " ورواه أبو هريرة بلفظ: " أكثر عذاب القبر من البول "(3) .

3-

الغلول:

ومن الذنوب التي يعذب صاحبها في القبر الغلول، وقد صح في ذلك أكثر من حديث، فعن أبي هريرة، قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً يقال له:

(1) رواه النسائي في سننه، انظر جامع الأصول:(11/167) .

(2)

عزاه في صحيح الجامع (11/416) إلى أبي داود والترمذي، وابن ماجة وابن حبان والحاكم.

(3)

وقد خرجه الشيخ ناصر في (إرواء الغليل)، وقال: صحيح، وعزا رواية أنس إلى الدارقطني ورواية ابن عباس إلى الدارقطني والحاكم والبزار والطبراني، ورواية أبي هريرة إلى ابن أبي شيبة وابن ماجة والآجري والحاكم وأحمد، انظر إرواء الغليل:(1/311) ، حديث رقم (280) .

ص: 58

مِدْعم، فبينما مدعم يحط رحلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه سهم عائر (1) ، فقتله، فقال الناس: هنيئاً له الجنة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه ناراً ". فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" شراك من نار أو شراكين من نار "(2) متفق عليه.

وعن عبد الله بن عمرو، قال: كان على ثقل (3) النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كَرْكرة، فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هو في النار " فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلّها " رواه البخاري (4) .

4-

7- الكذب، هجر القرآن، الزنا، الربا:

أرى الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنواعاً مما يعذب به بعض العصاة، ففي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول ما شاء الله ".

فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحدكم منكم رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس، ورجل قائم بيده كلوب من حديد - قال بعض أصحابنا عن موسى: كلوب من حديد يدخله في شدقه - حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك،

(1) عائر: لا يدري من رماه.

(2)

مشكاة المصابيح: (2/401) .

(3)

الثقل: المتاع المحمول على الدابة.

(4)

صحيح البخاري: 3074.

ص: 59

ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله.

قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه.

قلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته ناراً، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة.

فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، على وسط النهر رجل بين يديه حجارة - قال يزيد ووهب بن جرير عن جرير بن حازم: وعلى شط النهر رجل - فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان.

فقلت: من هذا؟ قالا: انطلق. فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها، فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب.

قلت: طَوَّفتماني الليلة فأخبراني عما رأيتُ. قالا: نعم. أما الذي رأيته يُشَقُّ شِدْقُه فكذاب يحدّث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به ما رأيت إلى يوم القيامة، والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه

ص: 60

بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يُفعل به إلى يوم القيامة. والذي رأيته في الثقب فهم الزناة. والذي رأيته في النهر آكلوا الربا. والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله أولاد الناس. والذي يوقد النار مالك خازن النار. والدار الأولى التي دخلت عامة المؤمنين، وأما هذه الدار فدارُ الشهداء. وأنا جبريل، وهذا ميكائيل، فارفع رأسك. فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب، قالا: ذاك منزلك. قلت: دعاني أدخل منزلي. قالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملت أتيت منزلك " (1) .

حبس المدين في قبره بدينه:

ومما يضر الميت في قبره ما عليه من دين، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه:" أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم، وترك عيالاً، قال: فأردت أن أنفقها على عياله، قال: فقال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم: " إن أخاك محبوس بدينه، [فاذهب] فاقض عنه، [فذهبت فقضيت عنه، ثم جئت]، قلت: يا رسول الله، قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة، وليست لها بيِّنه، قال: أعطها فإنه محقة، (وفي رواية صادقة)(2) ".

فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك الصحابي محبوس بسبب دينه، ويمكن أن يُفسِّر هذا الحبس الحديث الآخر حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" إنه مأسور بدينه عن الجنة "، ففي الحديث الذي يرويه سمرة بن جندب " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على

(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز، فتح الباري (3/251) .

(2)

قال الشيخ ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز (ص: 15) : أخرجه ابن ماجة: (2/82)، وأحمد:(4/136، 5/7)، والبيهقي:(10/142) ، وأحد إسناديه صحيح، والآخر مثل إسناده عند ابن ماجة، وصححه البوصيري في:(الزوائد) ، وسياق الحديث والرواية الثانية للبيهقي، وهذه الزيادات لأحمد في رواية.

ص: 61

جنازة، (وفي رواية صلى الصبح)، فلما انصرف قال: أههنا من آل فلان أحد؟ [فسكت القوم، وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا] ، فقال ذلك مراراً، [ثلاث لا يجيبه أحد]، [فقال رجل: هو ذا] ، قال: فقام رجل يجر إزاره من مؤخر الناس، [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟] أما إني لم أنوِّه باسمك إلا لخير، إن فلاناً - لرجل منهم - مأسور بدينه [عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله] ، فلو رأيت أهله ومن يتحرَّون أمره قاموا فقضوا عنه، [حتى ما أحد يطلبه بشيء](1) .

عذاب الميت ببكاء الحي:

عندما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، واصاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب أتبكي عليَّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الميت يُعَذَّب ببعض بكاء أهله عليه "(2) .

وقد أنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، ففي صحيح البخاري أن ابن عباس ذكر لعائشة ما قاله عمر بعد وفاته، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليزيد الكافر عذاباً

(1) قال الشيخ ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز (ص: 15) : أخرجه أبو داود (2/84)، والنسائي:(2/233) ، والحاكم (2/25، 26) ، والبيهقي (6/4/76) والطيالسي في مسنده (رقم891، 892) وكذا أحمد (5/11، 13، 20) بعضهم عن الشعبي عن سمرة، وبعضهم أدخل بينهما سمعان بن مُشَنّج، وهو على الوجه الأول صحيح على شرط الشيخين، كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وعلى الوجه الثاني صحيح فقط، وقد ذكر الشيخ هناك من أخرج الروايات والزيادات.

(2)

الحديث رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه " فتح الباري: (3/151) ، ورواه مسلم أيضاً، انظر جامع الأصول:(11/92) .

ص: 62

ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر: 18] (1) ، وقد أولت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث أكثر من تأويل، ورد ذلك عنها في الصحاح والسنن (2) .

وها هنا أمران: الأول هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟ قال القرطبي: " إنكار عائشة ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً، ولم يسمع بعضاً بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح "(3) .

الثاني: كيف يعذب ببكاء أهله عليه، وليس ذلك من فعله، والله يقول:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[فاطر: 18] .

للعلماء في ذلك أجوبة أحسنها ما قاله البخاري في ترجمة الباب الذي وضع الحديث تحته، قال رحمه الله تعالى:" باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته " لقول الله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)[التحريم: 6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" كلكم راع ومسؤول عن رعيته " فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[فاطر: 18](4) وممن ذهب هذا المذهب الترمذي رحمه الله، فإنه روى حديث عمر رضي الله عنه بلفظ

(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، انظر فتح الباري:(3/151) .

(2)

إذا شئت الإطلاع على هذه التأويلات ارجع إلى فتح الباري: (3/152) .

(3)

فتح الباري: (3/154) .

(4)

انظر فتح الباري: (3/150) .

ص: 63

" الميت يعذب ببكاء أهله عليه " ثم قال: " قال أبو عيسى (هو الترمذي) : حديث عمر حديث حسن صحيح، وقد كره قوم من أهل العلم البكاء على الميت، قالوا: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وذهبوا إلى هذا الحديث، وقال ابن المبارك: أرجو إن كان ينهاهم في حياته، أن لا يكون عليه من ذلك شيء "(1) .

