المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فضائل السورة: ورد في فضل هذه السورة مجموعة من الأخبار: أحدها: - - الكفاية في التفسير بالمأثور والدراية - جـ ٨

[عبد الله خضر حمد]

الفصل: ‌ ‌فضائل السورة: ورد في فضل هذه السورة مجموعة من الأخبار: أحدها: -

‌فضائل السورة:

ورد في فضل هذه السورة مجموعة من الأخبار:

أحدها: - ورد في فضلها حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، قالت:"إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة"(3).

والثاني: - تعدّ سورة المائدة من طوال سور القرآن، ومن أجلها منزلة وأعلاها مكانة، وكغيرها من السور المدنية تناولت القضايا التشريعية، كما هو شأن سورة البقرة، والنساء، والأنفال، إلى جانب احتضانها موضوع العقيدة، وقصص أهل الكتاب.

والثالث: - أنها آخر سورة نزلت من القرآن الكريم.

قال الرازي: "أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، وليس فيها منسوخ"(1).

قال أبو ميسرة: "المائدة من آخر ما نزل من القرآن، ليس فيها منسوخ وفيها ثمان عشرة فريضة"(2).

وكذلك يقول ابن تيمية: " سورة المائدة أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع من التحليل والتحريم والأمر والنهي؛ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هِيَ آخِرُ الْقُرْآنِ نُزُولًا فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا"، وهذا افتتحت بقوله:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، والعقود هي العهود وذكر فيها من التحليل والتحريم والإيجاب ما لم يذكر في غيرها" (3).

هذا ما تيسر من التمهيد للسورة، وسوف نبدأ في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل، والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول والعمل. وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونوايانا خالصة لوجهه الكريم.

(1) مفاتيح الغيب: 12/ 452.

(2)

الجامع أحكام القرآن: 6/ 30.

(3)

مجموع الفتاوى: 14/ 448

ص: 9

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)} [المائدة: 1]

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، أتِمُّوا عهود الله الموثقة، من الإيمان بشرائع الدين، والانقياد لها، وأَدُّوا العهود لبعضكم على بعض من الأمانات، والبيوع وغيرها، مما لم يخالف كتاب الله، وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام، وهي الإبلُ والبقر والغنم، إلا ما بيَّنه لكم من تحريم الميتة والدم وغير ذلك، ومن تحريم الصيد وأنتم محرمون. إن الله يحكم ما يشاء وَفْق حكمته وعدله.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 1]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(1).

قال الطبري: أي: " يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهة وصدَّقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه"(2).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(3).

قال الزجاج: " أي: يا أيها الذين صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم "(4).

قال سعيد بن جبير: "قوله: {آمنوا بالله}، يعني: بتوحيد الله"(5).

قال ابن عثيمين: "إن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(6).

(1) التفسير الميسر: 106.

(2)

جامع البيان: 9/ 447.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(4)

معاني القرآن: 2/ 139.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6104): ص 4/ 1090.

(6)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

ص: 10

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(1).

قال خيثمة: "ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(2).

قال القرطبي: " قال علقمة: كل ما في القرآن {يا أيها الذين آمنوا}، فهو مدني، و {يا أيها الناس} فهو مكي، وهذا خرج على الأكثر"(3).

واختلف في المخاطبين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 1]، على قولين:

أحدهما: أنهم المؤمنون من أمة محمد-صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قول ابن عباس (4)، ومجاهد (5)، وقتادة (6)، والحسن (7)، عبدالله بن عبيدة (8)، ومحمد بن كعب القرظي (9)، وابن زيد (10)، ومقاتل (11)، واختاره ابن عطية (12)، والقرطبي (13)، وهو قول الجمهور (14).

قال ابن عطية: " ولفظ «المؤمنين» يعم مؤمني أهل الكتاب، إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة"(15).

والثاني: أنهم أهل الكتاب، وفيهم نزلت، وهذا قول ابن جريج (16)، .

ويسنده قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187]، ذكره ابن العربي (17).

والصحيح، أنها عامة، لأن" لفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب، لأن بينهم وبين الله عقدا في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم مأمورون بذلك في قوله: {أوفوا بالعقود} وغير موضع"(18).

قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، أي:" أتِمُّوا عهود الله الموثقة، من الإيمان بشرائع الدين، والانقياد لها، وأَدُّوا العهود لبعضكم على بعض من الأمانات، والبيوع وغيرها، مما لم يخالف كتاب الله، وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم"(19).

قال الواحدي: " يعني: بالعهود المؤكَّدة التي عاهدتموها مع الله والنَّاس"(20).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 31.

(4)

انظر: تفسير الطبري (10907): ص 9/ 452.

(5)

انظر: تفسير الطبري (10908): ص 9/ 452 - 453.

(6)

انظر: تفسير الطبري (10905)، و (10906): ص 9/ 452.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 6، وتفسير القرطبي: 6/ 32.

(8)

انظر: تفسير الطبري (10909): ص 9/ 453.

(9)

انظر: تفسير الطبري (10910): ص 9/ 453.

(10)

انظر: تفسير الطبري (10911)، و (10912): ص 9/ 453.

(11)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 448.

(12)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 143.

(13)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 32.

(14)

انظر: زاد المسير: 1/ 505.

(15)

المحرر الوجيز: 2/ 143.

(16)

انظر: تفسير الطبري (10913): ص 9/ 454.

(17)

.

(18)

تفسير القرطبي: 6/ 32.

(19)

التفسير الميسر: 106.

(20)

الوجيز: 306.

ص: 11

قال الطبري: أي: "أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربَّكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها"(1).

قال الزجاج: " خاطب الله جل وعز جميع المؤمنين بالوفاء بالعقود التي عقدها الله عليهم، والعقود التي يعقدها بعضهم على بعض على ما يوجبه الدين

و {العقود} : العهود" (2).

قال الشافعي: " جماع الوفاء بالنذر وبالعهد، كان بيمين أو غيرها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية، وهذا من سعة لسان العرب الذي خوطبت به، وظاهره عام على كل عقد، ويشبه - واللَّه تعالى أعلم - أن يكون أراد اللَّه عز وجل، أن يوفى بكل عقد كان بيمين أو غير يمين، وكل عقد نذر، إذا كانت في العقد لله طاعة، ولم يكن فيما أمر بالوفاء منها معصية"(3).

قال الجصاص: " اشتمل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] "(4).

قال الزمخشري: "والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه وأنه كلام قدم مجملا ثم عقب بالتفصيل وهو قوله أحلت لكم وما بعده"(5).

و«العقود» ، جمع:«عَقْدٍ» ، وأصل «العقد» ، عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يعقد الحبل بالحبلِ، إذا وصل به شدًّا. يقال منه: عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده، ومنه قول الحطيئة (6):

قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ

شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا

وذلك إذا وَاثقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه، من أمان وذِمَّة، أو نصرة، أو نكاح، أو بيع، أو شركة، أو غير ذلك من العقود (7).

والمراد بالإيفاء بالعهد" إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة"(8).

وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، ستة أقاويل:

أحدها: أنها عهود الله، التي أخذ بها الإِيمان، على عباده فيما أحله لهم، وحرمه عليهم، وهذا قول ابن عباس (9)، ومجاهد (10).

(1) جامع البيان: 9/ 447.

(2)

معاني القرآن: 2/ 139.

(3)

تفسير الغمام الشافعي: 2/ 692.

(4)

أحكام القرآن: 3/ 286.

(5)

الكشاف: 1/ 601.

(6)

ديوانه: 6، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 145، اللسان (كرب)(عنج)، من قصيدته التي قالها في الزبرقان بن بدر، وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة، فمدح بغيضًا وقومه فقال: قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ، وَالأَذْنَابُ غَيْرهُمُ،

وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا!

قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ العَيْنِ جَارُهُمُ

إذَا لَوَى بقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا

قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا ........

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

هذا مثل ضربه يقول: إذا عقدوا للجار عقدًا وذمامًا، أحكموا على أنفسهم العقد، حتى يكون أقر عينًا بنصرتهم له، وحمايتهم لعرضه وماله. وضرب المثل بالدلو، التي يستقي بها وينتفع. و"العناج": خيط يشد في أسفل الدلو، ثم يشد في عروتها، أو في أحد آذانها، فإذا انقطع حبل الدلو، أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر. و"الكرب" الحبل الذي يشد على الدلو بعد"المنين" وهو الحبل الأول، فإذا انقطع المنين بقي الكرب. فهذا هو المثل، استوثقوا له بالعهد، كما استوثقوا لدلوه بالحبل بعد الحبل حتى تكون بمأمن من القطع.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 451 - 452، ومعاني القرآن للزجاج: 2/ 139 - 140.

(8)

تفسير الطبري: 9/ 455.

(9)

انظر: تفسير الطبري (10907): ص 9/ 452.

(10)

انظر: تفسير الطبري (10908): ص 9/ 452 - 453.

ص: 12

والثاني: أنها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب أن يعملوا بما في التوراة، والإِنجيل من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن جريج (1).

قال، قال محمد بن مسلم:"قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نَجْران فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فيه: «هذا بيان من الله ورسوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، فكتب الآيات منها حتى بلغ، {إن الله سريع الحساب} "(2).

والثالث: أنها عهود الجاهلية وهي الحلف الذي كان بينهم على النُّصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءً. وهذا قول قتادة (3).

الرابع: عهود الدين كلها، وهذا قول الحسن (4).

والخامس: أنها العقود التى يتعاقدها الناس بينهم من بيع، أو نكاح، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول عبدالله بن عبيدة (5)، ومحمد بن كعب القرظي (6)، وابن زيد (7).

والسادس: يعني: بالعهود التي بينكم وبين المشركين. وهذا قول مقاتل (8).

والظاهر-والله أعلم- هو القول الأول، وأن معناه:"أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم، وعقدها فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم، وألزمكم فرضه، وبيَّن لكم حدوده، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك أن قوله: {أوفوا بالعقود}، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه، مع أن قوله: {أوفوا بالعقود}، أمرٌ منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه، فغير جائز أن يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذْ كان الأمر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجَّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمرَ الله بالوفاء بها دون بعض"(9).

قال السعدي: " هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود، أي: بإكمالها، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها. وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئا، والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم.

والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات، كالبيع والإجارة، ونحوهما، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله:{إنما المؤمنون إخوة} بالتناصر على الحق، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع، فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها" (10).

قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1]، أي:" وقد أحَلَّ الله لكم البهيمة من الأنعام، وهي الإبلُ والبقر والغنم"(11).

قال الزجاج: اي: " أي: أحلت لكم الإبل والبقر والغنم والوحش"(12).

(1) انظر: تفسير الطبري (10913): ص 9/ 454.

(2)

أخرجه الطبري (10914): 9/ 454.

(3)

انظر: تفسير الطبري (10905)، و (10906): ص 9/ 452.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 6، وتفسير القرطبي: 6/ 32.

(5)

انظر: تفسير الطبري (10909): ص 9/ 453.

(6)

انظر: تفسير الطبري (10910): ص 9/ 453.

(7)

انظر: تفسير الطبري (10911)، و (10912): ص 9/ 453.

(8)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 448.

(9)

تفسير الطبري: 9/ 454.

(10)

تفسير السعدي: 218.

(11)

التفسير الميسر: 106.

(12)

معاني القرآن: 2/ 140.

ص: 13

قال مقاتل: " يعني: أحل لكم أكل لحوم الأنعام الإبل والبقر والغنم والصيد كله"(1).

قال الزمخشري: " البهيمة: "كل ذات أربع في البر والبحر، وإضافتها إلى {الأنعام} للبيان، وهي الإضافة التي بمعنى «من» كخاتم فضة. ومعناه: البهيمة من الأنعام" (2).

قال السعدي: " {أحلت لكم}، أي: لأجلكم، رحمة بكم {بهيمة الأنعام} من الإبل والبقر والغنم، بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها، والظباء وحمر الوحش، ونحوها من الصيود"(3).

واختلف في معنى قوله تعالى: {بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1]، على ثلاثة أقوال:

أحدها: أن المراد: الأنعام كلها. وهذا قول الحسن (4)، وقتادة (5)، والضحاك (6)، والربيع بن انس (7)، والسدي (8).

والثاني: أنها أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها -إذا نحرت أو ذبحت- ميتةً. وهذا قول ابن عباس (9)، وابن عمر (10).

والثالث: أنها وحشيُّها، كالظباء وبقر الوحش والحُمُر. وهذا قول الفراء (11).

والراجح-والله أعلم- هو القول الأول، أي:"الأنعام كلها: أجنَّتها وسِخَالها وكبارها، لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك «بهيمة وبهائم»، ولم يخصص الله منها شيئًا دون شيء، فذلك على عمومه وظاهره، حتى تأتى حجة بخصوصه يجب التسليم لها"(12).

و«النعم» عند العرب، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة، كما قال جل ثناؤه:{وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5]، ثم قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً] [النحل: 8]، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان (13).

وأما «بهائم الأنعام» ، فإنها أولادها، فيلزم الكبار منها اسم «بهيمة» ، كما يلزم الصغار، لأن معنى قول القائل:«بهيمة الأنعام» ، نظير قوله:«ولد الأنعام» ، فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر (14).

قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، أي:" إلا ما بيَّنه لكم من تحريم الميتة والدم وغير ذلك"(15).

قال ابن كثير: " أي: إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال"(16).

قال الزمخشري: أي: " إلا محرم ما يتلى عليكم من القرآن"(17).

قال مقاتل: " يعني: غير ما نهى الله- عز وجل عن أكله مما حرم الله- عز وجل من الميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة"(18).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 448.

(2)

الكشاف: 1/ 601.

(3)

تفسير السعدي: 218.

(4)

انظر: تفسير الطبري (10915): ص 9/ 455.

(5)

انظر: تفسير الطبري (10916): ص 9/ 455.

(6)

انظر: تفسير الطبري (10920): ص 9/ 455 - 456

(7)

انظر: تفسير الطبري (10918): ص 9/ 455.

(8)

انظر: تفسير الطبري (10917): ص 9/ 455.

(9)

انظر: تفسير الطبري (10923) - (10926): ص 9/ 456.

(10)

انظر: تفسير الطبري (10921)، و (10922): ص 9/ 456.

(11)

انظر: نعاني القرآن: 1/ 298.

(12)

تفسير الطبري: 9/ 457.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 457.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 457.

(15)

التفسير الميسر: 106.

(16)

تفسير ابن كثير: 2/ 8.

(17)

الكشاف: 1/ 601.

(18)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 448.

ص: 14

واختلف في قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، على قولين

أحدهما: معناه: إلا ما بيَّن الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)، الآية [سورة المائدة: 3]. وهذا قول ابن عباس (1)، ومجاهد (2)، وقتادة (3)، والسدي (4).

قال ابن كثير: " والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض"(5).

والثاني: أن الذي استثنى الله بقوله: {إلا ما يتلى عليكم} ، الخنزير. وهذا قول ابن عباس-في رواية أخرى- (6)، والضحاك (7).

والراجح-والله أعلم- هو القول الأول، "لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام، ما حرَّم عليهم منها. والذي حرّم عليهم منها، ما بيّنه في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ} [المائدة: 3]، وإن كان حرَّمه الله علينا، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرَّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء، أشبهُ من استثناء ما حرَّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء"(8).

قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، أي:"ومن تحريم الصيد وأنتم محرمون"(9).

قال مقاتل: " يقول: من غير أن تستحلوا الصيد {وأنتم حرم}، يقول: إذا كنت محرما بحج أو عمرة فالصيد عليك حرام كله غير صيد البحر فإنه حلال لك"(10).

قال الواحدي: " يعني: إلَاّ أن تحلُّوا الصَّيد في حال الإِحرام فإنَّه لا يحلُّ لكم"(11).

قال السعدي: " أي: أحلت لكم بهيمة الأنعام في كل حال، إلا حيث كنتم متصفين بأنكم غير محلي الصيد وأنتم حرم، أي: متجرئون على قتله في حال الإحرام، وفي الحرم، فإن ذلك لا يحل لكم إذا كان صيدا، كالظباء ونحوه، والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش"(12).

واختلف في قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه من المؤخر الذي معناه التقديم، والتقدير:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} {غير محلي الصيد وأنتم حرم} {أحلت لكم بهيمة الأنعام} (13).

والمعنى: أوفوا، أيها المؤمنون، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه، لا محلّين الصيد وأنتم حرم (14).

والثاني: ان المعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر {غير محلي الصيد} ، غير مستحلِّي اصطيادها، وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم (15).

(1) انظر: تفسير الطبري (10931)، و (10932): ص 9/ 458.

(2)

انظر: تفسير الطبري (10927): ص 9/ 457 - 458.

(3)

انظر: تفسير الطبري (10928)، و (10929): ص 9/ 458.

(4)

انظر: تفسير الطبري (10930): ص 9/ 458.

(5)

تفسير ابن كثير: 2/ 8.

(6)

انظر: تفسير الطبري (10933): ص 9/ 458.

(7)

انظر: تفسير الطبري (10934): ص 9/ 458.

(8)

تفسير الطبري: 9/ 459.

(9)

التفسير الميسر: 106.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 448.

(11)

الوجيز: 306.

(12)

تفسير السعدي: 218.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 459.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 459.

(15)

انظر: معاني القرآن للفراء 1: 298، وتفسير الطبري: 9/ 460.

ص: 15

والثالث: أن المعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها {إلا ما يتلى عليكم} ، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل لكم وأنتم حرم. وهذا قول الربيع بن انس (1).

والراجح من التفسير أن يقال: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففيما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها، متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم"(2). -والله أعلم-.

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، أي:"إن الله يحكم ما يشاء وَفْق حكمته وعدله"(3).

قال قتادة: " إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبيّن لعباده، وفرض فرائضه، وحدَّ حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته"(4).

قال مقاتل: " فحكم أن جعل ما شاء من الحلال حراما، وجعل ما شاء مما حرم في الإحرام من الصيد حلالا"(5).

قال الزجاج: " أي الخلق له عز وجل، يحل منه ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد"(6).

قال ابن الجوزي: " أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد"(7).

قال الطبري: أي: " إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه = فأوفوا، أيها المؤمنون، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرّم عليكم، وغير ذلك من عقوده، فلا تنكثوها ولا تنقضوها"(8).

قال السعدي: " أي: فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا لحكمته، كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم، وأحل لكم بهيمة الأنعام رحمة بكم، وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات العوارض، من الميتة ونحوها، صونا لكم واحتراما، ومن صيد الإحرام احتراما للإحرام وإعظاما"(9).

الفوائد:

1 -

وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.

2 -

إباحة أكل لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.

3 -

تحريم الصيد في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر.

4 -

استدل بعض الصحابة بهذه الآية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن أمه بعدما تذبح.

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)} [المائدة: 2]

(1) انظر: تفسير الطبري (10935)، و (10936): ص 9/ 460.

(2)

تفسير الطبري: 9/ 461.

(3)

التفسير الميسر: 106.

(4)

أخرجه الطبري (10937): ص 9/ 462.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 448.

(6)

معاني القرىن: 2/ 142.

(7)

زاد المسير: 1/ 506.

(8)

تفسير الطبري 9/ 462.

(9)

تفسير السعدي: 218.

ص: 16

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تتعدَّوا حدود الله ومعالمه، ولا تستحِلُّوا القتال في الأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وكان ذلك في صدر الإسلام، ولا تستحِلُّوا حرمة الهَدْي، ولا ما قُلِّدَ منه; إذ كانوا يضعون القلائد، وهي ضفائر من صوف أو وَبَر في الرقاب علامةً على أن البهيمة هَدْيٌ وأن الرجل يريد الحج، ولا تَسْتَحِلُّوا قتال قاصدي البيت الحرام الذين يبتغون من فضل الله ما يصلح معايشهم ويرضي ربهم. وإذا حللتم من إحرامكم حلَّ لكم الصيد، ولا يحمِلَنَّكم بُغْض قوم من أجل أن منعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام -كما حدث عام «الحديبية» - على ترك العدل فيهم. وتعاونوا -أيها المؤمنون فيما بينكم- على فِعْل الخير، وتقوى الله، ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية وتجاوز لحدود الله، واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب.

في سبب نزول الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها نزلت في شريح بن ضبيعة. وهذا قول ابن عباس (1)، والسدي (2)، وعكرمة (3)، وابن جريج (4).

قال السدي: أقبل الحُطم بن هند البكري، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة (5) حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وخَلَّف خيله خارجة من المدينة. فدعاه، فقال: إلام تدعو؟ فأخبره، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان! ، فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال: انظر، ولعلّي أسلم ولي من أشاوره، فخرج من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعَقِب غادرٍ! فمرَّ بسَرْح من سَرْح المدينة فساقه، فانطلق به وهو يرتجز (6):

قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ

لَيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَم

وَلا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ الوَضَمْ

بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ

بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلامٌ كَالزَّلَمْ

خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ

ثم أقبل من عام قابلٍ حاجًّا قد قلَّد وأهدى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ:"ولا آمين البيت الحرام". قال له ناس من أصحابه: يا رسول

(1) انظرك اسباب النزول للواحدي: 189.

(2)

انظر: الطبري (10958): ص 9/ 472 - 473.

(3)

انظر: تفسير الطبري (10959): 9/ 473 - 474، وتفسير عبدالرزاق: 2/ 10، وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 10) وزاد نسبته لابن المنذر. . [سنده ضعيف].

(4)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 474.

(5)

الحطم" لقب، واسمه: "شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، من بكر بن وائل" (جمهرة الأنساب: 301)، وهذا"الحطم"، خرج في الردة، في السنة الحادية عشرة، فيمن تبعه من بكر بن وائل، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرًا، فخرج بهم حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط، ومن فيها من الزط والسيابجة. وحاصر المسلمين حصارًا شديدًا. فتجمع المسلمون جميعًا إلى العلاء بن الحضرمي، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم. ثم بيتهم المسلمون وقتلوا الحطم ومن معه في خبر طويل. [انظر: تاريخ الطبري 3/ 254 - 260].

(6)

اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافًا كثيرًا، فنقل التبريزي في شرح الحماسة (1: 185) خبر رشيد بن رميض العنزي (بفتح العين، وسكون النون) من بني عنز بن وائل، بلا شك عندي في ذلك. قال التبريري: " قالها في غارة الحطم، وهو شريح بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد، أغار على اليمن، فقتل وليعة بن معد يكرب، أخا قيس، وسبى بنت قيس بن معد يكرب، أخت الأشعث بن قيس، فبعث الأشعث يعرض عليه في فدائها، بكل قرن من قرونها (ضفائرها) مئة من الإبل. فلم يفعل الحطم، وماتت عنده عطشًا. (وانظر غير ذلك في الأغاني 14: 44).

ونسبت أيضًا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي. وانظر ذلك في تحقيق أستاذنا الراجكوتي، سمط اللآلئ:729. ولعل " الحطم " أنشده مدحًا لنفسه فيما فعل من سوق السرح.

ص: 17

الله، خلِّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا! قال: إنه قد قلَّد! قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم، فنزلت هذه الآية" (1). [ضعيف جدا](2).

والثاني: أن ناسا من المشركين جاءوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله تعالى ولا آمين البيت الحرام (3). وهذا قول ابن عباس أيضا (4)، وقتادة (5)، وابن زيد (6).

قال ابن عباس: " كان المشركون يحجون البيت الحرام، ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، ويتجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يَغِيرُوا عليهم؛ فقال الله عز وجل:{لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (7). [حسن].

والثالث: أن قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]، نزلت في النهي عن الطلب بذُحول الجاهلية. وهذا قول مجاهد (8).

أخرج الطبري عن مجاهد في قول الله: " {أن تعتدوا}، رجل مؤمن من حلفاء محمد، قتل حليفًا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة، لأنه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: لعن الله من قتل بذَحْل الجاهلية"(9).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 2]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(10).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(11).

قوله تعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2]، أي:" لا تستحلوا حُرمات الله ولا تعتدوا حدوده"(12).

قال الطبري: أي: " لا تستحلوا، أيها الذين آمنوا، معالم الله فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج"(13).

قال الماوردي: " أى: معالم الله، مأخوذ من الإِشعار وهو الإِعلام"(14).

الحرام" (15).

وفي «شعائر الله» ، خمسة تأويلات:

أحدها: أنها مناسك الحج، وهو قول ابن عباس (16)، ومجاهد (17)، ومقاتل (18)، والإمام الشافعي (19).

(1) أخرجه الطبري (10958): ص 9/ 472 - 473.

(2)

أخرجه الطبري من طريق أحمد بن المفضل ثنا أسباط بن نصر عن السدي به. قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف أسباط.

(3)

انظر: زاد المسير: 1/ 507.

(4)

انظر: تفسير الطبري (10941): ص 9/ 463.

(5)

انظر: تفسير الطبري (10976): ص 9/ 478، تفسير عبدالرزاق: 1/ 1/182، ووالناسخ والمنسوخ للنحاس: 111، ونسبه السيوطي في الدر المنثور: 3/ 8، لعبد بن حميد.

(6)

انظر: تفسير الطبري (10960): 9/ 474.

(7)

أخرجه الطبري (10941): ص 9/ 463، وابن أبي حاتم؛ كما في "الدر المنثور": 3/ 5، والنحاس في "ناسخه":111. وزاد السيوطي نسبته في "الدر المنثور" لابن المنذر.

(8)

انظر: تفسير الطبري (10997)، و (10998): ص 9، 489

(9)

أخرجه الطبري (10997): ص 9، 489

(10)

التفسير الميسر: 106.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(12)

صفوة التفاسير: 301.

(13)

تفسير الطبري: 9/ 464.

(14)

النكت والعيون: 2/ 6.

(15)

معاني القرآن: 2/ 142.

(16)

انظر: تفسير الطبري (10940)، و (10941): ص 9/ 463.

(17)

انظر: تفسير الطبري (10942)، و (10943): ص 9/ 463 - 464.

(18)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(19)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 695.

ص: 18

والثاني: أنها ما حرمه الله فى حال الإحرام، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً (1).

والثالث: أنها حرم الله، وهو قول السدي (2).

والرابع: أنها حدود الله فيما أحل وحرَّم وأباح وحظَّر، وهو قول عطاء (3)، واختيار الطبري (4).

والخامس: هي دين الله كله، وهو قول الحسن (5)، كقوله تعالى:{ذّلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَآئِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 22]، أى:"دين الله"(6).

والراجح-والله اعلم- هو قول عطاء، والمعنى:" لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه، لأن «الشعائر» جمع: شعيرة، من قول القائل: قد شعر فلان بهذا الأمر، إذا علم به، فـ «الشعائر»، المعالم، من ذلك"(7).

قال الزجاج: " الشعائر: واحدتها شعيرة، ومعناه ما أشعر، أي: أعلم ليهدى إلى بيت الله"(8).

قال الزمخشري: " وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج، وأن يتعرض للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله"(9).

قال الجصاص: " فقوله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله}، قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعي بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روي عن مجاهد (10)، لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم بهما فثبت أنهما من شعائر الله"(11).

قوله تعالى: {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، أي:" ولا تستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه"(12).

قال ابن عباس: " يعني: لا تستحلوا قتالا فيه"(13).

قال قتادة: " كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت"(14).

وفي تفسير «الشَّهْر الْحَرَام» ثلاثة اقاويل:

أحدها: أنه رَجَبُ مُضَر. اختاره الطبري (15).

(1) انظر: تفسير الطبري (10944): ص 9/ 464.

(2)

انظر: تفسير الطبري (10939): ص 9/ 463.

(3)

انظر: تفسير الطبري (10938): ص 9/ 462.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 464.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 6.

(6)

النكت والعيون: 2/ 6.

(7)

تفسير الطبري: 9/ 464.

(8)

معاني القرآن: 2/ 142.

(9)

الكشاف: 1/ 602.

(10)

انظر: تفسير الطبري (10942)، و (10943): ص 9/ 463 - 464.

(11)

أحكام القرآن: 3/ 291.

(12)

صفوة التفاسير: 301.

(13)

أخرجه الطبري (10945): ص 9/ 465.

(14)

أخرجه الطبري (10946): ص 9/ 465.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 466.

ص: 19

والثاني: أنه ذو العقدة، وهو قول عكرمة (1).

والثالث: أنها الأشهر الحرم، وهو قول قتادة (2).

قوله تعالى: {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} [المائدة: 2]، أي:"ولا تستحلوا ما أُهدي إِلى البيت أو قُلّد بقلادة -ليعرف أنه هدي- بالتعرض له ولأصحابه"(3).

الهدي: " فهو ما أهداه المرء من بعيرٍ أو بقرة أو شاة أو غير ذلك، إلى بيت الله، تقرُّبا به إلى الله، وطلبَ ثوابه"(4).

وأما «الهدي» ، ففيه قولان:

أحدهما: أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى (5).

والثاني: أنه ما لم يقلّد من النعم، وقد جعل على نفسه، أن يُهديه ويقلده، وهو قول ابن عباس (6).

وأما «القلائد» ، ففيها ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها قلائد الهدْي، وهو قول ابن عباس (7).

قال ابن عباس: " القلائد، مقلَّدات الهدي. وإذا قلَّد الرجل هديه فقد أحرم. فإن فعل ذلك وعليه قميصه، فليخلَعْه (8).

والثاني: أنها قلائد من لحاء الشجر، كان المشركون إذا أرادوا الحج قلدوها فى ذهابهم إلى مكة، وعَوْدهم ليأمنوا، وهذا قول قتادة (9).

والثالث: أن المشركين كانوا يأخذون لحاء الشجر من الحرم إذا أرادوا الخروج منه، فيتقلدونه ليأمنوا، فَنُهوا أن ينزعوا شجر الحرم فيتقلدوه، وهذا قول عطاء (10)، ومجاهد (11)، والسدي (12)، وابن زيد (13).

قال قال عطاء: " كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السَّمُر، فيتقلدونها، فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينزع شجرها فَيُتَقَلَّد"(14).

قال مُطرِّف بن الشخير: " كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لِحاء السمر، فيتقلدون، فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن يُنزع شجرها فيتقلَّد"(15).

قال الزجاج: كانوا يقلدون بلحاء الشجر ويعتصمون بذلك وهذا كله كان للمشركين، وكان قد أمر المسلمون بأن لا يحلوا هذه الأشياء التي يتقرب بها المشركون إلى الله" (16).

قال الطبري: " والذي هو أولى بتأويل قوله: " ولا القلائد " إذ كانت معطوفة على أول الكلام، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه: ولا تُحِلّوا القلائد، فإذا كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نَهْيٌ من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلَّد، هديًا كان ذلك أو إنسانًا، دون حرمة القلادة.

(1) انظر: تفسير الطبري (10947): ص 9/ 466.

(2)

انظر: تفسير الطبري (10967): ص 9/ 476.

(3)

صفوة التفاسير: 301.

(4)

تفسير الطبري: 9/ 466.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 466.

(6)

انظر: تفسير الطبري (10948): ص 9/ 467.

(7)

انظر: تفسير الطبري (10949): ص 9/ 467.

(8)

أخرجه الطبري (10949): ص 9/ 467.

(9)

انظر: تفسير الطبري (10950): ص 9/ 468.

(10)

انظر: تفسير الطبري (10951): ص 9/ 468.

(11)

انظر: تفسير الطبري (10952)، و (10953): ص 9/ 468.

(12)

انظر: تفسير الطبري (10954): ص 9/ 468.

(13)

انظر: تفسير الطبري (10955): ص 9/ 469.

(14)

أخرجه الطبري (10956): ص 9/ 469.

(15)

أخرجه الطبري (10957): ص 9/ 469.

(16)

معاني القرآن: 2/ 142.

ص: 20

وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة، على ما ذكرنا من حرمة المقلَّد، فاجتزأ بذكره «القلائد» من ذكر «المقلد» ، إذ كان مفهومًا عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به.

وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأوَّل " القلائد " أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلَّدا ذلك (1):

أَلَمْ تَقْتُلا الْحِرْجَيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَا (2)

يُمِرَّانِ بِالأيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا

و«الحرجان» ، المقتولان كذلك. ومعنى قوله:«أعوراكما» ، أمكناكما من عورتهما" (3).

قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، أي:" ولا تَسْتَحِلُّوا قتال قاصدي البيت الحرام"(4).

قال ابن عباس: " يقول: من توجَّه حاجًّا"(5).

قال الضحاك: " يعني: الحاج"(6).

قال مطرِّف بن الشخّير: " الذين يريدون البيت"(7).

قال ابن جريج: ": ينهى عن الحجاج أن تُقطع سبلهم"(8).

قال الطبري: أي: " ولا تحلُّوا قاصدي البيت الحرام العامدية"(9).

قال ابن كثير: " أي: ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام، الذي من دخله كان آمنا"(10).

قال الزمخشري: "آموا المسجد الحرام: قاصدوه، وهم الحجاج والعمار"(11).

يقال: أممت كذا، إذا قصدته وعمدته، وبعضهم يقول: يَمَمْته، كما قال الشاعر (12):

إنِّي كَذَاكَ إذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ

يَمَمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا

و{البيت الحرام} ، بيت الله الذي بمكة (13).

(1) أشعار الهذليين 3: 19، والمعاني الكبير: 1120، واللسان (حرج). و " الحرج " (بكسر الحاء وسكون الراء): الودعة، قالوا: عنى بالحرجين: رجلين أبيضين كالودعة، فإما أن يكون البياض لونهما، وإما أن يكون كنى بذلك عن شرفهما. وقال شارح ديوانه:" ويكون أيضًا الحرجان، رجلين يقال لهما: الحرجان ". و " أمر الحبل يمره ": فتله. و " اللحاء "، قشر الشجر. و " المضفر " الذي جدل ضفائر.

هذا وقد ذكر أبو جعفر أن الشعر في رجلين قتلا رجلين، وروى " ألم تقتلا "، والذي في المراجع " ألم تقتلوا "، وهو الذي يدل عليه سياق الشعر، فإن أوله قبل البيت: ألا أبْلِغَا جُلَّ السَّوَارِي وَجابرًا

وَأَبْلِغْ بَني ذِي السَّهْم عَنِّي وَيَعْمَرَا

وَقُولا لَهُمْ عَنِّي مَقَالَةَ شَاعِرٍ

أَلَمّ بقَوْلٍ، لَمْ يُحَاوِلْ لِيَفْخَرَا

لَعَلَّكُمْ لَمَّا قَتَلْتُمْ ذَكَرْتُمُ

وَلَنْ تَتْرُكُوا أَنْ تَقْتُلُوا، مَنْ تَعَمَّرَا

فالشعر كله بضمير الجمع. وسببه أن جندبًا، أخو البريق بن عياض اللحياني، قتل قيسًا وسالمًا ابني عامر بن عريب الكنانيين، وقتل سالم جندبًا، اختلفا ضربتين.

(2)

رواية أبي جعفر كما شرحها " أعوراكما "، ورواية الديوان " أعورا لكم "، وهي في سياق لمشعر، ورواية اللسان:" أعرضا لكم "، ويروي " عورا لكم " بتشديد الواو. هذا على أن هذه الرواية:" أعور " متعديًا، والذي كتب في اللغة " أعور لك الشيء فهو معور ".

(3)

تفسير الطبري: 9/ 469 - 470.

(4)

التفسير الميسر: 106.

(5)

أخرجه الطبري (10961): ص 9/ 474 - 475.

(6)

أخرجه الطبري (10962): ص 9/ 475.

(7)

أخرجه الطبري (10963): ص 9/ 475.

(8)

تفسير الطبري: 9/ 474.

(9)

تفسير الطبري: 9/ 471.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 10.

(11)

الكشاف: 1/ 601 ..

(12)

لم أتعرف على قائله، وانظر البيت في: مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 146، وتفسير الطبري: 9/ 471.

(13)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 146، وتفسير الطبري: 9/ 471.

ص: 21

قال الطبري: " وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلُهم، أمُّوا البيت الحرام أو البيت المقدس، في أشهر الحرم وغيرها ما يُعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخٌ "(1).

قال ابن كثير: " فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به، فهذا يمنع كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمَّر الصديق على الحجيج - علِيّا، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة، وألا يحج بعد العام مُشْرِك، ولا يطوفن بالبيت عُرْيان (2) "(3).

قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، أي:"الذين يبتغون من فضل الله ما يصلح معايشهم ويرضي ربهم"(4).

قال ابن كثير: " أي: وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه"(5).

قال الطبري: أي: " يلتمسون أرباحًا في تجاراتهم من الله، وأن يرضى الله عنهم بنسكهم"(6).

قال ابن عباس: " يعني: أنهم يترضَّون الله بحجهم"(7).

قال قتادة: " هم المشركون، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دُنياهم"(8).

وفي رواية اخرى عنه: " والفضل والرضوان اللذان يبتغون: أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجَّل لهم العقوبة فيها"(9).

وعن أبي أميمة قال: " قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعًا، قال: لا بأس به وتلا هذه الآية: {يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا} "(10).

وفي تفسير قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة: 2]، قولان:

أحدهما: الربح فى التجارة، وهو قول ابن عمر (11)، ومطرّف بن الشِّخِّير (12).

والثاني: الأجر والتجارة، وهو قول مجاهد (13).

وقرأ حميد بن قيس والأعرج: «تبتغون» ، بالتاء على خطاب المؤمنين (14).

قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، أي:" وإِذا تحللتم من الإِحرام فقد أُبيح لكم الصيد"(15).

قال الماوردي: " وهذا وإن خرج مخرج الأمر، فهو بعد حظر، فاقتضى إباحة الاصطياد بعد الإِحلال دون الوجوب"(16).

(1) تفسير الطبري: 9/ 479.

(2)

رواه البخاري في صحيحه برقم (3177) من حديث أبي بكر، رضي الله عنه.

(3)

تفسير ابن كثير: 2/ 11.

(4)

التفسير الميسر: 106.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 10.

(6)

تفسير الطبري: 9/ 471.

(7)

أخرجه الطبري (10981): ص 9/ 481.

(8)

أخرجه الطبري (10979): ص 9/ 480.

(9)

أخرجه الطبري (10980): ص 9/ 480.

(10)

أخرجه الطبري (10983): ص 9/ 481.

(11)

انظر: تفسير الطبري (10983): ص 9/ 481.

(12)

انظر: تفسير الطبري (10982): ص 9/ 481.

(13)

انظر: تفسير الطبري (10984): ص 9/ 481.

(14)

انظر: الكشاف: 1/ 602.

(15)

صفوة التفاسير: 301.

(16)

النكت والعيون: 2/ 8.

ص: 22

قال الزمخشري: " {فاصطادوا}، إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم، كأنه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا"(1).

قال الشافعي: " فأخبر أنَّه أباح شيئاً كان حرَّمه، ولم يوجب الصيد عند الإحلال"(2).

وقرئ: «وإذا أحللتم» ، يقال: حل المحرم وأحل. وقرئ: «فاصطادوا» ، بكسر الفاء. وقيل: هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء (3).

قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]، أي:" ولا يحملنكم بغضُ قوم كانوا قد صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا عليهم"(4).

قال ابن كثير: " أي: لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا في حكم الله فيكم فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد، وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل، فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد في كل حال"(5).

وقال بعض السلف: "ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض (6).

وفي قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 2]، ثلاثة اقوال.

أحدها: لا يحملنكم، وهو قول ابن عباس (7)، وقتادة (8)، والكسائي (9)، وأبي العباس المبرد (10)، والطبري (11)، يقال: جرمني فلان على بغضك، أى حملني، قال الشاعر (12):

وَلَقَدْ طَعَنْتُ أَبّا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً

جَرَمَتْ فَزارَةُ بَعْدَها أَنْ يَغْضَبُوا

والثاني: ولا يكسبنكم، يقال جرمت على أهلي، أي كسبت لهم، قاله الفراء (13)، وأبو علي الفارسي (14)، وهو قول أكثر أهل اللغة والمعاني كما قاله الواحدي (15)، ومنه قول أبي خراش الهذلي (16):

(1) الكشاف: 1/ 602.

(2)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 695.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 602.

(4)

صفوة التفاسير: 301.

(5)

تفسير ابن كثير: 2/ 11.

(6)

تفسير ابن كثير: 2/ 12.

(7)

انظر: تفسير الطبري (10990): ص 9/ 483.

(8)

انظر: تفسير الطبري (10991): ص 9/ 483.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 8.

(10)

انظر: تهذيب اللغة" 1/ 588 (جرم)، والنكت ولاعيون: 2/ 8، والتفسير البسيط للواحدي: 7/ 232.

(11)

انظر: تفسير الطبري 9/ 482.

(12)

البيت لأبي أبو أسماء بن الضّريبة. ويقال: هو لعطية بن عفيف، ونسبه سيبوبه للفزاري مجهلا، انظر: الكتاب لسيبويه 1/ 469، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 147، مشكل القرآن: 418، والفاخر: 200، الجواليقي: 163، البطليوسي: 313، الخزانة 4/ 310، اللسان (جرم). وسبب الشعر أن كرزًا العقيلي، قتل أبا عيينة حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم حاجر، فلما قتل كرز، قال الشاعر يرثيه ويخاطبه:

يَا كُرزُ، إنَّكَ قَدْ قُتِلْتَ بِفَارِسٍ

بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ وَجَبَّبُوا

يقال: " جبب الرجل تجبيبًا ": إذا فر ومضى مسرعًا. وروى البكري في معجم ما استعجم أنه قال: يَا كُرْزُ إنَّكَ قد فَتَكْتَ بِفَارِسٍ

بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ مُجَرَّبِ

وكأنه شعر غير هذا الشعر.

(13)

انظر: معاني القرآن: 1/ 299.

(14)

انظر: الحجة للقرا السبعة: 3/ 196.

(15)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 232.

(16)

"ديوان الهذليين" 2/ 133، و"الحجة" 3/ 196، و"تهذيب اللغة" 1/ 589 (جرم).

الناهض: فرخ العقاب، والنيق: أرفع موضع في الجبل. والصليب: ودك العظاء.

ص: 23

جريمة ناهض في رأس نيق

ترى لعظام ما جمعت صليبا

قوله «جريمة» : أي كاسبة.

والثالث: لا يُحِقَّنَّ لَكُمْ. لأَنَّ قَوْلَهُ {لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ} انما هو حَقٌّ أَنَّ لَهُمْ النّارَ. وهذا قول الأخفش (1).

والاقوال الثلاثة متقاربة المعنى، لأنه من حمل رجلا على بغض رجل، فقد أكسبه بغضه، ومن أكسبه بغضه، فقد أحقَّه له، فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف، ما قاله ابن عباس وقتادة، وذلك توجيههما معنى قوله:{ولا يجرمنكم شنآن قوم} ، ولا يحملنكم شنآن قومٍ على العدوان (2).

وفي قوله تعالى: {شَنَئَانُ قَوُمٍ} [المائدة: 2]، تأويلان:

أحدهما: معناه بغض قوم، وهذا قول ابن عباس (3) وقتادة (4)، وابن زيد (5).

والثاني: عداوة قوم، وهو قول قتادة أيضا (6).

وقرأ: يحيى بين وثّاب، والأعمش:«وَلا يُجْرِمَنَّكُمْ» ، برفع «الياء» ، من: أجرمته أجرمه، وهو يُجْرِمني (7).

وقراءة القرآن بأفصح اللغات، أولى وأحق منها بغير ذلك، ومن لغة من قال " جَرَمْتُ "، قول الشاعر (8):

يَا أَيُّهَا المُشْتَكِي عُكْلا وَمَا جَرَمَتْ

إلى القَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ، وإبْآسُ (9)

وقرئ: «شَنْآنُ قَوْمٍ» ، بتسكين «النون» ، وفتح «الشين» ، بمعنى: الاسم (10).

والفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر «شَنَئَانُ» على «الفَعلان» ، بفتح:«الفاء» ، تحريك ثانيه دون تسكينه، من: شنئته أشنَؤُه شنآنًا، ومن العرب من يقول:«شَنَانٌ» ، على تقدير «فعال» ، ولم يقرأ ذلك كذلك، ومن ذلك قول الأحوص بن محمد الأنصاري (11):

وَمَا العَيْشُ إلا مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي

وَإنْ لامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا

وهذا في لغة من ترك الهمز من «الشنآن» ، فصار على تقدير:«فعال» ، وهو في الأصل:«فَعَلان» (12).

قراءة عبد الله: «إن صدوكم» ، بكسر «الألف» (13).

(1) انظر: معاني القرآن: 1/ 271. واستشهد بالبيت الذي ذكره الفراء في القول السابق.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 484.

(3)

انظر: تفسير الطبري (10993)، و (10994): ص 9/ 487.

(4)

انظر: تفسير الطبري (10995): ص 9/ 487.

(5)

انظر: تفسير الطبري (10996): ص 9/ 487.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 8.

(7)

انظر: تفسير الطبري (10992): ص 9/ 485.

(8)

البيت ينسب للفرزدق، وليس في ديوان، مجالس ثعلب: 49، 50، والأضداد لابن الأنباري: 85، والبيت مرفوع القافية وبعد البيت: إنّا كَذَاكَ، إذَا كانَتْ هَمَرَّجَةٌ

نَسْبِي ونَقْتُلُ حَتَّى يُسْلِمَ النَّاسُ

" همرجة ": اختلاط وفتنة. وروى ثعلب هذين البيتين. ثم قال، ولم يبين لمن كان هذا الخبر:" قلت له (يعني: للفرزدق): لم قلت: من قتل، وإبآس؟ قال: كيف أصنع وقد قلت: حتى يسلم الناس؟ قال قلت: فيم رفعته؟ قال: بما يسوءك وينوءك! ".

ثم قال أبو العباس ثعلب: " وإنما رفعه، لأن الفعل لم يظهر بعده، كما تقول: ضربت زيدًا وعمرو لم يظهر الفعل فرفعت، وكما تقول: ضربت زيدًا وعمرو مضروب ".

(9)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 485.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 486.

(11)

طبقات فحول الشعراء: 539، الأغاني 13: 151 - 153، مصارع العشاق: 62، 75، والشعر والشعراء: 501، واللسان (شنأ)، وقلما يخلو منه كتاب بعد.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 486 - 487.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 488، والكشاف: 1/ 603.

ص: 24

قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، أي:" وتعاونوا -أيها المؤمنون فيما بينكم- على فِعْل الخير، وتقوى الله"(1).

قال ابن كثير: " يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات، وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى (2).

قال الزمخشري: أي: "على العفو والإغضاء، ، ويجوز أن يراد العموم لكل بر"(3).

قال ابن عباس: " «البر»: ما أمرت به، و «التقوى»: ما نهيت عنه"(4). وروي عن أبي العالية مثل ذلك (5).

قال ابن خويز منداد في أحكامه: "والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم، ويعينهم الغني بماله، والشجاع بشجاعته في سبيل الله، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة «المؤمنون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» (6)، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه"(7).

قوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، أي:" ولا تعاونوا على ما فيه إثم ومعصية وتجاوز لحدود الله "(8).

قال الزمخشري: أي: "على الانتقام والتشفي، ويجوز أن يراد به تقوى وكل إثم وعدوان"(9).

قال القرطبي: {الإثم: } "وهو الحكم اللاحق عن الجرائم، وعن {العدوان}: وهو ظلم الناس"(10).

قال الطبري: "يعني: ولا يعن بعضكم بعضًا على ترك ما أمركم الله بفعله، ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم"(11).

قال ابن كثير: "ينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم"(12).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، أي:" واحذروا مخالفة أمر الله فإنه شديد العقاب"(13).

قال الطبري: يعني: واحذروا الله، أيها المؤمنون، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره: إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه، لأنها نار لا يطفأ حَرُّها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقرِّبنا منها" (14).

قال القرطبي: " ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال: {واتقوا الله إن الله شديد العقاب} "(15).

واختلفوا فيما نسخ من هذه الآية بعد إجماعهم على أن منها منسوخاً على ثلاثة أقاويل:

أحدهما: ان جميعها منسوخ، وهذا قول الشعبي (16)، والضحاك (17)، وقتادة-في إحدى الروايات- (18)، وابن زيد (19)، واختيار الزجاج (20).

قال الشعبي: "لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية"(21).

والثاني: أن الذى نسخ منها: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاءَآمِّينَ الْبَيتَ الْحَرَامَ} ، وهذا قول ابن عباس (22)، وقتادة (23)، والسدي (24).

والثالث: أن الذي نسخ منها ما كانت الجاهلية تتقلده من لحاء الشجر، وهذا قول مجاهد (25).

والرابع: أن أن الذى نسخ منها: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا} ، وهذا قول ابن زيد أيضا (26). واعترض الطبري فقال:" غير منسوخ، لاحتماله: أن تعتدوا الحقَّ فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يجز أن يقال: هو منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها"(27).

والراجح من الاقوال هو القول الثاني، "قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله: {ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} ، لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها، وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قَلَّد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانًا من القتل، إذا لم يكن تقدَّم له عقد ذمة من المسلمين" (28).

الفوائد:

1 -

وجوب احترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه، وتركاً لما وجب تركه.

2 -

حرمة الاعتداء مطلقاً على الكافر.

3 -

وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، ورحمة تعاونهم على المساس به.

القرآن

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)} [المائدة: 3]

(1) التفسير الميسر: 106.

(2)

تفسير ابن كثير: 2/ 12.

(3)

الكشاف: 1/ 603.

(4)

أخرجه الطبري (11000): ص 9/ 491.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11001): ص 9/ 491.

(6)

أخرجه أحمد في المسند 1/ 122، وأخرجه أبو داود في السنن 4/ 666 - 669، كتاب الديات (33)، باب إيقاد المسلم. . . (11)، الحديث (4530)، وأخرجه النسائي في المجتبى من السنن 8/ 24، كتاب القسامة (45)، باب سقوط القَوَد من المسلم للكافر (13 - 14).

ونص الحديث: عن علي رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"المسلمونَ تَتكافَأُ دماؤهم، ويَسعَى بذِمَّتِهم أَدناهم، ويَرُدُّ عليهم أَقْصاهم، وهُم يَدٌ على مَنْ سِواهم، ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافرٍ، ولا ذُو عهدٍ في عهدِه".

(7)

نقلا عن تفسير القرطبي: 6/ 47.

(8)

التفسير الميسر: 106.

(9)

الكشاف: 1/ 603.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 47.

(11)

تفسير الطبري: 9/ 490.

(12)

تفسير ابن كثير: 2/ 12.

(13)

التفسير الميسر: 106.

(14)

تفسير الطبري: 9/ 492.

(15)

تفسير القرطبي: 6/ 47.

(16)

انظر: تفسير الطبري (10964)، و (10966): ص 9/ 475 - 476.

(17)

انظر: تفسير الطبري (10968)، و (10969): ص 9/ 476.

(18)

انظر: تفسير الطبري (10967): ص 9/ 476.

(19)

انظر: تفسير الطبري (10971): ص 9/ 476.

(20)

انظر: معاني القرآن: 2/ 142.

(21)

أخرجه الطبري (10966): ص 9/ 475 - 476، وانظر:(10964): ص 9/ 475.

(22)

انظر: تفسير الطبري (10975): ص 9/ 477 - 478.

(23)

انظر: تفسير الطبري (10972)، و (10973): ص 9/ 477، و (10976): ص 9/ 478.

(24)

انظر: تفسير الطبري (10974): ص 9/ 477.

(25)

انظر: تفسير الطبري (10977)، و (10978): ص 9/ 478 - 479.

(26)

انظر: تفسير الطبري (10999): ص 9/ 490.

(27)

تفسير الطبري: 9/ 490.

(28)

تفسير الطبري: 9/ 479.

ص: 25

التفسير:

حرَّم الله عليكم الميتة، وهي الحيوان الذي تفارقه الحياة بدون ذكاة، وحرَّم عليكم الدم السائل المُراق، ولحم الخنزير، وما ذُكِر عليه غير اسم الله عند الذبح، والمنخنقة التي حُبِس نَفَسُها حتى ماتت، والموقوذة وهي التي ضُربت بعصا أو حجر حتى ماتت، والمُتَرَدِّية وهي التي سقطت من مكان عال أو هَوَت في بئر فماتت، والنطيحة وهي التي ضَرَبَتْها أخرى بقرنها فماتت، وحرَّم الله عليكم البهيمة التي أكلها السبُع، كالأسد والنمر والذئب، ونحو ذلك. واستثنى -سبحانه- مما حرَّمه من المنخنقة وما بعدها ما أدركتم ذكاته قبل أن يموت فهو حلال لكم، وحرَّم الله عليكم ما ذُبِح لغير الله على ما يُنصب للعبادة من حجر أو غيره، وحرَّم الله عليكم أن تطلبوا عِلْم ما قُسِم لكم أو لم يقسم بالأزلام، وهي القداح التي كانوا يستقسمون بها إذا أرادوا أمرًا قبل أن يقدموا عليه. ذلكم المذكور في الآية من المحرمات -إذا ارتُكبت- خروج عن أمر الله وطاعته إلى معصيته. الآن انقطع طمع الكفار من دينكم أن ترتدوا عنه إلى الشرك بعد أن نصَرْتُكم عليهم، فلا تخافوهم وخافوني. اليوم أكملت لكم دينكم دين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام الشريعة، وأتممت عليكم نعمتي بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ورضيت لكم الإسلام دينًا فالزموه، ولا تفارقوه. فمن اضطرَّ في مجاعة إلى أكل الميتة، وكان غير مائل عمدًا لإثم، فله تناوله، فإن الله غفور له، رحيم به.

قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، أي:" حُرّم عليكم -أيها المؤمنون- أكل الميتة: وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة، والدم والمسفوح ولحم الخنزير"(1).

قال مقاتل: " يعني: أكل الميتة والدم ولحم الخنزير"(2).

قال الطبري: " فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، حرام جميعه، لم يخصص منه شيء"(3).

وفي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، وجهان (4):

أحدهما: أنه كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره.

والثاني، أنه كل ما فارقته الحياة من دواب البر وطيره بغير ذكاة.

وفي تفسير {وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، قولان (5):

أحدهما: أن الحرام منه ما كان مسفوحاً، كقوله تعالى {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145].

الثاني: أنه كل دم مسفوح وغير مسفوح، إلا ما خصته اسنة من الكبد والطحال.

قال الماتريدي: "فعلى القول الأول لا يحرم السمك، وعلى الثاني يحرم.

قال الطبري: " فإنه الدم المسفوح، دون ما كان منه غير مسفوح، لأن الله جل ثناؤه قال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزير} [سورة الأنعام: 145]، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير"(6).

وفي قوله تعالى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3]، وجهان:

أحدهما: أن التحريم يختص بلحم الخنزير دون شحمه، وهذا قول داود (7).

والثاني: أنه يعم اللحم وما خالطه من شحم وغيره.

(1) صفوة التفاسير: 301.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(3)

تفسير الطبري: 9/ 493.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 492.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 493، والنكت والعيون: 2/ 10.

(6)

تفسير الطبري: 9/ 493.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 10.

ص: 26

قال الماوردي: [والثاني] هو قول الجمهور، ولا فرق بين الأهلي منه والوحشي (1).

قال الطبري: " يعني: وحُرِّم عليكم لحم الخنزير، أهليُّه وبَرِّيّه"(2).

قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، أي:" وما ذُكِر عليه غير اسم الله عند الذبح"(3).

قال مقاتل: " يعني: الذي ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم هذا حرام البتة، إن أدركت ذكاته أو لم تدرك ذكاته فإنه حرام البتة، لأنهم جعلوه لغير الله- عز وجل"(4).

قال ابن عثيمين: "المراد: ما ذكر عليه اسم غير الله عند ذبحه مثل أن يقول: «باسم المسيح»، أو «باسم جبريل»، أو «باسم اللات»، ونحو ذلك"(5).

قال الزجاج: " أي: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله عليه وهذا موجود في اللغة، ومنه الإهلال بالحج إنما هو رفع الصوت بالتلبية"(6).

قال أبو عبيدة: أي: " وما ذكر غير اسم الله عليه إذا ذبح أو نحر، وهى من استهلال الكلام"(7).

و«الإهلال» ، هو رفع الصوت (8).

قال الأصمعي: "الإهلال: أصله رفع الصوت، فكل رافع صوته فهو مهل، قال ابن أحمر (9):

يهل بالفرقد ركبانها

كما يهل الراكب المعتمر

هذا معنى الإهلال في اللغة، ثم قيل للمحرم: مهل، لرفعه الصوت بالتلبية، يقال: أهل فلان بحجة أو عمرة، أي: أحرم بها؛ وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام، والذابح مهل، وذلك لأنه كان يسمي الأوثان عند الذبح، ويرفع صوته بذكرها" (10).

ومنه الحديث: "إذا استهل المولود ورث"(11).

قال الطبري: قيل أن العرب كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، جهر بالتسمية أو لم يجهر:(مُهِلٌّ)، فرفعهم أصواتهم بذلك هو (الإهلال) الذي ذكره الله تعالى فقال:{وما أهِلَّ به لغير الله} ، ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة

(1) النكت والعيون: 2/ 10.

(2)

تفسير الطبري: 9/ 493.

(3)

التفسير الميسر: 107.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(5)

تفسير ابن عثيمين: 3/ 499.

(6)

معاني القرآن: 1/ 243.

(7)

مجاز القرآن: 1/ 149.

