الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد العزيز فهمي باشا وعداؤه للعربية
.
أثار حضرة صاحب المعالي عبد العزيز فهمي باشا فتنة شعواء، يحارب فيها لغة العرب، ويسعى لتمزيقها، ثم يحاول أن يظهر للناس في ثوب نصيرها المدافع عنها.
وقد كنا سمعنا عن اقتراحه -كتابة العربية بالحروف اللاتينية -قبل أن ينشر نصه، فوقع في نفسي أنه استمرار لمحاولة قديمة من فئة معروفة كانت تدعو منذ عشرات قليلة من السنين إلى اتخاذ اللهجات العامية لغة رسمية للقراءة والكتابة والتعليم.
وكان على رأسها مهندس انجليزي كبير، وكاتب مصري مشهور، نال المناصب الرفيعة من بعدُ. ثم دَرَست تلك المحاولة، وظننا أنها ماتت وانتهى أمرها، ولم نكن نظن أنها اختبأت في حصن حصين، في رأس رجل عظيم، حتى نبتت منه بشُعبِها تظن أن سيكونُ لها في لغة العرب أثرٌ.
وكنت قد فكرت في الرد على اقتراحه، بإرجاعه إلى منبعه الأصلي، ومصدره الصحيح، بما وقع في نفسي، ولكني خشيت أن أظلم الرجل باتهامه بتهمة لم يكن لديّ عليها برهان.
حتى نشر المجمعُ اللغوي نص اقتراحه، فإذا البراهين فيه على ما ظننتُ واضحة بينة تَتْرَى، آخذٌ بعضها برؤوس بعض، وإذا الناسُ يتناولونه بأقلامهم من كل جانب. والباشا يصرخُ ههنا وههنا ويستغيثُ ولغة العرب منصورة سائرة قدُماً في طريقها، لا تُحِسُ ولا تشعر، وإذا اقتراحُه يموتُ فلا يُرثَى له، وإِن جامله المجمعُ اللغويُّ فلم يرفضه أولَ ما قُدِّم اليه.
ولو سكت الرجلُ بعد ذلك لكان خيرا له وأَقوم، ولنسيه الناسُ ونسوا ما قدَّمَ. ولكنه أَخذته العزة بالإثم، فأخرج في أَواخر رمضان من هذا العام (1363 - أغسطس سنة 1944) كتاباً يرد على ناقديه، ويأخذ أعراضَهم بقلمه الثائر العنيف، وأَدلتِه المتهافتة المستنكرة، حتي لو كان لاقتراحه موضع آخرُ للسقوط لَبَلغهُ.
وما بي أن أدافع عمن رد عليهم في كتابه، قكثير منهم أعرفُ باللغة العربية، وبأدب العرب، وأقدرُ على الكتابة، من الباشا ومن كل أتباعه وأنصاره ومجامليه.
ولكني أَردتُ أن أكشف عن مقصده الحقيقي باقتراحه، من كلامه وألفاظه. وأن أنْقدَ بعض ما عرضْ له من مسائل في العلم، ظهر أنه لا يعرف فيها شيئاً، عرَض لها عرضا عجيبا، لو تركه سَتَر نفسه.
أما اقتراحه الميتُ السخيف (1) فما أبالي أن لا أرد عليه، اكتفاء بما قيلَ من قبلُ، وثقة مني أَن لا تقومَ له قائمة من بَعْدُ.
وأَنا أَعلم أَن معاليَه سينطلقُ في أَثرى كما انطلق في أَثر الذين من قبلى، ثائراً عنيفاً، مستعليا مستكبرا، كأنْ لم يسمع كلمة الحق، وأَنه سيرميني كما رمى أَخى "السيد محمود محمد شاكر" بأنه "يشتهي تجريح من هو أَكبرُ منه سنا، حاسبا أَن ذاتيته تعلو بهذا التجريح" ولكنني لا أبالي.
* * *
يعلنُ صاحب المعالي في كتابه (ص 78) أنه "يريد المحافظة على للعربية الفصحى" ولكن سائر أقواله إِنما تصدر عن عقيدة بفساد هذه اللغة، وأَنها لا تصلح للحياة، لثباتها على وتيرة واحدة، إلا أَن تتغير وتَدُور مع اللهجات، فتنقسم إِلى لغاتٍ. فهو يَضَعُ اللغم الأول في هذا الصرح الشامخ، حتى إذا ما اهتز الصرح وفقدَ تماسُكه، استطاع مَن بعده من أَنصاره، ومن أَعداء الإسلام، ومن أَعداءَ القرآن، أَن يدمروه تدميرا.
(1) يعذرني صاحب المعالى فى استعمال هذه اللفظة النابية، فقد حاولت جهدى أن أجد صفة خيرا منها فى موضعها، فأعجزتنى المحاولة. ثم إني لم أر فى أستعمالها باسا، بعد أن وصف هو بها الرسم العربي عشرات المرات فى كتابه.
انظروا الى قوله الذى افتتح به اقتراحَه المقدمَ للمجمع: "لا شك عندي أَن حضرات المستشرقين - آهِ من عبادة المستشرقين ومن عبادة الإفرنج - من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين وألمان وأمريكيين، يعجبون منا نحن الضعاف الذين يطأطئون كواهلهم أمام تمثال اللغة، لحمل أوزار ألفٍ وخمسمائة سنة مضت" ثم يقول عن بحث المستشرقين عن الآثار: "لكن عملهم هذا شئٌ وإمساك أيةِ لغة بخناق أهلها دهرا طويلا شئٌ آخر".
وانظروا إلى قوله في الفقرتين 4 و5 "لكن حال اللغة العربية حال غريبة، بل أغرب من الغريبة، لأنها مع سريان التطور في مفاصلها، وتحتيتها في عدة بلاد من آسية وأفريقية إلى لهجات لا يعلم عددها إِلا الله لم يَدُرْ بخلد أية سلطة في أى بلد من تلك البلاد المنفصلة سياسياً أن يجعل من لهجة أهله لغة قائمةً بذاتها، لها نحوُها وصرفها، وتكون هي المستعملة في الكلام الملفوظ وفي الكتابة معاً، تيسيرا على الناس، كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان، أو كما فعل اليونان، لم يعالج أي بلدٍ هذا التيسير، وبقي أهلُ اللغة العربية من أتعس خلق الله في الحياة. ان أَهل اللغة العربية مستكرهون على أن تكون العربية الفصحى هي لغة الكتابة عند الجميع، وأن يجعلوا على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وأن يردعوا عقولهم عن التأثر بقانون التطور الحتمي، الاخذ
مجراه بالضرورة، رغم أنوفهم، في لهجات الجماهير، تلك اللهجات التي تتفرع فروعاً لا حد لها ولا حصر، والتي تتسع كل يوم مسافةُ الخلف بينها وبين الفصيحة جدة جداتها اتساعا بعيداً هذا الاستكراه الذي يوجب على الناس تعلم العربية الفصحى كيما تصح قراءَتهم وكتابتهم، هو في ذاته محنة حائقة بأهل العربية، إنه طغيان وبغي، لأنه تكليف للناس بما هو فوق طاقتهم. ولقد كنا نصبر على هذه المحنة لو أَن تلك العربية الفصحى كانت سهلة المنال كبعض اللغات الأجنبية الحية، لكن تناولها من أشق ما يكون، وكلنا مؤمن بهذا، ولكن الذكرى تنفع المؤمنين، فلنذكر ببعض هذه المشقة".
هذا تعضُ قوله في اقتراحه، وما أظن عاقلا يُخْدَعُ بعد ذلك، فيصدق الباشا في ادّعائه أنه يريد المحافظة على العربية الفصحى، وهو يسخط عليها كل هذا السخط، ويندِّدُ بها كل هذا التنديد. بل يندد بالأمم المنفصلة سياسيا أن لم يدُرْ بخلد أَحدٍ من أَهلها أَن يجعل من لهجته لغة قائمة بذاتها لها نحوها وصرفها!!
فإن لم تكن هذه دعوةً صريحة إلى تمزيق العربية إلى لغات عدة "كما فعل الفرنسيون والإيطاليون والأسبان" فما ندري كيف تكون الدعوة، بل لا يدرى أحد من الناس!.