وهذا الفقه للحديث هو مذهب القرطبي رضي الله عنه، فإنه قال: " قال بعض العلماء أو أكثرهم: إنما يعذب الميت ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره، كما قال:

إذ أنا مت فانعيني بما أنا أهله ××× وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد

وكذلك إذا وصى به (2) .

" وقد كان النواح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية، وكانوا يوصون أهاليهم بالبكاء، والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم كثيراً، فالميت تلزمه العقوبة في ذلك لما تقدم إليهم في وقت حياته " كذا قال ابن الأثير (3) .

وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري، فقد جاء فيه:" يعذب ببعض بكاء أهله عليه"، ولا يعذب بكل البكاء، فالبكاء الذي تدمع فيه العين، ولا شق، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به، وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة.

وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابن عبد البرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب

(1) سنن الترمذي: (3/326) .

(2)

التذكرة، للقرطبي:(102) .

(3)

جامع الأصول، لابن الأثير:(102) .

ص: 64

ببكاء الحي، فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك: " وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، فهو مخالف لقوله تعالى:(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[فاطر: 18] ، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.

فمنهم من غلَّط الرواة لها، كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشة والشافعي، وغيرهما. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه، وهو قول طائفة كالمزني، وغيره.

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم، فيعذب على ترك النهي عن المنكر، وهو اختيار طائفة منهم جدى أبو البركات، وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً " (1) وقد رد قول الذين ردوا هذه الأحاديث بنوع من التأويل، فقال: " والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو موسى الأشعري وغيرهم، لا ترد بمثل هذا، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً " (2) .

ثم بين رحمه الله تعالى أن عائشة وقعت في مثل ما فرت عنه، قال: " وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين - وهي الصادقة فيما نقلته - فروت عن

(1) مجموع الفتاوى: (24/370) .

(2)

المصدر السابق: (24/370) .

ص: 65

النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه "، وهذا موافق لحديث عمر، فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله، جاء أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله، ولهذا رد الشافعي في " مختلف الحديث " هذا الحديث نظراً إلى المعنى، وقال الأشبه روايتها الأخرى:" إنهم يبكون عليه، وإنه ليعذب في قبره "(1) .

ورد قول الذين ظنوا أن الحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره، فقال:" والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم (2) وبعد أن أطال النفس في هذه المسألة: مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم، وأن هذا ليس بصواب من القول، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه، وأن الذين لم يبتلوا يمتحنون في عرصات القيامة، قال: " وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال:" يعذب "، والعذاب أعمُّ من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" السفر قطعة من العذاب، يمْنَعُ أحدكم طعامه وشرابه "، فسمى السفر عذاباً، وليس هو عقاباً.

والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشَمِّ هذا، ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة، وإن لم تكن النياحة عملاً له، يعاقب عليه؟

(1) مجموع الفتاوى: (24/371) .

(2)

المصدر السابق.

ص: 66

والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس، ويتألم برؤية بعضهم، وبسماع كلامه، ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها، كما جاءت بذلك الآثار، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة سبب العذاب " (1) .

وهذا الفقه الذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه، فعن النعمان بن بشير، قال:" أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي، أنت كذلك؟! فلما مات لم تبك عليه "(2) بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من ميت يموت، فيقوم باكيه، فيقول: واجبلاه! واسيداه! أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت " رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب (3)، وقال الحافظ في التلخيص بعد سياقه لهذا الحديث:" ورواه الحاكم وصححه، وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير "(4) .

وينبغي أن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه، فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه - كما يقول ابن تيمية - كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور الخبيثة. ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك، إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع

(1) مجموع الفتاوى: (24/371) .

(2)

رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة.

(3)

سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت، (3/326)، حديث رقم:(1003) .

(4)

تلخيص الحبير لابن حجر: 2/140، حديث رقم (806) .

ص: 67

مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته. وبين في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عن سيئاته (1) .

المطلب الخامس

المنجيات من فتنة القبر وعذابه

الذي ينجي المرء من عذاب القبر أن يكون مستعداً للموت، مشمراً له، حتى إذا فاجأه الموت لم يعض أصْبعَ الندم، ومن الاستعداد للموت الإسراع في التوبة، وقضاء الحقوق، والإكثار من الأعمال الصالحة، فإن الإيمان والصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد وبر الوالدين وصلة الأرحام وذكر الله عز وجل وغيرها من صالح الأعمال تحفظ العبد المؤمن، وبها يجعل الله له من كل هَمّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً.

وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الأعمال الصالحة تحرس الإنسان في قبره، يقول ابن تيمية:" في الحديث المشهور حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو حاتم في صحيحه، وقد رواه الأئمة قال: " إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدق والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه.

فيؤتى من عند رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه: فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى

(1) مجموع الفتاوى: (4/375) .

ص: 68

الناس: ما قبلي مدخل.

فيقال له: اجلس، فيجلس، قد مثلت له الشمس وقد دنت للغروب، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تقول فيه؟ فيقول: دعوني، حتى أصلي، فيقولون: إنك ستفعل، أخبرنا عما نسألك عنه، فقال: عمَّ تسألوني؟ فيقولون: ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم، ما تشهد به؟ فيقول: أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله، فيقال: على ذلك حييت، وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله تعالى، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: ذلك مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال: ذلك مقعدك منها، وما أعدَّ الله لك فيها، [لو عصيت الله] ، فيزداد غبطة وسروراً ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد جسده كما بدئ، وتجعل نسمته في نسم الطيب، وهي طير تعلق في شجر الجنة ".

وفي لفظ: " وهو طير يعلق في شجر الجنة " قال أبو هريرة: (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[إبراهيم: 27]، وفي لفظ:" ثم يعاد الجسد إلى ما بدى منه ".

الاستعاذة بالله من فتنة القبر وعذاب القبر:

لما كانت فتنة القبر وعذاب القبر من الأهوال الكبار، والشدائد العظيمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من ذلك في صلاته وفي غير صلاته، وكان يأمر أصحابه بذلك.

ص: 69

ففي حديث عائشة التي ذكرت فيه أمر اليهودية التي قالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر؟ فقال: نعم، عذاب القبر، قالت: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر، زاد غندر:" عذاب القبر حق "(1) .

وعن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: " اللهمَّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات "(2) .

عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر.. "(3) .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: " تعوذوا بالله من عذاب القبر" فيقولون: " نعوذ بالله من عذاب القبر "(4) .

وكان يقول لهم: " استجيروا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حق "(5) وكان يأمرهم أن يستعيذوا من أربع فيقول: " استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من جهنم، استعيذوا بالله من فتنة المسيح الدجال، استعيذوا بالله من فتنة المحيا والممات "(6) .

(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز، والسياق له، باب عذاب القبر، فتح الباري:(13/232) ورواه مسلم، كتاب المساجد، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر:(1/410) .

(2)

قال الشيخ ناصر في صحيح الجامع (1/406) رواه أحمد، والبخاري ومسلم.

(3)

عزاه في صحيح الجامع (1/407) إلى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة.

(4)

رواه مسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه:(4/2199) .

(5)

رواه الطبراني بإسناد صحيح، انظر صحيح الجامع:(1/317) .

(6)

عزاه في صحيح الجامع: (1/320) إلى الترمذي والنسائي.

ص: 70

وكان يأمرهم بالاستعاذة في الصلاة بعد التشهد من عذاب القبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع. يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال "(1) .

وعن ابن عباس أن الرسول كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن: " اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات "(2) .