(8)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 1/ 243.

(9)

البيت في "ديوانه" ص 66، "مجاز القرآن" 1/ 150، "غريب الحديث" لأبي عبيد 1/ 173، "تفسير السمعاني" 2/ 130، الثعلبي 1/ 1346، "لسان العرب" 3/ 1595، و 1714، 5/ 3102.

واسمه عمرو بن أحمر بن العمرو بن تميم بن ربيعة الباهلي، أبو الخطاب، أدرك الإسلام فأسلم، وغزا مغازي الروم، وأصيبت إحدى عينيه هناك، ونزل الشام، وتوفي على عهد عثمان، وهو صحيح الكلام، كثير الغرائب. ينظر:"طبقات فحول الشعراء" 2/ 571، و 580، و"الشعر والشعراء" ص 223.

(10)

التفسير البسيط: 3/ 499، وانظر: في الإهلال: تفسير الطبري" 3/ 319، والثعلبي: 2/ 44، والمفردات" ص 522، واللسان" 8/ 4689.

(11)

أخرجه أبو داود ص 1441، كتاب الفرائض، باب 18: في المولود يستهل ثم يموت، حديث رقم 2920، وأخرجه بطريق آخر ابن ماجة ص 2642، كتاب الفرائض، باب 17: إذا استهل لمولود ورث، حديث رقم 2751؛ وقال الألباني في الإرواء: سنده صحيح (6/ 149)؛ فالحديث صحيح بشواهده [راجع الإرواء 6/ 147 – 150، حديث رقم 1207 والسلسلة الصحيحة للألباني 1/ 233 – 235، أحاديث رقم 151، 152، 153].

ص: 27

{مُهِلّ} ، لرفعه صوته بالتلبية، واستهلال المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض، كما قال الشاعر (1):

ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ

فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (2)

وفي تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]، وجهان:

أحدهما: أنه يعني: ما ذبح لغير الله. وهذا قول ابن عباس (3)، وقتادة (4)، ومجاهد (5)، والضحاك (6)، وعطاء (7).

والثاني: أن معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله. وهذا قول الربيع بن أنس (8)، وابن زيد (9)، وعقبة بن مسلم التُّجيبي (10)، وقيس بن رافع الأشجعي (11).

قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة: 3]، أي:" وما ذُكِر عليه غير اسم الله عند الذبح"(12).

قال مقاتل: " يعني: وحرم المنخنقة: الشاة والإبل والبقر التي تنخنق أو غيره حتى تموت"(13).

قوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3]، أي:"والتي ضُربت بعصا أو حجر حتى ماتت"(14).

قال مقاتل: " يعني: التي تضرب بالخشب حتى تموت"(15).

قال ابن كثير: " هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها فتموت"(16).

وفي الصحيح: أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب. قال:"إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه، وإن أصابه بعَرْضِه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله"(17).

قال ابن كثير: "ففرق بين ما أصابه بالسهم، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه، على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله:

أحدهما: أنه لا يحل، كما في السهم، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.

(1) البيت الحادرة الذبياني، انظر: ديوانه: قصيدة: 4، البيت رقم: 7، وشرح المفضليات:54. والبطاح جمع بطحاء وأبطح: وهو بطن الوادي. وأنهل المطر انهلالا: اشتد صوبه ووقعه. والحريصة والحارصة: السحابة التي تحرص مطرتها وجه الأرض، أي تقشره من شدة وقعها. والنطاف جمع نطفة: وهي الماء القليل يبقى في الدلو وغيره. وقوله: " بعيد المقلع ": أي بعد أن أقلعت هذه السحابة. ورواية المفضليات: " ظلم البطاح له " وقوله: " له ": أي من أجله.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 319 - 320.

(3)

انظر: تفسير الطبري (2471): ص 3/ 320.

(4)

انظر: تفسير الطبري (2468): ص 3/ 320.

(5)

انظر: تفسير الطبري (2470): ص 3/ 320.

(6)

انظر: تفسير الطبري (2472): ص 3/ 320.

(7)

انظر: تفسير الطبري (2474): ص 3/ 320.

(8)

انظر: تفسير الطبري (2475): ص 3/ 321.

(9)

انظر: تفسير الطبري (2476): ص 3/ 321.

(10)

انظر: تفسير الطبري (2477): ص 3/ 321.

(11)

انظر: تفسير الطبري (2477): ص 3/ 321.

(12)

التفسير الميسر: 107.

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(14)

التفسير الميسر: 107.

(15)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(16)

تفسير ابن كثير: 3/ 18.

(17)

رواه البخاري في صحيحه برقم (5475) ومسلم في صحيحه برقم (1929).

ص: 28

والثاني: أنه يحل؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل، فدل على إباحة ما ذكرناه؛ لأنه قد دخل في العموم" (1).

قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: 3]، أي:" والتي سقطت من مكان عال أو هَوَت في بئر فماتت"(2).

قال مقاتل: " يعني: التي تردى من الجبل فتقع منه أو تقع في بئر فتموت"(3).

قال ابن كثير: " فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك، فلا تحل"(4).

قوله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة: 3]، أي:" والتي ضَرَبَتْها بهيمة أخرى بقرنها فماتت"(5).

قال مقاتل: " يعني: الشاة تنطح صاحبتها فتموت"(6).

قال ابن كثير: " هي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها، فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها"(7).

قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3]، أي:" وحرَّم الله عليكم البهيمة التي أكلها السبُع"(8).

قال مقاتل: "من الأنعام والصيد، يعني: فريسة السبع"(9).

قال ابن كثير: " أي: ما عدا عليها أسد، أو فهد، أو نمر، أو ذئب، أو كلب، فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين"(10).

قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، أي:" إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت"(11).

قال مقاتل: " يعني: إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع

حلال " (12).

قال الزجاج: أي: " ما أذكيتم ذبحة على التمام"(13).

قال الطبري: أي: " إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورًا"(14).

وفي قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3]، وجوه:

أحدهما: يعني: من المنخنقة وما بعدها، وأنه من قبيل الإستثناء المتصل، وهذا قول علي رضي الله عنه (15)، وابن عباس (16)، وقتادة (17)، والحسن (18)، والضحاك (19)، وإبراهيم (20)، وطاوس (21)، وعبيد بن عمير (22)، وابن زيد (23)، وواختيار الطبري (24) والجمهور (25).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 18.

(2)

التفسير الميسر: 107.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(4)

تفسير ابن كثير: 2/ 21.

(5)

التفسير الميسر: 107.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(7)

تفسير ابن كثير: 2/ 22.

(8)

التفسير الميسر: 107.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 451.

(10)

تفسير ابن كثير: 2/ 22.

(11)

صفوة التفاسير: 301.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

(13)

معاني القرآن: 2/ 146.

(14)

تفسير الطبري: 9/ 502.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11036)، و (11038): ص 9/ 503.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11032): ص 9/ 502.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11034)، و (11035): ص 9/ 503.

(18)

انظر: تفسير الطبري (11033): ص 9/ 502.

(19)

انظر: تفسير الطبري (11043): ص 9/ 504.

(20)

انظر: تفسير الطبري (11037): ص 9/ 503.

(21)

انظر: تفسير الطبري (11039): ص 9/ 504.

(22)

انظر: تفسير الطبري (11042): ص 9/ 504.

(23)

انظر: تفسير الطبري (11044): ص 9/ 504.

(24)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 505.

(25)

انظر: النكت والعيون: 2/ 11.

ص: 29

قال ابن كثير: " قوله: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} عائد على ما يمكن عوده عليه، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} "(1).

والثاني: أنه من الإستثناء المنقطع، وأنه عائد إلى ما أكل السبع خاصة، وهو محكي عن الظاهرية (2).

والراجح –والله أعلم- هو القول الاول، وهو اختيار الجمهور من الفقهاء، وبهذا الاعتبار يكون الاستثناء من قبيل الاستثناء المتصل، {إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [سورة المائدة: 3]، يعني: مما أدركتم فيه الحياة من هذه المذكورات، كالتي سقطت في بئر، أو التي سقطت من السطح، أو التي صدمتها السيارة أو التي أصابها حجر أو نحو هذا فأدركتم فيها حياة، أي فيه رمق بأن تتحرك رجل أو يد أو نحو هذا وإن كانت في حال الاحتضار فإنها إذا ذكيت جاز أكلها، وإن كانت قد خرجت نفسها فلا يجوز أكلها، هذا الذي عليه عامة أهل العلم وهم الجمهور.

وفي الصحيحين عن رافع بن خَدِيج أنه قال: "قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ليس السنَّ والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السنُّ فعظم، وأما الظفر فمُدَى الحبشة"(3).

و«المُدَى» : جمع مُدْية، وهي السكين، وهذا مما يستدل به على أن متروك التسمية ولو نسيانًا لا يحل وإن ذبح لله قصدًا؛ لأنه ذكر هنا شرطين:

- الشرط الأول لا بد منه، وهو ما أنهر الدم بقطع الأوداج، ولذلك الذي يقطع في الذبيحة أربعة أشياء: الودجان، وهما عرقان محيطان بالعنق، والحلقوم، وكذلك القصبة الهوائية، والمريء، فإذا قطعت الأوداج حلت الذبيحة، والأكمل في التذكية قطع الأربعة، ويليه قطع ثلاثة.

- والثاني: ذكر اسم الله، وهو قوله:«بسم الله» .

فالحاصل أنه قال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، «ليس السن والظفر» ، يعني: سوى السن والظفر.

قال الرسول-صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» (4).

وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة"(5).

(1) تفسير ابن كثير: 2/ 24.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 505، والنكت والعيون: 2/ 11، وزاد المسير: 2/ 236.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (6962)(ج 6 / ص 2692) ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان - باب الصيد بالكلاب المعلمة (1929)(ج 3 / ص 1529).

(4)

صحيح مسلم برقم (1955).

(5)

المسند (5/ 218) وسنن أبي داود برقم (2858) وسنن الترمذي برقم (1480).

ص: 30

وقال عاصم عن عكرمة: "إن رجلا أضجع شاته وجعل يحد شفرته ليذبحها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تريد أن تميتها موتات قبل أن تذبحها! » "(1).

وفى مأكولة السبع التي تحل بالذكاة قولان (2):

أحدهما: أن تكون لها عين تطرف أو ذنب يتحرك.

والثاني: أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح، وهو قول الشافعي (3)، ومالك (4).

قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، أي:" وحرَّم الله عليكم ما ذُبِح لغير الله على ما يُنصب للعبادة من حجر أو غيره"(5).

قال مقاتل: " يعني: وحرم ما ذبح على النصب وهي الحجارة التي كانوا ينصبونها في الجاهلية فيعبدونها فهو حرام البتة، وكان خزان الكعبة يذبحون لها وإن شاءوا بدلوا تلك الحجارة بحجارة أخرى وألقوا الأولى"(6).

قال ابن عباس: " و {النصب}، أنصاب كانوا يذبحون ويُهِلُّون عليها"(7).

عن مجاهد: " {وما ذبح على النصب}، قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية"(8).

قال قتادة: " ورالنصب}: حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك"(9).

قال ابن جريج: " قال ابن جريج: "{النصب} ، ليست بأصنام، «الصنم» يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصب، ثلثمئة وستون حجرًا منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة، فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحقُّ أن نعظمه! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك، فأنزل الله:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [سورة الحج: 37] " (10).

وقال ابن زيد: " {ما ذبح على النصب}، و {ما أهل لغير الله به}، وهو واحد"(11).

قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ} [المائدة: 3]، أي:" وحرَّم الله عليكم أن تطلبوا عِلْم ما قُسِم لكم أو لم يقسم بالأزلام"(12).

قال مقاتل: " يعنى: وأن تستقسموا الأمور بالأزلام والأزلام قد حان في بيت أصنامهم، فإذا أرادوا أن يركبوا أمرا أتوا بيت أصنامهم فضربوا بالقدحين، فما خرج من شيء عملوا به، وكان كتب على أحدهما أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، فإذا أرادوا سفرا أتوا ذلك البيت فغطوا عليه ثوبا ثم يضربون بالقدحين فإن خرج السهم الذي فيه أمرني ربي خرج في سفره، وإن خرج السهم الذي فيه نهاني ربي لم يسافر فهذه الأزلام "(13).

قال الماوردي: " معناه أن تطلبوا علم ما قُسِّمَ أو لم يُقَسَّم من رزق أو حاجة بالأزلام، وهي قداح ثلاثة مكتوبة على أحدها: أمرني ربي، والآخر: نهاني ربي، والثالث: غفل لا شيء عليه، فكانوا إذا أرادوا سفراً، أو غزواً، ضربوا بها واستسقسموا، فإن خرج أمرني ربي فعلوه،

(1) المستدرك للحاكم: 4/ 231، وتفسير الثعلبي: 4/ 14.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 11.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 11.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 11.

(5)

التفسير الميسر: 107.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

(7)

أخرجه الطبري (11054): ص 9/ 509.

(8)

أخرجه الطبري (11049): ص 9/ 508.

(9)

أخرجه الطبري (11052): ص 9/ 509.

(10)

أخرجه الطبري (11048): ص 9/ 508.

(11)

أخرجه الطبري (11057): ص 9/ 509.

(12)

التفسير الميسر: 107.

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

ص: 31

وإن خرج نهاني ربي تركوه، وإن خرج الأبيض أعادوه، فنهى الله عنه، فَسُمِّي ذلك استقساماً، لأنهم طلبوا به علم ما قُسِمَ لهم" (1).

وقال أبو العباس المبرد: "بل هو مشتق من قَسَم اليمين، لأنهم التزموا ما يلتزمونه، باليمين"(2).

عن مجاهد: " {وأن تستقسموا بالأزلام}، حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها: القِداح"(3).

عن سعيد بن جبير: " {وأن تستقسموا بالأزلام}، قال: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا"(4).

قال الحسن: " كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا، يعمَدون إلى قداح ثلاثة، على واحد منها مكتوب: أؤمرني، وعلى الآخر: انهني، ويتركون الآخر محلَّلا بينهما ليس عليه شيء. ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه: أؤمرني، مضوا لأمرهم. وإن خرج الذي عليه: انهني، كفُّوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها"(5).

قال قتادة: " كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرًا، كتب في قدح: هذا يأمرني بالمكث، وهذا يأمرني بالخروج، وجعل معهما منيحة (6)، شيء لم يكتب فيه شيئًا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدْحين"(7).

قال السدي: " {الأزلام}، قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل أن يسافر، أو يتزوج، أو يحدث أمرًا، أتى الكاهن فأعطاه شيئًا، فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه، أمره ففعل. وإن خرج منها شيء يكرهه، نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم، وعلى عبد الله والإبل"(8).

وقال إبن إسحاق: " كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئْر هي التي يجمع فيها ما يُهدي للكعبة. وكانت عند هبل سبعة أقْدُح كل قِدْح منها فيه كتاب. قدح فيه: العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله وقدح فيه: نعم للأمر إذا أرادوه، يضرب به، فإن خرج قدح نعم عملوا به. وقدح فيه: لا، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقِدْح فيه: منكم. وقدح فيه: مُلْصَق. وقدح فيه: من غيركم. وقدح فيه: المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو أن ينكحوا مَنكحًا، أو أن يدفنوا ميتًا، أو شكوا في نسب واحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم، وبجَزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه منكم كان وسيطًا، وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفًا وإن خرج ملصق كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به نعم، عملوا

(1) النكت والعيون: 2/ 11 - 12.

(2)

النكت والعيون: 2/ 11 - 12.

(3)

أخرجه الطبري (11061): ص 9/ 511.

(4)

أخرجه الطبري (11058): ص 9/ 511.

(5)

أخرجه الطبري (11060): ص 9/ 511.

(6)

هي الناقة أو الشاة المعارة، فسمى هذا الشيء الذي لا أمر له في الاستقسام " منيحة "، كما سموا شبيهه في الميسر " منيحًا " وهو المستعار.

(7)

أخرجه الطبري (11066): ص 9/ 512.

(8)

أخرجه الطبري (11070): ص 9/ 513.

ص: 32

به. وإن خرج لا، أخّروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى. ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح" (1).

وقال الطبري: " قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشطرنج"(2).

قوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]، أي:" ذلكم المذكور في الآية من المحرمات -إذا ارتُكبت- خروج عن أمر الله وطاعته إلى معصيته"(3).

قال ابن عباس: "، يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق"(4).

قال مقاتل: " يعني معصية حراما"(5).

قال الطبري: يعني: " هذه الأمور التي ذكرها، وذلك: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله، والاستقسام بالأزلام، فسق، يعني: خروج عن أمر الله عز ذكره وطاعته، إلى ما نهى عنه وزجر، إلى معصيته"(6).

قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3]، أي:"الآن انقطع طمع الكفار من دينكم أن ترتدوا عنه إلى الشرك بعد أن نصَرْتُكم عليهم"(7).

قال ابن زيد: "هذا يوم عرفة"(8).

وقال الزجاج: " {اليوم}، منصوب على الظرف، وليس يراد به - والله أعلم - يوما بعينه"(9).

وفي قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3]، وجهان:

أحدهما: أن ترتدوا عنه راجعين إلى دينهم. وهذا قول ابن عباس (10)، والسدي (11).

والثاني: أن يقدروا على إبطاله ويقدحوا فى صحته (12).

قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3]، أي:"، فلا تخافوهم وخافوني"(13).

قال ابن جريج: " فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم"(14).

قال الماوردي: أي: " أى لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، واخشونِ، أن تخالفوا أمري"(15).

قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، أي:"اليوم أكملت لكم دينكم دين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام الشريعة"(16).

قال مقاتل: " يعنى: شرائع دينكم: أمر حلالكم وحرامكم "(17).

وفي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وجهان:

أحدهما: أنه يوم عرفة فى حجة الوداع ولم يعش [الرسول صلى الله عليه وسلم] بعد ذلك إلَاّ إحدى وثمانين ليلة، وهذا قول ابن عباس، والسدي.

(1) أخرجه الطبري (11072): ص 9/ 513 - 514.

(2)

تفسير الطبري: 9/ 511.

(3)

التفسير الميسر: 107.

(4)

أخرجه الطبري (11074): ص 9/ 514.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

(6)

تفسير الطبري: 9/ 514.

(7)

التفسير الميسر: 107.

(8)

أخرجه الطبري (11078): ص 9/ 517.

(9)

معاني القرآن: 2/ 147.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11075): ص 9/ 515.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11076): ص 9/ 515.

(12)

انظرك النكت والعيون: 2/ 12.

(13)

التفسير الميسر: 107.

(14)

أخرجه الطبري (11079): ص 9/ 517.

(15)

النكت والعيون: 2/ 12.

(16)

التفسير الميسر: 107.

(17)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

ص: 33

والثاني: أنه زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله إلى أنْ نَزَل ذلك عليه يوم عرفة، وهذا قول الحسن.

وفي إكمال الدين قولان:

أحدهما: يعني أكملت فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي، ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الفرائض من تحليل ولا تحريم، وهذا قول ابن عباس (1)، والسدي (2).

قال ابن جريج: " مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية، إحدى وثمانين ليلة، قوله: اليوم أكملت لكم دينكم"(3).

عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال:"لما نزلت: اليوم أكملت لكم دينكم، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت"(4).

والثاني: يعني اليوم أكملت لكم حجتكم، أن تحجوا البيت الحرام، ولا يحج معكم مشرك، وهذا قول قتادة (5)، وسعيد ابن جبير (6)، والحكم (7).

والراجح من القول: أن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينَهم، بإفرادهم بالبلدَ الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون، فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل.

وروي عن البراء بن عازب: " آخر آية نزلت من القرآن: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} "(8).

ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قُبِض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك وكان قوله:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} آخرَها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض كان معلومًا أن معنى قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} ، على خلاف الوجه الذي من تأوَّله بكمال العبادات والأحكام والفرائض (9).

عن قبيصة قال، قال كعب:"لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية (10)، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه! فقال عمر: أيُّ آية يا كعب؟ فقال: "اليوم أكملت لكم دينكم". فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه: يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ"(11).

قوله تعالى: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، أي:"وأتممت عليكم نعمتي بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان"(12).

قال مقاتل: " يعني: الإسلام إذ حججتم وليس معكم مشرك "(13).

(1) انظر: تفسير الطبري (11080): ص 9/ 518.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11081): ص 9/ 518.

(3)

أخرجه البري (11082): ص 9/ 518 - 519.

(4)

أخرجه البري (11083): ص 9/ 519.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11086): ص 9/ 520.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11087): ص 9/ 520.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11085): ص 9/ 519.

(8)

أخرجه الطبري (10871): ص 9/ 434.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 520 - 521.

(10)

يقصد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

(11)

أخرجه الطبري (11100): ص 9/ 526.

(12)

التفسير الميسر: 107.

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

ص: 34

قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، أي:"ورضيت لكم الإسلام دينًا فالزموه، ولا تفارقوه"(1).

قال مقاتل: " يعني: واخترت لكم الإسلام دينا فليس دين أرضى عند الله- عز وجل من الإسلام قال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) "(3).

قال الماوردي: " أي: رضيت لكم الاستسلام لأمري ديناً، اي طاعة"(4).

قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، أي:" فمن اضطرَّ في مجاعة إلى أكل الميتة، وكان غير مائل عمدًا لإثم، فله تناوله، فإن الله غفور له، رحيم به"(5).

قال مقاتل: " يعني: مجاعة وجهد شديد أصابه من الجوع، {غير متجانف لإثم}: غير متعمد لمعصية، {فإن الله غفور رحيم}، إذ رخص له في أكل الميتة ولحم الخنزير حين أصابه الجوع الشديد والجهد، وهو على غير المضطر حرام"(6).

قال الطبري: " فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله، في مخمصة، غير متجانف لإثم غفور رحيم، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك، بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه وعن عقوبته عليه رحيم، يقول: وهو به رفيق. ومن رحمته ورفقه به أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه من كَلَب الجوع وضُرِّ الحاجة العارضة ببدنه"(7).

قال ابن كثير: " أي: فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك، فله تناول ذلك، والله غفور رحيم له؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبَّان، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته»، لفظ ابن حبان (8). وفي لفظ لأحمد: «من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة» (9) ".

ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على مهجته التلف ولم يجد غيرها، وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق، أو له أن يشبع، أو يشبع ويتزود؟ على أقوال، كما هو مقرر في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير، أو صيدًا وهو محرم: هل يتناول الميتة، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء، أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين، هما قولان للشافعي، رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له" (10).

قال مسروق: "من اضطُرَّ فلم يأكل ولم يشرب، ثم مات دخل النار. وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة"(11).

(1) التفسير الميسر: 107.

(2)

[سورة آل عمران: 85].

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452.

(4)

النكت والعيون: 2/ 12.

(5)

التفسير الميسر: 107.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 452 - 453

(7)

تفسير الطبري: 9/ 537.

(8)

صحيح ابن حبان برقم (545)"موارد" وقال الهيثمي في المجمع (3/ 162): "رجاله رجال الصحيح".

(9)

المسند (2/ 108).

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 29.

(11)

تفسير ابن كثير: 1/ 482.

ص: 35

قال أبو واقد الليثي: "قلنا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها"(1).

وعن الحسن: "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى متى يحلُّ لي الحرام؟ قال فقال: إلى أن يروَى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم "(2).

وعن عروة بن الزبير، عمن حدثه:"أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تحل لك الطيبات، وتحرُم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام لا يحل لك، فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال الرجل: وما فقري الذي يُحِلّ لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلَّغ بلحوم ماشيتك إلى نِتاجك، أو كنت ترجو غنًى تطلبه، فتبلَّغ من ذلك شيئًا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي: ما غِناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرويت أهلك غَبُوقًا من الليل، فاجتنب ما حرَّم الله عليك من طعام، وأمّا مالُك فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام"(3).

وفي قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3]، قولان:

أحدهما: غير متعمد لإِثم، وهذا قول ابن عباس (4)، والحسن، وقتادة (5)، ومجاهد (6)، والسدي (7)، وابن زيد (8).

والثاني: غير مائل إلى إثم، والمتجانف لإثم، هو: المتمايل له، وأصله من: جنف القوم، إذا مالوا، وكل أعوج عند العرب أجنف. وهذا قول الطبري (9).

قال الشيخ ابن عثيمين: والله سبحانه وتعالى أباح لنا الميتة بثلاثة شروط (10):

1 -

الضرورة.

2 -

أن لا يكون مبتغياً – أي طاباً لها -.

3 -

أن لا يكون متجاوزاً للحد الذي تندفع به الضرورة.

وبناءً على هذا ليس له أن يأكل حتى يشبع إلا إذا كان يغلب على ظنه أنه لا يجد سواها عن قرب؛ وهذا هو الصحيح؛ ولو قيل: بأنه في هذه الحال يأكل ما يسد رمقه، ويأخذ شيئاً منها يحمله معه - إن اضطر إليه أكل، وإلا تركه - لكان قولاً جيداً.

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل به لغير لله.

2 -

ومنها: أن التحريم والتحليل إلى الله؛ لقوله تعالى: {إنما حرم عليكم} .

3 -

ومن فوائد الآية: تحريم جميع الميتات؛ لقوله تعالى: {والميتة} ؛ و «أل» هذه للعموم إلا أنه يستثنى من ذلك السمك، والجراد - يعني ميتة البحر، والجراد -؛ للأحاديث الواردة في ذلك؛ والمحرم هنا هو الأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الميتة:«إنما حرم أكلها» (11)؛ ويؤيده

(1) أخرجه الطبري (11125): ص 9/ 538.

(2)

أخرجه الطبري (11126): ص 9/ 539. والميرة (بكسر الميم): هو جلب الطعام.

(3)

أخرجه الطبري (11129): ص 9/ 540 - 541.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11119): ص 9/ 536.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11121)، و (11122): ص 9/ 536.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11120): ص 9/ 536.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11123): ص 9/ 536.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11124): ص 9/ 537.

(9)

تفسير الطبري: 9/ 535.

(10)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 106.

(11)

أخرجه البخاري ص 475، كتاب الذبائح والصيد، باب 28: لحوم الحمر الإنسية، حديث رقم 5527؛ ومسلم ص 1024، كتاب الصيد والذبائح

، باب 5: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، حديث رقم 5007 [23]1936.

ص: 36

أن الله سبحانه وتعالى قال هنا: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 57]، ثم قال تعالى:{إنما حرم عليكم الميتة} ؛ لأن السياق في الأكل؛ ويدخل في تحريم أكل الميتة جميع أجزائها.

4 -

ومن فوائد الآية: تحريم الدم المسفوح؛ لقوله تعالى: {والدم} .

5 -

ومنها: تحريم لحم الخنزير؛ لقوله تعالى: {ولحم الخنزير} ؛ وهو شامل لشحمه، وجميع أجزائه؛ لأن اللحم المضاف للحيوان يشمل جميع أجزائه؛ لا يختص به جزء دون جزء؛ اللهم إلا إذا قُرن بغيره، مثل أن يقال:«اللحم، والكبد» ، أو «اللحم، والأمعاء» ، فيخرج منه ما خصص.

6 -

ومنها: تحريم ما ذكر اسم غير الله عليه؛ لقوله تعالى: {وما أهل به لغير الله} ، وهو أنواع:

النوع الأول: أن يهل بها لغير الله فقط، مثل أن يقول: باسم جبريل، أو محمد، أو غيرهما؛ فالذبيحة حرام بنص القرآن - ولو ذبحها لله -.

النوع الثاني: أن يهل بها لله، ولغيره، مثل أن يقول:«باسم الله واسم محمد» ؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لأنه اجتمع مبيح، وحاظر؛ فغلب جانب الحظر.

النوع الثالث: أن يهل بها باسم الله، وينوي به التقرب، والتعظيم لغيره؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لأنه شرك.

وهل يكون ذبح الذبيحة للضيف إهلالاً بها لغير الله؟

الجواب: إن قصد بها إكرام الضيف فلا يدخل بلا شك، كما لو ذبح الذبيحة لأولاده ليأكلوها، وإن قصد بذلك التقرب إليه، وتعظيمه تعظيم عبادة فإنه شرك، كالمذبوح على النصب تماماً، فلا يحل أكلها؛ وقد كان بعض الناس - والعياذ بالله - إذا قدم رئيسهم أو كبيرهم يذبحون بين يديه القرابين تعظيماً له - لا ليأكلها، ثم تترك للناس -؛ وهذا يكون قد ذبح على النصب؛ فلا يحل أكله - ولو ذكر اسم الله عليه -.

النوع الرابع: أن لا يهل لأحد - أي لم يذكر عليها اسم الله، ولا غيره؛ فالذبيحة حرام أيضاً؛ لقوله تعالى:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} [الأنعام: 121]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا"(1).

7 -

ومنها: تحريم ما ذبح لغير الله - ولو ذكر اسم الله عليه -، مثل أن يقول:«بسم الله والله أكبر؛ اللهم هذا للصنم الفلاني» ؛ لأنه أهل به لغير الله.

8 -

ومنها: أن الشرك قد يؤثر الخبثَ في الأعيان - وإن كانت نجاسته معنوية -؛ هذه البهيمة التي أَهل لغير الله بها نجسة خبيثة محرمة؛ والتي ذكر اسم الله عليها طيبة حلال؛ تأمل خطر الشرك، وأنه يتعدى من المعاني إلى المحسوسات؛ وهو جدير بأن يكون كذلك؛ لهذا قال الله عز وجل:{إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28] مع أن بدن المشرك ليس بنجس؛ لكن لقوة خبثه المعنوي، وفساد عقيدته وطويته صار مؤثراً حتى في الأمور المحسوسة.

9 -

ومن فوائد الآية: فضيلة الإخلاص لله.

10 -

ومنها: أن الضرورة تبيح المحظور؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ؛ ولكن هذه الضرورة تبيح المحرم بشرطين:

الشرط الأول: صدق الضرورة بحيث لا يندفع الضرر إلا بتناول المحرم.

الشرط الثاني: زوال الضرورة به حيث يندفع الضرر.

فإن كان يمكن دفع الضرورة بغيره لم يكن حلالاً، كما لو كان عنده ميتة ومذكاة، فإن الميتة لا تحل حينئذ؛ لأن الضرورة تزول بأكل المذكاة؛ ولو كان عطشان، وعنده كأس من خمر لم يحل له شربها؛ لأن ضرورته لا تزول بذلك؛ إذا لا يزيده شرب الخمر إلا عطشاً؛ ولهذا لو غص بلقمة، وليس عنده ما يدفعها به إلا كأس خمر كان شربها لدفع اللقمة حلالاً.

(1) أخرجه البخاري ص 197، كتاب الشركة، باب 16: من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم، حديث رقم 2507، وأخرجه مسلم ص 1029، كتاب الأضاحي، باب 4: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائل العظام، حديث رقم 5092 [20]1968.

ص: 37

11 -

ومن فوائد الآية: إثبات رحمة الله عز وجل؛ لأن من رحمة الله أن أباح المحَرَّمَ للعبد لدفع ضرورته.

12 -

ومنها: أن الأعيان الخبيثة تنقلب طيبة حين يحكم الشرع بإباحتها على أحد الاحتمالين؛ فإن حل الميتة للمضطر يحتمل حالين:

الأولى: أن نقول: إن الله على كل شيء قدير؛ فالذي جعلها خبيثة بالموت بعد أن كانت طيبة حال الحياة قادر على أن يجعلها عند الضرورة إليها طيبة، مثل ما كانت الحمير طيبة تؤكل حال حلها، ثم أصبحت بعد تحريمها خبيثة لا تؤكل؛ فالله سبحانه وتعالى هو خالق الأشياء، وخالق صفاتها، ومغيرها كيف يشاء؛ فهو قادر على أن يجعلها إذا اضطر عبده إليها طيبة.

الحال الثانية: أنها ما زالت على كونها خبيثة؛ لكنه عند الضرورة إليها يباح هذا الخبيث للضرورة؛ وتكون الضرورة واقية من مضرتها؛ فتناولها للضرورة مباح؛ وضررها المتوقع تكون الضرورة واقية منه.

والحالان بينهما فرق؛ لأنه على الحال الأولى انقلبت من الرجس إلى الطهارة؛ وعلى الحال الثانية هي على رجسيتها لكن هناك ما يقي مضرتها - وهو الضرورة -؛ وهذه الحال أقرب؛ لأنه لو كان عند الضرورة يزول خبثها لكانت طيبة تحل للمضطر، وغيره؛ ويؤيده الحس: فإن النفس كلما كانت أشد طلباً للشيء كان هضمه سريعاً، بحيث لا يتضرر به الجسم؛ وانظر إلى نفسك إذا أكلت طعاماً على طعام يتأخر هضم الأول، والثاني - مع ما يحصل فيه من الضرر -؛ لكن إذا أكلت طعاماً وأنت جائع فإنه ينهضم بسرعة؛ ويشهد لهذا ما يروى عن صهيب الرومي أنه كان في عينيه رمد؛ فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر وهو حاضر؛ فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صهيب أن يأكل منه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«تأكل تمراً وبك رمد» ـ لأن المعروف أن التمر يزيد في وجع العين - فقال: «إني أمضَغ من ناحية أخرى» (1)، أي: إذا كانت اليمنى هي المريضة بالرمد أمضغه على الجانب الأيسر؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ومكنه من أكله؛ قال ابن القيم رحمه الله:«إن الحكمة في أن الرسول مكنه - مع أن العادة أن هذا ضرر -؛ لأن قوة طلب نفسه له يزول بها الضرر: ينهضم سريعاً، ويتفاعل مع الجسم، ويذهب ضرره» (2).

13 -

ومن فوائد الآية: أن من تناول المحرم بدون عذر فهو آثم؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} ؛ فعُلم منها أن من كان غير مضطر فعليه إثم.

14 -

ومن فوائد الآية: إثبات اسمين من أسماء الله؛ وهما «الغفور» و «الرحيم» ، وما تضمناه من صفة.

15 -

ومنها: إثبات ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن أسماء الله سبحانه وتعالى المتعدية يستفاد منها ثبوت تلك الأحكام المأخوذة منها؛ فالأسماء المتعدية تتضمن الاسم، والصفة، والأثر - الذي هو الحكم المترتب عليه -؛ والعلماء يأخذون من مثل هذه الآية ثبوت الأثر - وهو الحكم -؛ لأنه لكونه: غفوراً رحيماً، غفر لمن تناول هذه الميتة لضرورته، ورحمه بحلها؛ فيكون في هذا دليل واضح على أن أسماء الله عز وجل تدل على «الذات» الذي هو المسمى؛ و «الصفة» ؛ و «الحكم» ، كما قال بذلك أهل العلم رحمهم الله.

القرآن

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)} [المائدة: 4]

(1) أخرجه ابن ماجة ص 2684، كتاب الطب، باب 3: الحمية، حديث رقم 3443، وقال الألباني في صحيح ابن ماجة 2/ 353، حديث رقم 2776:"حسن".

(2)

نقلا عن تفسير ابن عثيمين: 2/ 258.

ص: 38

التفسير:

يسألك أصحابك -أيها النبي-: ماذا أُحِلَّ لهم أَكْلُه؟ قل لهم: أُحِلَّ لكم الطيبات وصيدُ ما دَرَّبتموه من ذوات المخالب والأنياب من الكلاب والفهود والصقور ونحوها مما يُعَلَّم، تعلمونهن طلب الصيد لكم، مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن لكم، واذكروا اسم الله عند إرسالها للصيد، وخافوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه. إن الله سريع الحساب.

في سبب نزول الآية قولان:

أحدهما: أنه لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، قالوا: يا رسول الله، فماذا يحل لنا من هذه الأمة؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم"، الآية. وهذا قول أبي رافع (1)، وعكرمة (2)، ومحمد بن كعب القرظي (3).

قال أبو رافع: " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنَّا لك يا رسول الله! قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب! قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته. فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {يسألونك ماذا أحِل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علَّمتم من الجوارح مكلبين} "(4). [ضعيف].

والثاني: أخرج الطبري عن عامر: "أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية: {تعلمونهن مما علمكم الله "(5). [ضعيف].

وفي السياق نفسه قال سعيد بن جبير: "نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم "زيد الخير"، وذلك أنهما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإن كلاب آل ذريح وآل أبي جويرية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب، فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} يعني الذبائح {وما علمتم من الجوارح} يعني: وصيد ما علمتم من الجوارح، وهي الكواسب من الكلاب وسباع الطير"(6). [ضعيف ومنقطع]

قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4]، أي:" يسألك أصحابك -أيها النبي-: ماذا أُحِلَّ لهم أَكْلُه؟ "(7).

(1) انظر: تفسير الطبري (11134): 9/ 545.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11135): ص 9/ 546.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11136): ص 9/ 546.

(4)

أخرجه الطبري (11134): 9/ 545، إسناد هذا الخبر ضعيف، فيه موسى بن عبيدة الربذي، ضعيف، قال أحمد:"منكر الحديث، لا تحل الرواية عنه". ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 42، 43، وقال:"رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف".

ورواه البيهقي في السنن 9/ 235، والحاكم في المستدرك 2/ 311، مختصرًا من طريق معلى بن منصور، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحق، عن أبان بن صالح، وهو أصح من إسناد أبي جعفر وابن أبي حاتم. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

وقد روي حديث أبي رافع، بغير هذا اللفظ، من طرق. انظر الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 42، 43، ومسند أحمد (391): ص 6/ 8 - 10.

(5)

تفسير الطبري (11158): 9/ 553.

(6)

اسباب النزول للواحدي: 192، أسنده ابن أبي حاتم (تفسير ابن كثير: 2/ 15) عن سعيد به، وإسناده ضعيف ومنقطع، انظر: تهذيب التهذيب (382): ص 7/ 198.

(7)

التفسير الميسر: 107.

ص: 39

قال الطبري: أي: " يسألك، يا محمد، أصحابك: ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل؟ "(1).

قال الزمخشري: " معناه: ماذا أحل لهم من المطاعم، كأنهم حين تلا عليهم ما حرم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها"(2).

قال ابن كثير: " لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها، إما في بَدَنِه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة، كما قال: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] قال بعدها: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} كما قال في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم: أنه {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الآية: 157] "(3).

قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4]، أي:" قل لهم: أُحِلَّ لكم الطيبات"(4).

قال الطبري: اي: " فقل لهم: أحِل لكم منها الطيبات، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح"(5).

قال الزمخشري: " الطيبات، أى: ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد"(6).

قال سعيد بن جبير: " يعني: الذبائح الحلال الطيبة لهم"(7).

قال مقاتل بن حيان: "فـ {الطيبات}، ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات"(8).

وقال ابن وَهْبٍ: "سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال: ليس هو من الطيبات"(9).

قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، أي:" وصيدُ ما دَرَّبتموه من ذوات المخالب والأنياب من الكلاب والفهود والصقور ونحوها مما يُعَلَّم"(10).

قال الطبري: أي: " وأحل لكم أيضًا مع ذلك، صيدُ ما علّمتم من الجوارح، وهن الكَواسب من سباع البهائم"(11).

و«الطير» : سميت جوارح، لجرحها لأربابها، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من الصيد. يقال منه: جرح فلان لأهله خيرًا، إذا أكسبهم خيرًا، وفلان جارِحَة أهله، يعني بذلك: كاسبهم، ولا جارحة لفلانة، إذا لم يكن لها كاسب، ومنه قول أعشى بني ثعلبة (12):

ذاتَ حَدٍّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهَا

تُذْكِرَ الجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ

يعني: اكتسب (13).

واختلف في الجوارح التي عنى الله تعالى بقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، على ثلاثة أقاويل:

(1) تفسير الطبري: 9/ 543.

(2)

الكشاف: 1/ 606.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 32.

(4)

التفسير الميسر: 107.

(5)

تفسير الطبري: 9/ 543.

(6)

الكشاف: 1/ 606.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 32.

(8)

سنن أبي داود برقم (2817)، وتفسير ابن كثير: 3/ 32.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 32.

(10)

التفسير الميسر: 107.

(11)

تفسير الطبري: 9/ 543.

(12)

) ديوانه: 164، وهي من قصيدة له طويلة، مجد فيها إياس بن قبيصة الطائي، ملك الحيرة.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 543 - 544.

ص: 40

أحدها: يعني من الكلاب دون غيرها من السباع، وأنه لا يحل إلا صيد الكلاب وحدها، وهذا قول ابن عمر (1)، والضحاك (2)، والسدي (3).

والثاني: أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره، ومعناه مُضْرِين على الصيد كما تَضْرِي الكلاب، وهو قول ابن عباس (4)، وعلي بن الحسين (5)، وعبيد بن عمير (6)، والحسن (7)، ومجاهد (8)، وخيثمة بن عبد الرحمن (9)، وطاوس (10).

والثالث: أن معنى التكليب من صفات الجارح: التعليم (11).

والراجح-والله اعلم- انه يشمل "كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وأنّ صيد جميع ذلك حلال إذا صادَ بعد التعليم، لأن الله جل ثناؤه عم بقوله: وما علمتم من الجوارح مكلبين، كلَّ جارحة، ولم يخصص منها شيئًا. فكل جارحة، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع، فحلال أكل صيدها"(12).

قال ابن كثير: " والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم"(13).

قال عدي بن حاتم قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فَكُل"(14).

واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ" فقلت: ما بال الكلب الأسود من الأحمر؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال:"ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كل أسود بَهِيم"(15)(16).

وقرئ: «مكلبين» ، بالتخفيف (17).

قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، أي:" تعلمونهن طلب الصيد لكم، مما علمكم الله"(18).

قال السدي: " يقول: تعلمونهن من الطَّلب كما علمكم الله"(19).

قال الطبري: أي: " تؤدِّبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم مما علمكم الله، يعني بذلك: من التأديب الذي أدَّبكم الله، والعلم الذي علمكم"(20).

(1) انظر: تفسير الطبري (11155): ص 9/ 549.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11153): ص 9/ 549.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11154): ص 9/ 549.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11149): ص 9/ 548، و (11151): ص 9/ 549.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11147): ص 9/ 548.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11152): ص 9/ 549.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11137)، و (11138): ص 9/ 546.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11139) - (11144): ص 9/ 547.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11145)، و (11146): ص 9/ 548.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11150): ص 9/ 548.

(11)

انظر: النكت والعيون: 2/ 15.

(12)

تفسير الطبري: 9/ 549 - 550.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 32.

(14)

أخرجه الطبري (11156): ص 9/ 550.

(15)

) صحيح مسلم برقم (1573) وسنن أبي داود برقم (74) وسنن النسائي (1/ 177) وسنن ابن ماجة برقم (365).

(16)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 33.

(17)

انظر: الكشاف: 1/ 607.

(18)

التفسير الميسر: 107.

(19)

أخرجه الطبري (11157): ص 9/ 552.

(20)

تفسير الطبري: 9/ 552.

ص: 41

قال الماوردي: " أى: تعلمونهن من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي أدبكم وصفات التعليم التي بيَّن حكمها لكم، فأما صفة التعليم، فهو أن يُشلَى إذا أُشلي، ويجيب إذا دعي ويمسك إذا أخذ"(1).

قال ابن كثير: " وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه"(2).

وهل يكون إمساكه عن الأكل شرطاً فى صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فإن أكلت لم تؤكل، وهذا قول ابن عباس (3)، وعطاء (4).

والثاني: أنه ليس بشرط فى كل الجوارح ويؤكل وإن أكلت، وهذا قول ابن عمر (5)، وسعد بن أبي وقاص (6)، وأبي هريرة (7)، وسلمان (8).

والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم فلا يؤكل ما أكلت، وليس بشرط في جوارح الطير، فيؤكل وإن أكلت، وهذا قول الشعبي (9)، وإبراهيم النخعي (10)، والسدي (11)، وحماد (12).

والظاهر –والله أعلم- "أن التعليم الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح، إنما هو أن يعلِّم الرجل جارحَه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد وطلبه إياه إذا أغرى، أو إمساكه عليه، إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئًا، وألا يفرّ منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه. فذلك، هو تعليم جميع الجوارح، طيرها وبهائمها. فإن أكل من الصيد جارحةُ صائد فجارحه حينئذ غير معلَّم، فإن أدرك صيده صاحبُه حيًّا فذكّاه، حلَّ له أكله. وإن أدركه ميتًا، لم يحلَّ له أكله، لأنه مما أكله السَّبُع الذي حرمه الله تعالى بقوله:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} ، ولم يدرك ذكاته، [وذلك] لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن عدي بن حاتم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: «إذا أرسلتَ كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه فلا تأكل منه شيئًا، فإنما أمسكَ على نفسه» (13) " (14).

قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، أي:" فكلوا مما أمسكن لكم من الصيد"(15).

قال الطبري: أي: " فكلوا مما أمسكن عليكم، فكلوا، أيها الناس، مما أمسكت عليكم جوارحكم"(16).

قال ابن كثير: " فمتى كان الجارحة معلما وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد، وإن قتله بالإجماع"(17).

(1) النكت والعيون: 2/ 15.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 34.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11160) - (11167): ص 9/ 554 - 555.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11159): ص 9/ 554.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11202) - (11206): ص 9/ 563.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11195) - (11197): ص 9/ 561 - 562.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11198) - (11200): ص 9/ 562.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11187) - (11194): ص 9/ 560 - 561.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11176)، و (11178): ص 9/ 557 - 558.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11177)، و (11179)، و (11180): ص 9/ 557 - 558.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11214): ص 9/ 568.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11181): ص 9/ 558.

(13)

أخرجه الطبري (11209): ص 9/ 564.

(14)

تفسير الطبري: 9/ 564.

(15)

صفوة التفاسير: 302.

(16)

تفسير الطبري: 9/ 566.

(17)

تفسير ابن كثير: 3/ 34.

ص: 42

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، علة قولين (1):

أحدهما: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله، حلال أكل كلِّ ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلَّمة من الصيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركتْ ذكاته فذُكِّي أو لم تدرَك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جَرْح.

وهذا قول الذين قالوا: تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلَّم الاستشلاء على الصيد، وطلبه إذا أشْليت عليه، وأخذه، وترك الهرب من صاحبها، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته

والثاني: ذلك على الخصوص دون العموم. قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا، فالذي أمسكت منه غير جائز أكلُه وقد أكلت بعضه، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه، على أنفسها لا علينا، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كلَ ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله: فكلوا مما أمسكن عليكم، دون ما أمسكته على أنفسها.

وهذا قول من قال: تعليم الجوارح الذي يحلُّ به صيدها: أن تَستشلى للصيد إذا أشليت، فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئًا، ولا تفر من صاحبها.

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، أي:" واذكروا اسم الله عند إرسالها للصيد"(2).

قال ابن عباس: " يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل: بسم الله، وإن نسيت فلا حَرَج"(3).

قال السدي: ": إذا أرسلته فسَمِّ عليه حين ترسله على الصيد"(4).

قال القرطبي: " قيل: المراد بالتسمية هنا التسمية عند الأكل، وهو الأظهر"(5).

قال ابن كثير: " وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال: «سَمّ الله، وكُل بيمينك، وكل مما يليك» (6)، وفي صحيح البخاري: عن عائشة أنهم قالوا: يا رسول الله، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر - بلُحْمانٍ لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: «سَمّوا الله أنتم وكلوا» (7) "(8).

وعن عائشة-رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره» (9).

وفي رواية اخرى عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين، فقال: «أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره» "(10).

(1) انظر: تفسير الطبري: 9/ 566 - 567.

(2)

التفسير الميسر: 107.

(3)

أخرجه الطبري (11218): ص 9/ 571.

(4)

أخرجه الطبري (11219): ص 9/ 571.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 74.

(6)

صحيح البخاري برقم (5376) وصحيح مسلم برقم (2022).

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 37.

(8)

صحيح البخاري برقم (5507).

(9)

المسند (6/ 143) وسنن ابن ماجه برقم (3264).

(10)

المسند (6/ 265)، (6/ 246) وسنن أبي داود برقم (3767) وسنن الترمذي برقم (1858) وسنن النسائي الكبرى برقم (10112).

ص: 43

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 4]، أي:" وخافوا الله فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه"(1).

قال الطبري: أي: " واتقوا الله، أيها الناس، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلَّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تطعَمُوا ما لم يسمَّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صادَه أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحِّد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرَّم ذلك عليكم فاجتنبوه"(2).

قال القرطبي: " أمر بالتقوى على الجملة، والإشارة القريبة هي ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر"(3).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4]، أي:"فإن الله سريع المجازاة للعباد"(4).

قال الطبري: " ثم خوَّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره. فقال: اعلموا أن الله سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نِعَمه عليه منكم وشكرِ الشاكر منكم ربَّه على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم، فيحيط به، لا يخفى عليه منه شيء، فيجازي المطيعَ منكم بطاعته، والعاصيَ بمعصيته، وقد بيَّن لكم جزاء الفريقين"(5).

قال السعدي: " حذر من إتيان الحساب في يوم القيامة، وأن ذلك أمر قد دنا واقترب، فقال: {واتقوا الله إن الله سريع الحساب} "(6).

قال القرطبي: " وسرعة الحساب هي من حيث كونه تعالى قد أحاط بكل شي علما وأحصى كل شي عددا، فلا يحتاج إلى محاولة عد ولا عقد كما يفعله الحساب، ولهذا قال: {وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]، فهو سبحانه يحاسب الخلائق دفعة واحدة. ويحتمل أن يكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال: إن حساب الله لكم سريع إتيانه، إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد بالحساب المجازاة، فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتقوا الله"(7).

الفوائد:

1 -

مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه.

2 -

حلية الصيد إن توفرت شروطه، وهي: أن يكون الجارح معلماً وأن يذكر اسم الله تعالى عند إرساله وأن لا يأكل منه الجارح، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة 1 بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتاً فلم يذك.

3 -

قال السعدي: " دلت هذه الآية على أمور:

أحدها: لطف الله بعباده ورحمته لهم، حيث وسع عليهم طرق الحلال، وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح، والمراد بالجوارح: الكلاب، والفهود، والصقر، ونحو ذلك، مما يصيد بنابه أو بمخلبه.

الثاني: أنه يشترط أن تكون معلمة، بما يعد في العرف تعليما، بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لم يأكل، ولهذا قال:{تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم} أي: أمسكن من الصيد لأجلكم.

وما أكل منه الجارح فإنه لا يعلم أنه أمسكه على صاحبه، ولعله أن يكون أمسكه على نفسه.

(1) التفسير الميسر: 107.

(2)

تفسير الطبري: 9/ 572.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 75.

(4)

صفوة التفاسير: 302.

(5)

تفسير الطبري: 9/ 572.

(6)

تفسير السعدي: 221.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 75.

ص: 44

الثالث: اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما، لقوله:{من الجوارح} مع ما تقدم من تحريم المنخنقة. فلو خنقه الكلب أو غيره، أو قتله بثقله لم يبح [هذا بناء على أن الجوارح اللاتي يجرحن الصيد بأنيابها أو مخالبها، والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي: المحصلات للصيد والمدركات لها فلا يكون فيها على هذا دلالة - والله أعلم-](1).

الرابع: جواز اقتناء كلب الصيد، كما ورد في الحديث الصحيح، مع أن اقتناء الكلب محرم، لأن من لازم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه.

الخامس: طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد، لأن الله أباحه ولم يذكر له غسلا فدل على طهارته.

السادس: فيه فضيلة العلم، وأن الجارح المعلم -بسبب العلم- يباح صيده، والجاهل بالتعليم لا يباح صيده.

السابع: أن الاشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما، ليس مذموما، وليس من العبث والباطل. بل هو أمر مقصود، لأنه وسيلة لحل صيده والانتفاع به.

الثامن: فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد، قال: لأنه قد لا يحصل له إلا بذلك.

التاسع: فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح، وأنه إن لم يسم الله متعمدا، لم يبح ما قتل الجارح.

العاشر: أنه يجوز أكل ما صاده الجارح، سواء قتله الجارح أم لا. وأنه إن أدركه صاحبه، وفيه حياة مستقرة فإنه لا يباح إلا بها (1).

القرآن

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)} [المائدة: 5]

التفسير:

ومن تمام نعمة الله عليكم اليوم -أيها المؤمنون- أن أَحَلَّ لكم الحلال الطيب، وذبائحُ اليهود والنصارى -إن ذكَّوها حَسَبَ شرعهم- حلال لكم وذبائحكم حلال لهم. وأَحَلَّ لكم -أيها المؤمنون- نكاح المحصنات، وهُنَّ الحرائر من النساء المؤمنات، العفيفات عن الزنى، وكذلك نكاحَ الحرائر العفيفات من اليهود والنصارى إذا أعطيتموهُنَّ مهورهن، وكنتم أعِفَّاء غير مرتكبين للزنى، ولا متخذي عشيقات، وأمِنتم من التأثر بدينهن. ومن يجحد شرائع الإيمان فقد بطل عمله، وهو يوم القيامة من الخاسرين.

في سبب نزول الآية وجوه:

أحدها: قال قتادة: " ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم يعني: نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فأحل الله تزويجهن على علم"(2).

والثاني: وقال مقاتل: " فلما أحل الله- عز وجل نساء أهل الكتاب، قال المسلمون: كيف تتزوجوهن وهن على غير ديننا! ، وقالت نساء أهل الكتاب: ما أحل الله تزويجنا للمسلمين إلا وقد رضي أعمالنا! فأنزل الله- عز وجل {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ}، يعني: من نساء أهل الكتاب بتوحيد الله، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، يعنى: من الكافرين"(3).

(1) تفسير السعدي: 221.

(2)

أخرجه الطبري (11290): ص 9/ 592.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 455.

ص: 45

قال السمرقندي: قيل: "لما نزلت هذه الآية قلن نساء أهل الكتاب: لولا إن الله تعالى قد رضي بديننا لم يبح للمسلمين نكاحنا، فنزل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} "(1).

والثالث: لما "نزل قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، ثم رخص من حالة الاضطرار، فقال بعضهم: لا نأخذ الرخصة من الاضطرار فنزل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} "(2).

قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5]، أي:" ومن تمام نعمة الله عليكم اليوم -أيها المؤمنون- أن أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها"(3).

قال مقاتل: "أى: الذبائح من الصيد"(4).

قال التستري: " الطيبات: الحلال من الرزق"(5).

قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، أي:"، وذبائحُ اليهود والنصارى -إن ذكَّوها حَسَبَ شرعهم- حلال لكم"(6).

قال الماوردي: " يعني: ذبائحهم"(7).

قوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5]، أي:" وذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم"(8).

قال الماوردي: " يعني: ذبائحنا"(9).

قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5]، أي:" وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات"(10).

قال الطبري: أي: " أحل لكم، أيها المؤمنون، المحصنات من المؤمنات وهن الحرائر منهن أن تنكحوهن"(11).

قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، أي:" أي وزواج الحرائر من من اليهود والنصارى"(12).

قال مقاتل: " يعني: وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى، نكاحهن حلال للمسلمين (13).

وفي قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، ثلاثة أقوال (14):

أحدها: المعاهدات دون الحربيات، وهذا قول ابن عباس (15).

والثاني: عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن خاصة، دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله (16).

(1) بحر العلوم للسمرقندي: 1/ 371.

(2)

بحر العلوم للسمرقندي: 1/ 371.

(3)

صفوة التفاسير: 303، والتفسير الميسر: 107

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 454.

(5)

تفسير التستري: 58.

(6)

التفسير الميسر: 107.

(7)

النكت والعيون: 2/ 17.

(8)

صفوة التفاسير: 303.

(9)

النكت والعيون: 2/ 17.

(10)

صفوة التفاسير: 303.

(11)

تفسير الطبري: 9/ 581.

(12)

صفوة التفاسير: 303، والتفسير الميسر: 107

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 455.

(14)

.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11285): ص 9/ 588.

(16)

انظر الأم: 5/ 6.

ص: 46

والثالث: عامة أهل الكتاب من معاهدات وحربيات، وهذا قول سعي بن المسيب (1)، والحسن (2)، والفقهاء وجمهور السلف (3).

والراجح-والله أعلم- أن نكاح عامة أهل الكتاب من معاهدات وحربيات جائز ذميةً كانت أو حربيّةً، بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده أن يُجْبر على الكفر (4).

وفي قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، وجهان:

أحدهما: أنهن الحرائر من الفريقين، سواء كن عفيفات أو فاجرات، فعلى هذا، لا يجوز نكاح إمائهن، وهذا قول مجاهد (5)، والشعبي (6)، وبه قال الشافعي (7).

قال عامر: " أتى رجل عمر فقال: إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الإسلام، فلما أسلمت أصابت حدًّا من حدود الله، فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة"(8).

والثاني: أنهن العفائف، سواءٌ كن حرائر أم إماءً، فعلى هذا، يجوز نكاح إمائِهن، وهذا قول مجاهد (9)، والشعبي (10) أيضاً، وبه قال أبو حنيفة (11).

قوله تعالى: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، أي:" إِذا دفعتم لهن مهورهن"(12).

قال مقاتل: " يعني إذا أعطيتموهن مهورهن"(13).

قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5]، أي:" حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى"(14).

قال الماوردي: " يعني: أَعفّاء غير زُناة"(15).

قال ابن عباس: "يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة غير مسافحين متعالنين بالزنا ولا متخذي أخدان، يعني: يسرُّون بالزنا"(16).

عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن قال:"سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته"(17).

(1) انظر: تفسير الطبري (11284): ص 9/ 587.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11284): ص 9/ 587.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 17.

(4)

انظرك تفسير الطبري: 9/ 589.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11256): ص 9/ 582.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11259): ص 9/ 582.

(7)

انظر: تفسير الغمام الشافعي: 2/ 702 - 703.

(8)

أخرجه الطبري (11264): ص 9/ 583 - 584.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11268)، (11269): ص 9/ 585.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11270) - (11274): ص 9/ 585.

(11)

انظر: النكت والعيون: 2/ 17.

(12)

صفوة التفاسير: 303.

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 455.

(14)

صفوة التفاسير: 303.

(15)

النكت والعيون: 2/ 17.

(16)

أخرجه الطبري (11287): ص 9/ 591.

(17)

أخرجه الطبري (11289): ص 9/ 591.

ص: 47

قوله تعالى: {وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5]، أي:" وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سرا"(1).

قال مقاتل: " يعني: لا تتخذ الخليل في السر فيأتيها"(2).

قال الزجاج: " وهن الصديقات والأصدقاء، فحرم الله عز وجل الجماع على جهة السفاح، أو على جهة اتخاذ الصديقة، وأحلة على جهة الإحصان، وهو التزويج، على ما عليه جماعة العلماء"(3).

قال السمرقندي: " يقول: لا تتخذوا خدنا فتزنوا بها سرا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعيرون من يزني في العلانية ولا يعيرون من يزني سرا، فحرم الله زنى السر والعلانية"(4).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]، أي:" ومن يجحد شرائع الإيمان فقد بطل عمله"(5).

قال مجاهد: " من يكفر بالله"(6).

قال عطاء: " الإيمان، التوحيد"(7).

قال اللبي: " أي: بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"(8).

قال ابن عباس: " أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه"(9).

قال الطبري: اي: " ومن يأبَ الإيمان بالله، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله، لأن «الكفر»: هو الجحود في كلام العرب، و «الإيمان»: التصديق والإقرار، ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به "(10).

قال مقاتل بن حيان: "يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغني عنهن شيئا وهي للناس عامة"(11).

وقرأ الحسن: «حَبِطَ عَمَلُهُ» ، بفتح الباء (12).

قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5]، أي:" وهو يوم القيامة من الهالكين"(13).

قال مقاتل: "يعني: من الكافرين"(14).

قال السمرقندي: " يعني: من المغبونين في العقوبة، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله: إن الرجل إذا صلى ثم ارتد ثم أسلم في وقت تلك الصلاة، وجب عليه إعادة تلك الصلاة، ولو كان حج حجة الإسلام فعليه أن يعيد الحج، لأنه قد بطل ما فعل قبل ارتداده"(15).

الفوائد:

1 -

إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب.

(1) صفوة التفاسير: 303.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 455.

(3)

معاني القرآن: 2/ 152.

(4)

بحر العلوم: 1/ 371.

(5)

التفسير الميسر: 107.

(6)

أخرجه الطبري (11296): ص 9/ 593.

(7)

أخرجه الطبري (11292): ص 9/ 593.

(8)

تفسير الثعلبي: 4/ 23.

(9)

أخرجه الطبري (11299): ص 9/ 593.

(10)

تفسير الطبري: 9/ 594.

(11)

تفسير الثعلبي: 4/ 23، وتفسير البغوي: 3/ 19.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 4/ 23.

(13)

صفوة التفاسير: 303.

(14)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 455.

(15)

بحر العلوم: 1/ 371 - 372.

ص: 48

2 -

إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة عفيفة، وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي والشهود والمهر، والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل: زوجني فلانة. فيقول له: قد زوجتكها.

3 -

حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة.

4 -

المعاصي قد تقود إلى الكفر.

5 -

المرتد عن الإسلام يحبط عمله فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} [المائدة: 6]

التفسير:

يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأنتم على غير طهارة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم مع المرافق [والمِرْفَق: المِفْصَل الذي بين الذراع والعَضُد] وامسحوا رؤوسكم، واغسلوا أرجلكم مع الكعبين [وهما: العظمان البارزان عند ملتقى الساق بالقدم]، وإن أصابكم الحدث الأكبر فتطهروا بالاغتسال منه قبل الصلاة. فإن كنتم مرضى، أو على سفر في حال الصحة، أو قضى أحدكم حاجته، أو جامع زوجته فلم تجدوا ماء فاضربوا بأيديكم وجه الأرض، وامسحوا وجوهكم وأيديكم منه. ما يريد الله في أمر الطهارة أن يُضَيِّق عليكم، بل أباح التيمم توسعةً عليكم، ورحمة بكم، إذ جعله بديلا للماء في الطهارة، فكانت رخصة التيمُّم من تمام النعم التي تقتضي شكر المنعم; بطاعته فيما أمر وفيما نهى.

في سبب نزول الآية قولان:

احدهما: عن علقمة بن وقاص الليثي؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه؛ فلا يكلمنا، ونسلم عليه؛ فلا يرد علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة، فقلنا: يا رسول الله نكلمك فلا تكلمنا، ونسلم عليك فلا ترد علينا، قال: حتى نزلت آية الرخصة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} الآية"(1). [ضعيف جداً]

والثاني: عن عائشة: "أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلّوا، فشكوا ذلك إلى رسول الله؛ فأنزل الله -تعالى- آية التيمم، فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيراً؛ فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك والمسلمين فيه خيراً"(2). [صحيح]

وفي السياق نفسه روي عن عمار بن ياسر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّس بأولاتِ الجيش ومعه عائشة، فانقطع عقد لها من جَزْعِ ظِفَار؛ فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك، حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء؛ فتغيظ عليها أبو بكر، وقال: حبست الناس وليس

(1) أخرجه الطبري (11339): 10/ 22، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير: 3/ 46، الطبراني في المعجم الكبير (18/ 6). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 276):"فيه جابر الجعفي وهو ضعيف"، علقمة بن وقاص؛ ثقة ثبت، أخطأ من زعم أن له صحبة، فهو مرسل، ومما يدلل على ضعف الحديث: أن الحفاظ والمحققين قالوا: ليس له صحبة، وهنا في هذا الحديث أثبت له لقاء النبي، ولا شك أن هذا غير صحيح، والخطأ من جابر.

قال الحافظ ابن كثير: "وهو حديث غريب جداً؛ وجابر هذا هو ابن يزيد [في الأصل زيد وهو خطأ] الجعفي ضعفوه".

وقال السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 26): "وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم بسند ضعيف".

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(رقم 334، 336، 3672، 3773، 4583، 4607، 4608، 5164، 5250، 5882، 6844، 6845)، ومسلم في "صحيحه"(رقم 367).

ص: 49

معهم ماء؛ فأنزل الله -تعالى- على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب. فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط" (1). [ضعيف]

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 6]، أي:"يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله"(2).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(3).

وعن خيثمة قال: "ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(4).

كما أن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان" (5).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك [يعني استمع لها]؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(6).

قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، أي:" إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأنتم على غير طهارة"(7).

وللعلماء في المراد بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] أقوال:

أحدها: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مُضْمَراً. وفي وجوب الوضوء شرطاً، وهو قول عبد الله بن عباس (8)، وسعد بن أبي وقاص (9)، وأبي موسى الأشعري (10)، والفقهاء (11).

والثاني: إذا قمتم من النوم إلى الصلاة. وهذا قول زيد بن اسلم (12)، والسدي (13).

قال ابن كثير: "وكلاهما قريب [اي: القول الاول والثاني] "(14).

والثالث: أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثا كان، أو غير محدث، ولا يجوز أن يجمع بوضوء واحد بين فرضين، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه (15)، وعمر (16)، وعكرمة (17)، وابن سيرين (18).

والرابع: أن الآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب، وفي حق المتطهر على سبيل الندب والاستحباب (19).

والخامس: أنه كان واجباً على كل قائمٍ إلى الصلاة، ثم نسخ إلَاّ على المحدث.

روى سليمان بن بريدة عن أبيه: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان عام الفتح، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، قال: «عمدا فعلته يا عمر» "(20).

والصواب-والله أعلم- أن الله تعالى فرض غسل ما أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه، وقبل إحداث الوضوء منه وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته. ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلىّ يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربّه لا على أن ذلك كان عليه فرضًا واجبًا (21).

قال الزمخشري: " فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث، فما وجهه؟

قلت: يحتمل أن يكون الأمر للوجوب، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة، وأن يكون للندب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة" (22).

أخرج الطبري عن محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري نه قال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: "أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمَّن هو؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب: أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، الغسيل حدَّثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه، فأمِر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلا من حدّث. فكان عبد الله يرى أنّ به قوة عليه، فكان يتوضأ"(23).

وعن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد"(24).

وعن ابن عمر أيضا، قال، " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» " (25).

(1) أخرجه أحمد (4/ 263، 264، 320، 321)، وأبو داود (1/ 86، 87 رقم 320)، وابن ماجه (1/ 187 رقم 566 - مختصراً) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عمار به.

وأخرجه ابن ماجه (1/ 187 رقم 565) من طريق الزهري عن عبيد الله بن عتبة عن عمار، وهو منقطع فيما بين عبيد الله وعمار.

قلنا: والحديث معلّ بالاضطراب؛ كما ذكر الشيخ العلامة الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل"(1/ 185، 186)، وانظر:"ضعيف سنن أبي داود"(67/ 319).

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 31) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد.

(2)

تفسير المراغي: 11/ 43، وانظر: صفوة التفاسير: 2/ 487.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196، و (5025): ص 3/ 902

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

(5)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(7)

التفسير الميسر: 108.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11300): ص 10/ 7.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11301)، و (11302): ص 10/ 7 - 8

(10)

انظرك تفسير الطبري (11304)، و (11305): ص 10/ 8.

(11)

انظر: النكت والعيون: 2/ 18، وزاد المسير: 1/ 520.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11319)، و (11320): ص 10/ 11 - 12.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11321): ص 10/ 12.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 44.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11322) - (11323)، و (11326)، و (11327): ص 10/ 12، 13 - 14.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11324)، و (11325): ص 10/ 13.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11322): ص 10/ 12.

(18)

انظر: تفسير الطبري (11324): ص 10/ 12.

(19)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 43.

(20)

صحيح. أخرجه مسلم 277 وأبو داود 172 والترمذي 61 والنسائي 1/ 16 والدارمي 1/ 169 وأحمد 5/ 350 - 351 - 358 وأبو عوانة 1/ 237 والطحاوي في «المعاني» 1/ 41 وابن حبان 1706 و 1707 و 1708 والبيهقي 1/ 162 من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.

(21)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 19.

(22)

الكشاف: 1/ 609.

(23)

تفسير الطبري (11328): 10/ 14.

(24)

اخرجه الطبري (11335): 10/ 18.

(25)

أخرجه الطبري (11338): ص 10/ 22.

ص: 50

وعن عمرو بن عامر، عن أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقَعْبٍ صغير فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم! قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد"(1).

وعن أبي غطيف، قال:"صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلسا في داره فجلس وجلست معه. فلما نُودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه. فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ، فقلت: أسنة ما أراك تَصنع؟ قال، لا وإن كان وَضوئي لصلاة الصبح كافيَّ للصلوات كلها ما لم أحدِث، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ على طهرٍ كتب له عشر حسنات، ، فأنا رغبت في ذلك"(2).

قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، أي:" فاغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق"(3).

قال السمرقندي: " يعني: مع المرافق"(4).

قال المبرد: "إذا مد الشيء إلى جنسه تدخل فيه الغاية، وإذا مد إلى خلاف جنسه، لا تدخل فيه الغاية، فقوله: {إلى المرافق} مد إلى جنسه، فتدخل فيه الغاية، وأما قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] مد إلى خلاف جنسه، فلا تدخل فيه الغاية. والمرفق سمى بذلك؛ لارتفاق الإنسان به بالاتكاء عليه"(5).

قال الطبري: " قال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تُغْسَل المرافق حدثنا بذلك عنه الربيع"(6).

قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، أي:" وامسحوا رؤوسكم، واغسلوا أرجلكم مع الكعبين"(7).

قال السمرقندي: " يعني: مع الكعبين"(8).

قال الواحدي: " وهما النَّاشزان من جانبي القدم"(9).

واختلف العلماء في وجوب غسل الرجل، والأصح-والله أعلم- "أنه يجب الغسل، وقد دلت السنة عليه، إذ روى عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: ويل للأعقاب من النار"(10)(11).

قال ابن كثير: " وقوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} اختلفوا في هذه "الباء" هل هي للإلصاق، وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر، على قولين.

ومن الأصوليين من قال: هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة (12)، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:

(1) اخرجه الطبري (11336): 10/ 20.

(2)

اخرجه الطبري (11337): 10/ 21.

(3)

صفوة التفاسير: 303.

(4)

بحر العلوم: 1/ 372.

(5)

تفسير السمعاني: 2/ 16.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 47، والام: 1/ 22.

(7)

التفسير الميسر: 108.

(8)

بحر العلوم: 1/ 372.

(9)

الوجيز: 310.

(10)

أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/ 390.

وأخرجه أبو داود في: الطهارة، 66 - باب تفريق الوضوء، حديث 175، عن خالد عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أخرجه ابن ماجة في: الطهارة وسننها، 55 - باب غسل العراقيب، حديث 454، والطبري في تفسيره (11513): ص 10/ 70.

(11)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 16 - 17.

(12)

انظر: صحيح مسلم برقم (246).

ص: 51

«هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء، فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» (1).

وفي حديث عبد خير، عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وروى أبو داود، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله (2).

ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.

وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس، وهو مقدار الناصية.

وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح، لا يتقدر ذلك بحدٍّ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه.

واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة، قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه، فلما قضى حاجته قال:"هل معك ماء؟ " فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته، وعلى العمامة وعلى خفيه

وذكر باقي الحديث، وهو في صحيح مسلم، وغيره (3).

فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة، ونحن نقول بذلك، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين، فهذا أولى، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة" (4).

وقُرئ: {وَأَرْجُلَكُمْ} ، بالنصب عطفا على:{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} (5).

أخرج ابن ابي حاتم عن عِكَرِمة، عن ابن عباس؛ "أنه قرأها:{وَأَرْجُلَكُمْ} يقول: رجعت إلى الغسل" (6). وروي عن عبد الله بن مسعود، وعُرْوَة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، والضحاك، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم التيمي، نحو ذلك (7).

قال ابن كثير: " وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل، كما قاله السلف، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب كما هو مذهب الجمهور، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب"(8).

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، أي:" وإن أصابكم الحدث الأكبر فتطهروا بالاغتسال منه قبل الصلاة"(9).

(1) انظر: صحيح البخاري برقم (185، 186) وصحيح مسلم برقم (235) ..

(2)

حديث علي رواه أبو دواد في سننه برقم (111) وكذا حديث المقدام برقم (121) وحديث معاوية برقم (124).

(3)

) صحيح مسلم برقم (274).

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 49 - 50.

(5)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 51.

(6)

كما في تفسير ابن كثير: 3/ 51.

(7)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 51.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 51.

(9)

التفسير الميسر: 108.

ص: 52

قال الطبري: أي: " وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها="فاطَّهَّروا"، يقول: فتطهّروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها"(1).

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6]، أي:" وإن كنتم في حال مرض لا تقدرون معه على استعمال الماء"(2).

قال الطبري: أي: " إن كنتم جرحى أو مُجَدَّرين (3) وأنتم جنب"(4).

قال ابن مسعود: " المريض: الذي قد أُرخص له في التيمم، هو الكسير والجريح. فإذا أصابت الجنابة الكسيرَ اغتسل، والجريح لا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى عليها"(5).

قال أبو مالك: " هي للمريض الذي به الجراحةُ التي يخاف منها أن يغتسل، فلا يغتسل. فرُخِّص له في التيمم"(6).

قال مجاهد: " والمرض: أن يصيب الرجل الجرح والقرح والجدريّ، فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء"(7).

قال السدي: " والمرض: هو الجراح. والجراحة التي يتخوّف عليه من الماء، إن أصابه ضرَّ صاحبه، فذلك يتيمم صعيدًا طيبًا"(8).

قال سعيد بن جبير: " إذا كان به جروح أو قُروح يتيمم"(9).

وقال إبراهيم: " من القروح تكون في الذراعين"(10).

قال الضحاك: " صاحب الجراحة التي يتخوّف عليه منها، يتيمم"(11).

وروي عن عاصم يعني الأحول عن الشعبي: "أنه سئل عن [قوله]: المجدور تُصيبه الجنابة؟ قال: ذهب فرسان هذه الآية"(12).

وقال ابن زيد: " المريضُ الذي لا يجد أحدًا يأتيه بالماء، ولا يقدر عليه، وليس له خادم ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء، وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبو إليه، تيمم وصلَّى إذا حلَّت الصلاة قال: هذا كله قولُ أبي إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، لا يترك الصلاة، وهو أعذَرُ من المسافر"(13).

(1) تفسير الطبري: 10/ 82.

(2)

التفسير الميسر: 85.

(3)

يقال، "جدر الرجل، جدرا"(بالبناء للمجهول، بضم أوله وكسر ثانيه)"فهو جدير". و"جدر"(بالبناء للمجهول مشدد الدال)"فهو مجدر"، إذا أصابه الجدري.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 82 - 83.

(5)

أخرجه الطبري (9570): ص 8/ 386.

(6)

أخرجه الطبري (9571): ص 8/ 386.

(7)

أخرجه الطبري (9577): ص 8/ 387.

(8)

أخرجه الطبري (9572): ص 8/ 386.

(9)

أخرجه الطبري (9573): ص 8/ 386.

(10)

أخرجه الطبري (9574): ص 8/ 386.

(11)

أخرجه الطبري (9576): ص 8/ 387.

(12)

أخرجه الطبري (9579): ص 8/ 387.

قال السيد المحقق: " هكذا في المخطوطة: " عن قوله: المجدور

" فأثبتها بين القوسين، لأني في شك منها. وأما قوله: " ذهب فرسان هذه الآية "، فإنه مما أشكل على معناه، وربما رجحت أنه أراد أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، كما مضى في الأثر رقم: 9567. فيكون قوله: " ذهب فرسان هذه الآية "، عن ذلك الشطر من الآية " ولا جنبًا إلا عابري سبيل "، وأنهم هم الأنصار من أصحاب رسول الله، الذين كانت أبوابهم في المسجد، وقد مضوا، لم يبق اليوم منهم أحد. هذا غاية اجتهادي، وفوق كل ذي علم عليم".

قلت: ربما أراد سفيان أن السياق كان خاصا بهؤلاء الفرسان، وأما الحكم فباق. والله تعالى أعلم.

(13)

اخرجه الطبري (9579): ص 8/ 387 - 388.

ص: 53

وفي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [المائدة: 6] ثلاثة أقاويل (1):

أحدها: ما انطلق عليه اسم المرض من مستضرٍّ بالماء وغير مستضرٍّ، وهذا قول داود بن علي (2).

الثاني: ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر، وهذا قول مالك (3)، وأحد قولي الشافعي (4).

والثالث ما خيف من استعمال الماء فيه التلف دن ما لم يُخفْ، وهو القول الثاني من قولي الشافعي (5).

قوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6]، أي:" أو كنتم على سفر في حال الصحة"(6).

قال الطبري: أي: " أو [كنتم] مسافرين وأنتم جنب"(7).

وفي قوله تعالى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6]، ثلاثة أقاويل (8):

أحدها: ما انطلق عليه اسم السفر من قليل وكثير، وهو قول داود.

والثاني: مسافة يوم وليلة فصاعداً، وهو قول مالك، والشافعي رحمهما الله.

والثالث: مسافة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة.

قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]، أي:" أو قضى أحدكم حاجته"(9).

قال الطبري: " يقول: أو جاء أحدكم وقد قضى حاجته فيه وهو مسافر. وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه"(10).

قال ابن كثير: " الغائط: هو المكان المطمئن من الأرض، كنى بذلك عن التغوط، وهو الحدث الأصغر"(11).

قال مجاهد: " الغائط، الوادي"(12).

قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6]، أي:" أو جامع زوجته"(13).

قال الطبري: " يقول: أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون"(14).

وفي هذه الملامسة قولان:

أحدهما: أنها كناية عن الجماع، لقوله {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]. وهو قول عليّ (15)، وابن عباس (16)، والحسن (17) وقتادة (18)، ومجاهد (19).

(1) انظر: النكت والعيون: 1/ 490.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 490.

(3)

انظر: النكت والعيون: 1/ 490.

(4)

انظر: النكت والعيون: 1/ 490.

(5)

انظر: تفسير الغمام الشافعي: 2/ 715 - 716.

(6)

التفسير الميسر: 108.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 82 - 83.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 490.

(9)

التفسير الميسر: 108.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 83.

(11)

تفسير ابن كثير: 2/ 314.

(12)

تفسير الطبري (9580): 8/ 388.

(13)

التفسير الميسر: 108.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 83.

(15)

انظر: تفسير الطبري (9602): ص 8/ 392.

(16)

انظر: تفسير الطبري (9581) - (9601): ص 8/ 389 - 392.

(17)

انظر: تفسير الطبري (9603)، و (9605): ص 8/ 392.

(18)

انظر: تفسير الطبري (9605): ص 8/ 392.

(19)

انظر: تفسير الطبري (9604): ص 8/ 392.

ص: 54

والثاني: أن الملامسة باليد والإفضاء ببعض الجسد، وهو قول ابن مسعود (1)، وابن عمر (2)، وعبيدة (3)، والنخعي (4)، والشعبي (5)، وعطاء (6)، وابن سيرين (7)، والحكم (8)، وحماد (9)، وبه قال الشافعي (10).

والراجح أن أنّ " اللمس " في هذا الموضع، لمس الجماع، لا جميع معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ (11)، وكما قال الشاعر (12):

وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا

إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

يعني بذلك: ننك لماسًا (13)(14).

أخرج الطبري عن عروة، عن عائشة قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلِّي ولا يتوضأ"(15). وفي رواية أخرى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت (16).

(1) انظر: تفسير الطبري (9606) - (9613): ص 8/ 393.

(2)

انظر: تفسير الطبري (9617): ص 8/ 394.

(3)

انظر: تفسير الطبري (9613)، و (9616): ص 8/ 393 - 394.

(4)

انظر: تفسير الطبري (9619): ص 8/ 395.

(5)

انظر: تفسير الطبري (9618): ص 8/ 395.

(6)

انظر: تفسير الطبري (9621): ص 8/ 395.

(7)

انظر: تفسير الطبري (9626): ص 8/ 395.

(8)

انظر: تفسير الطبري (9620): ص 8/ 395.

(9)

انظر: تفسير الطبري (9620): ص 8/ 395.

(10)

انظر: تفسير الغمام الشافعي: 2/ 708. قال الشافعي: " فأشبه أن يكون أوجب الوضوء من الغائط، وأوجبه من الملامسة، وإنما ذكرها موصولة بالغائط، بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة، أن تكون: اللمس باليد، والقُبْلة غير الجنابة".

(11)

انظر: تفسير الطبري: 8/ 398،

(12)

البيت ذكره الفراء في: "معاني القرآن" 2/ 192، وقال: تمثل به ابن عباس، وذكره الحربي في "غريب الحديث" ولم ينسبه 3/ 111، وانظر: البيت في "الكشف والبيان" 3/ 25 أ، "النكت والعيون" 3/ 427، "الجامع لأحكام القرآن" 11/ 247، "مجمع البيان" 7/ 49، "روح المعاني" 16/ 164، "تهذيب اللغة"(همس) 4/ 3793، "لسان العرب"(همس) 8/ 4700.

وقال شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" 4/ 126: لم أعرف قائله وهو رجز كثير الدوران في الكتب. والهمس، والهميس: صوت نقل أخفاف الإبل، والصوت الخفي الذي لا غور له في الكلام، والوطء والأكل وغيرها، ولميس: اسم صاحبته، ويريد بقوله: إن تصدق الطير: أنه زجر الطير فتيامن بمرها، ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله.

والبيت مما أنشده ابن عباس، وقد نقله عنه السيوطي في الإتقان وكثير من المفسرين، ومنهم المؤلف، ونقل صاحب (اللسان: همس) شطره الأول. وهو * وهن يمشين بنا هميسا *

قال: وهو صوت نقل أخفاف الإبل. أهـ، . وقال في أول المادة: الهمس: الخفي من الصوت والوطء والأكل. وفي التنزيل: " فلا تسمع إلا همسا ". وفي التهذيب: يعني به والله أعلم: خفق الأقدام على الأرض. وقال الفراء: يقال إنه نقل الأقدام إلى المحشر. ويقال: الصوت الخفي. وروي عن ابن عباس تمثل فأنشده * وهن يمشين بنا هميسا *.

(13)

قوله: "لماسًا" أي، ملامسة. وكأنه جعل"اللميس" مصدرًا من"اللمس"، مثل"المسيس" مصدرًا من"المس". وهو قول غريب للطبري. بل أكثرهم يقول:"لميس: اسم امرأة"، ومعنى"امرأة لميس": هي المرأة اللينة الملمس.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 8/ 398،

(15)

تفسير الطبري (9629): ص 8/ 396.

(16)

تفسير الطبري (9630): ص 8/ 396.

قال السيد أحمد محمد شاكر مححقق تفسير الطبري: " الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم أنه " عروة المزني "، من اجل كلمة قالها الثوري: " ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني "! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد حدث غيره عنه.

والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي)، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة " عن عروة بن الزبير ". وكذلك جاء التصريح بأنه " عروة بن الزبير "، في رواية ابن ماجه: 502، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال.

وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة التمريض:" روى عن الثوري ". ثم نقضها هو نفسه، فقال:" وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا صحيحًا ".

والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما " عن عروة " فقط، كما هنا.

وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون، فأثبتوا صحته " عن عروة بن الزبير ". وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي 1: 133 - 142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول بأن " الملامسة " في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا. وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1: 123 - 127، وابن كثير 2: 465 - 466.

ص: 55

قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، أي:" أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به"(1).

و«التيمم» ، في اللغة هو: "القصد. تقول العرب: تيممك الله بحفظه، أي: قصدك. ومنه قول امرئ القيس (2):

وَلَمَّا رَأتْ أنَّ المَنِية ورِدُها

وأن الحصَى من تحت أقدامها دَامِ

تيممت العين التي عند ضارج (3)

يفيء عليها الفيء عَرْمَضها طام (4)

وفي الصعيد أربعة أقاويل:

أحدها: أنها الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غِراس، وهو قول قتادة (5).

والثاني: أنها الأرض المستوية، وهو قول ابن زيد (6).

والثالث: هو التراب، وهو قول عليّ، وابن مسعود، وعمرو بن قيس الملائي (7)، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهما (8).

واحتجوا بقوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] أي: ترابا أملس طيبا، وبما ثبت في صحيح مسلم، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها

(1) صفوة التفاسير: 303.

(2)

رواية البيتين في ديوانه ص 475:

ولما رأت أن الشريعة همها

وأن البياض من فرائصها دام

تيممت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الطلح عرمضها طام

وهما في لسان العرب (ضرج، عرمض) ومقاييس اللغة 3/ 262 و 4/ 435 وتاج العروس (ضرج).

(3)

ضارج: اسم موضع في بلاد بنى عبس. والعرمض: الطحلب. وقيل: الخضرة على الماء، والطحلب: الذي يكون كأنه نسخ العنكبوت. وطامي: مرتفع ..

(4)

انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 318.

(5)

انظر: تفسير الطبري (9644): ص 8/ 408.

(6)

انظر: تفسير الطبري (9645): ص 8/ 408.

(7)

انظر: تفسير الطبري (9646): ص 8/ 408.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 318.

ص: 56

لنا طهورا إذا لم نجد الماء» (1)، وفي لفظ:"وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء". قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه (2).

والرابع: أنه وجه الأرض ذات التراب والغبار (3)، وهذا قول أبي عبيدة (4)، ومنه قول ذي الرُّمة (5):

كَأنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ

دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ

يعني: تضرب به وجه الأرض (6).

وفي قوله تعالى: {طَيِّبًا} [النساء: 43]، أربعة أقاويل:

أحدها: حلالاً، وهو قول سفيان (7)، واختاره ابن كثير (8).

والثاني: أن الطيب: ما أتت عليه الأمطار وطهرته، و {طيبا} ، أي: طاهرا. وهذا قول سعيد بن بشر (9)، والطبري (10)، والزجاج (11).

عن أبي ذر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر حجج، فإذا وجده، فليمسه بَشرته، فإن ذلك خير له» "(12).

والثالث: تراب الحرث، وهو قول ابن عباس (13).

والرابع: أنه مكان حَدِرٌ غير بَطِحٍ، وهو قول ابن جريج (14).

قال ابن كثير: " استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية: أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع، كما هو مقرر في موضعه، كما هو في الصحيحين، من حديث عِمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال: «يا فلان، ما منعك أن تصلي مع القوم؟ ألست برجل مسلم؟ قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك» (15) "(16).

قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6]، أي:" أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب"(17).

قال الطبري: " المسح منه بالوجه، أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسَح بما علق من الغُبار وجهه. فإن كان الذي علق به من الغُبار كثيرًا فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز. وإن لم يعلَق بيديه من الغبار شيء وقد ضرب بيديه أو إحداهما

(1) صحيح مسلم برقم (522).

(2)

انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 318.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 8/ 408. نسبه الطبري إلى البعض.

(4)

انظر: تفسير ابن المنذر (1824): ص 2/ 728 ولفظه: "وجه الأرض".

(5)

ديوانه: 571، من قصيدته المحكمة المشهورة. والبيت من أبياته في ذكر ظبية أودعت ولدها الصغير بين أشجار، فإذا ارتفعت شمس الضحى نال منه التعب، فانطرح على الأرض، كأنه سكران أثقله النعاس. وقوله:"دبابة": تدب في أوصال شاربها، يعني الخمر ..

(6)

انظر: تفسير الطبري: 8/ 409.

(7)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (5376): ص 3/ 963.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 318.

(9)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (5377): ص 3/ 963.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 3/ 301، و 5/ 555، و 7/ 424، و 8/ 409 - 410.

(11)

انظر: معاني القرىن: 2/ 56.

(12)

المسند (5/ 180) وسنن أبي داود برقم (332) وسنن الترمذي برقم (124) وسنن النسائي (1/ 171).

(13)

انظر: النكت والعيون: 1/ 491، قال ابن كثير: 2/ 280: " رواه ابن أبي حاتم، ورفعه ابن مردويه في تفسيره".

(14)

انظر: النكت والعيون: 1/ 492.

(15)

صحيح البخاري برقم (348) وصحيح مسلم برقم (682).

(16)

تفسير ابن كثير: 2/ 318.

(17)

صفوة التفاسير: 303.

ص: 57

الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه، أجزأه ذلك، لإجماع جميع الحجَّة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد وهو أرض رمل فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به، أن ذلك مجزئَه، لم يخالف ذلك من يجوز أن يُعْتَدّ خلافًا، فلما كان ذلك إجماعًا منهم، كان معلومًا أن الذي يراد به من ضَرْب الصعيد باليدين، مباشرةُ الصعيد بهما، بالمعنى الذي أمرً الله بمباشرته بهما، لا لأخْذِ ترابٍ منه" (1).

واختلفوا في المسح باليدين على أقوال:

أحدها: أن حدّ ذلك الكفّان إلى الزَّندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين. وهذا مروي عن عمار (2)، والشعبي والشعبي في أحد قوليه (3)، وعكرمة (4)، ومكحول (5)، وبه قال مالك في أحد قوليه (6)، والشافعي في القديم (7).

وقالوا: أمر الله في التيمم بمسح الوجه واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس (8).

وقد روي عن عمار بن ياسر: "أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فقال: «مرة للكفين والوجه»، وفي حديث ابن بشر: أن عمارًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم"(9).

وعن ابن أبزى، قال:"جاء رجل إلى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد الماء! فقال عمر: لا تصل. فقال له عمار: أما تذكر أنّا في مسيرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعَّكت في التراب وصلَّيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك، وضرَب كفّيه الأرض، ونفخ فيهما، ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة؟ "(10).

والثاني: ان حدُّ المسح الذي أمر الله به في التيمم، أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين. وهذا مروي عن ابن عمر (11)، والحسن (12)، وعامر الشعبي (13)، وسالم بن عبدالله (14)، والشافعي في الجديد (15).

وقالوا: " لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين، وعلى ما يبلغ المرفقين، كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين، كما في آية السرقة: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] قالوا: وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية"(16).

(1) تفسير الطبري: 9/ 410.

(2)

انظر: تفسير الطبري (9649): ص 9/ 411.

(3)

انظر: تفسير الطبري (9650): ص 9/ 411.

(4)

انظر: تفسير الطبري (9652): ص 9/ 411.

(5)

انظر: تفسير الطبري (9653): ص 9/ 411.

(6)

انظر: النكت والعيون: 1/ 492.

(7)

انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 320.

(8)

انظرك تفسير الطبري: 9/ 414.

(9)

أخرجه الطبري (9656): ص 9/ 412.

(10)

أخرجه الطبري (9657): ص 9/ 413.

(11)

انظر: تفسير الطبري (9658) - (9661): ص 8/ 414 - 415.

(12)

انظر: تفسير الطبري (9662)، و (9667): ص 9/ 415، 416.

(13)

انظر: تفسير الطبري (9663)، و (9663): ص 9/ 415.

(14)

انظرك تفسير الطبري (9666): ص 8/ 416.

(15)

انظر: الأم: 1/ 42، واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصَّمَّة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه".

(16)

تفسير ابن كثير: 2/ 319.

ص: 58

وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"(1).

واعتلوا من الأثر بما عن أبي جهيم قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلَّمت عليه، فلم يرد عليَّ. فلما فرغ قام إلى حائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم ردَّ عليَّ السلام"(2).

والثالث: أن الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم: الآباط. وهذا قول الزهري (3)، (4)، وحكي نحوه عن أبي بكر (5).

وعلة من قال ذلك: أن الله أمر بمسح اليد في التيمم، كما أمر بمسح الوجه. وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك عليه جميع اليد، ومن طرف الكفّ إلى الإبط يدٌ (6).

واعتلوا من الخبر بما روي عن أبي اليقظان قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح، فتغيَّظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد. فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة! نزل فيك رخصة! فضربنا بأيدينا: ضربة لوجوهنا، وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط"(7).

والراجح-والله أعلم- "أن الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصِّر عنه في مسحه بالتراب من يديه: الكفان إلى الزّندين، لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز. ثم هو فيما جاوز ذلك مخيّر، إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرًا فيما جاوز الكفين: أن الله لم يحدَّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدًّا لا يجوز التقصير عنه. فما مسح المتيمم من يديه أجزأه، إلا ما أُجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه. وقد أجمع الجميعُ على أن التقصير عن الكفين غير مجزئ، فخرج ذلك بالسنة، وما عدا ذلك فمختلف فيه. وإذا كان مختلفًا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلا في عموم الآية كان خارجًا مما لزمه من فرض ذلك"(8).

واختلف أهل العلم في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا؟ ، وفيه قولان (9):

أحدهما: أنه يجوز، وأن حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء، حكم من جاء من الغائط وسائر من أحدَث ممن جُعل التيمم له طهورًا لصلاته. وهو قول الجمهور (10).

وذلك أن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره، بإجماع الحجة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، الذي يقطع العذر ويزيل الشك.

وقائلوا هذا المقال: تاوّلوا {أو لامستم النساء} ، أو جامعتموهن (11)، وممن تأول الملامسة بالجماع: الإمام عليّ-رضي الله عنه (12)، وابن عباس (13)، والحسن (14) وقتادة (15)، ومجاهد (16).

(1) سنن الدارقطني (1/ 180). قال ابن كثير: 2/ 319: " لا يصح؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم".

(2)

أخرجه الطبري (9668): ص 9/ 416.

(3)

انظر: تفسير الطبري (9669): ص 9/ 418.

(4)

انظر: تفسير الطبري (9669): ص 8/ 418.

(5)

انظر: تفسير الطبري (9670): ص 8/ 418.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 418.

(7)

أخرجه الطبري (9670): 9/ 418.

(8)

تفسير الطبري: 9/ 419 - 410.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 420 - 421.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 8/ 420، والنكت والعيون: 1/ 492.

(11)

انظرك تفسير الطبري: 9/ 420.

(12)

انظر: تفسير الطبري (9602): ص 8/ 392.

(13)

انظر: تفسير الطبري (9581) - (9601): ص 8/ 389 - 392.

(14)

انظر: تفسير الطبري (9603)، و (9605): ص 8/ 392.

(15)

انظر: تفسير الطبري (9605): ص 8/ 392.

(16)

انظر: تفسير الطبري (9604): ص 8/ 392.

ص: 59

والثاني: أنه لايجوز، ولا يجزئ الجنب غيرُ الاغتسال بالماء، وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره. وهذا مروي عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه (1).وعبدالله بن مسعود (2)، وإبراهيم النخعي (3).

وعلى هذا القول: إنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب. وتأولوا قول الله: {ولا جنبًا إلا عابري سبيل} ، قالوا: وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصَلَّى المسلمين إلا مجتازًا فيه حتى يغتسل، ولم يرخِّص له بالتيمم.

قالوا: وتأويل قوله: {أو لامستم النساء} ، أو لامستموهن باليد، دون الفرج، ودون الجماع، وومن تأول الملامسة في الآية بالملامسة باليد: ابن مسعود (4)، وابن عمر (5)، وعبيدة (6)، والنخعي (7)، والشعبي (8)، وعطاء (9)، وابن سيرين (10)، والحكم (11)، وحماد (12)، وبه قال الشافعي (13).

والراجح-والله أعلم- هو قول الجمهور، بأن الجنب ممن أمره الله بالتيمم للصلاة إذا لم يجد الماء، لأن الملامسة، في هذا الموضع: لمس الجماع (14)، لا جميع معاني اللمس (15)، كما سبق بيان ذلك.

أخرج الطبري عن عروة، عن عائشة قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلِّي ولا يتوضأ"(16).

وفي رواية أخرى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت (17).

(1) انظر: تفسير الطبري (9672): ص 9/ 422 - 422.

(2)

انظر: تفسير الطبري (9671): ص 9/ 420 - 421.

(3)

انظر: تفسير الطبري (9673): 9/ 422.

(4)

انظر: تفسير الطبري (9606) - (9613): ص 8/ 393.

(5)

انظر: تفسير الطبري (9617): ص 8/ 394.

(6)

انظر: تفسير الطبري (9613)، و (9616): ص 8/ 393 - 394.

(7)

انظر: تفسير الطبري (9619): ص 8/ 395.

(8)

انظر: تفسير الطبري (9618): ص 8/ 395.

(9)

انظر: تفسير الطبري (9621): ص 8/ 395.

(10)

انظر: تفسير الطبري (9626): ص 8/ 395.

(11)

انظر: تفسير الطبري (9620): ص 8/ 395.

(12)

انظر: تفسير الطبري (9620): ص 8/ 395.

(13)

انظر: تفسير الغمام الشافعي: 2/ 708. قال الشافعي: " فأشبه أن يكون أوجب الوضوء من الغائط، وأوجبه من الملامسة، وإنما ذكرها موصولة بالغائط، بعد ذكر الجنابة، فأشبهت الملامسة، أن تكون: اللمس باليد، والقُبْلة غير الجنابة".

(14)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 422.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 422.

(16)

تفسير الطبري (9629): ص 8/ 396.

(17)

تفسير الطبري (9630): ص 8/ 396.

قال السيد أحمد محمد شاكر مححقق تفسير الطبري: " الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم أنه " عروة المزني "، من اجل كلمة قالها الثوري: " ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني "! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد حدث غيره عنه.

والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي)، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة " عن عروة بن الزبير ". وكذلك جاء التصريح بأنه " عروة بن الزبير "، في رواية ابن ماجه: 502، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال.

وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة التمريض:" روى عن الثوري ". ثم نقضها هو نفسه، فقال:" وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا صحيحًا ".

والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما " عن عروة " فقط، كما هنا.

وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون، فأثبتوا صحته " عن عروة بن الزبير ". وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي 1: 133 - 142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول بأن " الملامسة " في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا. وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1: 123 - 127، وابن كثير 2: 465 - 466.

ص: 60

قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]، أي:" ما يريد الله في أمر الطهارة أن يُضَيِّق عليكم"(1).

قال مجاهد: ": {من حرج}، من ضيق"(2). وروي عن عكرمة مثل ذلك (3).

قال القرطبي: " أي: من ضيق في الدين، دليله قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] "(4).

قال الطبري: أي: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغُسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء ليجعل عليكم من حرج ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه"(5).

قال ابن كثير: " أي: فلهذا سهل عليكم ويسَّر ولم يعسِّر، بل أباح التيمم عند المرض، وعند فقد الماء، توسعة عليكم ورحمة بكم، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه"(6).

قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]، أي:" بل يريد ليطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم"(7).

قال القرطبي: " أي: من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة (8)، والصنابحي (9). وقيل: من الحدث والجنابة. وقيل: لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة"(10).

قال الطبري: أي: " ولكن الله يريد أن يطهِّركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسلِ من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب"(11).

(1) التفسير الميسر: 108.

(2)

أخرجه الطبري (11541): ص 10/ 85.

(3)

انظرك تفسير الطبري (11540): ص 10/ 85.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 108.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 84 - 85.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 60.

(7)

صفوة التفاسير: 303.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11548): ص 10/ 89. وسوف يأتي.

(9)

عن عبد الله الصنابحي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه، حتى تخرج من تحت أظفار رجليه قال: ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له". الحديث أخرجه مالك في "الموطأ"(74): ص 1/ 33.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 108.

(11)

تفسير الطبري 10/ 85.

ص: 61

عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة:"أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الوضوء يكفّر ما قبله، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غيرَ مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس"(1).

وفي رواية أخرى عن أبي إمامة قال، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه» " (2).

وعن كعب بن مرة قال، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو: ذراعيه إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه» " (3).

وعن عمرو بن عبسة: أنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا غسل المؤمن كفّيه انتثرت الخطايا من كفَّيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك حظّه منه، فإذ قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه، كان من خطاياه كيوم ولدته أمّه» "(4).

وعن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب» "(5).

و، عن حمران مولى عثمان قال:"أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي هذا. ثم قال: من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكانت خُطاه إلى المساجد نافلة"(6).

قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]، أي:" وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام"(7).

قال الطبري: أي: يريد" أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نِعَمه التي أنعم بها عليكم، أيها المؤمنون"(8).

قال القرطبي: " أي بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر. وقيل: بتبيان الشرائع. وقيل: بغفران الذنوب، وفي الخبر «تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار» (9) "(10).

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، أي:" لتشكروه على نعمه"(11).

(1) أخرجه الطبري (11543): ص 10/ 85 - 86.

(2)

أخرجه الطبري (11545): ص 10/ 86.

(3)

أخرجه الطبري (11546): ص 10/ 87.

(4)

أخرجه الطبري (11547): ص 10/ 88.

(5)

أخرجه الطبري (11548): ص 10/ 89.

(6)

أخرجه الطبري (11549): ص 10/ 89 - 90.

(7)

صفوة التفاسير: 303.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 90.

(9)

أخرج الترمذي عن معاذ بن جبل قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو يقول: اللهم إني أسألك تمام النعمة. فقال: "أي شيء تمام النعمة؟ " قال: دعوة دعوت بها أرجو بها الخير. قال: "فإن من تمام النعمة دخول الجنة، والفوز من النار" الحديث.

أخرجه الترمذي (3527) كتاب الدعوات، باب (99): 5/ 541، وقال: هذا حديث حسن. وانظر: "الدر المنثور" 2/ 468.

وعن على رضى الله عنه: «تمام النعمة الموت على الإسلام» . [انظر: الكشاف: 1/ 206].

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 108.

(11)

صفوة التفاسير: 303.

ص: 62

قال القرطبي: " أي: لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته"(1).

قال الطبري: " يقول: لكي تشكروا الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم"(2).

قال ابن كثير: " أي: لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة"(3).

وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة (4)، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن، عن عقبة بن عامر قال:"كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس، فأدركت من قوله: "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وُضُوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة". قال: قلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها. فنظرت فإذا عمر، رضي الله عنه، فقال: إني قد رأيتك جئت آنفا قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو: فيسبغ - الوضوء، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء"(5).

عن أبي مالك الأشعري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطَّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة بُرهان، والصبر ضياء، والقرآن حُجَّة لك أو عليك، كل الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فَمعتِقهَا، أو مُوبِقُهَا"(6).

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صدقة من غُلُول، ولا صلاة بغير طهور"(7).

الفوائد:

1 -

الأمر بالطهارة وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم.

2 -

بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.

3 -

بيان موجبات الوضوء والغسل.

4 -

الشكر هو علة الإنعام.

5 -

أن هذه الآية الكريمة اشتملت على جملة من الاحكام (8):

أحدها: أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأنه صدرها بقوله {يأيها الذين آمنوا} إلى آخرها. أي: يا أيها الذين آمنوا، اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم.

الثاني: الأمر بالقيام بالصلاة لقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة} .

الثالث: الأمر بالنية للصلاة، لقوله:{إذا قمتم إلى الصلاة} أي: بقصدها ونيتها.

الرابع: اشتراط الطهارة لصحة الصلاة، لأن الله أمر بها عند القيام إليها، والأصل في الأمر الوجوب.

الخامس: أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت، وإنما تجب عند إرادة الصلاة.

(1) تفسير القرطبي: 6/ 108.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 90.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 60.

(4)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 60.

(5)

المسند (4/ 153) وصحيح مسلم برقم (234) وسنن أبي داود برقم (169) وسنن النسائي (1/ 95).

(6)

صحيح مسلم برقم (223).

(7)

صحيح مسلم برقم (224).

(8)

انظر: تفسير السعدي: 222.

ص: 63

السادس: أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة، من الفرض والنفل، وفرض الكفاية، وصلاة الجنازة، تشترط له الطهارة، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء، كسجود التلاوة والشكر.

السابع: الأمر بغسل الوجه، وهو: ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا.

ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق، بالسنة، ويدخل فيه الشعور التي فيه. لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها.

الثامن: الأمر بغسل اليدين، وأن حدهما إلى المرفقين و"إلى" كما قال جمهور المفسرين بمعنى "مع" كقوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} ولأن الواجب لا يتم إلا بغسل جميع المرفق.

التاسع: الأمر بمسح الرأس.

العاشر: أنه يجب مسح جميعه، لأن الباء ليست للتبعيض، وإنما هي للملاصقة، وأنه يعم المسح بجميع الرأس.

الحادي عشر: أنه يكفي المسح كيفما كان، بيديه أو إحداهما، أو خرقة أو خشبة أو نحوهما، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة، فدل ذلك على إطلاقه.

الثاني عشر: أن الواجب المسح. فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف، لأنه لم يأت بما أمر الله به.

الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين.

الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة، على قراءة الجمهور بالنصب، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين.

الخامس عشر: فيه الإشارة إلى مسح الخفين، على قراءة الجر في {وأرجلكم} .

وتكون كل من القراءتين، محمولة على معنى، فعلى قراءة النصب فيها، غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها، مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف.

السادس عشر: الأمر بالترتيب في الوضوء، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة.

ولأنه أدخل ممسوحا -وهو الرأس- بين مغسولين، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب.

السابع عشر: أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية.

وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه، أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين، فإن ذلك غير واجب، بل يستحب تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه، وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين والرجلين، وتقديم مسح الرأس على مسح الأذنين.

الثامن عشر: الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة، لتوجد صورة المأمور به.

التاسع عشر: الأمر بالغسل من الجنابة.

العشرون: أنه يجب تعميم الغسل للبدن، لأن الله أضاف التطهر للبدن، ولم يخصصه بشيء دون شيء.

الحادي والعشرون: الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة.

الثاني والعشرون: أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر، ويكفي من هما عليه أن ينوي، ثم يعمم بدنه، لأن الله لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء.

الثالث والعشرون: أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما، أو جامع ولو لم ينزل.

الرابع والعشرون: أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا فإنه لا غسل عليه، لأنه لم تتحقق منه الجنابة.

الخامس والعشرون: ذكر منة الله تعالى على العباد، بمشروعية التيمم.

السادس والعشرون: أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء، فيجوز له التيمم.

ص: 64

السابع والعشرون: أن من جملة أسباب جوازه، السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء، فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به، وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر.

الثامن والعشرون: أن الخارج من السبيلين من بول وغائط، ينقض الوضوء.

التاسع والعشرون: استدل بها من قال: لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران، فلا ينتقض بلمس الفرج ولا بغيره.

الثلاثون: استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به لقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} .

الحادي والثلاثون: أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء.

الثاني والثلاثون: اشتراط عدم الماء لصحة التيمم.

الثالث والثلاثون: أن مع وجود الماء ولو في الصلاة، يبطل التيمم لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء.

الرابع والثلاثون: أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء، فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه، لأنه لا يقال "لم يجد" لمن لم يطلب.

الخامس والثلاثون: أن من وجد ماء لا يكفي بعض طهارته، فإنه يلزمه استعماله، ثم يتيمم بعد ذلك.

السادس والثلاثون: أن الماء المتغير بالطاهرات، مقدم على التيمم، أي: يكون طهورا، لأن الماء المتغير ماء، فيدخل في قوله:{فلم تجدوا ماء} .

السابع والثلاثون: أنه لا بد من نية التيمم لقوله: {فتيمموا} أي: اقصدوا.

الثامن والثلاثون: أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره. فيكون على هذا، قوله:{فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} إما من باب التغليب، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين، وإما أن يكون إرشادا للأفضل، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى.

التاسع والثلاثون: أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس، لأنه لا يكون طيبا بل خبيثا.

الأربعون: أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط، دون بقية الأعضاء.

الحادي والأربعون: أن قوله: {بوجوهكم} شامل لجميع الوجه وأنه يعممه بالمسح، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف، وفيما تحت الشعور، ولو خفيفة.

الثاني والأربعون: أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك.

فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك، كما قيده في الوضوء.

الثالث والأربعون: أن الآية عامة في جواز التيمم، لجميع الأحداث كلها، الحدث الأكبر والأصغر، بل ولنجاسة البدن، لأن الله جعلها بدلا عن طهارة الماء، وأطلق في الآية فلم يقيد [وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء].

الرابع والأربعون: أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد، وهو الوجه واليدان.

الخامس والأربعون: أنه لو نوى من عليه حدثان التيمم عنهما، فإنه يجزئ أخذا من عموم الآية وإطلاقها.

السادس والأربعون: أنه يكفي المسح بأي شيء كان، بيده أو غيرها، لأن الله قال {فامسحوا} ولم يذكر الممسوح به، فدل على جوازه بكل شيء.

السابع والأربعون: اشتراط الترتيب في طهارة التيمم، كما يشترط ذلك في الوضوء، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين.

الثامن والأربعون: أن الله تعالى -فيما شرعه لنا من الأحكام- لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم، وليتم نعمته عليهم.

وهذا هو التاسع والأربعون: أن طهارة الظاهر بالماء والتراب، تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد، والتوبة النصوح.

ص: 65

الخمسون: أن طهارة التيمم، وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى.

الحادي والخمسون: أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحكم والأسرار في شرائع الله، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما، ويزداد شكرا لله ومحبة له، على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة.

القرآن

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)} [المائدة: 7]

التفسير:

واذكروا نعمة الله عليكم فيما شَرَعه لكم، واذكروا عهده الذي أخذه تعالى عليكم من الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والسمع والطاعة لهما، واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله عليمٌ بما تُسِرُّونه في نفوسكم.

قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 7]، أي:" واذكروا نعمة الله عليكم فيما شَرَعه لكم"(1).

قال مجاهد: "، النعم: آلاءُ الله"(2).

قال مقاتل: " يعني: بالإسلام"(3).

قال الزمخشري: " وهي نعمة الإسلام"(4).

قال أبو علي: " أي: تلقّوها بالشكر"(5).

قال ابن الجوزي: " يعني النعم كلها. وفي هذا حث على الشكر"(6).

قوله تعالى: {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7]، أي:" واذكروا عهده الذي أخذه تعالى عليكم من الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم"(7).

قال الزمخشري: " أى: عاقدكم به عقدا وثيقا هو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره، وقيل: هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان"(8).

قال مقاتل: "يوم أخذ ميثاقكم على المعرفة بالله- عز وجل والربوبية"(9).

قال ابن أبي زمنين: " وهو الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم"(10).

قال السعدي: أي: "واذكروا عهده الذي أخذه عليكم، وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق، وإنما المراد بذلك أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما"(11).

واختلف أهل التأويل في الميثاق الذي ذكر الله في هذه الآية على أقوال:

أحدها: أنه ميثاقَ الله الذي واثقَ به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له فيما أحبّو وكرهوا، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله. وهذا قول ابن عباس (12)، والسدي (13).

(1) التفسير الميسر: 108.

(2)

أخرجه الطبري (11550)، و (11551): 10/ 91.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 456.

(4)

الكشاف: 1/ 612.

(5)

الحجة للقرا السبعة: 3/ 432.

(6)

زاد المسير: 1/ 524.

(7)

التفسير الميسر: 108.

(8)

الكشاف: 1/ 612.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 456.

(10)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 13.

(11)

تفسير السعدي: 224.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11552): ص 10/ 92.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11553): ص 10/ 92.

ص: 66

والثاني: أن المراد: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صُلب آدم صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلى شهدنا. رواه أبو صالح عن ابن عباس (1)، وبه قال مجاهد (2)، وابن زيد (3).

والثالث: أنه الميثاق الذي أخذ من الصحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسرين (4).

والرابع: أنه إقرار كل مؤمن بما آمن به. ذكره ابن الجوزي (5).

والراجح –والله أعلم- هو قول ابن عباس، وأن معناه:"واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر، وذلك لأن الله جل ثناؤه ذكرَ بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقَه الذي واثقهم به، ميثاقَه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم فيها، فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}، الآيات بعدها [سور المائدة: 12] مُنبِّهًا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه ومعرِّفَهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله زاجرًا لهم عن نكث عهودهم، فيُحلّ بهم ما أحلَّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم"(6).

وقال الراغب: " الميثاق: العهد المستوثق منه وميثاق الله تعالى: المأخوذ من عباده على أضرب:

الأول: ما أخذه عليهم بالفطرة: وهو ما ركزه فيهم من المعارف.

الثاني: ما أخذه عليهم بما أفادهم من العلوم المكتسبة.

الثالث: ما أخذه عليهم ببعثة الأنبياء وإلزامهم بالشرائع.

الرابع: ما يلزم بعضهم عن بعض بما يجب عليهم

الوفاء به، وقد حمل الآية على كل ذلك" (7).

قوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7]، أي:" إذ قلتم: سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه "(8).

قال الزمخشري: " فقبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا"(9).

قال الصابوني: أي: "حين بايعتموه على السمع والطاعة"(10).

قال الطبري: أي: " وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له: سمعنا وأطعنا، يقول: ففُوا لله، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، يَفِ لكم بما ضمن لكم الوفاءَ به

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 524.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11554)، و (11555): ص 10/ 92 - 93.

(3)

انظر: زاد المسير: 1/ 524.

(4)

انظر: الكشاف: 1/ 612، وزاد المسير: 1/ 524.

(5)

انظر: زاد المسير: 1/ 524.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 93 - 94.

(7)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 290.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 93.

(9)

الكشاف: 1/ 612.

(10)

صفوة التفاسير: 303.

ص: 67

إذا أنتم وفيتم له بميثاقه، من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه" (1).

قال السعدي: " أي: سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية والكونية، سمع فهم وإذعان وانقياد. وأطعنا ما أمرتنا به بالامتثال، وما نهيتنا عنه بالاجتناب. وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة، وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم، وتكون منهم على بال، ويحرصون على أداء ما أمروا به كاملا غير ناقص"(2).

قال أبوبكر الجزائري: " وأما قوله: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، قد قالها الصحابة بلسان الحال عندما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة"(3).

قال مقاتل: " ذلك أن الله- عز وجل أخذ الميثاق الأول على العباد حين خلقهم من صلب آدم- عليه السلام فذلك قوله- عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (4)، على أنفسنا فمن بلغ منهم العمل وأقر لله- عز وجل بالإيمان به وبآياته وكتبه ورسله والكتاب والملائكة والجنة والنار والحلال والحرام والأمر والنهي أن يعمل بما أمر وينتهي عما نهى. فإذا أوفى الله تعالى بهذا، أوفى الله له بالجنة، فهذان ميثاقان: ميثاق بالإيمان بالله وميثاق بالعمل. فذلك قوله- سبحانه-: في البقرة: {سَمِعْنا وَأَطَعْنا} (5)، سمعنا بالقرآن الذي جاء من عند الله وأطعنا الله- عز وجل فيه، وذلك قوله- سبحانه- في التغابن:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (6)، يقول: اسمعوا القرآن الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم من عند الله- عز وجل وأطيعوا الله فيما أمركم فمن بلغ الحلم والعمل ولم يؤمن بالله- عز وجل ولا بالرسول والكتاب فقد نقض الميثاق الأول بالإيمان بالله- عز وجل وبما أخذ الله- تعالى- عليه حين خلقه وصار من الكافرين.

