الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني أشراط الساعة
وقت الساعة
الساعة آتية لا ريب فيها
الإيمان بيوم القيامة أصل من الأصول، لا يتم الإيمان إلا به:(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)[البقرة: 177]، (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 162] .
وقد ساق القرآن ضروباً متنوعة من الأساليب البيانية الراقية كي يؤكد وقوعها في نفوس العباد: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرعد: 2] . ففي بعض المواضع يكون الحديث عنها خبراً مجرداً (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[الروم: 11](وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا)[النور: 64] .
ومرة يؤكد وقوعها (بأن) كقوله: (إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ)[طه: 15] ، ومرة
(بإن) واللام (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)[الحجر: 85] . (فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[العنكبوت: 5] . وفي بعض المواضع ينفي الريب والشك عن وقوعها (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ)[غافر: 59] .
وفي بعض الآيات يقسم الحق على أنها آتية واقعة، مرة بنفسه، ومرة بمخلوقاته العظيمة، فمن إقسامه بنفسه (اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [النساء: 87] ، ومن إقسامه بالعظيم من مخلوقاته قوله:(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا - فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا - فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا - فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا - إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ - وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ)[الذاريات: 1-6]، وقوله:(وَالطُّورِ - وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ - فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ - وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ - وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ - وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ - إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ - مَا لَهُ مِن دَافِعٍ)[الطور: 1-8] .
وفي بعض المواضع يأمر رسوله في مجال الحِجَاج والخصام بالإقسام بربه مؤكداً وقوعها (وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ)[يونس: 53]، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ: 3] وفي بعض الآيات يخبر بأنها حق (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)[لقمان: 33] ومن تتبع طريقة القرآن في تأكيد الإخبار بها تحصل عنده أنواع كثيرة، وقد ذكرنا طائفة منها (1) .
(1) قد يجتمع في الآية أكثر من مؤكد، وإذا تأملت النصوص التي سقناها ظهر لك هذا وتبين.
الساعة قريبة
أعلن رب العزة لعباده في كتابه المنزل منذ أربعة عشر قرناً أن الساعة قد اقتربت، وآن أوان وقوعها (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر: 1] ، وانشقاق القمر إحدى الأمارات الدالة على قرب وقوعها، ولما كانت الساعة قد اقتربت قرباً عظيماً فإن القرآن يصور أنها أتت وحضرت (أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1] .
ولو كان البشر يوقنون بما أنزل الله بقلب مبصر، وعقل حاضر مدرك لَهَاَلهُم الأمر، وملك عليهم نفوسهم، ولذلك كان حالهم عجباً، الخطر قريب قريب، ومع ذلك فإنهم غافلون عن الهول الذي يكاد يطبق عليهم، ويحيط بهم (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ - مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ - لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء: 1-3] ، ولذا فإنه قد كثر في القرآن تحذير العباد من الساعة، والأمر بالاستعداد لها، وعبر عنها بالغد، وهو اليوم التالي لليوم الذي تعيش فيه (وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: 18] .
قد يقال: كيف يكون قريباً ما مضى على الإخبار بقرب وقوعه ألف وأربعمائة عام؟ والجواب أنه قريب في علم الله وتقديره، وإن كانت المقاييس البشرية تراه بعيداً (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا - وَنَرَاهُ قَرِيبًا) [المعارج: 6-7] .
والأمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه أن الباقي من الدنيا قليل بالنسبة لما مضى منها، فإنك إذا وضعت لمن لك عليه دين أجلاً طويلاً، كأن توجله خمسين عاماً مثلاً، فإذا انقضى من الخمسين خمسة وأربعون، فيكون موعد السداد قد اقترب بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب.
والأحاديث النبوية الشريفة تشير إلى هذه الحقيقة التي بيناها هنا، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس " وفي لفظ: " إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ".
إن الحديث يمثل الوجود الإنساني بيوم من أيام الدنيا، ابتدأ وجود الأمة الإسلامية فيه عند العصر، فيكون الماضي من عمر الوجود الإنساني بنسبة ما مضى من ذلك اليوم من الفجر إلى العصر، ويكون الباقي من عمر الزمن حتى تقوم الساعة كما بين العصر والمغرب، ذلك أن النصوص صريحة الدلالة على أننا آخر الأمم وجوداً، وأن نهاية وجود هذه الأمة يتحقق بقيام الساعة.
وجاء في حديث آخر يرويه البخاري ومسلم عن سهل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بأصبعيه فيمدهما "، ورواه مسلم عن سهل بلفظ:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه التي تلي الإبهام والوسطى وهو يقول: " بعثت أنا والساعة هكذا " (1) .
والمعنى أننا لو قدرنا عمر الزمن بالأصبع الوسطى، فإن ما بقي منه عند
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:(بعثت أنا والساعة كهاتين) فتح الباري: (11/347) ، ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب قرب الساعة:(4/2468) ورقمه: (2950) ، وقد رواه البخاري ومسلم أيضاً عن أنس رضي الله عنه.
مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بمقدار ما تزيد الوسطى عن السبابة، وما مضى منه بمقدار السبابة من الأصبع الوسطى، قد يكون الباقي في حِسِّ البشر طويلاً، لأن إدراكهم محدود، ونظرتهم قاصرة، ولكنه في ميزان الله قريب وقصير (أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1] ، (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَاّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل: 77] .
وروى الإمام أحمد عن عتبة بن غزوان قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: " أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم
…
" انفرد به مسلم (1) .
(1) تفسير ابن كثير: (6/468) .
لا يعلم أحد وقت الساعة المعيّن
سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " وكان السائل جبريل متمثلاً في صورة بشر، فإذا كان أعلى الملائكة منزلة، وهو جبريل، وأعلى البشر منزلة وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يعلمان متى تكون - فحَريّ بأن لا يعرف أحد غيرهما وقت وقوعها.
وقد صرح القرآن أن وقت وقوعها من خصائص علم الله، ولذا فإنه لم يطلع أحداً على وقت وقوعها، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 187] ، وقال في الآية الأخرى:(يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)[الأحزاب: 63]، (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا - فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا - إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا) [النازعات: 42-44] .
وهذه الآيات واضحة الدلالة على أن معرفة الوقت الذي تكون فيه الساعة لا يعرفه إلا رب العزة، وأنها تأتي بغتة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري متى هي.
والساعة إحدى مفاتح الغيب الخمسة التي هي من مكنونات علم
الله (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 34] .
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) "[لقمان: 34](1) .
(1) جامع العلوم والحكم لابن رجب: (37) .
الحكمة من وراء إخفاء وقت وقوعها
قد يتساءل البشر قائلين: ما الحكمة من وراء إخفاء الوقت الذي تحل فيه الساعة، وتقوم فيه القيامة؟ والجواب أن إخفاءها له تعلق بصلاح النفس الإنسانية، فوقوعها غيب، والأمر العظيم الذي يستيقن المرء وقوعه، ولكنه لا يدري متى يفجؤه، ويحل فيه بساحه - يجعل المرء مترقباً له باستمرار.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: " والمجهول عنصر أساسي في حياة البشر، وفي تكوينهم النفسي، فلا بدَّ من مجهول في حياتهم يتطلعون إليه، ولو كان كل شيء مكشوفاً لهم، وهم بهذه الفطرة - لوقف نشاطهم - وأسنت حياتهم، فوراء المجهول يجرون، فيحذرون، ويأملون، ويجربون، ويتعلمون. ويكشفون المخبوء من طاقاتهم وطاقات الكون من حولهم وتعليق قلوبهم ومشاعرهم بالساعة المجهولة الموعد يحفظهم من الشرود، فهم لا يدرون متى تأتي الساعة، فهم من موعدها على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، ذلك لمن صحت فطرته واستقام، فأما من فسدت فطرته واتبع هواه ويجهل، فيسقط ومصيره إلى الردى "(1) .
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن، جمع وإعداد أحمد فائز: ص 98.
لا يجوز الاشتغال في تحديد وقتها
تساءل الناس عن وقت الساعة كثيراً، ووجهوا أسئلتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء الجواب من منزل الكتاب، إن الساعة غيب، ومعرفة الزمن الذي تقع فيه من خصائص علم الله، (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا) [الأحزاب: 63] (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا - فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا - إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا - إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا)[النازعات: 42-45] .
إن هذا العلم لم يطلع الله عليه ملكاً مقربا ً، ولا نبياً مرسلاً، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل حينما سأله عن الساعة " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ".
فالبحث في هذا الأمر، والزعم أن الساعة ستقع في عام بعينه تَقَوُّل على الله بغير علم، والخائضون في ذلك مخالفون للمنهج القرآني النبوي الذي وجه الناس إلى ترك البحث في هذا الموضوع، ودعاهم إلى الاستعداد لهذا اليوم بالإيمان والعمل الصالح.
والذين يبحثون في هذا المجال يظنون أنه يمكنهم أن يعلموا ما لم يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، وكفى بذلك واعظاً ورادعاً لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، ونحن نقول لهم: ينبغي أن يسعكم ما وسع الرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأئمة هذه الأمة على مدار التاريخ.
ولو كان في معرفة الوقت صلاح وخير للبشر، لأخبر الله به البشر، ولكنه حجب ذلك عنهم، وفي ذلك صلاحهم.
وينبغي للاحقين أن يتعظوا بحال السابقين، فبعض السابقين خاض في هذا الأمر، وحدد للساعة أو بعض أشراطها القريبة من وقوعها أجلاً، وجاء الأجل الذي ضربه، ولم يحدث شيء من ذلك، لا الساعة ولا أشراطها المحددة، فمن هؤلاء الطبري رحمه الله وغفر له، فإنه استظهر من بعض النصوص أن فناء الدنيا يكون بعد خمسمائة عام من البعثة المحمدية (1) ، وها هو قد مرّ أكثر من تسعمائة عام على الأجل الذي ضربه، ولم يصدق ظنه.
ومن هؤلاء العلامة السيوطي عفا الله عنه، فإنه استظهر في جزء سماه " الكشف " أن الساعة ستقوم على رأس المائة الخامسة بعد الألف من البعثة النبوية (2) ، وعلى ذلك فإنه بقي على قيام الساعة بضع عشرات من السنين، مع أن كثيراً من الآيات الصغرى لم يقع بعد، أما الكبرى فلم يقع منها شيء.
وجمع السهيلي الحروف المقطعة في أوائل السور، وحذف المكرر منها، وأخذ عددها بحسب الجمل، وحدد بناء على ذلك أجلاً لا يبلغ بضع مئات من السنين (3) .
وقد تَقَوَّل كثير من الناس في هذا وخبطوا خبطاً لا دليل عليه، وإنما هي ظنون وتخرصات، وأخر ما اطلعت عليه في ذلك ما كتبه دكتور بهائي مدعياً أن
(1) المقدمة لابن خلدون: ص 590
(2)
لوامع الأنوار البهية: (2/66) .
(3)
المقدمة لابن خلدون: ص 591.
الساعة ستقع في عام (1710) ، وقد زعم أنه استقى ذلك من الأرقام العددية للحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض سور القرآن، ونحن نقول: إن هذا النهج قد ثبت خطؤه، وقد اعتمد بعض من سبق على هذا النهج، وحددوا أجلاً غير أجله، فوافقوه في النهج، وخالفوه في تحديد الأجل، وثبت كذب ما ذهبوا إليه.
وقد تعرض الشيخ العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأجزل له المثوبة للذين بحثوا في هذا الأمر وخاضوا فيه، وحددوا في ذلك أجلاً، فقال:" ومن تكلم في وقتها المعين مثل الذي صنف كتاباً " سماه " " الدر المنظم في معرفة الأعظم " وذكر فيه عشر دلالات بين فيها وقتها، والذين تكلموا على ذلك من حروف المعجم، والذي تكلم في " عنقاء مُغْرب " (1) ، وأمثال هؤلاء، فإنهم وإن كان لهم صورة عظيمة عند اتباعهم، فغالبهم كاذبون مفترون (2) ، وقد تبين لديهم من وجوه كثيرة أنهم يتكلمون بغير علم، وإن ادعوا في ذلك الكشف ومعرفة الأسرار، وقد قال تعالى:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[الأعراف: 33](3) . ولا شك أن دعوى معرفة وقتها المحدد قول بلا علم.
(1) هو ابن عربي القائل بوحدة الوجود.
(2)
قال الشيخ: (غالبهم) لأن بعض الذي بحثوا في ذلك أخطؤوا، ولم يقصدوا التضليل، أمثال الطبري والسيوطي رحمهما الله.
(3)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (4/342) .
إشكالات تتعلق بتحديد وقت الساعة
بينا فيما سبق أن وقت القيامة غيب لا يعلمه إلا الله، ولكن يشكل على هذا أحاديث ظن بعض الناس أنها تحدد موعدها، وهذه الأحاديث بعضها غير صحيح فلا يلتفت إليها، ولا يجوز أن تعارض بها النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة، ومنها أحاديث صحيحة، ولكن دلالتها على تحديد يوم القيامة غير صريحة.
فمن الأحاديث الباطلة المكذوبة المخالفة لصريح القرآن - كما يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى - حديث مقدار الدنيا " وأنها سبعة آلاف سنة، ونحن في الألف السابعة ".
يقول ابن القيم: " وهذا من أبين الكذب، لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي من وقتنا هذا مئتان وواحد وخمسون سنة " أي في الوقت الذي كان يكتب فيه الشيخ ابن القيم مؤلفه " والله تعالى يقول: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ)[الأعراف: 187](1) .
(1) المنار المنيف، لابن القيم: ص 80.
أقول: ومما يدل على كذب هذا الحديث قطعاً أن الألف السابعة هذه مضت وانقضت منذ أربعمائة سنة، وكثير من أشراط الساعة لم يقع بعد.
ومن الأحاديث الصحيحة التي لا تدل على تحديد يوم القيامة ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قبل أن يموت بشهر: " تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ " (1) .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة العشاء في آخر حياته، فلما سلَّم قال:" أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد "(2) .
إن التأمل في هذين الحديثين يدل دلالة واضحة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد في أقواله هذه قيام الساعة، وإنما أراد انقضاء القرن الذي هو فيه، أي أنه بعد مائة عام يموت كل من كان حياً عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال، وقد فقه هذا المعنى ابن عمر رضي الله عنه، وفقَّه الناس به عندما ذهبوا مذاهب شتى في فهم معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي سنن الترمذي وسنن أبي داود بعد سياق عبد الله بن عمر لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم السابق، قال:" فوهل الناس (3) في مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم تلك، فيما يتحدثونه بهذه الأحاديث: نحو مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، يريد بذلك: أن ينخرم القرن " (4) .
وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عائشة، قالت: " كان الأعراب
(1) جامع الأصول: (10/387)، ورقم الحديث:(7890) ومعنى: نفس منفوسة: أي مولودة.
(2)
جامع الأصول: (10/388)، ورقم الحديث:(7891) .
(3)
الوهل: الفزع. أو ذهاب الفكر مذاهب بعيدة عن المراد.
(4)
صحيح الجامع: (10/388)، ورقم الحديث:(7891) .
إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألوه عن الساعة، متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم، فيقول: إن يعش هذا، إن يدركه الهرم، حتى قامت عليكم الساعة " قال هشام: يعني موتهم (1) .
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه، " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أَزْد شَنُوءَة، فقال: إن عُمِّر هذا الغلام، لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة، قال أنس: وذلك الغلام من أترابي يومئذ " (2) . ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين ساعة المخاطبين، كما فسر ذلك هشام أحد رواة الحديث الأول: يعني موتهم، فإن ساعة كل إنسان موته، وهذا الجواب من الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف بجواب الحكيم، فإنه أرشدهم إلى الاستعداد للموت والتأهب له، والموت قريب قريب.
(1) جامع الأصول: (10/389)، ورقمه:(7892) .
(2)
جامع الأصول: (10/ 389)، ورقمه:(7893) .
تعريف الأشراط والآيات
إذا كان الله قد أخفى وقت وقوع الساعة عن عباده، فإنه أعلمهم بأمارات وعلامات تدل على قرب وقوعها.
وقد سمى القرآن هذه الأمارات بأشراط الساعة، قال تعالى:(فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا)[محمد: 18] .
و (الشَرَط) بفتحتين: العلامة، وأشراطها: علاماتها (1) . وفي فتح الباري: " المراد بالأشراط: العلامات التي يعقبها قيام الساعة "(2) .
وقد أطلق بعض العلماء على هذه الأشراط اسم: " الآيات ".
و" الآيات "هي الأمارات الدالة على الشيء، كالأمارات التي تنصب في الصحراء دالة على الطريق، أو العلامات التي ترفع على شواطئ البحر، تهدي السفن التي تمخص عباب الماء، أو تلك التي توضع قريباً من المدن لتدل المسافر على قرب وصوله إلى الديار التي وضعت بقربها.
يقول الطيبي: " الآيات: إمارات للساعة، إما على قربها، وإما على حصولها. فمن الأول: الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف. ومن الثاني: الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس "(3) .
(1) مختار الصحاح: 324.
(2)
فتح الباري: (13/79) .
(3)
فتح الباري: (11/352) .
فائدة البحث في الأشراط والمغيبات المستقبلة
قد يقول قائل: لقد أتعبتم أنفسكم في النظر في أمور فائدتها قليلة، والأولى بكم أن تهتموا بأمور المسلمين ومشكلاتهم، بدلاً من قضاء الأوقات الطوال في البحث عما يجري في مقبل الأزمان من الوقائع والحادثات. وقالوا: إنكم تهربون من الواقع الذي تعيشون فيه إلى عالم آخر تأملون أن تعيشوا فيه، أو تخشوا أن يأتي عليكم، وهذا هروب من مواجهة الحقائق والصعاب.
ونحن نقول لهم: ليس لنا خيار في دراسة الغيوب المستقبلة أو إهمالها، فالأمر ليس لنا، فالاطلاع على هذه الغيوب والتصديق بها من صميم الدين الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، أخبر ببعض منها القرآن، وبعضها جاءت به السنة النبوية، وعِلِم ذلك كله الصحابة، وشغلوا به أنفسهم، واهتموا به اهتماماً كبيراً، وكان الإيمان بالغيب أول صفة مدح الله بها المتقين المهتدين الفائزين (الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [البقرة: 1-3] صحيح أن كثيراً من المسلمين شغلوا أنفسهم بالأخبار الغيبية التي لم يقم عليها دليل من الكتاب والسنة، وأغرق في ذلك بعض الذين نسبوا إلى العلم، ولكن الاشتغال بالنصوص الصحيحة هو جزء من هذا الدين الذي أنزله العليم الخبير.
ويمكننا أن نلوم الذين قعد بهم العمل من المسلمين انتظاراً لحدوث الواقعات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم كالذين يتركون الجهاد انتظاراً لخروج المهدي، ولكن هذا
خطأ يحتاج إلى تقويم، ولا يوجب ترك النصوص الصحيحة، فإن سلفنا الصالح مع إيمانهم بالغيب الصادق، لم يقعدوا عن الجهاد، ولم يتركوا العمل.
ويمكن أن يوجه لوم شديد للذين ينزلون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الغيوب على غير وقائعها، فيحملون النصوص ما لا تحتمل، ويدعون دعاوي يضلون بها العباد، كالذين ادعوا المهدية على مدار التاريخ، إلا أن هذا خطأ هؤلاء، والخطأ يقوَّم، ولا يدفعنا هذا الخطأ إلى إنكار ما صحت به النصوص، فالحق حق، والباطل باطل، ولا ندفع الباطل بإنكار الحق.
والذين ينكرون علينا اشتغالنا بهذه النصوص الصحيحة في هذا الجانب نُوجِّه أنظارهم إلى الجهود الهائلة التي يبذلها العلماء المعاصرون للكشف عن الغيب المجهول في الماضي البعيد، والغيب المجهول في الحادثات المقبلة، والغيب المجهول في الفضاء الذي يحيط بنا، ولذلك نراهم يبحثون في آثار الماضين، وما أبقوه من كتابات وصنائع وخرائب، ونراهم يهتمون بما يقوله المتنبئون والكهان والعرافون، وما يقوله هؤلاء كذب لا تكاد تجد فيه للحقيقة مكان، ونراهم يصنعون المناظر المكبرة، والمراصد الهائلة، بل ويرسلون الأقمار الصناعية لريادة الفضاء، كي يعلموا ما لا يعلمون، فإذا كان هذا هو حال البشر، يرغبون دائماً في التعرف على ما لا يعرفون، ومعرفة الماضي والآتي، ومعرفة الكون من حولهم، أفلا يكون الإطلاع على حقائق الأمور من الجهة التي لا تكذب أبداً أولى وأحرى!! إن المعلومات التي جاءت بها النصوص في هذا المجال معلومات قيمة لا تقدر بثمن، ولكن البشرية تكابر كثيراً عندما ترفض الأخذ بخبر الوحي الصادق، وتخسر كثيراً عندما تعرض عن هذه العلوم الطيبة، ثم إن أقواماً يريدوننا أن نبتعد عن دارسة هذا المجال من خلال نصوص الوحي، بينما - هم - يلهثون وراء الأخبار التي يأتيهم بها علماء الغرب في هذا المجال، وإن كان فيها خلط كثير، وكذب كثير.
ويمكننا أن نوجز الفوائد التي نحصل عليها من وراء دراسة الأخبار التي تحدث بأشراط الساعة والمغيبات المستقبلة في الأمور التالية:
1-
الإيمان بهذه الأخبار - إذا تحققنا صدقها - هو من الإيمان بالله، والإيمان برسوله، إذ كيف نؤمن بالله ورسوله ثم لا نصدق بخبرهما!! (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة: 2-3] .
2-
وقوع تلك المغيبات على النحو الذي حدثت به الأخبار يثبت الإيمان ويقويه، فالمسلمون في كل عصر يشاهدون وقوع أحداث مطابقة لما أخبرت به النصوص الصادقة، فقد شاهد الصحابة انتصار الروم على الفرس، ثم انتصر المسلمون على الفرس والروم، وظهر الإسلام على جميع الأديان، وشاهدوا فرقة الأمة في العام الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا كثيراً من الأحداث على النحو الذي أخبرت به النصوص، وكذلك الحال في كل عصر، يشاهد المسلمون وقائع وأحداثاً جاءت بها الأخبار، ولا شك أن هذا له أثر كبير في تثبيت المؤمن على إيمانه، وقد يكون ذلك مدخلاً لدعوة الآخرين إلى هذا الحق الذي جاءنا من ربنا.
3-
تثبيت الإيمان بيوم القيامة، فالقيامة وأهوالها من الغيب الذي أخبرنا به الله ورسوله، والإيمان به إحدى دعائم الإيمان، ووقوع الوقائع في الدنيا على النحو الذي جاءت به النصوص دليل واضح بَيِّن على صدق كل الأخبار ومنها أخبار الساعة. فالكل من عند الله تبارك وتعالى.
4-
بعث الله رسوله دالاً على الخير محذراً من الشر، وقد دل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على المنهج الأمثل الذي ينبغي أن يسلكوه في الوقائع التي وقعت في عصره.
وفي إخباره بالمغيبات المقبلة توجيه للذين جاؤوا من بعده من أمته كيف يتصرفون حيال الأحداث التي قد يخفى عليهم وجه الحق فيها، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يَنْتَضِل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة، فَيُرقِّق بعضها بعضاً، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه، هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء الآخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر " رواه مسلم والسياق له والنسائي وابن ماجة وأحمد (1) .
ومن هذه التوجيهات التي كان لها أثر كبير في توجيه المسلمين إلى الحق تبشيره عثمان رضي الله عنه بالجنة على بلوى تصيبه، وإخباره بأن عماراً تقتله الفئة الباغية، وأمره أبا ذر بأن يعتزل الفتنة، وأن لا يقاتل ولو قتل. ويمكن أن يستفاد هذا المعنى من حديث حذيفة حيث كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يدركه، بينما أصحابه كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، ومن هذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن أخذ شيء من جبل الذهب الذي ينحسر عنه الفرات في آخر الزمان، وإخباره عن حقيقة الدجال، وبيان ما يأتي به
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث رقم (241) .
من الشبهات، وغير ذلك من الكائنات التي يبصر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بالتصرف الأمثل حيالها.