إِن هذا الاقتراحَ تجديد للدعوة القديمة التي أشرنا إِليها في أول هذا المقال، واستمرار لها، حتى تتمزق وحدة الأمم العربية ويحال بينها وبين قديمها، فلا يعرفه ولا يصل إِليه إِلاْ الأفذاذ من علماء الأثريات كما هو الشأن الآن في اللغات القديمة الميتة، فيحالُ بين الأجيال القادمة وبين القرآن والحديث وعلوم العرب، كما بظنون، فيندثرُ هذا الإسلام من وجه الأرض، ويطمئن القوم.
ومهما يكابر معالى الباشا وأَنصارُه، فلن يسطيعَ التفصّيَ من هذه النتائج، ومن حمل كلامه على القصد إليها، وإن تبرأَ منها ألفَ مرة وإن قال ألفَ مرةٍ "أَنا مكتفٍ بما يسر الله لي من ديني وموقن بأن لا مزيد عليه عند كائن مَن كان من المسلمين"!!
* * *
إن لم يكفكم هذا برهانا على ما يقصد إليه وبرمي، فانظروا إلى قوله في الفقرتين 7 و 8 "تلك الأشواك والعقبات وهذا التعدد، ترِيكَ الواقعَ من أن هذه اللغة العربية ليست لغةً واحدة لقوم بعينهم، بل إنها مجموعُ كل لهجاتِ الأعراب البادينَ فى جزيرة العرب من أكثر من ألف وأربعمائة سنة جمعها علماءُ اللغة وأودعوها المعاجمَ وجعلوها حجةً على كل من يريد الانتساب للغة العربية، ولا يعلم إلا الله كم لهجة كانت! أفليس من
الظلم البيِّن ألزامُ المصريين وغير المصربين من متكلمي اللهجات العربية الحديثة بمعالجة التعرف بتلك اللهجات القديمة التي ماج بعضُها في بعض فانعجنتْ، ولو فُرض المستحيلُ وأَمكن عزلُ أيةِ واحدةٍ منها لكانت دراستُها بسبب قدمها أَشق من تعلم عدة لغات أَجنبية حية، كل منها يعين الإنسانَ في عمره القصير على مسايرة العالَم في هذه الحياة الدنيا.
في كل سنة نسمع صيحة مدوية يصخُّ البعض بها معلمي اللغة العربية بالمدارس، متهما إياهم. بالقصور أَو التقصير في تلقيق التلاميذ. والحق الذى لا مِرْيَةَ فيه أَن هؤلاء المعلمين المساكين براء من هذه التهمة يراءَة الذبب من دم ابن يعقوب، فإن العيب إِنما هو عيب اللغة التي ليس لها فى مفرداتها وقواعدها أول يُعرفُ ولا آخر يُوصف، والتي لها في أدائها جرس ولوكة بضريان صماخ أذن الطفل لبعد ما بينهما، وبين لهجة أمه، فينفر منها ومن المعلم نفور الطير رَوَّعْتَهُ والظبى باغَتَّهُ".
أذن فالأمرُ واضح، ليس الأمرُ أمر تيسير الكتابة العربية حتى تمثل النطقَ بها تمثيلاً صحيحاً، طاعةً لأمر تعبدى نَصَّتْ عليه لائحةُ المجمع اللغويّ، ولقرار خاص من وزير المعارف تجب طاعتهُ وتنفيذه، لأن "مورد النص لا مساغ للاحتهاد فيه" كما قال صاحب المعالي في كتابه (ص 36)!! ولكن الأمرَ أَخطرُ من ذلك وأبعدُ أثرا. الأمرُ أن لهذه اللغة "جرسا ولوكة بضربان صماخ أذن الطفل" فيجب أن نغيِّرَ هذا،
وأن نمهد له باصطناع الحروف اللاتينية التي لها جرس "يخالف جرسَ الحروف العربية في المخارج والحركات وتوقيت الكلمة في أَثناءَ نْطقها، وهو شيء في صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء" كما قال الأستاذ العقاد (الرسالة 585 فى 18 سبتمبر سنة 1944) حتى إذا ما تبلبلت الألسن العربية، ومَرَنَتْ على هذه الحروف اللاتينية ولهجاتها وجرسها، وعلى الحروف المستحدثة التي ابتكرها المجمعُ اللغوى في قراره العجيب بشأن كتابة الأعلام الأعجمية بحروف عربية (1) - أمكن التدرجُ في الانتقال إلى اصطناع لغةٍ أخرى أَعجمية، أو خلقِ لغة بينَ بينَ، لا هي عربية ولا هي أعجمية، وتفرقت الأُمم العربية شذر مذر.
ونسُوا هذا القرآن الذى يجمع بينهم ويوحد لسانهم، إذ لن يستطيعوا إخضاعه لهذه اللكنة الأعجمية التي تدل عليها الحروف اللاتينية!!
وإذن فليس الأمر أَمرَ إرادة المحافظة على العربية الفصحى كما يقول دفاعاً عن نفسه، وإنما هو رفعُ ظلم بَيِّن "عن المصريين وغير المصريين، ممن ألزموا تعرف ذلك اللهجات القديمة التي ماج بعضها في بعض، والتى
(1) هذه القرارات نشرت في مجلة المجمع (ج 4 سنة 1356 ص 8 - 21) وقد أشرنا إلى عيوبها، ورددنا عليها، فى مقدمة كتاب المعرب للمجواليقى، بتحقيقنا طبعة دار الكتب (ص 17 - 20).
لا يمكن عزل أية واحدة منها، والتي لو أَمكن المستحيل بعزل واحدة منها لكانت دراستها بسبب قدمها أَشق من تعلم عدةِ لغات أَجنبية حية، والتي كل العيب فيها، إِذ ليس لها في مفرداتها وقواعدها أَول يعرف ولا آخر بوصف!. ولن يكون رفعُ هذا الظلم إلا أَن يُرفع عن كواهل المظلومين ما أَثقلها، من "أوزار أَلفٍ وخمسمائة سنة مضت"!!.
لستُ أَدري، هل يغالطُ الباشا الحصيفُ نفسَه ويخدعُها، أَو هو بظن أَن الناس لا يفقهون!
أَيها الرجل:
اقرأ كتابك، تَجِدْ أَنك رضيتَ عن كل لغةٍ حتى العبربة، وما اصطفيتَ لسخطِك وسخريتِك إِلا العربية.
* * *
وقد أَجاب صاحب المعالى عن سؤالِ مَنْ سألَ: كيف تريدُ أَن ترسم القرآن؟ بجوابين عجيبين مضحكين!
أما أحدهما فأن يُرسم القرآن بحروف معاليه اللاتينية، لأن الحروف العرببة وثنيةٌ منقولة مباشرة عن الوثنيين، والحروف اللاتينية ينقلها معاليه لآن عن النصارى، وهم أهل كتاب أقرب من الوثنيين إلينا
نحن المسلمين! (ص 25 - 26) ثم ارتأى أن يمن على رجال الدين المحترمين بإبقاء رسم القرآن وصحيح الحديث على ما هو عليه الآن! (ص 28) ولست أدرى أَعَفَى عنهما إرضاء لهم، أَم شفقةً عليهم، أم خوفاً منهم؟ إنما هو قد فعل هذا والسلام!
ثم أجاب بعضَ سائليه: "ها أنت ذا ترى فيما أسلفتُ ما يطئمنك على بقاء القرآن والحديث مكتوبين بالرسم الحالي، فلن بندرس هذا الرسم، بل سيكون له دائماً من رجال الدين وطلبة المعاهد الدينية من بقرؤونه ويحافظون عليه"! (ص 29).
وقد وجد معاليه لرجال الدين بعد ذلك عملا خطيرا عظيماً، هو "أن يؤدوا لنا في المستقبل عمل المستشرقين، ويحلوا لنا رموز ما لم يُطبع بالرسم الجديد من قديم الكتب والمؤلفات"(ص 28).
ولسنا نجادله في أن هذا الفعل حرام أَو حلال، قإن معالي الباشا رجل قانون، وهو من أبعد الناس عن معرفة الحرام والحلال، وكتابه شاهد عليه.