ومن أخذ الله- عز وجل عليه الميثاق الأول ولم يبلغ الحلم فإن الله- عز وجل أعلم به.

قال: وسئل عبد الله بن عباس عن أطفال المشركين فقال: لقد أخذ الله- عز وجل الميثاق الأول عليهم فلم يدركوا أجلا ولم يأخذوا رزقا ولم يعملوا سيئة {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} (7) وماتوا على الميثاق الأول فالله أعلم بهم" (8).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 7]، أي:" واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه"(9).

قال السعدي: أي: "في جميع أحوالكم"(10).

قال ابن عثيمين: " أي: اجعلوا لكم وقاية من عذابه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه"(11).

قال مقاتل: " وَلا تنقضوا ذَلِكَ الميثاق"(12).

قال ابوبكر الجزائري: " أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدبا"(13).

(1) تفسير الطبري: 10/ 93.

(2)

تفسير السعدي: 224.

(3)

أيسر التفاسير: 1/ 601.

(4)

[سورة الأعراف: 172].

(5)

[سورة البقرة: 285].

(6)

[سورة التغابن: 16].

(7)

[سورة الإسراء: 15].

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 456 - 457.

(9)

التفسير الميسر: 108.

(10)

تفسير السعدي: 224.

(11)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 370.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 457.

(13)

أيسر التفاسير: 1/ 601.

ص: 68

قال الطبري: أي: "واتقوا الله، أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدِّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم: سمعنا وأطعنا، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، وهذا وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه وتهدُّدًا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسول وعهدهم الذي عاهدوه فيه بأن يضمروا له خِلاف ما أبدوا له بألسنتهم "(1).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7]، أي:" إن الله عليمٌ بما تُسِرُّونه في نفوسكم"(2).

قال مقاتل: " يعني: بما فِي قلوبهم من الْإِيمَان والشك"(3).

قال الطبري: اي: " فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيُحّل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حلَّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النّقم، وتصيروا في معادِكم إلى سخط الله وأليم عقابه"(4).

قال السعدي: " أي: بما تنطوي عليه من الأفكار والأسرار والخواطر. فاحذروا أن يطلع من قلوبكم على أمر لا يرضاه، أو يصدر منكم ما يكرهه، واعمروا قلوبكم بمعرفته ومحبته والنصح لعباده. فإنكم -إن كنتم كذلك- غفر لكم السيئات، وضاعف لكم الحسنات، لعلمه بصلاح قلوبكم"(5).

قال ابو بكر الجزائري: " يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن، وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم فله الحمد وله المنة"(6).

الفوائد:

1 -

ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها.

2 -

أن الله تعالى أمر عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية، بقلوبهم وألسنتهم، فإن في استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته، وامتلاء القلب من إحسانه. وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية، وزيادة لفضل الله وإحسانه (7).

3 -

ومنها: وجوب تقوى الله؛ لقوله تعالى: {واتقوا الله} .

4 -

ومن أسمائه «العليم» ، والْعِلْمُ صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عز وجل، ، فهو سبحانه «العليم» المحيط علمه بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (8).

قال الخطابي: " العليم: هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق. كقوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} [لقمان: 23]. وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم، ولذلك قال -سبحانه-: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]. والآدميون -وإن كانوا يوصفون بالعلم- فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالما بالفقه غير عالم بالنحو وعالما بهما غير عالم بالحساب وبالطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله -سبحانه- علم حقيقة، وكمال {قد أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12]، {وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 28] "(9).

(1) تفسير الطبري: 10/ 94.

(2)

التفسير الميسر: 108.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 457.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 94.

(5)

تفسير السعدي: 224.

(6)

أيسر التفاسير: 1/ 601.

(7)

انظر: تفسير السعدي: 224.

(8)

انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين: 1/ 188.

(9)

شأن الدعاء: 57.

ص: 69

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} [المائدة: 8]

التفسير:

يا أيها الذين آمَنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كونوا قوَّامين بالحق، ابتغاء وجه الله، شُهداء بالعدل، ولا يحملنكم بُغْضُ قوم على ألا تعدلوا، اعدِلوا بين الأعداء والأحباب على درجة سواء، فذلك العدل أقرب لخشية الله، واحذروا أن تجوروا. إن الله خبير بما تعملون، وسيجازيكم به.

في سبب نزول الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدم ذكرهم في قوله تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: 2]، روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس (1)، وبه قال مقاتل (2).

والثاني: أنها "نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام". وهذا قول الحسن (3)(4).

قال الجصاص: " قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [المائدة: 2]، فحمله الحسن على معنى الآية الأولى، والأولى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكرارا"(5).

والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية، فهموا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد (6)، وقتادة (7)، وعبدالله بن كثير (8).

أخرج الطبري عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: " {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، نزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود يستعينهم في دية، فهمُّوا أن يقتلوه، فذلك قوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا

}، الآية" (9). [ضيف جداً]

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 8]، أي:" يا أيها الذين آمَنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم"(10).

أي: " يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(11).

قال الطبري: أي: " يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهة وصدَّقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه"(12).

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 524.

(2)

انظر: تفسير مقالت بن سليمان: 1/ 457.

(3)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 496.

(4)

وفي زاد المسير 1/ 524: " أن قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن".

(5)

أحكام القرآن: 2/ 496.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 19، وزاد المسير: 1/ 524.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 19، وزاد المسير: 1/ 524.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11556): ص 10/ 96.

(9)

وأخرجه الطبري (11556): ص 10/ 96.

(10)

التفسير الميسر: 108.

(11)

التفسير الميسر: 106.

(12)

جامع البيان: 9/ 447.

ص: 70

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(1).

قال سعيد بن جبير: "قوله: {آمنوا بالله}، يعني: بتوحيد الله"(2).

قال ابن عثيمين: "إن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(3).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(4).

قال خيثمة: "ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(5).

قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة: 8]، أي:"كونوا مبالغين في الإِستقامة بشهادتكم لله"(6).

قال مقاتل: " يعني: قوّالين بالعدل"(7).

قال السمعاني: " أي: كونوا قوامين بالعدل"(8).

قال الجصاص: " معناه: كونوا قوامين لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه، فهذا هو القيام لله بالحق"(9).

قال الراغب: " أي خلفاءه شهداء بالعدالة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ} [النساء: 135] "(10).

قال المراغي: " أي: ليكن من دأبكم وعادتكم القيام بالحق فى أنفسكم بالإخلاص لله فى كل ما تعملونه من أمر دينكم وأمر دنياكم، بأن تريدوا بعملكم الخير والتزام الحق بدون اعتداء على أحد، وفى غيركم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ابتغاء مرضاة الله"(11).

قوله تعالى: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8]، أي:" شُهداء بالعدل"(12).

قال السمعاني: " أي: قوالين، للصدق"(13).

قال المراغي: " الشهادة هنا عبارة عن إظهار الحق للحاكم ليحكم به، أو إظهاره هو له بالحكم به أو الإقرار به لصاحبه، وفى كل حال تكون بالعدل بلا محاباة لمشهود له ولا لمشهود عليه، لأجل قرابة أو مال أو جاه، ولا تركه لفقر أو مسكنة.

فالعدل هو ميزان الحقوق، إذ متى وقع الجور فى أمة لأى سبب زالت الثقة من الناس وانتشرت المفاسد، وتقطعت روابط المجتمع، فلا يلبث أن يسلط الله عليهم بعض عباده الذين هم أقرب منهم إلى العدل فيذيقوهم الوبال والنكال، وتلك سنة الله فى حاضر الأمم وغابرها، ولكن الناس لا يعتبرون" (14).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6104): ص 4/ 1090.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

(6)

صفوة التفاسير: 303.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 457.

(8)

تفسير السمعاني: 2/ 19.

(9)

أحكام القرآن: 2/ 496.

(10)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 292.

(11)

تفسير المراغي: 6/ 68.

(12)

التفسير الميسر: 108.

(13)

تفسير السمعاني: 2/ 19.

(14)

تفسير المراغي: 6/ 68.

ص: 71

وفى هذه الشهادة ثلاثة أربعة أقوال:

أحدها: أنها الشهادة بحقوق الناس، وهذا قول الحسن (1).

والثاني: الشهادة بما يكون من معاصي العباد، وهذا قول بعض البصريين (2). وهو كقوله تعالى:{لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143] فكان معناه: أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة (3).

الثالث: الشهادة لأمر الله تعالى بأنه حق (4).

والرابع: أي: تبيّنون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. وهذا قول الزجاج (5).

قال الجصاص: " وجائز أن تكون هذه المعاني كلها (6) مرادة لاحتمال اللفظ لها"(7).

قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، أي:" ولا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم"(8).

قال مقاتل: " يَقُولُ: لا تحملنكم عداوة المشركين، يعني: كفار مكة، {عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا} عَلَى حُجّاج رَبِيعَة وتستحلوا منهم محرما"(9).

قال الزمخشري: " المعنى: لا يحملنكم بغضكم للمشركين على أن تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم وتتشفوا بما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب ما لا يحل لكم من مثلة أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو ما أشبه ذلك"(10).

قال السعدي: أي: " كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق"(11).

وقرئ: «شنآن» ، بالسكون (12).

قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، أي:" اعدِلوا بين الأعداء والأحباب على درجة سواء، فذلك العدل أقرب لخشية الله"(13).

قال مقاتل: "فاعدلوا فَإِن العدل أقرب للتقوى، يعني: لخوف اللَّه- عز وجل"(14).

قال الطبري: أي: " اعدلوا أيها المؤمنون، على كل أحد من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه، والعدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، وإنما وصف جل ثناؤه العَدْل بما وصفه به من أنه أقرب للتقوى من الجور، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعا، كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا، كان بعيدًا من تقواه"(15).

قال المراغي: "هذه الجملة توكيد للجملة السالفة للعناية بأمر العدل وأنه فريضة لا هوادة فيها، لأنه أقرب لتقوى الله والبعد عن سخطه. وتركه من أكبر المعاصي، لما ينشأ عنه من المفاسد التي تقوض نظم المجتمعات، وتقطع الروابط بين الأفراد، وتجعل بأسهم بينهم شديدا"(16).

قال السعدي: " أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى"(17).

قال الزمخشري: " نهاهم أولا أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا وتشديدا، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: {هو أقرب للتقوى}، أى: العدل أقرب إلى التقوى، وأدخل في مناسبتها، أو أقرب إلى التقوى لكونه لطفا فيها. وفيه تنبيه عظيم على أن وجود العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟ "(18).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 8]، أي:" واخشوا الله بما أمركم به"(19).

قال الماتريدي: أي: واتقوا الله "في ترك ما أمركم به، وارتكاب ما نهاكم عنه"(20).

قال المراغي: " أي: واتقوا سخطه وعقابه"(21).

قال الطبري: أي: " واحذروا أيها المؤمنون، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين بيّن لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله"(22).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، أي:" إن الله مطلع على أعمالكم، وسيجازيكم به"(23).

قال السمرقندي: أي: "من الطاعة وغيره"(24).

قال مقاتل: " يعظهم ويحذرهم"(25).

قال الثعلبي: أي: " عالم بما تعملون مجازيكم به"(26).

قال ابن كثير: " أي: وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر"(27).

قال الطبري: أي: " إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، من عمل به أو خلافٍ له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه، حتى يجازيكم به جزاءَكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا"(28).

قال المراغي: لأن الله "لا يخفى عليه شىء من أعمالكم ظاهرها وباطنها، واحذروا أن يجازيكم بالعدل على ترككم للعدل، وقد مضت سنته فى خلقه بأن يجعل جزاء ترك العدل فى الدنيا الذلة والمهانة للأمم والأفراد، وفى الآخرة الخزي يوم الحساب"(29).

الفوائد:

(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 496، والنكت والعيون: 2/ 19.

(2)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 496، والنكت والعيون: 2/ 19.

(3)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 496.

(4)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 496، والنكت والعيون: 2/ 19.

(5)

انظر: معاني القرآن: 2/ 156.

(6)

يقصد الاقوال الثلاثة الأولى ..

(7)

أحكام القرآن: 2/ 496.

(8)

صفوة التفاسير: 303.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 457.

(10)

الكشاف: 1/ 612.

(11)

تفسير السعدي: 224.

(12)

انظر: الكشاف: 1/ 612.

(13)

التفسير الميسر: 108.

(14)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 457.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 96 - 97. [بتصرف]

(16)

تفسير المراغي: 6/ 69.

(17)

تفسير السعدي: 224.

(18)

الكشاف: 1/ 612 - 613.

(19)

بحر العلوم: 1/ 373.

(20)

تفسير الماتريدي: 3/ 576.

(21)

تفسير المراغي: 6/ 69.

(22)

تفسير الطبري: 10/ 97.

(23)

انظر: صفوة التفاسير: 303، والتفسير الميسر:108.

(24)

بحر العلوم: 1/ 373.

(25)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 457.

(26)

تفسير الثعلبي: 4/ 34.

(27)

تفسير ابن كثير: 3/ 62.

(28)

تفسير الطبري: 10/ 97.

(29)

تفسير المراغي: 6/ 69.

ص: 72

1 -

وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد، وهو ذكره وشكره بطاعته.

2 -

وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.

3 -

تأكيد الأمر بتقوى الله عز وجل.

القرآن

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} [المائدة: 9]

التفسير:

وعد الله الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يثيبهم على ذلك الجنة، والله لا يخلف وعده.

سبب النزول:

قال السمرقندي: " يقال: إن أهل مكة قالوا بعد ما أسلموا: ما لنا في الآخرة وقد أخرجناك وأصحابك! . فقالوا: {وعد الله الذين آمنوا} بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، {وعملوا الصالحات}، بعد الإسلام، {لهم مغفرة}، لما فعلوا في حال الشرك، {وأجر عظيم}، في الآخرة"(1).

قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 9]، أي:" وعد الله الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا الصالحات"(2).

قال مقاتل: " {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}، يعني: وأدوا الفرائض"(3).

قال السمرقندي: " {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}، يعني: الطاعات"(4).

قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} [المائدة: 9]، أي:" أن يغفر لهم ذنوبهم"(5).

قال الزجاج: "أي: تغطية على ذنوبهم"(6).

قال ابن كثير: " {مَغْفِرَةٌ}، أي: لذنوبهم "(7).

قال الطبري: أي: " لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم {مغفرة}، وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها"(8).

قال الثعلبي: " تقديرها: وقال لهم مغفرة، لأن الوعد قول، فلذلك جمع الكلام"(9).

قوله تعالى: {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9]، أي:" وأن يثيبهم على ذلك الجنة"(10).

قال مقاتل: "يعني: جزاء حسنا وَهُوَ الجنة"(11).

قال الزجاج: أي: " جزاء على إيمانهم"(12).

قال ابن كثير: " {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}، وهو: الجنة التي هي من رحمته على عباده، لا ينالونها بأعمالهم، بل برحمة منه وفضل، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم، وهو تعالى الذي جعلها أسبابًا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه، فالكل منه وله، فله الحمد والمنة "(13).

(1) بحر العلوم: 1/ 373.

(2)

التفسير الميسر: 108.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 458.

(4)

بحر العلوم: 1/ 373.

(5)

التفسير الميسر: 108.

(6)

معاني القرآن: 2/ 156.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 62 - 63.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 98.

(9)

تفسير الثعلبي: 4/ 34.

(10)

التفسير الميسر: 108.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 458.

(12)

معاني القرآن: 2/ 156.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 62 - 63.

ص: 73

قال الطبري: "يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم، جزاءً على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها، {أجر عظيم}، و «العظيم» من خيره غير محدود مبلغه، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره"(1).

قال الزمخشري: قوله تعالى: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، " بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنه قال: قدم لهم وعدا فقيل: أى شيء وعده لهم؟ فقيل: لهم مغفرة وأجر عظيم، وهذا القول يتلقون به عند الموت ويوم القيامة، فيسرون به ويستروحون إليه ويهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى الثواب"(2).

علّق أبو حيان على كلام الزمخشري قائلا: " هي تقادير محتملة، والأول أوجهها"(3).

قال القرطبي: في معنى قوله {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} : ، "أي: لا تعرف كنهه أفهام الخلق، كما قال:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وإذا قال الله تعالى:{أجر عظيم} ، و {أجر كريم} [يس: 11]، و {أجر كبير} [هود: 11]، فمن ذا الذي يقدر قدره؟ " (4).

وذكر ابن الجوزي في تفسير هذه الآية قولين (5):

أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم، فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.

والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة.

الفوائد:

1 -

الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد.

2 -

قال ابن عطية: " هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم وبالجنة فهي الأجر العظيم"(6).

القرآن

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} [المائدة: 10]

التفسير:

والذين جحدوا وحدانية الله الدالة على الحق المبين، وكذَّبوا بأدلته التي جاءت بها الرسل، هم أهل النار الملازمون لها.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 10]، أي:" والذين جحدوا وحدانية الله الدالة على الحق المبين"(7).

قال المراغي: " الكفر هنا هو الكفر بالله ورسله، لا فارق فى ذلك بين كفر بالجميع وكفر بالبعض"(8).

قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [المائدة: 10]، أي:" وكذَّبوا بأدلته التي جاءت بها الرسل"(9).

قال السعدي: الآيات " الدالة على الحق المبين، فكذبوا بها بعد ما أبانت الحقائق"(10).

قال المراغي: " وآيات الله قسمان:

- آياته المنزلة على رسله.

- وآياتها التي أقامها فى الأنفس والآفاق للدلالة على وحدانيته وكماله وقدرته وإرادته، وعلى صدق رسله فيما يبلغون عنه" (11).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 10]، أي:" أهل النار الملازمون لها"(12).

قال النسفي: " أى: لا يفارقونها"(13).

قال السعدي: أي: " الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه"(14).

قال ابن كثير: " وهذا من عدله تعالى، وحكمته وحُكْمه الذي لا يجور فيه، بل هو الحَكَمُ العدل الحكيم القدير"(15).

قال المراغي: " الجحيم النار العظيمة كما قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] "(16).

قال الشيخ ابن عثيمين: والجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها" (17).

قال الشربيني: {الجحيم} " أي: النار التي اشتدّ توقدها فاشتدّ احمرارها فلا يراها أحد إلا أحجم عنها فيلقون فيها ثم يلازمونها فلا ينفكون عنها كما هو شأن الصاحب وهذا من عادة الله سبحانه وتعالى إنه يتبع حال أحد الفريقين حال الفريق الآخر وفاء بحق الدعوة وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم"(18).

قال الزجاج: " الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار إذا شدد وقودها، -

ويقال لعين الأسد جحمة لشدة توقدها، ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جاحم.

قال الشاعر (19):

والخيل لا يبقى لجاحمها

التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في

النجدات والفرس الوقاح" (20).

قال أبو حيان: " في «المؤمنين» (21) جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع، فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به، متشوفة إليه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق.

وفي «الكافرين» جاءت الجملة اسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم، وأنهم أصحاب النار، فهم دائمون في عذاب، إذ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم، ولم يأت بصورة الوعيد، فكان يكون الرجاء لهم في ذلك" (22).

الفوائد:

1 -

الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد.

2 -

أن هؤلاء الكافرين نفوسهم قد فسدت، وسوء أعمالهم قد ران على قلوبهم، فأصبحوا صما عميا لا يبصرون، لذلك استحقوا العذاب فى نار عظيمة أعدها الله لمن كفر وكذب بآياته.

(1) تفسير الطبري: 10/ 98.

(2)

الكشاف: 1/ 613.

(3)

البحر المحيط: 4/ 197.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 110.

(5)

انظر: زاد المسير: 1/ 525.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 166.

(7)

التفسير الميسر: 109.

(8)

تفسير المراغي: 6/ 69.

(9)

التفسير الميسر: 109.

(10)

تفسير السعدي: 224.

(11)

تفسير المراغي: 6/ 69.

(12)

التفسير الميسر: 109.

(13)

تفسير النسفي: 1/ 432.

(14)

تفسير السعدي: 224.

(15)

تفسير ابن كثير: 3/ 63.

(16)

تفسير المراغي: 6/ 69.

(17)

تفسير جزء عم لابن عثيمين: 73.

(18)

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير: 1/ 360.

(19)

البيتان لسعد بن مالك بن ضبيعة، وكان شاعراً جاهلياً مجيداً وفارساً من سادات بكر بن وائل، انظر الحماسة بشرح التبريزي:(1/ 192).

(20)

معاني القرآن: 2/ 200 - 201.

(21)

في الآية السابقة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} [المائدة: 9].

(22)

البحر المحيط: 4/ 197.

ص: 74

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)} [المائدة: 11]

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اذكروا ما أنعم الله به عليكم من نعمة الأمنِ، وإلقاءِ الرعب في قلوب أعدائكم الذين أرادوا أن يبطشوا بكم، فصرفهم الله عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم، واتقوا الله واحذروه، وتوكلوا على الله وحده في أموركم الدينية والدنيوية، وثِقوا بعونه ونصره.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: أن النبي خرج إلى يهود بني النضير، يستعين بهم في دية، فهمّوا أن يقتلوه، فنزل ذلك فيه، وهذا قول قتادة (1)، وأبي مالك (2)، ومجاهد (3)، وعبدالله بن كثير (4)، ويزيد بن أبي زياد (5)، وعكرمة (6)، وذكره مقاتل (7).

وأخرج الطبري عن ابن عباس: " أن قوما من اليهود صَنَعوا لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأتِ الطعام، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه"(8).

قال ابن عطية: " أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ما ترجم به من أن قوما من اليهود صنعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة"(9).

والثاني: روي عن قتادة قوله: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم ..... } الآية، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببَطْنِ نخل في الغَزْوة السابعة، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتِكوا، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله، فأتى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفُه موضوع، فقال: آخذه، يا نبي الله؟ قال: خذه! قال: أستلُّه؟ قال: نعم! فسلَّه، فقال، من يمنعك منِّي؟ قال: الله يمنعُني منك! . فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له القول، فشامَ السَّيف وأمر نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالرحيل، فأنزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك " (10). [ضعيف]

وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري: "أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدا؟ قالوا: نعم، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، قال فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد أنظر إلى سيفك هذا؟ قال: «نعم»، فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه ويهم به، فكبته الله عز وجل ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: «لا»، قال: ألا تخافني وفي يدي السيف؟ قال: «يمنعني الله منك»، ثم أغمد السيف ورده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} "(11). [ضعيف]

وفي السياق نفسه قال الضحاك: "كان سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة إلى البقيع إلى قبور الشهداء وحده، فأتاه رجل من اليهود شديد محارب، فقال: إن كنت نبيا كما تزعم فأعطني سيفك هذا، فإن الأنبياء لا يبخلون، فأعطاه سيفه فشهر اليهودي السيف وهزه ليضربه به. فلم يجترئ للرعب الذي قذفه الله تعالى في قلبه، ثم رد عليه السيف فنزل: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم} "(12).

قال القرطبي: " وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات"(13).

قال ابن كثير: " وقصة هذا الأعرابي - وهو غَوْرَث بن الحارث - ثابتة في الصحيح"(14).

والثالث: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا قول ابن زيد (15).

والرابع: وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن: "أن الآية نزلت بسبب أن قريشا بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ليغتاله ويقتله، فأطلعه الله تعالى على ذلك وكفاه شره"(16).

قال ابن عطية: " ويحسن على هذا القول أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق وحين هزم الله الأحزاب"(17).

والخامس: أنها نزلت في معنى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} [المائدة: 3]، أي قد أعطيتم الظفر عليهم، فقال:{يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} . قاله الزجاج (18).

قال أبو حيان: " وقد طولوا بذكر أسباب أخر. وملخص ما ذكروه أن قريشا، أو بني النضير، أو قريظة، أو غورثا، هموا بالقتل بالرسول، أو المشركين هموا بالقتل بالمسلمين، أو نزلت في معنى: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم} [المائدة: 3]، قاله الزجاج (19)، أو عقيب الخندق حين هزم الله الأحزاب: {وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب: 25]، والذي تقتضيه الآية أن الله تعالى ذكر المؤمنين بنعمه إذ أراد قوم من الكفار لم يعينهم الله بل أبهمهم أن ينالوا المسلمين بشر، فمنعهم الله، ثم أمرهم بالتقوى والتوكل عليه"(20).

قال الطبري: " وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك، قولُ من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمتَه على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيّهم محمدا صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يومَ سار إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحمَّلها عن قتيلي عمرو بن أمية، وإنما قلنا

(1) انظر: تفسير الطبري (11557): ص 10/ 101.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11563): ص 10/ 104.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11558)، و (11559): ص 10/ 102.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11561): ص 10/ 103.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11560): ص 10/ 102 - 103.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11562): ص 10/ 103 - 104.

(7)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 459 - 460.

(8)

أخرجه الطبري (11564): ص 10/ 105.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 167.

(10)

أخرجه الطبري (11565): ص 10/ 105، وهذا مرسل صحيح الإسناد.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 38) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(11)

أخرجه الواحدي في اسباب النزول: 193، وأخرجه أبو نعيم (دلائل النبوة: 1/ 61) من طريق ابن إسحاق به، وإسناده ضعيف لعنعنة ابن إسحاق، وضعف عمرو بن عبيد فإنه مبتدع داعية (علوم الحديث لابن الصلاح: 103) (الباعث الحثيث: 83)(تقريب التهذيب: 2/ 74 - رقم: 630).

وأصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري 4135 و 4136 ومسلم 843، والبيهقي 6/ 319، والطبري (11566): ص 10/ 106.

(12)

بحر العلوم: 1/ 374.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 111.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 63.

(15)

انظر: زاد المسير: 1/ 526.

(16)

المحرر الوجيز: 2/ 167.

(17)

المحرر الوجيز: 2/ 167.

(18)

انظر: معاني القرآن: 2/ 157.

(19)

انظر: معاني القرآن: 2/ 157.

(20)

البحر المحيط: 4/ 198.

ص: 75

ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقًّب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها، وخيانتها ربَّها وأنبياءها. ثم أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم، والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عَقِيب قوله:{إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} وغيرُهم كان يبسط الأيدي إليهم، لأنه لو كان الذين همُّوا ببسط الأيدي إليهم غيرَهم لكان حريًّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم، لا عمَّن لم يجر لهم بذلك ذكر ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع، لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك، دون ما خالف " (1).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 11]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(2).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(3).

قال سعيد بن جبير: "قوله: {آمنوا بالله}، يعني: بتوحيد الله"(4).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(5).

قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11]، أي:" اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إِياكم من أعدائكم"(6).

قوله تعالى: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11]، أي:" إذ أراد قوم أن يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك"(7).

قال مجاهد: " هم يهود"(8).

قال السمرقندي: أي: " أرادوا وتمنوا أن يمدوا أيديهم إليكم بالقتل"(9).

قال البيضاوي: أي: " بالقتل والإهلاك، يقال بسط إليه يده إذا بطش به وبسط إليه لسانه إذا شتمه"(10).

قال الزمخشري: " معنى: «بسط اليد» مدها إلى المبطوش به"(11).

قوله تعالى: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11]، أي:" فصرفهم الله عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم"(12).

قال السمرقندي: أي: " فكف أيديهم عنكم بالمنع"(13).

قا البيضاوي: أي: " منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم"(14).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 11]، أي:" واتقوا الله واحذروه"(15).

(1) تفسير الطبري: 10/ 107 - 108.

(2)

التفسير الميسر: 109.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6104): ص 4/ 1090.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(6)

صفوة التفاسير: 306.

(7)

صفوة التفاسير: 306. [بتصرف].

(8)

تفسير مجاهد: 302.

(9)

بحر العلوم: 1/ 374.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 118.

(11)

الكشاف: 1/ 614.

(12)

التفسير الميسر: 109.

(13)

بحر العلوم: 1/ 374.

(14)

تفسير البيضاوي: 2/ 118.

(15)

التفسير الميسر: 109.

ص: 76

قال المراغي: " أي: واتقوا الله الذي أراكم قدرته على أعدائكم وقت ضعفكم وقوتهم"(1).

قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة: 11]، أي:" وتوكلوا على الله وحده في أموركم الدينية والدنيوية، وثِقوا بعونه ونصره"(2).

قال السمرقندي: " يعني: على المؤمنين أن يتوكلوا على الله ويثقوا بالنصر لهم"(3).

قال البيضاوي: أي: " فإنه الكافي لإيصال الخير ودفع الشر"(4).

قال السعدي: " أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية، وتبرؤوا من حولهم وقوتهم، ويثقوا بالله تعالى في حصول ما يحبون. وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله، وهو من واجبات القلب المتفق عليها"(5).

قال المراغي: أي: " وتوكلوا عليه وحده فقد أراكم عنايته بمن يكلون أمورهم إليه بعد مراعاة سننه والسير عليها في اتقاء كل ما يخشى ضره وتسوء عاقبته، لا على أوليائكم وحلفائكم، لأن الأولياء قد تنقطع بهم الأسباب ويجيبون داعى اليأس إذا اشتد البأس، والحلفاء قد يغدرون كما غدر بنو النضير وغيرهم، ولكن المؤمن المتوكل على الله إذا هم أن ييأس تذكر أن الله وليه وهو الذي بيده ملكوت كل شىء، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، فتتجدد قوته ويفر منه اليأس فينصره الله ويخذل أعداءه كما حدث لأولئك الكملة المتوكلين مع سيد المرسلين أيام ضعفهم وقلتهم وفقرهم وتألب الناس كلهم عليهم"(6).

قال ابو حيان: " وجاء الأمر بالتوكل أمر غائب لأجل الفاصلة، وإشعارا بالغلبة، وإفادة لعموم وصف الإيمان، أي: لأجل تصديقه بالله ورسوله يؤمر بالتوكل كل مؤمن، ولابتداء الآية بمؤمنين على جهة الاختصاص وختمها بمؤمنين على جهة التقريب"(7).

الفوائد:

1 -

وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها.

2 -

وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.

3 -

قال السعدي: " يذكر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة، ويحثهم على تذكرها بالقلب واللسان، وأنهم -كما أنهم يعدون قتلهم لأعدائهم، وأخذ أموالهم وبلادهم وسبيهم نعمة - فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف أيديهم عنهم، ورد كيدهم في نحورهم نعمة. فإنهم الأعداء، قد هموا بأمر، وظنوا أنهم قادرون عليه.

فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم، فهو نصر من الله لعباده المؤمنين ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك، ويعبدوه ويذكروه، وهذا يشمل كل من هم بالمؤمنين بشر، من كافر ومنافق وباغ، كف الله شره عن المسلمين، فإنه داخل في هذه الآية" (8).

القرآن

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)} [المائدة: 12]

التفسير:

(1) تفسير المراغي: 6/ 71.

(2)

التفسير الميسر: 109.

(3)

بحر العلوم: 1/ 374.

(4)

تفسير البيضاوي: 2/ 118.

(5)

تفسير السعدي: 224.

(6)

تفسير المراغي: 6/ 71.

(7)

البحر المحيط: 4/ 198.

(8)

تفسير السعدي: 224.

ص: 77

ولقد أخذ الله العهد المؤكَّد على بني إسرائيل أن يخلصوا له العبادة وحده، وأمر الله موسى أن يجعل عليهم اثني عشر عريفًا بعدد فروعهم، يأخذون عليهم العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه، وقال الله لبني إسرائيل: إني معكم بحفظي ونصري، لئن أقمتم الصلاة، وأعطيتم الزكاة المفروضة مستحقيها، وصدَّقتم برسلي فيما أخبروكم به ونصرتموهم، وأنفقتم في سبيلي، لأكفِّرنَّ عنكم سيئاتكم، ولأدْخِلَنَّكُم جناتٍ تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، فمن جحد هذا الميثاق منكم فقد عدل عن طريق الحق إلى طريق الضلال.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 12]، أي:" ولقد أخذ الله العهد المؤكَّد على بني إسرائيل أن يخلصوا له العبادة وحده"(1).

قال الحسن: ": اليهود من أهل الكتاب"(2).

قال ابو العالية: " أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدُوا غيره"(3).

قال الطبري: ": وهذه الآية أنزلتْ إعلامًا من الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أخلاقَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود، وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه، من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقِهم وأخلاقِ أسلافهم قديما واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود، بإطلاعه إيَّاه على ما كان علمه عندَهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم وتوبيخا لليهود في تمادِيهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر، مع علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون، يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمرَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما همُّوا به لكم، ولا أمرَ الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسْلافهم، لا يَعْدُون أن يكونوا على منهاج أوَّلهم وطريق سَلَفِهم"(4).

قوله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، أي:" وأمر الله موسى أن يجعل عليهم اثني عشر عريفًا بعدد فروعهم، يأخذون عليهم العهد بالسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه"(5).

قال أبو عبيدة: " أي: ضامنا ينقب عليهم وهو الأمين والكفيل على القوم"(6).

قال الطبري: أي: " وبعثنا منهم اثنى عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه"(7).

قال ابن عطية: " ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء"(8).

وفي معنى «النقيب» هنا ثلاثة اقوال:

أحدها: أنه الضمين، وهو قول الحسن (9).

الثاني: الأمين، وهو قول الربيع (10).

والثالث: الشاهد على قومه، وهو قول قتادة (11).

وأصل «النقيب» فى اللغة: الواسع، فنقيب القوم هو الذي ينقب أحوالهم (12).

(1) التفسير الميسر: 109.

(2)

أخرجه الطبري (11567): ص 10/ 109.

(3)

أخرجه الطبري (11568): ص 10/ 110.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 109.

(5)

التفسير الميسر: 109.

(6)

مجاز القرآن: 1/ 156.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 110.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 168.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 20.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11570)، و (11571): ص 10/ 111.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11569): ص 10/ 111.

(12)

انظر: النكت والعيون: 2/ 20.

ص: 78

والنقيب في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق العريف. يقال منه: نَقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نَقْبًا، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل: قد نَقُبَ فهو ينقُب نَقَابة ومن العريف: عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً. فأما المناكب فإنهم كالأعوان يكونون مع العُرفاء، واحدهم مَنْكِب (1).

وفيما بعث فيه هؤلاء النقباء قولان:

أحدهما: أنهم بُعِثُوا إلى الجبارين، ليقفوا على أحوالهم ورجعوا بذلك إِلى موسى، فرجعوا عن قتالهم، لمَّا رأوا من شدة بأسهم، وعظم خلقهم، إلا اثنين منهم، وهذا قول مجاهد (2)، والسدي (3).

والثاني: أنهم بعثوا لقومهم بما أخذ به ميثاقهم منهم، وهذا قول الحسن (4).

قال أبو حيان: "ذكر محمد بن حبيب في «المحبر» (5) أسماء هؤلاء النقباء الذين اختارهم موسى في هذه القصة، بألفاظ لا تنضبط حروفها ولا شكلها، وذكرها غيره مخالفة في أكثرها لما ذكره ابن حبيب لا تنضبط أيضا (6).

وفي هامش الطبري: وقع تحريف واختلاف بين كتب التاريخ في أسماء الأسباط والنقباء منهم فلتحرر (7).

وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك (8).

قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12]، أي:" وقال الله لبني إسرائيل: إني معكم بحفظي ونصري"(9).

قال ابن كثير: " أي: بحفظي وكَلاءتي ونصري"(10).

قال ابن عطية: " معناه بنصري وحياطتي وتأييدي"(11).

قال أبو السعود: " أي: بالعلم والقدرة والنصرة لا بالنصرة فقط فإن تنبيههم على علمه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قدرته وملوته مما يحمله على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه كأنه قيل إني معكم أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك"(12).

قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ} [المائدة: 12]، أي:" لئن أقمتم الصلاة، وأعطيتم الزكاة المفروضة مستحقيها"(13).

قال السعدي: أي: {أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ} : " ظاهرا وباطنا، بالإتيان بما يلزم وينبغي فيها، والمداومة على ذلك، {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ}، لمستحقيها"(14).

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 110.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11573): ص 10/ 112 - 113.

(3)

انظر تفسير الطبري (11572): ص 10/ 111 - 112.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 20.

(5)

والاسماء: " فقال: من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم ابن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل ابن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذكوال ابن موخى، فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم".

(6)

البحر المحيط: 4/ 202، وانظر: تفسير القرطبي: 6/ 113.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 113 - 117 [الهامش].

(8)

انظر: سيرة ابن هشام ج 1 ص 297.

(9)

التفسير الميسر: 109.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 168.

(12)

تفسير ابي السعود: 3/ 15.

(13)

التفسير الميسر: 109.

(14)

تفسير السعدي: 225.

ص: 79

قال ابن عطية: " وإقامة الصلاة توفية شروطها، والزكاة هنا شيء من المال كان مفروضا فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفا للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيما"(1).

قال الربيع بن أنس: "أنّ موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثنى عشر: سيروا إليهم يعني: إلى الجبارين فحدثوني حديثهم، وما أمْرهم، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنًا"(2).

قوله تعالى: {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} [المائدة: 12]، أي:" وصدَّقتم برسلي فيما أخبروكم به"(3).

قال ابو السعود: " أي: بجميعهم"(4).

قال السعدي: أي: " جميعهم، الذين أفضلهم وأكملهم محمد صلى الله عليه وسلم"(5).

قال ابن كثير: " أي: صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي"(6).

وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «برسلي» ساكنة السين، في كل القرآن (7).

قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12]، أي:"ونصرتموهم"(8).

قال ابن عطية: " معناه: وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم"(9).

قال أبو السعود: " أي: نصرتموهم وقويتموهم"(10).

قال السعدي: أي: "عظمتموهم، وأديتم ما يجب لهم من الاحترام والطاعة"(11).

قال ابن كثير: " أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق"(12).

واختلف في معنى قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12]، على وجوه:

أحدها: ونصرتموهم. وهذا قول مجاهد (13)، والسدي (14).

والثاني: أنه الطاعة والنصرة. وهذا قول عبدالرحمن بن زيد (15).

والثالث: معناه: أثنيتم عليهم. وهذا قول يونس الحرمري (16).

والرابع: معناه: نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وأيّدتموهم، وهذا قول ابي عبيدة (17)، وأنشد

قول الشاعر (18):

وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ

وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ

والراجح –والله أعلم- ان معناه: " نصرتموهم. وذلك أن الله جل ثناؤه قال في سورة الفتح: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [سورة الفتح:

(1) المحرر الوجيز: 2/ 168.

(2)

أخرجه الطبري (11578).: ص 10/ 119.

(3)

التفسير الميسر: 109.

(4)

تفسير ابي السعود: 3/ 15.

(5)

تفسير السعدي: 225.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 168.

(8)

التفسير الميسر: 109.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 168.

(10)

تفسير ابي السعود: 3/ 15.

(11)

تفسير السعدي: 225.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11579)، (11580): ص 10/ 119 - 120.

(14)

انظر: تفسير الطبري (11581): ص 10/ 120.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11582): ص 10/ 120.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11583): ص 10/ 120.

(17)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 156 - 157.

(18)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد مجاز القرآن: 1/ 157، وتفسير الطبري: 10/ 120.

ص: 80

8، 9] فـ التوقير هو التعظيم. وإذْ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعضُ ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه: التعظيم وكان النصر قد يكون باليد واللسان، فأما باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيِره، وأما باللسان فحُسْن الثناء، والذبّ عن العرض صحَّ أنه النصر، إذ كان النصر يحوي معنى كلِّ قائلٍ قال فيه قولا مما حكينا عنه" (1).

وقرأ عاصم الجحدري: «وعزرتموهم» ، خفيفة الزاي حيث وقع، وقرأ في سورة الفتح «وتعزوه» [الفتح: 9]، بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي (2).

قوله تعالى: {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المائدة: 12]، أي:" وأنفقتم في سبيلي"(3).

قال ابن كثير: " وهو: الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته"(4).

قال السعدي: "وهو الصدقة والإحسان، الصادر عن الصدق والإخلاص وطيب المكسب"(5).

قال الطبري: أي: " وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم قرضا حسنًا يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدودَ الله وما ندبكم إليه وحثَّكم عليه إلى غيره"(6).

قال القرطبي: " ثم قيل: {حسنا}، أي: طيبة بها نفوسكم. وقيل: يبتغون بها وجه الله. وقيل: حلالا. وقيل: (قرضا) اسم لا مصدر"(7).

قال القرطبي: " أي: بعد الميثاق"(8).

قوله تعالى: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [المائدة: 12]، أي:" أي لأمحونَّ عنكم ذنوبكم"(9).

قال الطبري: أي: " لأغطين بعفوي عنكم - وصفحي عن عقوبتكم، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم"(10).

قال ابن كثير: " أي: ذنوبكم أمحوها وأسترها، ولا أؤاخذكم بها"(11).

قال ابن عطية: " تكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة"(12).

و«الكفر» معناه الجحود، والتغطية، والستر، ومنه سمي الليل كافرًا لأنه يستر ويغطي بظلمته فلق النهار، ومنه قول ابن صُعَير المازني (13):

فَتَذَكَّرَا ثَقلًا رثيدًا بَعْدَما

أَلْقَتْ ذُكَاءُ يمِينَهَا في كافِرِ

وكما قال لبيد (14):

يعلو طريقة متنها متواترٌ

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا

يعني: غطاها، فـ التكفير التفعيل من الكَفْر (15).

(1) تفسير الطبري: 10/ 121.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 168.

(3)

التفسير الميسر: 109.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(5)

تفسير السعدي: 225.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 121.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 114.

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 114.

(9)

صفوة التفاسير: 307.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 123.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(12)

المحرر الوجيز: 2/ 168.

(13)

انظر: المفضليات ص 130، واللسان، مادة:"رثد - ذكو"، والدر المصون: 1/ 106.

(14)

شرح القصائد المشهورات: 1/ 152.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 123.

ص: 81

قوله تعالى: {وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12]، أي:" ولأدْخِلَنَّكُم جناتٍ تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار"(1).

قال الطبري: أي: " ولأدخلنكم مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار"(2).

قال ابن كثير: " أي: أدفع عنكم المحذور، وأحصل لكم المقصود "(3).

قال السعدي: " فجمع لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم، واندفاع المكروه بتكفير السيئات، ودفع ما يترتب عليها من العقوبات"(4).

قوله تعالى: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [المائدة: 12]، أي:" فمن جحد هذا الميثاق منكم"(5).

قال السعدي: " العهد والميثاق المؤكد بالأيمان والالتزامات، المقرون بالترغيب بذكر ثوابه"(6).

قال الطبري: اي: " فمن جحد منكم، يا معشر بني إسرائيل، شيئا مما أمرته به فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي"(7).

قال ابن كثير: " أي: فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده وتوكيده وشدَه، وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه"(8).

قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12]، أي:" فقد عدل عن طريق الحق إلى طريق الضلال"(9).

قال القرطبي: " أي: أخطأ قصد الطريق"(10).

قال الطبري: أي: "فقد أخطأ قصدَ الطريق الواضح، وزلَّ عن منهج السبيل القاصد"(11).

قال ابن كثير: " أي: فقد أخطأ الطريق الحق، وعدل عن الهدى إلى الضلال"(12).

قال أبو السعود: " أي: وسط الطريق الواضح ضلالا بينا وأخطأه خطأ فاحشا لا غذر معه أصلا بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن ان يكون له شبهة ويتوهم له معذرة"(13).

قال ابن عطية: " سواء السبيل وسطه ومنه سواء الجحيم [الصافات: 55]، ومنه قول الأعرابي: قد انقطع سوائي، وأوساط الطرق هي المعظم اللاحب منها"(14).

قال السعدي: " أي: عن عمد وعلم، فيستحق ما يستحقه الضالون من حرمان الثواب، وحصول العقاب"(15).

الفوائد:

1 -

الحث على الوفاء بالالتزامات الشرعية.

(1) التفسير الميسر: 109.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 123.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(4)

تفسير السعدي: 225.

(5)

التفسير الميسر: 109.

(6)

تفسير السعدي: 225.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 124.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(9)

التفسير الميسر: 109.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 114.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 124.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 66.

(13)

تفسير ابي السعود: 3/ 15 - 16.

(14)

المحرر الوجيز: 2/ 168.

(15)

تفسير السعدي: 225.

ص: 82

2 -

إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم.

3 -

إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعبد الله بها من قبل هذه الأمة.

4 -

وجوب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته في أمته ودينه.

5 -

في الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية، فتركب عليه الأحكام، ويرتبط به الحلال والحرام، وقد جاء أيضا [مثله في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم لهوازن:"ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم"(1)(2).

6 -

قال القرطبي: "وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس. والتجسس: التبحث. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا (3) "(4).

القرآن

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} [المائدة: 13]

التفسير:

فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكَّدة طردناهم من رحمتنا، وجعلنا قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان، يبدلون كلام الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة، وتركوا نصيبًا مما ذُكِّروا به، فلم يعملوا به. ولا تزال -أيها الرسول- تجد من اليهود خيانةً وغَدرًا، فهم على منهاج أسلافهم إلا قليلا منهم، فاعف عن سوء معاملتهم لك، واصفح عنهم، فإن الله يحب مَن أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه.

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13]، أي:" فبسبب نقض هؤلاء اليهود لعهودهم المؤكَّدة طردناهم من رحمتنا"(5).

قال الزجاج: " أي: باعدناهم من الرحمة"(6).

وفي المراد بهذه «اللعنة» ، ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس (7).

والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن (8)، ومقاتل (9).

والثالث: الإبعاد من الرحمة، قاله عطاء (10)، والزجاج (11)، والسمرقندي (12).

(1) أخرجه احمد (18914): ص 31/ 231، والبخاري (2307) و (2308) و (2539) و (2540) و (2583) و (2584) و (2607) و (2608) و (3131) و (3132) و (4318)(4319)، وأبو داود (2693)، والبيهقي في "السنن" 6/ 360، وفي "الدلائل" 5/ 190 - 191 من طريق عقيل بن خالد، والبخاري (7176)(7177)، والنسائي في "الكبرى"(8876)، والبيهقي 6/ 360 وفي "الدلائل" 5/ 192.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 113.

(3)

كان ذلك في غزوة بدر قيل: هو ابن عمرو الأنصاري أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لتقصى أنباء عير أبي سفيان.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 113.

(5)

التفسير الميسر: 109.

(6)

معاني القرآن: 2/ 159.

(7)

انظر: زاد المسير: 1/ 527.

(8)

انظر: زاد المسير: 1/ 527.

(9)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 461.

(10)

انظر: زاد المسير: 1/ 527.

(11)

انظر: معاني القرآن: 2/ 159.

(12)

انظر: بحر العلوم: 1/ 376.

ص: 83

قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، أي:" وجعلنا قلوبهم غليظة لا تلين للإيمان"(1).

قال أبو عبيدة: " أي: يابسة صلبة من الخير"(2).

قال النحاس: أي: " ليست بخالصة الايمان، أي: فيها نفاق"(3).

قال السمرقندي: " يعني يابسة، ويقال: خالية عن حلاوة الإيمان"(4).

قال مقاتل: " يعني: قست قلوبهم عن الإيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم"(5).

و«القاسية» : اسم فاعل، من قسوة القلب، من قول القائل: قَسَا قلبه، فهو يقسُو وهو قاسٍ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا صلبًا (6)، كما قال الراجز (7):

وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي

قال الزجاج: " أي: يابسة، يقال للرجل الرحيم: لين القلب، وللرجل غير الرحيم: قاسي القلب ويابس القلب، والقاسي في اللغة، والقاسح - بالحاء -: الشديد الصلابة"(8).

وقرأ حمزة والكسائي «قَسِيّةً» (9)، وفيه تأويلان:

أحدهما: أنها أبلغ من قاسية. اختاره الطبري (10)، والنحاس (11).

قال أبو جعفر النحاس: " وهذا قول حسن، لأنه يقال درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره قال أبو جعفر وأولى ما فيه أن تكون «قسية» بمعنى: قاسية، مثل زكية وزاكية، الا أن «فعيلة» أبلغ من «فاعلة»، فالمعنى جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الايمان والتوفيق لطاعتي لان القوم لم يوصفوا بشئ من الايمان فتكون قلوبهم موصوفة فان ايمانها خالطه كفر كالدراهم القسية التي خالطها غش "(12). كما قال أبو زُبَيْد الطائي (13):

(1) التفسير الميسر: 109.

(2)

مجاز القرآن: 1/ 158.

(3)

معاني القرآن: 2/ 281.

(4)

بحر العلوم: 1/ 376.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 461.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 126 - 127، ومعاني القرآن للنحاس: 2/ 281.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 233، و 10/ 126، ومجاز القرآن: 1/ 158.

(8)

معاني القرآن: 2/ 160.

(9)

انظر: السبعة في القراءات: 242، والحجة للقراء السبعة: 3/ 216.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 128.

(11)

انطر: معاني القرآن: 2/ 281.

(12)

معاني القرآن: 2/ 281.

(13)

المعاني الكبير: 1024، 1025، وأمالي القالى 1: 28، وسمط اللآلئ: 128، 931، واللسان (أمر)(صهل) من قصيدته في رثاء أمير المؤمنين المقتول ظلمًا، ذي النورين عثمان بن عفان، يقول فيها: يَا لَهْفَ نَفْسِي إنْ كَانَ الَّذِي زَعَمُوا

حَقًّا، وَمَاذَا يَرُدُّ الْيَومَ تَلْهِيفِي! !

إِنْ كَانَ عُثْمَانُ أَمْسَى فَوْقَهُ أَمَرٌ

كَرَاقِبِ العُونِ فَوْقَ القُنَّةِ المُوفِي

الأمر (بفتحتين): الحجارة. والعون جمع عانة، وهي حمر الوحش. وراقب العون: الفحل الذي يحوطها ويحرسها على مربأة عالية، ينتظر مغيب الشمس فيرد بها الماء.

ثم يقول بعد ذلك: يَا بُؤْسَ لْلأرْضِ، مَا غَالَتْ غَوَائِلُهَا

مِنْ حُكْمِ عَدْلٍ وَجُودٍ غَيْرِ مَكْفُوفِ! !

على جَنَابَيْهِ مِنْ مَظَلُومَةٍ قِيَمٌ

تَعَاوَرَتْهَا مَسَاحٍ كَالْمَنَاسِيفِ

لَهَا صَوَاهَلُ فِي صُمِّ السِّلامِ، كَمَا

صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ

كَأنَّهُنَّ بِأَيْدِي الْقَوْمِ فِي كَبَدٍ

طَيْرٌ تَكَشفُ عَنْ جُونٍ مَزَاحِيفِ

قوله: جنابيه أي: جانبيه. مظلومة: حفرت ولم تكن حفرت من قبل، يعني أرض لحده. قيم جمع قامة: يعني ما ارتفع من ركام تراب القبر. والمساحي جمع مسحاة: وهي المجرفة من الحديد. والمناسيف جمع منسفة، وهي آلة يقلع بها البناء وينسف، أصلب وأشد من المسحاة. والصواهل جمع صاهلة مصدر على فاعلة، بمعنى الصهيل: وهو صوت الخيل الشديد، وكل صوت يشبهه. والصم جمع أصم، يعني أنها حجارة صلبة تصهل منها المساحي. والسلام (بكسر السين) الصخور. والصياريف هم الصيارف، وزاد الياء للإشباع. والكبد: الشدة. والجون: السود. ومزاحيف، تزحف من الإعياء، يعني إبلا قد هلكت من الإعياء. شبه المساحي بأيدي القوم وهم يحفرون قبره، بنسور تقع على الإبل المعيية، ثم تنهض، ثم تعود فتسقط عليها. وكان قبر عثمان في حرة المدينة ذات الحجارة السود، فلذلك قال: عن جون مزاحيف [هامش تفسير الطبري: 10/ 127].

ص: 84

لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا

صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيارِيفِ

يصف بذلك وقع مَسَاحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي السِّلام (1).

قال الطبري: " وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك، قراءة من قرأ: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً} على فعيلة، لأنها أبلغ في ذم القوم من: قاسية، وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله: فعيلة من القسوة، كما قيل: نفس زكيّة وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقَهم وكفرِهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأنّ إيمانها يخالطه كفر، كالدراهم القَسِيَّة التي يخالط فضَّتها غشٌّ"(2).

والثاني: أنها بمعنى قاسية. قاله السمرقندي (3). وآخرون.

قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، أي:" يبدلون كلام الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة"(4).

قال الثعلبي: أي"يغيرون ما فيه من الأحكام"(5).

قال ابن كثير: " أي: يتأولونه على غير تأويله "(6).

قال البيضاوي: " كنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم، أو تأويله، فيفسرونه بما يشتهون"(7).

وتحريف الشيء: "إحالته من حال إلى حال"(8).

وفي تحريفهم «الكلم» ، أقوال (9):

أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس (10).

والثاني: تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله مقاتل (11)، والسمرقندي (12).

والثالث: تفسيره على غير ما أنزل، قاله الزجاج (13).

والرابع: أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم. وهذا قول الجمهور (14).

والخامس: أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل، ولفظ التوراة باق. قاله ابن عباس أيضا (15).

قال مجاهد (16) والسدي (17)، وابن زيد (18): أنهم علماء اليهود والذين يحرفونه التوراة فيجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً ابتاعاً لأهوائهم وإعانة لراشيهم.

قال القرطبي: " وهذا توبيخ لهم"(19).

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 127 - 128.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 128.

(3)

انظر: بحر العلوم: 1/ 376.

(4)

التفسير الميسر: 109.

(5)

تفسير الثعلبي: 1/ 222. (بتصرف بسيط).

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 308.

(7)

تفسير البيضاوي: 1/ 89.

(8)

المحرر الوجيز: 1/ 168.

(9)

انظر: زاد المسير: 1/ 528.

(10)

انظر: زاد المسير: 1/ 528.

(11)

انظ {ك تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 461.

(12)

انظر: بحر العلوم: 1/ 376.

(13)

انظر: معاني القرآن: 2/ 160.

(14)

انظر: البحر المحيط: 1/ 232.

(15)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 168.

(16)

انظر: تفسير الطبري (1328): ص 2/ 245.

(17)

انظر: تفسير الطبري (1330): ص 2/ 246.

(18)

انظر: تفسير الطبري (1330): ص 2/ 246.

(19)

تفسير القرطبي: 2/ 3.

ص: 85

قال ابن عطية: "وأن ذلك [التحريف] ممكن في التوراة، لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن، لأن الله تعالى ضمن حفظه"(1).

قوله تعالى: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، أي:" وتركوا نصيبًا مما ذُكِّروا به، فلم يعملوا به"(2).

قال السدي: " تركوا نصيبًا"(3).

قال الزجاج: " تركوا نصيبا مما ذكروا به"(4).

قال الحسن: " تركوا عُرَى دينهم، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقْبل الأعمال إلا بها"(5).

قال الطبري: أي: " ونسوا حظًّا وتركوا نصيبا، وهو كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [سورة التوبة: 67] أي: تركوا أمر الله فتركهم الله"(6).

قال السمرقندي: " يعني: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم"(7).

قال ابن الجوزي: " «النسيان» هاهنا: الترك عن عمد. و «الحظ»: النصيب، وفي معنى ذكروا به قولان: أحدهما: أمروا. والثاني: أوصوا"(8).

قوله تعالى: {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: 13]، أي:" ولا تزال -أيها الرسول- تجد من اليهود خيانةً وغَدرًا، فهم على منهاج أسلافهم إلا قليلا منهم"(9).

قال قتادة: "على خيانة وكذب وفجور"(10).

قال الزجاج: " {خائنة} ، في معنى: خيانة، المعنى: لا تزال تطلع على خيانة منهم

ويجوز أن يكون - والله أعلم - على خائنة أن على فرقة خائنة" (11).

قال مجاهد: " هم يهودُ مِثْلُ الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم"(12).

قال السمرقندي: " يعني: لا يزال يظهر لك منهم الخيانة ونقض العهد"(13).

قال ابن قتيبة: " والخيانة والخائنة واحد"(14)، "أي: غدر ونكث، ويقال لعاصي المسلمين: خائن، لأنّه مؤتمن على دينه. قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال: 27]. يريد المعاصي، وقال الله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 187] أي: رتخونونها بالمعصية" (15).

(1) المحرر الوجيز: 1/ 168.

(2)

التفسير الميسر: 109.

(3)

أخرجه الطبري (11587): ص 10/ 130.

(4)

معاني القرآن: 2/ 160.

(5)

أخرجه الطبري (11588): ص 10/ 130.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 129.

(7)

بحر العلوم: 1/ 376.

(8)

زاد المسير: 1/ 528.

(9)

التفسير الميسر: 109.

(10)

أخرجه الطبري (11589): ص 10/ 131.

(11)

معاني القرآن: 2/ 160 - 161.

(12)

أخرجه الطبري (11590): ص 10/ 131.

(13)

بحر العلوم: 1/ 376.

(14)

غريب القرآن: 386.

(15)

تاويل مشكل القرآن: 262.

ص: 86

قال أبو حيان: " أي: هذه عادتهم وديدنهم معك، وهم على مكان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء. فهم لا يزالون يخوفونك وينكثون عهودك، ويظاهرون عليك أعداءك، ويهمون بالقتل بك، وأن يسموك"(1).