المطلب السادس

الذين يعصمون من فتنة القبر وعذابه

بعض المؤمنين من الذين قاموا بأعمال جليلة، أو أصيبوا بمصائب كبيرة يأمنون فتنة القبر وعذابه، فمن هؤلاء:

1-

الشهيد: فقد روى المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده في الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقربائه " رواه الترمذي وابن ماجة (3) .

(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، (1/412) حديث رقم:(588) .

(2)

رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة (1/412) حديث رقم:(590) .

(3)

مشكاة المصابيح: (2/358) ، وإسناده صحيح كما قال محقق المشكاة الشيخ ناصر الدين الألباني.

ص: 71

وروى النسائي في سننه عن راشد بن سعد بن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " (1) .

2-

الذي مات مرابطاً (2) في سبيل الله، فقد روى فضالة بن عبيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله؟ فإنه ينمي له عمله يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر " رواه الترمذي وأبو داود (3) .

3-

الذي يموت يوم الجمعة، ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر " رواه أحمد والترمذي، والحديث صحيح بمجموع طرقه أو حسن (4) .

4-

الذي يموت بداء البطن، وقد ثبت في حديث يرويه عبد الله بن يسار، قال:" كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهدا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره "؟ فقال الآخر: بلى، وفي رواية: صدقت (5) .

(1) وسنده صحيح، انظر أحكام الجنائز للشيخ ناصر الدين الألباني:(36) وصحيح الجامع: (4/164) .

(2)

الرباط: هو الملازمة في سبيل الله مأخوذة من ربط الخيل، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطاً: فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الرباط.

(3)

مشكاة المصابيح: (2/355) ، وإسناده صحيح كما قال محقق المشكاة.

(4)

رواه أحمد، والترمذي، والحديث بمجموع طرقه صحيح أو حسن، أحكام الجنائز (35) .

(5)

قال الشيخ ناصر في أحكام الجنائز: أخرجه النسائي: والترمذي حسنه، وابن حبان في صحيحه، والطيالسي، وأحمد، وسنده صحيح، (أحكام الجنائز ص38) .

ص: 72

عِظَة المَوت

المطلب الأول

الموت أعظم واعظ

سقنا إليك طرفاً من النصوص التي تحدث عن الموت وسكراته، والقبر وأهواله، والعاقل من اعتبر، فإن الموت أكبر واعظ، وقد قيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى الأموات (1)، وقد أحسن القرطبي في وصف الموت حيث يقول:" اعلم أن الموت هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس الذي طعمهما أكره وأبشع، وأنه الأهذم للذات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمراً يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لهو الأمر الفظيع، والخطب الجسيم، وإن يومه لهو اليوم العظيم "(2) .

المطلب الثاني

التفكر في الموت

كما أن الحياة آية من آيات الله فالموت كذلك آية أخرى تضاد الحياة، ولكنها لا تقل عنها عجباً، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 28] .

(1) التذكرة للقرطبي: 99.

(2)

التذكرة للقرطبي: 24.

ص: 73

والتفكر في هذه الآية تفكر في خلق من خلق الله وعجائبه الدالة على عظيم قدرة الله، وعجيب أمره، يروى أن أعرابياً كان يسير على جمل له، فخر ميتاً، فنزل الأعرابي عنه، وجعل يطوف به، ويتفكر فيه، ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث؟

هذه أعضاؤك كاملة، وجوارحك سالمة. ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي صرعك؟ ما الذي عن الحركة منعك؟

ثم انصرف متفكراً في شأنه، متعجباً من أمره (1) .

وأُنشد في بعض الشجعان مات حتف أنفه (2) :

جاءته من قِبَل المنون إشارة ××× فهوى صريعاً لليدين وللفم

ورمى بمحكم درعه وبرمحه ××× وامتد ملقى كالفنيق الأعظم

لا يستجيب لصارخ إن يدعه ××× أبداً ولا يرجى لخطب معظم

ذهبت بسالته ومرَّ مراره ××× لما رأى حبل المنية يرتمي

يا ويحه من فارس ما باله ××× ذهبت مرارته ولما يُكْلَم

هذي يداه وهذه أعضاؤه ××× ما منه عضو غداً بمثلم

هيهات ما حبل الردى محتاجه ××× للمشرفي ولا اللسان اللهذم

هي ويحكم أمر الإله وحكمه ××× والله يقضي بالقضاء المحكم

(1) التذكرة للقرطبي: ص4.

(2)

التذكرة للقرطبي: ص5.

ص: 74

المطلب الثالث

نماذج من عظات الواعظين

وعظ الله رسوله بالموت فقال: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)[الزمر: 30] ، وفي الحديث الذي يرويه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في مستدركه، وغيرهم عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبريل، فقال: يا محمد، عش ما شئت، فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس "(1) .

وقد سقنا كثيراً من النصوص التي وعظنا الله ورسوله فيها بالموت، وقد كان هذا دأب الصالحين يعظون أنفسهم بالموت، ويعظون الناس به، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل " رواه البخاري في ترجمة باب: الأمل وطوله (2) .

ومن عظات العلماء ما جاء في تذكرة القرطبي: " تفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مفزعاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات، وهادماً للذات، وقاطعاً للأمنيات.

(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة، (2/505)، ورقم الحديث:(831) .

(2)

مشكاة المصابيح: (2/659) ، ورقم الحديث (5215) .

ص: 75

فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك إلى غرر، وغطوك من بعد لين لحافها بتراب ومدر، فيا جامع المال، والمجتهد في البنيان، ليس لك من مالك والله إلا الأكفان، بل هي للخراب والذهاب، وجسمك للترائب والمئاب.

فأين الذي جمعته من المال؟ فهل أنقذك من الأهوال، كلا بل تركته لمن لا يحمدك، وقدم بأوزارك على من لا يعذرك " (1) .

ونقل القرطبي رحمه الله عن يزيد الرقاشي أنه كان يقول لنفسه: " ويحك يا زيد من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عند بعد الموت؟ من ذا يرضي عنك ربك بعد الموت؟ ".

ثم يقول: " يا أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من القبر طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله؟ "(2) .

وقال القرطبي رحمه الله في موضع آخر: " مَثِّلْ نفسك يا مغرور وقد حلت بك السكرات، ونزل بك الأنين والغمرات، فمن قائل يقول: إن فلاناً قد أوصى، وماله قد أحصى، ومن قائل يقول: إن فلاناً ثقل لسانه، فلا يعرف جيرانه، ولا يكلم إخوانه، فكأني أنظر إليك تسمع الخطاب، ولا تقدر على رد الجواب. فَخَيِّل لنفسك، يا ابن آدم إذا أخذت لفراشك إلى لوح مغسلك، فغسلك الغاسل، وألبست الأكفان، وأوحش منك الأهل والجيران، وبكت

(1) التذكرة: ص 9.

(2)

التذكرة: ص 9.

ص: 76

عليك الأصحاب والإخوان، وقال الغاسل: أين زوجة فلان تحالله، وأين اليتامى ترككم أبوكم فما ترونه بعد هذا اليوم أبداً، وأنشدوا:

ألا أيها المغرور مالك تلعب ××× تؤمل آمالاً وموتك أقرب

وتعلم أن الحرص بحر مبعد ××× سفينته الدنيا فإياك تعطب

وتعلم أن الموت ينقض مسرعاً ××× عليك يقيناً طعمه ليس يعذب

كأنك توصي واليتامى تراهم ××× وأمهم الثكلى تنوح وتندب

تغص بحزن ثم تلطم وجهها ××× يراها رجال بعدما هي تحجب

وأقبل بالأكفان نحوك قاصد ××× ويحثي عليك الترب والعين تسكب (1)

ومن عظات الصحابي الجليل أبي الدرداء قوله: " أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه، وهو لا يدري أأرضى الله أم سخطه؟! .