5-
قد تمر بالمسلمين وقائع في مقبل الأيام تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، ولو ترك المسلمون إلى اجتهادهم - فإنهم يقد يختلفون، وقد لا يهتدون إلى الصواب، بل قد يكون بيان الحكم الشرعي في تلك الأحداث واجب لا بدَّ منه، وعدم البيان يكون نقصاً تنزه الشريعة عنه. فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدجال يمكن في الأرض أربعين يوماً، يوم من أيامه كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وبقية أيامه كأيامنا، وقد سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن تلك الأيام الطويلة أتكفي في الواحد منها صلاة يوم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا، اقدروا له قدره، ولو وكل العباد إلى اجتهادهم لاقتصروا على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غير هذه الأيام. وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عيسى بعد نزوله لا يقبل الجزية من اليهود والنصارى، ولا يقبل منهم إلا الإيمان، وهذا البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم ضروري، لأن عيسى يحكم بهذا الشرع، وهذا الشرع فيه قبول الجزية ممن بذلها إلى حين نزول عيسى ابن مريم وحين ذاك توضع الجزية، ويقتل كل من رفض الإيمان، ولو بذل الجزية.
6-
التطلع إلى ما يحدث في المستقبل أمر فطري فالإنسان يجد في نفسه رغبة شديدة إلى معرفة الوقائع والكائنات التي قد تحدث للجنس الإنساني، أو تحدث للأمة التي هو منها، أو قد تحدث له، ولذلك فإن الزعماء والرؤساء، بل والأفراد يلجؤون في معرفة ذلك إلى السحرة والكهان والمنجمين، فجاءهم الله بالحق الذي يغني ويكفي ويشفي في هذا الجانب.
وقد تعرض ابن خلدون لهذه الفائدة في مقدمة تاريخه، فقال:
" اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوُّف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموتٍ وخيرٍ وشر، سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها، والتطلع إلى هذا طبيعة للبشر مجبولون عليها. ولذلك نجد الكثير من الناس يتشوفون إلى الوقوف على ذلك في المنام.
والأخبار من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسوقة معروفة، ولقد نجد في المدن صنفاً من الناس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص الناس عليه، فينتصبون لهم في الطرقات والدكاكين يتعرضون لمن يسألهم عنه، فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها، وكثير من ضعفاء العقول، يستكشفون عواقب أمورهم، في الكسب والجاه والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك، ما بين خط في الرمل ويسمونه المنجم، وطرق بالحصى والحبوب ويسمونه الحاسب، ونظر في المرايا والمياه ويسمونه ضارب المندل، وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار، لما تقرر في الشريعة من ذلك، وأن البشر محجوبون عن الغيب إلا من أطلعه الله عليه من عنده في نومٍ أو ولاية.
وأكثر ما يعتني بذلك ويتطلع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم، ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه. وكل أمةٍ من الأمم يوجد لهم كلامٌ من كاهن أو منجم أو ولي في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدثون أنفسهم بها، وما يحدث لهم من الحرب والملاحم، ومدة بقاء الدولة، وعدد الملوك فيها، والتعرض لأسمائهم، ويسمى مثل ذلك الحدثان.
وكان في العرب الكهان والعرافون يرجعون إليهم في ذلك، وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدولة، كما وقع لشق، وسطيح في تأويل رؤيا ربيعة ابن نصر من ملوك اليمن، أخبرهم بِمُلْكِ الحبشة بلادهم، ثم رجوعها إليهم، ثم ظهور الملك والدولة للعرب من بعد ذلك.
وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حين
بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح، وأخبرهم بظهور دولة العرب. وكذا كان في جيل البربر كهان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يِفْرَنْ، ويقال من غمرة، وله كلمات حدثانية على طريقة الشعر برطانتهم، وفيها حدثان كثير، ومعظمه فيما يكون لزناتة من الملك والدولة بالمغرب، وهي متداولة بين أهل الجبل، وهم يزعمون تارة أنه ولي، وتارة أنه كاهن، وقد يزعم بعض مزاعمهم أنه كان نبياً، لأن تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير. والله أعلم " (1) .
(1) المقدمة لابن خلدون: ص 587-588.
أقسام علامات الساعة
وردت أحاديث كثيرة عدد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم جملة من أشراط الساعة، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يُهِمَّ رَبَّ المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 158] (1) .
وفي صحيح البخاري عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة أدم، فقال: اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتى، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقُعاص الغنم (2) ، ثم
(1) رواه البخاري في كتاب الفتن، حديث رقم (7121)، فتح الباري:(13/81) ، وقد رواه مسلم في صحيحه مفرقاً، وقد جمع رواياته ابن الأثير في جامع الأصول:(10/404) ، ورقم الحديث (7920) .! .
(2)
الموتان بضم الميم: موت يقع في الماشية فيهلكها، و (القُعاص) داء يأخذ الغنم، لا يلبثها أن تموت.
استفاضة المال، حتى يعطَى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية (1) ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً " (2) .
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أشراط الساعة الفُحش، والتَّقَحُش، وقطعية الرحم، وتخوين الأمين، وائتمان الخائن " رواه البزار، ورواه الطبراني في الأوسط عن أنس، ورواه أحمد والبزار عن ابن عمرو (3) . وعن عبد الله بن مسعود. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أشراط الساعة أن يمر الرجل في المسجد، لا يصلي فيه ركعتين، وأن لا يسلم الرجل إلا على من يعرف "(4) رواه الطبراني.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد " رواه أبو داود، وأحمد في مسنده، والدارمي، وابن خزيمة (5) .
وهذه الأشراط التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث وفي أحاديث أخرى كثيرة قسمها أهل العلم إلى قسمين:
(1) الغاية: الراية.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، انظر جامع الأصول:(10/411)، رقم الحديث:(7927) .
(3)
صحيح الجامع الصغير: (5/213) .
(4)
المصدر السابق.
(5)
المصدر السابق.
علامات صغرى، وعلامات كبرى.
والعلامات الصغرى يمكن تقسيمها إلى قسمين: قسم وقع، وقسم لم يقع بعد. والذي وقع قد يكون مضى وانقضى، وقد يكون ظهوره ليس مرة واحدة، بل يبدو شيئاً فشيئاً، وقد يتكرر وقوعه وحصوله، وقد يقع منه في المستقبل أكثر مما وقع في الماضي.
ولذلك سنعقد لعلامات الساعة أربعة فصول:
الأول: العلامات الصغرى التي وقعت وانقضت.
الثاني: العلامات الصغرى التي وقعت، ولا تزال مستمرة، وقد يتكرر وقوعها.
الثالث: العلامات الصغرى التي لم تقع بعد.
الرابع: العلامات الكبرى.
علامات الساعة التي وقعت
ونعني بها العلامات التي وقعت وانقضت ولن يتكرر وقوعها، وهي كثيرة وسنذكر بعضاً منها.
المبحث الأول
بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاته
من أشراط الساعة بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاته، ففي الحديث عند البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بإصبعيه هكذا، الوسطى والتي تلي الإبهام. وقال: بعثت أنا والساعة كهاتين ".
وفي رواية قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين، ويشير بإِصبعيه، يمدهما "(1) . وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين، كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السبابة والوسطى "(2) .
(1) جامع الأصول: (10/384) .
(2)
جامع الأصول: (10/384) .
وفي كتب السيرة أن اليهود كانوا يحدثون عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يبعث مع الساعة.
وقد مضى قريباً حديث عوف بن مالك عند البخاري الذي قال له الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: " اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي
…
".
وقد روى الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أبي جبيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت في نسم الساعة "(1) .
" ونسم الساعة " كما يقول ابن الأثير: هو من النسيم أول هبوب الريح الضعيفة، أي: بعثت في أول أشراط الساعة وضعف مجيئها.
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/467)، ورقم الحديث:808.
انشقاق القمر
اتفق العلماء على أن القمر قد انشق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن انشقاقه إحدى المعجزات الباهرات (1)، وقد صرح القرآن بهذا في قوله تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ - وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)[القمر: 1-2] .
قال النووي: " قال القاضي: انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد رواها عدة من الصحابة رضي الله عنهم، مع ظاهر الآية الكريمة وسياقها، قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين لمخالفي الملة، وذلك لما أعمى الله قلبه، ولا إنكار للعقل فيها، لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء كما يفنيه ويكورّه في آخر أمره.. "(2) .
وقد ساق ابن كثير الأحاديث الواردة في انشاق القمر في تفسير سورة القمر، وهي أحاديث صحيحة كثيرة (3) ، وقد ساقها مسلم في صحيحه، ومنها حديث أنس أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر
(1) تفسير ابن كثير: (6/469) .
(2)
شرح النووي على مسلم: (17/143) .
(3)
تفسير ابن كثير: (6/469) .
مرتين (1)، ومنها حديث عبد الله بن مسعود قال:" انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشهدوا، اشهدوا " وفي رواية أخرى عنه، قال: " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا " (2) .
(1) رواه مسلم في صحيحه، باب انشاق القمر، (4/2159) ، حديث رقم (2802) .
(2)
رواه مسلم، باب انشاق القمر، (4/2158) ، ورقم الحديث (2800) . وقد حط علماء الفضاء في هذا العصر رحالهم على القمر، فوجدوا أثر انشقاق القمر باقياً إلى اليوم، وقد نقل عالم الجيولوجيا المسلم د. زغلول النجار عن داود موسى بيتكوك رئيس الحزب الإسلامي البريطاني أنه شاهد ندوة تلفزيونية بين معلق بريطاني وثلاثة علماء فضاء أمريكيين أنهم شاهدوا أثر انشقاق القمر من سطحه إلى جوفه إلى سطحه الآخر، أخبروا بذلك، وهم لا يعلمون أن الله تحدث بهذه الآية في قرآننا، وقد كانت هذه الآية سبباً في إيمان ناقل الخبر داود وموسى (نقلاً عن مجلة العالمية الكويتية. العدد 156) .
نار الحجاز التي أضاءت أعناق الإبل ببصرى
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة، حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى "(1) .
وهذه الآية العظيمة التي أخبر الصادق المصدوق بوقوعها في مقبل الزمان وقعت على الصورة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان خروجها في سنة (654) للهجرة النبوية.
وقد تحدث العلامة المؤرخ ابن كثير في أحداث سنة (654) عن هذه النار فقال:
فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه ((الذيل وشرحه)) ، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار
(1) الحديث رواه البخاري، كتاب الفتن، باب خروج النار، فتح الباري:(13/78) ، ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى تخرج النار من أرض الحجاز، حديث رقم (2902)(4/2227)، وبصرى كما يقول النووي في شرحه على مسلم:(18/30) : " مدينة معروفة بالشام، وهي مدينة حوران، بينها وبين دمشق ثلاث مراحل ". وقد ذكر المؤرخون أن الأمر وقع كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أضاءت أعناق الإبل ببصرى، وكان طلبة العلم يقرؤون على ضوئها في كثير من البلاد النائية عن المدينة.
التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها.
وملخص ما أورده أبو شامة (1) أنه قال: وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب، والنار بحالها، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال:
" بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها شرح أمر عظيم حدث بها تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى " فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب. قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكأن في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل ".
قال أبو شامة: وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها:
" لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم، ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكورة، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات، وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد سدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً، وقد سدت الحرة
(1) كان أبو شامة معاصراً لخروجها.
طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة، فوقفت بعدما أشفقنا أن تجيء إلينا، ورجعت تسيل في الشرق، فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة، فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ - كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ) [المرسلات: 32- 33] .
وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج. وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار ".
قال أبو شامة: " وفي كتاب آخر: ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، ووقع في شرق المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم: انفجرت من الأرض، وسال منها وادٍ من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل، ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة والسلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة ".
قال: " وفي كتاب آخر: لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل، فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست
الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي برأي العين من المدينة، نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى، وهي بموضع يقال له أجيلين. وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال، وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض، ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض وهو صخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك. فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها ".
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: " ومن كتاب شمس الدين بن سنان ابن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها، وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتاً للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف، ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلا ليلة السبت، وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير كلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه، ورد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت: اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان وأولادهم، وما بقي أحد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سال منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسد الطريق، ثم طلع إلى بحرة الحاج، وهو بحر نار يجري، وفوقه جمر يسير إلى أن
قطعت الوادي وادي الشظا، وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حصرته نحو قامتين وثلث علوها.
والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج، وجاء في الوادي إلينا منهم يسير، وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة، وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفئ بقدرة الله، وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة، ولها دوي، ما يدعنا نرقد، ولا نأكل، ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الأهوال.
وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها، وما أصبح يقدر يصفها من عظمها، وكتب الكتاب يوم خامس رجب، وهي على حالها، والناس منها خائفون، والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين، فنسأل الله العافية ".
قال أبو شامة: وبان عندنا بدمش أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان، وكنا حيارى من ذلك إيش هو؟ إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار.
قلت: وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار، فقال: وفيها من ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل، وكان شديد الحمرة ثم انجلى، وكسفت الشمس، وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها، وبقيت كذلك أياماً متغيرة اللون ضعيفة النور، والله على كل شيء قدير، ثم قال: واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد، واستبعده أهل النجامة.
ثم قال أبو شامة: " ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه: وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم، حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون داراً، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير، وأشرف الناس على الهلاك، وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة، وتخترق أزقة بغداد.
قال: وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم: لما كان بتاريخ ليلة الأربعاء الثالث من جمادى الآخرة ومن قبلها بيومين، عاد الناس يسمعون صوتاً مثل صوت الرعد، فانزعج لها الناس كلهم، وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى، وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه، وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح، وذلك اليوم كله يوم الأربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة، وصبح يوم الجمعة ارتجت الأرض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض، وسمع لسقف المسجد صرير عظيم، وأشفق الناس من ذنوبهم، وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر.
ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لها الناس روعة عظيمة، ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة، وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة، واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة، وكشفوا رؤوسهم، وأقروا بذنوبهم، وابتهلوا إلى الله تعالى، واستجاروا بنبيه عليه الصلاة والسلام، وأتى
الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل، وخرج النساء من البيوت والصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حمرة الناس السماء كلها، حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر، وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد، وداع إلى الله عز وجل، ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها.
وصعد الفقيه والقاضي إلى الأمير يعظونه، فطرح المكس وأعتق مماليكه كلهم وعبيده، ورد علينا كل مالنا تحت يده، وعلى غيرنا، وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهاباً، وهي كالجبل العظيم ارتفاعاً، وكالمدينة عرضاً، يخرج منها حصى يصعد في السماء، ويهوي فيها، ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد. وبقيت كذلك أياماً ثم سالت سيلاناً إلى وادي أجيلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا، حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج، والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض، ثم سكنت ووقفت أياماً، ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها، حتى بنت لها جبلين، وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياماً، ثم إنها عظمت وسناءها إلى الآن، وهي تتقد كأعظم ما يكون، ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة، ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال، وإنما هذا طرف يكفي، والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الآن. وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر ".
وقد قال فيها بعضهم أبياتاًَ:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ××× لقد أحاطت بنا يا ربُّ بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطيقُ لها ××× حملاً ونحن بها حقاً أحقاء
زلازل تخشعُ الصُّم الصلابُ لها ××× وكيف يقوى على الزلزالِ شماءُ
أقامَ سبعاً يرج الأرض فانصدعت ××× عن منظرٍ منه عينُ الشمسِ عشواءُ
بحرٌ من النار تجري فوقهُ سفنٌ ××× من الهضاب لها في الأرض أرساءُ
كأنما فوقهُ الأجبال طافيةٌ ××× موجٌ عليه لفرط البهج وعثاءُ
ترمي لها شرراً كالقصر طائشةً ××× كأنها ديمةٌ تنصب هطلاءُ
تنشقُ منها قلوبُ الصخر إن زفرت ××× رعباً وترعدُ مثلُ السعفِ أضواءُ
منها تكاثف في الجو الدخان إلى ××× أن عادت الشمسُ منه وهي دهماءُ
قد أثرت سفعةٌ في البدرِ لفحتها ××× فليلةُ التم بعد النور ليلاءُ
تحدث النيراتُ السبع ألسنها ××× بما يلاقي بها تحت الثرى الماءُ
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى ××× أن كادَ يلحقها بالأرض إهواءُ
فيالها آيةٌ من معجزاتِ رسو ××× ل الله يعقلها القومُ الألباءُ
فباسمكَ الأعظمِ المكنون إن عظمت ××× منا الذنوب وساءَ القلبُ أسواءُ
فاسمح وهب وتفضل وامحُ واعفُ وجدْ ××× واصفحْ فكل لفرطِ الجهل خطاءُ
فقومُ يونسَ لم آمنوا كشف الـ ××× ـعذابَ عنهم وعمَّ القوم نعماءُ
ونحنُ أمةُ هذا المصطفى ولنا ××× منه إلى عفوك المرجوِ دعاءُ
هذا الرسولُ الذي لولاه ما سلكت ××× محجةٌ في سبيل الله بيضاءُ
فارحم وصَلِّ على المختارِ ما خطبت ××× على علا منبر الأوراق ورقاءُ
قلت: والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى " وهذا لفظ البخاري.
وقد وقع هذا في هذه السنة - أعني سنة أربع وخمسين وستمائة - كما ذكرنا، وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الأيام في المذاكرة، وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال: سمعت رجلاً من الأعراب يخبر والدي بِبُصْرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز.
قلت: وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة، وكان والده مدرساً للحنفية ببصرى، وكذلك كان جده، وهو قد درس بها أيضاً ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية، ثم ولى قضاء القضاة الحنفية، وكان مشكور السيرة في الأحكام، وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة، ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الأعرابي أخبر والده في تلك الليالي، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية، وغرق بغداد قوله:
سبحان من أصبحت مشيئته ××× جاريةً في الورى بمقدار
أغرق بغدادَ بالمياه كما ××× أحرق أرض الحجازِ بالنارِ
قال أبو شامة: والصواب أن يقال:
في سنةِ أغرقَ العراقَ وقد ××× أحرقَ أرضَ الحجازَ بالنارِ
وقال ابن الساعي في تاريخ سنة أربع وخمسين وستمائة: في يوم الجمعة ثامن عشر رجب - يعني من هذه السنة - كنت جالساً بين يدي الوزير، فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوي الحسني المدني، فناوله الكتاب فقرأه، وهو يتضمن أن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم زلزلت يوم الثلاثاء ثاني جمادى الآخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي، وسمع صرير الحديد، وتحركت
السلاسل، وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة، وكانت ترمي بزبد كأنه رؤوس الجبال، ودامت خمسة عشر يوماً.
قال القاصد: وجئت ولم تنقطع بعد، بل كانت على حالها، وسأله إلى أي الجهات ترمي؟ فقال: إلى جهة الشرق، واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها، بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها. وأخرج قيماز المذكور شيئاً من الصخر المحترق وهو كالفحم لوناً وخفة.
قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لم زلزلوا دخلوا الحرم، وكشفوا رؤوسهم واستغفروا، وأن نائب المدينة أعتق جميع مماليكه، وخرج من جميع المظالم، ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة، إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع. وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوماً وإلى الآن.
قال ابن الساعي: وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف الأمعاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، يقول: إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة، وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة، فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت، وتدارك أمره بإصلاح حاله مع الله عز وجل قبل الموت. وهذه النار في أرض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت، وهي تأكل بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله، وهي تحرق الحجارة وتذيبها، حتى تعود كالطين المبلول، ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير، فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين، بمحمدٍ وآله الطاهرين. انتهى ما ذكره ابن كثير (1) .
ومن العلماء الكبار الذين كانوا أحياء عند خروج هذه النار الإمام النووي
(1) البداية والنهاية: (13/187-192) .
رحمه الله تعالى، وقد ذكرها في شرحه لصحيح مسلم فقال:" وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت ناراً عظيمة جداً من جنب المدينة الشرقي، وراء الحرة، تواتر العلم بخروجها عند جميع الشام وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة "(1) . وواضح من وصف المشاهدين لهذه النار أنها كانت بركاناً هائلاً، صاحبه زلازل عظيمة، والشاهد أن هذه النار خرجت على النحو الذي أخبرنا به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
(1) شرح النووي على مسلم: (18/28) .
توقف الجزيَة والخراج
كانت الجزية التي يدفعها أهل الذمة في الدولة الإسلامية، والخراج الذي يدفعه من يستغل الأراضي التي فتحت في الدولة الإسلامية من أهم مصادر بيت مال المسلمين، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سيتوقف، وسيفقد المسلمون بسبب ذلك مورداً إسلامياً مهماً، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم "، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه (1) .
والقفيز والمد والإردب مكاييل لأهل ذلك الزمان في تلك البلاد، وبعضها لا يزال معروفاً إلى أيامنا، والدرهم والدينار أسماء للعملات المعروفة في ذلك الوقت، ومنع تلك البلاد للمذكورات في الحديث بسبب استيلاء الكفار على تلك الديار في بعض الأزمنة، فقد استولى الروم، ثم التتار على كثير من البلاد الإسلامية، وفي عصرنا احتل الكفار ديار الإسلام، وأذهبوا دولة الخلافة الإسلامية، وأبعدوا الشريعة الإسلامية عن الحكم. قال النووي في تعليقه على الحديث: " الأشهر في معناه أن العجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، وقد روى مسلم هذا بعد ذاك بورقات عن جابر
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن (4/2220) ورقم الحديث:(2896) .
قال: " يوشك أن لا يجيء إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ذاك "، وذكر في منع الروم ذلك بالشام مثله، وهذا قد وجد في زماننا في العراق، وهو الآن موجود، وقيل: لأنهم يرتدون آخر الزمان، فيمنعون ما لديهم من الزكاة وغيرها، وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان، فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج، وغير ذلك " (1) ، وكل هذه التعليلات لسبب منع تلك الإيرادات لخزينة الدولة الإسلامية التي ذكرها النووي وجدت، علاوة على انهيار الدولة الإسلامية التي كانت تقيم اقتصادها على الشريعة الإسلامية فإلى الله المشتكى.
(1) شرح النووي على مسلم: (18/20) .
العَلامَات التي وقعت، وهي مستمرة، أو وقعت مَرة وَيمكن أن يتكرّر وقوعَها
المبحَث الأول
الفتوحَات والحروب
أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وقد سار حملة هذا الدين مشرقين، ومغربين يفتحون البلاد وينشرون الإسلام، وقد هزموا الدول الكبرى في ذلك الزمان، وأزالوها من الوجود، ولم يزل هذا دأب المسلمين على مَرِّ العصور، وسيبقى إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر الصحابة بما سيكون من الفتوحات والانتصارات التي سيجريها الله على أيديهم أو على أيدي من بعدهم، قال لهم ذلك في الوقت الذي كانوا فيه مستضعفين في مكة، أو محاصرين في المدينة يعيشون في خوف مستمر من اجتياح الأعداء، فقد روى لنا البخاري عن خباب بن الأرت قال: " شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن
دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب (1) ، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " (2) .
لقد كان الأمن منعدماً في الجزيرة العربية، وكان القانون السائد فيها شريعة الغاب، وقد كثر في الأحاديث الإخبار باستتباب الأمن في الجزيرة بسبب ظهور الإسلام فيها، كما أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيتعدى حدود الجزيرة العربية، وأنه سيعصف بالدول الكبرى في ذلك الوقت، مثل ملك كسرى وقيصر، ففي صحيح مسلم عن نافع بن عتبة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم، فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله "(3) .
وروى البخاري عن عَدِيّ بن حاتم، قال: " بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بكَ حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، قلت فيما بيني وبين نفسي، فأين دُعَّار طيِّء الذين قد سعروا البلاد؟ ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كنوز بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله
(1) هكذا ورد في النص ما دون لحمه من عظيم أو عصب، وقد ورد الحديث في صحيح البخاري في موضع آخر بلفظ (ما دون عظامه من لحم أو عصب) ، كتاب المناقب، فتح الباري:(7/165) ، وهو الصواب.
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، حديث رقم (3612) فتح الباري:(6/619) .
(3)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب ما يكون من فتوحات المسلمين قبل الدجال، (4/2225) حديث رقم (2900) .
منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة ".
قال عدي: " فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، يخرج ملء كفه
…
" (1) .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أن المسلمين سيزيلون ملك كسرى وقيصر، وسينفقون كنوزهما في سبيل الله، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله "(2) .
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض "(3) وقد وقع الأمر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد بلغ ملك هذه الأمة بمقدار ما جمع له من الأرض، وكان معظم امتداد ملك هذه الأمة في جهتي الشرق والغرب، وأما في جهة الشمال والجنوب فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب.
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، حديث رقم (3595) فتح الباري:(6/610) .
(2)
صحيح البخاري، كتاب المناقب، حديث رقم (3618)، فتح الباري:(6/625) .
(3)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (4/2215) ، ورقمه (2889) .
وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أننا سنغزو الهند، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليه السلام "(1) .
وبشرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، كما أخبرنا بفتح روما مقر الفاتيكان، ففي الحديث الصحيح عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله: أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني القسطنطينية " (2) .
وقد فتحت فارس والروم وزال ملك كسرى وقيصر، وغزا المسلمون الهند، وفتحوا القسطنطينية، وسيكون للمسلمين في مقبل الزمان ملك عظيم ينتشر فيه الإسلام ويذل الشرك، وتفتح روما مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم القائل:" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزّاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر "(3) .
(1) الحديث أخرجه النسائي، وأحمد وغيرهما، وإسناده قوي، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني:(4/570) حديث رقم (1934) .
(2)
رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/8) حديث رقم:(4) .
(3)
رواه ابن حبان في صحيحه، وابن عروبة في المنتقى من الطبقات، وأورده الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة:(1/7)، حديث رقم:(3) .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأننا سنقاتل الترك والتتار، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً ينتعلون نعال الشعر، وإن من أشراط الساعة أن تقاتلوا قوماً عراض الوجوه كأن وجوههم المجان المُطْرقة ".
وفي رواية لهما عن أبي هريرة: " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين حمر الوجوه، ذلف الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة، ولا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً نعالهم الشعر " واللفظ للبخاري (1) .
وقد وقع الأمر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قاتل المسلمون الترك أكثر من مرة، يقول النووي في التتار الذين اجتاحوا العالم الإسلامي:" وقد وجدوا في زماننا، أي الترك الذين تحدث عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا.. بجميع صفاتهم التي ذكرها صلى الله عليه وسلم: صغار الأعين، حمر الوجوه، ذلف الوجوه، عراض الوجوه، كأن وجوههم المجان المطرقة، ينتعلون الشعر فوجدوا بهذه الصفات كلها في زماننا، وقاتلهم المسلمون مرات، وقتالهم الآن، ونسأل الله الكريم إحسان العاقبة للمسلمين في أمرهم، وأمر غيرهم، وسائر أحوالهم، وإدامة اللطف بهم والحماية، وصلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى "(2) .
(1) رواه البخاري في كتابه الجهاد، باب كتاب الترك، وفتح الباري:(6/103) . ورواه مسلم في كتاب الفتن، (4/2233) حديث رقم (2912) . و (المجان) جمع مجن، وهو الترس، و (المطرقة) : هي التي ألبست العقب وأطرقت به طاقة فوق طاقة، قالوا: ومعناه تشبيه وجوه الترك في عرضها وتلون وجناتها بالترسة المطرقة، والمراد (بذلف الأنوف) أي: فطس الأنوف. قصارها مع الانبطاح، وقيل: هو غلظ في أرنبة الأنف، وقيل: تطامن فيها، وكله متقارب.
(2)
شرح النووي على مسلم: (18/38) ، وواضح تأثر النووي بنبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يشرح الحديث والمعركة مستعرة بين المسلمين وهؤلاء الذين تحدث الرسول عن قتال المسلمين لهم، وقد رأى وصفهم بأم عيني رأسه.
خروج الدجّالين أدعيَاء النبوَّة
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج في هذه الأمة دجالون يدعون النبوة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن عددهم قريب من ثلاثين، وحددهم في بعض الأحاديث بسبعة وعشرين، والمراد بأدعياء النبوة هؤلاء الذين يثيرون فتنة ويتبعهم الناس، ويغترون بباطلهم، أما الذين ادعوها ولم يأبه الناس لهم فكثير.
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كل يزعم أنه رسول الله "(1) .
وفي صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي "(2) .
وفي مسند أحمد، ومشكل الآثار للطحاوي، ومعجم الطبراني الكبير والأوسط بإسناد صحيح عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" في أمتي كذابون، ودجالون سبعة وعشرون، منهم أربعة نسوة، وإني خاتم النبيين، لا نبي بعدي "(3) .
وقد خرج من هؤلاء عدد كبير في الماضي، ففي عهد الصحابة خرج مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وسجاح الكاهنة، وفي عصر التابعين خرج المختار
(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، فتح الباري:(13/81) .
(2)
ورواه مسلم في صحيحه، انظر جامع الأصول:(10/404) .
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/654) ، ورقمه (1999) .
الثقفي مدعياً النبوة، ومنذ أكثر من قرن قام حسين بن علي ابن الميرزا عباس في إيران مدعياً النبوة (1) ، ولقب ببهاء الله وأتباعه البهائية، وآخر من سمعنا عنه دعوى النبوة محمود محمد طه السوداني الذي أضل كثيراً من الناس بكتاباته ومقالاته، وقد أعدم في طليعة هذا العام (2) ، أعدمته حكومة السودان بسبب ضلاله وكفره وردته، فلعنة الله على الظالمين. إلا أن الدجال الكبير هو ذلك الذي يخرج آخر الزمان، وينزل الله عيسى ابن مريم للقضاء على فتنته.
(1) ولد بطهران في عام 1233هـ، وتوفي في عكا بفلسطين عام 1309هـ.
(2)
عام 1985م.
الفِتن
المطلب الأول
التحذير من الفتن
الإنسان الصالح هو المسلم المستقيم على الدين الذي أنزله تبارك وتعالى، والأمة الصالحة هي الأمة التي تأخذ هذا الدين وتستقيم عليه، ثم إن الفرد المسلم، والأمة المسلمة كلهم يبتلى بشتى أنواع البلاء، وقد يثور البلاء من داخل الأمة بسبب الأهواء والفرقة والخصام، وقد يتمثل في عدو حاقد على هذه الأمة يجتاحها ويستذلها، وقد يصل البلاء النابع من الفرقة والخصام إلى حد أن يسل بعضها على بعض السيوف، فتزهق الأرواح، وتسيل الدماء، وتنتهك الحرمات، وتسلب الأموال.
وقد أطلع الله رسوله عليه السلام على كثير من البلايا والفتن التي ستبتلى بها الأمة الإسلامية في مقبل الزمان، ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أطال في تحديث الصحابة عن تلك الفتن، وبيان المخرج منها، يقول أبو زيد عمرو بن أخطب، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما هو كائن، فأعْلَمُنا أحفَظُنا " (1) .
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن، باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، (4/2217) ورقمه:(2892) .
ولعل هذا المقام هو الذي ذكره حذيفة بن اليمان، فقد ثبت عنه أنه قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة، إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره، كما يذكر الرجل وجه الرجل قد غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه "(1) .
وبعض هذه الفتن شديدة مظلمة ومنها خفيف، ففي حديث حذيفة في صحيح مسلم عن الفتن:" منهن (أي من الفتن) ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار، ومنها كبار "(2) .
ويبلغ من شدة هذه الفتن أن تخرج المسلم عن دينه، ففي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح المرء مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أحدكم دينه بعرض قليل من الدنيا " رواه أحمد ومسلم والترمذي (3) .
وفي حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا " أخرجه الترمذي في سننه، وقال: حديث حسن صحيح (4) .
(1) المصدر السابق.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة:(4/2216) ورقمه: (2891) .
(3)
صحيح الجامع: (3/4) .
(4)
جامع الأصول: (10/383) .
ويبلغ ثقل هذه الفتن وشدتها على المسلم أن يتمنى الموت ويرجوه كي يتخلص من البلاء، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني كنت مكانه " رواه البخاري ومسلم (1)، وفي رواية عند مسلم:" والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه، فيقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدَّين إلا البلاء "(2) .
وإن من أعظم الأسباب التي توقع في الفتن والبلاء قلة العلم، وكثرة الجهل، وترك الإسلام، وارتكاب الذنوب والمعاصي، وانتهاك الحرمات، فعن عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع العلم، ويكثر الهرج، والهرج: القتل " أخرجه البخاري ومسلم (3) .
وعن أنس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " وفي رواية: " يقل العلم، ويظهر الجهل " متفق عليه (4) .
والسبب في قلة الرجال وكثرة النساء كما جاء ذلك مبنياً في بعض الأحاديث - الحروب التي تقع في ذلك الزمان، وقد كثر في الأحاديث إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة
(1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور، فتح الباري:(13/75) ورواه مسلم كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل.. (4/2231) .
(2)
صحيح مسلم، في الكتاب والباب الذي سبق ذكره.
(3)
جامع الأصول: (11/408) ورقمه (7924) .
(4)
مشكاة المصابيح: 3/21.
القتل في آخر الزمان، وليس المراد به قتل المسلمين للكفار، وإنما هو قتل بعض المسلمين لبعض، وفي كثير من الأحيان لا تعرف أسباب ذلك القتل ولا أهدافه، ففي الحديث عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن بين يدي الساعة الهرج، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضاً، [حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه] ، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس؟ يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء "(1) .
وروى أبو هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده، ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قَتَل، ولا يدري المقتول على أي شيء قُتِل "(2) .
(1) رواه أحمد بإسناد صحيح (انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة) للشيخ ناصر الدين الألباني: (4/248) .
(2)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل (2/2231)، ورقمه:(2908) .
المطلب الثاني
نماذج من الفتن
أولاً: مقتل الخليفة الراشد عثمان وافتراق الأمة
من أعظم الفتن التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان وفرقة الأمة الإسلامية، ومن ثم جعل بأسها بينها، فقد سل بعضها السيوف على بعض، وسالت الدماء الطاهرة الطيبة من الفريقين المسلمين المتخاصمين، وأصدق وصف لتلك الفتنة أنها كانت تموج كموج البحر.
ففي حديث حذيفة أنه كان جالساً عند عمر بن الخطاب، إذ قال:" أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجارِهِ يكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً، قال عمر: أيكسر أم يفتح؟ قال: بل يكسر، قال عمر: إذاً لا يغلق أبداً، قلت: أجل. قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب: قال: نعم، كما أعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله عن الباب، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر "(1) .
(1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، فتح الباري:(13/48) . ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر، (4/2218) واللفظ للبخاري.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم العام الذي تقع فيه الفتنة، ففي حديث عبد الله ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تدور رحى الإسلام بعد خمس وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم - يقم لهم سبعين عاماً، قلت: (وفي رواية قال عمر: يا نبي الله) : مما بقي، أو مما مضى؟ قال: مما مضى "(1) . وقد سماها رحى الإسلام تشبيهاً للحرب بالرحى، لأنها تطحن المقاتلين، كما يطحن الرحى الحب، وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث إلى مدة حكم بني أمية، فقد كانت مدته سبعين عاماً.
وقد صرح في بعض الروايات بما يكون من حال الأمة في تلك الفتنة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة "(2) .
ثانياً: فتنة الخوارج
من آثار الفتن الفرقة والاختلاف، وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خروج أقوام في آخر الزمان، لهم دور كبير في فرقة الأمة الإسلامية، إذ يدعي هؤلاء العلم، ويجهدون أنفسهم في العبادة، ويدعون إلى كتاب الله، ولكنهم جهلاء، أحكامهم جائرة، وآراؤهم قاصرة، يسفكون دماء مخالفيهم من المسلمين، ويجهلون الصحابة والعلماء، ففي الحديث المتفق عليه عن علي بن أبي طالب قال: قال
(1) حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والطحاوي في مشكل الآثار، والحاكم، وأحمد وغيرهم، وصحح الحاكم، ووافقه الذهبي، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني، (2/703) ، حديث رقم (976) .
(2)
رواه البخاري، كتاب المناقب، حديث رقم (3608، 3609) فتح الباري: (6/516) ورواه مسلم، كتاب الفتنة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، (4/2214) واللفظ لمسلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة "(1) .
وفي سنن أبي داود وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم ومسند أحمد عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد السهم إلى فُوقه، هم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم، سيماهم التحالق "(2) .
وقد خرجت هذه الفرقة في عهد الصحابة، وكفرت الصحابة، واستباحت دماء المسلمين، وأحدثت في الأمة بلاء كبيراً.
(1) صحيح الجامع: (3/213) .
(2)
صحيح الجامع: (3/217) .
المطلب الثالث
كيفية الخلاص من الفتن
اجتهد كثير من الصحابة في التعرف على الفتن التي ستعصف بالأمة وتبين طريق النجاة والخلاص منها، ومن هؤلاء بل في مقدمتهم حذيفة بن اليمان فقد صح عنه أنه قال:" إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة، فيما بيني وبين الساعة "(1) .
وقد كان حذيفة يكثر من سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفتن حتى لا يقع فيها، ففي صحيح البخاري عن حذيفة قال:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: ما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله: صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك "(2) .
(1) صحيح مسلم كتاب الفتن، باب إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة:(4/2216) ورقمه (2891) .
(2)
صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب كيف يكون الأمر إذ لم تكن جماعة، فتح الباري (13/35) .
وفي حديث العرباض بن سارية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمسك بالإسلام، وطاعة الإمام، والتزام سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين المهديين من بعده، فقد روى عبد الرحمن بن عمرو السلمي أنه سمع العرباض بن سارية يقول:" وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ قال: " تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد ينقاد " (1) .
كيف يتصرف المسلم في الحروب التي تثور بين المسلمين:
أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلى كيفية التصرف في مثل هذه الفتن التي تثور بين المسلمين، حيث يخفى الحق، وتضطرب الأمور، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتناب الصراع والقتال في مثل هذه الحال، والاعتزال في مكان ناء، يرعى الرجل الغنم في قمم الجبال، أو يجاهد الأعداء على حدود الدولة المسلمة، فإن وصلت إليه سيوف المتحاربين، فقد أمر بأن يمتنع عن الدفاع عن نفسه، ولو كان في هذا هلاكه، فقد روى لنا أبو بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها ستكون فتن، ألا ثَمَّ ستكون فتنة، القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كان
(1) حديث صحيح، أخرجه ابن ماجة، والترمذي، وأحمد، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2/647) ، حديث رقم (937) .
له غنم فليلحق بغنمه، ومن كان له أرض فليلحق بأرضه. قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين، أو إلى إحدى الفئتين؟ فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار " (1) .
وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن " رواه البخاري (2) .
وفي حديث أبي هريرة عند الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم، أنجى الناس منها صاحب شاهقة، يأكل من رسل غنمه، أو رجل من وراء الدروب، آخذ بعنان فرسه، يأكل من فيء رمحه "(3) .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر كيف يتصرف في الفتنة، فقال له: " أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء (4)، كيف تصنع؟ قال: اقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك، قال: فإن لم أترك؟ قال: فأت من كنت معه، فكن فيهم. قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذاً تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق من طرف ردائك على وجهك، كي يبوء
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن، باب نزول الفتن:(4/2212) ، ورقمه (2887) .
(2)
رواه البخاري، باب التعرب في الفتنة، فتح الباري:(13/40) . ورقمه: (7088) .
(3)
رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/466)(4/642) .
(4)
حجارة الزيت: موضع في المدينة المنورة.
بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار " (1) .
وقد احتج بالأحاديث التي سقناها وما أشبهها من لم ير القتال في الفتنة من الصحابة، " وهم كل من ترك القتال مع علي بن أبي طالب في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وغيرهم، وقالوا: يجب الكف حتى لو أراد أحد قتله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه، وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف على القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق "(2) .
وقال الطبري: " الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها "(3) .
ولا شك أن تبين الحق والصواب في مثل هذه الظروف التي تقع فيها الفتن، وتظهر فيها الأهواء صعب جداً، والأقرب إلى السلامة هو البعد والاعتزال، كيلا يصيب المسلمُ دماً حراماً، ولا يؤذي مسلماً، والله أعلم بالصواب.
(1) حديث صحيح، رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم، انظر صحيح الجامع الصغير:(6/258) .
(2)
فتح الباري: (13/33) .
(3)
فتح الباري: (13/31) .
المطلب الرابع
بؤرة الفتن ومصدرها
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهة التي تهب منها رياح الفتن على الديار الإسلامية، ففي صحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأس الكفر نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم "(1) .
وعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام إلى جنب المنبر، فقال:" الفتنة هاهنا، من حيث يطلع قرن الشيطان، أو قال: قرن الشمس ". رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم عن عائشة:" رأس الكفر هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان "(2)، وفي حديث آخر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا يا رسول الله: وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان "(3) .
وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق، ونواحيها وهي مشرق أهل المدينة،
(1) جامع الأصول: (10/61)، ورقم الحديث:(7528) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (الفتنة من قبل المشرق) فتح الباري:(13/45) ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب الفتن من المشرق (4/2229) حديث رقم (2905) .
(3)
صحيح البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الفتنة من قبل المشرق، فتح الباري:(13/45) .
وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة (1) .
ولا شك أن العراق في جهة المشرق، وأنها تعد بالنسبة للمدينة نجداً، وهذا ما فقهه سال بن عبد الله بن عمر، فعندما كان أهل العراق يرتكبون العظائم ويسألون عن التوافه من الأمور، قال لهم سالم:" يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الفتنة تجيء من هاهنا " وأومأ بيده نحو المشرق: " من حيث يطلع قرنا الشيطان "، وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض (2) .
ومن استقرأ التاريخ علم أن الفتن كانت تهب على الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي من جهة المشرق، فمنها ثارت الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان، ومنها خرجت فرقة الحرورية المارقة: الخوارج، وبقيت رياح الخوارج تعصف بالأمة في العهد الأموي، وبها قامت ثورة الزنج في عام 255هـ بالبصرة، وفي عام 278هـ انبعثت منها حركة القرامطة، ومن اطلع على ما أحدثه الزنج والقرامطة في الأمة الإسلامية يذهل مما ارتكبوه من فظائع.
وليس المشرق قصراً على العراق، فمن الشرق هبت رياح التتار، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن تأتي رايات الدجال، من خراسان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا تعارضُ هذه الأحاديث - التي تحدد البؤرة التي تنبعث منها الفتن على الأمة الإسلامية - حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عنه أسامة بن زيد رضي الله عنهما،
(1) فتح الباري: (13/47) .
(2)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب الفتنة من المشرق (4/2229) حديث رقم (2905) .
قال: " أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة، فقال: هل ترون ما أرى؟ قالوا: لا. قال: فإني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر "(1) رواه البخاري (2) .
يقول ابن حجر في شرح الحديث: " اختصت المدينة بذلك لأن قتل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالجمل وبصفين كان بسبب مقتل عثمان، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصفين، وكل قتال وقع في ذلك العصر إنما تولد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان كان أشد أسبابه الطعن على أمرائه، ثم عليه بتوليه لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق، وهي من جهة المشرق، فلا منافاة بين حديث الباب، وبين الحديث الآتي أن الفتنة من جهة المشرق "(3) .
(1) أشار الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى كثرة الفتن وعمومها للناس لا تختص بها طائفة دون أخرى، كما يعم المطر النواحي التي ينزل فيها، ومن قرأ التاريخ وما جرى بعد مقتل عثمان ومقتل الحسين علم صدق مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2)
رواه البخاري في كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " ويل للعرب من شرِّ قد اقترب " فتح الباري (13/11) ، ورواه مسلم (4/2211) واللفظ للبخاري.
(3)
فتح الباري: (13/13) .
إسناد الأمر إلى غيَر أهله
وضع الرجل المناسب في المكان المناسب أحد القواعد الهامة التي لا تصلح حياة البشر بدونها، ولذلك فإن الفترات التي تولى فيها الحكم أصحاب الكفاءات العالية من أصحاب الصلاح والتقى فترات مضيئة مشرقة في تاريخ الأمة الإسلامية، وأكبر مقتل يفسد نظام الحياة أن يتولى الحكم والولايات والمناصب أقوام غير أكفاء يقودون الحياة بأهوائهم، ويترك الأخيار القادرون على تسيير الأمور على النحو الأمثل والأفضل.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أشراط الساعة أن يوسَّد الأمر إلى من لا يستحقه، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس - يُحَدّث القوم، إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض القوم: سمع ما قاله، فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه: قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " (1) .
وروى الطحاوي في ((مشكل الآثار)) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يغلب على الدنيا لكع ابن لكع، وأفضل الناس مؤمن بين كريمين "(2) .
(1) جامع الأصول: (10/396) ، حديث رقم (79004) .
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/9) ورقم الحديث (1505) وفي إسناد الحديث المرفوع ضعف. إلا أن له طريقاً صحيحة موقوفة. والموقوف له حكم المرفوع في مثل هذا.
ومن نظر في تاريخ الأمة الإسلامية علم أن هذا المرض الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو أحد البلايا الكبار التي أصابت المسلمين إصابات كبيرة، لقد تولى أمر هذه الأمة رجال مستبدون، لا يطيقون سماع رأي مخالف لما يرونه، ففي الحديث عن معاوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" ستكون أئمة من بعدي، يقولون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تقاحم القردة " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وأبو يعلى (1) .
وبعض هؤلاء الحكام تشغلهم الشهوات والمتع عن رعاية أمور المسلمين، وبعضهم لا يعرف الحق، فإذا به يحمل الناس على مالا يعرفون، وينشر بينهم البدع والمنكرات، كما في الحديث الذي يرويه عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ستكون أمراء تشغلهم أشياء، يؤخرون الصلاة عن وقتها، فاجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً "(2) رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة بإسناد صحيح.
وفي حديث أم سلمة عند مسلم وأبي داود: " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع لم يبرأ "(3) .
وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني وسنن ابن ماجة عن ابن مسعود عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، ويحدثون البدع، قال ابن مسعود: فكيف أصنع؟ قال: تسألني يا ابن أم عبد كيف تصنع؟ لا طاعة لمن عصى الله "(4) .
ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأذن بالخروج على عصاة الحكام، لما يترتب على
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/398)، ورقمه:(1790) .
(2)
صحيح الجامع الصغير: (3/205) .
(3)
المصدر السابق.
(4)
المصدر السابق: (3/216) .
الخروج عليهم من الفتن وسفك الدماء، هذا إذا كانوا آخذين بشريعة الله على وجه العموم.
ففي سنن النسائي ومسند ابن حبان بإسناد صحيح عن عرفجه " ستكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة، أو يريد أن يفرق أمر أمة محمد كائناً من كان فاقتلوه، فإن يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض "(1) .
(1) صحيح الجامع الصغير: (3/206) .
فسَاد المسلمين
إنما يتحقق للأمة الرقي والسؤدد بمقدار ما يكون فيها من أفراد صالحين يتمثلون في أنفسهم القيم الفاضلة، والأخلاق الحميدة، ساعين إلى إقامة العدل في عالم الواقع، وتقويم المعوج، وإصلاح الفاسد، وهؤلاء هم الذين حملوا الأمانة التي أبت السماوات والأرض حملها، وأشفقت من ذلك:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72] .
والأمانة ما ائتمن الله عليه العباد من الإيمان والتكاليف، ومن ذلك أداء ما للعباد من مال وحقوق، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمانة سترفع، وهذا الرفع تدريجي، ففي زمن حذيفة لاحظ شيئاً منه، ولكنه في زمننا هذا كثير، وسيأتي زمان يكون أكثر مما نحن فيه.
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه، قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر " حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة، قال: ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلُّ أثرها مِثلَ الوَكْت، ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مِثلَ المَجْل كجَمْرٍ دحرجه على رجلك، فَنَفِط، فتراه مُنْتبراً، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصىً فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً
أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خَرْدلٍ من إيمان "
يقول حذيفة: " ولقد أتى عليَّ زمان، ولا أبالي أيكم بايعتُ، لئن كان مسلماً ليردنه عليَّ دينُه، ولئن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه عليَّ ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً "(1) .
ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في جذر قلوب الرجال، أي: في أصلها وأعماقها، ثم إن الأمانة تنزع ويبقى أثرها فحسب، والوَكْت: هو اللون الباهت الذي يخلف اللون الأصلي، ومراده بالمَجْل: هو أثر التنفيط، والنفط الذي تحدثه النار إذا دحرجته على رجل الإنسان كما في الحديث.
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب رفع الأمانة:(1/126)، ورقمه:(143) .
ولادَة الأمّة ربتها، وَتطاول الحفَاة العراة
رعَاة الشاة في البنيان
روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجيء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة رجل يلبس الملابس البيضاء الناصعة، له شعر شديد السواد، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان وأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم سأله عن الساعة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال فأخبرني عن أمارتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رِعاء الشاءِ يتطاولون في البنيان "(1) .
وروى ابن عباس إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن السؤال بقوله: " إذا رأيت الأمة ولدت ربتها أو ربها، ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان، ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس، فذلك من معالم الساعة وأشراطها ". قال: يا رسول الله، ومن أصحاب الشاء والحفاة الجياع العالة؟ قال: العرب (2) .