ولكنا نسأله سؤالا واحداً: أيمكن أن يُؤدَّى نطقُ القرآن أَداء صحيحا موافقا للعربية إذا ما كتب بالحروف اللاتينية، وخاصة فى حال الوقف على رؤوس الآى أو في أَثنائها؟ أظنه بعلم أن أَواخر الكلم إذا
كانت متحركة -وهو الأكثر في الكلام- وجب الوقف عليها بالسكون، وإذا كان الحرف منونا مفتوحا وُقِف عليه بالألف، وهو يقترح أن يُدَل على الحركة بحرف مَد يسميه "حرف حركة" وأن يُدل على التنوين بحرف مد بعده حرف النون، فماذا يفعل القارئ، أيحذف في كل وقف من المكتوب حرفاً أَو حرفين، أم يقرأ القرآنَ إفرنجيا؟!
أَلسنا معذورين إذا ظننا صادقين أَنه يبغي قطعَ الصلة بين هذه الأمة العربية وبين قديمها، وخاصةً القرآنَ والحديث، تنفيذا لخطة قديمة معروفة، لم يخامرنا فيها شك، دل عليها قلمهُ حين خانه، فجعل عمل رجال الدين أَن ينحلوا رموز ما لم يطبع بالرسم الجديد!
* * *
ثم ماذا يريد صاحب المعالي هذا أَن يصنع بالقرآن؟ إِنه يريد أن يفتح الباب للعبث به وبقراءاته عامد متعمداً. ققد أدخل نفسه مَدَاخل لا يُحْسِنُ الخروج منها، ولا مَنْجَى من عواقبها.
انظروا إِلى قوله يخاطب "معالي السيد كامل الجاردجي" أَحَدِ الذين ردوا عليه اقتراحه (ص. 78): "الظاهر يا سيدي أَننا غير متفقَيْن اتفاقا واضحا على الغرض الذي نسعى إليه. فلنتفق عليه ابتداء، ثم ليتكلم كلانا بعد بما شاء. أنا أربد المحافظة على العربية الفصحى وأنت
تريدها كذاك. فلنحدد بالنص الصربح ما هي تلك الفصحى التي نريدها جميعا. أما أنا فلا أَرى مثالا للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر فلغته هي وحدها المعنيةُ لي عندما أذكر الفصحى. وأحددُ أكثر فأقول: إن لغته المعنية لي هى ما تكون الأقيسُ والأسهل من وجوه قراءاته.
فقراءة (إنَّ هَذين لساحران) هي المعنية لي دون (إنْ هذَانِ لَسَاحِرانِ) مثلا"
هذا نصُّ كلامه بحروفه.
أرأيتموه أيها الناس وعرفتم دخيلته! إنه يأتي بالكلام الحلو المعسول، فلا يرى "مثالاً للفصحى غير القرآن الثابت نصه بالتواتر" ثم يدسُّ فيه ما يظن أنه يخفى على عامة المسلمين، بَلْهَ خاصتهم، بَلْهَ علماءهم، فيزعمُ أَنه يتخيرُ من قراءات القرآن ما يوافق هواه، ويعرض عما عداه، موهماً أن الثابت المتواتر هو ما حَكَى دون ما نقى. ولكنه يسقط في ذلك سقطة مالها من قرار.
وذلك أن الآية التي جاء بها مثالا لما يريد، وهي قوله تعالى فى سورة طه (إنْ هَذَانِ لَسَحِرانِ) رسمت فى المصحف على هذا الرسم الذي رسمه أصحاب رسول الله واتفقوا عليه، ورُوي عنهم بالتواتر القطعي الثبوت رواية وكتابة، لم يَرْتَبْ في ذلك مسلم قط "هذن" بدون ألف بعد الذال، ورُويت القراءات فيها بالتواتر القطعي سماعاً من عهد
رسول الله الى عصرنا هذا الذي نحيا فيه. والقاعدة الغالبة فى رسم المصحف أن تحذف الألف وأن تثبت الياء.
والقراءَةُ التي يقرأ لها أهلُ بلادنا، قراءةُ حفص عن عاصم، في هذه الآية (إنْ هذانِ) بسكون النون فى (إنْ) وبثبوت الألف وكسر النون. مخففة من غير تشديدٍ فى (هذان). وواققه ابنُ مُحَيْصن وأبو حيْوَةَ والزهرِي وغيرُهم من أئمة القراءة. ووافقه أيضا ابنُ كَثِيرٍ، ولكنه شدد النونَ المكسورة في (هذانِّ).
وقراءةُ حفص ومن وافقه التي نقرأ في بلادنا هي التي يرفضها الباشا العالمُ العجيبُ، وينفي أَن يكونَ مما ارتضى من "العربية الفصحى" وذلك أنه عسر عليه أن يدرك وجهها من العربية، وإِن كان واضحا ميسورا!!
وقرأ نافع وابنُ عامر وأَبو بكرٍ وحمزة والكسائي وأَبو جعفر ويَعْقوبٌ وخَلفٌ والحسنُ والأعمشُ وأَبو عُبيدٍ وأَبو حاتم وابنُ جريرٍ الطبري وغيرُهم (إِنَّ) بتشدبد النون و (هذان) بالألف وتخفيف النون. وهذه القراءة نفاها معاليه أيضاً ضمناً، باختياره غيرها، وإن لم يصرح بنفيها، ولكنها دخلت في غير "العربية الفصحى" عنده.
وهاتان القراءتان هما قراءة أكثر القراء من السبعة، بل العشرة، بل الأربعة عشر، بل مَن عداهم، ممن عَرَفَ معاليه ومن لم يعرف، وممن سمع به ومن لم يسمع!
ثم اختار لنفسه - أستغفر الله - بل لأُمم العرب جمعاءَ، غير مكلَّف أن يختارَ لهم، ولكن عادياً على لغتهم وعلى قرآنهم - اختار قراءَةَ أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر ويونس وغيرهم (إنَّ هذينِ) بتشديد النون في (إنَّ) وبالياء فى (هذين) اختارها من غير دليل إلا يُسرها في مقدوره وعلمه. وهي قراءة صحيحة ثابتة، كاللتين قبلها، وإن عبر عنها بعضهم بالشذوذ، كالإمام أبي عمرو الداني في كتاب (المقنع فى رسم المصاحف) ص 127. وكالرجاج في قوله "لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف (1) ".
فهذا مبلغ هذا الرجل من العلم! قبِلَ من القراءةِ ما اختلف فيه، وإن كان صحيحا لأدلة يجهلها، ورفض ما لا خلافَ فيه من القراءة، بالهوى والجُرأة، من غير دليلِ ولا شبهةٍ، إلا أنه جَهِلَ شيئا فعاداه.
(1) ومن شاء التوسع فى معرفة توجيه هذه القراءات وأدلتها، فليراجع كتاب (التيسير فى القراءات السبع) لأبي عمرو الداني، طبعة استنبول سنة 1930 (ص 151)، وكتاب النشر فى القراءات العشر) لابن الجزرى، طبعة دمشق سنة 1345 (2: 308) وكتاب (إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربع عشر) للبناء الدمياطى، طبعة مصر سنه 1359 (ص 304)، وتفسير الطبري، طبعة بولاق (16: 136)، والبحر لأبي حيان (6: 255).
"إِن هَذَا القُرآنَ أُنْزِلَ عَلى سَبْعَةِ أَحْرُفْ" كما ثبت في الحديث الصحيح المتواتر، الذى لا شك في صحته. وإِن قُرّاءَه تَلَقوا قراءاته ورواياتِ حروفهِ ولهجاتهِ، سماعاً ومشافهة، من شيوخهم طبقة بعد طبقةٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثبتتْ قراءاتهُ الصحيحةُ المعروفةُ بالتواتر الحقيقي، الذى لم يَثبت بمثله كتاب قط، رَوَوْها بأدقِّ ما يروى كلام وأَوثَقِه، سواء أَرَضِىَ عبد العزيز باشا فهمي عن هذا أَم سخِطَهُ.
وإن هذا القرآن بقراءاته المتواترة قد حفظ على العرب لغتهم بحروفها وأوجهها ولهجاتها حفظاً عجيباً، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا يستطيع أَحد أَن ينفى شيئاً منها أَو ينكره، كابر أو تعنت أو جهلَ. إنما: هو الحقُّ البينُ المعلومُ من الدين بالضرورة. من أَنكرة فإنما ينكر على نفسه، وإِنما يجني على نفسه. وحكم الإسلام فيه معروف لا يحتاج إلى ذكر أو بيان.