وقال أبو عبيدة: " {عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ} ، أي: على خائن منهم، والعرب تزيد الهاء فى المذكّر كقولهم: هو راوية للشعر، ورجل علّامة، وقال الكلابىّ (2):

حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفَاءِ ولَمْ تَكُنْ

لِلغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ

وقد قال قوم بل {خائنة منهم} ، هاهنا الخيانة، والعرب قد تضع لفظ «فاعلة» فى موضع المصدر كقولهم للخوان مائدة

" (3).

وقرأ الأعمش: «على خيانة منهم» (4).

وفي الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: 13]، وجوه:

أحدها: أن الاستثناء في الاشخاص، والمستثنون: عبد الله بن سلام وأصحابه. قاله: ابن عباس.

والثاني: أن الاستثنا في الأفعال أي: إلا فعلا قليلا منهم، فلا تطلع فيه على خيانة. وهذا قول ابن عطية.

والثالث: وقيل: الاستثناء من قوله: {وجعلنا قلوبهم قاسية} [المائدة: 13]، والمراد به المؤمنون، فإن القسوة زالت عن قلوبهم، قال أبو حيان:"وهذا فيه بعد"(5).

والظاهر في الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [المائدة: 13]، "أنه من الأشخاص في هذه الجملة، والمستثنون عبد الله بن سلام وأصحابه"(6).

قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]، أي:" فاعف عن سوء معاملتهم لك، واصفح عنهم"(7).

وفي نسخ قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13]، قولان (8):

أحدهما: أن حكمها ثابت فى الصفح والعفو إذا رآه، لأنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ.

(1) البحر المحيط: 4/ 206.

(2)

الكامل للمبرد 1/ 211، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 158، ةتفسير الطبري: 10/ 132، وإصلاح المنطق / 295، واللسان (صبع)(غلل)(خون). وهذا من شعر له خبر. وذلك أن هذا الشاعر لما ورد اليمامة كان معه أخ له جميل، فنزل جارا لعمير بن سلمى، فقال قرين أخو عمير للكلابي: لا تردن أبياتنا بأخيك هذا، مخافة جماله، فرآه قرين بين أبياتهم بعد، وأخوه عمير غائب، فقتله. فجاء الكلابي قبر سلمى (أبي عمير، وقرين) فاستجار به وقال: وَإِذَا اسْتَجَرْتَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَاسْتَجِرْ

زَيْدَ بن يَرْبُوعٍ وَآلَ مُجَمِّعِ

وَأَتَيْتُ سُلْمِيَّا فَعُذْتُ بِقَبْرِهِ

وَأَخُو الزَّمَانَةِ عَائِذٌ بِالأمْنَعِ

أَقَرِينُ إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ فَوَارِسِي

بِعَمَايَتَيْنَ إِلَى جَوَانِبِ ضَلْفَعِ

حَدَّثْتَ نَفْسَك ..................

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فلجأ قرين إلى وجوه بني حنيفة (وهم زيد بن يربوع، وآل مجمع)، فحملوا إلى الكلابي ديات مضاعفة، فأبى أن يقبلها. فلما قدم عمير، فقالت له أمه: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل. فأخذ عمير أخاه قرينًا فقتله، وقال: قَتَلْنَا أَخَانَا لِلْوَفَاءِ بِجَارِنَا

وَكَانَ أَبُونَا قَدْ تُجِيرُ مَقابِرُهْ

وقالت أم عمير لعمير: تَعُدُّ مَعَاذِرًا لا عُذْرَ فِيهَا

وَمَنْ يَقْتُلْ أَخَاهُ فَقَدْ أَلامَا

وقوله: أخو الزمانة، هي العاهة، يريد ضعفه عن درك ثأره. وعمايتان وضلفع مواضع من بلاد هذا الكلابي. وقوله مغل الإصبع، كناية عن الخيانة والسرقة. أغل يغل: خان الأمانة خلسة. ويقول بعضهم: مغل الإصبع، منصوب على النداء. [من هامش تفسير الطبري: 10/ 132].

(3)

مجاز القرآن 1/ 158.

(4)

زاد المسير: 1/ 528.

(5)

البحر المحيط: 4/ 206.

(6)

البحر المحيط: 4/ 206.

(7)

التفسير الميسر: 109.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 21، وزاد المسير: 1/ 528.

ص: 87

والثاني: أنه منسوخ، قاله الجمهور (1)، وفى الذي نسخه ثلاثة أقوال (2):

أحدها: آية السيف.

والثاني: قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَومِ الآخِرِ} [التوبة: 29] وهذا قول قتادة (3).

والثالث: قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافُنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيهِم عَلَى سَوَآءٍ} [الأنفال: 58].

قال الطبري: يجوز أن يعفى عنهم في غدرة فعلوها، ما لم ينصبوا حربا، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار، فلا يتوجه النسخ (4).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]، أي:" فإن الله يحب مَن أحسن العفو والصفح إلى من أساء إليه"(5).

الفوائد:

1 -

حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ولا سيما ما كان بين العبد وربه.

2 -

الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف.

3 -

استحباب العفو عند القدرة، وهو من خلال الصالحين.

4 -

ومنها: أن أهل الزيغ هكذا يجدون سبيلا إلى مقاصدهم السيئة بتحريف كلام الله وتأويله على غير وجهه، فإن عجَزوا عن التحريف والتأويل تركوا ما لا يتفق مع أهوائهم مِن شرع الله الذي لا يثبت عليه إلا القليل ممن عصمه الله منهم.

5 -

أن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن اليهود أضاعوا التوراة وتركوا العمل بها فضلوا عن سبيل الله القويم وصراطه المستقيم، وذهبوا يحرفون الكلم عن مواضعه.

6 -

أَنه لايسلم للْيَهُود صِحَة كتبهمْ المقدسة لديهم وَمَا احْتَجُّوا بهَا من نُصُوص، فقد أثبت الْقُرْآن الْكَرِيم أَنهم تجرؤا على كتب الله الْمنزلَة على أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل بالتحريف والتزوير والتغيير قَالَ تَعَالَى:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أَنه لايسلم للْيَهُود صِحَة كتبهمْ المقدسة لديهم وَمَا احْتَجُّوا بهَا من نُصُوص، فقد أثبت الْقُرْآن الْكَرِيم أَنهم تجرؤا على كتب الله الْمنزلَة على أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل بالتحريف والتزوير والتغيير قَالَ تَعَالَى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} .

القرآن

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14]

التفسير:

وأخذنا على الذين ادَّعوا أنهم أتباع المسيح عيسى -وليسوا كذلك- العهد المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يُتابعوا رسولهم وينصروه ويؤازروه، فبدَّلوا دينهم، وتركوا نصيبًا مما ذكروا به، فلم يعملوا به، كما صنع اليهود، فألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يوم الحساب، وسيعاقبهم على صنيعهم.

قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14]، أي:" وأخذنا على الذين ادَّعوا أنهم أتباع المسيح عيسى -وليسوا كذلك- العهد المؤكد الذي أخذناه على بني إسرائيل: بأن يُتابعوا رسولهم وينصروه ويؤازروه"(6).

قال القرطبي: " أي: في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذ هو مكتوب في الإنجيل"(7).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 21، وزاد المسير: 1/ 528.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 21، وزاد المسير: 1/ 528.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11594)، و (11594): 10/ 134 - 135.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 135. [بتصرف].

(5)

التفسير الميسر: 109.

(6)

التفسير الميسر: 110.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 117.

ص: 88

قال ابن كثير: " أي: ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام، وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض، أي: ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود"(1).

وفي قولهم: {إنا نصارى} ، ولم يقل «من النصارى» ، دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها، روي معناه عن الحسن (2).

قال ابن عطية: " علق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه"(3).

قوله تعالى: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]، أي:" فبدَّلوا دينهم، وتركوا نصيبًا مما ذكروا به، فلم يعملوا به، كما صنع اليهود"(4).

قال النحاس: " أي تركوا حظا من الكتاب الذي وعظوا به وذكروا به، وجعلوا ذلك الترك والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم"(5).

قال القرطبي: " وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، أي: لم يعملوا بما أمروا به وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم"(6).

قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14]، أي:" فألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"(7).

قال الطبري: أي: " حرّشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشيء بالشيء"(8).

قال الزجاج: "صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا، منهم النسطورية، واليعقوبية والملكانية، وهم الروم، فكل فرقة منهم تعادي الأخرى"(9).

قال السمعاني: " معناه: ألصقنا بهم العداوة حتى صاروا فرقا، وأحزابا، منهم اليعقوبية والملكائية، والنسطورية"(10).

وفي قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14]، وجوه (11):

أحدها: أي: هيجنا. قاله القرطبي (12).

والثاني: ألصقنا بهم، مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه، وهذا قول الاصمعي (13)، واختيار الزجاج (14)، والزمخشري (15)، وابن عطية (16).

والثالث: أن الإغراء: تسليط بعضهم على بعض. حكاه الرماني (17).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 67.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 117.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 170.

(4)

التفسير الميسر: 110.

(5)

إعراب القرآن: 1/ 261.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 117.

(7)

التفسير الميسر: 110.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 136.

(9)

معاني القرآن: 2/ 161.

(10)

تفسير السمعاني: 2/ 23.

(11)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 117.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 117.

(13)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 2/ 161.

(14)

انظر: معاني القرآن: 2/ 161.

(15)

انظر: الكشاف: 1/ 617.

(16)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 170.

(17)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 117.

ص: 89

والرابع: أن الإغراء: التحريش، وأصله اللصوق، قال كثير (1):

إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا

غراء ومدتها حوافل نهل

قال ابن كثير: " أي: فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين، يكفر بعضهم بعضا، ويلعن بعضهم بعضا؛ فكل فرقة تُحَرم الأخرى ولا تدعها تَلجُ معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد"(2).

واختلف أهل التأويل في صفة إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة، والبغضاء، وفيه قولان:

أحدهما: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حَدَثت بينهم. وهذا قول إبراهيم النخعي (3)، واختيار الطبري (4).

والثاني: أن ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء. وهذا قول قتادة (5)، واختيار النحاس (6)، والسمرقندي (7).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 6/ 117، واللسان: 11/ 157، و 15/ 121، وفيه: " إذا إِذا قُلْتُ أَسْلُو، غارَتِ العينُ بالبُكا

غِرَاءً، ومَدَّتْها مَدامعُ حُفَّلُ".

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 67.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11598) - (11600): ص 10/ 137.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 137 - 138.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11601): ص 10/ 137.

(6)

انظر: إعراب القرآن: 1/ 261 - 262.

(7)

انظر: بحر العلوم: 1/ 276. ذكر السمرقندي في صفة تلك العداوة: " يقال: إن أصل العداوة التي كانت بينهم ألقاها إنسان يقال له «بولس»، كان بينه وبين النصارى قتال، وكان يهوديا فقتل منهم خلقا كثيرا، فأراد أن يحتال بحيلة يلقي بينهم القتال ليقتل بعضهم بعضا، فجاء إلى النصارى، وجعل نفسه، أعور وقال لهم: أتعرفوني؟ فقالوا: أنت الذي قتلت منا وفعلت ما فعلت، فقال: قد فعلت ذلك كله وأنا تائب، لأني رأيت عيسى ابن مريم في المنام نزل من السماء، فلطم وجهي لطمة وفقأ عيني. فقال: أي شيء تريد من قومي؟ فتبت على يده، وإنما جئتكم لأكون بين ظهرانيكم، وأعلمكم شرائع دينكم، كما علمني عيسى في المنام فاتخذوا له غرفة، فصعد تلك الغرفة وفتح كوة إلى الناس في الحائط، وكان يتعبد في الغرفة، وربما كانوا يجتمعون إليه ويسألونه ويجيبهم من تلك الكوة، وربما يأمرهم حتى يجتمعوا ويناديهم من تلك الكوة، ويقول لهم بقول كان في الظاهر منكرا وينكرون عليه، فكان يفسر ذلك القول بتفسير يعجبهم ذلك، فانقادوا كلهم له وكانوا يقبلون قوله بما يأمرهم به. فقال لهم يوما من الأيام: اجتمعوا قد حضرني علم، فاجتمعوا، فقال لهم: أليس قد خلق الله تعالى هذه الأشياء في الدنيا كلها لمنفعة بني آدم؟ قالوا: نعم، فقال لم تحرمون على أنفسكم هذه الأشياء؟ يعني الخمر والخنزير وقد خلق لكم ما فى الارض جميعا، فأخذوا بقوله واستحلوا الخمر والخنزير، فلما مضى على ذلك أيام دعاهم وقال: حضرني علم. فاجتمعوا وقال لهم: من أي ناحية تطلع الشمس؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: ومن أي ناحية يطلع القمر والنجوم؟ فقالوا: من قبل المشرق. فقال: ومن يرسلهم من قبل المشرق؟ قالوا: الله تعالى: فقال: فاعلموا أنه من قبل المشرق فإن صليتم له فصلوا إليه، فحول صلاتهم إلى المشرق، فلما مضى على ذلك أيام دعا طائفة منهم وأمرهم بأن يدخلوا عليه في الغرفة. وقال لهم: إني أريد أن أجعل نفسي الليلة قربانا لأجل عيسى، وقد حضرني علم وأريد أن أخبركم في السر لتحفظوا عني وتدعوا الناس إلى ذلك. ويقال أيضا إنه أصبح يوما وفتح عينه الأخرى ثم دعاهم وقال لهم: جاءني عيسى الليلة، وقال: قد رضيت عنك، فمسح يده على عيني فبرئت، فالآن أريد أن أجعل نفسي قربانا. ثم قال لهم: هل يستطيع أحد أن يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا. فقال: إن عيسى قد فعل هذه الأشياء، فاعلموا بأنه هو الله. فخرجوا من عنده. ثم دعا طائفة أخرى فأخبرهم بذلك أيضا، وقال: إنه كان ابنه ثم دعا بطائفة ثالثة وأخبرهم بأنه ثالث ثلاثة، وأخبرهم بأنه يريد أن يجعل نفسه الليلة قربانا، فلما كان في بعض الليل خرج من بين ظهرانيهم، فأصبحوا وجعلوا كل فريق منهم يقول: قد علمني كذا وكذا. وقال الفريق الآخر: أنت كاذب بل علمني كذا وكذا، فوقع بينهم القتال فاقتتلوا وقتلوا خلقا كثيرا وبقيت العداوة بينهم إلى يوم القيامة وهم ثلاث فرق، فرقة بينهم النسطورية قالوا المسيح ابن الله.

وصنف منهم يقال: لهم المار يعقوبية قالوا: إن الله هو المسيح. وصنف يقال لهم: الملكانية، قالوا: إن الله ثالث ثلاثة المسيح وأمه والله. فأغرى بينهم العداوة والبغضآء إلى يوم القيامة". [بحر العلوم: 1/ 276 - 277].

ص: 90

قال النحاس: " وأحسن ما قيل في معنى فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء أن الله تعالى أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار"(1).

والراجح-والله أعلم-: أنه "أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى بينَهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواءٌ، لا وحيٌ من الله"(2).

قال السمرقندي: "يقال: ألقى بينهم العداوة بالجدال والخصومات في الدين، وذلك يحبط الأعمال. وقال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات في الدين، فإنها تحبط الأعمال"(3).

واختلف أهل التفسير في المعنيِّ بـ «الهاء والميم» اللتين في قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ} [المائدة: 14]، وفيه وجهان:

أحدهما: عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولِهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظًّا مما ذكّروا به. وهذا قول مجاهد (4)، وقتادة (5)، والسدي (6)، وابن زيد (7).

والثاني: عنى الله بذلك النصارَى وحدَها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى، عقوبةً لها بنسيانها حظًّا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت الهاء والميم في بينهم، دون اليهود. وهذا قول الربيع (8)، والطبري (9)، والزجاج (10)، والنحاس (11).

قال النحاس: " والأولى أن يكون للنصارى، لأنهم أقرب"(12).

قال الإمام الطبري: ": وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أنّ المعنيّ بالإغراء بينهم، النصارى، في هذه الآية خاصة وأنّ الهاء والميم عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر الإغراء في خبر الله عن النصارى، بعد تقضِّي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبَره عن النصارى، فلأنْ يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصًّة، أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا، لما ذكرنا"(13).

قوله تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]، أي:" وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يوم الحساب، وسيعاقبهم على صنيعهم"(14).

قال الواحدي: " وعيدٌ لهم"(15).

قال الطبري: أي: " وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم، بما كانوا في الدنيا يصنعون، من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم"(16).

(1) إعراب القرآن: 2/ 261 - 262.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 137 - 138.

(3)

بحر العلوم: 1/ 377.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11604): ص 10/ 138.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11606): ص 10/ 138.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11602): ص 10/ 138.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11603): ص 10/ 138.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11607): ص 10/ 139.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 139.

(10)

انظر: معاني القرآن: 2/ 161.

(11)

انظر: إعراب القرآن: 1/ 261.

(12)

إعراب القرآن: 1/ 261.

(13)

تفسير الطبري: 10/ 139.

(14)

التفسير الميسر: 110.

(15)

الوجيز: 312.

(16)

تفسير الطبري: 10/ 139.

ص: 91

قال مقاتل: " يعني: بما يقولون من الجحود والتكذيب وذلك أن النسطورية قالوا: إن عيسى ابن الله. وقالت: المار يعقوبية إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت عبادة الملك: إن الله- عز وجل ثالث ثلاثة- هو إله وعيسى إله، ومريم إله، افتراء على الله- تبارك وتعالى وإنما الله إله واحد وعيسى عبد الله ونبيه- صلى الله عليه وسلم كما وصف الله- سبحانه- نفسه «أحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (1) "(2).

قال ابن كثير: "وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب، عز وجل، وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا، من جعلهم له صاحبة وولدا، تعالى الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفوًا أحد"(3).

قال ابن عطية: " توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار"(4).

الفوائد:

1 -

ذم النصارى بنقض الميثاق، كما ذم اليهود وجعل عقوبتهم إيقاع العداوة والبغضاء بينهم.

2 -

أن حال النصارى لا تختلف كثيراً عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد. وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر، فهم على عداوة الإسلام والحرب عليه متعاونون متواصون.

3 -

ويستفاد من هذه الآية الكريمة: أن من سننه تعالى في خلقه أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء إذا تركوا شيئا من شرعه ولم يعملوا به، فقال سبحانه وتعالى عن النصارى:{ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14].

وقد اختلفت هذه الأمة كما اختلف من قبلها من الأمم؛ مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"(5)، وظهرت فيها الفرق التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الافتراق، وادعت كل فرقة أنها على الحق وما عداها على الباطل.

ولكن مع وجود هذا الاختلاف والتفرق، فلا يزال في الأمة طائفة منصورة قائمة بالحق، داعية إليه، لا يضرها من خالفها، ولا من خذلها، إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك.

ولذلك اهتم سلف هذه الأمة بالدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والتحذير من البدع والأهواء، وكثرت أقوالهم ومؤلفاتهم في هذه المسألة.

فكتبت كتب كثيرة في السنة وبيان منهج السلف الصالح، وفي الرد على أهل الأهواء والبدع.

ومن هذه الكتب الكثيرة، كتاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "الرد على الجهمية"، وكتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وكتاب "السنة" لمحمد بن نصر المروزي، وكتاب "الشريعة" للآجري، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي، وغير ذلك من كتب السلف رضوان الله عليهم (6).

وبعض هذه الكتب، عني فيها مؤلفوها بالكتابة في التحذير من الأهواء والبدع، فألف ابن وضاح القرطبي كتابه "البدع والنهي عنها"، وألف أبو بكر الطرطوشي كتابه "الحوادث والبدع"، وألف أبو شامة كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، ولكن اقتصرت هذه

(1) سورة الإخلاص.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 463.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 67.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 170.

(5)

أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد.

(6)

انظر: الإعتصام للشاطبي: 7 - 9.

ص: 92

الكتب -في الغالب- على النقل المجرد للنصوص الواردة في التحذير من البدع والنهي عنها، دون تحليل لمعانيها، وتحقيق مسائلها، مما جعل الإمام الشاطبي يقوم بتصنيف كتابه الفذ "الاعتصام"، الذي أشار رحمه الله تعالى فيه إلى هذه الكتب السابقة، ومأخذه عليها، فقال:"وإذا استقام هذا الأصل -أي كتب العلم لحفظ الدين- فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث؛ من الأمر بكتب العلم، وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل؛ لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا إلا من النقل الجلي؛ كما نقل ابن وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي، ولم أجده على شدة بحثي عنه، إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن ينتفع واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين"(1).

القرآن

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)} [المائدة: 15]

التفسير:

يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى، قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يبيِّن لكم كثيرًا مما كنتم تُخْفونه عن الناس مما في التوراة والإنجيل، ويترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين: وهو القرآن الكريم.

سبب النزول:

قال عكرمة: "إنّ نبيّ الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيتٍ، قال: أيُّكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صُوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال، سل عما شئت، قال، أنت أعلمهم؟ قال: إنهم ليزعمون ذلك! قال: فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطُّور، وناشده بالمواثيق التي أُخذت عليهم، حتى أخذه أفْكَل، فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أُخصورةً، فجلدنا مئة، وحلقنا الرءوس، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب أحسبه قال: الإبل قال: فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ}، الآية وهذه الآية: {وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [سورة البقرة: 76] "(2). [ضعيف]

وقال ابن جريج: "لما أخبر الأعور سمويل بن صوريا الذي صدق النبي صلى الله عليه وسلم على الرجم أنه في كتابهم، وقال: لكنا نخفيه؛ فنزلت: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} وهو شاب أبيض طويل من أهل فدك"(3). [ضعيف]

قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [المائدة: 15]، أي:" يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى"(4).

قال الزمخشري: " خطاب لليهود والنصارى"(5).

قال السمعاني: " المراد به: أهل الكتابين: التوراة، والإنجيل، لكن ذكر الكتاب، وهو اسم الجنس، فينصرف إلى الفريقين"(6).

(1) الاعتصام: 3/ 16.

(2)

أخرجه الطبري (11611): 10/ 142 - 143. وهذا مرسل صحيح الإسناد.

(3)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 43) ونسبه لابن المنذر.

قلنا: وهو معضل.

(4)

التفسير الميسر: 110.

(5)

الكشاف: 1/ 617.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 21.

ص: 93

قال البيضاوي: " يعني: اليهود والنصارى، ووحد الكتاب لأنه للجنس"(1).

وقيل: أن المراد: اليهود خاصة (2).

قال القرطبي: " الكتاب: اسم جنس بمعنى الكتب، فجميعهم مخاطبون"(3).

قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 15]، أي:" قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يبيِّن لكم كثيرًا مما كنتم تُخْفونه عن الناس مما في التوراة والإنجيل"(4).

عن قتادة: " {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا}، وهو محمد-صلى الله عليه وسلم"(5).

قال الطبري: " يقول: يبين لكم محمّد رسولنا، كثيرًا مما كنتم تكتمونه الناسَ ولا تُبينونه لهم ممّا في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس: رَجْمُ الزَّانيين المحصنين"(6).

قال القرطبي: " يعني محمد صلى الله عليه وسلم. {يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب}، أي: من كتبكم، من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة، فإنهم كانوا يخفونها"(7).

قال السمعاني: " يعني: اللذين أخفوا من نعت محمد وآية الرجم، ونحو ذلك"(8).

قال ابن كثير: " يقول تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة: أنه قد أرسل رسوله محمدًا بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيّهم، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل .. يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه، وافتروا على الله فيه "(9).

قال ابن عباس: " من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب. قوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسوُلنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب}، فكان الرجمُ مما أخفوا"(10).

وقرأ الحسن: «قد جاءكم رسولنا يبين لكم» ، أدغم النون في اللام لقربها منها (11).

قوله تعالى: {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15]، أي:" ويترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة"(12).

قال ابن كثير: " ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه"(13).

قال القرطبي: " أي: يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه"(14).

قال السمعاني: " يعني: يعرض عن كثير مما أخفوا، فلا يتعرض له"(15).

قال الراغب: " أي: يتجافى من إظهار كثير مما يخفونه"(16).

(1) تفسير البيضاوي: 2/ 119.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 529.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 118.

(4)

التفسير الميسر: 110.

(5)

أخرجه الطبري (11608): ص 10/ 141.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 141.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 118.

(8)

تفسير السمعاني: 2/ 21.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 67.

(10)

أخرجه الطبري (11609): ص 10/ 141.

(11)

انظر: إعراب القرآن للنحاس: 1/ 262.

(12)

التفسير الميسر: 110.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 67.

(14)

تفسير القرطبي: 6/ 118.

(15)

تفسير السمعاني: 2/ 21.

(16)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 303.

ص: 94

قال ابن الجوزي: أي: " يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه"(1).

قا البغوي: " أي: يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له ولا يؤاخذكم به"(2).

قال الزمخشري: " {ويعفو عن كثير} مما تخفونه، لا يبينه إذا لم تضطر إليه مصلحة دينية، ولم يكن فيه فائدة إلا اقتضاء حكم وصفته مما لا بد من بيانه، وكذلك الرجم وما فيه إحياء شريعة وإماتة بدعة"(3).

قال القرطبي: " يعني: يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله عليه وسلم ولم يبين، وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول: لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه"(4).

قال الشوكاني: " {ويعفوا عن كثير} مما تخفونه، فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإن ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرد افتضاحكم وقيل المعنى: إنه يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به وقيل: يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذهم بما يصدر منهم"(5).

فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟

فعن ذلك جوابان، ذكرهما ابن الجوزي (6):

أحدهما: أنه كان متلقيا ما يؤمر به، فإذا أمر باظهار شيء من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإلا سكت.

والثاني: أن عقد الذمة إنما كان على أن يقروا على دينهم، فلما كتموا كثيرا مما أمروا به، واتخذوا غيره دينا، أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوته، لتتحقق معجزته عندهم، واحتكموا إليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إقرارهم على دينهم.

قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، أي:" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين: وهو القرآن الكريم"(7).

قال الزمخشري: " يريد القرآن، لكشفه ظلمات الشرك والشك، ولإبانته ما كان خافيا عن الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز من اتبع رضوانه من آمن به سبل السلام طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله"(8).

قال ابن عطية: " قوله عز وجل: {نور وكتاب مبين}، يحتمل: أن يريد محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل: أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به"(9).

وفى «النور» ، ثلاثة أقوال:

أحدها: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول الزجاج (10)، والبغوي (11).

(1) زاد المسير: 1/ 529.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 32.

(3)

الكشاف: 1/ 617.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 118.

(5)

فتح القدير: 2/ 28.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 529.

(7)

التفسير الميسر: 110.

(8)

الكشاف: 1/ 617.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 171.

(10)

انظر: معاني القرآن: 2/ 161.

(11)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 32.

ص: 95

قال الزجاج: " النور هو: محمد صلى الله عليه وسلم والهدى أو النور هو الذي يبين الأشياء، ويرى الأبصار حقيقتها، فمثل ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب في بيانه وكشفه الظلمات كمثل النور"(1).

الثاني: القرآن. وهو قول بعض المتأخرين (2).

والثالث: الإسلام، وسمي نور، لأنه يهتدى به كما يهتدي بالنور. حكاه السمعاني (3).

الفوائد:

1 -

عموم رسالته صلى الله عليه وسلم لجميع الأمم.

2 -

إن هذه الآية من أعظم الأدلة على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث جاء بالدين القويم والصراط المستقيم.

3 -

أن القرآن الكريم مهيمن على الكتب السابقة، فاضح لما حرفه اليهود والنصارى، ولما كتموه من الحق.

4 -

أن نور القرآن والسنة لا يهتدي به إلا المؤمن الذي يتعلمهما، ليعمل بهما.

5 -

الاعتقاد الجازم بنسخ جميع الكتب والصحف التي أنزلها الله على رسله، بالقرآن الكريم، وأنه لا يسع أحدًا من الإنس أو الجن، لا من أصحاب الكتب السابقة، ولا من غيرهم، أن يعبدوا الله بعد نزول القرآن بغير ما جاء فيه أو يتحاكموا إلى غيره.

6 -

قال الراغب: " هذه الآية النعم الثلاث التي خص بها العباد وهي: - النبوة والعقل والكتاب"(4).

القرآن

{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 16]

التفسير:

يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضا الله تعالى، طرق الأمن والسلامة، ويخرجهم بإذنه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ويوفقهم إلى دينه القويم.

قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، أي:" يهدي الله بهذا الكتاب المبين من اتبع رضا الله تعالى، طرق الأمن والسلامة"(5).

قال السمعاني: " أي: يهدي به الله سبل السلام من اتبع رضوانه"(6).

قال الزمخشري: {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} ، أي:" من آمن به، {سبل السلام}، طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله"(7).

قال ابن عطية: " {واتبع رضوانه}، معناه: بالتكسب والنية والإقبال عليه، و «السبل» الطرق"(8).

قال القرطبي: " {من اتبع رضوانه}، أي: ما رضيه الله، {سبل السلام}، طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة، وهي الجنة"(9).

(1) معاني القرآن: 2/ 161.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 22.

(3)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 23.

(4)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 303.

(5)

التفسير الميسر: 110.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 23.

(7)

.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 171.

(9)

تفسير القرطبي: 6/ 118.

ص: 96

قال السعدي: " أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا -سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا"(1).

قال الزجاج: " السبل: الطرق، فجائز أن يكون - والله أعلم - طرق السلام أي طرق السلامة التي من ملكها سلم في دينه، وجائز أن يكون - والله أعلم - سبل السلام، طرق الله، والسلام اسم من أسماء الله"(2).

قال أبو علي: " {سُبُلَ السَّلامِ}، أي: سبل دار السلام، بدلالة قوله: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام: 127]، وتكون إضافة الدار إلى السلام على أحد وجهين: إمّا أن يراد به الإضافة إلى السلام الذي هو اسم من أسماء الله على وجه التعظيم لها والرفع منها، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة: عبد الله. وإمّا أن يراد بالسلام جمع سلامة، كأنّه: دار السلامة التي لا يلقون في حلولها عنتا ولا تعذيبا، كما قال: {الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} [فاطر: 35]."(3).

عن السدي: " {من اتبع رضوانه سبل السلام}، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية"(4).

وإن قلتَ: "كيف قال ذلكَ، مع أن العبد ما لم يهده الله لا يتَّبع رضوانه فيلزم الدَّورُ؟

قلتُ: فيه إِضْمارٌ تقديرُه: يهدي به اللَّهُ منْ علِم أنه يريد أن يتَّبع رضوانه، كما قال:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، أي: والّذين أرادوا سبيل المجاهدة لنهدينهم سبيل مجاهدتنا" (5).

قال ابن عاشور: " و «سبل السلام» : طرق السلامة التي لا خوف على السائر فيها، وللعرب طرق معروفة بالأمن وطرق معروفة بالمخافة، مثل وادي السباع، الذي قال فيه سحيم بن وثيل الرياحي (6):

مررتُ على وادى السِّباعِ ولا أَرى

كوادى السِّباع حين يُظلمُ وادِيا

أقلَّ به ركْبٌ أتَوْه تَئيّةً

وأخوفَ، إلاّ ما وَقى اللهُ، ساريا

فسبيل السلام استعارة لطرق الحق" (7).

قال الحازمي: " طرق مرضاته يجمعها سبيله الواحد يعني {سُبُلَ السَّلامِ}، المراد به أنواع العبادات الصلاة، والصيام، والزكاة هذه متعددة، لكنها تجمع قدرًا مشتركًا وهو عبادة الله تعالى وحده"(8).

وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب: «به الله» ، بضم الهاء حيث وقع مثله (9).

قوله تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة: 16]، أي:" ويخرجهم بإذنه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"(10).

قال الطبري: " يعني: من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإسلام وضيائه، بإذن الله جل وعز"(11).

قال القرطبي: " أي: من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات، بتوفيقه وإرادته"(12).

قال ابن كثير: " أي: ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أنجب الأمور، وينفي عنهم الضلالة"(13).

قال السعدي: أي من: " ظلمات الكفر والبدعة والمعصية، والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم، والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن"(14).

قوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، أي:" ويوفقهم إلى دينه القويم"(15).

قال الطبري: أي: " ويرشدهم ويسددهم إلى طريق مستقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه"(16).

قال ابن كثير: أي: "ويرشدهم إلى أقوم حالة"(17).

قال المحاسبي: " فضمن الله عز وجل لمتبعه: الْهَدْي لطريق السَّلامَة، والسلوك للطريق الْمُسْتَقيم"(18).

قال ابن عاشور: " «الصراط المستقيم» مستعار للإيمان"(19).

وفي قوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، وجهان:

أحدهما: طريق الحق وهو دين الله، وهذا قول الحسن (20).

والثاني: طريق الجنة فى الآخرة، وهو قول بعض المتكلمين (21).

الفوائد:

1 -

أن الهداية والصلاح والفلاح لمن اتبع القرآن والسنة وتمسك بذلك، وأن اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه إلى سعادته وكماله.

2 -

القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء.

3 -

طالب رضا الله بصدق يفوز بكل خبر وينجو من كل ضير.

4 -

لقد تميزت الرسالة الخاتمة بالشمول لجميع متطلبات البشر، والعموم لجميع أجناسهم في كل مكان وزمان، فهي تحمل التعريف الصحيح بالله وحقه والكون والحياة، وعن مبدأ الإنسان ودوره في الحياة، ومصيره بعد الممات.

كما تضمنت النظام الكامل السديد لعلاقة البشر مع خالقهم ومع بعضهم البعض

5 -

وذكر سبحانه للكتاب ثلاث فوائد:

احدها: إن المتبع لما يرضى الله بالإيمان بهذا الكتاب- يهديه إلى الطرق التي يسلم بها فى الدنيا والآخرة من كل ما يبعده عن الشقاء والهلاك، فيقوم فى الدنيا بحقوق الله

(1) تفسير السعدي: 226.

(2)

معاني القرآن: 2/ 161.

(3)

الحجة للقراء السبعة: 1/ 184.

(4)

أخرج الطبري (11612): ص 10/ 145.

(5)

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، زكريا الانصاري: 1/ 134.

(6)

الكتاب، لسبويه: 2/ 32 - 33، والخزانة 3/ 521، يقول: وافيت هذا الوادي ليلا- وهو واد بعينه- فأوحشني لكثرة سباعه، فرحلت عنه ولم أمكث فيه لوحشته- والتئيّة: التلبث والمكث.

(7)

التحرير والتنوير: 6/ 151.

(8)

شرح العقيدة الواسطية للحازمي رقم الدرس (9) /23. [تسجيل صوتي].

(9)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 171.

(10)

التفسير الميسر: 110.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 145.

(12)

تفسير القرطبي: 6/ 119.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 68.

(14)

تفسير السعدي: 226.

(15)

التفسير الميسر: 110.

(16)

تفسير الطبري: 10/ 146.

(17)

تفسير ابن كثير: 3/ 68.

(18)

فهم القرآن: 276.

(19)

المحرر الوجيز: 6/ 151.

(20)

انظر: النكت والعيون: 2/ 22.

(21)

انظر: النكت والعيون: 2/ 22.

ص: 97

والحقوق الواجبة عليه لنفسه (روحية كانت أو جسدية) وللناس، ويكون فى الآخرة منعما نعيما روحيا وجسديا.

وخلاصة ذلك: إنه يتبع دينا يجد فيه ما يوصله إلى السلامة من الشقاء فى الدنيا والآخرة، لأنه دين الإخلاص والعدل والمساواة.

والثاني: إنه يخرج معتنقيه من ظلمات الوثنية والأوهام والخرافات التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان- إلى نور التوحيد الخالص الذي يجعل صاحبه حرا كريما بين يدى الخلق خاضعا للخاللق وحده.

والثالث: إنه يهدى إلى الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين إذا اعتصم به من اتبعه على الوجه الصحيح الذي أنزل لأجله، كما عمل بذلك أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. أفاده المراغي (1).

القرآن

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [المائدة: 17]

التفسير:

لقد كفر النصارى القائلون بأن الله هو المسيح بن مريم، قل -أيها الرسول- لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح إلهًا كما يدَّعون لقَدرَ أن يدفع قضاء الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أُمِّه ومَن في الأرض جميعًا، وقد ماتت أم عيسى فلم يدفع عنها الموت، كذلك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه; لأنهما عبدان من عباد الله لا يقدران على دفع الهلاك عنهما، فهذا دليلٌ على أنه بشر كسائر بني آدم. وجميع الموجودات في السماوات والأرض ملك لله، يخلق ما يشاء ويوجده، وهو على كل شيء قدير.

سبب النزول:

قال مقاتل: " نزلت فى نصارى نجران المار يعقوبيين منهم السيد والعاقب وغيرهما"(2).

أخرج الطبري (3)، وابن المنذر عن ابن جريج (4)، في قوله جل وعز:" {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} قال: بلغنا أن نصارى نجران قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة منهم السيد، والعاقب، وأخبرت أن معهما عبد المسيح، وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد فيم تشتم صاحبنا؟ قال: " ومن صاحبكم "، قالوا: عيسى بن مريم، تزعم أنه عبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم "، فغضبوا، وقالوا: إن كنت صادقا فأرنا عبدا يحيي الموتى يبرئ الأكمه، والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ولكنه الله، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءه جبريل عليهما السلام، فقال: يا محمد {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنهم قد سألوني أن أخبرهم مثل عيسى "، قال جبريل: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون إلى قوله: فمن حاجك فيه} "(5).

قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، أي:" لقد كفر النصارى القائلون بأن الله هو المسيح بن مريم"(6).

(1) انظر: تفسير المراغي: 6/ 80 - 81.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 463.

(3)

انظر: تفسير الطبري (7164): ص 6/ 470.

(4)

انظر: تفسير ابن المنذر (538): ص 1/ 224 - 225.واللفظ له.

(5)

تفسير ابن المنذر (538): ص 1/ 224 - 225.

(6)

التفسير الميسر: 110.

ص: 98

قال الطبري: " يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، و «كفرهم» في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه، [و] هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية، الذين ضلُّوا عن سبل السلام واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا"(1).

قال عبدالقاهر الجرجاني: " دخل في [الآية] كل نصراني اعتقد أن المسيح أو شيء فيه حادث غير محدث، أو ادعى ثلاث أقنومات أو أقنومين"(2).

قال الزمخشري: " قولهم: {إن الله هو المسيح}، معناه بت القول، على أن حقيقة الله هو المسيح لا غير، قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. وقيل: ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدى إليه، حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيى ويميت ويدبر أمر العالم"(3).

قال البيضاوي: " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل: لم يصرح به أحد منهم ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا وقالوا لا إله إلا الله واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم"(4).

وفي تسميته بالمسيح أقوال:

أحدها: أنه سمّي بذلك لكثرة سياحته. حكاه ابن كثير عن بعض السلف (5).

والثاني: لأنه مُسِحَ بالبركة، وهذا قول الحسن (6) وسعيد (7).

والثالث: أنه مُسِحَ بالتطهر من الذنوب. وأن المسيح: الصدّيق. قاله إبراهيم (8) وهو اختيار الإمام الطبري (9).

والرابع: وقيل: لأنه كان مسيح القدمين: أي لا أخْمَص لهما (10).

والخامس: وقيل: المسيح بمعنى الماسح، لأنه كان إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى، فيمسح عين الأعمى والأعور فيبصر (11).

والسادس. ان المسيح: الملك. قاله الكلبي (12)، وأبو عمرو بن علاء (13).

والسابع: وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. قاله أبو سليمان الدمشقي (14).

والثامن: أن المسيح ضد المسيخ، يقال: مسحه الله أي خلقه خلقا حسنا مباركا، ومسخه أي خلقه خلقا ملعونا قبيحا. قاله أبو الهيثم (15).

والتاسع: وقيل: أن المسيح أصله بالعبرانية "مشيحا" بالشين، فعرّب كما عرّب: موشى بموسى. قاله أبو عبيدة (16).

والقول الأول أشهر، وعليه الأكثر، فـ"سمي به، لأنه يسيح في الأرض أي يطوفها ويدخل جميع بلدانها إلا مكة والمدينة وبئت المقدس، فهو فعيل بمعنى فاعل، فالدجال يمسح الأرض

(1) تفسير الطبري 10/ 146.

(2)

درج الدرر في تفسير الآي والسور: 2/ 659.

(3)

الكشاف: 1/ 617.

(4)

تفسير البيضاوي: 2/ 120.

(5)

تفسير ابن كثير: 2/ 43.

(6)

انظر: تفسير الطبري (7064)، و (7065): ص 6/ 414.

(7)

انظر: تفسير الطبري (7066): ص 6/ 414.

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 394.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 6/ 414.

(10)

تفسير ابن كثير: 2/ 43.

(11)

انظر: تفسير ابن كثير: 2/ 43، وتفسير الماتريدي: 2/ 371، وتفسير السمرقندي: 1/ 312.

(12)

انظر: تفسير السمرقندي: 1/ 312.

(13)

انظر: تفسير الثعلبي: 3/ 68.

(14)

انظر: زاد المسير: 1/ 331، وتفسير الثعلبي: 3/ 68. لم ينسبه الثعلبي.

(15)

انظر: تفسير القرطبي: 4/ 89.

(16)

انظر: تفسير القرطبي: 4/ 89.

ص: 99

محنة، وابن مريم يمسحها منحة، وعلى أنه ممسوح العين فعيل بمعنى مفعول (1). ومنه قول الشاعر (2):

إنَّ الْمَسِيحَ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا

قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]، أي:" قل -أيها الرسول- لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح إلهًا كما يدَّعون لقَدرَ أن يدفع قضاء الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أُمِّه ومَن في الأرض جميعًا"(3).

قال مقاتل: " قل لهم يا محمد: فمن يقدر أن يمتنع من الله شيئا من شيء من عذابه إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا بعذاب أو بموت فمن الذي يحول بينه وبين ذلك"(4).

قال الثعلبي: " أي: من يطيق أن يدفع من أمر الله شيئا فيرده إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا"(5).

قال الزمخشري: أي: " فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئا إن أراد أن يهلك من دعوه إلها من المسيح وأمه دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد، وأراد بعطف {من في الأرض} على: {المسيح ابن مريم وأمه} أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم في البشرية"(6).

قال القرطبي: " أي: فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها، فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده"(7).

قال ابن عطية: " أي: لا مالك ولا راد لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله"(8).

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 17]، أي:" وجميع الموجودات في السماوات والأرض ملك لله"(9).

قال الطبري: أي: " والله له تصريف ما في السموات والأرض وما بينهما"(10).

قال مقاتل: " يقول: إليه سلطان السموات والأرض وما بينهما من الخلق، {يخلق ما يشاء}، يعني: عيسى شاء أن يخلقه من غير بشر"(11).

قال القرطبي: أي: "والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية"(12).

قال ابن عطية: " ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى"(13).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 4/ 89.

(2)

البيت من شواهد الثعلبي في تفسيره: 3/ 69، والقرطبي في تفسيره: 4/ 89، ولم أتعرف على قائله فيما توفرت لديّ من المصادر.

(3)

التفسير الميسر: 110.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 463.

(5)

تفسير الثعلبي: 4/ 39 - 40.

(6)

الكشاف: 1/ 617.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 119.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 171.

(9)

التفسير الميسر: 110.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 148.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 463.

(12)

تفسير القرطبي: 6/ 119.

(13)

المحرر الوجيز: 2/ 171.

ص: 100

قال عبدالقاهر الجرجاني: " وإنما خصّ [السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]، لاستيعاب غاية جهات فوق وغاية جهات تحت {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الحيوان والنبات وغيرهما"(1).

قال السمعاني: " فيه إشارة إلى أن المستحق للألوهية من له ملك السموات، ومن له هذه القدرة فإياه فاعبدوا"(2).

وقد ذكر {السموات} بلفظ الجمع، ولم يقل:"وما بينهن"، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، كما قال الراعي (3):

طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَاهِمِي، أَقْرِيهِمَا

قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالقِسِيِّ وَحُولا

فقال: "طرقا"، مخبًرا عن شيئين، ثم قال:"فتلك هَمَاهمي"، فرجع إلى معنى الكلام (4).

قوله تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [المائدة: 17]، أي:" يخلق ما يشاء ويوجده"(5).

قال مقاتل: " من خلق عيسى من غير بشر وغيره من الخلق"(6).

قال الزمخشري: أي: " أى يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم. أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له، وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وغير ذلك. فيجب أن ينسب إليه ولا ينسب إلى البشر المجرى على يده"(7).

قال الطبري: أي: " وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا بإذني؟ "(8).

قال ابن عطية: " قوله تعالى: {يخلق ما يشاء} ـ إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد. بل اختراعا كآدم عليه السلام"(9).

قال السمرقندي: " ثم قال: {يخلق ما يشاء}، لأن نصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشرا كان له أب، فأخبر الله تعالى على أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب"(10).

قال عبدالقاهر الجرجاني: قوله: : {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} " يدل على أنه يخلق اختيارًا واقتدارًا من غير احتياج واضطرار"(11).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 17]، أي:" وَاللَّه عَلَى كُلّ شيْء قَدِيرٌ فلا يعجزه شيء"(12).

(1) درج الدرر: 2/ 660.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 24.

(3)

من قصيدته في جمهرة أشعار العرب: 173، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118، 160، يقول لابنته خليدة: لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي وَطُولَ تَلَدُّدِي

ذَاتَ الْعِشَاء وَلَيْلَيِ الْمَوْصُولا

قَالَتْ خُلَيْدَةُ: مَا عَرَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ

أَبَدًا إِذَا عَرَتِ الشُّئُونُ سَؤُولا

أَخُلَيْدَ، إِنَّ أَبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ

هَمَّان باتَا جَنْبَةً وَدَخِيلا

طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَا هِي ....

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

"الهماهم": الهموم. و"قلص" جمع"قلوص": الفتية من الإبل."لواقح": حوامل، جمع"لاقح". و"الحول"، جمع"حائل"، وهي الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات، وكذلك كل حامل ينقطع عنها الحمل. يقول: أجعل قرى هذه الهموم، نوقًا هذه صفاتها، كأنها قسى موترة من طول أسفارها، فأضرب بها الفيافي.

(4)

انظر: تفسيرالطبري: 10/ 148 - 149.

(5)

التفسير الميسر: 110.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان 1/ 463.

(7)

الكشاف: 1/ 618.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 149.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 171.

(10)

بحر العلوم: 1/ 379.

(11)

درج الدرر: 2/ 660.

(12)

التفسير الميسر: 110، وصفوة التفاسير:308.

ص: 101

قال ابن عطية: " عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، و «الشيء» في اللغة هو الموجود"(1).

قال الطبري: أي: " الله المعبودُ، هو القادر على كل شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا، لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نزل به من الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك"(2).

قال الرازي: " في الآية سؤال، وهو أن أحدا من النصارى لا يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به.

وجوابه: أن كثيرا من الحلولية يقولون: إن الله تعالى قد يحل في بدن إنسان معين، أو في روحه، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال: إن قوما من النصارى ذهبوا إلى هذا القول، بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى، وذلك لأنهم يقولون: أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام، فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة، فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول" (3).

الفوائد:

1 -

مواجهة القرآن الكريم للوثنيات التي تسربت إلى المسيحية، وهي ثنيات تتشابه وتتشابك في الشكل والموضوع، فسجل كفر النصارى وقولهم إن المسيح هو الله.

2 -

كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص، وفي الآية الرد على شبه النصارى وأكاذيبهم.

3 -

أن كل ما سوى الله فقير إليه لذاته وكل من في السموات والأرض عبيد له مقهورون لقهره مصرفون بمشيئته لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته والهيته مثقال ذرة.

4 -

إن حقيقة التوحيد توجب تفرُّد الله تعالى بصفات الربوبية والألوهية، فلا يشاركه أحد من خلقه في ذلك، وكثيرًا ما يقع الناس في الشرك والضلال بغلوهم في الأنبياء والصالحين، كما غلا النصارى في المسيح، فالكون كله لله، والخلق بيده وحده، وما يظهر من خوارق وآيات مَرَدُّه إلى الله. يخلق سبحانه ما يشاء، ويفعل ما يريد.

2 -

ومن اسمائه تعالى: «القدير» : إذ "وصف الله نفسه بأنه قادر على كل شيء، أراده: لا يعترضه عجز ولا فتور"(4).

القرآن

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)} [المائدة: 18]

التفسير:

وزعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، قل لهم -أيها الرسول-: فَلأيِّ شيء يعذِّبكم بذنوبكم؟ فلو كنتم أحبابه ما عذبكم، فالله لا يحب إلا من أطاعه، وقل لهم: بل أنتم خلقٌ مثلُ سائر بني آدم، إن أحسنتُم جوزيتم بإحسانكم خيرا، وإن أسَأْتُم جوزيتم بإساءتكم شرًّا، فالله يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو مالك الملك، يُصَرِّفه كما يشاء، وإليه المرجع، فيحكم بين عباده، ويجازي كلا بما يستحق.

(1) المحرر الوجيز: 2/ 171.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 149.

(3)

مفاتيح الغيب: 11/ 327 - 328.

(4)

شأن الدعاء للخطابي: 85.

ص: 102

سبب النزول:

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أُحي وبحري بن عمرو وشاس بن عدي، فكلموه؛ فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد، نحن والله أبناء الله وأحباؤه كقول النصارى؛ فأنزل الله -جل وعزّ- فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} إلى آخر الآية"(1). [ضعيف]

قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، أي:" وزعم اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه"(2).

قال النسفي: " أي أعزة عليه كالابن على الأب أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشباع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون كما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناءالملوك أو نحن أبناء رسل الله"(3).

قال السدي: " أما أبناء الله، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك، أدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [سورة آل عمران: 24]. وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله"(4).

وعن السدي ايضا: " أما قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك - بكرك من الولد - فيدخلهم النار فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم يناد مناد أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل. فأخرجوهم، فذلك قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] "(5).

قال السعدي: " والابن في لغتهم هو الحبيب، ولم يريدوا البنوة الحقيقية، فإن هذا ليس من مذهبهم إلا مذهب النصارى في المسيح"(6).

والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول: نحن الأجواد الكرام، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك، كما قال جرير (7):

نَدَسْنَا أَبَا مَنْدُوسَةَ القَيْنَ بِالقَنَا

وَمَارَ دَمٌ مِنْ جَارِ بَيْبَةَ نَاقعُ

فقال: نَدَسْنَا، وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه (8).

(1) أخرجه ابن إسحاق في "المغازي" -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان (11613): ص 10/ 150، وابن أبي حاتم وابن المنذر؛ كما في تفسير ابن كثير: 3/ 69، و"الدر المنثور" 3/ 44، وأبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة" (5412) 4 ص/ 2157، والبيهقي في "الدلائل" (2/ 535 - ضمن حديث طويل) -: ثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

قلنا: وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة شيخ ابن إسحاق؛ كما قال الحافظان الذهبي والعسقلاني.

(2)

التفسير الميسر: 1/ 111.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 437.

(4)

أخرجه الطبري (11614): ص 10/ 151.

(5)

رواه ابن أبي حاتم وابن جرير، كما في تفسير ابن كثير: 3/ 69 - 70.

(6)

تفسير السعدي: 227.

(7)

. ديوانه: 372، والنقائض: 693، واللسان (بيب) (مور) (ندس). وندس: طعن طعنًا خفيفًا. وأبو مندوسة، هو مرة بن سفيان بن مجاشع، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع - قوم جرير - في يوم الكلاب الأول. والقين لقب لرهط الفرزدق، يهجون به. وجاربيبة، هو الصمة بن الحارث الجشمي، قتله ثعلبة بن حصبة، وهو في جوار الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع، من رهط الفرزدق. ومار الدم على وجه الأرض: جرى وتحرك فجاء وذهب. ودم ناقع، أي: طري لم ييبس.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 151 - 152.

ص: 103

قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]، أي:" قل لهم -أيها الرسول-: فَلأيِّ شيء يعذِّبكم بذنوبكم؟ فلو كنتم أحبابه ما عذبكم، فالله لا يحب إلا من أطاعه"(1).

قال السعدي: أي: " فلو كنتم أحبابه ما عذبكم لكون الله لا يحب إلا من قام بمراضيه"(2).

قال النسفي: " أي: فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياماً معدودة على زعمكم وهل يمسخ الأب ولده وهل يعذب الوالد ولده بالنار"(3).

قال أبو السعود: " أي: إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد عرفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم"(4).

قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18]، أي:" وقل لهم: بل أنتم خلقٌ مثلُ سائر بني آدم"(5).

قال النسفي: " أي: أنتم خلق من خلقه لا بنوه"(6).

قال أبو السعود: " أي: لستم كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم"(7).

قال ابن كثير: " أي: لكم أسوة أمثالكم من بني آدم، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده"(8).

قال الطبري: أي: " قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه بل أنتم بشر ممن خلق، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم، كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها"(9).

قال السعدي: اي: " تجري عليكم أحكام العدل والفضل"(10).

قال القرطبي: " فرد عليهم قولهم فقال: {فلم يعذبكم بذنوبكم} ، فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين:

- إما أن يقولوا: هو يعذبنا، فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحباءه، فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه، فذلك دليل على كذبكم- وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف-.

- أو يقولوا: لا يعذبنا، فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم، ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم.

وقيل: معنى {يعذبكم} عذبكم، فهو بمعنى المضي، أي فلم مسخكم قردة وخنازير؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم؟ لأن الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه" (11).

قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18]، أي:" فالله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"(12).

(1) التفسير الميسر: 1/ 111.

(2)

تفسير السعدي: 227.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 437.

(4)

تفسير أبي السعود: 3/ 21.

(5)

التفسير الميسر: 1/ 111.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 437.

(7)

تفسير أبي السعود: 3/ 21.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 69.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 152 - 153.

(10)

تفسير السعدي: 227.

(11)

تفسير القرطبي: 6/ 120 - 121.

(12)

التفسير الميسر: 1/ 111.

ص: 104

قال السدي: " يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه"(1).

قال السعدي: اي: " إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب"(2).

قال الطبري: أي: " يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها، ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه"(3).

قال أبو السعود: " {يغفر لمن يشاء} أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله {ويعذب من يشاء} أن يعذبه منهم وهم الذين كفروا به وبرسله مثلكم"(4).

قال ابن كثير: " أي: هو فعال لما يريد، لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب "(5).

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 18]، أي:" وجميع الموجودات في السماوات والأرض ملك لله"(6).

قال النسفي: " فيه تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والنبوة متنافيان"(7).

قال الطبري: أي: " لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف أحبّ، لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك"(8).

قال ابن كثير: " أي: الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه"(9).

قال السعدي: " أي: فأي شيء خصكم بهذه الفضيلة، وأنتم من جملة المماليك"(10).

قال أبو السعود: أي: "من الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيهم كيف يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وايماتة وايثابة وتعذيبا فأنى لهم ادعاء ما زعموا"(11).

قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 18]، أي:" وإليه المرجع، فيحكم بين عباده، ويجازي كلا بما يستحق"(12).

قال القرطبي: " أي: يئول أمر العباد إليه في الآخرة"(13).

قال ابن كثير: " أي: المرجع والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الذي لا يجور"(14).

قال الطبري: أي: " وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء والأسلاف"(15).

(1) أخرجه الطبري (11615): ص 10/ 154.

(2)

تفسير السعدي: 227.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 153.

(4)

تفسير أبي السعود: 3/ 21.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 69.

(6)

التفسير الميسر: 110.

(7)

تفسير النسفي: 1/ 437.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 154.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 69.

(10)

تفسير السعدي: 227.

(11)

تفسير أبي السعود: 3/ 21.

(12)

التفسير الميسر: 1/ 111.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 121.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 69.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 154.

ص: 105

قال أبو السعود: أي: " في الآخرة خاصة لا إلى غيره استقلال أو اشتراكا فيجازي كلا من المحسن والمسيء بما يستدعيه عمله من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه"(1).

قال السعدي: أي: وانتم "من جملة من يرجع إلى الله في الدار الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم"(2).

قال الحسن البصري: " ابن آدم! لا يغرنك أن تقول: المرء مع من أحب؛ فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم، وإن اليهود والنصارى ليحبون أنبياءهم، ولا والله؛ ما يحشرون معهم، ولا يدخلون في زمرتهم، وإنهم لحطب جهنم هم لها واردون "(3).

الفوائد:

1 -

بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.

2 -

نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد.

3 -

تحريف اليهود والنصارى لمفهوم علاقة البشرية بالله إلى بنوة-والعياذ بالله-

4 -

يستفاد من الآية: أن المحبة نوعان:

أحدهما: المحبة الشكرية: وهي كل محبة تغر في الدين وتبعث على الاكتفاء بها دون الجد في الصالحات وتحري المشروع منها، ولا تثمر ربط القلوب وصلتها بعضها ببعض إذا اتحدت على الشهادتين، ولا توجب النفور من كل من يحاول هدم تعاليم الإِسلام، ولا تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعود صاحبها على استعذاب العذاب في خدمة المبدإ الحق المجمل في الشهادتين، وهذه المحبة الشركية هي التي ردها الله على مشركي قريش وضلال اليهود والنصارى بآية آل عمران المتقدمة، وبقوله في المائدة:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18].