وأبكاني فراق الأحبة محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله، يوم تبدو السريرة علانية، ثم لا يدري إلى الجنة أو إلى النار " (2) .

وقال أبو الدرداء أو أبو ذر: " تلدون للموت، وتعمرون للخراب، وتحرصون على ما يفنى، وتذرون ما يبقى "(3) .

وقال القرطبي في تذكرته واعظاً ناصحاً:

" يا هذا، أين الذي جمعته من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال، لقد

(1) التذكرة: ص 21.

(2)

التذكرة: ص 87.

(3)

كتاب الزهد والرقائق، لابن المبارك: ص 88.

ص: 77

أصبحت كفك منه عند الموت خالية صفراً، وبدلت بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً، فكيف أصبحت يا رهين أوزاره، ويا من سلب من أهله ودياره؟

ما كان أخفى عليك سبيل الرشاد، وأقل اهتمامك لحمل الزاد إلى سفرك البعيد، وموقفك الصعب الشديد، أو ما علمت يا مغرور أن لا بدَّ من الارتحال إلى يوم شديد الأهوال، وليس ينفعك ثمَّ قيل ولا قال، بل يعد عليك بين يدي الملك الديان ما بطشت اليدان ومشت القدمان، ونطق به اللسان، وعملت الجوارح والأركان، فإن رحمك الله فإلى الجنة، وإن كانت الأخرى فإلى الميزان.

يا غافلاً عن هذه الأحوال إلى كم هذه الغفلة والتوان؟ أتحسب أن الأمر صغير، وتزعم أن الخطب يسير؟ وتظن أن سينفعك حالك إذا آن ارتحالك، أو ينقذك مالك حين توبقك أعمالك، أو يغني عنك ندمك إذا زلت بك قدمك، أو يعطف عليك معشرك حين يضمك محشرك، كلا والله ساء ما تتوهم، ولا بدَّ أن ستعلم لا بالكفاف تقنع، ولا من الحرام تشبع، ولا للعظات تسمع، ولا بالوعيد ترتدع، دأبك أن تتقلب مع الأهواء، وتخبط خبط العشواء، يعجبك التكاثر بما لديك، ولا تذكر ما بين يديك. يا نائماً في غفلة، وفي خبطة يقظان، إلى كم هذه الغفلة والتوان، أتزعم أن ستُترك سُدَى، وأن لا تحاسب غداً، أم تحسب أن الموت يقبل الرِّشا؟ أم تميز بين الأسد والرَّشا؟

كلا والله، لن يدفع عنك الموت مالك ولا بنون، ولا ينفع أهل القبول إلا العمل المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى، ونهى النفس عن الهوى، وعلم أن الفائز من ارعوى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، فانتبه من هذه الرقدة، واجعل العمل الصالح لك عدة، ولا تتمنَّ منازل الأبرار وأنت مقيم على الأوزار، عامل بعمل الفجار، وراقب الله في الخلوات، ولا يغرنك الأمل، فتزهد عن العمل..، وأنشدوا:

ص: 78

تزود من معاشك للمعاد ××× وقم لله واعمل خير زاد

ولا تجمع من الدنيا كثيراً ××× فإن المال يجمع للنفاد

أترضى أن تكون رفيق قوم ××× لهم زاد وأنت بغير زاد

وقال آخر:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ××× ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون مثله ××× وأنك لم ترصد كما كان أرصدا (1)

المطلب الرابع

نماذج من عظات الشعراء

وقد أكثر الشعراء من ذكر الموت والوعظ به، فمن ذلك قول الشاعر:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ××× يبقى الإله ويفنى المال والولد

لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ××× والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له ××× والإنس والجن فيما بينها ترد

أين الملوك التي كانت لعزتها ××× من كل أوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب ××× لا بد من ورده يوماً كما وردوا

وقال الآخر:

مشيناها خطا كتبت علينا ××× ومن كتبت عليه خطا مشاها

وأرزاق لنا متفرقات ××× فمن لم تأته منا أتاها

ومن كتبت منيته بأرض ××× فليس يموت في أرض سواها

(1) تذكرة القرطبي: 91.

ص: 79

وقال آخر:

وإذا وليت قوماً ليلة ××× فاعلم بأنك بعدها مسؤول

وإذا حَملتَ إلى القبور جنازة ××× فاعلم بأنك بعدها محمول

وقال آخر:

تزود من الدنيا فإنك لا تدري ××× إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من عروس زينوها لزوجها ××× وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر

وكم من صغار يرجى طول عمرهم ××× وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر

وكم من سليم مات من غير علة ××× وكمن من سقيم عاش حيناً من الدهر

وكم من فتى يمسي ويصبح لاهياً ××× وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

وكم من ساكن عند الصباح بقصره ××× وعند المسا قد كان من ساكن القبر

فكن مخلصاً واعمل الخير دائماً ××× لعلك تحظى بالمثوبة والأجر

وداوم على تقوى الإله فإنها ××× أمان من الأهوال في موقف الحشر

وقال الآخر:

هب الدنيا تساق إليك عفواً ××× أليس مصير ذاك إلى انتقال

وما دنياك إلا مثل فيء ××× أظلك ثم آذن بالزوال

وقال آخر:

يا مقيماً قد حان منه رحيل ××× بعد ذاك الرحيل يوم عصيب

إن للموت سكرة فارتقبها ××× لا يداويك إن أتتك طبيب

كم تواني حتى تصير رهيناً ××× ثم تأتيك دعوة فتجيب

وتذكر يوماً تحاسب فيه ××× إن من يذكر الممات ينيب

ليس من ساعة من الدهر إلا ××× للمنايا عليك رقيب

كل يوم ترميك بسهم ××× إن تحظى يوماً فسوف تصيب

ص: 80

وقال آخر:

الموت في كل يوم ينشر الكفنا ××× ونحن في غفلة عما يراد بنا

لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ××× وإن توحشت من أثوابها الحسنا

أين الأحبة والجيران ما فعلوا ××× أين الذين همو كانوا لنا سكنا

سقاهم الموت كأساً غير صافية ××× فصيرتهم لأطباق الثرى رهناً

وقال آخر:

قدم لنفسك توبة مرجوة ××× قبل الممات وقبل حبس الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها ××× ذخر وغنم للمنيب المحسن

المطلب الخامس

أثر تذكر الموت في إصلاح النفوس

إن لتذكر الموت أثراً كبيراً في إصلاح النفوس وتهذيبها، ذلك أن النفوس تؤثر الدنيا وملذاتها، وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة، وقد تهفو إلى الذنوب والمعاصي ن وقد تقصر في الطاعات، فإذا كان الموت دائماً على بال العبد، فإنه يصغر الدنيا في عينه، ويجعله يسعى في إصلاح نفسه، وتقويم المعوج من أمره، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان، وابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده بإسناد حسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها "(1) .

(1) صحيح الجامع الصغير: (1/388)، ورقم الحديث:(1222) .

ص: 81

ويذكر ابن المبارك أن صالحاً المُرّي كان يقول: " إن ذكر الموت إذا فارقني ساعة فسد على قلبي "(1) .

وقال الدقاق: " من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسى الموت عوجل بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة "(2) .

وقال القرطبي: " اعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية "(3) ويروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة في قلبها، فقالت لها: أكثري من ذكر الموت يرق قلبك، ففعلت ذلك فرق قلبها " (4) .