أَفيظنُّ أَحدٌ أَن المسلمين بكذِّبونَ علماءهم وقرّاءهم وحفَّاظَ كتابهم الذينَ لا يحصيهم العد، طبقة طبقة إلى صحابة رسول الله، ثم يتتبعون رجلا بأنه نبغ في صناعة القانون الإفرنجي، حتى نال أسمى منصب فيه، وبأنه وصل إلى مسند الوزارة، وبأنه وُضِع في غير موضعه
عضوا في المجمع اللغوي؟! كلا ثم كلا! إن من يتوهم بعض هذا إنما يلغي عقله، وإنما يلغى كل منطق وكل دليل.
* * *
ولعل الباشا رجع فيما تَعَرف من القراءات وتوجيهها، لا إلى علم علماء الإسلام ونقلهم ومؤلفاتهم، وإنما رجع إلى آراء المستشرقين ونرنظرياتهم في القرآن والقراءات. فهم يَرونَ أن كل علماء الإسلام وقراء القرآن كاذبون مفترون، اخترعوا هذه الروايات وهذه القراءتِ توجيها لما يحتمله. رسم المصحف. تشكيكاً منهم في هذا الكتاب المحفوظ بحفظِ الله، وتكذيبا للوعد بحفظه وبأنه لا يأتيه الباطلُ من بين يدية ولا من خلفه، وثأرا من المسلمين باتهامهم بالتحريف، كما اتُّهِمَ الذين من قبلهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
ونظرية المستشرقين أوْضَحها أَحدُهم، جولد زيهر اليهودي المجري، في كتاب (المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن)، الذى ترجمه أخونا الأستاذ الشيخ علي حسن عبد القادر رنشره في هذا العام (ص3 - 4) قال: وهذه القراءَات المختلفة تدور حول المصحف العثماني، وهو المصحف الذي جمَع الناسَ عليه خليفةُ المسلمين عثمانُ بن عفانَ، وأراد بذلك أن يرفع الخطر الذي أوشك أن بقعَ في كلام الله في أشكاله واستعمالاته
وقد تسامح المسلمون في هذه القراءات، واعترفوا بها جميعا على قدم المساواة، بالرغم مما قد يُفْرَضُ، من أن الله قد أوحى بكلامة كلمة كلمة، وحرفا حرفا، وأن مثلَه من الكلام المفوظ في اللوح، والذى ينزلُ به الملَكُ على الرسول المختار، يجب أن بكونَ على شكل واحدٍ وبلفظٍ واحد. وقد عالج هذا الموضوعَ بتوسعِ نولدكةُ في كتابه (تاربخ القرآن). والقسمُ الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربي، فإن مِن خصائصه أن الرسمَ الواحدَ للكلمة الواحدة قد يقرأ بأشكال مختلفةِ. تبعا للنقط قوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدانَ الشكل في الخط العربي يمكن أن يَجعل للكلمةِ حالاتٍ مختلفة من ناحية موقعها من الأعراب فهذه التكميلاتُ للرسم الكتابي، ثم هذه الاختلاقاتُ في الحركات والشكل، كل ذلك كان السبب الأوَلَ لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطُه أو شكلُه من القرآن".
ألا ترون- أيها الناس- في هذا الكلام الروحَ الذي أوحى بالطعن في الرسم العربي، وأوحى باقتراح تيسيره أو تغييره، وأوحى بالتخيُّر في القراءات بالهوى والرغبة؟.
لست أزعم أنَّ هؤلاء التابعين المقلدين أخذوا من جولدزيهر في هذا الكتاب أو أخذوا من نولدكة في ذاك الكتاب، فلعلهم لم يقرؤوا الكتابين
ولا سمعوا بهما. . ولم يكن جولدزيهر ولا نولدكة أَولَ مَن افترى هذه الفرية على القرآن وعلى قُراء القرآن وعلى علماء الإسلام. فإن هذا الرأى معروفٌ عن المستشرقين، نعرفه عنهم منذُ عهدٍ بعيد، وعليه تدور آراؤهم وأقاويلهم في القرآن والقراءات، وفي روايات الحديث وأَسانيد المحدثين.
ذلك بأنهم أصحابُ هوًى، وذلك بأنهم لا يؤمنون بصدق رساله الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بأنهم يؤمنون بأن أَصحاب رسول الله وتابعيهم مِن بعدِهم لا خَلاقَ لهم، يَصْدُرُونَ عن هوًى وعصبية فيظنون فيهم ما تيقنوه فى غيرهم من الكذب على الدين والجرأَة على الله. وحاشَ لله
وذلك بأنهم يتتبعون الشاذ من الروايات، الذي أَخطأ فيه بعض رواته، أو الذي كَذَبب فيه بعض الوضاعين، وهما اللذان بينهما علماء الإسلام، وخاصة علماءُ الحديث، أدَق بيان وأوثقه وأوضحَه. فيجعلون هذا الشاذ المنكرَ أَصلا يبنُون عليه قواعدَهم، التي فتعلوها ونسبوها للإسلام وعلماء الإسلام، ويدعُون الجادَّة الواضحةَ ضوح الشمس، يغمضون عنها أَعينَهم،، ويعجلون أَصابعَهم في آذانهم، ثم يستهوون منا من ضعفت مداركهم، وضَؤلَ علمهم بقديمهم، من المعجبين بهم والمُعَظِّميهم، الذين نشؤوا في حجورهم ورضعوا من لبانهم
فأخذوا عنهم العلوم، حتى علوم الفقه والقرآن، فكانوا قوما لا يفقهون.
ولكن المسلمين يعرفون أَن هذا القرآنَ قرأَه رسولُ الله على الناس وأَقرأهم إياه، بقراءاتٍ معروفة، ثابتةٍ، بالأسانيد الصحيحة المتواترة كل قارئ سمع من شيوخه قراءات كثيرة أو قراءة واحدة، لا ينكر بعضُهم على بعض، إِلا ما كان مَظِنة الخطأ من الراوي أَو الشك في صدقه، قبلَ أن تُجمع الرواياتُ وتستقر، وأَماَ بعد أَنْ عُرِفت أَسانيدُها وطرقُها، وعُرف المتواترُ والصحيحُ، من الشاذ والمنكَر، فلا وهذا شيٌ يعرفه كل من شدَا شيئاً من العلم باللأسانيد وفنون النقل والرواية، أو من أُصول الدين وأُصول الفقه.
* * *
والمسألةُ في صورة بيِّنة ميسرة: أن هذا القرآن نقل إلينا نقل تواتر قطعي الثبوت، مرسوما في المصاحف هذا الرسم العربي المعروف، رَسَمَه حُفَّاظه والقائمون عليه من أصحاب رسول الله، تحت سمعهم وبصرهم جميعا، وحُصِرَت طرق رسمه محدودة مفصلة، في كتب القراءات، وفي كتب خاصة بالرسم، ونُقل إلينا أيضا قراءاته الصحيحة موافقة لهذا الرسم نفسه، نقل تواتر قطعي الثبوت، أو على الأقل، في بعضها القليل النادر، نقلا صحيح الإسناد، برواية الثقات عن الثقات
نُقل إلينا ذلك سماعا ومشافهة، مُبَيَّنا فيه النطقُ وطرق الأداء (1).
فكنا وكان الناس في هذا بينَ أمرين لا ثالثَ لهما: إما أَن يكونَ الرسمُ هو الذي ثبتَ أَولا ثم جاءت هذه القراءات احتمالات فيه، يُمَثِّلُها كل قارئ بما يَرَى أو بما يستطيع. وإما أن تكونَ القراءاتُ هي الأصلَ، ثم رُسِم الكتابُ على الوجه الذى يُمَثِلُها كلها ويحتملُها، حتى لا يخرجَ عنه شئ منها.
أما المستشرقون ومَنْ قلدهم من الجهلة الأغرار، ممن ينتسب إلى المسلمين، فذهبوا إلى الوجه الأول، واختاروه ونصروه.