قال ابن رجب في تعليقه على الحديث: " مضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أن الأمور توسد إلى غير أهلها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن
(1) رواه مسلم في صحيحه، أنظر جامع العلوم والحكم: ص 21.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/318-319)، وقال الشيخ ناصر فيه بعد أن ذكر إسناده: وهذا إسناد لا بأس فيه في الشواهد، سلسلة الأحاديث الصحيحة، (3/332)، حديث رقم:(1345) .
سأله عن الساعة: " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة "، فإذا صار الحفاة العراة رعاء الشاء وهم أهل الجهل والجفاء رؤوس الناس وأصحاب الثروة والأموال حتى يتطاولوا في البنيان فإنه يفسد بذلك نظام الدين والدنيا
…
" (1) .
والمراد بقوله: " أن تلد الأمة ربتها "، أي: سيدتها ومالكتها، قال العلماء: هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما بما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال.
وقيل: معناه أن يلدن الملوك فتكون أمه من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته (2) ، وكل هذا وقع، فقد كثر تسري الأحرار من الإماء بملك اليمين، ومن المعلوم شرعاً أن الأبناء الذين يأتون من السراري يكونون أحراراً، وبذلك ولدت الأمة ربتها، وقد وصل بعض هؤلاء إلى الملك.
(1) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ص 39.
(2)
شرح النووي على مسلم: (1/158) .
تداعي الأمم عَلى الأمَّة الإسلاميَّة
من علامات الساعة تكالب أمم الكفر على هذه الأمة، ففي الحديث عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُوشِك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوَهْن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت "(1) .
وقد وقع هذا عبر التاريخ أكثر من مرة، عندما تداعت الأمم الصليبية إلى غزوة هذه الأمة، ومرة أخرى عند اجتياح التتار العالم الإسلامي، ولكن هذه النبوءة تحققت في القرن الأخير بصورة أوضح فقد اتفق الصليبيون واليهود والملاحدة على هدم الخلافة الإسلامية، ثم جزؤوا الديار التي كانت تحكمها، وتقاسموا ديار المسلمين فيما بينهم، وأعطوا فلسطين لليهود، وأصبح المسلمون أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، ولا تزال قوى الشر إلى اليوم متداعية لتدمير هذه الأمة وامتصاص خيراتها، ونهب ثرواتها، وإذلال رجالها، والأمة الإسلامية خانعة ذليلة، لم تغن عنها كثرتها، غثاء كغثاء السيل، وعلتها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: الوَهْن: حب الدنيا، وكراهية الموت.
(1) الحديث بمجموع طرقه صحيح، كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد عزاه إلى أبي داود، والروياني، وابن عساكر، وأحمد في مسنده، وأبو نعيم في (الحلية) وغيرهم (سلسلة الأحاديث الصحيحة:(2/684) ، حديث رقم (958) .
السِّر في هذا التداعي:
إن اعتصام هذه الأمة بدينها ووحدتها حاجز يقف دون مطامع أعدائها، فمهما كان مكر الأعداء وقوتهم فإنهم لن ينالوا من هذه الأمة نيلاً إذا كانت متحدة، وفي الحديث الذي يرويه ثوبان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بِسَنَةٍ عامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنَّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً "(1) .
وواضح من الحديث أن وحدة الأمة عصمة لها من أعدائها، فإذا أصبح بأسها بينها، ووقعت الفرقة والاختصام فيما بينها سلط الله عليها أعداءها، وتلك نتيجة حتمية لأن قوتها في هذه الحال لا تتجه إلى الأعداء، بل إلى نفسها فتدمر نفسها بنفسها، مما يطمع أعداءها فيها.
(1) رواه مسلم في صحيحه، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (2/2215) حديث رقم (2889) والمراد بالبيضة، أي: جماعتهم وأصلهم، والبيضة أيضاً: العزّ والملك. والمراد بقوله: " أن لا أهلكهم بسنة عامة " أي: لا أهلكهم بقحط يعمهم، بل إن وقع قحط يكون في ناحية يسيرة، بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام.
الخسف والقذف وَالمسخ الذي يعَاقب
اللَّه به أقواماً من هَذه الأمّة
يقع في هذه الأمة من أنواع البلاء الخسف والقذف والمسخ بسبب تعاطيها للذنوب والمعاصي واستعلان ذلك فيها، كشرب الخمر ولبس الرجال الحرير، وتعاطي الزنا، وأكل الربا، ونحو ذلك من الفساد الذي يصل درجة استحلال الحرام.
ففي معجم الطبراني الكبير بإسناد صحيح عن سهل بن سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، إذا ظهرت المعازف والقينات، واستحلت الخمر "(1) .
ورواه ابن ماجة عن عبد الله بلفظ " بين يدي الساعة مسخ، وخسف، وقذف " ولهذا الحديث شواهد كثيرة تشهد بصحته، منها حديث عائشة عند الترمذي:" يكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا ظهر الخبث ".
ومنها حديث عمران، وهو قريب من حديث عائشة إلا أنه قال: " فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القينات
(1) ورواه الطبراني أيضاً في معجمه ((الكبير والأوسط)) عن أبي سعيد، ورواه الترمذي عن عمران بن حصين، انظر ((صحيح الجامع الصغير)) :(3/316) حديث رقم (3559) .
والمعازف، وشربت الخمور " أخرجه الترمذي (1) .
وروى أبو نعيم في أخبار أصبهان بإسناده إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليبيتن أقوام من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو، فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير "(2) .
وروى البخاري تعليقاً عن أبي عامر أو أبي مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب عَلَمٍ، يروح عليهم بسارحةٍ لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " وقد وصل الحديث الطبراني والبيهقي وابن عساكر وغيرهم، وإسناده صحيح، وقد أخطأ ابن حزم في تضعيفه للحديث (3) .
ومن الخسوف الكبيرة التي تكون قرب قيام الساعة، الخسف بجيش كامل في آخر الزمان، كما في الحديث الذي يرويه أحمد والحميدي عن بقيرة امرأة القعقاع بن أبي حدرد الأسلمي، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: " يا هؤلاء، إذا سمعتم بجيش قد خسف به قريباً، فقد أظلت الساعة "(4) .
ولعل هذا الجيش الذي يخسف به قرب المدينة، ويدل على هذا قوله:" قريباً ".
(1) انظر الكلام على روايات الحديث في: سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/293) حديث رقم (1787) .
(2)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/135) ، حديث رقم (1604) .
(3)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/139) ، حديث رقم (91) .
(4)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/340) ورقم الحديث: 1355.
وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض المواضع التي يقع فيها الخسف والقذف والمسخ، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يا أنس، إن الناس يمصرون أمصاراً. فإن مصراً يقال له: البصرة، فإن أنت مررت بها أو دخلتها، فإياك وسباخها وكلأها ونخيلها وسوقها وباب أمرائها، وعليك بضواحيها، فإنه يكون بها خسف وقذف ورجف، وقوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير "(1) .
(1) مشكاة المصابيح: (3/19) . ورقم الحديث: 5433.
استفاضة المَال
من علامات الساعة كثرة المال، حتى إن الرجل يعطى المائة دينار من الذهب فيراها قليلة، ويبحث صاحب المال عن رجل فقير يقبل منه صدقة ماله فلا يجد، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعوف بن مالك، وكان آن ذاك في غزوة خيبر:" اعدد ستاً بين يدي الساعة " فذكرها، ومنها: استفاضة المال، حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً " (1) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يُهِم ربُّ المال من يقبل منه صدقة، ويدعى إليه الرجل، فيقول: لا أرَبَ لي فيه "(2) .
والمراد بقوله: " يُهِم ربُّ المال " أي: يحزنه، لأنه لا يوجد المحتاج الذي يبذل له المال، وقوله:" لا أرَبَ لي فيه " أي: لا حاجة لي به.
وروى حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تَصدّقوا، فيوشك الرجل يمشي بصدقته، فيقول الذي أعطيها: لو جئتنا بالأمس قبلتها، فأما الآن، فلا حاجة لي بها، فلا يجد من يقبلها "(3) .
(1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد، باب ما يحذر من الغدر، انظر جامع الأصول:(10/412) .
(2)
رواه مسلم في كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، حديث رقم (1012)(2/701) .
(3)
المصدر السابق، حديث رقم (1011) (2/700) ورواه البخاري: كتاب الفتن، فتح الباري:(11/81) ، واللفظ لمسلم.
ويبدو أن هذا يقع في أكثر من زمان، فقد وقع في عصر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقد أخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه من طريق عمر بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال:" لا والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم، فلا يجد فيرجع به، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس "(1) .
وسيأتي عند ذكر المهدي إيراد الأحاديث التي تذكر أنه سيكون خليفة يحثو المال حثواً، وسيأتي عند ذكر عيسى ذكر الأحاديث التي تذكر استفاضة المال في وقته، حتى لا يقبله أحد.
(1) فتح الباري: (13/83) .
تسليم الخاصَّة، وفشو التجَارة، وقطع الأرحََام
روى أحمد في مسنده بإسناد صحيح، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم "(1) .
ومراده بتسليم الخاصة أن لا يسلم المسلم إلا على من يعرفه، كما في الحديث الآخر الذي يرويه أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة " وفي رواية: " أن يسلم الرجل على الرجل لا يسلم عليه إلا للمعرفة "(2) .
وهذا الذي أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم قد وقع كله من قبل، وهو ظاهر مشاهد في زماننا، وهو في كثرة بإطراد وازدياد، والله المستعان.
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/250)، ورقم الحديث:647.
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/252)، ورقم الحديث:648.
اختلال المقاييس
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن المقاييس التي يُقَوَّم بها الرجال تختل قبل قيام الساعة، فيقبل قول الكذبة ويصدق، ويرد على الصادق خبره، ويؤتمن الخونة على الأموال والأعراض، ويخون الأمناء ويتهمون، ويتكلم التافهون من الرجال في القضايا التي تهم عامة الناس، فلا يقدمون إلا الآراء الفجّة، ولا يهدون إلا للأمور المُعْوجة، فقد أخرج الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة ". قيل: وما الرويبضة ". قال: " الرجل التافه، يتكلم في أمر العامة " (1) .
ومن تأمل في أحوال عالمنا اليوم وجد أننا نعيش هذا العصر الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فالكذبة من الكفار والمشركين الذين يملكون وكالات الأنباء والإذاعات ومن على طريقهم يصدَّقون، وأهل الصدق والعدل يكذَّبون، والأمة الإسلامية تضع أموالها في أيدي الخونة الكفرة، ويؤتمنون على ذلك، ويخون المسلمون ولا يؤتمنون على شيء من ذلك، وقد تكلم في شؤون العالم التافهون من الرجال، وقادوه قيادة هوجاء توشك أن تدمر البشرية جمعاء.
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/508)، ورقم الحديث:1887.
شرطة آخر الزمَان الذين يجلدون الناس
يكثر الظلم في آخر الزمان، حتى إن الرجال الذين يوكل إليهم القيام على الأمن وردع الظالمين يفسدون، فإذا بهم يتحولون إلى ظلمة يجلدون ظهور العباد بسياطهم، وهذا كثير مشاهد في ديار الإسلام اليوم.
روى أحمد والحاكم والطبراني في ((الكبير)) بإسناد صحيح عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان رجال معهم سياط كأنها أذناب البقر، يغدون في سخط الله، ويروحون في غضبه "(1) .
وخبر هؤلاء ومصيرهم مذكور في صحيح مسلم، فقد روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسمنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا "(2) .
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/517)، ورقم الحديث:1893.
(2)
صحيح مسلم: (4/1680)، ورقم الحديث:(2128) .
العلامَات التي لم تقع بَعد
المَبحَث الأول
عودَة جزيرة العَرب جنَّات وَأنهاراً
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، حتى يخرج الرجل زكاة ماله، فلا يجد أحداً يقبلها، وحتى تعود أرض العرب جنات وأنهاراً " رواه مسلم (1) .
وعودتها جنات وأنهاراً إما بسبب ما يقوم أهلها به من حفر الآبار، وزراعة الأرض ونحو ذلك مما هو حاصل في زماننا، وإما بسبب تغير المناخ، فيتحول مناخها الحار إلى جو لطيف جميل، ويفجر خالقها فيها من الأنهار والعيون ما يحول جدبها خصباً، ويحيل سهولها الجرداء إلى سهول مخضرة فيحاء، وهذا هو الأظهر، فإنه يحكي حالة ترجع فيها الجزيرة إلى ما كانت عليه من قبل.
(1) مشكاة المصابيح: (3/21) ، حديث رقم (5440) .
انتفَاخ الأهلّة
من الأدلة على اقتراب الساعة أن يرى الهلال عند بدو ظهوره كبيراً حتى يقال ساعة خروجه إنه لليلتين أو ثلاثة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اقتراب الساعة انتفاخ الأهلة "(1)، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قَبَلاًَ، فيقال: لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة "(2) .
(1) أورده الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح الجامع الصغير (5/213) ، حديث رقم (5774)، وقال: صحيح الإسناد، وعزاه إلى الطبراني في معجمه الكبير، وأخرجه غيره من كتب السنة عن أبي هريرة.
(2)
عزاه في صحيح الجامع (5/214) حديث رقم (5775) إلى الطبراني في الأوسط، وقال: إسناده حسن.
تكليم السّبَاع والجمَاد الإنسَ
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري، قال:" عدا الذئب على شاة، فأخذها، فطلبه الراعي، فانتزعها منه، فأقعى على ذنبه، قال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إليَّ، فقال: يا عجبي ذئب مقع على ذنبه يكلمني كلام الإنس، فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه، حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي بالصلاة جامعة، ثم خرج، فقال للراعي: أخبرهم، فأخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس، ويكلم الرجل عذبة سوطه، وشراك نعله، ويخبره فخذه بما حدّث أهله بعده "(1) .
وقد يكون هذا الذي يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً خارقاً للعادة خارجاً عن المألوف، كما تشهد على الإنسان أعضاؤه يوم القيامة (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65] ، (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ
(1) إسناده صحيح، وأخرجه ابن حبان والحاكم مفرقاً، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرج الترمذي منه قوله:" والذي نفسي بيده.. "، وقال: حديث حسن، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني، حديث رقم (122) .
شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت: 21] ، أو هو إخبار عما يصل إليه البشر من علوم ومخترعات، يستطيعون بها فقه لغة الحيوان، وينطقون بها الجماد كما هو الحال في المخترعات الجديدة (الراديو) و (التلفاز) .
انحسَار الفرات عَن جَبل من ذهَب
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك الفرات أن يَحْسِرَ عن كنز من ذهب، فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً "، وفي رواية " يَحْسِر عن جبل ذهب ".
وفي رواية عند مسلم: " لا تقوم الساعة حتى يَحْسِر الفرات عن جبل من ذهب يَقْتُل الناس عليه، فَيُقْتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو "(1) .
ورواه مسلم عن أبي بن كعب بلفظ: " يُوشِك الفرات أن يَحْسِر عن جبل من ذهب فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه لَيُذْهبن به كُلِّه، قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون "(2) .
ومعنى انحساره: انكشافه لذهاب مائة، كما يقول النووي (3) ، وقد يكون ذلك بسبب تحول مجراه، فإن هذا الكنز أو هذا الجبل مطمور بالتراب وهو غير
(1) رواه البخاري في كتاب الفتن، باب خروج النار، فتح الباري:(13/78) ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب:(4/2219) ، حديث رقم (2894) .
(2)
انظر صحيح مسلم: (4/2220) حديث رقم (2895) .
(3)
شرح النووي على مسلم: (18/9) .
معروف، فإذا ما تحول مجرى النهر لسبب من الأسباب ومرّ قريباً من هذا الجبل كشفه، والله أعلم بالصواب.
والسبب في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم من حضره عن الأخذ منه لما ينشأ عن أخذه من الفتنة والاقتتال وسفك الدماء.
إخراجُ الأرضِ كنوزَهَا المخبوءة
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قَتَلْت! ويجيء القاطع، فيقول: في هذا قَطَعْت رحمي، ويجيء السارق، فيقول: في هذا قُطِعَت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً "(1) .
وهذه آية من آيات الله، حيث يأمر الحقُّ الأرض أن تخرج كنوزها المخبوءة في جوفها، وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الكنوز (بأفلاذ الكبد) ، وأصل الفلذ ((القطعة من كبد البعير، وقال غيره: هي القطعة من اللحم، ومعنى الحديث: التشبيه، أي: تخرج ما في جوفها من القطع المدفونة فيها، والأسطوان جمع أسطوانة، وهي السارية والعمود، وشبهه بالأسطوان لعظمته وكثرته " (2) .
وعندما يرى الناس كثرة الذهب والفضة يزهدون فيه، ويألمون لأنهم ارتكبوا الذنوب والمعاصي في سبيل الحصول على هذا العرض التافه.
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها، حديث رقم (1013) /701) .
(2)
شرح النووي على مسلم: (18/98) .
محاصَرة المسلمين إلى المدينَة
من أشراط الساعة أن يهزم المسلمون، وينحسر ظلهم، ويحيط بهم أعداؤهم ويحاصرونهم في المدينة المنورة.
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك المسلمون أن يُحَاصروا إلى المدينة، حتى يكون أبعد مَسالحهم سَلَاحٌ "(1) .
والمسالح، جمع مَسْلَحة، وهي الثغر، والمراد أبعد مواضع المخافة من العدو.
وسَلَاح، موضع قريبٌ من خيبر (2) .
(1) حديث صحيح، رواه أبو داود والحاكم، صحيح الجامع:(6/363) ورقم الحديث: (8033) .
(2)
سنن أبي داود (4251) .
إحراز الجهجَاه الملك
الجهجاه رجل من قحطان سيصير إليه الملك، وهو شديد القوة والبطش، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه " رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: " لا تذهب الأيام والليالي، حتى يملك رجل يقال له الجهجاه "(1) .
ويحتمل أن يكون هذا الذي في الرواية الأخيرة غير الأول، فقد صَحَّ في سنن الترمذي عن أبي هريرة أن هذا الجهجاه من الموالي، ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يذهب الليل والنهار حتى يملك رجل من الموالي يقال له الجهجاه "(2) .
والمراد بكونه يسوق الناس بعصاه أنه يغلب الناس فينقادون له ويطيعونه، والتعبير بالسوق بالعصا للدلالة على غلظته وشدته، وأصل الجهجاه الصيَّاح، وهي صفة تناسب العصا كما يقول ابن حجر (3) ، وهل يسوق هذا الرجل الناس إلى الخير أم الشر؟ ليس عندنا بينا من الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك.
(1) رواه البخاري في كتاب الفتن، باب تغير الزمان، فتح الباري:(13/76) .
(2)
انظر صحيح الجامع الصغير: (6/230) حديث رقم: (7561) .
(3)
فتح الباري: (13/78) .
فتنَة الأحلاس وَفتنَة الدَهماء، وفتنَة الدهيماء
عن عبد الله بن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قعوداً نذكر الفتن، فأكثر من ذكرها، حتى ذكر فتنة الأحلاس، فقال قائل: وما فتنة الأحلاس؟ قال: هي فتنة هرب وحَرَب، ثمَّ فتنة السراء، دخلها أو دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي، يزعم أنه مني، وليس مني، وإنما وليي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كَوَرِك على ضِلَع، ثم فتنة الدهيماء، لا تدع أحداً من هذه الأمة إلا لطمته، فإذا قيل انقطعت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، إذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد " (1) .
والأحلاس جمع حلس، وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب، شبهت به الفتنة لملازمتها للناس حين تنزل بهم كما يلازم الحلس ظهر البعير، وقد قال الخطابي: يحتمل أن تكون هذه الفتنة شبهت بالأحلاس لسواد لونها وظلمتها.
والحَرَب بفتح الراء: ذهاب المال والأهل، يقال: حَرِب الرجل فهو حريب فلان إذا سلب ماله وأهله.
والسراء النعمة التي تسر الناس من وفرة المال والعافية، وأضيفت الفتنة إليها لأن النعمة سببها، إذ إن الإنسان يرتكب الآثام والمعاصي بسبب ما يتوفر له
(1) حديث صحيح، أخرجه أبو داود والحاكم وأحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني (2/702) ، حديث رقم (974) .
من الخير.
وقوله: " كورك على ضلع " هذا مثل للأمر الذي لا يستقيم ولا يثبت، لأن الورك لا يتركب على الضلع ولا يستقيم معه.
والدهيماء: الداهية التي تدهم الناس بشرها.
خروُج المَهدي
المطلب الأول
النصوص المعرِّفة بالمهدي
ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله تبارك وتعالى يبعث في آخر الزمان خليفة يكون حكماً عدلاً، يلي أمر هذه الأمة من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم من سلالة فاطمة، يوافق اسمه اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه اسم أبي الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وصفته الأحاديث بأنه أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض عدلاً، بعد أن ملئت جوراً وظلماً، ومن الأحاديث التي وردت في هذا:
1-
عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي " رواه الترمذي وأبو داود، وفي رواية لأبي داود: قال: " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلاً مني - أو من أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً "(1) .
2-
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي من عترتي من ولد فاطمة " رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم (2) .
(1) مشكاة المصابيح: (3/24)، وقال محقق المشكاة: إسناده حسن ورمز لراوية أبي داود بالصحة في صحيح الجامع الصغير: (6/70) حديث رقم: (5810) .
(2)
صحيح الجامع الصغير: (6/22) وقال الشيخ ناصر فيه: صحيح.
3-
عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة " رواه أحمد وابن ماجة (1) .
4-
عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً " رواه أحمد وأبو داود (2) .
5-
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، يملك سبع سنين " رواه أبو داود (3) .
6-
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتملأن الأرض جوراً وظلماً، فإذا ملئت جوراً وظلماً، بعث الله رجلاً مني، اسمه اسمي، فيملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً " أخرجه البزار وابن عدي في الكامل، وأبو نعيم في أخبار أصبهان، والحاكم، ورواه الإمام أحمد، وابن حبان والحاكم، وأبو نعيم في الحلية عن أبي سعيد يرفعه بلفظ:" لا تقوم الساعة حتى تملأ ظلماً وجوراً وعدواناً، ثم يخرج رجل من عترتي، أو من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً "، وقد قال الحاكم في إسناد هذه الرواية:" صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي، وأشار أبو نعيم إلى تصحيحه.
وروى هذا الحديث الحاكم أيضاً عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ: " يخرج في
(1) صحيح الجامع: (6/22)، وقال فيه الشيخ ناصر الدين الألباني: صحيح. وقال الشيخ شعيب: إسناده ضعيف، انظر ((مسند أحمد)) :(2/74) حديث رقم (645) طبعة مؤسسة الرسالة.
(2)
وهو حديث صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير:(5/71) ، حديث رقم (5181) .
(3)
مشكاة المصابيح: (3/24) حديث رقم (5454) ، وإسناده حسن كما قال محقق المشكاة.
أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثمانياً يعني حججاً "، وصححه الحاكم والذهبي وابن خلدون.
ورواه أصحاب السنن وكذا الطبراني في الأوسط والكبير، وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان، ولفظه عند أبي داود:" لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني، أو من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض عدلاً.. " الحديث (1) .
المطلب الثاني
مرتبة أحاديث المهدي من الصحة
قال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ما ملخصه: " أمر المهدي معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة، بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها، وتواترها معنوي، لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها، ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق، وهو محمد بن عبد الله العلوي الحسني من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهذا الإمام من رحمة الله عز وجل بالأمة في آخر الزمان، يخرج فيقيم العدل والحق، ويمنع الظلم والجور، وينشر الله به لواء الخير على الأمة عدلاً وهداية وتوفيقاً وإرشاداً للناس.
(1) لخصت هذا التحقيق القيم من كلام الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله، وإن شئت أن تتطلع على تمام كلامه فيه فارجع إلى سلسلة الأحاديث الصحيحة:(4/38)، حديث رقم:(1529)، وانظر أيضاً سلسلة الأحاديث الصحيحة:(2/336)، حديث رقم:(711) .
وقد اطلعت على كثير من أحاديثه فرأيتها كما قال الشوكاني وغيره، وكما قال ابن القيم وغيره: فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف المنجبر، وفيها أخبار موضوعة، ويكفينا من ذلك ما استقام سنده، سواء كان صحيحاً لذاته أو لغيره، وسواء كان حسناً لذاته أو لغيره، وهكذا الأحاديث الضعيفة إذا انجبرت وشدَّ بعضها بعضاً، فإنها حجة عند أهل العلم..، والحق أن الجمهور من أهل العلم - بل هو كالاتفاق - على ثبوت أمر المهدي، وأنه حق، وأنه سيخرج في آخر الزمان، أما من شذ عن أهل العلم في هذا الباب فلا يلتفت إلى كلامه في ذلك " (1) .