وقال القرطبي: قال العلماء: تذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويذهب الفرح بالدنيا، ويهون المصائب (5) .

وقال القرطبي أيضاً: قال العلماء رحمهم الله ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور، وخاصة إن كانت قاسية، فعلى أصحابها أن يعالجوها بثلاثة أمور:

أحدها: الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ والتذكير والتخويف والترغيب وأخبار الصالحين، فإن ذلك مما يلين القلوب.

الثاني: ذكر الموت، فيكثر من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات.

(1) الزهد والرقائق، لابن المبارك: ص (88) .

(2)

تذكرة القرطبي: ص 9.

(3)

تذكرة القرطبي: ص 8.

(4)

التذكرة: ص 12.

(5)

التذكرة: ص 12.

ص: 82

الثالث: مشاهدة المحتضرين، فإن النظر إلى الميت ومشاهدة سكراته ونزعاته، وتأمل صورته بعد مماته، مما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمسح الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب (1) .

وذكر عن الحسن البصري أنه دخل على مريض يعوده، فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام يرحمكم الله، فقال: يا أهلاه، عليكم بطعامكم وشرابكم، فوالله رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه (2) .

وقال أبو الدرداء: " من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده "(3) .

(1) تذكرة القرطبي: ص12.

(2)

تذكرة القرطبي: ص 12.

(3)

كتاب الزهد لابن المبارك: انظر آخر الكتاب: زوائد كتاب الزهد، رواية نعيم بن حماد: ص 37.

ص: 83

الرُّوح والنفس

تعريف وَبيَان

لا بدَّ للباحث في أمر الإنسان بعد موته من إعطاء فكرة عن الروح التي تنعم أو تعذب بعد موتها، ما هي؟ وهل لها كيفية تعلم؟ وهل هي جزء من البدن، أم شيء آخر غير البدن؟ فإن كانت غيره فأين مسكنها فيه؟ وهل هي مخلوقة؟ وهل هي واحدة في الإنسان أم متعددة؟ وهل تموت الأرواح، وكيف موتها؟ وأين مستقرها في البرزخ، وهل تعلم الأرواح شيئاً عما يجري في الدنيا من البرزخ؟

يقول ابن تيمية: " والروح المدبرة للبدن التي تفارقه بالموت هي الروح المنفوخة فيه، وهي النفس التي تفارقه بالموت "(1) ، وقد أخطأ الذين فرقوا بين الروح والنفس واعتقدوا أنهما أمران مختلفان، ومن تأمل فيما سقناه في بحثنا من نصوص علم النفس هي التي تقبضها الملائكة، وتصعد بها إلى السماء، وتعود بها إلى الجسد، وتسأل، وتنعم وتعذب، وهي الروح أيضاً التي إذا خرجت من الجسد تبعها البصر كما ثبت في الأحاديث.

(1) رسالة العقل والروح، مجموعة الرسائل المنيرية: 2/36، وانظر شرح العقيدة الطحاوية:445.

ص: 85

وهذا المخلوق الذي تكون به الحياة، وتفقد الحياة بفقده يسمى روحاً ونفساً، ولا يمنع هذا أن تطلق كل من الروح والنفس إطلاقات أخرى، يقول ابن تيمية:" لفظ الروح والنفس يعبر بهما عن عدة معان: فيراد بالروح الهواء الخارج من البدن والهواء الداخل فيه، ويراد بالروح البخار الخارج من تجويف القلب من سويداه الساري في العروق، وهو الذي تسميه الأطباء الروح، ويسمى الروح الحيواني، فهذان المعنيان غير الروح التي تفارق بالموت التي هي النفس، ويراد بنفس الشيء ذاته وعينه، وقد يراد بلفظ النفس الدم الذي يكون في الحيوان، كقول الفقهاء: " ماله نفس سائلة، وما ليس له نفس سائلة " فهذان المعنيان بالنفس ليسا هما معنى الروح "(1) .

وتطلق الروح أيضاً على جبرائيل: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)[الشعراء: 193]، وتطلق على القرآن (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا) [الشورى: 52] .

ويلاحظ شارح الطحاوية أن الروح والنفس وإن أطلقا على تلك اللطيفة الربانية، إلا أن " غالب ما يسمى نفساً إذا كانت الروح متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها "(2) .

ويقول ابن تيمية في هذا: " لكن تسمى نفساً باعتبار تدبيره للبدن، وتسمى روحاً باعتبار لطفه، ولهذا يسمى الريح روحاً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الريح من روح الله " (3) أي من الروح التي خلقها الله "(4) .

(1) المصدر السابق: (2/39) .

(2)

شرح العقيدة الطحاوية: ص (444) .

(3)

رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والحاكم.

(4)

رسالة العقل والروح، مجموع الرسائل المنيرية:(2/37) .

ص: 86

هَل للرُّوح كيفيَّة تعلَم؟

لما كنت الروح مخلوقة من جنس لا نظير له في عالم الموجودات فإننا لا نستطيع أن نعرف صفاتها، فقد عرفنا الله أنها تصعد وتهبط، وتسمع وتبصر وتتكلم إلى غير ذلك، إلا أن هذه الصفات مخالفة لصفات الأجسام المعروفة، فليس صعودها وهبوطها وسمعها وبصرها وقيامها وقعودها من جنس ما نعرفه ونعلمه، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروح يصعد بها إلى السماوات العلى، ثم تعاد إلى القبر، ساعة من الزمن، وقد أخبرنا أنها تنعم أو تعذّب في القبر، ولا شك أن هذا النعيم على نحو مخالف لما نعلمه ونعرفه.

ص: 87

استقلال الرًُّوح عَن البَدن

" يرى فريق من أهل الكلام المبتدع المحدث من الجهمية والمعتزلة أن الروح جزء من أجزاء البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن "(1) .

" والفلاسفة المشاؤون يقرون بأن النفس تبقى إذا فارقت البدن، لكن يصفون النفس بصفات باطلة فيدعون أنها إذا فارقت البدن كانت عقلاً، والعقل عندهم مجرد عن المادة وعلائق المادة، والمادة عندهم هي الجسم، والعقل عندهم قائم بنفسه، لا يوصف بحركة ولا سكون، ولا يتجدد له أحوال البتة "(2) .

وقد تخبط هؤلاء وهؤلاء في مقالاتهم في الروح، فأهل الكلام المبتدع المذموم الذين قالوا: إن الروح هي الحياة أو المزاج أو نفس البدن، أنكر كثير منهم عذاب القبر، فليس هناك روح تنعم أو تعذب بعد الموت في البرزخ. ورفضوا النصوص التي أثبتت ذلك.

والفلاسفة الذين زعموا أن الروح إذا فارقت البدن تصبح عقلاً، قالوا: " إذا فارقت البدن لا يتجدد لها حال من الأحوال لا علوم ولا تصورات، ولا سمع ولا بصر، ولا إرادات، ولا فرح ولا سرور، ولا غير ذلك مما قد يتجدد ويحدث،

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (3/31) ، رسالة العقل والروح لابن تيمية، انظر مجموعة الرسائل المنيرية:(2/21) .

(2)

مجموعة الرسائل المنيرية، رسالة العقل والروح:(2/21) .

ص: 88

بل تبقى عندهم على حال واحدة أزلاً وأبداً، كما يزعمونه في العقل والنفس " (1) .

" وفريق من الفلاسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له، ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عرض "(2) .