أعني أنهم فهموا أن القرآن "يجب أن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" وأن هذا الشكل الواحد واللفظ الواحد رُسِمَ بهذا الرسم الذي من خصائصه أن الكلمة الواحدة "قد تُقْرَأ بأشكال مختلفة تبعا للنقط قوق الحروف أو تحتها، كما أن عدم وجود الحركات النحوية وفقدانَ الشكل في الخط العربي يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب" وَبَنوْا على ذلك أن هذا الرسمَ بما يحتمل في النقط والحركات "كان السبب الأوَّلَ لظهور حركة القراءات فيما أهمل نقطُه أو شكلُه من القرآن" كما قال جولدزيهر في كتابه.
(1) وأما ما يروى فى بعض كتب التفسير والحديث، عن بعض الصحابة وغيرهم من القراءات التى تخالف رسم المصحف فإن ما صحت روايته منها إنما هو على سبيل التفسير للآية، لم يثبت على سبيل التلاوة،، لأن أول شروط إثباتها أن توافق رسم المصحف
وهذا بديهى من بديهيات الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة.
وليس لهذا. الرأي وهذا الاستنباط معنى إلا شئ واحد: أن المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن، اخترعوا هذه القراءات، تمثيلا لما يحتَمِلُ الرسمُ من القراءَة، ونسبوها إلى كِتَابهم وإلى رسولهم وأَنهم كذَيُوا جميعاً في ادعاء نسبتها إلى رسول الله وفي ادعاء أَنهم تلقوْهَا جيلاً بعدَ جيل، وطبقةً يعدَ طبقةٍ.
وقد قد يعذَرُ المستشرقون إذا ذهبوا هذا المذهبَ، لأنهم قوم جهلوا طرقَ الرواية عند المسلمين، ومنَ عَرف منهم شيئا منها فإنما يغلبه هواء، وبغلبه ما يراه بين يديه في كتبهم السابقة، وما لحق بها من عبث، وما أصابها من تحريف وتغيير، ويغلبُه ما يَعرف مِن قفدِها أي نوع من الإسناد، وأي نوع من الرجال كان يرويها وينقُلها، وما يعرفُ من انقطاع تواترها، بل انقطاع أصلِ روايتها انقطاعا تاما، قبل بلوغها مصدَرها الأولَ بقرون.
يَعرف كل هذا، ويجهل أو بتجاهلُ سِيَر علماء الإسلام، وما كانوا علية من ثقة وصدق، وما كانوا يَتَحرون من دِقَة وأمانة في رواية الحرف الواحد من أحرف القرآن، وفي طرق أداء كل حرف والنطق به، على اختلاف اللهجات والروايات، حتى إنهم وزنوا نطق الحروف بموازين معررفة فى كتب القراءة وكتب التجويد، وحتى إنهم ليقيسون التنفس في أحرف اللين وأَحرف المد، بما اصطلحو على
تسميه بالحركات. إلى غير ذلك من طرق الاحتياط والتوثق.
فلم يكن عجبا من المستشرقين، وقد جهلوا ذلك كله وغَلبهم ما وصفنا، أن يختاروا هذا الوجهَ، وأن بجزموا بأن هذه القراءات نشأت من الرسم العربي المهملِ من النقط والشكل
وأَما المسلمون فقد أيقنوا بالوجه الآخر الصحيح: أن القراءات هي الأصلُ، وأن الرسم تابع لها مبني عليها.
أعني أنهم عرفوا، مما جاءهم من الحق بالتواتر القطعي الثبوت، أن رسول الله قرأ القرآن على أصحابه وأقرأهم إياه، بقراءاتٍ متعددةٍ النطق والأداء، كلها حق منزل عليه من عند الله، وكلها موافق للغة العرب ولهجات القبائل، حفظا له وتيسيرا عليهم. وأنهم سمعوا منه وقرؤوا عليه شفاها وحفظاً في الصدور، ثم أثبتوا ذلك عن أمره كتابةً وتقييدا. وأنه قال لهم:"إن هَذَا القرآن أنزِلَ عَلى سَبعَةِ أحْرُفِ قَاقْرَؤُوا مَا تَيَسرَ" فأدوا ما سمعوا كما سمعوا وكما قرؤوا، مفصلا موجها بأوجهه فى الأداء والتلاوة، لم يزيدوا ولم ينقصو. وأنهم كتبوا ما سمعوا وما حفظوا على هذا الرسم الذى رسموا ليكون مؤديا كل الأوجهِ التي عرفوا، والتي أذن لهم في القراءة يها، حتى إِنه لو كان للرسم العربي عندهم إذ ذاك وجه آخر يُضبط به المنطق على حال واحدة لأبوا أن
يرسموا به، لئلا يضبط النطقُ على وجه واحدٍ فتضيعَ سائر الأوجه وكلها من عند الله أنزل، وكلها من لغة العرب، وكلها أذن لهم في القراءَة به. وكانوا هم الأمناء على الوحي، وهم الذين أمروا بتبليغ ما أنزل إِليهم ما وَسِعَهم البلاغُ.
ثم نَقَل عنهم مَن بعدهم من الثقات الأثبات الأمناء، نقلَا فاشيا واضحاً متواترا، لم يجعلوا شيئا منه سرا مصوناً، ولا كنزا مخفيا، بل هو الإذاعة بأقصى ما يستطيع الناسُ من الإذعة، حتى لا يكون شئُ منه موضعا لشبهة، ولا مَعرِضا لشك، ولا باباً لزيغٍ.
فكان في رأي المستشرقين أَن الرسمَ سَبَقَ القراءةَ، خيالاً منهم وتوهماً، وكان عند المسلمين أن القراءةَ سبقت الرسمَ، حقًا يقينا ثابتا، بأوثق ما تثبتُ به الحقائق التاريخية.
* * *
ولم يكن للمسلمين - من أَول الإسلام إلى الآن - مندوحة عن اليقين بهذأ الوجه، إذ هو الذى لا يعقل سواه، وهو الذى تقتضيه طيبعة ما وصل إليهم من النقل والأدلة.
وكانوا أعرف بأصحاب رسول الله، ثم بالأمة من العلماء والقراء الذين نقلوا إليهم العلمَ والدينَ والقرآنَ، من أَن يظنوا بهم السوء والكذب والافتراء، وكانوا يوقنون بكفر مَنِ عمد إلى تحريف حرف واحد من
القرآن، بافتراء قراءة لم تُنقل عن قارئه الأول، صلى الله عليه وسلم.
وها هي دي كتبُ القراءات - ما نُشر منها وما لمِ يُنشر - وها هم أولاءُ قراء القرآن في أقطار الأرض، كلهم يسوقً أَسانيدَ القراءة عن الأئمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من روايات الثقات الأثبات الصادقين، الذين لا يحصيهم العد، والذين لا موضعَ للطعن فى صدقهم وأمانتهم وتقواهم لله.
فما كان لأحدٍ من الناس بعدَ ذلك - ولو كان من المستشرقين أو من عبِيد المستشرقين - أن يُلقِيَ ظِلا من الشك على هذه الحقائق البينة، وعلى هذا النهارِ الواضح. ولئن فعلَ لم يكن إلا جاهلاً أو متجنياً {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}. [آل عمران: 7]
ولو عَقَل هؤلاء القوم، الذين يعرضون لما لا يعلمون، ويخوضون فيما لا يفقهون، لعرقوا أَن التعرض لتغيير الرسم العربي، أَو ما يسمونه "تيسيره"، إنما هو العمل على تمزيق لغة العرب وتفريق وحده المسلمين. وهذا القرآنُ، وهذه اللغة التي حَفظ، هما كل ما بقي لنا من آثار الوحدة والتمسك.
ولفهموا ما وراء رأى المستشرقين من مقصد أو نتيجة، لا يجوز في
منطق العقول غيرُها: أن القرآن بالوجه الذى أنزل على رسول الله خرَجَ من أيدى المسلمين فيما قُرىء بأوجه متعددة، لأنه "يجب أَن يكون على شكل واحد وبلفظ واحد" كما قال جولدزيهر، وقد دخل هذا الوجهُ الواحدُ في أَوجه متعددةٍ غيرَ معين أو غير معروف، أو لعله لم يكن في هذه الأوجه. لأن المسلمين - في رأيهم - إنما قرؤوا على أوجه يحتملها الرسمُ المكتوبُ، لا على أوجه أنزل بها من عند الله، وثبتت صحتُها وقراءتُها عن الرسول الذى أمر بقراءته وإبلاغه للناس.