وقد أحصى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد عدد الصحابة الذين رووا أحاديث المهدي فبلغوا ستة وعشرين صحابياً، وأحصى كتب السنة التي أخرجت هذه الأحاديث، فبلغت ستة وثلاثين كتاباً فقد أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وغيرهم (2) .
وقد جمع هذه الأحاديث كثير من العلماء في مؤلفات خاصة، وبينوا طرقها وتكلموا على أسانيدها، منهم أبو بكر بن أبي خيثمة زهير بن حرب على ما ذكره ابن خلدون، ومنهم الحافظ أبو نعيم، ولخص الحافظ السيوطي ما أورده أبو نعيم في كتابه ((العرف الوردي في أخبار المهدي)) وزاد عليه، وهو مطبوع في ضمن كتابه الحاوي للفتاوي، ومنهم الحافظ ابن كثير أفرد في ذكر المهدي جزءاً على حدة كما
(1) كلام الشيخ مثبت في كتاب: الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي لعبد المحسن بن حمد العباد، ص 157.
(2)
عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر لعبد المحسن بن حمد العباد وهو مطبوع مع الكتاب السابق ذكره: ص 166-168.
نص عليه في كتابه الفتن والملاحم، ومنهم ابن حجر المكي ألف كتاباً سماه:((القول المختصر في علامات المهدي المنتظر)) ، ومنهم المتقي الهندي صاحب كنز العمال، ومُلا علي قاري، وسمى مؤلفه ((المشروب الوردي في مذهب المهدي)) ، ومنهم مرعي بن يوسف الحنبلي، والصنعاني وغيرهم (1) .
وقد نص على صحة أحاديث المهدي جمع كبير من نقاد الحديث وأئمته منهم: الحاكم، والذهبي، وأبو نعيم، وابن العربي المالكي، والقرطبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وغيرهم (2) ، ولذلك لا يلتفت لمن ضعف هذه الأحاديث أو كذب بها، ممن ليس من فرسان هذا العلم.
المطلب الثالث
عقائد الفرق الإسلامية في المهدي
1-
أما عقيدة أهل السنة والجماعة فهي موافقة لما سقناه من الأحاديث الصحيحة، وأن المهدي حاكم صالح راشد يبعثه الله مجدداً لهذا الدين ويعلي الله هذا الدين على يديه.
يقول ابن خلدون: " اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط
(1) المصدر السابق: ص 168.
(2)
انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/40-41) .
الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته " (1) .
2-
عقيدة الشيعة الإمامية الذين يعتقدون أن المهدي هو آخر أئمتهم، وهو الإمام الثاني عشر المدعو بمحمد بن الحسن العسكري وهو عندهم من ولد الحسين بن علي، لا من ولد الحسن، وهم يعتقدون أنه دخل سرداب سامراء منذ أكثر من ألف ومائة سنة وعمره خمس سنوات، ويعتقدون أنه حاضر في الأمصار، غائب عن الأبصار، وهو المهدي الذي ينتظرون عودته، وكلامهم هذا لم يقم عليه دليل ولا برهان من عقل أو نقل، وهو مخالف لسنة الله في البشر، ومخالف لمنطق العقول، ثم ما الداعي للغيبة إذا كان حياً، بل كان الواجب عليه أن يخرج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
3-
المكذبون بوجود المهدي، وهؤلاء أفراد من الذين ينسبون لأهل السنة، ليس لهم باع طويل في تحقيق النصوص، والكشف عن الأسانيد، وقد دحض شبهاتهم كثير من أهل العلم في مؤلفات مستقلة، وآخرها فيما اطلعنا عليه ما كتبه فضيلة الشيخ العلامة عبد المحسن العباد في كتابه:((الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي)) (2) . وما كتبه فضيلة الشيخ حمود بن عبد الله بن حمد التويجري، كتب مجلداً بعنوان ((الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر)) (3) .
(1) المقدمة، لابن خلدون: ص 555، ويحسن أن ننبه هنا أن ابن خلدون ضعف أكثر الأحاديث الدالة على وجوده، ولم يصب فيما ذهب إليه، ولكن لا يجوز أن يقال إن ابن خلدون لا يقول بوجود المهدي، فإنه صحح بعض هذه الأحاديث، فقد قال بعد سياقه للأحاديث ومناقشته لها ص 574 " وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلا القليل أو الأقل منه " وهذا القليل كاف لإثبات القول به.
(2)
مطبوع، طبعته مطابع الرشيد في المدينة المنورة.
(3)
مطبوع، نشرته الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد - السعودية.
4-
رجال من الحكام الماضين ادعوا المهدية أو ادعاها لهم أقوام، وبعض هؤلاء رجال صالحون لقب الواحد منهم بالمهدي، لا على أنه ذلك المهدي الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، بلا تفاؤلاً بأن يكون من الأئمة المهديين، الذين يقولون بالحق، وبه يحكمون، ومن هؤلاء المهدي الخليفة العباسي. وبعض الذين ادعوا المهدية من الحكام أو ادعيت لهم أقوام فجرة، مثل الملحد عبيد الله بن ميمون القداح المولود عام 259هـ والمتوفى سنة 322هـ، وكان جده يهودياً ينسب إلى بيت مجوسي، انتسب زوراً وكذباً إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعى أنه المهدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وملك وتغلب، واستفحل أمره، واستولت ذريته على بلاد المغرب، ومصر، والحجاز، والشام، واشتدت غربة الإسلام ومحنته ومصيبته بهم، وكانوا يدعون الألوهية، ويدعون أن للشريعة باطناً وظاهراً.
وهم ملوك الرافضة القرامطة الباطنية أعداء الدين، تستروا بالرفض والانتساب كذباً لأهل البيت، ودانوا بدين الإلحاد وروجوه، ولم يزل أمرهم إلى أن أنقذ الله الأمة منهم بصلاح الدين الأيوبي، فاستنقذ الأمة منهم وأبادهم. ومن هؤلاء مهدي المغاربة محمد بن تومرت ولد سنة 485هـ وتوفي سنة 524هـ، وهو رجل كذاب ظالم متغلب، وكان قد ادعى أنه المهدي الموعود، كان يودع طائفة من أصحاب القبور، ويأمرهم بإخبار الناس أنه المهدي، ثم يردم عليهم القبور في الليل، وهم أحياء حتى لا يكشف أمره (1) .
5-
مهدي الفرقة المدعوة بالكيسانية، وهم يزعمون أن المهدي هو محمد ابن الحنفية وأنه حي مقيم بجبل رضوى، وأنه بين أسدين يحفظانه، وعنده عينان
(1) المنار المنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم: ص 153.
نضاختان تجريان بماء وعسل، فزعموا أنه دخل إليه ومعه أربعون من أصحابه، ولم يوقف لهم على خبر، قالوا: وهم أحياء يرزقون، ويقولون: إنه يعود بعد الغيبة، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، قالوا: وإنما عوقب بهذا الحبس لخروجه إلى عبد الملك بن مروان، وقيل إلى يزيد بن معاوية، وإلى هذا الاعتقاد أشار كثير عزة بقوله:
وسبط لا يذوق الموت حتى ××× يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زماناً ××× برضوى عنده عسل وماء
وكان السيد الحميري على هذا المذهب، وهو القائل:
ألا قل للإمام فدتك نفسي ××× أطلت بذلك الجبل المقاما (1)
فما أصغر عقول هؤلاء، وما أقل فهومهم، يصدقون ما لم يقم عليه دليل من عقل ولا نقل.
المطلب الرابع
وقت خروجه
يقول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: " قال ابن كثير في الفتن والملاحم: أظنه يكون عند نزول المسيح، والحديث الذي رواه الحارث بن أبي أسامة يرشد إلى هذا (2) ، ويدل عليه، لأنه قال: أميرهم المهدي، فهو يرشد إلى أنه يكون عند نزول عيسى ابن مريم، كما يرشد إليه بعض روايات مسلم، وبعض
(1) لوامع الأنوار البهية للسفاريني: (2/85) .
(2)
نص حديث جابر: " ينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم المهدي: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم أمير بعض تكرمة الله لهذه الأمة " قال ابن القيم بعد أن أورده في المنار المنيف: وهذا إسناد جيد.
الروايات الأخرى، ولكن ليست بالصريحة، فهذا هو الأقوم والأظهر، ولكنه ليس بالأمر القطعي " (1) .
روى مسلم في صحيحه عن ثلاثة من أمهات المؤمنين: أم سلمة، وحفصة، وعائشة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن جيشاً يقصد عائذاً يعوذ البيت فيخسف الله بذلك الجيش في بيداء من الأرض، ففي رواية أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم، فقلت: يا رسول الله، فكيف بمن كان كارهاً، قال: يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته "(2) .
وفي رواية حفصة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليومن هذا البيت جيش يغزونه، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم، وينادي أولهم آخرهم، ثم يخسف بهم، فلا يبقى إلا الشريد، الذي يخبر عنهم "، وفي رواية:" سيعوذ بهذا البيت قوم لست لهم منعة ولا عدد، ولا عدة.. " الحديث (3) .
وفي رواية عائشة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم عبث في منامه، قالت: فقلنا: يا رسول الله: صنعت في منامك شيئاً لم تكن تفعله، فقال: العجب أن ناساً من أمتي يؤمون برجل من قريش، قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم، فقلنا: يا رسول الله، إن الطريق قد يجمع الناس، قال: نعم، فيهم
(1) الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي: ص 160.
(2)
رواه مسلم في صحيحه (4/2208) حديث رقم (2882) .
(3)
رواه مسلم في صحيحه (4/2209) حديث رقم (2883) .
المستبصر والمجبور وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى " (1) .
فهل هذا الخارج العائذ بالبيت الذي يؤيده الله بنصره، والذي يهلك الله من يقصده بالأذى هو المهدي الذي سبق ذكره في الأحاديث؟ ليس عندنا ما يدل على ذلك صراحة، حسب ما نعلم، والله أعلم بالصواب.
المطلب الخامس
هل المهدي هو الخليفة الذي يحثو المال حثواً
وقد ورد في الأحاديث ذكر خليفة يكثر الخير في زمانه حتى إنه يحثو المال حثواً، ولا يعده عداً، فهل هو المهدي أو غيره؟ الله أعلم بحقيقة ذلك.
روى مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثواً "(2) .
ورواه عن أبي سعيد أيضاً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خلفائكم خليفة يحثو المال حثياً، لا يعده عداً "(3) .
(1) رواه مسلم في صحيحه (4/2210) حديث رقم (2884) .
وقد ورد الحديث السابق الذي روته أمهات المؤمنين بألفاظ متقاربة في كثير من كتب السنة كمسند أحمد، ومسند أبي يعلى، ومستدرك الحاكم، وابن ماجة والترمذي، والطبراني في الأوسط وغيرهم.
(2)
رواه مسلم في صحيحه (4/2234) ، حديث رقم (2913) .
(3)
رواه مسلم في صحيحه: (4/2235)، حديث رقم:(2914) .
العلامَات الكبرَى
تمهيد: ترتيب العلامات الكبرى حسب وقوعها:
هناك علامات كبرى تدل على قرب قيام الساعة، فإذا ظهرت كانت الساعة على إثرها، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر (1)، فقال:" ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ".
فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم " (2) .
والآيات الكبرى متتابعة في وقوعها، لا يكاد يفصل بينها فاصل زمني، وهي تشبه في تتابعها إذا وقعت العقد إذا انقطع سلكه الذي ينتظم حياته، فإن الحبة
(1) اطلاعه عليهم لأنه كان في غرفة فوقهم، جاء ذلك مبيناً في رواية أخرى في صحيح مسلم.
(2)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب في الآيات التي تكون قبل الساعة، (4/2225)، حديث رقم:(2901) ، وعزاه في جامع الأصول إلى أبي داود والترمذي أيضاً.
الأولى تسقط فتتبعها بقية الحبات بلا تأخير، روى الحاكم بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأمارات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضاً "(1) .
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن وقوع الحرب الكبرى بين المسلمين والروم وهي التي سماها الملحة ستكون أولاً، ثم يفتح المسلمون القسطنطينية، ثم يخرج الدجال، روى معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال " رواه أبو داود (2) .
ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأحداث تقع متتابعة متوالية، وسيظهر للقارئ وهو يتابع كتابنا هذا كيف أن المسلمين في ذلك الزمان يشتبكون مع الروم في معركة كبرى، هي التي سماها الرسول صلى الله عليه وسلم بالملحمة، وبعد انتصارهم عليهم يفتحون القسطنطينية، ثم يخرج الدجال.
وبعد خروج الدجال ينزل عيسى ويقتل الدجال، ثم يخرج يأجوج ومأجوج في زمن عيسى، ويهلكهم الله في زمنه، والترتيب إلى هنا واضح ظاهر.
أما بقية الآيات فإن ترتيبها ليس واضحاً تماماً، نعم، خروج الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض، وخروج النار التي تحشر الناس، تكون بالتأكيد بعد خروج الدجال ونزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج، ولكن أيها يسبق الآخر، أعني: طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة وحشر النار للناس.
(1) وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وقال الألباني: وهو كما قالا: سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/361)، ورقم الحديث:(1762) .
(2)
مشكاة المصابيح: (3/17)، ورقم الحديث:(5425) ، وإسناده حسن كما قال محقق المشكاة.
إن الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة صريح في أن خروج النار التي تحشر الناس من اليمن هي آخر الآيات، فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الآيات العشر الكبرى، وقال في الآية العاشرة وهي النار:" وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم "(1) .
وتبقى ست آيات: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدخان، والخسوف الثلاثة: الخسف الذي بالمشرق، والآخر الذي بالمغرب، والثالث الذي بجزيرة العرب، أما طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، فتكونان بعد نزول عيسى وقتله الدجال، وإهلاك يأجوج ومأجوج في عهده، وبعد فساد الناس ودروس الإسلام وقبل خروج النار التي تحشر الناس، ولكن أيهما أسبق: خروج الشمس، أم خروج الدابة؟ ذلك ما لا نستطيع الجزم به بسبب عدم جزم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريباً "(2) .
ولا يجوز الاستدلال بهذا الحديث على أن طلوع الشمس يكون قبل خروج الدجال ونزول عيسى وخروج يأجوج ومأجوج، لقوله: أول الآيات خروجاً طلوع الشمس.. " فالذي يترجح من الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة
(1) رواه مسلم في صحيحه، (4/2225)، ورقمه:(2901) .
(2)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب في خروج الدجال، (4/2260)، ورقم الحديث:(2941) .
بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب " (1) .
" قال الحاكم أبو عبد الله: الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه "(2) .
أما بقية الآيات، وهي الخسوف الثلاثة، والدخان - فإننا لا ندري ما ترتيبها في الآيات العظام، فلم نَرَ من النصوص الصحيحة ما يحدد ذلك، فالله أعلم بحقيقته.
(1) فتح الباري: (11/353) .
(2)
فتح الباري: (11/353) .
الدخَان
من الآيات الكبرى التي تقع قبيل الساعة الدخان، قال تعالى:(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ - يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الدخان: 10-11] ، ومما يدل دلالة صريحة على أن الدخان من العلامات الكبرى ما رواه مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري، قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذكرون؟ قلنا: نذكر الساعة، قال:" إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم "(1) .
وابن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه الآية مضت وانقضت، فقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق، قال: كنا عند عبد الله جلوساً، وهو مضطجع بيننا، فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن إن قاصاً يقص عند أبواب كندة، ويزعم أن آية الدخان تجيء، فتأخذ بأنفاس الكفار. ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله، وجلس وهو غضبان: يا أيها الناس، اتقوا الله، من علم منكم شيئاً، فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم، فليقل: الله أعلم، فإنه أعلم لأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا
(1) رواه مسلم: (4/2225) حديث رقم: (2901) .
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86] .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً، فقال:" اللهمّ سبع كسبع يوسف " قال: فأخذتهم سنة حصَّت (1) كل شيء، حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وينظر إلى السماء أحدهم فيرى كهيئة الدخان، فأتاه أبو سفيان فقال: يا محمد، إنك جئت تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، قال الله عز وجل:(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ - يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الدخان: 10-11] إلى قوله: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ)[الدخان: 15]، قال: أفيكشف عذاب الآخرة: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ)[الدخان: 16] فالبطشة الكبرى يوم بدر، وقد مضت آية الدخان، والبطشة، واللزام، وآية الروم (2)(3) . فابن مسعود يرى أنها قد مضت وانقضت، واستدل على ذلك بأن العذاب الذي يقع بالكافرين في الآخرة لا يكشف عنهم، والآية تنص أن الله رافع عنهم العذاب قليلاً، وذهب مذهب ابن مسعود جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير (4) .
وقد رجح ابن كثير أن آية الدخان لم تأت بعد، وأورد في ذلك حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه.
(1) السنة القحط، وحصت: استأصلت.
(2)
آية اللزام يشير بها إلى قوله تعالى: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)[الفرقان: 77] .
وآية الروم يريد بها قوله تعالى: (الم - غُلِبَتِ الرُّومُ - فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ)[الروم: 1-3] .
(3)
رواه مسلم: (4/2157) ، حديث رقم (2798) ، وقال ابن كثير في تفسيره (6/246) هذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه أحمد وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما.
(4)
تفسير ابن كثير: (6/247) .
والثانية: الدابة. والثالثة: الدجال " رواه ابن جرير. ورواه الطبراني وإسناده جيد.
وذكر ابن كثير أن القول بأن آية الدخان لم تأت بعد هو قول علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس والحسن البصري (1)، واستدل ابن كثير على ما ذهب إليه بأمور:
1-
الأحاديث الصحيحة والحسنة الواردة في الموضوع الدالة على أن الآية لم تأت بعد.
2-
قوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ)[الدخان: 10] أي بين واضح يراه كل أحد، وليس خيالاً كما ذهب إليه ابن مسعود.
3-
قوله تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين، لما قيل فيه:(يَغْشَى النَّاسَ)(2) .
وقال النووي في شرحه على مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم: " لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان
…
": " هذا الحديث يؤيد قول من قال: إن الدخان يأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، وأنه لم يأت بعد، وإنما يكون قريباً من قيام الساعة، وقد سبق في كتاب بدء الخلق قول من قال هذا، وإنكار ابن مسعود عليه، وأنه إنما هو عبارة عما نال قريشاً من القحط، حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان، وقد وافق ابن مسعود جماعة، وقال بالقول الآخر حذيفة وابن عمر والحسن، ورواه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوماً، ويحتمل أنهما دخانان للجمع بين هذه الآثار " (3) .
(1) تفسير ابن كثير: (6/248) .
(2)
تفسير ابن كثير: (6/247) .
(3)
شرح النووي على مسلم: (18/27) .
فتنَة الدجَّال
المطلب الأول
فتنة الدجال أعظم فتنة في تاريخ البشر
فتنة الدجال تقع في آخر الزمان، وهي إحدى أشراط الساعة الكبرى، وفتنته من أعظم الفتن التي تمر على البشرية عبر تاريخها، ففي صحيح مسلم عن أبي الدهماء وأبي قتادة، قالوا: كنا نمر على هشام بن عامر، نأتي عمران بن حصين، فقال ذات يوم: إنكم لتجاوزوني إلى رجال، ما كانوا بأحضرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أعلمَ بحديثه مني، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما بين خلقِ آدمَ إلى قيام الساعة خلقٌ أكبرُ من الدجال "، وفي رواية:" أمرٌ أكبرُ من الدجال "(1) . من أجل ذلك فإن جميع الأنبياء حذروا أقوامهم من فتنة، ولكن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان أكثر تحذيراً لأمته منه.
ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال:
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب في بقية من أحاديث الدجال، (4/2266)، حديث رقم:(2946) .
" إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه، إنه أعور وإن الله ليس بأعور "(1) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب كافر "(2) .
وفي سنن الترمذي وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الدجال:" إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذره قومه، ولقد أنذره نوح قومه، ولكني سأقول فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور "(3) .
وفي سنن ابن ماجة وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض، منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم فتنة من الدجال، وإن الله عز وجل لم يبعث نبياً إلا حذر أمته من الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة "(4) .
(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/90) .
(2)
صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/91) ، ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال وصفة ما معه:(4/2248)، حديث رقم:(2933) .
(3)
انظر جامع الأصول: (10/356)، حديث رقم:(2848) ، والسياق للترمذي.
(4)
صحيح الجامع الصغير: (6/273) ، ورقمه (7752) وإسناده صحيح.
المطلب الثاني
السِّر في تسميته بالمسيح الدَّجال
يقول ابن الأثير: " سمي الدجال مسيحاً، لأن عينه الواحدة ممسوحة، والمسيح: الذي أحد شقي وجهه ممسوح، لا عين له ولا حاجب، فهو فعيل بمعنى مفعول، بخلاف المسيح عيسى ابن مريم، فإنه فعيل بمعنى فاعل، سمي به، لأنه كان يمسح المريض فيبراً بإذن الله، والدجال: الكذاب "(1) وسمي دجالاً - كما يقول ابن حجر - " لأنه يغطي الحق بباطله، ويقال: دجل البعير بالقطران إذا غطاه، والإناء بالذهب إذا طلاه..، وقال ابن دريد: سمي الدجال، لأنه يغطي الحق بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض،.. وقيل: بل قيل ذلك، لأنه يغطي الأرض "(2) .
المطلب الثالث
حال المسلمين في العصر الذي يخرج فيه الدجال
قبيل خروج الدجال يكون للمسلمين شأن كبير، وقوة عظيمة، ويبدو أن خروجه إنما هو للقضاء على تلك القوة، ففي ذلك الوقت يصالح المسلمون الروم، ويغزون جميعاً عدواً مشتركاً فينصرون عليه، ثم تثور الحرب بين المسلمين والصليبين، ففي سنن أبي داود عن ذي مخبر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنت وهم عدواً من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول، فيرفع
(1) جامع الأصول، لابن الأثير:(4/204)، وانظر (لسان العرب) مادة: مسح.
(2)
فتح الباري: (11/91) .
رجل من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة، وزاد بعضهم:" فيثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة "(1) .
فأنت ترى قوة المسلمين في ذلك الوقت، حيث إنهم يغزون وينصرون ويغنمون ويرجعون سالمين، وترى إلى أي مدى هم متمسكون بدينهم، فإن ذلك الصليبي عندما يرفع الصليب زاعماً أن الانتصار الذي شارك المسلمون في تحقيقه كان للصليب، يقوم مسلم غيور على دينه فيدق ذلك الصليب ويكسره، وتثور العصابة التي تكون في ذلك الموقع من المسلمين إلى سلاحهم، ويقاتلون الروم - على الرغم من قلتهم في ذلك الموقع، ويشهد الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم شهداء، وأن الله أكرمهم بذلك، ويكون غدر الروم ذلك، وما جرى بعده سبباً في وقوع الملحمة.
الملحمة وفتح القسطنطينية:
والملحمة معركة كبيرة هائلة تقع بين المسلمين والصليبيين (2) ، وسببها هو السبب الذي أشار إليه الحديث السابق، وقد جاء أكثر من حديث يصف هذه المعركة وهولها، وكيف يكون صبر المسلمين فيها، ثم يكون النصر لهم على
(1) مشكاة المصابيح: (3/18)، حديث رقم:(5428)، وقال محقق المشكاة الشيخ ناصر الدين الألباني: إسناده صحيح.
(2)
تدل الأحاديث النبوية أن الروم يكونون في آخر الزمان أكثر الناس عدداً، ففي مسند أحمد وصحيح ومسلم عن المستورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" تقوم الساعة والروم أكثر عدداً " صحيح الجامع الصغير: (3/51) .
أعدائهم، ويلاحظ أنه يكون في صفوف المسلمين أعداد كبيرة من النصارى الذين أسلموا وحسن إسلامهم، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق (1) ، فيخرج لهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا، والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث، لا يفتنون أبداً، فيفتتحون قسطنطينية (2) ، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشأم خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فَأَمَّهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته "(3) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر عن هول تلك المعركة، وعن الفدائية التي تكون في صفوف المسلمين، حتى إن مجموعات من المسلمين يتبايعون على القتال حتى النصر أو الموت ثلاثة أيام متوالية، ويبدو أن أعداد المسلمين في تلك الأيام قليلة، بدليل أن المسلمين ينتصرون عندما يصلهم المدد من بقية أهل الإسلام، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود، قال: " إن الساعة لا تقوم، حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرح بغنيمة، ثم قال بيده هكذا (ونحاها
(1) موضعان بالشام قرب حلب.