والسبب الذي أوقع كلا الفريقين في هذا الخطأ أنهم اعتمدوا على عقولهم وما وضعوه من مقاييس في البحث عن أمر غيبي، فالفريق الأول أنكر وجود روح مستقلة عن البدن، وهذا تكذيب للنصوص المتواترة، وإنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، والفلاسفة المشاؤون ومن سلك سبيلهم أثبتوا وجود الروح مستقلة عن البدن، ولكن لما كانت هذه الروح " ليست من جنس هذا البدن، ولا جنس العناصر والمولدات منها، بل هي جنس آخر مخالف لهذه الأجناس "(3) صعب عليهم تعريفها وتصورها، وضاقت تعبيراتهم ومقاييسهم عن حدها وتصورها.

وقد هدى الله الذين استجابوا لله ورسوله، وآمنوا بما أخبرهم به، فعلموا أن " الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي هذا الجسم اللطيف متشابكاً بهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن

(1) المصدر السابق: (2/22) .

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (3/31) .

(3)

المصدر السابق: (3/32) .

ص: 89

قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح " (1) .

وقد سقنا في تضاعيف بحثنا كثيراً من الأدلة التي تثبت أن الروح شيء مستقل عن البدن، كقوله تعالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)[الزمر: 42]، وقوله:(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)[الأنفال: 50]، وقوله:(وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ)[الأنعام: 93]، وقوله:(كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ - وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ - وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ - وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ - إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)[القيامة: 26-30]، وقوله:(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ)[الواقعة: 83-84] ، فالذي يمسك، وتتوفاه الملائكة، ويبلغ الحلقوم، ويبلغ التراقي، ويساق لا بد أن يكون شيئاً حقيقياً مخالفاً للجسد.

وقد سقنا الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ ملك الموت يقبض الروح، وأنَّ الملائكة تضع تلك الروح في كفن من الجنة أو النار بحسب فلاحها أو فسادها، وأنَّه يذهب بها في رحلة علوية سماوية، حيث تفتح لها أبواب السماء إن كانت صالحة، وتغلق دونها إن كانت طالحة، وأنها تعاد إلى الجسد، وتسأل

(1) هذا تعريف ابن القيم للروح في كتابه: الروح، وقد نقله عنه السفاريني في لوامع الأنوار البهية:(2/29) ، وعزاه إليه، وذكره بنصه شارح الطحاوية من غير عزو، انظر شارح الطحاوية: ص (433)، وقد قال ابن القيم بعد سياقه لهذا التعريف:" وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة "، وذكر مائة وخمسة عشر دليلاً فأجاد وأفاد وزيف كلام ابن سينا وابن حزم وأمثالهما.

ص: 90

وتعذب أو تنعم، وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، وأرواح المؤمنين طير يعلق في شجر الجنة، وأن الروح إذا قبض تبعه البصر، إلى غير ذلك من النصوص الدالة في مجموعها دلالة قاطعة على أن الأرواح شيء آخر غير الأبدان، وأنها تبقى بعد مفارقة البدن.

ص: 91

مَسكن الرُّوح في الجسَد

الروح تسري في بدن الإنسان كله، يقول ابن تيمية:" لا اختصاص للروح بشيء من الجسد، بل هي سارية في الجسد كما تسري الحياة التي هي عرض في جميع الجسد، فإن الحياة مشروطة بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد كان فيه حياة، وإذا فارقته الروح فارقته الحياة "(1) .

(1) رسالة العقل والروح، مجموعة الرسائل المنيرية:(2/47) .

ص: 92

الرُّوح مخلوقَة

ذهب فريق من الفلاسفة إلى أن الروح غير مخلوقة، بل هي قديمة أزلية، ولكنها ليست من ذات الرب، ومقالتهم في الروح هي مقالتهم في العقول والنفوس الملكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة.

وذهب صنف آخر من زنادقة هذه الأمة وضُلالها من المتكلمة والمتصوفة والمحدثة إلى أن الروح من ذات الله، وهؤلاء - كما يقول ابن تيمية - أشرُّ قولاً من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه، ونصف ناسوت، وهو جسده: نصفه رب ونصفه عبد (1) .

والحق الذي لا ينبغي أن يخالف فيه أن الروح مخلوقة مبتدعة، ويدل على ذلك أمور:

1-

الإجماع:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " روح الآدمي مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائل أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غيرُ واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم.

وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في (كتاب اللقط) لما تكلم على خلق

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/222) .

ص: 93

الروح، قال: النسم الأرواح، قال: وأجمع الناس أن الله خالق الجثة وبارئ النسمة، أي: الروح.

وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت رحمك الله عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال: والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشايخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة.

وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتاباً كبيراً في (الروح والنفس) وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئاً كثيراً، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره كما ذكره أحمد في كتابه في " الرد على الزنادقة والجهمية "(1) .

2-

الكتاب والسنة:

الأدلة من الكتاب والسنة الدالة على خلقها كثيرة، مثل قوله تعالى:(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الرعد: 16]، [الزمر: 62] ، يقول شارح الطحاوية عقب استدلاله بهذه الآية:" فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما "(2) ومن ذلك قوله تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)[الإنسان: 1]، وقوله جل وعلا لزكريا: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/216) .

(2)

شرح الطحاوية: ص (442) .

ص: 94

قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) [مريم: 9] ، والإنسان اسم لروح الإنسان وبدنه، وخطاب الله لزكريا لروحه وبدنه.

يقول ابن تيمية: " الإنسان عبارة عن البدن والروح معاً، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح، كما قال أبو الدرداء: إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني، وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس، قال: لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن: أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح: أنت أمرتني، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول: إنما مثلكما كمثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً، فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً، فقال للأعمى: إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى: لكني أستطيع النهوض إليه، ولكني لا أراه، فقال المقعد: تعال فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمرة، قال المَلَكُ: فعلى أيهما العقوبة؟ قالا: عليهما جميعاً، قال: فكذلك أنتما "(1) .

3-

ذكرنا في بحثنا هذا كثيراً من النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرواح تقبض، وتوضع في كفن وحنوط تأتي بهما الملائكة، ويصعد بها، وتنعم وتعذب، وتمسك في النوم، وترسل، وكل هذا شأن المخلوق المحدث.

4-

لو لم تكن مخلوقة مربوبة لما أقرت بالربوبية، وقد قال الله للأرواح حين أخذ الميثاق على العباد، وهم في عالم الذرّ، ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وذلك ما قرره الحق في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى

) [الأعراف: 172] ، وما دام هو ربهم فإنهم مربوبون مخلوقون.

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/222) .

ص: 95

5-

لو لم تكن الأرواح مخلوقة فإن النصارى لا لوم عليهم في عبادتهم عيسى، ولا في قولهم: إنه ابن الله، أو هو الله.

6-

لو كانت الروح غير مخلوقة فإنها لا تدخل النار ولا تعذب، ولا تحجب عن الله، ولا تغيب عن البدن، ولا يملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف، ولم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج، ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ، وأرواح الكفار سود مثل الفحم (1) .

(1) الأدلة الثلاثة الأخيرة استدل بها أبو سعيد الخراز، أحد أكابر المشايخ الأئمة من أقران النجيد فيما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، انظر مجموع فتاوى (4/220) .

ص: 96

شبهات الذين زعموا أنّ الرُّوح غير مخلوقة

الذين قالوا: إن الروح غير مخلوقة احتجوا بمثل قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)[الإسراء: 85]، والجواب عن هذا من وجوه:

الأول: أن الروح هنا ليست روح الآدمي، وإنما هو اسم ملك، كما قال تعالى:(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا)[النبأ: 38]، وقال:(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ)[المعارج: 4]، وقال:(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم)[القدر: 4] وهذا قول معروف مشهور عند علماء السلف في تفسير الآية.