فهذه القراءاتُ لى رأى المستشرقين ومن تابعهم، ليست كلها أنزل بها القرآن، وإنما أنزل بواحدة منها غيرٍ معينة، لا يعرفها المسلمون ولا يعرفها المستشرقون. وحاشَ لله أن يكون شئ من هذا، و {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}. [النور: 16]
* * *
هذه حقائقُ لا يشك فيها مسلم وما ينبغي له. فوازِنْ - أيها القارئ الكريم - بينها وبين قول الباشا في كتابه (ص 84 - 85) في شأن رسم المصحف والقراءة:
"لقد كان القراءُ قليلين والكتابُ أقلَّ من القليل، والرقاع أنذرَ من الندوة، فأيما قبيلةٍ ظفرت بصحيفة مكتوبٍ فيها سورة أو بضع
آيات من سورة حرصتْ عليها وتعبدت بتلاوتها على الوجه الذي استطاعت أن تقرأها عليه، وإذ كان رسمُ الكتابة إذ ذاك أَشد اختزالاً مما هو الآن، لتجرده من النقط والألفات الممدودة، وكان الكُتاب بدائيين لا يستطيعون ضبط الكتابة حتى يرسمه القاصر السخيف، إذ كان هذا فإن باب الخطأ والتصحيف كان مفتوحاً على مصراعيه. ويكفي أن يكون للألفاظ بعد تصحيفها، معانٍ تتلاءمُ قليلاً أو كثيرا، حتى يمضي القارئ في قراءته وبتعصب لها. أَرأَيت إذن يا سيدي مبلغ الضرر الذى نشأ في أَول الإسلام عن سوء الرسم ووجازته وقابليتة للتصحيف؟
…
على أن عثمان إذا كان له عند الله وعند المسلمبن يد بجمعه القرآن، فإن عملَه لم ينحسم به الشر من أساسه. كل ما كان أَنه كفى المسلمين شر جهل الكاتبين الذين لم يحسنوا كتابة ما لديهم من الصحف على قاعدة الرسم العربط السخيف، ثم شر من كانت لديهم صحف كتبوها أوقات متباعدة وفرص متفرقة، فأنت بطبيعة الحال غيرَ وافية أَو غيرَ مراعَى فيها ما للقرآن من ترتيب في السور والآيات. أما منبع الشر الحقيقي، وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف، فبقي على ما كان عليه، ولم يعالج بشئ أكثر من إيكال الأمر في كل مصر إلى الحفاظ المتدينين الصالحين وهو في ذاته علاج واهن ضئيل"
وما بعدَ هذا، القول قولٌ في نسبة التصحيف إلى القرآن الكريم في
فقراءاته، إذ بقِيَ "منبعُ الشر الحقيقي وهو رسم العربية القابل لكل تصحيف" والعلاجُ الذى وضع له "علاج واهن ضئيل". فما ظنك بداء -في نظر معَاليه- لم يُجْتَث من جذوره، وبقي يعمل ويفشوا أكثر من ألفٍ وثلاثمائة سنة، لم يعالج إِلا بعلاج واهن ضئيل؟! حتى يأتي في آخر الزمان، مثل هذا الرجل النابغة، قيتخيَّرُ من القراءات ما طاب له، ويرفضُ سائرها، لأنها كلها نتيجة الاجتهاد في قراءة "الرسم العربي السخيف""القابل لكل تصحيف". وقد تريد الصدفة في اختياره أَن يختارَ غير "الشكل الواحد واللفظ الواحد الذي نزل به الملكُ على الرسول المختار" كما زعم المستشرقون.
وليس لنا بعدَ هذا إلا أَن نقول له ولهم: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . [النور: 16]
* * *
أَما بعد وقد وفينا البحث حقه فيما نرى: فإني أرجو أن أُظهرَ الناسَ على مبلغ علم معالي الباشا فيما هو أيسرُ من ذلك من العلم. فقد يبدو لي أنه - وإن كان من رجال القانون - عَرَفَ شيئاً من علم أصول الفقه، ولو بالقدر الذي يُعَلم في كلية الحقوق لطلاب القانون ولكن الباشا أتى بالعجب والعجاب، فإنه أَراد أَن يجادل أحد الرادِّينَ عليه، وأراد
أن يذكر الأدلة الشرعية الأربعة المعروفة: الكتاب والسنة والقياس والإجماع، فذكر الثلاثة الأول، وقال عن الإجماع (ص 27) ما نصه:"ثم نظروا - يعني المسلمين - فوجدوا أن أحوالا قائمة أو تقوم في الناس، وعلى الأخص فما فتحه المسلمون من الأمصار، من عادات في آداب السلوك وفي كيفية تناول وسائل الحياة والاستمتاع بها، ومن اصطلاحات ومواضعات وعُرْفٍ في المعاملات لم بأمر بها كتاب ولا سنة، ولم يمنع منها كتابُ ولا سنة. فأوجبوا بقاء تلك الأحوال، ما هو قائم منها وما يقوم، واعتبارَها أصلا يُصارُ إليه إذا حدث بسبب حال منها نزاع، وسَمَّوا علةَ هذا الاعتبار الإجماعَ. وجعلوه من أدلة التشريع الإسلامي ومصادره"!
ولست أحب أَن أجادله في النظرية التي أتى بها: أصحيحة أَم باطلة؟ وإنما أحب أَن أسائله عن صحة نقله. فإنه نَقَل أَن المسلمين عملوا هذا الذى زعم، وأنهم سَمَّوْه إجماعًا. فهو ينسب هذه النظرية لعلماء الإسلام على أنها هي الإجماع الذى بحتجون به ويجعلونه أَحدَ الأدلة الأربعة. أى أنه يجعل هذا هو تعريف الإجماعِ عندهم. والذين بحثوا في الإجماع، واستدلوا به، واعتبروه أَحدَ الأدلة، هم علماء الفقه وعلماء الأصول.
فأنا أسأل معاليه: أين وَجَد في كتاب من كتب الفقه أو من كتب
الأصول هذا التعريفَ للإجماع؟ سواء أكان من كتب المذاهب الأربعة أم من غيرها، من مذاهب الشيعة الإمامية أو الظاهرية أَو الزيدية، أو أي مذهب من مذاهب علماء الإسلام؟!
وليس له أَن يدعيَ أن هذا رأيةُ، وأَنه حر أَن يَرى ما يعتقد صحته. قليس المقامُ مقام رأي له، وإنما المقام مقامُ نقل أَطلقه عن علماء الإسلام جميعا، نسب إليهم فيه تعريفاً للإجماع لم يقله أَحد منهم قط، على كثرة الأقوال التي قالوا في تعريفه.
ولا مناص له من أَن يجيب. وعليه أن يذكر الكتابَ الذي نقل منه ويذكرَ الجزء والصفحة منه، ويُعَيِّنَ طبعةَ الكتاب إن كان مطبوعا ومكانَ وجوده إن كان مخطوطا!!
فإن لم يفعلْ - ولن يفعلَ - فقد عرفنا مقدارَ أَمانته في النفل، ومبلغَ علمه ببديهيات الإسلام! وسنرى.
* * *
وهذا الرجل الذي بلغ علمه بالقرآن وباللغة وبعلوم الإسلام ما ترى، والذي أشرب في قلبه قوانين الإفرنج حتى لا يسع غيرها، لم يكد يمسك القلم حتى خلق فرصة، لا أدري كيف خلقها، لإبراز ما يحمل قلبه من ضغن على التشريع الإسلامي، ولتقديس قوانين الإفرنج
والإشادة بها، وللذود عنها، خشية أن يفوز القائمون بالدعوة إلى تشريع مقتبس من الكتاب والسنة موافق لروح الإسلام وعقائد المسلمين.
فخرج عن موضوع بدعته الميتة "بدعة الحروف اللاتينية" إلى موضوع لا صلة له بها من قريب أو بعيد.
ولكن الله أراد أن يوفقه للإبانة عن ذات نفسه، والكشف عن خبيئة قلبه، ليوقن الناس أن بدعة الحروف اللاتينية جزء من خطة مرسومة واضحة مدمرة، يظن أصحابها أن سيفلحون.