(2)
هذا فتح آخر غير الذي تم على يد محمد الفاتح.
(3)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب فتح القسطنطينية، (4/2221) رقم الحديث:(2897) .
نحو الشام) ، فقال: عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام (1)، قلت: الروم تعني؟ (2) قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال رَدَّةٌ شديدة، فيشترك المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب، وتفنى الشُّرْطة، ثم يشترط المسلمون شُرْطة للموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون، حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب، وتفنى الشُّرْطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب، وتفنى الشرطة.
فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم، فيقتلون مقتلة - إما قال: لا يرى مثلها، وإما قال: لم ير مثلها - حتى إن الطائر ليمر، بجنباتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتاً، فيتعاد بنو الأب كانوا مائة، فلا يجدونه بقي إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح؟ أو أي ميراث يقاسم؟ فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس، هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ، إن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، فيبعثون عشرة فوارسَ طليعةً، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خيرُ فوارسَ على ظهر الأرض يومئذٍ، أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ "(3) .
وفتح القسطنطينية المذكور في حديث الملحمة الذي سقناه أولاً جاء عنه شيء من التفصيل في حديث مسلم الذي يرويه أبو هريرة أيضاً، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(1) أي للحرب والقتال، وهذا إنما يكون بعد غدر الروم المشار إليه في الحديث السابق.
(2)
القائل هو راوي الحديث عن عبد الله بن مسعود، وهو يسير بن جابر.
(3)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس، (4/2223) ورقمه:(2899) .
" سمعتم بمدينة جانب منها في البر، وجانب منها في البحر (1) قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق (2) فإذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيا ".
قال ثور (3) : لا أعلمه إلا قال: " الذي في بحر، ثم يقولون الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم، فيدخلوها، فيغنموا، فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء ويرجعون "(4) .
(1) ذهب العلماء إلى أن هذه المدينة هي القسطنطينية، وإن لم يسمها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد خطر ببالي أن هذه المدينة قد تكون البندقية في إيطاليا، فإن جزءاً كبيراً من بيوتها مبني في داخل البحر، وجزء في البر، وقد نظرت إلى المدينتين خلال زيارتي لكل واحدة منهما فرأيت البندقية أقرب إلى المراد بالحديث، والله أعلم.
(2)
يقول النووي في شرحه على مسلم (18/44) : " قال القاضي: كذا هو في جميع أصول صحيح مسلم من بني إسحاق، قال: قال بضهم المعروف المحفوظ من بني إسماعيل وهو الذي يدل عليه الحديث وسياقه لأنه إنما أراد العرب.. " أقول وليس في هذا إشكال إن شاء الله تعالى، فإن هذا الدين للناس جميعاً، والله يعطي ملكه من يشاء، فقد غزا محمد الفاتح القسطنطينية بعد النووي بأكثر من ثلاثمائة سنة، وكان جنوده أكثرهم من غير العرب، فلا يستبعد أن يحصل مثل هذا مرة أخرى، وفي حديث الملحمة السابق ما يدل عليه، فإن الروم يقولون للمسلمين: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا.
(3)
هو ثور بن زيد الديلي، أحد رواة الحديث.
(4)
رواه مسلم، كتاب الفتن، (4/2238)، ورقمه:(2920) .
المطلب الرابع
القحط والمجاعة قبل خروج الدجال
يبتلى الناس قبيل خروج الدجال بلاءً شديداً، فتمنع السماء القطر، وتحبس الأرض النبات، ففي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" إن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله، فلا تنبت خضراء، فلا يبقى ذات ظلف، إلا هلكت إلا ما شاء الله. قيل: فما يُعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال: التهليل، والتكبير، والتحميد، ويجزئ ذلك عليهم مجزأة الطعام "(1) .
المطلب الخامس
صفات الدجال وعلاماته
يدعي الدجال الربوبية، ويأتي من الأعمال الخارقة ما يروّج به باطله، حتى إن الرجل يأتيه ظاناً أن أمره لن يخفى عليه، وأن باطله لن يروج عليه، فعندما يرى ما عنده من مخاريق يتبعه، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل
(1) صحيح الجامع: (6/277) ورقمه: (7752) .
ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات " (1) .
ومن نظر في أمر الدجال نظر معتبر علم يقيناً أنه مبطل، وأن صفات الربوبية غير متحققة فيه، فهو بشر مسكين عاجز على الرغم مما يجري على يديه، يأكل ويشرب وينام، ويتبول ويتغوط، ومن كان هذا حاله كيف يكون إلهاً معبوداً، ورباً للكائنات وهو محتاج إليها!!
ومع وضوح ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا شيئاً كثيراً عن صفاته وأحواله كي يعرفه المؤمنون الذين يخرج في عصرهم، وكي يستطيعوا مواجهته ولا يغتروا بباطله.
صفات عامة:
وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاً يبرز شخصيته ويحدد معالم جسمه، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الدجال في الرؤيا، وجاء في وصفه له: " رجل جسيم، أحمر، جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عنبة طافية،
…
أقرب الناس به شبهاً ابن قطن من خزاعة " (2) .
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت أن لا تعقلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير، أفحج، جعد، أعور، مطموس العين، ليست
(1) جامع الأصول: (10/354)، ورقم الحديث:(7846) .
(2)
صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/90) .
بناتئة ولا حجراء، فإن ألبس عليكم، فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربكم " (1) .
وفي صحيح ابن حبان، ومسند أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدجال أعور، هجان أزهر (وفي رواية: أقمر) ، كأن رأسه أصلة، أشبه الناس بعبد العزى بن قطن، فإمّا هَلَكَ الهُلَّك، فإن ربكم ليس بأعور "(2) .
أبرز صفاته:
1-
عَوَرُ الدَّجال
ركز الرسول صلى الله عليه وسلم على وصف عيني الدجال، لأن الدجال مهما تخلص من شيء من صفاته، فإنه لا يستطيع أن يتخلص من عينيه، والعينان ظاهرتان بارزتان يراهما كل أحد، وبهما صفات واضحة لا تخفى، فقد أشارت الأحاديث السابقة إلى عيوب في عينيه، أوضحها أنه أعور، وقد جاء في بعض الأحاديث أن العين العوراء هي اليمنى، وجاء في أحاديث أخرى أنها اليسرى، وكونها اليمنى أرجح، فأحاديثها مما اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وشبه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك العين بالعنبة الطافية، وفي حديث آخر وصف عينه اليمنى بكونها عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخاعة في حائط مجصص ".
(1) صحيح الجامع الصغير: (2/318)، ورقمه:(2455) ، والأفحج الذي به فحج وهي طريقة في المشي معروفة، سببها عيب في الخلقة، إما اعوجاج في الساقين، أو تباعد في الفخذين، أو غير ذلك، وقوله:" مطموس العين " ممسوحها كما جاء مبيناً في أحاديث أخرى، و "الحجراء": الغائرة.
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/190) ورقم الحديث: (1193)، وقال الشيخ ناصر فيه:" صحيح على شرط مسلم "، و " الهجان ": الأبيض، بمعناه الأزهر، وهذا لا ينافي كونه أحمر، فإن الأبيض يشرب بالحمرة، فيوصف بهذا وهذا، و " الأقمر " الذي لونه لون الحمار الأقمر، أي: الأبيض، و " أصلة " هي الحية العظيمة الضخمة. و " الهلك " جمع هالك، أي: فإن هلك بسببه كثير من الجهلة الضالين.. فإن ربكم ليس بأعور.
ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الدجال: " أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية "(1) .
وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: " وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى، كأنها نخاعة في حائط مجصص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري "(2) .
وهي مع ذلك ممسوحة كما سبق بيانه، ففي صحيح مسلم:" الدجال ممسوح العين "(3) .
وقد وجه النووي الروايات توجيهاً آخر، فهو يرى أن جميع الروايات التي وصفت عينيه كلتاهما بالعور روايات صحيحة، فالعور معناه في اللغة: العيب، وعينا الدجال معيبتان كلتاهما، فقد ورد أن العوراء هي اليمنى، وورد أن العوراء هي اليسرى، وورد أن إحداهما طافئة بالهمز، أي: لا ضوء فيها، وورد أن الأخرى طافية بلا همزة، أي ظاهرة ناتئة، فعيناه على ما حققه النووي إحداهما لا يرى بها لذهاب نورها وهذه ممسوحة غير ناتئة ولا غائرة، والأخرى لم يذهب نورها ولكنها معيبة بعيب آخر وهو ظهورها وبروزها (4) ، وقد جاء في إحدى الروايات عند مسلم أن العين التي ذهب ضوؤها وهي الممسوحة عليها ظفرة غليظة، " إن الدجال ممسوح العين، عليها ظفرة غليظة "(5) ، والظفرة الغليظة جلدة تغشى البصر، وقال الأصمعي: لحمة تنبت عند المآقي.
(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/90) ، ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، (4/2247) .
(2)
فتح الباري: (13/98) .
(3)
صحيح مسلم: كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2248)، ورقمه:(2933) .
(4)
راجع شرح النووي على مسلم: (18/61) .
(5)
صحيح مسلم، كتاب الفتن:(4/2249)، ورقم الحديث:(2934) .
وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم عينه التي يرى به، فقال:" الدجال عينه خضراء كالزجاجة " رواه أحمد وأبو نعيم بإسناد صحيح (1) .
2-
مكتوب بين عينيه كافر
وهناك علامة أعلم الله بها الدجال يعرفه بها المؤمنون دون غيرهم ممن طمس الله بصائرهم، وهذه العلامة كتابة بين عينيه نصها (ك ف ر) أو (كافر) ففي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب كافر "(2) .
وفي صحيح مسلم مثل رواية البخاري، إلا أنه قال:" مكتوب بين عينيه ": " ك ف ر "(3) وفي صحيح ابن خزيمة وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة: " وأنه مكتوب بين عينيه: كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب "(4) وفي صحيح مسلم: " إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله، أو يقرؤه كل مؤمن "(5) .
" والصحيح الذي عليه المحققون - كما يقول النووي رحمه الله تعالى - أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقة جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، ويظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/477)، ورقم الحديث:(1863) .
(2)
صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/90) .
(3)
رواه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، (4/2248) ، ورقم الحديث، (2933) .
(4)
صحيح الجامع: (6/274) ، ورقمه (7752) .
(5)
رواه مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر ابن صياد، (4/2245) .
وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته، ولا امتناع في ذلك، وذكر القاضي عياض فيه خلافاً، منهم من قال هي كتابة حقيقة كما ذكرنا، ومنهم من قال: هي مجاز، وإشارة إلى سمات الحدوث عليه، واحتج بقوله: يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب وهذا مذهب ضعيف " (1) .
3-
ليس له عقب
أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدجال " عقيم لا يولد له " رواه مسلم في صحيحه (2) .
المطب السادس
بطلان دعواه الربوبية
إذا كانت تلك صفات الدجال، وهي صفات بها نقص كبير، فكيف يصح لهذا المخلوق الضعيف دعوى الربوبية، إنه يدعي أنه رب الناس، ورب الناس لا يرى في الدنيا، يقول صلى الله عليه وسلم:" تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت "(3) ، ثم هو غير سويّ الخلقة، فيه عيوب لا تخفى، منها عوره، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينيه - وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية "(4) .
(1) شرح النووي على مسلم: (18/60) .
(2)
صحيح مسلم: (4/2242-2243) .
(3)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، (4/2245) .
(4)
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله:(ولتصنع على عيني) فتح الباري: (13/389) ز
ومن صفاته المعيبة في الأحاديث أنه أفحج، والفحج " تباعد ما بين الساقين " أو الفخذين، وقيل: تداني صدور القدمين، مع تباعد العقبين، وقيل: هو الذي في رجله اعوجاج " (1) .
وصدق ابن العربي في قوله: " في اختلاف صفات الدجال بما ذكر من النقص بيان أنه لا يدفع النقص عن نفسه كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه "(2) . ومراده أنه لو كان رباً لأزال النقص الذي في نفسه، فعدم إزالته دليل على أنه مربوب مقهور لا يستطيع أن يتخلص من عيوبه.
وتركيز الرسول صلى الله عليه وسلم على كونه أعور " لكون العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي، ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية "(3) ، وإلا فإن أصحاب العلم يمكن أن يدركوا أمره، ويصلوا إلى حقيقة دعواه.
المطلب السابع
إمكانات الدجال التي تسبب الفتنة
يدعي الدجال الألوهية، ويعطى من الإمكانات أموراً مذهلة تفتن الناس فتنة عظيمة، ومن ذلك:
1-
سرعة انتقاله في الأرض:
ففي حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن
(1) فتح الباري: (13/97) .
(2)
فتح الباري: (13/98) .
(3)
فتح الباري: (13/96) .
إسراع الدجال في الأرض، فقال:" كالغيث استدبرته الريح.. "(1) وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيجول في أقطار الأرض ولا يترك بلداً إلا دخله إلا مكة والمدينة، ففي حديث أنس في الصحيحين " ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة "(2) .
وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم: " وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه، وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة "(3) .
2-
جنته وناره:
ومما يفتن الدجال به الخلق أن معه ما يشبه الجنة والنار، أو معه ما يشبه نهراً من ماء، ونهراً من نار، وواقع الأمر ليس كما يبدو للناس، فإن الذي يرونه ناراً إنما هو ماء بارد، وحقيقة الذي يرونه ماء بارداً نار.
ففي صحيح مسلم عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " معه (أي الدجال) جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار "(4) .
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن حذيفة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدجال: " إن معه ماءً وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار " زاد في رواية مسلم: " فلا تَهْلِكوا "(5) .
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2252)، ورقمه:(2937) .
(2)
صحيح الجامع الصغير: (5/99)، ورقم الحديث:(5309) .
(3)
صحيح الجامع الصغير: (6/257)، ورقمه:(7752) .
(4)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، (4/2248) ، ورقم الحديث (2934) .
(5)
رواه البخاري في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/90) ، ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، (4/2249) ورقم الحديث:(2934) .
وفي رواية عند مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يَجْريان، أحدهما، رأي العين، ماءٌ أبيضُ، والآخر، رأي العين، نارٌ تأجج، فإما أدْركَنّ أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه، فإنه ماء بارد "(1) .
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن حذيفة أيضاً: " إن الدَّجال يَخْرج، وإن معه ماءً وناراً، فأما الذي يراه الناس ماءً فنارٌ تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً، فماءٌ بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً، فإنه ماء عذب طيب "(2) .
وواضح من النصوص أن الناس لا يدركون ما مع الدجال حقيقة، وأن ما يرونه لا يمثل الحقيقة بل يخالفها، ولذلك فقد جاء في بعض الأحاديث في صحيح مسلم:" وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول: إنها الجنة هي النار "(3) .
3-
استعانته بالشياطين:
لا شك أن للدجال استعانة بالشياطين، ومن المعلوم أن الشياطين لا تخدم إلا من يكون في غاية الإفك والضلال، والعبودية لغير الله، ففي سنن ابن ماجة وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك،
(1) رواه مسلم، كتاب الفتن باب ذكر الدجال، (4/2249)، ورقم الحديث:(2934) .
(2)
رواه مسلم، كتاب الفتن، (4/2250)(2935) .
(3)
رواه مسلم، كتاب الفتن، حديث رقم:(2936) .
أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بني اتبعه، فإنه ربك " (1) .
4-
استجابة الجماد والحيوان لأمره:
ومن فتنته التي يمتحن الله بها عباده أنه يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويدعو البهائم فتتبعه، ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب، ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فَتَرُوحُ عليهم سارحتُهُم، أطول ما كانت ذرىً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل "(2) .
5-
قتله ذلك الشاب ثم إحياؤه إياه:
ومن فتنته أنه يقتل ذلك المؤمن فيما يظهر للناس ثم يدعي أنه أحياه، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً عن الدجال، فكان فيما يحدثنا أنه قال: " يأتي الدجال - وهو مُحَرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة - فينزل بعض السِّباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خَيْرُ الناس، أو من خَيْر الناس، فيقول: أشهد أنك الدّجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدّجال، أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، هل تشكون في
(1) صحيح الجامع الصغير، (6/274)، ورقمه:(7752) .
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2252) ، ورقمه (2937) ويعاسيب النحل، هي ذكور النحل، وقيل: جماعة النحل.
الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدّجال أن يقتله، فلا يسلّط عليه " (1) .
ورواه مسلم عن أبي سعيد الخدري أيضاً بلفظ " يخرج الدجال، فيتوجه قِبَله رجل من المؤمنين، فتلقاه المسالح (2) : مسالح الدجال، فيقولون له: أين تَعْمِد؟ فيقول: أعَمِد إلى هذا الذي خرج. قال: فيقول له: أو ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم أن تقتلوا أحداً دونه؟ قال: فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن، قال: يا أيها الناس! هذا المسيح الدّجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فيأمر به الدّجال فيشبح (3) ، فيقول: خذوه وشجوه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، قال: فيقول: أو ما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الكذَّاب، قال: فيؤمر به فيؤشر بالمنشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه. قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً، قال: ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة. قال: ثم يقول: يا أيها الناس! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس. قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً، فلا يستطيع إليه سبيلاً. قال: فيأخذ بيديه ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أعظمُ الناس شهادة عند ربِّ العالمين " (4) .
(1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة، فتح الباري:(13/101) . ورواه مسلم في كتاب الفتن، باب صفة الدجال، (4/2256) ورقم الحديث:(2938) ولفظ الحديث للبخاري.
(2)
هم المراقبون والخفراء الذين يحملون السلاح في مراكز المراقبة.
(3)
يمد على بطنه.
(4)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب صفة الدجال، (4/2256)، ورقم الحديث:(2938) .
المطلب الثامن
مكان خروجه
يخرج الدجال من المشرق، من بلاد فارسية يقال لها: خراسان، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي وابن ماجة والحاكم وأحمد والضياء في المختارة، عن أبي بكر الصديق قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّ الدّجال يخرج من أرض بالشرق، يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرَّقة "(1) .
ولكن ظهور أمره للمسلمين يكون عندما يصل إلى مكان بين العراق والشام، ففي حديث في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان يرفعه:" إنه خارج خَلّةً بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا "(2) والخلة ما بين البلدين، كما يقول النووي.
المطلب التاسع
مدة مكثه في الأرض
سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدة التي يمكثها الدجال في الأرض، فقالوا:" وما لبثه في الأرض " قال: أربعون يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله: فذاك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره " أخرجه مسلم في
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (4/122) ورقم الحديث: (1591)، وقال الشيخ ناصر: وقال الحاكم صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2252) حديث رقم (2937) .
صحيحه وأبو داود في سننه، عن النواس بن سمعان (1) .
وإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤال الصحابة: هل تكفيهم خمس صلوات في الأيام التي هي كسنة أو كشهر أو أسبوع تدل على أن اليوم يطول حقيقة حتى يصبح سنة، أو شهراً أو أسبوعاً، وليس مجازاً.
المطلب العاشر
أتباع الدَّجال
المسيح الدَّجال الأعور الكذّاب هو الملك الذي ينتظر اليهود خروجه، ليحكموا العالم في عهده، ففي مسند أحمد عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" أكثر أتباع الدّجال اليهود والنساء "(2) . وفي حديث أنس بن مالك الذي رواه مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يتبع الدّجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً، عليهم الطيالسة "(3) .
ويذكر أبو نعيم أن إحدى القرى التابعة لمدينة أصبهان كانت تدعى: (اليهودية) ، لأنها كانت تختص بسكنى اليهود، ولم تزل كذلك إلى زمن أيوب بن زياد أمير مصر في زمن المهدي بن المنصور العباسي، فسكنها المسلمون، وبقيت لليهود منها قطعة " (4) .
(1) جامع الأصول: (10/345)، رقم الحديث:(7839)، وهي في مسلم في كتاب الفتن:(4/2252) ورقم الحديث (2137) .
(2)
مسند أحمد: (4/216-217) .
(3)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب في بقية من أحاديث الدجال، (4/2266) ورقم الحديث (2944) ، والطيالسة جمع طيلسان، والطيلسان أعجمي معرب، وهو ثوب يلبس على الكتف، يحيط بالبدن، ينسج للبس، خال من التفصيل والخياطة.
(4)
لوامع الأنوار البهية: (2/107) .
واسم الدجال عند اليهود المسيح بن داود، وهم يزعمون أنه يخرج آخر الزمان، فيبلغ سلطانه البر والبحر، وتسير معه الأنهار، وهم يزعمون أنه آية من آيات الله، يرد إليهم الملك (1) ، وقد كذبوا في زعمهم، بل هو مسيح الضلالة الكذّاب، وأما مسيح الهدى عيسى ابن مريم فإنه يقتل الدجال مسيح الضلالة كما يقتل أتباعه من اليهود.
المطلب الحادي عشر
حماية المدينة ومكة من الدجال
يقصد الدّجال المدينة المنورة فلا يستطيع دخولها، ذلك أن الله حمى مكة والمدينة من الدّجال والطاعون، ووكل حفظها إلى ملائكته، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة يرفعه:" على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدّجال "(2)، وروى البخاري أيضاً عن أنس يرفعه:" لا يدخل المدينة رعب المسيح، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان "(3) .
وفي سنن الترمذي، ومسند أحمد عن أبي هريرة " يأتي المسيح من قبل المشرق، وهمته المدينة، حتى إذا جاء دُبُر أحد تلقته الملائكة، فضربت وجهه قبل الشام، هنالك يهلك، هنالك يهلك " وقال الترمذي: حديث صحيح (4) .
(1) لوامع الأنوار البهية: (2/112) .
(2)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب لا يدخل الدجال المدينة. فتح الباري:(13/101) .
(3)
رواه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال. فتح الباري:(13/90) .
(4)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/372)، ورقمه:(1771)، وقال المحقق: وإسناده على شرط مسلم، وقد أخرجه مسلم مفرقاً في موضوعين.
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين، تحرسها، فينزل بالسبخة (1) ، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، يخرج إليه منها كل كافر ومنافق "(2) .
وفي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا مكة والمدينة، لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف، صلته، حتى ينزل عند الضريب الأحمر، عند منقطع السبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبيث منها، كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم الخلاص، قيل: فأين العرب يومئذ؟ قال: هم يومئذ قليل.."(3) .
المطلب الثاني عشر
طريقة النجاة منه
سبق أن بينا أن المسلمين قبيل خروج الدجال تكون لهم قوة كبيرة، ويخوضون حروباً هائلة، يخرجون منها منتصرين، فيأتي الدجال للقضاء على القوة الإسلامية التي تكون قد هزمت أقوى دولة في ذلك الوقت وهم الروم، ويكون المسلمون قد استعادوا القسطنطينية، وفتحوها، ويصرخ الشيطان بهم أن الدجال
(1) السبخة: الأرض الرملية التي لا تنبت لملوحتها، وبعض أراضي المدينة كذلك.
(2)
صحيح الجامع: (5/99)، ورقمه:(5306) .
(3)
صحيح الجامع الصغير: (6/275) ورقمه: (7752) .
قد خلفهم في ذراريهم، فيتركون الغنائم، ويعودون إلى ديارهم، ثم يخرج الدجال، فلا يضع المسلمون سلاحهم، ولذلك فإن عيسى عندما ينزل يجد المسلمين " يعدون العدة للقتال، ويسوون الصفوف "(1) . ولا شك أن على كل مسلم في ذلك الحين أن ينضم إلى القوة الإسلامية الحاملة لراية الجهاد في سبيل الله، وأن يثبت على الحق مهما اشتد البلاء، وهذا ما أوصانا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، وهو يحدثنا عن خروج الدجال، حيث يقول:" إنه خارجٌ خَلَّةً بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله اثبتوا "(2) .
ولا يجوز للمسلم أن يأتيه وإن كان واثقاً من نفسه، فإن معه من الشبهات ما يزلزل الإيمان، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه، مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات "(3) .
ولا بأس على الذين لا يطيقون مقاومته أن يفروا من طريقه، وهذا ما يفعله كثير من الناس في ذلك الزمان، ففي صحيح مسلم عن أم شريك، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليفرَّنَّ الناس من الدّجال في الجبال "(4) . فإن اضطر المؤمن إلى مواجهته، فعليه أن يقوم بالأمر، ويصدع بالحق، ويحسن الحجاج، ففي الحديث:" إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم " وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) رواه مسلم: (4/2221)، ورقمه:(2897) .
(2)
رواه مسلم: (2/2252) رقم الحديث: (2937) .
(3)
جامع الأصول: (10/354) ورقم الحديث: (7846) .