والثاني: المحبة الشرعية: وهي المبنية على الإيمان والعمل الصالح، وأنها النجاة من العذاب، وأفاد حديث " الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال:«الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» (4).

وقد نقل في " كشف الخفاء " عن بعض العلماء بعدما أورد حديث «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ورواياته أنه: " مشروط بشرط، وعنى صلى الله عليه وسلم: أنه إذا أحبهم عمل بمثل أعمالهم "(5).

وفي هذا المعنى قال عبدالله بن المبارك (6):

تعصي الإلهَ وأنت تزعُمُ حُبَّه

هذا لعَمْرِي في القياسِ شَنيعُ

لو كانَ حُبُّك صادقًا لأطعتَه

إنَّ المُحِبَّ لمن يُحبُّ مطيعُ

قال السمرقندي: " والحب لله أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه، فكل من كان أطوع لله فهو أشد حبا له"(7).

وحكى عن البيهقي، "أن رجلًا من أهل بغداد سأل أبا عثمان الواعظ: متى يكون الرجل صادقاً في حب مولاه؛ فقال: إذا خلا من خلافه كان صادقاً في حبه، فوضع الرجل التراب على رأسه وصاح وقال: كيف أدعي حبه ولم أخل طرفة عين من خلافه؟ ! فبكى أبو عثمان وأهل المجلس، وصار أبو عثمان يقول في بكائه: صادق في حبه، مقصر في حقه" (8).

(1) تفسير أبي السعود: 3/ 21.

(2)

تفسير السعدي: 227.

(3)

نقله ابن الجوزي في " رسالته ": 32.

(4)

رواه البخاري (10/ 557/ 6168 و 6169 و 6170)، ومسلم (4/ 2034/ 2640 و 2641).

(5)

كشف الخفاء: 2/ 203.

(6)

تهذيب الكمال: 6/ 360، وتاريخ دمشق: 32/ 469.

(7)

بحر العلوم: 1/ 111.

(8)

كشف الخفاء: 2/ 203.

ص: 106

القرآن

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)} [المائدة: 19]

التفسير:

يا أيها اليهود والنصارى قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، يُبيِّن لكم الحق والهدى بعد مُدَّة من الزمن بين إرساله بإرسال عيسى ابن مريم; لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فلا عُذرَ لكم بعد إرساله إليكم، فقد جاءكم من الله رسولٌ يبشِّر مَن آمن به، ويُنذِر مَن عصاه. والله على كل شيء قدير من عقاب العاصي وثواب المطيع.

سبب النزول:

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود اتقوا الله؛ فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حرملة ووهب بن يهودا: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيراً ولا نذيراً بعده؛ فأنزل الله عز وجل في قولهما:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1). [ضعيف]

قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [المائدة: 19]، أي:" يا أيها اليهود والنصارى"(2).

قال ابن عطية: " خطاب لليهود والنصارى"(3).

قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19]، أي:" قد جاءكم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، يُبيِّن لكم الحق والهدى بعد مُدَّة من الزمن بين إرساله بإرسال عيسى ابن مريم "(4).

قال السمعاني: " أي: على انقطاع من الرسل"(5).

قال الزمخشري: " أى: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحى"(6).

قال الزجاج: " {على فترة من الرسل}، أي: على انقطاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعد انقطاع الرسل لأن الرسل كانت إلى وقت رفع عيسى تترى، أي متواترة، يجيء بعضها في إثر بعض"(7).

قال القرطبي: {عَلَى فَتْرَةٍ} : "أي سكون، يقال فتر الشيء سكن.

وقيل: {على فترة} على انقطاع ما بين النبيين، عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني، قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه، ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان من السخونة إلى البرد، وامرأة فاترة الطرف أي

(1) أخرجه ابن إسحاق في المغازي -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(11616): ص 10/ 155، وابن أبي حاتم وابن المنذر؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 45)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(2/ 535)، وأبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة" (4/ 2157 رقم 5412) -: ثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

قلنا: وسنده ضعيف، لجهالة شيخ ابن إسحاق؛ كما قال الحافظان الذهبي والعسقلاني.

(2)

التفسير الميسر: 111.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 172.

(4)

التفسير الميسر: 111.

(5)

تفسير السمعاني: 2/ 24.

(6)

الكشاف: 1/ 619.

(7)

معاني القرآن: 2/ 162.

ص: 107

منقطعة عن حدة النظر، وفتور البدن كفتور الماء، والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما، والمعنى، أي: مضت للرسل مدة قبله" (1).

والمشهور أن: {على فترة} ، أي: بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى بن مريم، وقد اختلفوا في مقدار هذه المدة، على أقوال:

أحدها: أنها كانت ستمائة سنة. وهذا قول أبو عثمان النَّهْديّ (2)، وقتادة - في رواية عنه- (3).

والثاني: أنها كانت خمسمائة وستون سنة. وهذا مروي عن سلمان الفارسي، وقتادة أيضا (4).

والثالث: أنها خمسمائة وأربعون سنة. وهذا قول معمر عن بعض اصحابه (5).

والرابع: أنها كانت أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. قاله الضحاك (6).

والخامس: وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى، عليه السلام عن الشعبي أنه قال:"ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة"(7).

والسادس: قال الكلبي: "كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبى وبين عيسى ومحمد صلوات الله عليهم أربعة أنبياء، ثلاث من بنى إسرائيل، وواحد من العرب: خالد بن سنان العبسي (8) "(9).

وأشهر الأقوال أنها ستمائة سنة (10). والله أعلم.

قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} [المائدة: 19]، أي:" ; لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فلا عُذرَ لكم بعد إرساله إليكم"(11).

قال البيضاوي: أي: " كراهة أن تقولوا ذلك وتعتذروا به"(12).

قال القرطبي: " أي لئلا أو كراهية أن تقولوا، {ما جاءنا من بشير}، أي: مبشر، {ولا نذير}، أي: منذر"(13).

قال الطبري: " يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل"(14).

قال المراغي: " أي إننا إنما بعثناه إليكم كراهة أن تقولوا ما جاءنا من بشير يبشرنا بحسن العاقبة للمؤمنين، وينذرنا بسوء عاقبة المفسدين الضالين"(15).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 121.

(2)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 70، وتفسير السمعاني: 2/ 24.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 70.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11618): ص 1/ 156.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11620): ص 1/ 157.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11621): ص 1/ 157.

(7)

) تاريخ دمشق لابن عساكر (14/ 30 القسم المخطوط)، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (20/ 86).

(8)

يروى من حديث عن ابن عباس: أنه جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي عليه السلام، فبسط لها ثوبه، وقال:«بنت نبي ضيّعه قومه» . ينظر: مصنف ابن أبي شيبة 6/ 413، والطبقات الكبرى 1/ 296 والمعجم الكبير للطبراني (12250)، ومعجم السفر، وانظر: البدء والتاريخ 3/ 6، والكامل 1/ 291.

وإسناده ضعيف، لضعف قيس بن الربيع.

وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علات، وليس بيني وبين عيسى نبي» .

- أخرجه البخاري 3443 ومسلم 2365 وأحمد 2/ 319 وغيرهم من حديث أبي هريرة.

- فهذا يرد الحديث المتقدم، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.

(9)

الكشاف: 1/ 619.

(10)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 70.

(11)

التفسير الميسر: 111.

(12)

تفسير البيضاوي: 2/ 121.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 122.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 156.

(15)

تفسير المراغي: 6/ 86.

ص: 108

قال الزمخشري: " أى: لا تعتذروا فقد جاءكم

والمعنى: الامتنان عليهم، وأن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحى أحوج ما يكون إليه، ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله، وفتح باب إلى الرحمة، وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غدا بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم عن غفلتهم" (1).

قال الكوفيون: "معناه: أن لا تقولوا: وقال البصريون معناه: كراهة أن تقولوا"(2).

قال الزجاج: " قال بعضهم: معناه: أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير، أي بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم لئلا تقولوا ما جاءنا من بشير، ومثله قوله عز وجل:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، معناه: أن لا تضلوا.

وقال بعضهم: أن تقولوا: معناه كراهة أن تقولوا، وحذفت كراهة، كما قال جل وعز:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، معناه: سل أهل القرية" (3).

قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19]، أي:" فقد جاءكم من الله رسولٌ يبشِّر مَن آمن به، ويُنذِر مَن عصاه"(4).

قال البيضاوي: "أي: لا تعتذروا بـ {ما جاءنا}، فقد جاءكم"(5).

قال المراغي: أي: " يبين لكم أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية، وأنها منوطة بالإيمان والأعمال، وأن الله لا يحابى أحدا"(6).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19]، أي:" والله على كل شيء قدير من عقاب العاصي وثواب المطيع"(7).

قال القرطبي: " أي: على إرسال من شاء من خلقه. وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه"(8).

قال البيضاوي: " وفي الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وكانوا أحوج ما يكونون إليه"(9).

قال المراغي: " ومن دلائل قدرته نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته فى الدنيا، وفى ذلك رمز لكم إن كنتم من ذوى الأحلام إلى ما يكون له من المنزلة فى الدار الآخرة"(10).

الفوائد:

1 -

أن الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى اليهود والنصارى وغيرهم من العرب والعجم فكان خاتم النبيين المعقب لهم.

2 -

قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل.

3 -

ومن الفوئاد: أنه لن يدخل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل، فخاطب -سبحانه- أهل الكتاب من اليهود والنصارى في هذه الآية بأنه بعث إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم، والحاجة إليه أعم.

(1) الكشاف: 1/ 619.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 24.

(3)

معاني القرآن: 2/ 162.

(4)

التفسير الميسر: 111.

(5)

تفسير البيضاوي: 2/ 121.

(6)

تفسير المراغي: 6/ 87.

(7)

التفسير الميسر: 111.

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 122.

(9)

تفسير البيضاوي: 2/ 121.

(10)

تفسير المراغي: 6/ 87.

ص: 109

4 -

ومنها: أن النبوة قد ختمت، وفيه الرد على الإمامية الذين يعتقدون أنه لا يخلو زمان من نبي أو وصي قائم مقامه، وهو يعلمون أن بعث النبي أو نصب الوصي واجب عليه تعالى، ولا يعتقد أهل السنة وجوب شيء على البارى تعالى.

وعقيدة الشيعة هذه مخالفة للكتاب والعترة، أما الكتاب فلأن كثيرا من آياته تدل على وجود زمن الفترة وخلوه عن النبوة وآثارها، كما قال الله تعالى:{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترةٍ من الرسل} وغيرها من الآيات. وأيضا تدل آيات كثيرة بالصراحة على ختم النبوة كقوله تعالى {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

وأما أخبار الأئمة في هذا الباب فأزيد من الحد والإحصاء، وقد تواتر عن الإمام علي-رضي الله عنه في صفة الصلاة على النبي في كتب الإمامية هذه العبارة «اللَّهُمَّ داحي المدحوات وبارىء المسموكات وجبار الْقُلُوب على فطراتها شقيها وسعيدها اجْعَل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على مُحَمَّد عَبدك وَرَسُولك الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق» (1).

وأيضا ورد في بعض خطب الإمام علي-رضي الله عنه-المتواترة عند الشيعة هذه العبارة «أرسله على فترة من الرسل، وطول هجعه بين الأمم» (2)، إلى أن قال «وأمين وحيه وخاتم وبشير رحمته ونذير نقمته» (3)، وهذه الخطبة كما تدل على ختم النبوة كذلك تدل على وقوع الفترة أيضا (4).

5 -

ومن اسمائه تعالى: «القدير» : إذ "وصف الله نفسه بأنه قادر على كل شيء، أراده: لا يعترضه عجز ولا فتور"(5).

روي البيهقي عن عبد العزيز قال الحليمي، قال:"و «القدير»: التام القدرة لا يلابس قدرته عجز بوجه"(6).

القرآن

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)} [المائدة: 20]

التفسير:

واذكر -أيها الرسول- إذ قال موسى عليه السلام لقومه: يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم، إذ جعل فيكم أنبياء، وجعلكم ملوكًا تملكون أمركم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه، وقد منحكم من نعمه صنوفًا لم يمنحها أحدًا من عالَمي زمانكم.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [المائدة: 20]، أي:" واذكر -أيها الرسول- إذ قال موسى عليه السلام لقومه"(7).

قوله تعالى: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 20]، أي:" يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله عليكم"(8).

قال ابن عباس: " يقول: عافية الله عز وجل"(9).

قال ابن عيينة: " أيادي الله عندكم وأيَّامه"(10).

(1) غريب الحديث لابن قتيبة: 2/ 143، ومختصر التحفة الاثنى عشرية للدهلوي: 1/ 100.

(2)

الكافي: 1/ 60 ..

(3)

نهج البلاغة، نقلا عن مختصر التحفة الاثنى عشرية للدهلوي: 1/ 100.

(4)

انظر: مختصر التحفة الاثنى عشرية، عبدالعزيز الدهلوي: 1/ 100.

(5)

شأن الدعاء للخطابي: 85.

(6)

الاسما والصفات: 2/ 111.

(7)

التفسير الميسر: 111.

(8)

التفسير الميسر: 111.

(9)

أخرجه الطبري (11623): ص 10/ 159.

(10)

أخرجه الطبري (11622): ص 10/ 159.

ص: 110

قال المراغي: " أي: واذكر أيها الرسول الكريم لبنى إسرائيل وسائر من تبلغهم دعوتك حين قول موسى لقومه بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه وأخرجهم من ذلك البلد الظالم أهله يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم واشكروه على ذلك بالطاعة له، لأن ذلك يوجب مزيدها كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وتركها يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد كما قال تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم: 7] "(1).

قال الطبري: و"الله لم يخصص من النعم شيئًا، بل عمَّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها"(2).

قال السعدي: " {اذكروا نعمة الله عليكم}، بقلوبكم وألسنتكم. فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على العبادة"(3).

قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20]، أي:" إذ جعل فيكم أنبياء"(4).

قال ابن كثير: " أي: كلما هلك نبي قام فيكم نبي، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده. وكذلك كانوا، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته، حتى ختموا بعيسى، عليه السلام، ثم أوحى الله تعالى إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله، المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم، عليه السلام، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم"(5).

وفي قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20]، وجهان (6):

أحدهما: أنهم الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى.

والثاني: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى.

قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، أي:" وجعلكم ملوكًا تملكون أمركم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه"(7).

قال قتادة: " كنا نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا"(8).

وقال ابن شَوْذَب: "كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم، واستؤذن عليه، فهو ملك"(9).

وفي قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]، أقوال:

أحدها: لأنهم مَلَكوا أنفسهم بأن خلصهم من استعباد القبط لهم، وهذا قول الحسن (10).

والثاني: لأن كل واحد ملك نفسه وأهله وماله، وهذا قول السدي (11).

والثالث: لأنهم كانوا أول من ملك الخدم من بني آدم، وهو قول قتادة (12).

والرابع: أنهم جُعِلُوا ملوكاً بالمَنِّ والسَّلْوَى والحَجَر، وهذا قول ابن عباس (13).

والخامس: وقيل: المعنى: جعلكم ذوي منازل لا يُدْخَلُ عليكم فيها إلا بإذن (14).

(1) تفسير المراغي: 6/ 88 - 89.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 160.

(3)

تفسير السعدي: 227.

(4)

التفسير الميسر: 111.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 72.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 24.

(7)

التفسير الميسر: 111.

(8)

أخرجه الطبري (11624): ص 10/ 160 - 161.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 73.

(10)

انظر: النكت والعيون: 2/ 24.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11636): ص 10/ 163.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11634): ص 10/ 163.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 24.

(14)

انظر: الهداية إلى بلوغ النهاية، مكي: 3/ 1658.

ص: 111

والسادس: أن الملك مركب وخادم ودار. وهذا قول الحسن أيضا (1).

والسابع: أن كل من ملك داراً وزوجة وخادماً، وفهو ملك من سائر الناس، وهذا قول عبد الله بن عمرو بن العاص (2)، وابن عباس-في ر رواية عنه- (3)، والحسن (4)، ومجاهد (5)، وزيد بن أسلم (6).

وقد روى زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له بيت يأوي إليه وزوجة وخادم، فهو ملك"(7).

قال ابن كثير: " هذا مرسل غريب. وقال مالك: بيت وخادم وزوجة"(8).

وعن أبو عبد الرحمن الحبلي قال: "سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال: إنّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك"(9).

وعن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة، كُتِب ملكا"(10).

قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، أي:" وقد منحكم من نعمه صنوفًا لم يمنحها أحدًا من عالَمي زمانكم"(11).

قال ابن كثير: " يعني عالمي زمانكم، فكأنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16]، وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140] "(12).

واختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين على ثلاثة أقوال:

أحدها: المن والسلوى والغمام والحجر، وهو قول مجاهد (13).

الثاني: أنه الدَّار والخادِم والزوجة. وهذا قول ابن عباس (14).

والثالث: كثرة الأنبياء فيهم والآيات التي جاءتهم (15).

والصواب-والله أعلم- هو قولُ من قال: " {وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين}، في سياق قوله: {اذكروا نعمة الله عليكم}، ومعطوفٌ عليه، ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله: "وآتاكم ما

(1) انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 73.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11625): ص 10/ 160.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11633): ص 10/ 163.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11627): ص 10/ 160 - 161.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11635): ص 10/ 163.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11626): ص 10/ 160.

(7)

أخرجه الطبري (11626): ص 10/ 161.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 73.

(9)

أخرجه الطبري (11625): ص 10/ 161.

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير: 3/ 73. وفي إسناده ابن لهيعة ودراج ضعيفان ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.

(11)

التفسير الميسر: 111.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 74.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11640)، و (11641): ص 10/ 164.

(14)

انظر: تفسير الطبري (11642)، و (11643): ص 10/ 164.

(15)

انظر: النكت والعيون: 2/ 25.

ص: 112

لم يؤت أحدًا من العالمين" مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم"(1).

واختلف فيمن عنوا بالخطاب في وفي قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20]، على قولين:

أحدهما: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أبي مالك (2)، وسعيد بن جبير (3).

والثاني: عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم. وهذا قول ابن عباس (4)، ومجاهد (5).

والراجح-والله أعلم- انه خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه، لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله وكرامته، ما أوتي قومُه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين (6).

قال ابن كثير: " الجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم، والمقصود: أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجا، وأكرم نبيا، وأعظم ملكا، وأغزر أرزاقا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع مملكة، وأدوم عزا، قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها، عند الله، عند قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} من سورة آل عمران"(7).

ويمكن القول بأن المقصود بالتفضيل الوارد في هذه الآية الكريمة ثلاثة وجوه، وهي:

أحدها: إنّ المقصود بالعالم في الآية الجمع الكثير من الناس، وعلى هذا يكون تفضيل بني إسرائيل على مجموعةٍ من الناس لا على جميع البشر، والدليل على ذلك مأخوذٌ من قولِ الله سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71]، فالمُراد بالعَالمين الواردة في الآية لا يشمل جَميع الناس، إنّما هو مَخصوصٌ بفئةٍ مُعيّنة من الخلق، وكذلك الأمر بالنسبة للأرض لا يُراد بها كلّ بقاعها وإنّما إشارة إلى أرض مُعيّنة ومخصوصة.

والثاني: المقصود بالتفضيل هنا أي بما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من النعم دون غيرهم، والتي خصَّهم بها عن الناس، بالإضافة إلى جعل النبوة والملك في أسلافهم، وذلك باعتبار أنّ الخطاب كان موجهاً لهم وقت نزول القرآن الكريم، ودليل ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].

والثالث: المقصود بالتفضيل الوارد في الآية هو فقط في زمانهم، والدليل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى:{وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32]. وبه قال قتادة (8)، ومجاهد (9)، وابن زيد (10)، وأبو العالية (11). وهذا مذهب الجمهور (12).

الفوائد:

(1) تفسير الطبري: 10/ 166.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11637): ص 10/ 164.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11637): ص 10/ 164.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11639): ص 10/ 164.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11638): ص 10/ 164.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 166.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 74.

(8)

أخرجه الطبري (868): ص 2/ 24.

(9)

أخرجه الطبري (870): ص 2/ 24.

(10)

أخرجه الطبري (872): ص 2/ 24.

(11)

أخرجه الطبري (869): ص 2/ 24.

(12)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 74.

ص: 113

1 -

أن شعب بني إسرائيل تفضّل الله عليهم بكثير من النعم، وبعث فيهم كثيراً من الأنبياء والرسل لدعوتهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر والفساد.

2 -

من فوائد الآية: أنه يجب على بني إسرائيل أن يذكروا نعمة الله عليهم، فيقوموا بشكرها؛ ومن شكرها أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم.

3 -

ومنها: إظهار أن هذه النعمة لم تأت بكسبهم، ولا بكدِّهم، ولا بإرث عن آبائهم؛ وإنما هي بنعمة الله عليهم؛ لقوله تعالى:{اذكروا نعمة الله عليكم} .

4 -

وقد بين لهم موسى أصناف هذه النعم التي منحها لهم مولاهم وحصرها فى ثلاثة أشياء:

أحدها: -وهو أرفعها قدرا وأعلاها ذكرا-، أنه جعل كثيرا منهم أنبياء كموسى وهرون ومن كان قبلهما، وقد حكى ابن جرير أن السبعين الذين اختارهم موسى ليصعدوا معه الجبل حين يصعده لمناجاة ربه صاروا كلهم أنبياء، والمعروف أن النبوة عند أهل الكتاب المراد منها الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع فى المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل، وقد كان جميع أنبيائهم من بعد موسى يحكمون بما فى التوراة ويعملون بها حتى المسيح عليه السلام.

والثاني: أنه جعلهم ملوكا، والمراد من الملك هنا الحرية فى تدبير أمورهم وأمور أسرهم بأنفسهم، وفى هذا من تعظيم هذه النعمة ما لا يخفى.

لا شك أن من كان متمتعا بمثل هذا كان متمتعا بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية فى التصرف فى سياسة بيته، والناس يقولون إلى الآن لمن كان مخدوما مع عشيرته هانئا فى معيشته مالكا لمسكنه "هذا ملك- أو ملك زمانه" يريدون أنه يعيش عيشة الملوك.

والثالث: أنه آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، أي عالمى زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للطغاة من الملوك فقد خصهم بأنواع عظيمة من الإكرام، فقد فلق البحر لهم وأهلك عدوهم، وأورثهم أموالهم، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأظل فوقهم الغمام.

5 -

ومن فوائد الآية: أن الله تعالى إذا فضل أحداً بعلم، أو مال، أو جاه فإن ذلك من النعم العظيمة؛ لقوله تعالى:{وأني فضلتكم على العالمين} ، خصها بالذكر لأهميتها.

6 -

ومنها: تفاضل الناس، وأن الناس درجات؛ وهذا أمر معلوم. حتى الرسل يفضل بعضهم بعضاً، كما قال تعالى:{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253]، وقال تعالى:{ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 55].

القرآن

{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)} [المائدة: 21]

التفسير:

يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة -أي المطهرة، وهي «بيت المقدس» وما حولها- التي وعد الله أن تدخلوها وتقاتلوا مَن فيها من الكفار، ولا ترجعوا عن قتال الجبارين، فتخسروا خير الدنيا وخير الآخرة.

قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]، أي:" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة -أي المطهرة، وهي «بيت المقدس» وما حولها"(1).

قال ابن كثير: " أي: المطهرة"(2).

قال المراغي: " {المقدسة}، المطهرة من الوثنية، لما بعث الله فيها من الأنبياء الدعاة إلى التوحيد"(3).

(1) التفسير الميسر: 111.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

(3)

تفسير المراغي: 6/ 90.

ص: 114

قال الزجاج: " وإنما سمي بالمقدس لأن المقدس: المكان الذي يتطهر فيه. فتأويله البيت الذي يطهر الإنسان من العيوب، ومن هذا قيل: القدس، أي: الذي يتطهر منه، كما قيل: مطهرة لما يتوضأ منه، إنما هي مفعلة من الطهر"(1).

أخرج الطبري عن مجاهد: " {الأرض المقدسة}، قال: المباركة"(2).

وفي قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21]، وجوه:

أحدها: أرض بيت المقدس (أرض اريحا)، وهذا قول ابن عباس (3)، والسدي (4)، وابن زيد (5).

قال القاسمي: " يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين، فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه"(6).

والثاني: طور وما حوله. وهذا قول مجاهد (7).

والثالث: هي الشام، وهذا قول قتادة (8).

والرابع: دمشق وفلسطين وبعض الأردن، ذكره الطبري (9)، والزجاج (10).

قال الإمام الطبري: ": وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك"(11).

قوله تعالى: {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21]، أي:" - التي وعد الله أن تدخلوها وتقاتلوا مَن فيها من الكفار"(12).

قال ابن كثير: " أي: التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل: أنه وراثة من آمن منكم"(13).

قال الزمخشري: أي: " قسمها لكم وسماها، أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم"(14).

قال القاسمي: أي: " التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره"(15).

أخرج الطبري عن محمد بن إسحاق، " {التي كتب الله لكم}، التي وهب الله لكم"(16).

وعن السدي: " {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم}، التي أمركم الله بها"(17).

(1) معاني القرآن: 2/ 163.

(2)

تفسير الطبري (11651): ص 10/ 168.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11650): ص 10/ 168.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11649): ص 10/ 168.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11648): ص 10/ 168.

(6)

محاسن التأويل: 4/ 101.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11644) - (11646): ص 10/ 167.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11647): ص 10/ 167.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 168.

(10)

انظر: معاني القرآن: 2/ 163.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 168.

(12)

التفسير الميسر: 111.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

(14)

الكشاف: 1/ 620.

(15)

محاسن التأويل: 4/ 101.

(16)

تفسير الطبري (11653): ص 10/ 169.

(17)

أخرجه الطبري (11654): ص 10/ 169.

ص: 115

قال السعدي: " أخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم، إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله، وأنه قد كتب الله لهم دخولها، وانتصارهم على عدوهم"(1).

قال السمرقندي: " {التي كتب الله لكم}، يعني: التي أمركم الله أن تدخلوها، ويقال: التي وعد لإبراهيم أن يكون ذلك له ولذريته، وذلك أن الله وعد لإبراهيم أن يكون له مقدار ما يمد بصره فصار ذلك ميراثا منه حين خرج إبراهيم- عليه السلام فقال له جبريل: انظر يا إبراهيم. فنظر فقال: يعطي الله تعالى لك ولذريتك مقدار مد بصرك من الملك (2). وهي: أرض فلسطين وأردن وما حولهما. فقال موسى لقومه: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم يعني التي جعل لأبيكم إبراهيم- عليه السلام ولكم ميراث منه"(3).

وقال القتبي: "أصل «الكتاب» : ما كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ، ثم يتفرع منه المعاني.

ويقال: «كتب» ، يعني: قضى، كما قال:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51].

ويقال: «كتب» ، أي: فرض كما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، أي فرض.

ويقال: {كتب عليكم} ، أي: جعل، كما قال:{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} [آل عمران: 53].

ويقال: «كتب» ، أي: أمر. كما قال: {ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} ، يعني: أمر الله لكم بدخولها. قال: ويقال كتب هاهنا بمعنى جعل" (4).

قوله تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، أي:" ولا ترجعوا عن قتال الجبارين"(5).

قال السعدي: " أي: لا ترجعوا"(6).

قال السمرقندي: " يعني: لا ترجعوا عما أمرتم به من الدخول"(7).

قال ابن كثير: " أي: ولا تنكلوا عن الجهاد"(8).

قال القاسمي: " أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا"(9).

قال المراغي: " أي: لا نرجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل والهدى والرشاد إلى الوثنية والفساد فى الأرض، بالظلم والبغي واتباع الأهواء"(10).

قال الطبري: أي: " امضُوا، أيها القوم، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة ولا ترتدوا يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدّين على أدباركم يعني: إلى ورائكم، ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به، من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأنّ الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا"(11).

قال الزمخشري: أي: " ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا، وقيل: لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا: ليتنا متنا بمصر. وقالوا:

(1) تفسير السعدي: 227.

(2)

وذكره الزمخشري في الكشاف: 1/ 620، فقال:" وقيل: سماها الله لإبراهيم ميراثا لولده حين رفع على الجبل، فقيل له. انظر، فلك ما أدرك بصرك". ولم أقف عليه فيما توفر عندي من المصادر.

(3)

بحر العلوم: 1/ 381.

(4)

بحر العلوم: 1/ 381.

(5)

التفسير الميسر: 111.

(6)

تفسير السعدي: 227.

(7)

بحر العلوم: 1/ 381.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

(9)

محاسن التأويل: 4/ 101.

(10)

تفسير المراغي: 6/ 90.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 170.

ص: 116

تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر. ويجوز أن يراد: لا ترتدوا على أدباركم في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم" (1).

قال قتادة: " أمروا بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة"(2).

وفي قوله تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21]، وجهان (3):

أحدهما: لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته.

والثاني: لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها.

قوله تعالى: {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، أي:"، فتخسروا خير الدنيا وخير الآخرة"(4).

قال القاسمي: " أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة"(5).

قال السمرقندي: أي: " فتصيروا خاسرين بفوات الدرجات ووجوب الدركات، أي مغبونين في العقوبة"(6).

قال السعدي: أي: "قد خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر على الأعداء وفتح بلادكم. وآخرتكم بما فاتكم من الثواب، وما استحققتم -بمعصيتكم- من العقاب"(7).

قال المراغي: " أي: فإن فى هذا الرجوع خسرانا لكم، إذ تخسرون فيه هذه النعم، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء شكركم، فتحرمون من خيراتها وبركاتها"(8).

الفوائد:

1 -

أن موسى عليه السلام أُمر بالجهاد لنشر التّوحيد ومحاربة الشرك والكفر بالله وتخليص الأماكن المقدَّسة من قبضة الوثنييِّن، وهذا من أغراض الجهاد في سبيل الله.

2 -

بيان فضل الشام.

القرآن

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)} [المائدة: 22]

التفسير:

قالوا: يا موسى، إن فيها قومًا أشداء أقوياء، لا طاقة لنا بحربهم، وإنَّا لن نستطيع دخولها وهم فيها، فإن يخرجوا منها فإنَّا داخلون.

قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22]، أي:" قالوا: يا موسى، إن فيها قومًا أشداء أقوياء، لا طاقة لنا بحربهم"(9).

قال مقاتل: " يعني: قتالين أشداء يقتل الرجل منهم العصابة منا"(10).

قال قتادة: " ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم "(11).

وعن الضحاك: " {إن فيها قومًا جبارين}، قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم"(12).

قال ابن كثير: " أي: اعتذروا بأن في هذه البلدة - التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها - قوما جبارين، أي: ذوي خلَقٍ هائلة، وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مُصَاولتهم"(13).

(1) الكشاف: 1/ 620.

(2)

أخرجه الطبري (11655): ص 10/ 171.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 25.

(4)

التفسير الميسر: 111.

(5)

محاسن التأويل: 4/ 101.

(6)

بحر العلوم: 1/ 381.

(7)

تفسير السعدي: 227.

(8)

تفسير المراغي: 6/ 90.

(9)

التفسير الميسر: 111.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 466.

(11)

أخرجه الطبري (11658): ص 10/ 173.

(12)

أخرجه الطبري (11662): ص 10/ 173 - 174.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

ص: 117

قال الطبري: " سموهم جبّارين، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم"(1).

قال الزجاج: " تأويل «الجبار» من الآدميين: العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد، والله- عز وجل الجبار العزيز، وهو الممتنع من أن يزل، والله عز وجل يأمر بما أراد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وإنما وصفوهم بالقدرة والتكبر، والمنعة"(2).

قال القرطبي: {جبارين} ، " أي: عظام الأجسام طوال، وقد تقدم، يقال: نخلة جبارة أي طويلة. والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر

وقيل: هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو باطل. وقيل: إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه" (3).

وأصل «الجبار» ، المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له بغيًا على الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه جبار، وإنما هو فعّال من قولهم: جبر فلان هذا الكسر، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول العجاج (4):

قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ

وَعَوَّرَ الرَّحمنُ مَنْ وَلَّي العَوَرْ

يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره الجبار، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته (5).

قال ابن عباس: " أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم"(6).

قال ابن كثير: " وفي هذا الإسناد نظر"(7).

وقال الربيع: " إن موسى عليه السلام قال لقومه: إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال: سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ عظمًا وقوة، وإنه فيما ذكر أبصرهم أحد الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم: فإنّ

(1) تفسير الطبري: 10/ 171.

(2)

معاني القرآن: 2/ 163.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 126.

(4)

ديوانه: 15، واللسان (جبر)(عور)، وهو أول أرجوزته التي مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد مضت منها أبيات، وذكرنا خبرها فيما سلف، انظر 1: 190/ 2: 157/ 3: 229/ 4: 321. وقوله: قد جبر الدين الإله، من قولهم: جبرت العظم متعديًا، فجبر، لازمًا، أي: انجبر العظم نفسه. والعور في هذا الشعر هو قبح الأمر وفساده، وترك الحق فيه، وليس من عور العين. وعور الشيء قبحه. يدعو فيقول: قبح الله من اتبع الفساد واستقبله بوجهه. من قولهم ولي الشيء وتولاه، أي اتبعه وفي التنزيل: ولكل وجهة هو موليها، أي مستقبلها ومتبعه.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 172.

(6)

أخرجه الطبري (11657): ص 10/ 173.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

ص: 118

هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم! ! وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب" (1).

وقرأ ابن السميفع: «قالوا يا موسى فيها قوم جبارون» (2).

قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة: 22]، أي:" وإنَّا لن نستطيع دخولها وهم فيها"(3).

قال النسفي: أي: " بالقتال"(4).

قال الطبري: أي: " فقالوا: إنا لن ندخلها حتى يخرج من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، جبنًا منهم، وجزعًا من قتالهم"(5).

قال ابن كثير: أي: " ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها"(6).

قال القرطبي: " أي: حتى يسلموها لنا من غير قتال. وقيل: قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان، فإنهم قالوا: {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} "(7).

قال أبو حيان: " هذا تصريح بالامتناع التام من أن يقاتلوا الجبابرة، ولذلك كان النفي بلن. ومعنى حتى يخرجوا منها: بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله به فيخرجون"(8).

قوله تعالى: {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22]، أي:" فإِن خرجوا منها هؤلاء الجبارون دخلناها"(9).

قال النسفي: أي: " بغير قتال، {فإنا داخلون} بلادهم حينئذ"(10).

قال ابن كثير: أي: " فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم"(11).

قال أبو حيان: "قال أكثر المفسرين: لم يشكوا فيما وعدهم الله به، ولكن كان نكوصهم عن القتال من خور الطبيعة والجبن الذي ركبه الله فيهم، ولا يملك ذلك إلا من عصمه الله وقال تعالى:{افَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 246].

وقيل: قالوا ذلك على سبيل الاستبعاد أن يقع خروج الجبارين منها كقوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] " (12).

أخرج الطبري عن ابن إسحاق، "أن كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على موسى وهارون، فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر"(13).

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" لما نزل موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا - وهم النقباء الذين ذكر الله، فبعثهم ليأتوه بخبرهم، فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: نحن قوم موسى، بعثنا نأتيه بخبركم. فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل، فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدروا قَدْر فاكهتهم فلما أتوهم قالوا: يا موسى، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} "(14).

وعن يحيى بن عبد الرحمن قال: "رأيت أنس بن مالك أخذ عصا، فذرع فيها بشيء، لا أدري كم ذرع، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا وخمسين، ثم قال: هكذا طول العماليق"(15).

وقال مقاتل: " طول كل رجل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد وكان عوج بن عناق بنت آدم فيهم"(16).

وقال الكلبي: "طول كل رجل منهم ثمانون ذراعا"(17).

وقد ذكر القرطبي من الإسرائيليات التي لايعول عليها، فقال:" قيل: كان هؤلاء من بقايا عاد. وقيل: هم من ولد عيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف «2» ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا، قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله. وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته. وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله. وقيل: بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم (18) سنة. ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم. وقال الكلبي: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت"(19).

قال ابن كثير: "وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق، بنت آدم، عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع، تحرير الحساب! وهذا شيء يستحي من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى خلق آدم وطوله ستون ذراعًا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن" (20).

ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زِنْية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال:{رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وقال تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} (14)[الشعراء: 119 - 120] وقال تعالى: قَال {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟ ! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له:«عوج بن عنق» نظر، والله أعلم" (21).

(1) أخرجه الطبري (11659): ص 10/ 173 - 174.

(2)

انظر: البحر المحيط: 4/ 218.

(3)

التفسير الميسر: 111.

(4)

تفسير النسفي: 1/ 439.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 175.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 127.

(8)

البحر المحيط: 4/ 218.

(9)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 175.

(10)

تفسير النسفي: 1/ 439.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 75.

(12)

البحر المحيط: 4/ 218.

(13)

تفسير الطبري (11663): ص 10/ 175.

(14)

رواه ابن أبي حاتم، كما في تفسير ابن كثير: 3/ 76.

(15)

رواه ابن أبي حاتم، كما في تفسير ابن كثير: 3/ 76.

(16)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 466.

(17)

بحر العلوم: 1/ 382.

(18)

ي صار لهم جسرا يعبرون عليه! .

(19)

تفسير القرطبي: 6/ 127.

(20)

رواه البخاري في صحيحه برقم (3326) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2841) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(21)

تفسير ابن كثير: 3/ 76.

ص: 119

الفوائد:

1 -

فضح اليهود بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم.

2 -

أن بني اسرائيل خذلوا أنبياءهم ولم يقوموا بنصرهم.

3 -

أن بني إسرائيل كانوا قوماً جبناء: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} ، وقالوا:{وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} ، وهذا منتهى المهانة ومنتهى السُّخرية، لأن الكفار ليسوا بخارجين إلَاّ بالجهاد والجلاد والاستشهاد في سبيل الله.

القرآن

{قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)} [المائدة: 23]

التفسير:

قال رجلان من الذين يخشون الله تعالى، أنعم الله عليهما بطاعته وطاعة نبيِّه، لبني إسرائيل: ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب مدينتهم، أخْذًا بالأسباب، فإذا دخلتم الباب غلبتموهم، وعلى الله وحده فتوكَّلوا، إن كنتم مُصدِّقين رسوله فيما جاءكم به، عاملين بشرعه.

قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23]، أي:" قال رجلان من الذين يخشون الله تعالى، أنعم الله عليهما بطاعته وطاعة نبيِّه، لبني إسرائيل"(1).

قال السمرقندي: " يعني: يوشع بن نون وكالب من الذين يخافون الله تعالى أنعم الله عليهما بالإسلام"(2).

قال الزمخشري: " هما كالب ويوشع من الذين يخافون من الذين يخافون الله ويخشونه، كأنه قيل: رجلان من المتقين"(3).

قال ابن عباس: " والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن النون، وكالوب بن يوفنة"(4). وروي عن قتادة مثل ذلك (5).

قال عطاء: " كالوب، ويوشع بن النون فتى موسى"(6).

قال مجاهد: ": كلاب بن يافنا، ويوشع بن نون"(7). " وهما من النقباء"(8).

قال السدي: " وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى"(9).

وعن مجاهد أيضا في قصة ذكرها، قال:"فرجع النقباء، كلُّهم ينهى سِبْطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يافنة، يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما"(10).

وأخرج الطبري عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال: "فرجعوا يعني النقباء الاثنى عشر إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة، قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه، إلا هذين الرجلين يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة فإنهما كتما ولم

(1) التفسير الميسر: 111.

(2)

بحر العلوم: 1/ 382.

(3)

الكشاف: 1/ 620.

(4)

أخرجه الطبري (11671): ص 10/ 177 - 178.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11672): ص 10/ 178.

(6)

أخرجه الطبري (11670): ص 10/ 177.

(7)

أخرجه الطبري (11664): ص 10/ 176.

(8)

أخرجه الطبري (11665): ص 10/ 176.

(9)

أخرجه الطبري (11669): ص 10/ 177.

(10)

أخرجه الطبري (11666): ص 10/ 176.

ص: 120

يخبرا به أحدًا، وهما اللذان قال الله عز وجل:{قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما} ، إلى قوله:{وبين القوم الفاسقين} " (1).

وروي عن ابن عباس ايضا، قوله:{ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} ، قال:"هي مدينةُ الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثَنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من عِنب بوِقْر الرجل، فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قَدْر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون! قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، وكانا من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون، فقالا لموسى: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكَّلوا إن كنتم مؤمنين} "(2).

روي عن الربيع: "أن موسى قال للنقباء لمَّا رجعوا فحدثوه العجبَ: لا تحدثوا أحدًا بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب - فقالا {ادخلوا عليهم الباب}، إلى {إن كنتم مؤمنين} "(3).

قال الطبري: " وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين من قوم موسى: يوشع بن نون وكالب بن يافنا، أنهما وفَيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل الذين أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين بما رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه

وأما قوله: أنعم الله عليهما، فإنه يعني: أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل، الذي حدّث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء، وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف" (4).

وفي تفسير قوله تعالى: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة: 23]، ثلاثة وجوه

أحدهم: يخافون الله، ويسنده قراءة قتادة:«يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا» (5).وهو الصحيح.

الثاني: يخافهم بنو إسرائيل، ويشهد له قراءة سعيد بن جبير «يُخَافُونَ» ، بضم الياء (6)، وكذلك، قوله:{أنعم الله عليهما} ، كأنه قيل: من الخوفين (7).

قال الطبري: " وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل: {ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون}، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتَّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل، وإن كانوا لهم في الدين مخالفين"(8).

والثالث: يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم. ذكره القرطبي (9).

والرابع: يخافون الجبارين، أنعم الله عليهما فلم يخافا وصدقا في مقالتهما، ولم يمنعهم خوفهم من قول الحق (10). اختاره القرطبي (11).

(1) تفسير الطبري (11668): ص 10/ 177.

(2)

أخرجه الطبري (11676): ص 10/ 180.

(3)

أخرجه الطبري (11673): ص 10/ 178.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 176 - 181.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11674): ص 10/ 179.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11675): ص 10/ 179.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 620.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 179.

(9)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 127.

(10)

انظر: بحر العلوم: 1/ 382، والنكت والعيون: 2/ 26.

(11)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 127.

ص: 121

والخامس: وقال الضحاك: "هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى"(1)، فمعنى {يخافون} ، على هذا، أي: من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله (2).

والسادس"وقيل: هو من الإخافة، ومعناه من الذين يخوفون من الله بالتذكرة والموعظة. أو يخوفهم وعيد الله بالعقاب. أفاده الزمخشري (3).

قال أبو السعود: " أي: يخافون الله تعالى دون العدو ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه، وبه قرأ ابن مسعود وفيه تعريض بأن من عداهما لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو"(4).

وفي قوله تعالى: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23]، وجوه:

أحدهما: بالتوفيق للطاعة (5).

والثاني: بالإِسلام، وهو قول الحسن (6). وقال الزجاج:" بالإيمان"(7).

والثالث: بالخوف، قاله سهل بن علي (8).

والرابع: بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبّارين. وهذا قول الضحاك (9).

قال أبو السعود: " {أنعم الله عليهما} ، أي: بالتثبيت وربط الجأش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده أو بالإيمان وهو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض (10).

قال سهل: " أنعم الله عليهما بالخوف والمراقبة، إذ الخوف والهم والحزن يزيد في الحسنات، والأشر والبطر يزيد في السيئات"(11).

وفي هذين الرجلين قولان:

أحدهما: أنهما من النقباء يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، وهذا قول ابن عابس (12)، ومجاهد (13)، وقتادة (14)، والسدي (15).

والثاني: أنهما رجلان، كانا من أهل مدينة الجبارين أنعم الله عليهما بالإِسلام، واتّبعا موسى وهارون. وهذا مروي عن ابن عباس (16).

قوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23]، أي:" ادخلوا على هؤلاء الجبارين باب مدينتهم، أخْذًا بالأسباب، فإذا دخلتم الباب غلبتموهم"(17).

قال السمرقندي: " يعني: أن القوم إذا رأوا كثرتكم انكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم، فتكونوا غالبين"(18).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 12.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 127.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 620.

(4)

تفسير أبي السعود: 3/ 24.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 26.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 26.

(7)

انظر: معاني القرآن: 2/ 163.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11677): ص 10/ 181.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11679): ص 10/ 182.

(10)

تفسير ابي السعود: "3/ 24.

(11)

تفسير التستري: 58.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11671): ص 10/ 177 - 178.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11665): ص 10/ 176.

(14)

انظر: تفسير الطبري (11672): ص 10/ 178.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11669): ص 10/ 177.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11676): ص 10/ 180.

(17)

التفسير الميسر: 111.

(18)

بحر العلوم: 1/ 382.

ص: 122

قال القرطبي: " قالا لبني إسرائيل: لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب. ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله"(1).

قال الزجاج: " فكأنهما علما أن ذلك الباب إذا دخل منه وقع الغلب"(2).

قال الطبري: أي: " فقالا لهم: ادخلوا عليهم، أيها القوم بابَ مدينتهم، فإن الله معكم، وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم"(3).

قال الزمخشري: " قالا لهم: إن العمالقة أجسام لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنكم غالبوهم، يشجعانهم على قتالهم"(4).

قال ابن عطية: " المعنى: اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب، وقوله: {فإنكم غالبون} ظن منهما ورجاء وقياس أي إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم"(5).

عن مجاهد في قول الله: " {عليهم الباب}، قرية الجبَّارين"(6).

قال أبو السعود: " أي: قالوا: مخاطبين لهم ومشجعين: {ادخلوا عليهم الباب} أي باب بلدهم وتقديم الجار والمجرور عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغضوهم في المضيق وامنعوهم في البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا {فإذا دخلتموه} أي بلدهم وهم فيه {فإنكم غالبون} من غير حاجة إلى القتال فان قد رأيناهم وشاهدنا أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسادهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر وقيل إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى كتب الله لكم أو لما علما من سنته تعالى في نصره رسله وما عهدا من صنعه تعالى لموسى عليه السلام من طهر أعدائه والأول أنسب بتعليق الغلبة بالدخول"(7).

وفي قوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23]، وجهان:

أحدهما: إنما قالوه لعلمهم بأن الله كتبها لهم، لقوله تعالى:{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21](8).

والثاني: علما أنهم غالبون، من جهة إخبار موسى بذلك. أفاده الزمخشري (9).

والثالث: انهما علما بذلك، من جهة غلبة الظن وما تبينا من عادة الله في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله لموسى في قهر أعدائه، وما عرفا من حال الجبابرة. ذكره الزمخشري (10).

والرابع: لعلمهم بأن الله ينصرهم على أعادئه، ولم يمنعهم خوفهم من القول الحق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول الحق إذا رآه"(11).

قال قتادة: ": ذكر لنا أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغَّبا في ذلك، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك"(12).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 127.

(2)

انظر: معاني القرآن: 2/ 163.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 182.

(4)

الكشاف: 1/ 620.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 175.

(6)

أخرجه الطبري (11681): ص 10/ 183.

(7)

تفسير أبي السعود: 3/ 24.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 621، والنكت والعيون: 2/ 26.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 621.

(10)

انظر: الكشاف: 1/ 621.

(11)

أخرجه أحمد (11831): ص 18/ 346 [صحيح].

(12)

أخرجه الطبري (11680): ص 10/ 183.

ص: 123

أخرج الطبري عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا قدِّام جماعة بني إسرائيل، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل: إن الأرض مررنا بها وحسِسْناها صالحًة، رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا، وإنها .. تفيض لبنًا وعسلا ولكن افعلوا واحدة: لا تعصُوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم خُبْزُنا، ومُدَفَّعون في أيدينا، إن كبرياءهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة " (1).

وفي قراءة ابن مسعود: «عليهما ويلكم ادخلوا» (2).

قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، أي:" وعلى الله وحده فتوكَّلوا، إن كنتم مُصدِّقين رسوله فيما جاءكم به، عاملين بشرعه"(3).

قال القرطبي: أي: " مصدقين به، فإنه ينصركم"(4).

قال السمرقندي: " يعني: فثقوا بأنه ناصركم إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى"(5).

قال أبو السعود: أي: " {وعلى الله} تعالى خاصة {فتوكلوا} بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزل من التأثير وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير {إن كنتم مؤمنين} أي مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما"(6).

قال ابن عطية: " قولهما: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين}، يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر"(7).

الفوائد:

1 -

بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلو زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.

2 -

فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.

3 -

الإعتماد على الله في تحقيق النصر، وعدم الإغترار بقوة الأعداء؛ فإن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء، وقد وعد به المؤمنين والله لا يخلف الميعاد.

4 -

فضيلة التوكل على الله، وهو اعتماد القلب على الله إيمانا بكفايته سبحانه لعبده.

قال البيهقي: "وجملة التوكل تفويض الأمر إلى الله عز وجل والثقة بحسن النظر فيما أمر به وأباحه، واحده من وكل يكل، إلا أنه يقال: وكل الأمر إلى فلان وقد توكل على الله. لأن المعنى يحمل ذلك ويكله اعتمادًا على الله جل ثناؤه وهو من باب الاختصار.

واختلف أهل المصائر في ذلك:

- فقال قائلون: التوكل الصحيح ما كان من قطع الأسباب، فإذا جاء السبب إلى المراد ارتفع التوكل.

- وقال آخرون: كل أمر بين الله تعالى لعباده فيه طريقًا ليسلكوه إذا عرض لهم والتوكل يقع منهم في سلوك تلك السبيل والتسبب به إلى المراد، فإن فعلوا ذلك متوكلين على الله في أن ينجح سعيهم ويبلغهم مرادهم كانوا آتين الأمر من بابه، ومن جرد التوكل عن السبب بما جعله الله سببًا، فلم يفعل ما أمر به ولم يأت الأمر من بابه" (8).

(1) تفسير الطبري (11679): ص 10/ 182 - 183.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 175.

(3)

التفسير الميسر: 111.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 127.

(5)

بحر العلوم: 1/ 382.

(6)

تفسير أبي السعود: 3/ 24.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 175.

(8)

المنهاج في شعب الإيمان: 2/ 5.

ص: 124

ويكفي في فضيلة التوكل على الله، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب، هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون"(1).

القرآن

{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)} [المائدة: 24]

التفسير:

قال قوم موسى له: إنا لن ندخل المدينة أبدًا ما دام الجبارون فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلاهم، أما نحن فقاعدون هاهنا ولن نقاتلهم. وهذا إصرارٌ منهم على مخالفة موسى عليه السلام.

قوله تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: 24]، أي:" قال قوم موسى له: إنا لن ندخل المدينة أبدًا ما دام الجبارون فيها"(2).

قال الزجاج: " أي: لسنا نقبل مشورة في دخوولها، ولا أمرا، وفيها هؤلاء الجبارون، فأعلم الله جل ثناؤه أن أهل الكتاب هؤلاء غير قابلين من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخلاف شأنهم، وفي هذا الإعلام دليل على تصحيح نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أعلمهم ما لا يعلم إلا من قراءة كتاب أو إخبار، أو وحي، والنبي صلى الله عليه وسلم منشؤه معروف بالخلو من ذكر أقاصيص بني إسرائيل، وبحيث لا يقرأ كتبهم، فلم يبق في علم ذلك إلا الوحي"(3).

قال الزمخشري: " {لن ندخلها}، نفى لدخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس، و {أبدا}: تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، و {ما داموا فيها}: بيان للأبد"(4).

قال الراغب: " إن قيل: ما فائدة الجمع بين قوله: {أبدا} ، وقوله:{ما داموا فيها} ؟

قيل: إن امتناعهم من دخولها لكون هؤلاء فيها، وإن اعتبار ذلك ليس في وقت دون وقت بل كل وقت، ما يدخلونها من كونهم فيها" (5).

قوله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24]، أي:" فاذهب أنت وربك فقاتلاهم"(6).

قال مقاتل: " ينصرك عليهم فقاتلا"(7).

قال الطبري: أي: " لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم"(8).

وقوله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا} [المائدة: 24]، وجوه (9):

أحدها: أنهم قالوه على وجه المجاز، بمعنى: اذهب أنت فقاتل وليعنك ربك، أو وربك معين لك. وهذا قول أبي عبيدة (10)، وابن عطية (11).

(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتوي، برقم (5704)، ومسلم في كتاب الإيمان باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بدون حساب ولا عذاب برقم (218).من حديث عمران بن حصين الأزدي ..

(2)

التفسير الميسر: 112.

(3)

معاني القرآن: 2/ 163.

(4)

الكشاف: 1/ 621.

(5)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 317.

(6)

التفسير الميسر: 112.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 467.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 185.

(9)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 4/ 43، وتفسير القرطبي: 6/ 128، والمحرر الوجيز: 2/ 175.

(10)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 160.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 176.

ص: 125

قال ابن عطية: المعنى: "يعينك الله ويقاتل معك ملائكته ونصره، فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي: اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها"(1).

والثاني: معناه: أن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا، وقتاله معك- إن كنت رسوله- أولى من قتالنا.

قال القرطبي: "فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر، لأنهم شكوا في رسالته"(2).

والثالث: أنهم أرادوا: الذهاب الذي هو النقلة.

قال الجصاص: "وهذا تشبيه وكفر من قائله وهو أولى بمعنى الكلام، لأن الكلام خرج مخرج الإنكار عليهم والتعجب من جهلهم، وقد يقال على المجا: ز قاتله الله، بمعنى: أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلي عليهم بالاقتدار وعظم السلطان"(3).

قال القرطبي: " وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك. وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة، وهو معنى قول الحسن، لأنه قال: هو كفر منهم بالله، وهو الأظهر في معنى الكلام"(4).

قال أبو حيان: " ظاهر الذهاب الانتقال، وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة"(5).

والرابع: أرادوا بالـ «ربّ» ، هارون.

ذكر بعض المفسرين: " أن المراد بالـ «ربّ»، هنا: هارون، لأنه كان اسن من «موسى»، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه، وكان معظما في بني إسرائيل محببا لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا: اذهب أنت وكبيرك"(6).

قال ابن عطية: "وهذا تأويل بعيد، وهارون إنما كان وزيرا لموسى وتابعا له في معنى الرسالة، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر"(7).

قلت: وأن تمثيل الصحابي الجليل مقداد بن الأسود بالآية-كما سيأتي- يقتضي أن قوله «ربك» ، إنما أريد به الله تعالى. والله أعلم.

قال القرطبي: " وبالجملة فقد فسقوا بقولهم، لقوله تعالى: {فلا تأس على القوم الفاسقين}، أي: لا تحزن عليهم"(8).

قال الراغب: " ذكر جهلهم وقلة معرفتهم بالله، وأنهم ما قدروا الله حق قدره حيث أمروه أن يستصحبه إلى الجواب استصحاب الأشخاص وبكتهم بامتناعهم من الدخول إما جبنا وإما قصدا إلى العصيان، وأيهما كان فمذموم"(9).

قال الزمخشري: "والظاهر أنهم قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وقلة مبالاة بهما واستهزاء، وقصدوا ذهابهما حقيقة بجهلهم وجفاهم وقسوة قلوبهم التي عبدوا بها العجل وسألوا بها رؤية الله عز وجل جهرة. والدليل عليه مقابلة ذهابهما بقعودهم ويحكى أن موسى وهرون عليهما السلام خرا لوجوههما قدامهم لشدة ما ورد عليهما، فهموا برجمهما. ولأمر ما قرن الله اليهود بالمشركين وقدمهم عليهم في قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] "(10).

قوله تعالى: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، أي:" أما نحن فقاعدون هاهنا ولن نقاتلهم"(11).

قال مقاتل: "يعني: مكاننا، فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة"(12).

قال القرطبي: " أي: لا نبرح ولا نقاتل"(13).

قال النسفي: أي: " ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم"(14).

قال الشوكاني: " أي: لا نبرح هاهنا، لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع، وقيل: أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر"(15).

قال الإمام ابن كثير: " وهذا نكول منهم عن الجهاد، ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء، ويقال: إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى بلادهم، سجد موسى وهارون، عليهما السلام، قُدام ملأ من بني إسرائيل، إعظاما لما هموا به، وشَق "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا" ثيابهما ولاما قومهما على ذلك، فيقال: إنهم رجموهما. وجرى أمر عظيم وخطر جليل.

وما أحسن ما أجاب به الصحابة، رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير، الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان، فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف، في العُدة والبَيْض واليَلب، فتكلم أبو بكر، رضي الله عنه، فأحسن، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أشيروا عليَّ أيها المسلمون". وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك، وما تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبُر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونَشَّطه ذلك" (16).

وروي عن حميد عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين، فأشار إليه عمر، ثم استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: إذًا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك الغمَاد لاتبعناك"(17).

وعن عتبة بن عبد السلمي قال: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "ألا تقاتلون؟ " قالوا: نعم، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"(18).

أخرج الطبري عن قتادة قال: "ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم:«إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! » ، فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا

(1) المحرر الوجيز: 2/ 176.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 128.