وذلك أنه أراد أن يرد على الكاتب القدير: "السيد محب الدين الخطيب" في نقده بدعته، وأن يسوطه بلسانه الحاد، فوجد من أبرز عيوبه عنده أنه يدعو إلى العمل بالشريعة الإسلامية بدلاً من القوانين الأجنبية، فثارت ثائرته، وأخذته الحمية، غيرة على مقدساته أن تُنتقص من أطرافها، أو خشية أن تقتلع من جذورها، فتعود الأمة المصرية عربية الثقافة، عربية التفكير، عربية الدين. فذهب يهزأ بكل التشريع الإسلامي، ويسخر من علماء الإسلام، فإذا اضطره هواه أن يكرمهم بالقول خديعة للناس، افترى عليهم ورماهم بما إن صدق فيه كانوا غير مسلمين.
وسأنقل لكم بعض قوله في ذلك كله بحروفه، معرضاً عن فضول القول، مما سود به صحف كتابه، فاقرؤوا واعجبوا.
قال معاليه: "ولأني، من ناحية أخرى، رأيت أن له -يعني السيد محب الدين -غرضاً أساسياً يسعى إليه، هو تسويء كل القوانين الوضعية القائمة الآن في البلاد، والرجوع إلى ما بناه الفقهاء الأكرمون من صرح الشريعة الغراء، وهو غرض مهم في ذاته، ومن شأنه أن يدفع إلى الإشادة بما ترك الليث بن سعد وباقي السلف الصالح من الآثار، كما يدفع إلى النعي على كل حادث يُتوهم منه المساس بتلك المخلفات" ص40.
وقال: "إن الدين لله. أما سياسة الإنسان فللإنسان وما لله ثابت لا يتغير، لأن الله حي قيوم أبدي، يستحيل عليه التغير، أما ما للإنسان فكالإنسان يتغير ويتبدل ويحول ويزول بفعل الزمان والمكان والأحداث، وإذا كان أحد لا يستطيع في الإسلام أن يمس العقائد وفرائض العبادات، فإن الحاكم في الإسلام عليه، بهذا القيد، أن يسوس الناس عاملاً على أن يحقق مصالحهم بحسب الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤسساً عمله على الحق، خائطاً له بسياج من العدل الذي بدونه لا تنتظم أمور العباد. فهل يرى حضرة الطابع أو الكاتب في القوانين الموجودة الآن، من مدنية وتجارية وجنائية ومالية وإدارية، ومن نظم للهيئات المكلفة بتطبيقها وللهيئات التشريعية العليا المختصة بسنها وإصدارها -هل يرى في تلك النظم والقوانين ما
يخالف شيئاً من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فروض الدين؟ أو لا ينظر ويسمع هو ومن لف لفه، إن كان لهم أعين يبصرون بها أو آذان يسمعون بها، أن في الدولة المصرية من تلك النظم هيئة اسمها وزارة الأوقاف قائمة بتعمير مساجد الله وإقامة شعائر الدين في بيوت الله؟ وهل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين التي تتطور بالاستمرار تبعاً لأحوال الناس بل وللظروف العالمية جمعاء". ثم يقول له جواباً عن هذا السؤال:"إنك لن تستطيع الجواب. لأنك إن أجبت سلباً كذبت على السلف الصالح علنا"!! ص42.
ويقول أيضاً مستهتراً مُصِراً على رفض التشريع الإسلامي: "إننا الآن عيال على الأوربيين لا في خصوص العلوم والفنون فحسب، بل كذلك في أمور التشريعات والقوانين، وإن ثقل عليك قولي فسل رجال كلية الحقوق وكلية التجارة، وأقلام قضايا الحكومة التي تجهز مشروعات القوانين، وسل كل من بالمحاكم الأهلية والمختلطة من القضاة المصريين ومن يشتغل لديها من المحامين المصريين. سلهم يأتوك جميعاً بالخبر اليقين. ومن أجل هذا، مضافاً إليك طريقتك العوجاء في خدمة الدين، يؤسفني أني لن أجيب رغبتك في الرجوع لسلفنا الصالح، في أمر القوانين" ص44 - 45.
ثم يزداد إصراراً وتقديساً للسادة الأوروبيين فيقول: "وإذا كنت -على ما أظن- لم تتصل أنت ولا من يكتب لك، بقوانين الأوربيين ولم تدرس شيئاً من قوانين الأوربيين، فهل ترى لنفسك حقاً في الموازنة بين عمل سلفنا الصالح وعمل الأوربيين؟ لو سمحت لي بأن أدلك على الحق الواقع لما أحجمت عن إفادتك، بل سماحك ليس في العِير عندي ولا في النفير. اعلم معلماً، أن العقول التي كشفت لك عن عجائب الكهرباء وفجرت لجارك ينابيع النور في كل زاوية من أركان بيته العامر، وأغنته عن المسارج والقناديل وهمّ المسارج والقناديل، وهيأت للناس التلغراف السلكي واللاسلكي، وكشفت لك عن خواص الراديو فجعلت سمعك الضعيف يدرك ما يحدث بأقصى بقعة في الكرة الأرضية من الأصوات، كما كشفت لك عن معجزات الطيران الذي طبق عليك وعلي وعلى جميع الناس أرجاء السماء، هذه العقول الجبارة لها أخ من أبويها يشتغل إلى جانبها بمسائل القانون، ويسمو في بيئته إلى ما يسمو إليه إخوته الآخرون" ص45.
ثم لا يزداد إلا إصراراً وجهلاً بالدين وبأصول التشريع فيقول: "ارجع إلى عمل الصالحين السابقين يُفِدْك في العبادات والمعتقدات، لأنها لا تتغير بمر السنين، أما أحوال الاجتماع وسياسة الاجتماع وقوانين الاجتماع، فاتركنا أنت وغيرك نساير فيها أمم الأرض، ما دام قُوّامنا فيها، على كره منك،
يحترمون الدين ولا يخلون بشيء من أمور الدين. أنا وأنت مقتنعان بأن عملك وعمل كثير من أضرابك دنيوي واه لا شأن له بالدين، لأني أفهم الدين، ولأنك أنت ترى بعيني رأسك أن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين" ص46.
هذا بعض قوله بحروفه. وأستغفر الله من حكايته، ولولا الضرورة إلى نقله لنقضه والتحذير منه لما فعلت:
1 -
وقد بدأ معالي الباشا استدلاله بكلمة منكرة "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربي.
نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن يَنفُثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتواً، على
المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاً، للسادة الأوربيين "ذوي العقول الجبارة". ثم لا يستحي أحدهم أن يدعي أنه
يفهم الدين، وأن يزعم أنه مكتف بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!!
2 -
والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى:(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[سورة المائدة الآية: 44].
وقوله سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)[سورة الماءدة: 49]. أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟ وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله:(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً)[سورة الأحزاب: 36]. وقوله: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)[سورة النور: 47 - 51].
أفيجرؤ أن يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب!
3 -
ولقد كررت الدعوة إلى الأخذ بالتشريع الإسلامي المستند إلى الكتاب والسنة، وأسهبتُ في الدلالة على وجوب العمل به، في مناسبات عدة، أهمها محاضرة (6 ربيع الأول سنة 1360هـ - 3 أبريل سنة 1941م) وهي التي جعلناها القسم الثاني من هذا الكتاب.
4 -
ولست أدري وجه استدلال هذا الرجل العجيب بصفات الله الحسنى، وأنه أبديّ يستحيل عليه التغيّر، وبأن الإنسان يتغير ويتبدل، على صحة رأيه في رفض التشريع الإسلامي؟!
وما أظن أن أحداً يدري! ما لهذا وما للتشريع!!
إن الله سبحانه، وهو الحي القيوم، أنزل على رسوله شريعة كاملة، في العقائد والعبادات والمعاملات كلها، وأمر بطاعتها كلها، وجعل من يرفض شيئاً منها خارجاً عليها، حتى إنه ليقول لرسوله:
(أَلَمْ تَرَ
إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) [سورة النساء: 60 - 61]. ثم يقول له في هذه الآيات: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)[65].