(4)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب في بقية أحاديث الدجال، (4/2266)، ورقم الحديث:(2944) .
من العلم ما يكشف عن بصيرتنا فيه، فهو جسم مرئي، يأكل ويشرب، والله لا يرى في الدنيا، والله منزه عن الطعام والشراب، وهو معيب العين، كما في الحديث:" إنه شاب قطط، عينه طافئة، كأني مشبهه بعبد العزى بن قطن "(1) ، ومن كان كذلك فإن دعواه الألوهية والربوبية كذب وافتراء ولا شك.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من أدركه أن يقرأ عليه فواتح سورة الكهف: " فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف "(2)، وفي حديث أبي أمامة: " وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنّة، وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستغث بالله، وليقرأ فواتح الكهف
…
" (3) وقد جاء في الأحاديث الصحيحة: " من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " (4) وجاء بعضها من أول سورة الكهف، وفي بعضها من آخر سورة الكهف.
وقد يقال: لم كانت قراءة فواتح سورة الكهف، وخواتمها أمان من الدجال؟
قال بعضهم: لأن الله أخبر في طليعة هذه السورة أن الله أمَّن أولئك الفتية من الجبار الطاغية الذي يريد إهلاكهم، فناسب أن من قرأ هذه الآيات وحاله كحالهم أن ينجيه كما أنجاهم.
وقيل: لأن في أولها من العجائب والآيات التي تثبت قلب من قرأها بحيث لا يفتن بالدجال، ولا يستغرب ما جاء به الدجال، ولم يلهه ذلك، ولم يؤثر فيه.
(1) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2252)، ورقم الحديث:(3937) .
(2)
المصدر السابق.
(3)
رواه ابن ماجة والترمذي والحاكم بإسناد صحيح، صحيح الجامع:(6/674) ، ورقمه (7752) .
(4)
النهاية لابن كثير: (1/154) وبعض هذه في السنن، وبعضها في الصحاح.
ومما يعصم المسلم من الدجال أن يلجأ إلى أحد الحرمين الشريفين مكة أو المدينة، فإن الدجال محرم عليه دخولها.
وقد ذكر لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف واجه ذلك الرجل الصالح الدجال، وصدع في وجهه بالحق، وكيف أنه لم يلن له بالقول، كما سبق ذكر الأحاديث التي تكشف حقيقة ما معه مما يشبه الجنة والنار.
ومما ينجي العبد من الدجال الالتجاء إلى الله والاحتماء به منه ومن فتنته، وقد جاءت النصوص النبوية آمرة المسلم بالاستعاذة بالله من فتنته، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال "(1) .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ دائماً بعد التشهد من فتنة الدجال، فيقول:" اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال "(2) .
المطلب الثالث عشر
هلاكه والقضاء على فتنته وإهلاك أتباعه من اليهود
سبق أن سقنا الحديث الذي يرويه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة بتمامه، وفيه في آخره أن هلاك الدجال يكون على يد عيسى ابن مريم عليه السلام " فبينما
(1) صحيح البخاري، في كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، فتح الباري:(13/90) .
(2)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، ورواه مسلم في صحيحه، في باب ما يستعاذ منه في الصلاة.
هم (أي الجيوش الإسلامية) يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فأمهم، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه " (1) .
وفي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" وإمامهم (أي إمام المسلمين الذين يعدون العدة لقتال الدجال) رجل صالح، فبينا إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص، يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصَلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف (2) ، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، فينطلق هارباً،.. فيدركه عند باب لد (3) الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلق الله عز وجل يتواقى به اليهودي، إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر، ولا شجر، ولا حائط، ولا دابة - غلا الغرقدة، فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي، فتعال فاقتله "(4) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن، فتح القسطنطينية، (4/2221) ورقم الحديث (2897) .
(2)
قال الشيخ ناصر في تعليقه على (صحيح الجامع: (6/275) : " وفيه اختصار، تقديره: فإذا انصرف إلى بيت المقدس، والمسلمون فيه محصورون قال:.. كما يدل عليه بعض الأحاديث الأخرى.. ".
(3)
(اللد) مدينة معروفة بفلسطين، قرب مدينة الرملة.
(4)
صحيح الجامع الصغير: (6/276) ورقمه (7752) .
والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، فتعال فاقتله، إلا الغرقد (1) ، فإنه من شجر اليهود " (2) .
المطلب الرابع عشر
عقيدة أهل السنة في الدجال
قال النووي في شرحه لمسلم: " قال القاضي: هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره، ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر، فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على قتل ذلك الرجل، ولا غيره، ويبطل أمره، ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله الذين آمنوا.
هذا مذهب أهل السنة، وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافاً لمن أنكره وأبطل أمره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافاً للبخاري المعتزلي وموافقيه من الجهمية وغيرهم في أنه صحيح الوجود، ولكن الذي يدعي مخاوف وخيالات، لا حقائق لها، وزعموا أنه لو كان حقاً لم يوثق
(1) قال النووي في شرحه على مسلم (18/45) : الغرقد: نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس، وهناك يكون قتل اليهود، وقال أبو حنيفة الدينوري: إذا عظمت العوسجة صارت غرقدة.
(2)
حديث قتال المسلمين اليهود رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب قتال اليهود فتح الباري:(6/103) ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم (2922) 4/2239، وقد روياه عن أبي هريرة وابن عمر من أكثر من طريق، واللفظ الذي أثبتناه لفظ مسلم.
بمعجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهذا غلط من جميعهم لأنه لم يدع النبوة، فيكون ما معه كالتصديق له، وإنما يدعي الإلهية، وهو في نفس دعواه مكذب لها بصورة حاله، ووجود دلائل الحدوث فيه، ونقص صورته، وعجزه عن إزالة العور الذي في عينيه، وعن إزالة الشاهد بكفره المكتوب بين عينيه.
ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع من الناس لسد الحاجة والفاقة رغبة في سد الرمق أو تقية وخوفاً من أذاه لأن فتنته عظيمة تدهش العقول، وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث يحث يتأمل الضعفاء حاله، ودلائل الحدوث فيه والنقص، فيصدقه من صدقه في هذه الحالة " (1) .
المطلب الخامس عشر
ابن صياد والدجال
ابن صياد رجل من يهود المدينة، اسمه صاف، كان شبيهاً بالدجال في كثير من صفاته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مشككاً في أمره، وقد حاول الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة كشف أمره ومعرفة حقيقته، وهذا يدلنا على أنه لم يوح له في أمره شيء، فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط قِبَل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطُمِ (2) بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد:" أتشهد أني رسول الله؟ " فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن
(1) شروح النووي على مسلم: (18/58) .
(2)
الأطم: الحصن.
صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " آمنت بالله وبرسوله " (1) .
ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ماذا ترى؟ " قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خلط عليك الأمر ".
ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني قد خبأت لك خبيئاً "، فقال ابن صياد: هو الدخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اخسأ فلن تعدو قدرك "، فقال عمر بن الخطاب: ذرني يا رسول الله، أضرب عنقه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله "(2) .
وقد خرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، كما روى مسلم في صحيحه عقب الحديث السابق عن سالم بن عبد الله قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: انطلق بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بن كعب الأنصاري إلى النخل التي فيها ابن صائد، حتى إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل، طفق يتقي بجذوع النخل، وهو يختل أن يسمع من ابن صياد شيئاً (3) ، قبل أن يراه ابن صياد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراش في قطيفة، له فيها زمزمة (4) ، فرأت أم صائد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صائد: يا صاف (وهو اسم ابن صياد) هذا محمد، فثار ابن صياد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو تركته لبيَّن "(5) .
(1) قد يقال: كيف يدعي النبوة، ويتركه الرسول صلى الله عليه وسلم: فيجاب: لأنه قد كان بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود عهد في تلك الأيام.
(2)
رواه مسلم في صحيحه (4/2244) ورقمه (2930) .
(3)
أي يستغفله ليسمع منه شيئاً يعرف به حقيقته.
(4)
القطيفة: كساء مخمل، والزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم، أي: نهض من مضجعه.
(5)
رواه مسلم في صحيحه: (4/2244) ورقمه (2931) .
قال النووي في شرحه على مسلم في ابن صياد: " قال العلماء: وقصته مشكلة، وأمره مشتبه في أنه هو المسيح الدجال المشهور أم غيره، ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة، قال العلماء: وظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال، ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر: " إن يكن هو فلن يستطيع قتله " (1) ، وقد كان عمر بن الخطاب يجزم بأن ابن صائد هو الدجال، وكذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: والله ما أشك أن ابن صائد هو المسيح الدجال (2) .
وقد نقل النووي عن البيهقي قوله: " ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم لقول عمر، فيتحمل أنه صلى الله عليه وسلم كان كالمتوقف في أمره، ثم جاءه البيان أنه غير كما صرح به في حديث تميم "(3) .
وقد مكث ابن صائد بعد الرسول مدة من الزمان، وادعى أنه أسلم، ولكن الناس لم يثقوا بإسلامه، وبقوا يتشككون في أمره، هذا ابن عمر - كما يروي مسلم في صحيحه - يلقى ابن صائد مرتين، فيقول لبعض من معه: هل تحدثون أنه هو؟ قال: لا، والله. قال: قلت: كذبتني، والله، لقد أخبرني بعضكم أنه لن يموت حتى يكون أكثركم مالاً وولداً، فكذلك هو زعموا اليوم.
قال ابن عمر: فتحدثنا، ثم فارقته، ثم لقيه ابن عمر لقية أخرى، وقد نفرت عينه (4) ،
(1) شرح النووي على مسلم: (18/46) .
(2)
المصدر السابق.
(3)
شرح النووي على مسلم: (18/48) .
(4)
نفرت: ورمت، ونتأت.
قال: فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ قال: لا أدري. قال: قلت: لا تدري وهي في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك هذه، قال فنخر كأشد نخير حمار (1) سمعت، قال: فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت، وأما أنا، فو الله ما شعرت. وفي رواية أخرى في مسلم أن ابن عمر قال له قولاً أغضبه، فانتفخ حتى ملأ السِّكة (2) ، فدخل ابن عمر على حفصة وقد بلغها، فقالت له: رحمك الله، ما أردت من ابن صائد؟ أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما يخرج من غضبة يغضبها "(3) .
ويروي مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا حجاجاً أو عماراً ومعنا ابن صائد، قال فنزلنا منزلاً، فتفرق الناس، وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه، قال: وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي، فقلت: إن الحر الشديد، فلو وضعته تحت تلك الشجرة، قال: ففعل، قال: فرفعت لنا غنم، فانطلق فجاء بعسّ (4)، فقال: اشرب أبا سعيد. فقلت: إن الحر شديد، واللبن حار. ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده - أو قال: آخذ عن يده - فقال (5) : أبا سعيد، لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة، ثم أختنق مما يقول لي الناس، يا أبا سعيد، من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار، ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هو كافر " وأنا مسلم؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو
(1) النخير: صوت الأنف.
(2)
أي: الطريق.
(3)
صحيح مسلم: (4/2247) ورقمه: (2932) .
(4)
القدح الكبير.
(5)
أي ابن صياد.
عقيم لا يولد له " وقد تركت ولدي بالمدينة؟ أو ليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل المدينة ولا مكة "، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة؟ "(1) .
ولكن هذه الأدلة التي ساقها ابن صياد اهتزت وفقدت تأثيرها في نفس أبي سعيد بعد أن تابع ابن صياد كلامه قائلاً: " أما والله إني لأعلم الآن حيث هو، وأعرف أباه وأمه ". قال: " وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ فقال: لو عرض علي لما كرهت "(2) .
المطلب السادس عشر
الدجال في خبر تميم الداري
روى مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس أنها سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، قالت: فصليت مع رسول الله، فكنت في صفّ النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك، فقال:" ليلزم كل إنسان مصلاه "، ثم قال:" أتدرون لم جمعتكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:" إني، والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم، لأن تميماً الداري، كان رجلاً نصرانياً، فجاء، فبايع وأسلم. وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ".
" حدثني أنه ركب في سفينة بحرية، مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام،
(1) رواه مسلم في صحيحه: (4/2242) ورقمه (2927) .
(2)
المصدر السابق.
فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفؤوا (1) إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أَقْرُبِ السفينة (2) ، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب (3) كثير الشعر، لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقالوا: ويلك، ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة. قالت: أيها القوم، انظروا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً، حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم (4) ، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة، فلقينا دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة.
قال: فأخبروني عن نخل بيسان (5)، قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ قلنا: نعم. قال: إما إنه يوشك أن لا يثمر. قال: أخبروني عن بحيرة طبرية (6) . قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب.
(1) التجؤوا إليه.
(2)
أقرب: جمع قارب.
(3)
أهلب: كثير الشعر غليظه.
(4)
اغتلم: هاج وجاوز حده المعتاد.
(5)
بيسان: إحدى مدن فلسطين.
(6)
بحيرة عذبة في فلسطين.
قال: أخبروني عن عين زغر (1) . قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها. قال أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني. إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، إلا مكة وطيبة (2) ، فهما محرمتان عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما، استقبلني ملك بيده السيف صلتا (3) ، يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها.
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر:" هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة " يعني المدينة، " ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ " فقال الناس: نعم، " فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت حدثتكم عنه وعن المدينة ومكة، ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو (4) من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق ما هو ".، وأومأ بيده إلى المشرق، فقالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) .
(1) بلدة في الجانب القبلي من الشام.
(2)
المدينة.
(3)
أي: مسلولاً.
(4)
قال النووي: قال القاضي: لفظة: (ما هو) زائدة، صلة للكلام، ليست بنافية، والمراد إثبات أنه في جهة المشرق.
(5)
رواه مسلم في صحيحه: (4/2261) ورقم الحديث: (2942) .
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن ابن صياد لم يكن الدجال الأكبر، وأن الدجال الأكبر محبوس في بعض جزائر البحور، ولعله - كما يقول بعض أهل العلم - شيطان من الشياطين الذين حبسهم نبي الله سليمان، إذ يبعد وجود بشر على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة، والله أعلم بالصواب.
نزول عيسى ابن مريم
أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن اليهود لم يقتلوا رسوله عيسى ابن مريم، وإن ادعوا هذه الدعوى، وصدقها النصارى، والحقيقة أن عيسى لم يقتل، ولكن الله ألقى شبهه على غيره، أما هو فقد رفعه الله إلى السماء (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا- بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 157-158] .
وأشار الحق في كتابه إلى أن عيسى سينزل في آخر الزمان، وأن نزوله سيكون علامة دالة على قرب وقوع الساعة (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ) [الزخرف: 61] ، كما أخبرنا أن أهل الكتاب في ذلك الزمان سيؤمنون به، (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء: 159] .
وقد جاء تفصيل هذه النصوص في السنة النبوية، فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه عندما تشتد فتنة الدجال، ويضيق الأمر بالمؤمنين في ذلك الزمان، ينزل الله عبده ورسوله عيسى عليه السلام، وينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، فقد روى الطبراني في معجمه الكبير عن أوس بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق "(1) . وقد وصف لنا الرسول صلى الله عليه وسلم حاله عند نزوله، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس بيني وبين عيسى نبي، وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع، إلى الحمرة والبياض، ينزل بين ممصرتين، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل "(2) .
المطلب الأول
وقت نزوله
ويكون نزوله في وقت اصطف فيه المقاتلون المسلمون لصلاة الفجر، وتقدم إمامهم للصلاة، فيرجع ذلك الإمام طالباً من عيسى أن يتقدم فيؤمهم، فيأبى، ففي الحديث " وإمامهم (أي إمام الجيش الإسلامي) رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص، يمشي القهقرى ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم فصلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصل بهم إمامهم "(3) .
ويكون هذا في حال إعداد المسلمين لحرب الدجال، ففي حديث أبي هريرة عند مسلم: " فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة
(1) صحيح الجامع الصغير: (6/361) ورقمه (8025) ، وإسناده صحيح كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني.
(2)
صحيح الجامع الصغير: (5/90) ورقم الحديث: (5265) .
(3)
رواه ابن ماجة، وابن خزيمة، والحاكم، وإسناده صحيح، انظر صحيح الجامع الصغير (6/277) .
فينزل عيسى ابن مريم، فأمهم "، ولفظه في كتاب الإيمان: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وأمكم " (1) . وليس المراد هنا في هذا الحديث أن عيسى أمهم في الصلاة، فالحديث الأول يدل على رفض عيسى للتقدم، وأنه قدم الإمام الذي أقيمت له الصلاة، ومثله حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " (2) وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعال صل بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة " (3) .
المطلب الثاني
بم يحكم عيسى بعد نزوله؟
النصوص السابقة صريحة في أن الإمام هو واحد من هذه الأمة، أما رواية " فأمّكم " أو " أمهم " أي: عيسى فليس المراد بها أنه أمهم في الصلاة، بل المراد أنه حكَّم فيهم كتاب الله تبارك وتعالى، أي: أمهم بكتاب الله عز وجل، ففي حديث
(1) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب فتح القسطنطينية (4/2221) ، حديث رقم (2897) ، ورواه في كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم (1/136) ورقمه (155) .
(2)
رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم فتح الباري:(6/491) ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان:(15/136) ورقم الحديث (155) .
(3)
رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب نزول عيسى بن مريم (4/137) ورقمه (156) .
أبي هريرة عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم فأمَّكم منكم " وقد قال أحد رواة الحديث وهو ابن أبي ذئب للوليد بن مسلم (1) : " تدري ما أمّكم منكم؟ " قال: تخبرني، قال: فأمكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم (2) .
والسبب في عدم تقدم عيسى ابن مريم للإمامة هو الدلالة على أنه جاء تابعاً لهذا النبي صلى الله عليه وسلم، حاكماً بالقرآن، لا بالإنجيل، فإن شريعة القرآن ناسخة للشرائع قبلها، وقد أخذ الله العهد والميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتابعوه إذا بعث وهم أحياء:(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ - فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[آل عمران: 81-82] ، فعيسى ينزل تابعاً لرسولنا صلى الله عليه وسلم محكماً لشريعة القرآن، ولذلك فإنه يصلي خلف ذلك الرجل الصالح، وهذا فخر لهذه الأمة وأي فخر، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" منا الذي يصلي عيسى ابن مريم خلفه " رواه أبو نعيم في كتاب المهدي (3) .
يقول النووي في رده على المكذبين بنزول عيسى الزاعمين أن نزوله لو كان حقاً فإنه يكون مناقضاً لقوله عليه السلام " لا نبي بعدي "، وأنه يكون بذلك ناسخاً لشرع الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا الاستدلال فاسد، لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبياً بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث، ولا في
(1) هو راوي الحديث عن ابن أبي ذئب.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى:(4/137) ورقمه (156) .
(3)
صحيح الجامع الصغير: (5/219) ، حديث رقم (5796) .
غيرها شيء من هذا،.. بل صح أنه ينزل حكماً مقسطاً.. يحكِّم شرعنا، ويحيى من أمور شرعنا ما هجره الناس " (1) .
المطلب الثالث
قضاء عيسى على الدجال
وأول عمل يقوم به عيسى هو مواجهة الدجال، فبعد نزول عيسى يتوجه إلى بيت المقدس حيث يكون الدجال محاصراً عصابة المسلمين، فيأمرهم عيسى بفتح الباب، ففي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن خزيمة، ومستدرك الحاكم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا انصرف، قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتحون ووراءه الدجال، معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً
…
، فيدركه عند باب لد الشرقي، فيقتله، فيهزم الله اليهود.. " (2) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن نزول عيسى وصلاته بالمؤمنين ثم قال: " فإذا رآه عدو الله، ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه ي حربته "(3) .
والسِّر في ذوبان الدجال أن الله أعطى لِنَفَس عيسى رائحة خاصة إذا وجدها الكافر مات منها، ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ومما قاله فيه: " فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل
(1) شرح النووي على مسلم: (18/76) .
(2)
صحيح الجامع الصغير: (6/275) ورقمه: (7752) .
(3)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب فتح القسطنطينية:(4/2221)، ورقمه:(2897) .
عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين (1) ، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان (2) كاللؤلؤ. فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ، فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة " (3) ، والسِّر في عدم ترك عيسى الدجال حتى يموت بنفسه - هو إنها أسطورة هذا المخلوق وفتنته، فإن الناس إذا شاهدوا قتله وموته استيقنوا أنه ضعيف مغلوب على أمره وأن دعواه كانت زوراً وكذباً.
المطلب الرابع
مهمة عيسى بعد القضاء على الدجال وإهلاك يأجوج ومأجوج
يقضي عيسى على الدّجال وفتنته، ويخرج يأجوج ومأجوج في زمانه - كما سيأتي بيانه - فيفسدون في الأرض إفساداً عظيماً، فيدعو عيسى ربه، فيستجيب له، ويصبحون موتى، لا يبقى منهم أحد، وعند ذلك يتفرغ عيسى للمهمة الكبرى التي أنزل من أجلها، وهي تحكيم شريعة الإسلام، والقضاء على المبادئ الضالة، والأديان المحرفة، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل
(1) أي: ثوبان مصبوغان بورس ثم زعفران.
(2)
الجمان حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار، والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ.
(3)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2253)، ورقمه:(2937) .
فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الحرب، ويفيض المال، حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها " (1)(2) .
وفي رواية عند مسلم عن أبي هريرة: " والله لينزلن ابن مريم حكماً عدلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص، فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليُدْعونَّ إلى المال فلا يقبله أحد "(3) وفي صحيح مسلم في كتاب الفتن عن النواس بن سمعان في حديثه الطويل الذي ذكر فيه الدجال ونزول عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، وفي ختامه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم دعاء عيسى ربه عندما يشتد عليهم الأمر، فيستجيب الله، ويهلك يأجوج ومأجوج، ثم يقول: " ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم (4) ، ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت (5) ، فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل مطراً، لا يُكَنُّ منه بيت مدر (6) ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة (7)، ثم يقال للأرض: أنبتي
(1) إنما تكون السجدة أحب إلى أحدهم من الدنيا لكثرة رغبتهم في الخير بسبب اليقين الذي يحل في قلوبهم لرؤيتهم عيسى، وما قبله من الآيات، وإيقانهم بقرب الساعة.
(2)
رواه البخاري في صحيح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب نزول عيسى ابن مريم، فتح الباري:(6/460) ورواه البخاري في موضعين آخرين: الأول في كتاب المظالم، باب كسر الصليب، فتح الباري:(05/121) والثاني: في كتاب البيوع، باب قتل الخنزير، فتح الباري:(4/414) . ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب نزول عيسى، (4/135) ، ورقمه (155) .
(3)
رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب نزول عيسى، (4/35)، ورقمه:(155) .
(4)
أي: دسمهم.
(5)
البخت: الجمال الخراسانية، أعناقها طويلة.
(6)
بيت المدر: الطين الصلب.
(7)
الزلقة: المرآة، أي تكون الأرض في صفائها ونقائها كالمرآة.
ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة (1) من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرِّسْل (2) ، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس (3) ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ (4) من الناس" (5) .
المطلب الخامس
ما يستخلص من النصوص الواردة في شأن عيسى
1-
أن عيسى عليه السلام نازل لا محالة في آخر الزمان والنصوص في ذلك متواترة عن الرسول صلى الله عليه وسلم (6) ، فالتكذيب بنزوله تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم في خبره، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صدق لا كذب فيه، وقد أشار القرآن الكريم إلى نزول عيسى ابن مريم في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله:(وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)[النساء: 159] .
ولذلك فإن أبا هريرة لما أورد حديث (نزول عيسى حكماً عدلاً)(7)
(1) العصابة: الجماعة.
(2)
الرسل: اللبن.
(3)
اللقحة: القريبة العهد بولادة، وقيل: الناقة الحلوب. والفئام: الجماعة الكثيرة.
(4)
الفخذ: الجماعة من الأقارب، وهم دون البطن، والبطن دون القبيلة.
(5)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2254)، ورقمه:(2937) .
(6)
وقد حمل الرسول صلى الله عليه وسلم الذين يدركون عيسى أن يبلغوه عنه السلام، ففي سنن النسائي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من أدرك منكم عيسى ابن مريم، فليقرئه مني السلام ".
(7)
والحديث في صحيحي البخاري ومسلم كما سبق.
قال في آخره: اقرؤوا إن شئتم: (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
…
) الآية (1) .
2-
أن عيسى يأتي ليحكِّم شريعة القرآن:
وقد سبق أن بينا هذه المسألة، والأدلة عليها.