(3)

أحكام القرآن للجصاص: 4/ 43.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 128.

(5)

البحر المحيط: 4/ 220.

(6)

ذكره ابن عطية عن النقاش عن بعض المفسرين، انظر: المحرر الوجيز: 2/ 175.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 175.

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 128.

(9)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 317.

(10)

الكشاف: 1/ 621.

(11)

التفسير الميسر: 112.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 467.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 128.

(14)

تفسير النسفي: 1/ 440.

(15)

فتح القدير: 2/ 33.

(16)

تفسير ابن كثير: 3/ 77، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام: 1/ 615.

(17)

المسند (3/ 105)، وسنن النسائي الكبرى برقم (11141)، وابن مردوية كما في تفسير ابن كثير: 3/ 77، ومسند أبي يعلى الموصلي (6/ 407) ..

(18)

ورواه أحمد في مسنده (4/ 183) من طريق الحسن بن أيوب، وابن مردوية كما في تفسير ابن كثير: 3/ 78.

ص: 126

لنبيهم: «اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون» ، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك" (1).

روي عن عن طارق بن شهاب، قال:"سمعت ابن مسعود، يقول: شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا، لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك وخلفك «فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره» يعني: قوله"(2).

وقول المقداد "وإن كان محفوظا يوم الحديبية، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر"(3).

قال الضحاك: " أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى: "ادخلوها"، فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا إليهم، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوِقْر الرجل، فقالوا: اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} "(4). وروي عن ابن عباس نحو ذلك (5).

الفوائد:

1 -

بيان جبن اليهود وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم.

2 -

نكال اليهود عن قتال الجبابرة.

3 -

مع غلو اليهود في أنبيائهم، إلا أنهم خذلوهم وتركوا نصرتهم في أصعب المواقف وفي وقت كانوا في أمس الحاجة لمؤازرتهم ، فقد خذل اليهود موسى عليه السلام وذلك عندما أمرهم بالقتال ودخول الأرض المقدسة بعد أن أخرجهم من مصر وحررهم من ذل العبودية لفرعون ، فكان جوابهم -أي اليهود- له كما أخبر الله تعالى عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24].

القرآن

{قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)} [المائدة: 25]

التفسير:

توجَّه موسى إلى ربه داعيًا: إني لا أقدر إلا على نفسي وأخي، فاحكم بيننا وبين القوم الفاسقين.

قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25]، أي:" توجَّه موسى إلى ربه داعيًا: إني لا أقدر إلا على نفسي وأخي"(6).

قال الطبري: أي: " لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي"(7).

قال المراغي: " أي: قال موسى باثا شكواه إلى ربه، معتذرا من فسق قومه عن أمره الذي يبلغه عنه- إنى لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسى وأمر أخى ولا أثق بغيرنا أن يطيعك فى اليسر والعسر والمنشط والمكره"(8).

(1) تفسير الطبري (11683): ص 10/ 186.

(2)

صحيح البحاري (3952): ص 5/ 73.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 79.

(4)

أخرجه الطبري (11684): ص 10/ 186 - 187.

(5)

انظر تفسير الطبري (11685): ص 10/ 187.

(6)

التفسير الميسر: 112.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 187.

(8)

تفسير المراغي: 6/ 93.

ص: 127

قال القرطبي: أي: " لأنه كان يطيعه. وقيل المعنى: إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال: {وأخي}، أي: وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء، أي إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا. وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال: لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا"(1).

قال الزمخشري: " لما عصوه وتمردوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق به إلا هرون قال رب إني لا أملك لنصرة دينك إلا نفسي وأخي، وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة، ونحوه قول يعقوب عليه السلام {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86].

وعن على رضى الله عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء (2)، ودعا لهما وقال: أين تقعان مما أريد؟ " (3).

قوله تعالى: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، أي:" فاحكم بيننا وبين القوم الفاسقين"(4).

قال ابن عباس: "، يقول: اقض بيني وبينهم"(5).

قال الضحاك: " يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم كلّ هذا يقول الرجل: اقض بيننا"(6).

قال الطبري: أي: " افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعِدُهم منّا"(7).

قال المراغي: أي: " أي: فافصل بيننا -يريد نفسه وأخاه-، وبين القوم الفاسقين عن طاعتك بقضاء تقضيه بيننا، فتحكم لنا بما نستحق، وعليهم بما يستحقون، فقد صرنا خصما لهم وصاروا خصما لنا، وقيل إن المعنى: إنك إذا أخذتهم بالعقاب على قسوتهم فلا تعاقبنا معهم فى الدنيا"(8).

و{الفاسقين} : أي: " الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه"(9).

قال أبو عبيدة: " {فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} ، أي باعد وافصل وميّز

{الفاسقين} ، هاهنا: الكافرين" (10).

و«الفرق» : الفصل، يقال: فَرَقت بين هذين الشيئين، بمعنى: فصلت بينهما، من قول الراجز (11):

يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي

أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ (12)

قال السدي: " غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون، فدعا عليهم فقال: {رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين}، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها"(13).

وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ: «فافرق» ، بكسر الراء (14).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 128.

(2)

قوله «فتنفس الصعداء» في الصحاح: الصعداء بالضم والمد تنفس ممدود.

(3)

الكشاف: 1/ 621 - 622.

(4)

تفسير المراغي: 6/ 93.

(5)

أخرجه الطبري (11686): ص 10/ 188 - 189.

(6)

أخرجه الطبري (11689): ص 10/ 189.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 187.

(8)

تفسير المراغي: 6/ 93.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 189.

(10)

.نجاز القرآن: 1/ 160

(11)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 160، وتفسير الطبري: 10/ 188، وتفسير القرطبي: 6/ 128

(12)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 188. قال محقق تفسير الطبري السيد احمد محمد شاكر: " البيت لعله لحبينة بن طريف العكلي".

(13)

أخرجه الطبري (11688): ص 10/ 189.

(14)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 129.

ص: 128

قال الزمخشري: " إن قلت: أما كان معه الرجلان المذكوران؟

قلت: كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره.

ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عند ما سمع منهم تقليلا لمن يوافقه.

ويجوز أن يريد: ومن يؤاخينى على دينى {فافرق} : فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق، وتحكم عليهم بما يستحقون، وهو في معنى الدعاء عليهم" (1).

وقال القرطبي: " وإن قيل: بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم؟ ففيه أجوبة:

الأول: بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان، ولذلك ألقوا في التيه.

الثاني- بطلب التمييز، أي: ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب.

والثالث: وقيل المعنى: فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به، ومنه قول تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، أي: يقضى، وقد فعل لما أماتهم في التيه.

والرابع: وقيل: إنما أراد في الآخرة، أي: اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار، والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر (2):

يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي

أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ" (3)

الفوائد:

1 -

وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم.

2 -

حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم وظلمهم لأنفسهم ولغيرهم.

3 -

أن الاختلاف على الأنبياء سبب الفتن والهلاك، فعندما دعى نبي الله موسى عليه السلام قومه لأمر الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فاختلفوا عليه، وَقَالُوا: إن فيها قوماً جبارين، إِلَى أن آل به الحال أن يقول عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25].

4 -

ومنها: أن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، إذ كانت تجمع بين موسى وبين قومه رابطة القومية الإسرائيلية، أما وقد كفروا بالله وتمردوا على سلطانه وأمره، تبرئ موسى منهم وقال:{فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} .

4 -

ومن الفوائد: أن جميع الأنبياء عليهم السلام لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملكوا لغيرهم، وأنهم عباد محتاجون فقراء إلى الله تعالى، وأنهم كانوا يدعونه لدفع المضرات وجلب الخيرات، وأنهم كانوا يخافون ربهم، ولا يملكون التصرف في الكون.

القرآن

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)} [المائدة: 26]

التفسير:

قال الله لنبيه موسى عليه السلام: إن الأرض المقدَّسة محرَّم على هؤلاء اليهود دخولها أربعين سنة، يتيهون في الأرض حائرين، فلا تأسف -يا موسى- على القوم الخارجين عن طاعتي.

(1) الكشاف: 1/ 622.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 128.

ص: 129

قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، أي:" قال الله لنبيه موسى عليه السلام: إن الأرض المقدَّسة محرَّم على هؤلاء اليهود دخولها أربعين سنة، يتيهون في الأرض حائرين"(1).

قال ابن الجوزي: " الإشارة إلى: «الأرض المقدسة»، ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها"(2).

قال مقاتل: " فأوحى الله- عز وجل إلى موسى- عليه السلام أما إذ سميتهم فاسقين فالحق أقول لا يدخلونها أبدا، وذلك قوله- عز وجل {قال فإنها محرمة عليهم}، دخولها البتة أبدا. {أربعين سنة}، فيها تقديم {يتيهون في الأرض}، في البرية"(3).

قال الزجاج: " قيل: عذبهم الله بأن مكثوا في التيه أربعين سنة سيارة لا يقرهم قرار إلى أن مات البالغون الذين عصوا الله ونشأ الصغار وولد من لم يدخل في جملتهم في المعصية.

وقيل: إن موسى وهارون كانا معهم في التيه.

قال بعضهم: لم يكن موسى وهارون في التيه لأن التيه عذاب، والأنبياء لا يعذبون.

وجائز أن يكون كانا في التيه وأن الله جل اسمه سهل عليهما ذلك كما سهل على إبراهيم الناررفجعلها عليه بردا وسلاما وشأنها الإحراق" (4).

قال ابن كثير: " لما دعا عليهم موسى، عليه السلام، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه، وفيه كانت أمور عجيبة، وخوارق كثيرة، من تظليلهم بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينا تجري لكل شعب عين، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك أنزلت التوراة، وشرعت لهم الأحكام، وعملت قبة العهد، ويقال لها: قبة الزمان"(5).

وفي مسافة أرض التيه قولان:

أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس (6). قال مقاتل:" فتاه القوم في تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخا طول"(7).

والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا، حكاه مقاتل أيضا (8).

قال القرطبي: "ويقال: كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها؟

فالجواب- قال أبو علي: قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدءوا منه. وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة" (9).

قال أبو عبيدة، وأبوبكر السجستاني:" {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}، أي: يحورن ويحارون ويضلون"(10).

قال الطبري: " معنى: {يتيهون في الأرض}، يحارون فيها ويضلُّون ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق: تائه. وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه"(11).

(1) التفسير الميسر: 310.

(2)

زاد المسير: 1/ 535.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 467.

(4)

معاني القرآن: 2/ 165 - 166.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 79.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 535.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 467.

(8)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 467.

(9)

تفسير القرطبي: 6/ 129 - 130.

(10)

مجاز القرآن: 1/ 160، وغريب القرآن لأبي بكر السجستاني:194.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 199.

ص: 130

قال مجاهد: " تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم"(1).

قال القرطبي: " استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة. وأصل «التيه» في اللغة: الحيرة، يقال منه: تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير. وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها، وأرض تيه وتيهاء ومنها قال (2):

تيهٍ أتاويهَ على السُّقّاطِ

وقال آخر (3):

بتيهاءَ قَفْرٍ والمَطِيَّ كأَنّها

قَطَا الحَزْنِ قد كانت فِرَاخًا بُيُوضُها

فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة- قيل: في قدر ستة فراسخ- يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا، فكانوا سيارة لا قرار لهم" (4).

واختلف هل كان معهم موسى وهرون في التيه؟ وفيه قولان (5):

أحدهما: لم يكن معهم موسى وهارون-عليهما السلام، لأن التيه عقوبة. وقد قال:{فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} .

والثاني: وقيل: كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم.

واختلف في نوع التحريم في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26]، على قولين (6):

أحدهما: أنه تحريم منع، أي أنهم ممنوعون من دخولها، كما يقال: حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار. وهذا القول حكاه الجصاص والقرطبي عن اكثر المفسرين (7).

ومنه قول امرئ القيس (8):

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري

إني امرؤ صرعي عليك حرام

يخاطب فرسه: أي: أنا فارس فلا يمكنك صرعي (9).

قال الجصاص: " فهذا هو أصل التحريم ثم أجرى تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكما وصار المحرم بمنزلة الممنوع إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3]، ونحوهما تحريم حكم وتعبد لا تحريم منع في الحقيقة، ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شيء واحد، لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه، والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا ولا يكون فعل لنا إلا وقد كان قبل وقوعه منا مقدورا لنا"(10).

(1) أخرده الطبري (11701): ص 10/ 199 - 200.

(2)

الشعر للعجاج في ديوانه 247. يصف أرضا مجهولة ليس بها علامات يهتدي بها، وأتاويه أفاعيل من تيه. والسقاط كل من سقط عليه، وهم الذين لا يصبرون ولا يجدون الواحد ساقط: وصدر البيت:

وبسطه بسعة البساط

والبساط المكان الواسع من الأرض. وقيل هذا البيت:

وبلدة بعيدة النياط

مجهولة تغتال خطو الخاطي.

(3)

البيت لعمرو بن أحمر الباهلي في "ديوانه" ص 119، "الحجة" 2/ 436، و"شرح الكافية" للرضي 4/ 189، و"لسان العرب" 5/ 2897 (مادة: عرض)، 7/ 3961، مادة:"كون".

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 129.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 129.

(6)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 129.

(7)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 4/ 44، وتفسير القرطبي: 6/ 129.

(8)

ديوانه: 157.

(9)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 4/ 44، والوجوه والنظائر، لأبي هلال العسكري: 200، وتفسير القرطبي: 6/ 129.

(10)

أحكام القرآن: 4/ 44.

ص: 131

والثاني: أنه يجوز أن يكون تحريم التعبد، أجازه أبو علي (1)، لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12]، قال الجصاص:"يعني: به المنع"(2).

قال الشنقيطي: " ومن إطلاق التحريم بمعناه اللغوي في القرآن: قوله في بني إسرائيل وهم في التيه، قال: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة} [المائدة: آية 26]، فإنه تحريم كوني قدري؛ لأن الله منعهم إياه، لا تحريم شرعي على التحقيق"(3).

واختلف في قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، على قولين:

أحدهما: أنها محرمة عليهم أبدا، وأن قوله:{أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوب بقوله {يَتِيهُونَ} . وهذا قول عكرمة (4)، وقتادة (5)، والسدي (6)، واختيار الزجاج (7).

قال الزجاج: " أما نصبه بـ {محرمة} فخطأ، لأن التفسير جاء بأنها محرمة عليهم أبدا"(8).

والثاني: أنها حرمت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إليها، وعليه فإن قوله:{أَرْبَعِينَ سَنَةً} منصوب بقوله {مُحَرَّمَةٌ} . وهذا قول الربيع (9)، واختيار ابن جرير الطبري (10).

قال الطبري: "وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن «الأربعين» منصوبة بـ «التحريم» ، وإنّ قوله:{محرمة عليهم أربعين سنة} ، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه، وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم.

وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها" (11).

وفيما يأتي نسرد بعض الاخبار التي وردت في القولين:

قال الربيع: " لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى: إنها محرمة عليهم أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين، وهم يومئذ، فيما ذكر، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم فاسقين بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادِّين لكي يخرجوا منها، حتى سئموا ونزلوا، فإذا هم في الدار التي

(1) انظر: تفسير القرطبي: 6/ 129.

(2)

أحكام القرآن: 4/ 44.

(3)

العذب المنير من مجالس الشنقيطي في التفسير: 2/ 449.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11693): ص 10/ 191 - 192.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11691)، و (11692): ض 10/ 191.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11694): ص 10/ 192 - 193.

(7)

انظر: معاني القرآن: 2/ 165.

(8)

معاني القرآن: 2/ 165.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11690): ض 10/ 190 - 191.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 197.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 197.

ص: 132

منها ارتحلوا وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عَيْنٌ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى: أنْ مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوَّهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا: حطة وإنما قولهم: حطة، أن يحطَّ عنهم خطاياهم فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدِّهم، وقالوا: حنطة، فقال الله جل ثناؤه:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة البقرة: 59] " (1).

وعن عكرمة عن ابن عباس: " قال الله جل وعز: لما دعا موسى: {فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض}، قال: فدخلوا التيه، فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه، قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين، فافتتح يوشع المدينة"(2).

وعن قتادة، "قال الله جل وعزّ:{إنها محرّمة عليهم أربعين سنة} ، حرمت عليهم القُرَى، فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا" (3).

وأخرج الطبري عن ابن إسحاق، قال: "حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم نبيّهم، وهّمهم بكالب ويوشع، إذْ أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل، فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم، وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى: يسمع أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم، ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك: إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم، فقتلهم في البّرية، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك، يا رَبِّ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم، فإنه طويلٌ صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، وإنك تحفظ ذنب الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة. فاغفر، أيْ ربِّ، آثام هذا الشعب بكثرة نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه: قد غفرت لهم بكَلمتك، ولكن حيٌّ أنا، وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني، لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم، ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي، فإني مدخله الأرض التي دخلها، ويراها خَلَفه.

وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، وكلم الله عز وجل موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. وقال، لأفعلن بكم كما قلت لكم، ولتلقينَّ جِيَفكم في هذه القفار، وكحسابكم، من بني عشرين سنة فما فوق ذلك، من أجل أنكم وسوستم عليّ، فلا تدخلوا الأرض التي رفعت يدي إليها، ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر،

(1) أخرجه الطبري (11690): ص 10/ 190 - 191.

(2)

تفسير الطبري (11695): ص 10/ 193.

(3)

أخرجه الطبري (11696): ص 10/ 193.

ص: 133

فإنهم يدخلون الأرض، وإني بهم عارف، لهم الأرض التي أردت لهم، وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا، مكان كل يوم سنةً وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا الله فاعل بهذه الجماعة جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي بأن يتيهوا في القفار، فيها يموتون.

فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض، ثم حرَّشوا الجماعة، فأفشوا فيهم خبرَ الشرّ، فماتوا كلهم بغتًة، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض.

فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل، حزن الشعب حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس الجبل، وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى: لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم. فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة يعني من الخيمة حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. فتيّهم الله عز ذكره في التيه أربعين سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان - فيما يزعمون - على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، قدَّم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من الخلائق" (1).

قوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، أي:" فلا تأسف -يا موسى- على القوم الخارجين عن طاعتي"(2).

قال ابن عباس: " يقول: فلا تحزن"(3).

قال مقاتل: " يعني: لا تحزن على قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا"(4).

قال السدي: ": لما ضُرب عليهم التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما نَدِم أوحى الله إليه: {فلا تأس على القوم الفاسقين}، لا تحزن على القوم الذين سمَّيتهم فاسقين، فلم يحزن"(5).

قال الزجاج: " جائز أن يكون هذا خطابا لموسى، وجائز أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل"(6).

قال ابو عبيدة: " {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} ، لا تحزن، يقال: أسيت عليه، قال العجّاج (7):

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى " (8)

(1) تفسير الطبري (11697): ص 10/ 193 - 197.

(2)

التفسير الميسر: 310.

(3)

أخرجه الطبري (11702): ص 10/ 200.

(4)

تفسير مقاتل بن سليما: 1/ 468.

(5)

أخرجه الطبري (11703): ص 10/ 200.

(6)

معاني القرآن: 2/ 166.

(7)

ديوانه 20، والكامل 1: 352، واللسان (حلب)(كرس)، وهو من رجزه المشهور، مضى أوله في هذا التفسير 1: 509، يقول:

يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا?

قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى.

(8)

مجاز القرآن: 1/ 161.

ص: 134

قال ابن كثير: " وقوله تعالى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}، تسلية لموسى، عليه السلام، عنهم، أي: لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما حكمت عليهم، به فإنهم يستحقون ذلك"(1).

الفوائد:

1 -

قدرة الله تعالى يليق بمسلم أن يشك في الأخبار الصحيحة، أو يتوقف فيها، أو يظن فيها الظنون بناء على أقاويل قوم كفار، أو بناء على النظريات والمكتشفات الحديثة؛ فإنَّ الله قادر على كل شيء، وهو قادر سبحانه على أن يُعجز الناس عن الوقوف على مكانهم، كما قال سبحانه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [فاطر: 44].

وإذا أراد المسلم عبرة في هذا الباب فليقرأ قصة بني إسرائيل عندما قضى الله عز وجل عليهم أن يتيهوا في الأرض، فتاهوا في أرض سيناء أربعين سنة. قال تعالى:{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، وإذا نظرت إلى الخريطة تجدها منطقة صغيرة، فهي الزاوية التي في رأس البحر الأحمر، فلولا أنَّ الله عز وجل أعمى قلوبهم وصرفهم عن الاهتداء لما ضاعوا في مثل هذا المكان الصغير هذه المدة الطويلة. فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كلِّ شيء قدير.

2 -

أن التحريم نوعان (2):

أحدهما: - التحريم الكوني: ويطلق على منع الشيء، فكل شيء منعته بالقوة فقد حرمته (3)، ومن ذلك قوله تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12]، يعني: حرم الله على سيدنا موسى، الإرضاع من غير أمه، وهذا تحريم كوني.

والثاني: - والتحريم الديني: يطلق في الشرع على ما حرمه الله؛ أي: منعه على لسان نبيه، وتوعد مرتكبه بالعقاب، ومن ذلك قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23].

وقد تناولناهما في تفسير الآية بشيء من التفصيل.

3 -

قال ابن كثير: " هذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما، فيما أمرهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم، ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهم في جهلهم يعمهون، وفي غَيِّهم يترددون، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل وله الحمد من جميع الوجود"(4).

القرآن

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} [المائدة: 27]

التفسير:

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 81.

(2)

انظرك الكليات: 400، والعذب المنير من مجالس الشنقيطي في التفسير: 2/ 448 - 449.

(3)

انظر: المقاييس في اللغة (كتاب الحاء، باب الحاء والراء وما يثلثهما) ص (256)، المصباح المنير (مادة: حرم) 51.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 81.

ص: 135

واقصص -أيها الرسول- على بني إسرائيل خَبَر ابنَيْ آدم قابيل وهابيل، وهو خبرٌ حقٌ: حين قَدَّم كلٌّ منهما قربانًا -وهو ما يُتَقرَّب به إلى الله تعالى- فتقبَّل الله قُربان هابيل; لأنه كان تقيًّا، ولم يتقبَّل قُربان قابيل; لأنه لم يكن تقيًّا، فحسد قابيلُ أخاه، وقال: لأقتلنَّك، فَردَّ هابيل: إنما يتقبل الله ممن يخشونه.

قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27]، أي:" واقصص -أيها الرسول- على بني إسرائيل خَبَر ابنَيْ آدم قابيل وهابيل، وهو خبرٌ حقٌ: حين قَدَّم كلٌّ منهما قربانًا"(1).

قال الطبري: أي: "واتلُ على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم، وعلى أصحابك معك وعرِّفهم مكروهَ عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد، وما جزاء الناكثِ وثوابُ الوافي خبرَ ابني آدم، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربَّه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده، فلتعرف بذلك اليهود وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم، وهمَّهم بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده عزاءً جميلا"(2).

قال السعدي: " أي: قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت على ابني آدم بالحق، تلاوة يعتبر بها المعتبرون، صدقا لا كذبا، وجدا لا لعبا، أي: اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان، الذي أداهما إلى الحال المذكورة، إذ أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى الله"(3).

قال ابن عطية: " {اتل}، معناه: اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد صلى الله عليه وسلم بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته"(4).

والضمير في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 27]، ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين (5):

أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

والثاني: أن علم نبأ ابني آدم إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إيراده والنبأ الخبر.

أخرج الطبري عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل:"أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح أختَه تُؤْمَهُ هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل ذلك وكره، تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحنَ وِلادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي! ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه. فالله أعلم أيّ ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحلُّ لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قربانًا، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا، فأيُّكما قَبِل الله قربَانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رِعاية الماشية، فقرب قابيل قمحًا وقرّب هابيل أبْكارًا من أبكار غنمه وبعضهم يقول: قرب بقرة فأرسل الله جل وعز نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقْبَل القُربان إذا قبله"(6).

(1) التفسير الميسر: 112.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 201 - 202.

(3)

تفسير السعدي: 228.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 178.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 178.

(6)

تفسير الطبري (11714): ص 10/ 205 - 206.

ص: 136

قال مقاتل: " يقول: اتل -يا محمد- على أهل مكة نبأ ابني آدم بالحق ليعرفوا نبوتك، يقول: اتل عليهم حديث ابني آدم هابيل وقابيل، وذلك أن حواء ولدت في بطن واحد غلاما وجارية قابيل وإقليما، ثم ولدت في البطن الآخر غلاما وجارية، هابيل وليوذا، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فلما أدركا قال آدم- عليه السلام ليتزوج كل واحد منهما أخت الآخر قال قابيل لكن يتزوج كل واحد منهما أخته التي ولدت معه، قال آدم- عليه السلام: قربا قربانا فأيما تقبل قربانه كان أحق بهذه الجارية وخرج آدم- عليه السلام إلى مكة فعمد قابيل وكان صاحب زرع فقرب أخبث زرعه البر المأكول فيه الزوان، وكان هابيل صاحب ماشية فعمد فقرب خير غنمه مع زبد ولبن ثم وضعا القربان على الجبل وقاما يدعوان الله- عز وجل فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فحسده قابيل، فقال لهابيل: لأقتلنك. قال هابيل: يا أخي لا تلطخ يدك بدم بريء فترتكب أمرا عظيما، إنما طلبت رضا والدي ورضاك فلا تفعل فإنك إن فعلت أخزاك الله بقتلك إياي بغير ذنب ولا جرم فتعيش في الدنيا أيام حياتك في شقوة ومخافة في الأرض حتى تكون من الخوف والحزن أدق من شعر رأسك ويجعلك إلهي ملعونا. فلم يزل يحاوره حتى انتصف النهار، وكان في آخر مقالة هابيل لقابيل: إن أنت قتلتني كنت أول من كتب عليه الشقاء، وأول من يساق إلى النار من ذرية والدي، وكنت أنا أول شهيد يدخل الجنة، فغضب قابيل فقال: لا عشت في الدنيا. ويقال قد تقبل قربانه ولم يتقبل قرباني، فقال له هابيل: فتشقى آخر الأبد، فغضب عند ذلك قابيل فقتله بحجر دق رأسه وذلك بأرض الهند عشية وآدم- عليه السلام بمكة "(1).

واختلف في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27]، على قولين:

أحدهما: أنهما من بني إسرائيل، وهذا قول الحسن (2).

والثاني: أنهما ابنا آدم لصلبه، وهما هابيل وقابيل، وهو قول ابن عباس (3)، وابن عمر (4)، ومجاهد (5)، وقتادة (6)، وعطية (7)، واختيار الطبري (8)، والزمخشري (9)، وابن عطية (10)، وهو قول الجمهور (11).

والقول الثاني هو الصحيح، وذلك لوجهين:

أحدهما: لقوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]، إذ ولو كان من بني إسرائيل، لكان قد عرف الدفن.

والثاني: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: «إنه أول من سن القتل» (12).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 468 - 470.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11719): ص 10/ 208، والنكت والعيون: 2/ 28.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11706): ص 10/ 203.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11705): ص 10/ 202 - 203.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11707) - (11710): ص 10/ 204 - 205.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11716)، و (11717): ص 10/ 207 - 208.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11713): ص 10/ 205.

(8)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 208 - 209.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 624.

(10)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 178.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 178.

(12)

حديث صحيح، أخرجه البخاري في الجنائز باب 33، والديات باب 2، والاعتصام باب 15، ومسلم في القسامة حديث 27، والترمذي في العلم باب 14، والنسائي في التحريم باب 1، وابن ماجة في الديات باب 1، وأحمد في المسند 1/ 383، 430، 433، وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 130:"وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". وأخرجه الطري في تفسيره (11738): ص 10/ 218، وتاريخه 1/ 72.

ص: 137

قال ابن عطية: " و {ابنا آدم} هما في قول جمهور المفسرين لصلبه. وهما قابيل وهابيل، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري:«ابنا آدم» ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.

قال ابن عطية: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب، والصحيح قول الجمهور" (1).

قال السعدي: "والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه، كما يدل عليه ظاهر الآية والسياق، وهو قول جمهور المفسرين"(2).

قال الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذرّيته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عبادَه بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة والشياطين وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بِ ابني آدم اللذين ذكرهما الله في كتابه، ابناهُ لصلبه، لم يفدْهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم خطابًا لا يفيدهم به معنًى، فمعلوم أنه عَنى بـ {ابني آدم}، ابني آدم لصلبه، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد منه نسبهم، مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل، على أنهما كانا ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا"(3).

وقوله تعالى: {بِالْحَقِّ} [المائدة: 27]، يحتمل وجوها (4):

أحدها: تلاوة ملتبسة بالحق والصحة.

والثاني: اتله نبأ ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين.

والثالث: بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد، لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه.

والرابع: اتل عليهم وأنت محق صادق.

قال الراغب: " «القربان»: اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى، وكثر استعماله في النسيكة"(5).

قال الزمخشري: " و «القربان»: اسم ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة، كما أن الحلوان اسم ما يحلى أى يعطى، يقال: قرب صدقة وتقرب بها، لأن تقرب مطاوع قرب: قال الأصمعى: تقربوا قرف القمع (6) فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب"(7).

قوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة: 27]، أي:" فتقبَّل الله قُربان هابيل; لأنه كان تقيًّا، ولم يتقبَّل قُربان قابيل; لأنه لم يكن تقيًّا"(8).

قال السعدي: " بأن علم ذلك بخبر من السماء، أو بالعادة السابقة في الأمم، أن علامة تقبل الله لقربان، أن تنزل نار من السماء فتحرقه"(9).

قال قتادة: " هما هابيل وقابيل، كان أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخيرِ ماله، وجاء الآخر بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت قربان الآخر

" (10).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 178.

(2)

تفسير السعدي: 228.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 208 - 209.

(4)

انظر: الكشاف: 1/ 624.

(5)

تفسير الراغب الأصفهاني: 3/ 1021.

(6)

في الصحاح: القرف القشر. والقمعة رأس السنام، والجمع قمع. والقمع أيضا: بثرة تخرج في شفر العين.

(7)

الكشاف: 1/ 624.

(8)

التفسير الميسر: 112.

(9)

تفسير السعدي: 228.

(10)

أخرجه الطبري (11717): ص 10/ 207 - 208.

ص: 138

قال مجاهد: " قرّب هذا زرعًا، وذَا عناقًا، فتركت النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق"(1).

اختلف فى السبب الذي قربا لأجله قرباناً على قولين:

أحدهما: أنهما فعلاه لغير سبب (2).

قال ابن عطية: " وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثا وتطوعا"(3).

والثاني: أن ذلك لسبب، - وهو أشهر القولين- وهو أن حواء كانت تضع في كل عام غلاماً وجارية، فكان الغلام يتزوج من أحد البطنين بالجارية من البطن الآخر، وكان لكل واحد من ابني آدم هابيل وقابيل توأمة، فأراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل فمنعه، وقال أنا أحق بها منك. وهذا قول ابن مسعود (4).

واختلف فى سبب منعه على قولين (5):

أحدهما: أن قابيل قال لهابيل: أنا أحق بتوأمتي منك، لأننا من ولادة الجنة وأنت من ولادة الأرض. ذكره ابن إسحاق (6).

الثاني: أنه منعه منها لأن توأمته كانت أحسن من هابيل ومن توأمته، فقربا قرباناً وكان قابيل حراثاً، وهابيل راعياً، فقرب هابيل سخلة سمينة من خيار ماله، وقرب قابيل حزمة سنبل من شر ماله، فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وكان ذلك علامة القبول ولم يكن فيهم مسكين يتقرب بالصدقة عليه وإنما كانت قُرَبُهُم هكذا. وهذا معنى قول ابن مسعود (7).

أخرج الطبري عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم: "وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوّج غلام هذا البطن، جاريةَ هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل، وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره أبوه أن يزوِّجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق بالجارية، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره لآدم: يا آدمُ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا! قال: فإن لي بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما انطلق آدم، قربا قربانًا، وكان قابيل يفخَر عليه فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيُّ والدي! فلما قرَّبا، قرب هابيل جَذَعة سمينة، وقرّب قابيل حُزمة سنبل، فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففرَكَها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربانَ هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبَّل الله من المتقين"(8).

واختلف في سبب قبول قربان هابيل على وجهين:

أحدهما: لأنه كان أتقى لله من قابيل، لقوله:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، والتقوى ها هنا الصلاة على ما ذكره المفسرون (9).

(1) أخرجه الطبري (11718): ص 10/ 208.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 27.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 178.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11715): ص 10/ 206 - 207.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 28.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11714): 10/ 205 - 206.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11715): 10/ 206 - 207. وسوف يأتي.

(8)

تفسير الطبري (11715): 10/ 206 - 207.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 28.

ص: 139

الثاني: لأن هابيل تقرب بخيار ماله فَتُقُبِّل منه، وقابيل تقرب بشر ماله، فلم يُتَقَبَّل منه، وهذا قول عبد الله بن عمر (1)، واسماعيل بن رافع (2)، وأكثر المفسرون (3).

قال عبدالله بن عمر: " إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ، والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها نفسه وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه، [الكوزن] والزُّوان، غير طيبةٍ بها نفسه وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه. وقال: أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه"(4).

قال اسماعيل بن رافع: " بلغني أن ابني آدم لمّا أُمِرَا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله الله منه، فما زال يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما"(5).

واختلف في قربانهما هل كان بأمر، أو من قبل أنفسهما على قولين:

أحدهما: أنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا وذلك حين اختصما إلى أبيهما آدم. وهذا قول عبدالله بن عمر (6)، واسماعيل بن رافع (7)، وذكره ابن إسحاق (8)، واختيار والزمخشري (9).

والثاني: أنهما قربا من قِبَل أنفسهما. وهذا معنى قول ابن عباس (10)، ومجاهد (11)، وعطية (12).

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف كان قوله إنما يتقبل الله من المتقين جوابا لقوله: {لأقتلنك} ؟

قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي، فلم تقتلني؟

ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم" (13).

قوله تعالى: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة: 27]، أي:" فحسد قابيلُ أخاه، وقال: لأقتلنَّك"(14).

قال الطبري: أي: " قال الذي لم يُتَقَبَّل منه قربانه، للذي تُقُبّل منه قربانه: لأقتلنك"(15).

قال قتادة: " .... فحسده فقال: لأقتلنك! "(16).

وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنك» ، بسكون النون وتخفيفها (17).

(1) انظر: تفسير الطبري (11705): ص 10/ 202 - 203. وسوف يأتي.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11705): ص 10/ 202 - 203. وسوف يأتي.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 28.

(4)

أخرجه الطبري (11705): ص 10/ 202 - 203.

(5)

أخرجه الطبري (11704): ص 10/ 202.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11705): ص 10/ 202.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11704): ص 10/ 202.

(8)

انظرك تفسير الطبري (11714): ص 10/ 205 - 206.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 624.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11706): ص 10/ 203 قال ابن عباس: " فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانًا

". وانظر: تفسير الطبري (11711)، و (11712): ص 10/ 205.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11707) - (11710): ص 10/ 304 - 205.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11713): ص 10/ 205.

(13)

الكشاف: 1/ 624.

(14)

التفسير الميسر: 112.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 210.

(16)

أخرجه الطبري (11717): ص 10/ 207 - 208.

(17)

انظر: زاد المسير: 1/ 537.

ص: 140

قال ابن الجوزي: " القائل: هو الذي لم يتقبل منه. قال الفراء: إنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإذا اجتمع السفيه والحليم حمد، وإنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مر بي رجل وامرأة، فأعنت، وأنت تريد أحدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مرادك"(1).

قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، أي:" فَردَّ هابيل: إنما يتقبل الله ممن يخشونه"(2).

عن ابن عباس: "قال لأقتلنك، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين"(3).

قال ابن زيد: " يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك، جئت بقربانٍ مغشوش بأشرِّ ما عندك، وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما عندي. قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني! "(4).

وفي المراد بـ «الْمُتَّقِينَ» قولان:

أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس (5).

والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك (6).

قال السعدي: " وأصح الأقوال في تفسير {المتقين} هنا، أي: المتقين لله في ذلك العمل، بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"(7).

قال ابن عطية: " وإجماع أهل السنة في معنى [التقوى]، أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والحتم بالرحمة، علم ذلك بأخبار الله تعالى، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا، وقال عدي بن ثابت وغيره: «قربان متقي هذه الأمة الصلاة» (8) "(9).

قال الطبري: " ويعني بقوله: {من المتقين}، من الذين اتقوا الله وخافوه، بأداء ما كلفهم من فرائضه، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته"(10).

قال ابن عطية: " كلام قبله محذوف تقديره: ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على لا حب الحق. وإنما يتقبل الله من المتقين"(11).

واختلف في قابيل هل كان عند قتل أخيه كافراً أو فاسقاً؟ فقال قوم: كان كافراً، وقال آخرون: بل كان رجل سوء فاسقاً (12).

قال ابن جريج: " أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة، وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سَمُرَةَ الصوّاف، وقف يحدثني عن ابن عباس قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها، وينكحها غيره من إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ وسيمةٌ، وولدت امرأة دميمة قبيحة. فقال أخو الدّميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي. فقرّبا قربانًا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى

(1) زاد المسير: 1/ 537.

(2)

التفسير الميسر: 112.

(3)

أخرجه الطبري (11722): ص 10/ 210.

(4)

أخرجه الطبري (11723): ص 10/ 211.

(5)

انظر: زاد المسير: 1/ 537.

(6)

أخرجه الطبري (11724): ص 10/ 211.

(7)

تفسير السعدي: 228.

(8)

أخرجه الطبري (11726): ص 10/ 212. وفيه: " كان قربان المتّقين، الصلاة".

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 178 - 179.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 211.

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 178.

(12)

انظر: النكت والعيون: 2/ 29.

ص: 141

أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصَّفا في ثَبِير، عند منزل سمرة الصواف، وهو على يمينك حين ترمي الجمار.

قال ابن جريج، وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء، فنكح ابنةَ عمه، وذهب نكاح الأخوات" (1).

الفوائد:

1 -

مشروعية التقرب إلى الله تعالى بما يجب أن يتقرب به إليه تعالى.

2 -

عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة.

3 -

قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإخلاص فيها لله تعالى.

4 -

بيان أول من سن جريمة القتل، وهو قابيل.

5 -

أن من قتل واحدا فقد سن لغيره أن يقتدي به، فكل من يقتل يأخذ بحظه من إثم، وكذلك من أحيا مثله في الأجر، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من نفس تقتل إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها» (2)؛ لأنه أول من سن القتل (3).

القرآن

{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)} [المائدة: 28]

التفسير:

وقال هابيلُ واعظًا أخاه: لَئنْ مَدَدْتَ إليَّ يدكَ لتقتُلني لا تَجِدُ مني مثل فعْلك، وإني أخشى الله ربَّ الخلائق أجمعين.

قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} [المائدة: 28]، أي:" قال هابيلُ واعظًا أخاه: لَئنْ مَدَدْتَ إليَّ يدكَ لتقتُلني"(4).

قال القرطبي: أي: لئن قصدت قتلي" (5).

قال الطبري: "وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه لما قال له أخوه القاتل: لأقتلنك: والله لئن مددت إليَّ يدك لتقتلني"(6).

قوله تعالى: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28]، أي:" لا تَجِدُ مني مثل فعْلك"(7).

قال الطبري: " يقول: ما أنا بمادٍّ يدي إليك لأقتلك"(8).

قال ابن عباس: " ما أنا بمنتصر، ولأمسكنَّ يدي عنك"(9).

قال ابن كثير: " يقول له أخوه الرجل الصالح، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ}، أي: لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة"(10).

(1) أخرجه الطبري (11751): ص 10/ 223.

(2)

حديث صحيح، أخرجه البخاري في الجنائز باب 33، والديات باب 2، والاعتصام باب 15، ومسلم في القسامة حديث 27، والترمذي في العلم باب 14، والنسائي في التحريم باب 1، وابن ماجة في الديات باب 1، وأحمد في المسند 1/ 383، 430، 433، وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 130:"وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". وأخرجه الطري في تفسيره (11738): ص 10/ 218، وتاريخه 1/ 72.

(3)

انظر: أحكام القرآن لانب العربي: 2/ 90.

(4)

التفسير الميسر: 112.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 136.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 213.

(7)

التفسير الميسر: 112.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 213.

(9)

أخرجه الطبري (11728): 10/ 213.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 85.

ص: 142

قال القرطبي: أي: " فأنا لا أقصد قتلك، فهذا استسلام منه

وقيل: المعنى: لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي، وعلى هذا قيل: كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي" (1).

قال الزمخشري: " قيل: كان أقوى من القاتل وأبطش منه، ولكنه تخرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله لأن الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت"(2).

وإن قيل: لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله: {لئن بسطت ..... } {ما أنا بباسط} ؟

الجواب: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع. ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي (3).

وفي قوله تعالى: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28]، قولان:

أحدهما: أما أنا بمنتصر لنفسي، قاله ابن عباس (4).

والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة (5).

وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان:

أحدهما: أنه منعه التحرج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر (6)، وابن عباس (7)، وجمهور الناس (8).

قال ابن عمر: " وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه"(9).

والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزا، قاله الحسن (10)، ومجاهد (11).

قال ابن عطية: " والقول الأول هو الأظهر، ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه"(12).

وقال الإمام الطبري: " وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه: ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك، لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ (13)، فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه"(14).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 136.

(2)

الكشاف: 1/ 624.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 625 - 626.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11728): 10/ 213.

(5)

انظر: زاد المسير: 1/ 537.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11727): 10/ 213.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11728): 10/ 213.

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 179.

(9)

أخرجه الطبري (11727): 10/ 213.

(10)

انظر: زاد المسير: 1/ 537.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11729): 10/ 213.

(12)

المحرر الوجيز: 2/ 179.

(13)

وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وابن جريج، انظر: تسير الطبري (11746) - (11749): ص 10/ 221.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 214.

ص: 143

وقال القرطبي: " قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا، وألا يمتنع ممن يريد قتله، قال علماؤنا: وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا. وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر (1)، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة"(2).

قوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]، أي:" إني أخشى الله ربَّ الخلائق أجمعين"(3).

قال الطبري: أي: " إنّي أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك، {رب العالمين}، يعني: مالك الخلائق كلها أن يعاقبني على بسط يدي إليك"(4).

قال ابن كثير: " أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع، بل أصبر وأحتسب"(5).

قال السعدي: أي: " وليس ذلك جبنا مني ولا عجزا. وإنما ذلك لأني {أخاف الله رب العالمين} والخائف لله لا يقدم على الذنوب، خصوصا الذنوب الكبار. وفي هذا تخويف لمن يريد القتل، وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه"(6).

ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصا على قتل صاحبه"(7).

قال الجصاص: " فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة"(8).

وعن بُسْر بن سعيد؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: "أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «"إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي». قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني قال: «كن كابن آدم» " (9).

قال أيوب السَّخْتَياني: "إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه"(10).

عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: «ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه، وقال:"يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟ ". قال: قال الله ورسوله أعلم. قال: "تعفف" قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد، ويكون البيت فيه بالعبد، يعني القبر، كيف تصنع؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "اصبر". قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء، كيف تصنع؟ ". قال: الله ورسوله أعلم. قال: "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك". قال: فإن لم أتْرَك؟ قال: "فأت من أنت منهم، فكن فيهم قال: فآخذ سلاحي؟ قال: "إذًا تشاركهم فيما

(1) سوف يأتي. وانظر: الحديث في المسند (5/ 149)، وصحيح مسلم برقم (648) وسنن أبي داود برقم (431) وسنن الترمذي برقم (176) وسنن ابن ماجة برقم (1256).

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 136.

(3)

التفسير الميسر: 112.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 214.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 85.

(6)

تفسير السعدي: 228.

(7)

) صحيح البخاري برقم (31) وصحيح مسلم برقم (2888) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.

(8)

أحكام القرآن: 4/ 47.

(9)

المسند (1/ 185) وسنن الترمذي برقم (3194).

(10)

أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير: 3/ 86.

ص: 144

هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك"» (1).

عن رِبْعِيّ قال: "كنا في جنازة حُذَيفة، فسمعت رجلا يقول: سمعت هذا يقول في ناس: مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري، فلألجنَّه، فلئن دخل عَليّ فلان لأقولن: ها بؤ بإثمي وإثمك، فأكون كخير ابني آدم" (2).

الفوائد:

1 -

لا يجوز في دين الله قتل النفس المسلمة إلا بإحدى ثلاث كما في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك للجماعة "(3).

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ". قال ابن: " إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله "(4).

وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً، وأخبر أن القاتل والمقتول في النار، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت، أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:" إنه كان حريصاً على قتل صاحبه "(5).

ولذا فإن العبد الصالح أبى أن يقاتل أخاه، خشية أن يكون من أهل النار، فباء القاتل بإثمه وإثم أخي.

2 -

أنه ما عبد الله بمثل الخوف من الله، وطريق الخوف والحزن والشفقات والحياء من الله تبارك وتعالى (6)، قال:{إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28].

3 -

أن الخوف من الله تعالى إيمان، فمن خاف غيره فإنما صرف إليه حقا من حقوق ربه، فأما من أخلص للخوف له، فإنه جل جلاه مدحه وأثنى عليه ووعده إلا من يوم الفزع، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12].

وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52].

وقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

} [النازعات: 40 - 41]

وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ (3) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 2 - 4]

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يلج النار حتى يكتب من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع"(7)(8).

وقد جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه عبارة تصور موقف علي من مقتل عثمان أحسن تصوير قال سعيد الخزاعي: "لقيت عليًّا بعد الجمل، فقلت له: إني سائلك عن مسألة كانت منك ومن عثمان، فإن نجوت اليوم نجوت غدًا إن شاء الله، قال: سل عما بدا لك، قلت: أخبرني أي

(1) المسند (5/ 149)، وصحيح مسلم برقم (648) وسنن أبي داود برقم (431) وسنن الترمذي برقم (176) وسنن ابن ماجة برقم (1256).

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 87.

(3)

أخرجه البخاري برفم: 6878. ومسلم برقم: 1676 ..

(4)

رواه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى:[ومن يقتل مؤمنا متعمد]، فتح الباري:(12/ 187).

(5)

رواه مسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما:(4/ 2213).

(6)

انظر: شرح السنة للبربهاري: 106.

(7)

المنهاج في شعب الإيمان للبيهقي: 1/ 515.

(8)

انظر: المنهاج في شعب الإيمان: 1/ 515.

ص: 145

منزلة وسعتك إذ قتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إن عثمان كان إمامًا وأنه نهى عن القتال، وقال: من سلَّ سيفه فليس مني، فلو قاتلنا دونه عصيناه، قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذا استسلم؟ قال: المنزلة التي وسعت ابن آدم إذ قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} " (1).

وما أروع ما قاله محمد بن سيرين في هذا الموضوع: "ما علمت أن عليًّا اتُّهِم في دم عثمان حتى بويع، فلما بويع اتهمه الناس، وذلك أمر مركوز في الطبائع"(2).

القرآن

{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)} [المائدة: 29]

التفسير:

إني أريد أن ترجع حاملا إثم قَتْلي، وإثمك الذي عليك قبل ذلك، فتكون من أهل النار وملازميها، وذلك جزاء المعتدين.

قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، أي:" إني أريد أن ترجع حاملا إثم قَتْلي، وإثمك الذي عليك قبل ذلك"(3).

قال الواحدي: أي: " أن تحمل إثم قتلي وإثم الذي كان منك قبل قتلي"(4).

قال السمرقندي: " يعني: إني أريد أن ترجع بإثمي، يعني: بقتلك إياي، وبإثمك الذي عملت قبل قتلي، وهي الخيانة في القربان وغيره"(5).

قال الزجاج: " أي: أن ترجع إلى الله بإثمي وإثمك"(6).

قال السمعاني: " فكأنه مريد لقتله مجازا وإن لم يكن مريدا حقيقة"(7).

قال الزمخشري: " المراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب"(8).

قال المراغي: " أي: إنى أريد بالابتعاد من مقابلة الجريمة بمثلها أن ترجع إن فعلتها ملتبسا بإثمى وإثمك أي بإثم قتلك إياى، وإثمك الخاص بك الذي كان من آثاره عدم قبول قربانك"(9).

قال ابن عطية: " قوله: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوما سيستنصر الله لي في الآخرة، و {تبوء}، معناه: تمضي متحملا. وقوله: {بإثمي وإثمك}، قيل معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك"(10).

قال الراغب: " قوله: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} ، [المائدة: 29] أي: تقيم بهذه الحالة. قال (11):

(1) العقد الفريد: 5/ 52 - 53.

(2)

مصنف ابن ابي شيبة (30710): ص 6/ 207.

(3)

التفسير الميسر: 112.

(4)

الوجيز: 316.

(5)

بحر العلوم: 1/ 384.

(6)

معاني القرآن: 2/ 167.

(7)

تفسير السمعاني: 2/ 31.

(8)

الكشاف: 1/ 626.

(9)

تفسير المراغي: 6/ 99.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 179.

(11)

الشطر للبيد، وعجزه:

عندي ولم يفخر علي كرامها

وهو في ديوانه ص 178، شرح المعلقات 1/ 170، والعباب الفاخر (بوء) 1/ 56.

(2)

قال الصاغاني: ويقال: باء بحقه، أي: أقر، وذا يكون أبدا بما عليه لا له. انظر العباب:(بوء)، واللسان (بوء)، والمجمل (بوء).

ص: 146

أنكرت باطلها وبؤت بحقها

وأصل البواء: مساواة الأجزاء في المكان، خلاف النبو الذي هو منافاة الأجزاء. يقال: مكان بواء: إذا لم يكن نابيا بنازله، وبوأت له مكانا: سويته فتبوأ، وباء فلان بدم فلان يبوء به أي: ساواه، قال تعالى:{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً [يونس: 87]، وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس: 93]، تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمران/ 121]، يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [يوسف: 56].

وروي أنه: «كان عليه السلام يتبوّأ لبوله كما يتبوّأ لمنزله» (1).

وبَوَّأْتُ الرمح: هيأت له مكانا، ثم قصدت الطعن به، وقال عليه السلام:«من كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النّار» (2)، وقال الراعي في صفة إبل (3):

لها أمرها حتى إذا ما تبوّأت

بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا

أي: يتركها الراعي حتى إذا وجدت مكانا موافقا للرعي طلب الراعي لنفسه متبوّأ لمضجعه.

ويقال: تَبَوَّأَ فلان كناية عن التزوّج، كما يعبّر عنه بالبناء فيقال: بنى بأهله.

ويستعمل البَوَاء في مراعاة التكافؤ في المصاهرة والقصاص، فيقال: فلان بواء لفلان إذا ساواه، وقوله عز وجل:{باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16]، أي: حلّ مبّوأ ومعه غضب الله، أي: عقوبته، وقوله:{بِغَضَبٍ} في موضع حال، كخرج بسيفه، أي: رجع، لا مفعول نحو: مرّ بزيد. واستعمال (باء) تنبيها على أنّ مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله، فكيف غيره من الأمكنة؟ وذلك على حدّ ما ذكر في قوله:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]

" (4).

وفي قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29]، وجوه:

أحدها: أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي عليك من معاصيك وذنوبك، وهذا قول ابن عباس (5)، وابن مسعود (6)، والضحاك (7)، وقتادة (8)، ومجاهد-في أحدى الروايات- (9).

والثاني: وقيل: كأنه كان يمنعه عن القتل، وأراد ترك القتل؛ كيلا يبوء بالإثم. ذكره السمعاني (10).

والثالث: وقيل {بإثمي} ، أي: بإثم قتلى، {وإثمك} ، أي: الذي من أجله لم يتقبل قربانك. قاله الزجاج (11).

والرابع: وقيل: {بإثمي} : أن تقتلني، {وإثمك}: ما أضمرت في نفسك من الحسد والعداوة. حكاه الماتريدي عن القتبي (12).

(1)) الحديث عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبوّأ لبوله كما يتبوأ لمنزله» أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو من رواية يحيى بن عبيد بن دجي عن أبيه. قال الهيثمي: ولم أر من ذكرهما، وبقية رجاله موثقون. انظر: مجمع الزوائد 1/ 209. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة، وانظر: المطالب العالية 1/ 15.

(2)

الحديث صحيح متفق على صحته وهو في فتح الباري 3/ 130 في الجنائز، ومسلم رقم 141 في المقدمة، باب تغليظ الكذب على رسول الله. وقال جعفر الكتاني: لا يعرف حديث رواه أكثر من ستين صحابيا إلا هذا، ولا حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرة إلا هو. انظر: نظم المتناثر ص 23، وشرح السنة 1/ 253.

(3)

البيت في ديوانه ص 164، وغريب الحديث 4/ 444، والجمهرة 2/ 347، والفائق 1/ 655.

(4)

المفردات في غريب القرآن: 158 - 159.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11730): ص 10/ 215.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11730): ص 10/ 215.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11735): ص 10/ 216.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11731)، و (11732): ص 10/ 215.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11733)، (11734): ص 10/ 215 - 216.

(10)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 31.

(11)

انظر: معاني القرآن: 2/ 167، وذكره الزمخشري في الكشاف: 1/ 625.

(12)

انظر: تفسير الماتريدي: 3/ 499.

ص: 147

والخامس: وقال الحسن: "ترجع {بإثمي} بقتلك إياي، {وإثمك}، يعني: الكفر الذي كان عليه"(1)؛ لأنه يقول: كان أحدهما كافرا فقتل صاحبه؛ فيرجع بالكفر (2).

والسادس: وقيل المعنى: {بإثمي} ، إن لو قاتلتك وقتلتك، وإثم نفسك في قتالي وقتلي. حكاه ابن عطية، وقال:" وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» (3)، فكأن هابيل أراد: أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي"(4).

والسابع: يعني: أن تبوء بإثمي فى خطاياي، وإثمك بقتلك لي، فتبوء بهما جميعاً، وهذا قول مجاهد (5).

قال ابن كثير: " وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له: ما ترك القاتل على المقتول من ذنب .... عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه» (6).

وهذا بهذا لا يصح، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه، فأما أن تحمل على القاتل فلا. ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص، وهو الغالب، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت على القاتل، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها، والقتل من أعظمها وأشدها" (7).

والراجح-والله أعلم- أن يقال في تفسير قوله تعالى: : {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} : " إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي، وذلك هو معنى قوله: {إني أريد أن تبوء بإثمي}، وأما معنى: {وإثمك}، فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ سِوَاه، وذلك لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه"(8).

قال ابن كثير: " وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ، وزجرًا له لو انزجر"(9).

قوله تعالى: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29]، أي:" فتكون من أهل النار وملازميها"(10).

قال الطبري: أي: " فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها"(11).

قال المراغي: " أي: فتكون بما حملت من الإثمين من أهل النار فى الآخرة جزاء ظلمك"(12).

(1) تفسير الماتريدي: 3/ 499.

(2)

انظر: تفسير الماتريدي: 3/ 499.

(3)

صحيح البخاري (إيمان باب 22 وفتن باب 10) وصحيح مسلم (فتن حديث 14 و 15) وسنن ابن ماجة (فتن باب 11).

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 179.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11736): ص 10/ 216.

(6)

مسند البزار برقم (1545)"كشف الأستار" وقال البزار: "لا نعلمه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أسنده إلا يعقوب".

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 87 - 88.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 216 - 217.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 88.

(10)

التفسير الميسر: 112.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 217.

(12)

تفسير المراغي: 6/ 99.

ص: 148

قال القرطبي: قوله: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} ، " دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد. وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل:{فتكون من أصحاب النار} على أنه كان كافرا، لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن، وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية (1)، ومعنى:{من أصحاب النار} ، مدة كونك فيها " (2).

قوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29]، أي:" وذلك جزاء المعتدين"(3).

قال الطبري: أي: " والنار ثوابُ التاركين طريق الحق، الزائلين عن قصد السبيل، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى ما لم يجعل لهم"(4).

قال المراغي: أي: " والنار جزاء كل ظالم"(5).

قال ابن عطية: " يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم"(6).

قال عبد الله بن عمرو: "وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة العذابَ، عليه شطرُ عذابهم"(7).

وروى الأعمش، عند عبد الله بن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها، ذلك بأنه أول من سَنَّ القتل"(8).

وقال إبراهيم النخعي: " ما من مقتول يقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه"(9).

وعن حكيم بن حكيم، أنه حُدِّث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء، وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل" (10).

الفوائد:

1 -

أن فيما قصه علينا الوحي من قتل قابيل لأخيه هابيل بيان لما في استعداد البشر من التنازع بين غرائز الفطرة بالتعارض بين عاطفة وشيجة الرحم، وحب العلو والرجحان، والامتياز على الأقران في رغائب النفس ومنافعها، وما قد يلد من الحسد، وما قد يتبع الحسد من البغي والعدوان. فضرب الله لنا مثلا لبيان هاتين الحقيقتين ; ليرتب عليه بيان كون غريزة الدين بل هدايته هي المهذبة للفطرة البشرية بترجيح الحق على الباطل والخير على الشر، فكان قابيل مثلا لمن غلبت عليه النزعة الثانية، وهابيل مثلا لمن غلبت عليه الأولى بترجيح هداية الدين.