الثاني: وإذا قلنا: إن المراد بالروح هنا روح الآدمي - كما هو قول جمع من علماء السلف في الآية - فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة، وأنها جزء من ذات الله تعالى كما يقال هذه الخرقة من هذا الثواب، بل المراد أنها تنسب إلى الله، لأنها بأمره تكونت، أو لأنها بكلمته كانت، والأمر في القرآن يذكر ويراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى، وهو المأمور به، كقوله تعالى:(أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)[النحل: 1] أي: المأمور به، ويمكن أن يقال أيضاً: إن لفظة (مِنْ) في قوله:

ص: 97

(مِنْ أَمْرِ رَبِّي) لابتداء الغاية، ومعلوم أن (مِنْ) تأتي لبيان الجنس، كقولهم: باب من حديد، وتأتي لابتداء الغاية، كقولهم: خرجت من مكة، فقوله:(مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ليس نصاً في أن الروح بعض الأمر ومن جنسه، بل هي لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله:(وَرُوحٌ مِّنْهُ) حيث قال: (وَرُوحٌ مِّنْهُ) يقول: من أمره كان الروح، كقوله تعالى:(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)[الجاثية: 13]، ونظير هذا أيضاً قوله تعالى:(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)[النحل: 53] .

فإذا كانت المسخرات والنعم من الله، ولم تكن بعض ذاته، بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح (وَرُوحٌ مِّنْهُ) ، أنها بعض ذاته (1) .

الشبهة الثانية: قوله تعالى في آدم: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي)[الحجر: 29]، وقوله في عيسى:(فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا)[الأنبياء: 91]، قالوا: فقد أضاف الله الروح إلى نفسه، وقد أجاب عن هذه الشبهة شارح الطحاوية فقال: " ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله تعالى نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة، والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه.

والثاني: إضافة أعيان منفصلة عنه، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح كقوله:(نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)[الشمس: 13] وقوله: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ

(1) للتوسع في هذا المبحث راجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/226-235) .

ص: 98

عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان: 1] وقوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

) [الحج: 26] فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً، يتميز بها المضاف إلى غيره " (1) .

(1) شرح الطحاوية: ص442، وراجع رسالة الروح، ومجموعة الرسائل المنيرية:(2/38) .

ص: 99

أنواع النفوس

أخبرنا الحق أن النفوس ثلاثة أنواع: النفس الأمارة بالسوء: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ)[يوسف: 53]، والنفس اللوامة:(وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)[القيامة: 2]، والنفس المطمئنة:(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً - فَادْخُلِي فِي عِبَادِي - وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر: 27-30] ، وليس المراد أن لكل إنسان ثلاثة نفوس، وإنما المراد أن هذه صفات وأحوال لذات واحدة، فإذا غلب على النفس هواها بفعلها للذنوب والمعاصي فهي النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة هي التي تذنب وتتوب، سميت لوامة، لأنها تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوم، أي: تترد بين فعل الخير والشر، والنفس المطمئنة هي التي تحب الخير والحسنات وتريدها، وتبغض الشر والسيئات وتكره ذلك، وقد صار ذلك لها خلقاً وعادة وملكة (1) .

وقال شارح الطحاوية بعد أن ذكر أنواع النفوس: " والتحقيق: أنها نفس واحدة، لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها، وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة "(2) .

(1) راجع رسالة العقل والروح لابن تيمية، مجموعة الرسائل المنيرية:(2/41) .

(2)

شرح الطحاوية: ص 445.

ص: 100

هل تموت النفوس

يقول ابن تيمية: " والأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تعدم ولا تفنى، ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان "(1) .

وقد تعرَّض شارح الطحاوية لهذه المسألة، فقال:" واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت،.. وإذا كانت الملائكة تموت، فالنفوس البشرية أولى بالموت، وقال آخرون: لا تموت الأرواح، فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها، والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب،.. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) [الدخان: 56] ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد "(2) .

(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/279) .

(2)

شرح الطحاوية: ص (446) .

ص: 101

مستقر الأرواح في البرزخ

أرواح العباد في البرزخ متفاوتة في منازلها، وقد استقرأنا النصوص الواردة في ذلك فأفادتنا التقسيم التالي:

أولاً: أرواح الأنبياء، وهذه تكون في خير المنازل في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعت السيدة عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر لحظات حياته يقول:" اللهمَّ الرفيق الأعلى "(1) .

الثاني: أرواح الشهداء، وهؤلاء أحياء عند ربهم يرزقون، قال تعالى:(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران: 16] ، وقد سأل مسروق عبد الله بن مسعود عن هذه الآية، فقال:" إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: " أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل " رواه مسلم في صحيحه (2) . وهذه أرواح بعض الشهداء لا كل الشهداء، لأن منهم من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن عبد الله بن جحش: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: " الجنة "، فلما ولّى، قال: " إلا الدين، سارني به جبري آنفاً " (3) .

(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله، فتح الباري:(11/357) .

(2)

مشكاة المصابيح: (2/351) ، وللحديث تتمة.

(3)

قال الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية: ص 445 (صحيح) ، وقد سقنا من قبل أكثر من حديث في هذا المعنى.

ص: 102

الثالث: أرواح المؤمنين الصالحين: تكون طيوراً تعلق في شجر الجنة، ففي الحديث الذي يرويه عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنما نسمة المسلم طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده إلى يوم القيامة " رواه أحمد (1) .

والفرق بين أرواح المؤمنين وأرواح الشهداء، أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح متنقلة في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في العرض، أما أرواح المؤمنين فإنها في أجواف طير يعلق ثمر الجنة ولا ينتقل في أرجائها. وكون أرواح المؤمنين في أجواف طير يعلق شجر الجنة لا يشكل عليه الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الملائكة تقبض روح العبد المؤمن، وترقى به إلى السماء، فتقول الملائكة:" ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه، فإنه كان في غم الدنيا، فيقول: قد مات، أما أتاكم؟ قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية "(2) ، فإن روح المؤمن تلتقي بأرواح المؤمنين في الجنة.

الرابع: أرواح العصاة: سبق أن أوردت النصوص التي تبين ما يلاقيه العصاة من العذاب، فمن ذلك أن الذي يكذب الكذبة تبلغ الآفاق يعذب بكلوب من حديد يدخل في شدقه حتى يبلغ قفاه، والذي نام عن الصلاة المكتوبة يشدخ رأسه بصخرة، والزناة والزواني يعذبون في ثقب مثل التنور، ضيق أعلاه،

(1) أورده الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/730) ، حديث رقم (995)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ورواه ابن ماجة في سننه، ومالك في موطئه، والنسائي بلفظ:(إن أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر، تعلق بشجر الجنة) .

(2)

رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب ما يلقى المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه:(4/8) .

ص: 103

وأسفله واسع، توقد النار من تحته، والمرابي يسبح في بحر من دم، وعلى الشط من يلقمه حجارة (1) . وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة ونحو ذلك.

الخامس: أرواح الكفار: في حديث أبي هريرة عند النسائي بعد وصف حال المؤمن إلى أن يبلغ مستقره في الجنة، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تقبض روحه " تخرج منه كأنتن ريح، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار "(2) .

(1) سبق أن سقنا هذا الحديث بطوله، انظر ص (64-65) ، والحديث رواه البخار في صحيحه.

(2)

رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب ما يلقى المؤمن من الكرامة عند خروج نفسه، (4/8) .