3-
أنه يقضي على جميع الأديان، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام:
ولذلك فإنه يكسر الصليب، وهو رمز النصرانية المحرفة، ويقتل الخنزير الذي حرمه الإسلام، ويضع الجزية، فلا يقبل من اليهود والنصارى الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود بإسناد صحيح يرفعه:" فيقاتل الناس على الإسلام، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام "(2) .
وعدم قبول الجزية لا يعد نسخاً، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجزية تقبل إلى أن ينزل عيسى، وبعد ذلك لا تقبل، يقول النووي: " (ويضع الجزية) : الصواب أنه لا يقبلها، ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام، أو القتل، هكذا قال الإمام أبو سليمان الخطابي وغيره من العلماء.. فعلى هذا قد يقال: هذا خلاف حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها، ولم يجز قتله، ولا إكراهه على الإسلام، وجوابه: أن هذا الحكم ليس بمستمر إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل عيسى عليه السلام وقد أخبرنا
(1) صحيح الجامع الصغير: (5/226) ورقمه: (5877) .
(2)
صحيح الجامع: (5/90)، ورقمه:(5265) .
النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخة، وليس عيسى هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فإن عيسى يحكم بشرعنا " (1) .
4-
عموم الرخاء، وسيادة الإسلام والأمن في ذلك الزمان:
أخبرت النصوص التي سقناها عن تلك البركة العظيمة التي توجد في ذلك الوقت، والأمن العظيم الذي يكرم الله به العباد في تلك الأيام، وكيف ترفع الشحناء والتباغض بين الناس، ويجتمع البشر على كلمة الله تبارك وتعالى.
ومن النصوص التي تحدثت عن هذا حديث أبي أمامة عند ابن ماجة، وابن خزيمة، والحاكم بإسناد صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير (2) ، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حُمَةُ كل ذات حمة (3) ، حتى يدخل الوليد يده في الحية، فلا تضره، وتضرُّ الوليدة الأسد، فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم، كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة الواحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة، تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب، فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة، فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بدريهمات.. "(4) .
(1) شرح النووي على مسلم: (2/190) .
(2)
أي لعدم الحاجة إلى السعي، وطلب الرزق.
(3)
مثل سم الأفعى، والعقرب.
(4)
صحيح الجامع الصغير: (6/276) ورقمه: (7752) .
المطلب السادس
طيب العيش بعد المسيح
إن الحالة التي وصفتها النصوص عن الحياة في تلك الفترة حالة فذة في تاريخ الإنسانية، حيث يعيش الناس في خير وأمن وسلام، وفي بحبوحة من العيش، ولذلك فإنهم يغبطون على ما يكونون فيه من نعيم، وفي الحديث:" طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاحّ، ولا تحاسد، ولا تباغض "(1) .
المطلب السابع
بقاء عيسى في الأرض
مدة بقاء عيسى في الأرض أربعون عاماً، كما ثبت ذلك في حديث صحيح في سنن أبي داود عن أبي هريرة:" فيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون "(2) .
وهو في ذلك مقيم لحكم الإسلام، مصل إلى قبلة المسلمين، وقد ذكرنا الأحاديث المفصحة عن صلاته وراء ذلك الرجل الصالح عند نزوله، كما ثبت أنه يحج البيت العتيق، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة، قال: قال
(1) حديث صحيح، رواه أبو بكر الأنباري، والديلمي، والضياء عن أبي هريرة، سلسلة الأحاديث الصحيحة:(4/559)، ورقمه:(1926) .
(2)
صحيح الجامع: (5/90)، ورقمه:(5265) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، ليهلنَّ ابن مريم بفج الروحاء، حاجاً ومعتمراً، أو ليثنينهما "(1) .
والروحاء مكان بين المدينة ووادي الصفراء في طريق مكة على نحو أربعين ميلاً من المدينة أو ستة وثلاثين أو ثلاثين " (2) .
المطلب الثامن
فضل الذين يصحبون عيسى عليه السلام
في مسند أحمد وسنن النسائي عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار، عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم "(3) .
(1) صحيح الجامع الصغير: (6/100) ورقمه: (6955) .
(2)
لوامع الأنوار البهية: (2/113) .
(3)
صحيح الجامع: (4/35)، ورقمه:(3900) .
خروُج يأجوج وَمأجوج
ذكر الحق تبارك وتعالى في سورة الكهف أن ذا القرنين في تطوافه في الأرض بلغ بين السدين، فوجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً، فاشتكوا له من الضرر الذي يلحق بهم من يأجوج ومأجوج، وطلبوا منه أن يقيم بينهم وبينه سداً يمنع عنهم فسادهم، فاستجاب لطلبهم (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا - قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا - قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا - آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا - فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا - قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا - وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) [الكهف: 93-99] .
ويأجوج ومأجوج أمتان كثيرتا العدد، وهما من ذرية آدم عليه السلام ثبت في الصحيحين: " أن الله تعالى يقول (1) : يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: ابعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسمعائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فحينئذ يشيب الصغير،
(1) في يوم القيامة.
وتضع كل ذات حمل حملها، فقال: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج "، قال ابن كثير بعد سياقه لهذا الحديث: " وقد حكى النووي في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج قد خلقوا من منى خرج من آدم، فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك، فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من حواء " وقد رد ابن كثير هذا القول وأنكره قائلاً:" وهذا قول غريب جداً، ثم لا دليل عليه لا من عقل، ولا من نقل، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة "(1) .
وقد أخبر الحق تبارك وتعالى أن السَّد الذي أقامه ذو القرنين مانعهم من الخروج: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)[الكهف: 97] ، وأخبر أن ذلك مستمر إلى آخر الزمان عندما يأتي وعد الله، ويأذن لهم بالخروج، وعند ذلك يدك السد، ويخرجون على الناس (فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98] ، وعند ذلك يخرجون أفواجاً أفواجاُ كموج البحر (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف: 99] وذلك قرب قيام القيامة والنفخ في الصور (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا)[الكهف: 99] .
وقد أخبر الحق في موضع آخر عن نقبهم السد وخروجهم: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ - وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا..)[الأنبياء: 96-97] ، وهذا كائن في آخر الزمان، وقوله:(كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ)[الأنبياء: 96] ، أي يسرعون في الإفساد في الأرض، والحدب هو المرتفع في الأرض، وهذه صفتهم حال خروجهم.
(1) تفسير ابن كثير: 4/423.
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فتح من ردم يأجوج ومأجوج في عصره فتحة صغيرة كالحلقة التي تكون من الإبهام والتي تليها، ففي صحيح البخاري عن زينب بنت جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً، يقول:" لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه: الإبهام والتي تليها، قالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك، وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث "(1) .
وخروجهم يقع بعد نزول عيسى ابن مريم وهزيمته للدجال، ففي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان في حديثه الطويل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم قد عصمهم الله منه (أي من الدجال) ، فيمسح عن وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى، إني قد أخرجت عباداً لي، لا يدان لأحد بقتالهم (2) ، فحرز عبادي إلى الطور (3) ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية (4) ، فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرة ماء، ويُحْصر نبي الله عيسى وأصحابه، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم، فَيَرْغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه، فيرسل الله عليهم النّغَفَ في رقابهم (5) ، فيصبحون فرسى (6) كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون في الأرض
(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب يأجوج ومأجوج، فتح الباري:(13/106) .
(2)
أي: لا قدرة ولا طاقة.
(3)
أي: اصعد بهم إلى الجبل، كي يكونوا في حرز ومأمن.
(4)
هي بحيرة كبيرة في فلسطين، ماؤها عذب.
(5)
دود يكون في أنوف الإبل والغنم، وفي الأحاديث الأخرى دود كأمثال النغف.
(6)
جمع فريس، كقتيل وقتلى وزناً ومعنى.
موضع شبر إلا ملأه زهمهم (1) ونتنهم، فَيَرْغَبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل طيراً كأعناق البخت (2) ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً، لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة " (3)(4) .
وقال مسلم أيضاً بعد سياقه للحديث السابق: حدثنا علي بن حُجْر السعدي، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، والوليد بن مسلم، قال ابن حُجْر: دخل حديث أحدهما في حديث الآخر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، بهذا الإسناد (إسناد الحديث السابق) نحو ما ذكرنا، وزاد بعد قوله:" لقد كان بهذه مرة ماء "، " ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر (5) ، وهو جبل بيت المقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلمَّ فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم (6) إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماً ".
وفي رواية ابن حجر: " فإني قد أنزلت عباداً لي، لا يَدَيْ لأحد بقتالهم "(7) . والسبب في أنه لا يستطيع أحد الوقوف في وجههم لكثرتهم، يدلك على كثرتهم أن المسلمين يوقدون من أسلحتهم بعد هلاكهم سبع سنين، ففي سنن الترمذي بإسناد مسلم في الرواية السابقة: " سيوقد المسلمون من قسي يأجوج ونشابهم
(1) دسمهم.
(2)
هي جمال طوال الأعناق.
(3)
المدر: الطين الصلب. والزلقة: المرآة.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2254)، ورقمه:(2937) .
(5)
الخمر: هي الشجر الكبير المتلف الذي يخمر من تحته، أي: يستره، وقد فسر في الحديث أنه بيت المقدس لكثرة شجره.
(6)
النشاب: هي السهام.
(7)
صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال:(4/2555)، ورقمه:(2937) .
وأسلحتهم وأترستهم سبع سنين "، ورواه ابن ماجة في سننه (1) .
وهذه الأحاديث وأحاديث مشابهة كثيرة تدل على أن هذه الحضارة الهائلة التي اخترعت هذه القوة الهائلة من القنابل والصواريخ ستتلاشى وتزول، وأغلب الظن أنها ستدمر نفسها بنفسها، وأن البشرية ستعود مرة أخرى إلى القتال على الخيول واستعمال الرماح والقسي ونحو ذلك، والله أعلم.
وفي السنن للترمذي وابن ماجة، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، ومسند أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن يأجوج ومأجوج يحفرون كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فسنحفره غداً، فيعيده الله أشد ما كان، حتى إذا بلغت مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس، قال الذي عليهم: ارجعوا فسنحفره غداً إن شاء الله تعالى، واستثنوا، فيعودون إليه، وهو كهيئته يوم تركوه، فيحفرونه، ويخرجون على الناس، فينشفون الماء، ويتحصن الناس منهم في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السماء، فترجع عليها الدم الذي اجفظ (2) ، فيقولون: قهرنا أهل الأرض، وعلونا أهل السماء، فيبعث الله عليهم نغفاً في أقفائهم (3) ، فيقتلون بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن، وتشكر شكراً من لحومهم " (4) .
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/579)، ورقمه:(1940) .
(2)
اجفظ: أي امتلأ، أي ترجع ممتلئة دماً.
(3)
المراد بأقفائهم أي في مؤخر رقابهم كما صرح به في الحديث الآخر الذي مر قبله.
(4)
وإسناده صحيح، قال فيه الحاكم:" صحيح على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: وهو كما قالا، سلسلة الأحاديث الصحيحة:(4/313) ورقمه (1735) .
وفي سنن ابن ماجة، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، ومسند أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يفتح يأجوج ومأجوج، يخرجون على الناس كما قال الله عز وجل: (مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ) [الأنبياء: 96] ، فيغشون الأرض، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم، ويشربون مياه الأرض، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبساً، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر، فيقول: قد كان هنا ماء مرة، حتى إذا لم يبق من الناس إلا أحد في حصن أو مدينة، قال قائلهم، هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم، بقي أهل السماء. قال: ثم يهز أحدهم حربته، ثم يرمي بها إلى السماء، فترجع مخضبة دماً للبلاء والفتنة، فبينما هم على ذلك، إذ بعث الله دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقهم، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حِسّ، فيقول المسلمون: ألا رجل يشري نفسه، فينظر ما فعل هذا العدو، قال: فيتجرد منهم محتسباً لنفسه، قد أظنها على أنه مقتول، فينزل فيجدهم موتى، بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين: ألا ابشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فما يكون لها رعي إلا لحومهم، فتشكر عنه كأحسن ما تشكر عن شيء من النبات أصابته قط "(1) وهذه النصوص دالة على كثرة يأجوج ومأجوج بحيث لا يستطيع أحد أن يقف في وجوههم.
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/402)، ورقم الحديث:(1793)، وقد ذكر الشيخ ناصر الدين أن الحاكم قال فيه: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، إلا أن الشيخ لم يرتض هذا، لأن ابن إسحاق أحد رواة الحديث، لم يخرج له مسلم إلا في المتابعات، فالحديث حسن.
درُوس الإسلام وَرفع القرآن وَفَناء الأخيَار
بعد ذلك الانتشار العظيم للإسلام الذي يعم المشارق والمغارب، يضعف الإسلام مرة أخرى، ويترعرع الشَّر، ويرفع هذا الدين العظيم، ويرفع القرآن، ويذهب العلم، ويقبض الله من كان في نفسه بقية من إيمان، فلا يبقى بعد ذلك إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
أخرج ابن ماجة والحاكم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة (لا إله إلا الله) فنحن نقولها "(1) .
وهذه البقية الباقية التي لا تعرف من الإسلام إلا كلمة التوحيد تفنى وتبيد، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق "(2) .
وفي حديث آخر بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيف تذهب بقية الصالحين في آخر
(1) قال الحاكم فيه: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: إسناده صحيح، رجاله ثقات. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ ناصر الدين الألباني، حديث رقم (87) .
(2)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب قرب الساعة، (4/2268) ، حديث رقم (2949) .
الزمان، ففي الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله يبعث ريحاً من اليمن، ألين من الحرير، فلا تدع أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ".
وفي رواية " مثقال ذرة "(1) .
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله "(2) .
وفي صحيح مسلم عن النواس بن سمعان يرفعه: " فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن، وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة "(3) .
وروى البخاري بإسناده إلى مِرْداس الأسلمي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يذهب الصالحون الأول فالأول، وتبقى حثالة كحثالة الشعير أو التمر، لا يباليهم الله بالة "(4) .
ومن دروس الإسلام في تلك الأيام أن تنقطع عبادة الحج، فلا حج ولا عمرة، ففي مسند أبي يعلى ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن أبي سعيد رضي
(1) رواه مسلم في صحيحه، حديث رقم (7915)، وانظر جامع الأصول:(10/410) .
(2)
رواه مسلم في صحيحه، مشكاة المصابيح (3/50) ، حديث رقم (5516) .
(3)
رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب ذكر الدجال، ورقم الحديث (2937) . والمراد بتهارج الحمر، أي: يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك، والمرج بإسكان الراء الجماع، يقال هرج زوجته أي جامعها، شرح النووي على مسلم (18/70) أقول: وهذا حال الناس اليوم في كثير من المجتمعات الغربية، يتهارجون تهارج الحمر في نواديهم التي تسمى نوادي العراة، وعلى شواطئ البحار، وفي الغابات والحدائق.
(4)
رواه البخاري، انظر النهاية لابن كثير:(1/186) .
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت "(1) ولا شك أن هذا إنما يكون بعد انبعاث الريح الطيبة وقبضها الصالحين، أما قبل ذلك فإن عبادة البيت مستمرة، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج "(2) .
(1) صحيح الجامع الصغير: (6/174) ورقمه: (7296) .
(2)
رواه البخاري، انظر النهاية لابن كثير:(1/186) .
عودَة البشريَة إلى الجاهليَة وَعبادة الأوثان
فإذا درس الإسلام، ورفع القرآن، وقبضت الريح كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان - عادت البشرية إلى جاهليتها الأولى أو أشد، فتطيع الشيطان، وتعبد الأوثان.
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عما يكون بعد موت المسيح عليه السلام في آخر الزمان، ففي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم:" ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو كان أحدهم دخل في كبد جبل لدخلته عليه، حتى تقبضه " قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فيبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: ما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارةٌ أرزاقهم، حَسَنٌ عيشهم، ثم ينفخ في الصور.. " الحديث (1) .
ومن الأوثان التي تعبد (ذو الخَلَصة) طاغية دوس واللات والعزى، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصلة " وذو الخَلَصة: الصنم الذي كانت
(1) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب خروج الدجال، (4/2258) ورقمه:(2940) .
تعبده دوس في الجاهلية (1) .
وفي صحيح مسلم عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبد اللات والعزى، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33] أن ذلك تاماً، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خَرْدل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم "(2) .
وفي هذا الزمن يتدنى المستوى الأخلاقي تدنياً هائلاً، فقد أخرج البزار في مسنده، وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير، قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم، ليكونن " وللحديث شاهد عند الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: هلا ورايتها هذا الحائط "(3) .
(1) رواه البخاري، في كتاب الفتن، باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، فتح الباري:(13/76) . ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة، (4/2230)، ورقم الحديث:(2906) ، والسياق للبخاري، والتعريف بذي الخلصة مثبت في الصحيحين.
(2)
رواه مسلم في كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة، (4/2230)، ورقم الحديث:(2906) .
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/245) .
وله شاهد آخر من حديث النواس بن سمعان في حديثه الطويل في الدجال ويأجوج ومأجوج، وفي آخره:" فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن، وكل مسلم، ويبقى شرار الناس، يتهارجون تهارج الحمر (1) ، فعليهم تقوم الساعة " رواه مسلم وأحمد والحاكم.
(1) أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما تفعل الحمير، وبمعناه:(يتسافدون) .
هَدم الكعبَة عَلى يَدِ ذي السويقتين
ولعل هذا الزمان هو الذي يهدم فيه ذو السويقتين الكعبة، ففي الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يبايع لرجل ما بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكة العرب، ثم يأتي الحبشة فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً، وهم الذين يستخرجون كنزه "(1) .
وروى الإمام أحمد في المسند أيضاً عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يخرب الكعبة ذو السويقتين في الحبشة، ويسلبها حليها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلعاً أفيدعا، يضرب بمسحاته ومعوله "(2) .
وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كأني أنظر إليه أسود أفحج، ينقضها حجراً حجراً، يعني الكعبة "(3) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة "(4) . وإنما سمي ذو السويقتين لصغر ساقيه، فالسويقتان تصغير ساقي الإنسان لرقتهما وهي صفة سوق السودان غالباً.
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/245) .
(2)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/119) ورقم الحديث: (579) .
(3)
قال ابن كثير في النهاية: (1/187) إسناده قوي.
(4)
رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن: (4/2232)، حديث رقم:(2909) . شرح النووي على مسلم: (18/35) .
وقد يقال كيف يهدمها وقد جعل الله مكة حرماً آمناً؟ الجواب: أن معناه آمناً إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا. هكذا قال النووي: وهذا صحيح إذا كان الهدم في هذا الوقت، وإلا فإن الأمر حكم شرعي ألزم الله به عباده، فإذا تمرد متمرد وانتهك حرمة الحرم فقد يمنعه الله كما فعل بأبرهة، وقد لا يمنعه لحكمة يعلمها كما فعل القرامطة الذين اجتاحوا الحرم وفعلوا عنده الأفاعيل، وكما سيفعله هذا الخبيث ذو السويقتين (1) .
(1) المصدر السابق.
طُلوع الشمس من مغربهَا
من الآيات البينات الدالة على وقوع الساعة طلوع الشمس من مغربها، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعين، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانهم لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً "(1) .
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، فتح الباري:(11/352) ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل الله فيه الإيمان:(1/37)، ورقم الحديث:(157) .
خرُوج الدابَّة
وهذه الدابة آية من آيات الله تخرج في آخر الزمان، عندما يكثر الشر، ويعم الفساد، ويكون الخير قلة في ذلك الزمان، وهذه الدابة هي التي ذكرها الحق في قوله تعالى:(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)[النمل: 82] .
ولا شك أن هذه الدابة مخالفة لمعهود البشر من الدواب، ومن ذلك أنها تخاطب الناس وتكلمهم، وقد ذكرنا جملة من الأحاديث التي عدَّ فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة العظام - خروج الدابة.
وروى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الكبير، والبغوي في " حديث علي بن الجعد "، وأبو نعيم في أخبار أصبهان بإسناد صحيح عن أبي أمامة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" تخرج الدابة، فتسم الناس على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل البعير، فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: اشتريته من أحد المخطمين "(1) .
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/31)، ورقمه:(322) .
النّار التي تحشر الناس
وآخر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة نار تخرج من قعر عدن، تحشر الناس إلى محشرهم، وقد سبق أن ذكرنا الأحاديث التي عدد فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أشراط الساعة، وذكر أنها عشر، قال:" وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم "(1) .
وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة (أي مهاجراً) فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث: ما أول أشراط الساعة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب "(2) . وفي سنن الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ستخرج نار من حضرموت قبل القيامة تحشر الناس، قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: عليكم بالشام "، وقال الترمذي هذا حديث صحيح (3) .
وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن كيفية حشر النار للناس، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب الآيات التي تكون قبل الساعة، (4/2225) ورقمه (2901) .
(2)
إن شئت أن تتطلع على بقية المسائل وإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها فارجع إلى صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، فتح الباري:(7/272) .
(3)
جامع الأصول: (10/368) ورقم الحديث: (7888)، وانظر صحيح الجامع الصغير (3/203) ورقم الحديث:(3603) .
راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا " (1) وروى أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنكم تحشرون رجالاً وركباناً، وتجرون على وجوهكم ها هنا، وأومأ بيده نحو الشام " (2) .
وآخر من تحشرهم النار راعيان من مزينة، ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي (يريد عوافي السباع والطير) ، وآخر من يحشر راعيان من مزينة، ينعقان بغنمها، فيجدانها وحشاً، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجههما "(3) .
والأرض التي تحشر النار الناس إليها هي بلاد الشام، ففي كتاب فضائل الشام للربعي عن أبي ذر بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الشام أرض المحشر والمنشر " ورواه أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والربعي في فضائل الشام عن ميمونة بنت سعد " (4) .
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا الحشر يكون في الآخرة، وعزا القرطبي القول بذلك إلى الحليمي وأبي حامد الغزالي (5) .
وذهب الخطابي والطيبي والقاضي عياض والقرطبي وابن كثير وابن حجر إلى
(1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب الحشر، فتح الباري:(3/377) .
(2)
صحيح الجامع الصغير: (2/272) ورقمه: 2298.
(3)
سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/302)، ورقمه:683.
(4)
صحيح الجامع الصغير: (3/232)، ورقمه:3620.
(5)
التذكرة للقرطبي: ص 198-199، فتح الباري:(11/379) .
أن هذا الحشر يكون في آخر عمر الدنيا، حين تخرج النار من قعر عدن، وتحشر الناس إلى بلاد الشام (1) .
يقول ابن كثير في هذه الأحاديث: " فهذه السياقات تدل على أن هذا الحشر، هو حشر الموجودين في آخر الدنيا، من أقطار محلة الحشر، وهي أرض الشام، وأنهم يكونون على أصناف ثلاثة:
فقسم يحشرون طاعمين كاسين راكبين، وقسم يمشون تارة ويركبون أخرى، وهم يعتقبون على البعير الواحد، كما تقدم في الصحيحين:" اثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير " يعني يعتقبونه من قلة الظهر، كما تقدم، كما جاء مفسراً في الحديث الآخر، وتحشر بقيتهم النار، وهي التي تخرج من قعر عدن، فتحيط بالناس من ورائهم، وتسوقهم من كل جانب، إلى أرض المحشر، ومن تخلف منهم أكلته.
وهذا كله مما يدل على أن هذا في آخر الدنيا، حيث الأكل والشرب، والركوب على الظهر المستوي وغيره، وحيث يهلك المتخلفون منهم بالنار.
ولو كان هذا بعد نفخة البعث، لم يبق موت ولا ظهر يسري، ولا أكل ولا شرب، ولا لبس في العرصات. والعجب كل العجب أن الحافظ أبا بكر البيهقي بعد روايته لأكثر هذه الأحاديث، حمل هذا الركوب على أنه يوم القيامة، وصحح ذلك، وضعف ما قلناه، واستدل على ذلك بقوله تعالى:(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا - وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا)[مريم: 85] .
(1) فتح الباري: (11/380-389)، التذكرة: ص 200.
وكيف يصحح ما ادعاه في تفسير الآية بالحديث، وفيه:" إن منهم اثنين على بعير، وعشرة على بعير " وقد جاء التصريح فيه بقلة الظهر؟ هذا لا يلتئم مع هذا، والله أعلم. تلك نجائب من الجنة يركبها المؤمنون من العرصات إلى الجنات، على غير هذه الصفة، كما سيأتي تقرير ذلك في موضعه " (1) .
(1) النهاية لابن كثير ك (1/259) .