5 -
وإني أسأل معالي الباشا سؤالاً واضحاً صريحاً، أرجو أن يجيبني عنه جواباً واضحاً صريحاً، لا حَيْدة فيه ولا دوران:
ما يقول هو وأمثاله في قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا) أهو فرض من فرائض الدين، واجب الطاعة على المسلمين، في كل زمان ومكان؟ أم هم يرونه أمراً قد سقطت طاعته عن المسلمين، بأنهم أخذوا أخذ الأوربيين، وبأنه في شأن من شؤون الإنسان، و"أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان؟ "(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً).
6 -
وهذا الاستدلال الطريف المدهش، بصفات الله الحسنى على إلغاء الشريعة الإسلامية! أيجد له هذا الرجل مثيلاً في استدلال العقلاء؟
لقد أعجبتني كلمة قالها الأخ الدكتور عبد الوهاب عزام، فيما
دفع به عدوان الباشا عليه، قال:"وليت شعري أهذا رأي حديث عرض لسعادة الأستاذ، أم كان بهذه الطريقة نفسها يعالج قضايا الناس محامياً ونائباً وقاضياً؟ "(مجلة الرسالة العدد 587 في 2 أكتوبر سنة 1944م). وصدق الدكتور عزام، فإن مغالطات الرجل في استدلاله بلغت حداً يسقط معه كل مناظرة. ولولا خشيةُ أن يُخْدَع ناس بشيء مما لعب به لما عبأنا بالرد عليه، ولأعرضنا عنه إعراضاً.
وإن استكثرتم عليه هذا الوصف فاقرؤوا اعتذاره بين يدي شتمه للدكتور عزام وسخريته منه في ص66 من كتابه، إذ يقول تبريراً لما جنى عليه:"على أن القلم والمداد والقرطاس كل أولئك ملك يدي، وانتفاع المرء بما يملك حلال في الشرع والقانون"!!
أفرأيتم أيها الناس حجة كهذه الحجة؟! وممن؟ من رجل وُسِم في وقت من الأوقات بأنه أكبر رجال القانون في مصر! ما أظن أن رجلاً من أضعف الناس مدارك يرضى لنفسه أن يبرر عدوانه على غيره بمثل هذا الكلام، ولكنه الاستعلاء والطغيان.
7 -
ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، ممن يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلامي، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة!
ما زعم لنا واحد منهم قط "أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان" وأن "الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمس العقائد وفرائض العبادات". لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته، وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان.
والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص.
فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج الإسلام جملة، ورفضه كله. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.
8 -
إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة.
9 -
وأعجب ما في الأمر أن يسأل معالي الباشا السيد محب الدين الخطيب: "هل يرى في تلك النظم والقوانين ما يخالف شيئا من عقائد المسلمين أو يعطل فرضاً من فرائض الدين؟ " وسأجيبه أنا جواباً حاسماً:
نعم، إن القوانين الإفرنحية والنظم الأوربية، فيها كثير مما يخالف عقائد المسلمين، وفيها تعطيل لكثير من فروض الدين.
فيها إباحة الخمور علناً، والترخيص رسمياً ببيعها، بتصريح كتابي يوقّع عليه وزير من وزراء الدولة أو موظف كبير من موظفيها. بل إن فريقاً من رجال الدولة الكبار لا يخجلون أن تدار عليهم الخمور في حفلات رسمية، ينفق عليها من أموال الدولة، بحجة أن هذا إكرام لمدعويهم من الأجانب، أو بما شئت من حجج تجردت من الحياء. حتى إن الدهماء ومن يسمونهم بسمة "الطبقة الراقية" اقتدوا بساداتهم وكبرائهم، واستغلوا هذه القوانين فيما يُذهب عقولهم ويذيب أموالهم، فانحطوا إلى الدرك الأسفل.
وفيها إباحة الميسر بكل أنواعه، بشروط ورخص وضعوها فخربت البيوت، واختلت الأعصاب والعقول، مما هو مشاهد، يعجز قلمي عن وصفه.
وفيها إباحة الفجور بطرق عجيبة، من حماية الفجار من الرجال
والنساء، من سلطان الآباء والأولياء، بحجة حماية الحرية الشخصية. ثم ما في الحانات والمواخير، ثم اختلاط الرجال والنساء، ثم المصايف وما فيها من البلاء، ثم هذه المراقص العامة والخاصة، بل المراقص التي تنفق عليها الدولة في الحفلات والتمثيل، اقتداء بالسادة الأوربيين" ذوي العقول الجبارة التي كشفت الكهرباء والراديو ومعجزات الطيران"!
وفيها إبطال الحدود التي نزل بها القرآن كلها، مسايرة لروح التطور العصري، واتباعاً لمبادئ التشريع الحديث! وتباً لهذا التشريع الحديث وسحقاً.
وفيها إهداء الدماء في القتلى، باشتراط شروط لم ينزل بها كتاب ولا سنة، في الحكم بالقصاص. مثل شرط سبق الإصرار، مع العمد الموجب وحده للقصاص في شرعة الإسلام.
ومثل البحث فيما يسمونه "الظروف المخففة" و"درس نفسية الجاني وظروفه". ومثل جعل حق العفو للدولة، لا لولي الدم، الذي جعل الله له وحده حق العفو بنص القرآن، فأهدرت الدماء، وفشا القتل للثأر، حتى لا رادع. والأمة والحكومة والصحف وغيرها، تتساءل عن علة ازدياد جرائم القتل؟ والعلة في هذه القوانين، التي خالفت العرف والدين.
إلى غير ذلك ما لا نستطيع أن نحصيه في هذه الكلمة
وكل هذه الأشياء وأمثالها تحليل لما حرم الله، واستهانة بحدود الله، وانفلات من الإسلام. وكلها حرب على عقائد المسلمين، وكلها تعطيل لفروض الدين.
10 -
ولسنا ننعيَ على هذه القوانين كل جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كل عصر وكل مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية، فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى البديهي من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!!
وهم، في نظر الشرع، مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا. أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما
جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربهم، ساخطين إذا ما دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم:"إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين"!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى "الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين".
11 -
والفرية الكبرى أن يرمي معالي الباشا فقهاءنا وأئمتنا السابقين، بما يخرجهم من الدين! فإنه سأل محب الدين:
"هل يحسب أن فقهاءنا الأكرمين، لو كان الله مد في أجلهم إلى اليوم، كانوا يأخذون في سياستنا بغير الموجود الآن من القوانين"؟ ثم لم يتريث حتى يجيبه محب الدين أو غيره، فبادر بالجواب، مثبتاً عليهم هذا الذي زعم، غير عابئ أن يخاصموه جميعاً فيَخْصِموه، بين يدي الله يوم القيامة، بأنه وصمهم بما لم يخطر ببال أحد غيره، وحسابه على الله.
ونحن نجيبه الجواب الحاسم الصحيح: أن سلفنا الصالح لو مد الله في أجلهم إلى اليوم، ما رضوا عن هذه القوانين، وما خنعوا لها وما استكانوا، بل ما جرؤ أحد أن يفكر في وضعها لبلاد المسلمين. وليس الذي ينفي عنهم عار هذه السُّبَّة هو الذي يكذب عليهم علناً، وهم أجلّ في أنفسهم وفي نفوس المسلمين، من أن يصدق عليهم ما رماهم به معاليه. ومن ظن بهم غير ذلك، فقد جهل العلم والدين، وأنكر التاريخ،
أو قال غير الحق، زراية بهم وإسرافاً عليهم، وهو يعلم أن الحق غير ما قال.
يا صاحب المعالي:
لعلي قد قسوت عليك بعض القسوة، بما لم تعتد أذنك سماعه من المتزلفين والمجاملين، وما أريد إلا الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته، والدفاع عن القرآن ومنع العبث به، والمحافظة على العربية ووحدة أممها. وقد يكون في هذا فائدة عظيمة في عاقبة أمرك، أن تعرف الإسلام وحقوقه، وترجع عما أخطأت فيه، فإن الرجل الحازم يعرف كيف يرجع إلى الحق علناً، كما حاد عنه علناً. فإن أبيت فلا تنس بيت بشر بن أبي خازم:
ولا يُنْجي من الغمرات إلا
…
بُراكاء القتال أو الفرار
*
…
*
…
*
أحمد محمد شاكر
الأحد 28 شوال سنة 1363.
15 أكتوبر سنة 1944