ص: 104

إشكال وجوابُه

قد يقال: سقت من النصوص ما يدل على أن الأرواح تعاد إلى الأبدان، ثم تُسأل، وبعد ذلك ينعم المؤمن، ويعذب الكافر، فكيف تقول بعد ذلك: إن نسم المؤمنين في الجنة، ونسم الكفار في النار؟

حاول ابن حزم أن يضعف الأحاديث التي تذكر إعادة الروح إلى البدن في القبر، ولكن ليس الأمر كذلك، فإن ما ضعفه ابن حزم وهو حديث زاذان عن البراء حديث صحيح، وهناك أحاديث كثيرة صحيحة متواترة تدل على عود الروح إلى البدن كما يقول ابن تيمية (1) .

وفي التوفيق بين النصوص يقول ابن تيمية: " وأرواح المؤمنين في الجنة، وإن كانت مع ذلك قد تعاد إلى البدن، كما أنها قد تكون في البدن، ويعرج بها إلى السماء كما في حال النوم، أما كونها في الجنة ففيه أحاديث عامة، وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء، واحتجوا بالأحاديث المأثورة العامة وأحاديث خاصة في النوم وغيره "(2) .

ثم ذكر بعض هذه الأحاديث التي سقناها من قبل، وأورد حديث أبي هريرة الذي رواه ابن حبان وغيره، والذي يذكر فيه أن المؤمن يرى بعد السؤال مقعده من الجنة، ومقعده من النار لو كان كافراً، قال:" ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وينور له فيه، ويعاد جسده كما بدئ، وتجعل نسمته في نسم طيب، وهي طير تعلق في شجر الجنة "، وفي لفظ:" وهو طير يعلق في شجر الجنة "، وفي لفظ: " ثم يعاد جسده

(1) مجموع الفتاوى: (5/446) .

(2)

المرجع السابق: (5/447) .

ص: 105

إلى ما بدئ منه " (1) فالروح - كما يدل عليه الحديث تعاد إلى الجسد بعد الرحلة إلى السماء، ثم تسأل، ثم تكون طيراً يعلق بشجر الجنة إلى أن يبعث العباد، ومع كونها في الجنة فإنه يبقى لها تعلق بالجسد، كحال الإنسان في النوم، فإنها تجول في ملكوت السماوات والأرض، مع أن لها تعلق بالجسد، وفقه هذا مبني على معرفة أن الروح مخالفة للأجساد وللمعهود من حال المخلوقات الدنيوية، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أن مستقر أرواح المؤمنين الجنة: " ومع ذلك تتصل بالبدن متى شاء الله تعالى، وهي في تلك (2) بمنزلة نزول الملك، وظهور الشعاع في الأرض، وانتباه النائم " (3) .

(1) انظر مجموع الفتاوى: (5/448) .

(2)

في الأصل: وذلك في اللحظة.

(3)

مجموع الفتاوى: (24/365) .

ص: 106

هل العذابُ في البرزخ على الرُّوح

أم على البدن أم على كليهما

الفِرَقُ الإسلامية في هذا الموضوع على أقوال:

الأول: مذهب أهل السنة والجماعة أن الروح منفصلة عن الجسد، ومتصلة به، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما يكون للروح مفردة عن البدن ".

الثاني: قول كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين ينكرون النعيم والعذاب في البرزخ مطلقاً، والسِّر في ذلك أنهم ينكرون وجود روح مستقلة عن الجسد، فالروح عندهم هي الحياة، ولا تبقى الروح في نظرهم بعد الموت (1) ، فلا نعيم ولا عذاب حتى يبعث الله العباد، قال بذلك بعض المعتزلة والأشاعرة كالقاضي أبي بكر، وهذا قول باطل لا شك في بطلانه خالفه أبو المعالي الجويني، وقد نقل غير واحد من أهل السنة الإجماع على أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة.

الثالث: قول الفلاسفة الذين يرون أن النعيم والعذاب على الروح وحدها،

(1) هؤلاء وإن أنكروا عذاب القبر إلا أنهم يثبتون معاد الأبدان.

ص: 107

وأن البدن لا ينعم ولا يعذب (1) ، وقد قال بهذا القول من أهل السنة ابن ميسرة، وابن حزم.

الرابع: قول من قال من علماء الكلام: إن الذي ينعم ويعذب في القبر البدن وحده، وقال بذلك طائفة من أهل الحديث منهم ابن الزاعوني (2) .

(1) وهؤلاء وإن أثبتوا عذاباً ونعيماً بعد فراقها للبدن إلا أنهم ينكرون المعاد.

(2)

راجع في هذه المسألة مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: (4/262-282) .

ص: 108

هل يعلم الإنسان شيئاً عن أحوال الدنيا بعد موته

ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الميت يسمع قرع نعال أصحابه، بعد وضعه في قبره، حال انصرافهم، فعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم.. "(1) ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام من معركة بدر على قتلى بدر من المشركين، فنادى رجالاً منهم، فقال:" يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً " فقال عمر بن الخطاب: " يا رسول الله! كيف يسمعوا أنى يجيبوا وقد جيفوا؟! "(2) قال: " والذي نفسي بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا، ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في قليب بدر "(3) .

وقد ساق ابن تيمية جملة من الأحاديث التي تدل على أن الموتى يسمعون، ثم قال: " فهذه النصوص وأمثالها تُبين أن الميت يسمع في الجملة كلام الحي، ولا

(1) رواه مسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (4/2203) حديث رقم (2874) .

(2)

أي: أنتنوا، وصاروا جيفاً.

(3)

رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، ورواه مسلم في كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (4/2200) رقم (2870) ورواه أبو داود والنسائي أيضاً، انظر جامع الأصول:(11/180) .

ص: 109

يجب أن يكون السمع له دائماً، بل قد يسمع في حال دون حال، كما قد يعرض للحي، فإنه يسمع أحياناً خطاب من يخاطبه، وقد لا يسمع لعارض يعرض له " (1) وقد أجاب شيخ الإسلام على إشكال من يقول: إن الله نفى السماع عن الميت في قوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)[النمل: 80]، وكيف تزعمون أن الموتى يسمعون؟ فقال:" وهذا السمع سمع إدراك، ليس يترتب عليه جزاء، ولا هو السمع المنفي بقوله: (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى) [النمل: 80] ، فإن المراد بذلك سمع القبول والامتثال، فإن الله جعل الكافر كالميت الذي لا يستجيب لمن دعاه، وكالبهائم التي تسمع الصوت، ولا تفقه المعنى، فالميت وإن سمع الكلام وفقه المعنى، فإنه لا يمكنه إجابة الداعي، ولا امتثال ما أمر به، ونهى عنه، فلا ينتفع بالأمر والنهي، وكذلك الكافر لا ينتفع بالأمر والنهي، وإن سمع الخطاب، وفهم المعنى، كما قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ) "[الأنفال: 23](2) .

وقد جاءت النصوص دالة أيضاً على أن الميت مع سماعه يتكلم، فإن منكراً ونكيراً يسألانه، فالمؤمن يوفق للجواب الحق، والكافر والمنافق يضل عن الجواب، ويتكلم أيضاً في غير سؤال منكر ونكير، وكل هذا مخالف لما عهده أهل الدنيا من كلام، فإن الذي يسأل ويتكلم الروح، وهي التي تجيب وتقعد وتعذب وتنعم، وإن كان لها نوع اتصال بالجسد، وقد سبق القول أن بعض الناس قد يسمعون الكلمة من الميت، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسمع من هذا شيئاً كثيراً.

(1) مجموع الفتاوى: (5/364) .

(2)

مجموع الفتاوى: (5/364) .

ص: 110