2 -

أن مثوى الظالمين هو عذاب النار.

القرآن

(1) انظر: المحرر الوجيز: 2/ 179.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 138.

(3)

التفسير الميسر: 112.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 217 - 218.

(5)

تفسير المراغي: 6/ 99.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 179.

(7)

أخرجه الطبري (11737): 10/ 218.

(8)

حديث صحيح، أخرجه البخاري في الجنائز باب 33، والديات باب 2، والاعتصام باب 15، ومسلم في القسامة حديث 27، والترمذي في العلم باب 14، والنسائي في التحريم باب 1، وابن ماجة في الديات باب 1، وأحمد في المسند 1/ 383، 430، 433، وقال ابن كثير في تفسيره 3/ 130:"وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". وأخرجه الطري في تفسيره (11738): ص 10/ 218، وتاريخه 1/ 72.

(9)

أخرجه الطبري (11740): 10/ 219.

(10)

أخرجه الطبري (11741): ص 10/ 219.

ص: 149

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)} [المائدة: 30]

التفسير:

فَزَيَّنت لقابيلَ نفسُه أن يقتل أخاه، فقتله، فأصبح من الخاسرين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم.

قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30]، أي:" فَزَيَّنت لقابيلَ نفسُه أن يقتل أخاه، فقتله"(1).

قال الزجاج: أي: " تابعته"(2).

قال الواحدي: أي: " سهَّلته وزيَّنت له ذلك"(3).

قال السمرقندي: " يعني: تابعت له نفسه على قتل أخيه"(4).

قال ابن كثير: " أي: فحسنت وسوّلت له نفسه، وشجعته على قتل أخيه فقتله، أي: بعد هذه الموعظة وهذا الزجر"(5).

قال الزمخشري: أي: " فوسعته له ويسرته، من طاع له المرتع: إذا اتسع. وقرأ الحسن: فطاوعت"(6).

وفي قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30]، اقوال:

أحدها: يعنى شجعت له نفسه قتل أخيه، وهو قول مجاهد (7).

والثاني: يعني: زيَّنَت له، وهو قول قتادة (8).

والثالث: يعني فساعدته (9).

والرابع: يعني: فغلت، من الطوع. حكاه الزجاج عن المبرد (10).

قال الجصاص: " والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طوعا من نفسه غير متكره له ويقال إن العرب تقول طاع لهذه الظبية أصول الشجر وطاع فلان كذا أي أتاه طوعا ويقال انطاع بمعنى انقاد ويقال طوعت له نفسه ولا يقال أطاعته نفسه على هذا المعنى لأن قولهم أطاع يقتضى قصد أمنه لموافقة معنى الأمر وذلك غير موجود في نفسه وليس كذلك الطوع لأنه لا يقتضي أمرا ولا يجوز أن يكون آمر لنفسه ولا ناهيا لها إذ كان موضوع الأمر والنهي ممن هو أعلى لمن دونه وقد يجوز أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدى إلى غيره كقولك حرك غيره وقتل نفسه كما يقال حرك غيره وقتل غيره"(11).

قال الرازي: " قال المفسرون: سهلت له نفسه قتل أخيه. ومنهم من قال شجعته، وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر، فهذا الاعتقاد يصير صارفا له عن فعله، فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يطيعه بوجه البتة، فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلا عليه، فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه"(12).

ثم اختلفوا في صفة قتله إياه، كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله، وفيه وجوه:

(1) التفسير الميسر: 112.

(2)

معاني القرآن: 2/ 167.

(3)

الوجيز: 316.

(4)

بحر العلوم: 1/ 384.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 88.

(6)

الكشاف: 1/ 626.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11742) - (11744): ص 10/ 221.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11745): ص 10/ 221.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 30.

(10)

انظر: معاني القرآن: 2/ 167.

(11)

أحكام القرآن: 4/ 48.

(12)

مفاتبح الغيب: 11/ 340.

ص: 150

أحدها: أنه وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة. وهذا القول رواه السدي عن عبد الله بن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

والثاني: أنه لم يدر كيف يقتله، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقطع رأسه، ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه، فعلَّمه القتل. وهذا قول مجاهد (2)، وابن جريج (3).

قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره وجائزٌ أن يكون كان على ما ذكره مجاهد، والله أعلم أيُّ ذلك كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه"(4).

قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30]، أي:" فأصبح من الخاسرين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم"(5).

قال النحاس: " أي ممن خسر حسناته و «الخسران»: النقصان"(6).

قال السمرقندي: " يعني: فصار من المغبونين في العقوبة"(7).

قال الواحدي: أي: " خسر دنياه بإسخاط والديه وآخرته بسخط الله عليه"(8).

قال الطبري: أي: " فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم، من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، بإيثارهم إياها عليها، فوُكسوا في بيعهم، وغبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم"(9).

قال الزجاج: أي: " ممن خسر حسناته، وكان حين قتله سلبه ثيابه وتركه عاريا بالأرض القفار"(10).

قال الجصاص: " يعني: خسر نفسه بإهلاكه إياها لقوله تعالى إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ولا دلالة في قوله فأصبح من الخاسرين على أن القتل كان ليلا وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا وهو كقول الشاعر (11):

أصبحت عاذلتي معتله

وليس المراد النهار دون الليل، وكقول الآخر (12):

بكرت علىّ عواذلى

يلحيننى وألومهنّه

ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم" (13).

(1) انظر: تفسير الطبري (11746): ص 10/ 221 - 222.

(2)

انظر تفسير الطبري (11749): ص 10/ 222.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11747)، و (11748): ص 10/ 222.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 223 - 224.

(5)

التفسير الميسر: 112.

(6)

معاني القرآن: 2/ 297.

(7)

بحر العلوم: 1/ 384.

(8)

الوجيز: 316.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 224.

(10)

معاني القرآن: 2/ 167.

(11)

البيت لمسكين بن عامر الحنظلي، كما في المعاني الكبير في أبيات المعاني: 3/ 1237، والزهرة للبغدادي: 229 [مرقم آليا]، وأمالي القالي: 1/ 138، والبيت تمامه: " قرمتْ بل هي وحمى للصخبْ.

(12)

ديوانه ص 66، وتخريجه فيه، وزد عليه: غريب أبى عبيد، وغريب الحديث لابن قتيبة 1/ 537، والجمل المنسوب للخليل ص 133، والأصول 2/ 383، والبغداديات ص 429، والأزهية ص 267، ورصف المبانى ص 119، وفهارسه، والجنى الدانى ص 399، وشرح أبيات المغنى 1/ 188. ويأتى هذا الشعر فى المعاجم، فى مادة (أنن)، وفى كتب التفسير وإعراب القرآن، فى الكلام على قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ الآية (63) من سورة طه. انظر مثلا معانى القرآن وإعرابه للزجاج 3/ 363، وإعراب القرآن للنحاس 2/ 344، وتفسير القرطبى 6/ 247، 11/ 218.

(13)

أحكام القرآن: 4/ 48 - 49.

ص: 151

قال الرازي: " قيل: إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فإن عبدت النار أيضا حصل مقصودك، فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار.

وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال ما كنت عليه وكيلا، فقال بل قتلته، ولذلك اسود جسدك، ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط" (1).

الفوائد:

1 -

أن قوله {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} يدل، على أنه كان يهاب قتل أخيه، وتجبن فطرته دونه، فما زالت نفسه الأمارة بالسوء تشجعه عليه حتى تجرأ وقتل عقب التطويع بلا تفكر ولا تدبر للعاقبة.

2 -

قالت المعتزلة: لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافا إلى الله تعالى لا إلى النفس.

وجوابه: أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي، وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى (2).

القرآن

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)} [المائدة: 31]

التفسير:

لما قتل قابيلُ أخاه لم يعرف ما يصنع بجسده، فأرسل الله غرابًا يحفر حفرةً في الأرض ليدفن فيها غرابًا مَيِّتًا; ليدل قابيل كيف يدفن جُثمان أخيه؟ فتعجَّب قابيل، وقال: أعجزتُ أن أصنع مثل صنيع هذا الغراب فأستُرَ عورة أخي؟ فدَفَنَ قابيل أخاه، فعاقبه الله بالندامة بعد أن رجع بالخسران.

قوله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 31]، أي:" فأرسل الله غرابًا يحفر حفرةً في الأرض ليدفن فيها غرابًا مَيِّتًا"(3).

قال الطبري: أي: " فأثار الله للقاتل إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول، غرابًا يحفر في الأرض، فيثير ترابها"(4).

قال عطية: " لما قتله ندم، فضَّمه إليه حتى أروح (5)، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يَرْمي به فتأكله"(6).

قال قتادة: " قتل غرابٌ غرابًا، فجعل يحثُو عليه"(7).

قال مجاهد: " وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى الغراب يدفن الغرابَ"(8).

قال السدي بإسناده إلى الصحابة: " لما مات الغلام تَركه بالعراء، ولا يعلم كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه

(1) مفاتيح الغيب: 11/ 241. وسوف يأتي ذكر تلك النصوص في تفسير الآية التالية.

(2)

م مفاتيح الغيب: 11/ 240 - 241.

(3)

التفسير الميسر: 112.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 229.

(5)

أروح اللحم، وأراح. أنتن.

(6)

أخرجه الطبري (11759): ص 10/ 226.

(7)

أخرجه الطبري (11761): ص 10/ 227.

(8)

أخرجه الطبري (11762): ص 10/ 227.

ص: 152

قال: يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي، فهو قول الله: فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه " (1).

قال ابن عطية: " معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره، ومن هذا سميت سورة براءة البحوث لأنها فتشت عن المنافقين ومن ذلك قول الشاعر (2):

إن الناس غطوني تغطيت عنهم

وإن بحثوني كان فيهم مباحث

وفي مثل: لا تكن كالباحث عن الشفرة" (3).

وقال الشاعر (4):

فكانت كعنز السوء قامت برجلها

إلى مدية مدفونة تستثيرها

قوله تعالى: {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]، أي:" ليدل قابيل كيف يدفن جُثمان أخيه"(5).

قال الطبري: أي: " ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه"(6).

قال الرازي: " {ليريه}، فيه وجهان: الأول: ليريه الله، أو ليريه الغراب، أي ليعلمه، لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز"(7).

قال ابن عطية: " والضمير في قوله: {سوأة أخيه}، يحتمل أن يعود على قابيل ويراد بالأخ هابيل، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ويراد بالأخ الغراب الميت، والأول أشهر في التأويل"(8).

وفي معنى قوله تعالى: {سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31]، وجوه (9):

أحدها: يعني: عورة أخيه. ذكره السمرقندي (10).

قال الرازي: " {سوأة أخيه}: عورة أخيه، وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده، والسوأة الفضيحة لقبحها"(11).

قال ابن عطية: " السوأة: العورة، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، ولأن سترها أوكد"(12).

والثاني: جيفة أخيه لأنه تركه حتى أنتن، فقيل لجيفته سوأة (13). وهذا اختيار الإمام الطبري (14).

والثالث: يعني: جسده الميت، فإنه مما يستقبح أن يرى. أفاده البيضاوي (15).

والرابع: ويحتمل أن يراد «بالسوأة» هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه بل الغض حق للقاتل وهو الذي أتى «بالسوأة» . أفاده ابن عطية (16).

وفي الغراب المبعوث قولان:

(1) أخرجه الطبري (11754): ص 10/ 225.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 181، وذكره القرطبي: 6/ 143.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 181، وذكره القرطبي: 6/ 143 بتمامه.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 143.

(5)

التفسير الميسر: 112.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 229.

(7)

مفاتيح الغيب: 11/ 341.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 181.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 30.

(10)

انظر: بحر العلوم: 1/ 384.

(11)

مفاتيح الغيب: 11/ 341.

(12)

المحرر الوجيز: 2/ 181.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 31.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 229.

(15)

انظر: تفسير البيضاوي: 2/ 124.

(16)

انظر: المحرر الوجيز: 2/! 81.

ص: 153

أحدهما: أنه كان ملكاً على صورة الغراب، فبحث الأرض على سوأة أخيه حتى عرف كيف يدفنه. ذكره الماوردي (1).

والثاني: أنه كان غراباً، بحث الأرض على غراب آخر. وفيه وجوه (2):

أحدها: أن قابيل لم يدر كيف يفعل بهابيل حتى بعث الله الغرابين، فتنازعا فاقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فبحث الأرض عليه.

قال ابن عباس: " مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين، فرآهما يبحثان، فقال: أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب؟ فدفن أخاه"(3).

قال مجاهد: ": بعث الله غرابًا حتى حفر لآخر إلى جنبه ميت وابن آدم القاتل ينظر إليه ثم بحث عليه حتى غيَّبه"(4).

الثاني: أن الغراب إنما بعث ليري ابن آدم كيفية المواراة لهابيل خاصة.

والثالث: وقيل: إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه، لأنه من عادة الغراب فعل ذلك، فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه. وهذا قول أبي مسلم (5)، وذكره القرطبي (6).

قال أبو مسلم: "عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه"(7).

قال القرطبي: " وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة"(8).

قوله تعالى: {قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31]، أي:" فتعجَّب قابيل، وقال: أعجزتُ أن أصنع مثل صنيع هذا الغراب فأستُرَ عورة أخي؟ "(9).

قال السمرقندي: " يعني: أضعفت في الحيلة أن أكون مثل هذا الغراب، فأغطي عورة أخي"(10).

قال قتادة: " أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض، ذكر لنا أنهما غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه، وذلك يعني ابن آدم ينظر، وجعل الحيّ يَحْثِي على الميت الترابَ، فعند ذلك قال ما قال: {يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} الآية، إلى قوله: {من النادمين} "(11).

قال الضحاك: " بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: {يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب}، الآية"(12).

قال الرازي: " قوله: {يا ويلتى}، اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، ولفظها لفظ النداء، كأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره، أي أيها الويل احضر، فهذا أوان حضورك، وذكر «يا» زيادة بيان كما في قوله: {يا ويلتى أألد} [هود: 72] "(13).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 31.

(2)

انظر: أحكام القرآن لان العربي: 2/ 86.

(3)

أخرجه الطبري (11752): ص 10/ 225.

(4)

أخرجه الطبري (11755): ص 10/ 225 - 226.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 11/ 341.

(6)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 141.

(7)

مفاتيح الغيب: 11/ 341. .

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 142.

(9)

التفسير الميسر: 112.

(10)

بحر العلوم: 1/ 384.

(11)

أخرجه الطبري (11760): ص 10/ 227.

(12)

أخرجه الطبري (11764): ص 10/ 227.

(13)

مفاتيح الغيب: 11/ 342.

ص: 154

وقرأ الجمهور: «يا ويلتى» والأصل «يا ويلتي» لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك فيقولون «يا ويلتى» ويا غلاما ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول يا ويلتاه. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يا ويلتى» ونداء الويلة هو على معنى احضري فهذا أوانك، وهذا هو الباب في قوله:{يا حسرة} [يس: 30] وفي قوله: يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان (1).

وقرأ الجمهور: «أعجزت» بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن والفياض وطلحة بن سليمان: «أعجزت» بكسر الجيم، وهي لغة (2).

وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان: «فأواري» بسكون الياء، وهي لغة لتوالي الحركات (3).

قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31]، أي:" فعاقبه الله بالندامة بعد أن رجع بالخسران"(4).

قال الحسن البصري: "علاه الله بندامة بعد خسران"(5).

قال السمرقندي: أي: على حمله حيث لم يدفنه حين قتله" (6).

قال الطبري: أي: " على ما فرط منه، من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه"(7).

أخرج الطبري عن ابن إسحاق، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل، قال: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أوَّل قتيل من بني آدم وأوّل ميت قال:{يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي} الآية، إلى قوله:{ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} ، قال: ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه: يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا! فقال الله جل وعز له: إنّ صوت دم أخيك لينادِيني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرضِ التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل: عظمت خطيئتي من أن تغفرها! قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قُدَّامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة، وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة" (8).

وعن خيثمة قال: "لما قتل ابن آدم أخاه نَشِفت الأرض دمه، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعد"(9).

فان قيل: أليس الندم توبة، فلم لم يقبل منه؟ فعنه خمسة أجوبة:

أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصت بخصائص لم تشارك فيها، قاله الحسن بن الفضل (10).

والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله (11).

(1) انظر: المحرر الوجيز: 2/ 181.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 181.

(3)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 181.

(4)

التفسير الميسر: 112.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 90.

(6)

بحر العلوم: 1/ 384.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 229.

(8)

تفسير الطبري (11765): ص 10/ 228. هذا الذي رواه ابن إسحق من قول أهل التوراة، تجده في كتاب القوم في سفر التكوين، في الإصحاح الرابع، وهو ترجمة أخرى لهذه الفقرة من هذا الإصحاح.

(9)

أخرجه الطبري (11766): ص 10/ 229.

(10)

انظر: زاد المسير: 1/ 539.

(11)

انظر: زاد المسير: 1/ 539.

ص: 155

قال الرازي: " لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة"(1).

والثالث: أنه ندم إذ لم يواره حين قتله (2).

قال الرازي: " أنه كان عالما منه بكيفية دفنه، فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قتله أخفاه تحت الأرض، أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب"(3).

والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب (4).

والخامس: أنه ندم ولم يستمر ندمه (5).

والسادس: أنه ندم عندما رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه.

قال القرطبي: " وقال قوم: كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك: {يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين}، حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة"(6).

والسابع: أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علما منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته، فندم وتلهف وتحسر على فعله. أفاده الرازي (7).

قال الرازي: " أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافا به بعد قتله، فلما رأى أن الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي، فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم"(8).

والثامن: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، وسخط عليه بسببه أبواه وإخوته، فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية (9).

قال ابن العربي: " كل من ندم فقد سلم، لكن الندم له شروط، فكل من جاء بشروطه قبل منه، ومن أخل بها أو بشيء منها لم يقبل"(10).

قال ابن عطية: " لما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور، فقال:{يا ويلتى أعجزت} الآية، واحتقر نفسه ولذلك ندم

ثم إن قابيل وارى أخاه وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفعه الندم، واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من العصاة" (11).

وقال أبو الليث عن ابن عباس: "لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه"(12).

(1) مفاتيح الغيب: 11/ 342.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 539.

(3)

مفاتيح الغيب: 11/ 342.

(4)

انظر: زاد المسير: 1/ 539، وتفسير القرطبي: 6/ 142

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 142.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 142.

(7)

مفاتيح الغيب: 11/ 342.

(8)

مفاتيح الغيب: 11/ 342.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 11/ 342.

(10)

أحكام القرآن: 2/ 88.

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 181.

(12)

انظر: بحر العلوم: 1/ 384، وتفسير القرطبي: 6/ 142، ومحاسن التأويل: 4/ 111.

ص: 156

وإن قيل: أنه ومن الغريب أنّ الله أخبر عنه أنّه ندم وأنّه في النّار، وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:"النَّدِمُ تَوبَةٌ"(1).

فقال علماؤنا عنه ثلاثة أَوْجُهٍ (2):

أحدها: أنّ الحديث لم يصحّ، ولكن المعنى صحيحٌ، وكلُّ من ندم سَلِمَ، لكن النَدم له شروطٌ، من جاء بها قُبِلَ منه، ومن أَخَلَّ بها ولم يأت بها لم يُقْبل منه.

الثّاني - قيل: معناه نَدِمَ ولم يَستَمرّ نَدَمُه، وإنّما يُقْبَلُ النَّدَمُ إذا اسْتَمَرَّ.

والثالث: قال علماؤنا: النَّدَمُ على المعاصي إنّما يقعُ بشرطِ العَزْمِ ألَّا يعود ولا يفعل في المستقبل.

قال ابن كثير: "والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة، كما ذكره مجاهد بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة، من البَغْي وقطيعة الرحم» (3). وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا، فإنا لله وإنا إليه راجعون"(4).

وقال المقدم: " فالظاهر أن الله سبحانه وتعالى لم يعف عنه؛ لأنه لم يتب مما فعل بأخيه، فيلزم أن يفسر قوله تعالى:{فأصبح من النادمين} ، يعني: على حيرته حيث لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الأعجم، فكان أخس وأقل من الغراب الأعجم، ولو كان نادماً على قتل أخيه لكانت الندامة توبة، لكنه لم يتب.

وظاهر الآيات أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب، ولا مانع من ذلك؛ إذ مثله مما يجوز خفاؤه على الإنسان، لاسيما والعالم في أول طور النشأة، وكان هابيل أول قتيل من بني آدم، فيكون أول ميت، فيحتمل أنه لم يكن يعرف ما ويصنع بالميت إذا مات أو بالقتيل إذا قتل" (5).

قال الطبري: " وكل ما ذكر الله عز وجل في هذه الآيات، مثلٌ ضربه الله عز ذكره لبني آدم، وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفوِ والصفح عن اليهود الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم من بني النضير، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري، وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم، وسوء استقامتهم على منهج الحق، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم. وضرب مثلهم في غَدْرهم، ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم، بابني آدم المقرِّبَين قرابينهما، اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي بالفاضل منهما دون الطالح، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"(6).

وروي عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه الأمة، فخذوا بالخير منهما"(7).

قال السمرقندي: " يقال: إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه، ثم إن قابيل كان على ذروة جبل، فنطحه ثور فوقع على السفح فتفرقت عروقه، ويقال: دعا عليه آدم فانخسفت به"(8).

(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1044)، والحمدي (105)، وأحمد: 1/ 376، وابن ماجه (4252)، وأبو يعلى (4969)، وابن حبّان (612) من حديث ابن مسعود.

(2)

المسالك في شرح موطأ مالك: 3/ 554 - 555.

(3)

) رواه أبو داود في سننه برقم (4902) وابن ماجة في سننه برقم (4211) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 92.

(5)

تفسير القران الكريم: دروس صوتية: 41/ 2.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 229 - 230.

(7)

أخرجه الطبري (11768): ص 10/ 230.

(8)

بحر العلوم: 1/ 385. ولم اقف عليه ..

ص: 157

ومن الإسرائيليات ما رواه الطبري، وابن كثير في تفسيرهما كذلك ذكره السيوطي في "الدر": من أن آدم لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنًا عليه؛ فأتى على رأس المائة فقيل له: حياك الله وبياك، وبُشر بغلام؛ فعند ذلك ضحك، وكذلك ما ذكره من أن آدم عليه السلام رثى ابنه بشعر.

أخرج الطبري عن سالم بن أبي الجعد قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حيّاك الله وبيّاك! فقال: بياك، أضحكك" (1).

وأخرج الطبري عن علي بن أبي طالب: "لما قتل ابن آدم أخاه، بكاه آدم فقال:

تَغيَّرت البلاد ومَنْ عَلَيها

فَلَوْنُ الأرض مُغْبر قَبيح

تغيَّر كل ذي لون وطعم

وقلَّ بَشَاشَة الوجْه المليح

فأجيب آدم عليه السلام:

أبَا هَابيل قَدْ قُتلا جَميعًا

وصار الحي كالميْت الذبيح

وجَاء بشرةٍ قد كان مِنْها

عَلى خَوف فجاء بها يَصيح" (2)

وذكره ابن كثير في تفسيره (3).

وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في كتابه: "ميزان الاعتدال"، وقال: فالآفة المخرمي أو شيخه" (4).

قال الزمخشري: " وروى أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك» وأنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر"(5).

قال الشيخ محمد أبو شهبة: "وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق، والأنبياء لا يقولون الشعر

قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69]، والحق: أنه شعر في غاية الركاكة، والأشبه أن يكون هذا الشعر اختلاق إسرائيلي ليس له من العربية إلا حظ قليل، أو قصاص يريد أن يستولي على قلوب الناس بمثل هذا الهراء" (6).

قال الألوسي: "وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: «من قال: آدم عليه السلام قد قال شعرًا فقد كذب، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل بكاه آدم بالسريانية، فلم يزل ينقل، حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية، والسريانية، فقدم فيه وأخر، وجعله شعرًا عربيًا»، وذكر بعض علماء العربية: أن في ذلك لحنًا، وإقواء، وارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة"(7).

الفوائد:

(1) تفسير الطبري (11720): ص 10/ 209 - 210. في اسناده حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي. روى عن الحسن. وابن سيرين، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر. روى عنه أبو داود الطيالسي، وهشيم، ويزيد بن هرون، وغيرهم. ضعفوه، حتى قال ابن معين: كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، حتى خرج عن حد الاحتجاج به. مترجم في التهذيب.

(2)

تفسير الطبري (11721): ص 10/ 209 - 210. وفي إسناده غياث بن إبراهيم النخعي، الكوفي، قال يحيى بن معين: كذاب خبيث. وقال خالد بن الهياج: سمعت أبي يقول: رأيت غياث بن إبراهيم، ولو طار على رأسه غراب لجاء فيه بحديث! وقال: إنه كان كذابًا يضع الحديث من ذات نفسه. مترجم في الكبير 4/ 1/109، وابن أبي حاتم 3/ 2/57، وفي لسان الميزان، وميزان الاعتدال.

وفي المخطوطة والمطبوعة، سقط من الإسناد عن غياث بن إبراهيم، وزدته من إسناد أبي جعفر في تاريخه 1: 72، وروى الخبر هناك.

(3)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 91.

(4)

ميزان الإعتدال: 1/ 155.

(5)

الكشاف: 1/ 626.

(6)

الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير: 183.

(7)

روح المعاني: 3/ 285 - 286.

ص: 158

1 -

قال ابن الجوزي: " وفي هذه القصة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل"(1).

2 -

أن الله تعالى بعث الغراب حكمة، ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى: {ثم أماته فأقبره] [عبس: 21]، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين. وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه، ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين.

وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال: " لما مات أبو طالب أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات، فقال: " انطلق فواره، ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني " قال: فانطلقت فواريته. فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما أحب أن لي بهن ما عرض من شيء» (2)(3).

3 -

أن دفن الميت لوجهين (4):

أحدهما: لستره.

الثاني: لئلا يؤذي الأحياء بجيفته.

روي عن يحيى بن زهدم قال: حدثني أبي عن أبيه عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «امتن الله عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حبا من الدنانير والدراهم. وبالموت بعد الكبر، فإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له" (5).

4 -

ومنها: أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية فليس بتوبة، ففي الآية دلالة على أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة، فهو هنا لم يندم على قبح المعصية، أو لم يندم خوفاً من الله تبارك وتعالى، ولذلك لم ينفعه هذا الندم، يقول الرازي: ندم على قساوة قلبه كونه دون الغراب في الرحمة فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.

5 -

قال ابن العربي: " قوله تعالى: {أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب} [المائدة: 31]: فيه دليل على قياس الشبه"(6).

القرآن

{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)} [المائدة: 32]

التفسير:

بسبب جناية القتل هذه شَرَعْنا لبني اسرائيل أنه من قتل نفسا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد، الموجب للقتل كالشرك والمحاربة فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله، وأنه من امتنع عن قَتْل نفس حرَّمها الله فكأنما أحيا الناس جميعًا; فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظ على حرمات الناس كلهم. ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم، وأداء ما

(1) زاد االمسير: 1/ 539.

(2)

أخرجه أحمد (1092): ص 2/ 332، وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 269 و 6712، وابن سعد 1/ 124، وأبو داود (3214)، والنسائي 4/ 79، وفي "الكبرى"(195)، وفي "الخصائص"(149)، والدارقطني في "العلل" 4/ 146، والبيهقي في "السنن" 3/ 398، وفي "دلاثل النبوة" 2/ 348 - 349. [إسناده ضعيف، ناجية بن كعب: هو الأسدي، وهو مجهول].

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 143.

(4)

أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 86.

(5)

تفسير الثعلبي: 4/ 53، وتفسيرالقرطبي: 6/ 142.

(6)

أحكام القرآن: 2/ 87.

ص: 159

فُرِضَ عليهم، ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره.

قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32]، أي:" بسبب جناية القتل هذه شَرَعْنا لبني اسرائيل"(1).

قال الضحاك: " يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا"(2).

قال مقاتل: " يعنى: من أجل ابني آدم تعظيما للدم، {كتبنا على بني إسرائيل} في التوراة"(3).

قال الطبري: أي: " من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا حكمنا على بني إسرائيل"(4).

قال ابن كثير: " يقول تعالى: {مِنْ أَجْلِ} قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا، {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: شرعنا لهم وأعلمناهم"(5).

قال ابن عطية: " جمهور الناس على أن قوله: من أجل ذلك متعلق بقوله كتبنا أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله: {من النادمين} [المائدة: 31]، أي ندم من «أجل» ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف من النادمين"(6).

وقوله: {من أجل ذلك} ، من: جرِّ ذلك وجَريرته وجنايته، قال الشاعر (7):

وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهمْ

قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُه

يعني بقوله: أنا آجله، أنا الجارُّ ذلك عليه والجانِي (8).

قال ابن عطية: " {كتبنا} ، معناه: كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك، وخص الله تعالى: بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظورا لوجهين:

أحدهما: فيما روي أن بني إسرائيل أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء.

والآخر: لتلوح مذمتهم في أن كتب عليهم هذا وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلما، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم" (9).

(1) التفسير الميسر: 113.

(2)

أخرجه الطبري (11770): ص 10/ 232.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 471.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 232

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 92.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 181.

(7)

مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 163، وتفسير الطبري: 10/ 231 - 232، وشرح إصلاح المنطق 1/ 14، وشرح شعر زهير للشنتمري: 33، واللسان (أجل)، وفي رواية لابن برى، في اللسان:

وَأَهْل خِبَاء آمِنِين، فَجَعْتُهُمْ

بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِل أَنَا آجِلُهْ

وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ مَالَهُمْ

سُؤَالَكَ بِالَّشْيءِ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ

ويروى الشطر الأول، من البيت الثاني: فَأَقْبَلَتْ فِي السَّاعِينَ أَسْأَلُ عَنْهُمُ

ونسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال: قال الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وإنما سماه الخنوت، الأحنف بن قيس. لأن الأحنف كلمه، فلم يكلمه احتقارًا له، فقال: إن صاحبكم هذا الخنوت! والخنوت: المتجبر الذاهب بنفسه، المستصغر للناس.

والخنوت (بكسر الخاء، ونون مشددة مفتوحة، واو ساكنة).

وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص: 68 وقال: وقتل أخواه

فأدرك الأخذ بثأرهما

وجزع على أخويه جزعًا شديدًا،

وكان لا يزال يبكي أخويه، فطلب إليه الأحنف أن يكف، فأبى، فسماه: الخنوت وهو الذي يمنعه الغيظ أو البكاء من الكلام.

ونسبه التبريزي في شرح إصلاح المنطق، والشنتمري في شرح ديوان زهير إلى خوات بن جبير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذي يذكر في خبر ذات النحيين.

وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى، في ديوانه (شرح الشنتمري).

(8)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 163، وتفسير الطبري: 10/ 231 - 232.

(9)

المحرر الوجيز: 2/! 82.

ص: 160

وقرئ: «من اجل ذلك» ، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها، وقرأ أبو جعفر:«من إجل ذلك» ، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقيا لكسرة الهمزة عليها (1).

قوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 32]، أي:" أنه من قتل نفسا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد، الموجب للقتل كالشرك والمحاربة"(2).

قال مقاتل: " من قتل نفسا بغير نفس عمدا، {أو فساد في الأرض}: أو عمل فيها بالشرك وجبت له النار ولا يعفى عنه حتى يقتل"(3).

قال الزمخشري: أي: " بغير قتل نفس، لا على وجه الاقتصاص، أو بغير فساد في الأرض وهو الشرك، وقيل: قطع الطريق"(4).

قال ابن كثير: " أي: ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية"(5).

قال ابن عطية: " قوله تعالى: {بغير نفس}، معناه: بغير أن تقتل نفسا فتستحق القتل، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا. وهنا يندرج المحارب، و «الفساد في الأرض» بجميع الزنا والارتداد والحرابة"(6).

قال الطبري: "فسادها في الأرض، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله، وإخافة السبيل"(7).

وقرأ الحسن: «أو فسادا في الأرض» ، بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فسادا أو أحدث فسادا، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه (8).

قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، أي:" فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله"(9).

قال الزجاج: " أي: المؤمنون كلهم خصماء القاتل، وقد وترهم وتر من قصد لقتلهم جميعا"(10).

قال ابن كثير: " لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس"(11).

قال البيضاوي: " من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم"(12).

قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، أي:" أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس"(13).

قال ابن كثير: " أي: حرم قتلها واعتقد ذلك، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار"(14).

(1) انظر: الكشاف: 1/ 627.

(2)

التفسير الميسر: 113.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 471.

(4)

الكشاف: 1/ 627.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 92.

(6)

المحرر الوجيز: 2/! 82.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 232

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 182.

(9)

التفسير الميسر: 113.

(10)

معاني القرآن: 2/ 169.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 92.

(12)

تفسير البيضاوي: 2/ 124.

(13)

صفوة التفاسير: 313

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 92.

ص: 161

قال الزمخشري: أي ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك" (1).

قال البيضاوي: " أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها"(2).

قال الزجاج: " أي: من استنقذها من غرق أو حرق أو هدم، أو ما يميت لا محالة، أو

استنقذها من ضلالة، أجره على الله أجر من أحياهم أجمعين، فإن قال قائل، كيف يكون ثوابه ثواب من أحياهم جميعا؟ فالجواب في هذا كالجواب في قوله تعالى {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فالتأويل: أن الثواب الذي إذا جعل للحسنة كان غاية ما يتمنى يعطى العامل لها عشرة أمثاله" (3).

عن أبي هريرة قال: "دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تَقْتُل الناس جميعًا وإياي معهم؟ قلت: لا. قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا، فانْصَرِفْ مأذونًا لك، مأجورًا غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل"(4).

وفي تفسير قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وجوه:

أحدها: يعني من قتل نبياً أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن شد على يد نبى أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعاً، وهذا قول ابن عباس (5).

قال ابن عطية: " وهذا قول لا تعطيه الألفاظ"(6).

والثاني: معناه فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول، ومن أحياها فاستنفذها من هلكة، فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنفذ، وهذا قول ابن مسعود (7).

والثالث: معناه أن قاتل النفس المحرمة يجب عليه من القود والقصاص مثل ما يجب عليه لو قتل الناس جميعاً، ومن أحياها بالعفو عن القاتل، أعطاه الله من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعاً، وهذا قول ابن زيد (8)، وأبيه (9).

وروي عن الحسن: " في قوله: {ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا}، قال: من عفا"(10). وفي رواية أخرى له: " العفو بعد القدرة"(11).

والرابع: معناه أن قاتل النفس المحرمة يَصْلَى النار كما يَصْلاها لو قتل الناس جيمعاً، ومن أحياها، يعني سلم من قتلها، فكأنما سلم من قتل الناس جميعاً، وهذا قول ابن عباس-في رواية اخرى- (12)، ومجاهد (13)، وذكر مقاتل نحوه (14).

(1) الكشاف: 1/ 627.

(2)

تفسير البيضاوي: 2/ 124.

(3)

معاني القرآن: 2/ 169.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 92.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11771)، و (11772): ص 10/ 232 - 233

(6)

المحرر الوجيز: 2/! 82.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11773): ص 10/ 233.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11787)، و (11788): ص 10/ 237.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11787)، و (11788): ص 10/ 237.

(10)

أخرجه الطبري (11789): ص 10/ 237.

(11)

أخرجه الطبري (11791): ص 10/ 237.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11774): ص 10/ 234، و (11781): ص 10/ 235.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11775) - (11780): ص 10/ 234 - 235، و (118782) - (11786): ص 10/ 236.

(14)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 472.

ص: 162

والخامس: أن على جميع الناس جناية القتل كما لو قتلهم جميعاً، ومن أحياها بإنجائها من غرق أو حرق أو هلكة، فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعا. وهذا قول مجاهد أيضا (1).

والسادس: أن الله تعالى عظم أجرها ووزرها فإحياؤها يكون بمالك أو عفوك، وهذا قول الحسن (2)، وقتادة (3).

قال الطبري: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: تأويل ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [سورة النساء: 93].

وأما قوله: {ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا} ، فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [سورة البقرة: 258]. فكان معنى الكافر في قيله: أنا أحيي، أنا أترك من قَدَرت على قتله - وفي قوله: وأميت، قتله من قتله، فكذلك معنى الإحياء في قوله: ومن أحياها، من سلِمَ الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم فكأنما أحيى الناس جميعًا.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى الإحياء: سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس - وأن الواحدة منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض" (4).

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟

قلت: لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك.

فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟

قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها" (5).

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 32]، أي:" ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم، وأداء ما فُرِضَ عليهم"(6).

قال مقاتل: " يعني: بالبيان في أمره ونهيه"(7).

قال ابن كثير: " أي: بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة"(8).

قال الطبري: " وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله: {يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم}، إلى هذا الموضع بالبينات، يعني: بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم"(9).

قال ابن عطية: " أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل» أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه"(10).

قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]، أي:" ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره"(11).

قال مقاتل: " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك البيان {في الأرض لمسرفون}، يعني: إسرافا في سفك الدماء واستحلال المعاصي"(12).

قال السعدي: أي: " {ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا} من الناس {بعد ذلك} البيان القاطع للحجة، الموجب للاستقامة في الأرض، في العمل بالمعاصي، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج"(13).

قال الزمخشري: " {بعد ذلك}، بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات {لمسرفون}، يعنى: في القتل لا يبالون بعظمته"(14).

قال الطبري: " يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض"(15).

قال القرطبي: " ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله"(16).

قال البيضاوي: " أي: بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر"(17).

قال ابن عطية: " ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم"(18).

قال ابن كثير: "وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة، حيث يقول: {وَإِذْ

(1) انظر: تفسير الطبري (11792) - (11794): ص 10/ 238.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11797)، و (11800)، و (11801)، و (11802): ص 10/ 239، 240.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11798)، و (11799): ص 10/ 239.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 240 - 241.

(5)

الكشاف: 1/ 627.

(6)

التفسير الميسر: 113.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 472.

(8)

تفسير ابن كثير: 2/ 94.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 242.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 182.

(11)

التفسير الميسر: 113.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 472.

(13)

تفسير رالسعدي 229.

(14)

الكشاف: 1/ 627.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 242.

(16)

تفسير القرطبي: 6/ 147.

(17)

تفسير البيضاوي: 2/ 124.

(18)

المحرر الوجيز: 2/ 182.

ص: 163

أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 84، 85] " (1).

قال الواحدي: " {المسرفون} أَيْ: مجاوزون حدَّ الحقِّ"(2).

أخرج ابن سلام من طريق أبو عبيد عن سليمان بن علي الرّبعي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} ، فقلت: يا أبا سعيد (3) أهي علينا كما كانت على بني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله إلا هو وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم عليه من دمائنا، قال أبو عبيد: وقد كان بعض أهل العلم يتأول في آية النساء غير هذا المذهب" (4).

الفوائد:

1 -

تأديب الرب تعالى لبني إسرائيل، ومع الأسف لم ينتفعوا به.

2 -

قال السعدي: " ودلت الآية على أن القتل يجوز بأحد أمرين:

أحدهما: إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك، فإنه يحل قتله، إن كان مكلفا مكافئا، ليس بوالد للمقتول.

والثاني: وإما أن يكون مفسدا في الأرض، بإفساده لأديان الناس أو أبدانهم أو أموالهم، كالكفار المرتدين والمحاربين، والدعاة إلى البدع الذين لا ينكف شرهم إلا بالقتل، وكذلك قطاع الطريق ونحوهم، ممن يصول على الناس لقتلهم، أو أخذ أموالهم" (5).

3 -

أن القتل عمداً بغير حق أعظم الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل، يقول الله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وفي الحديث:(لزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل رجل مسلم).

4 -

أن القتل عمداً يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للمقتول، وحق لأولياء القتيل، فإذا أداها برئت ذمته.

فالحق الأول: حق لأولياء القتيل، فيأتي ويسلم نفسه إليهم، ويصطلح معهم، فإن شاءوا قتلوه قصاصاً وإن شاءوا طلبوا منه الدية أو أكثر من الدية صلحاً، فإذا سلم نفسه إليهم وقتلوه قصاصاً أو اتفقوا معه على نفس الدية أو أكثر منها سقط حقهم، وبقي حق الله وحق القتيل.

والثاني: حق الله: فإذا تاب فيما بينه وبين الله توبةً نصوحاً، بأن أقلع عن هذه المعصية وندم على ما مضى وعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليها مرة أخرى تاب الله عليه وسقط حق الله، والثالث: حق القتيل يوم القيامة، فإذا أدى الحقين: حق أولياء القتيل وحق الله، فالله تعالى يرضي المقتول عنه يوم القيامة بما يعطيه من الثواب والدرجات في الآخرة، فيصفح عن أخيه فيتوب الله عليه.

والصواب أن القاتل له توبة، وهذا هو الذي عليه الجماهير (6).

القرآن

(1) تفسير ابن كثير: 2/ 94.

(2)

الوجيز: 317.

(3)

هو الحسن البصري، كنيته أبو سعيد.

(4)

الناسخ والمنسوخ، للقاسم بن سلام: 1/ 271، وروى نحوه ابن أبي شيبة فى المصنف ج 9، كتاب الديات «باب من قال: ليس لقاتل المؤمن توبة» ص 360 تحقيق مختار أحمد الندوي.

(5)

تفسير رالسعدي 229.

(6)

انظر: شرح الاقتصاد في الاعتقاد للراجحي: الدرس: 10/ 10 [دروس صوتية مرقم آليا].

ص: 164

{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة: 33]

التفسير:

إنما جزاء الذين يحاربون الله، ويبارزونه بالعداوة، ويعتدون على أحكامه، وعلى أحكام رسوله، ويفسدون في الأرض بقتل الأنفس، وسلب الأموال، أن يُقَتَّلوا، أو يُصَلَّبوا مع القتل (والصلب: أن يُشَدَّ الجاني على خشبة) أو تُقْطَع يدُ المحارب اليمنى ورجله اليسرى، فإن لم يَتُبْ تُقطعْ يدُه اليسرى ورجلُه اليمنى، أو يُنفَوا إلى بلد غير بلدهم، ويُحبسوا في سجن ذلك البلد حتى تَظهر توبتُهم. وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلّ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا.

في سبب نزول الآية بعدها خمسة أقوال:

أحدها: قال أنس: " قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم؛ فأمر؛ فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.

قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله" (1).

وروي عن ابن عباس (2)، وابن عمر (3)، وسعيد بن جبير (4)، وسعيد بن المسيب (5)، والسدي (6)، وجرير بن عبدالله البجلي (7)، نحو ذلك.

وفي رواية الطبري عن أنس: "أن رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، وإنا استوخمنا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم (8)، وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} "(9).

وقال السدي (10)، ومحمد بن عجلان (11): لم يسمُل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيِّين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه، يعرِّفه الحكم فيهم، ونهاه عن سمل أعينهم.

والثاني: قال ابن عباس: "كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ وميثاق، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ". رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (12)، وبه قال الضحاك (13).

والثالث: أن أصحاب أبي بردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس (14).

وقال ابن السائب: "كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يهج، ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهج، فمر قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال، فنهدوا إليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضرا، فنزلت هذه الآية"(15). [باطل]

والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس (16)، وبه قال الحسن (17)، وعكرمة (18).

قال القرطبي: " وهذا ضعيف يرده قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يهدم ما قبله» (19) "(20).

والخامس: عن ابن سعد؛ قال: "نزلت هذه الآية في الحرورية (21): {إِنَّمَا جَزَاءُ. . .} "(22).

(1) أخرجه البخاري (رقم 233، 3018، 4193، 4610، 6802، 6803، 6805، 6899)، ومسلم (رقم 1671/ 10 - 12). [صحيح].

(2)

أخرجه عنه الخرائطي في "مكارم الأخلاق"(2/ 984 رقم 1113) من طريق محمد بن الصلت نا عبد العزيز بن مسلم الشامي عن الضحاك عن ابن عباس به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ فالضحاك لم يلق ابن عباس، وعبد العزيز هذا لم نجد.

(3)

أخرجه أبو داود (4/ 131 رقم 4369) -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى"(8/ 282، 283) -، والنسائي (7/ 100)، والطبري في "جامع البيان"(6/ 134)، والطبراني في "الكبير"(12/ رقم 13247) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال"(15/ 255) - من طريق سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد عن عبد الله بن عبيد الله عن ابن عمر.

قلنا: وسنده حسن.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11810): ص 10/ 245 - 246.

(5)

أخرجه النسائي في "المجتبى"(7/ 98، 99)، و"الكبرى"(2/ 297 رقم 3499) من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب ومعاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن سعيد به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ لإرساله ..

(6)

انظر: تفسير الطبري (11817): 10/ 251. [ضعيف جدا، لإعضاله، وضعف أسباط].

(7)

انظر: تفسير الطبري (11811): ص 10/ 247. وسنده ضعيف، وفي متنه نكارة؛ فموسى بن عبيدة الربذي ضعيف وتركه بعضهم، ووجه النكارة: أنه قال: "فكره الله سمل الأعين؛ فأنزل هذه الآية"؛ فهذا مخالف لما رواه مسلم في "صحيحه" عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم سمل أعين الرعاء وكان هذا قصاصاً لا جزاء.

وقال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 52): "وفي إسناده الربذي وهو ضعيف"، وأشار إلى النكارة التي وقعت في متنه.

(8)

سمل عينه: فقأها بحديدة محماة، أو بشوك، أو ما شابه ذلك. وإنما فعل بهم ذلك، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، فجازاهم على صنيعه بمثله.

(9)

أخرجه الطبري (11808): ص 10/ 244 - 245.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11819): ص 10/ 253. [وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف أسباط، وفي متنه نكارة]

(11)

انظر: تفسير الطبري (11818): ص 10/ 253. [وهو ضعيف؛ لإعضاله]

(12)

انظر: تفسير الطبري (11803): ص 10/ 243. فيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11804): ص 10/ 243 - 244. مرسل، وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.

(14)

زاد المسير: 1/ 541، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء ..

(15)

زاد المسير: 1/ 541، عزاه ابن الجوزي لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11806): ص 10/ 244، أخرجه أبو داود (4/ 132 رقم 4372)، والنسائي (7/ 101). [وسنده حسن]

(17)

انظر: تفسير الطبري (11806)، و (11807): ص 10/ 244. [ضعيف جدا]، أخرجه من طريق ابن حميد، فيه علتان:

الأولى: ابن حميد؛ حافظ متهم.

الثانية: الإرسال.

(18)

انظر: تفسير الطبري (11807): ص 10/ 244. [سنده ضعيف جداً]

(19)

أخرجه مسلم في كتاب الإيمان -باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج (192): ص 1/ 112.

(20)

تفسير القرطبي: 6/ 149.

(21)

وهم الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على علي رضي الله عنه لأنه رضي بتحكيم الحكمين - في زعمهم - فكفروا عليا ومعاوية وعثمان وكل من رضي بالتحكيم، ويقولون بتكفير مرتكب الكبيرة، وتخليده في النار، والخروج على الأئمة بالسيف، ويقال لهم: الحرورية، والشراة. من أشهر فرقهم: النجدات، والأزارقة، والإباضية. انظر: مقالات الإسلاميين (ص 75)، والفرق بين الفرق (ص 73)، والملل والنحل (1/ 114).

(22)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 66) ونسبه لابن مردويه.

ص: 165

قال ابن كثير: " والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قِلابة"(1).

قال القرطبي: " فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين"(2).

قال الإمام الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القِصَص التي قصّها الله جل وعزّ قبلَ هذه الآية وبعدَها، من قَصَص بنى إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسِّطًا، من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم، أولى وأحقّ. وقلنا: كان نزول ذلك بعد الذي كان من فعلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك" (3).

قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33]، أي:" إنما جزاء الذين يحاربون الله، ويبارزونه بالعداوة، ويعتدون على أحكامه، وعلى أحكام رسوله"(4).

قال الواحدي: " أَيْ: يعصونهما ولا يطيعونهما يعني: الخارجين على الإِمام وعلى الأمَّة بالسَّيف نزلت هذه الآية في قصة العُرَنيين وهي معروفةٌ تعليماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عقوبة مَن فعل مثل فعلهم"(5).

قال ابن كثير: " المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل"(6).

قال ابن عطية: قوله: " {يحاربون الله}، تغليظ جعل ارتكاب نهيه محاربة، وقيل التقدير يحاربون عباد الله، ففي الكلام حذف مضاف"(7).

قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33]، أي:" ويفسدون في الأرض بقتل الأنفس، وسلب الأموال"(8).

قال الواحدي: أَيْ: "بالقتل وأخذ الأموال"(9).

قال الطبري: " يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي: من إخافة سُبُل عباده المؤمنين به، أو سُبُل ذمتهم، وقطعِ طرقهم، وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، والتوثُّب على حرمهم فجورًا وفُسُوقًا"(10).

قال ابن كثير: " الإفساد في الأرض، يطلق على أنواع من الشر، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] "(11).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 95.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 148.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 251.

(4)

التفسير الميسر: 113.

(5)

الوجيز: 317.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 94.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 185.

(8)

التفسير الميسر: 113.

(9)

الوجيز: 317.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 257.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 94.

ص: 166

قال ابن عطية: قوله: "قوله تعالى: {ويسعون في الأرض فسادا}، تبيين للحرابة، أي: ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى: ويسعون فسادا منضافا إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة"(1).

واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنه الزنى والسرقة وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل. وهذا قول مجاهد (2).

والثاني: أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية فى المِصْر وغيره، وهذا قول الشافعي (3)، ومالك (4)، والأوزاعي (5)، والليث بن سعد (6)، وابن لهيعة (7).

والثالث: أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر فى المِصْر، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه (8)، وعطاء الخراساني (9).

والراجح-والله أعلم- أن" المحارب لله ورسوله، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربًا للمسلمين على الظلم منه لهم، أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحربَ لهم في مصرهم وقُراهم، أو في سُبلهم وطرقهم: في أنه لله ولرسوله محارب، بحربه من نَهَاه الله ورسوله عن حربه"(10).

قوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33]، أي:" أن يُقَتَّلوا، أو يُصَلَّبوا مع القتل"(11).

قال الصابوني: أي: " أن يُقتلوا جزاء بغيهم، أو يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير"(12).

قال ابن عطية: " وأما قتل المحارب، فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال"(13).

قوله تعالى: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33]، أي:" أن تُقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى"(14).

قال ابن عطية: "وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقي العقب"(15).

قال الواحدي: " معنى: {أو} -ها هنا-: الإباحة فللإمام أن يفعل ما أراد من هذه الأشياء"(16).

وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن: «يقتلوا، ويصلبوا، تقطع» ، بالتخفيف في الأفعال الثلاثة (17).

قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، أي:" أو يُنفَوا إلى بلد غير بلدهم، ويُحبسوا في سجن ذلك البلد حتى تَظهر توبتُهم"(18).

قال السمرقندي: " يعني: يطلب حتى لا يجد قرارا في موضع، ويقال: ينفوا {من الأرض}، يعني: يحبس فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه نفي عن الأرض"(19).

قال الواحدي: " معنى: النَّفي من الأرض الحبسُ في السجن لأن المجون بمنزلة المخرج من الدني"(20).

واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، على وجوه:

أحدها: أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، وهذا قول ابن عباس (21)، وأنس بن مالك (22)، والحسن (23)، وسعيد بن جبير (24)، والضحاك (25)، وقتادة (26)، والربيع بن أنس (27)، والزهري (28)، والليث بن سعد (29)، ومالك بن أنس (30)، والسدي (31).

والثاني: أن معنى «النفي» في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها. وهذا قول عمر بن عبدالعزيز (32)، وسعيد بن جبير-في رواية أخرى- (33).

والثالث: أن المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه (34).

واختار الطبري: أن المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربَّه (35).

قال ابن عطية: " والظاهر أن الأرض في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر، نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا، وهذا هو صريح

(1) المحرر الوجيز: 2/ 185.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11874): ص 10/ 278.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11825): ص 10/ 255.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11822): ص 10/ 255.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11821): ص 10/ 254.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11823): ص 10/ 255.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11823): ص 10/ 255.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11826): ص 10/ 256.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11820): ص 10/ 254.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 256.

(11)

التفسير الميسر: 113.

(12)

صفوة التفاسير: 313.

(13)

المحرر الوجيز: 2/ 185.

(14)

صفوة التفاسير: 313.

(15)

المحرر الوجيز: 2/ 185.

(16)

الوجيز: 317.

(17)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 185.

(18)

التفسير الميسر: 113.

(19)

بحر العلوم: 1/ 386.

(20)

الوجيز: 317.

(21)

انظر: تفسير الطبري (11856): ص 10/ 268.

(22)

انظر: تفسير الطبري (11857): ص 10/ 268.

(23)

انظر: تفسير الطبري (11863): ص 10/ 269.

(24)

انظر: تفسير الطبري (11867): ص 10/ 270.

(25)

انظر: تفسير الطبري (11861)، و (11862): ص 10/ 269.

(26)

انظر: تفسير الطبري (11866): ص 10/ 270.

(27)

انظر: تفسير الطبري (11864): ص 10/ 269.

(28)

انظر: تفسير الطبري (11865): ص 10/ 269 - 270.

(29)

انظر: تفسير الطبري (11859): ص 10/ 269.

(30)

انظر: تفسير الطبري (11860): ص 10/ 269.

(31)

انظر: تفسير الطبري (11855): ص 10/ 268.

(32)

انظر: تفسير الطبري (11869) - (11871): ص 10/ 270 - 273.

(33)

انظر: تفسير الطبري (11868): ص 10/ 270.

(34)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 274.

(35)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 274.

ص: 167

مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح، لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح" (1).

ومعنى «النفي» ، في كلام العرب، هو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر (2):

يُنْفَوْنَ عَنْ طْرُقِ الكِرَامِ كَمَا

تَنْفِي المَطَارِقُ مَا بَلِي القَرَدُ

ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء: النُّفَاية، وأما المصدر من نفيت، فإنه النفي والنَّفَاية، ويقال: الدلو ينفي الماء، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو: النّفِيُّ، ومنه قول الأخيل الطائي (3):

كأَنَّ مَتْنَيِه مِنَ النَّفِيِّ

مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ

ومنه قيل: نَفىَ شَعَرُه، إذا سقط، يقال: حَال لونُك، ونَفىَ شعرُك (4).

قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33]، أي:" وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلّ في الدنيا"(5).

قال الواحدي: أي: " هوانٌ وفضيحةٌ"(6).

قال البيضاوي: أي: " ذل وفضيحة"(7).

قال الطبري: " يعني: لهؤلاء المحاربين خزي في الدنيا، يقول: هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة"(8).

قال ابن كثير: " أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم - خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا "(9).

قال ابن عطية: "وقوله تعالى: {ذلك لهم خزي} ، إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو له كفارة» (10).

ويحتمل: أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة، اما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وعظم الذنب، والخزي في هذه الآية الفضيحة والذل والمقت" (11).

قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33]، أي:" ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا"(12).

قال الطبري: أي: " لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا في الآخرة، مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها عذاب عظيم، يعني: عذاب جهنم"(13).

قال البيضاوي: [وذلك]: " لعظم ذنوبهم"(14).

قال ابن كثير: أي: " مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء: ألا نشرك بالله شيئًا: ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضًا، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» (15) "(16).

قال الواحدي: " وهذا للكفَّار الذين نزلت فيهم الآية لأنَّ العُرنيين ارتدُّوا عن الدِّين والمسلم إذا عوقب في الدُّنيا بجنايته صارت مكفَّرةً عنه"(17).

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه"(18).

قال القرطبي: " ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية"(19).

قال الزهري (20)، وابن سلام (21)، والمقري (22)، وابن حزم (23)، " قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ

(1) المحرر الوجيز: 2/ 185.

(2)

شرح المفضليات: 827، وليس في ديوان أوس، وهو من شعره، من القصيدة الخامسة التي أولها: أَبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمُ بِيَدٍ

إِلا يَدٌ لَيْسِتْ لَهَا عَضُدُ

ويهجوهم، ورواية المفضليات من طرق الكرام. والمطارق جمع مطرقة ومطرق وهو القضيب الذي يضرب به الصوف أو القطن لينتفش، وينفي منه القرد. والقرد (بفتحتين): ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد وانعقدت أطرافه، وهو نفاية الصوف، ثم استعمل فيما سواه من الوبر والشعر والكتان. وقوله: ما يلي القرد، أي: ما وليه القرد، من قولهم وليه يليه، أي: قاربه ودنا منه. يعني: ما قاربه القرد وباشره ولصق به تعقده.

(3)

انظر: جمهرة اللغة 3/ 135، والمخصص 10/ 90، ومجالس ثعلب: 249، والحيوان 2/ 339، والقالي 2/ 8، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده: كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ

مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ

والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى"متني" فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى"متنيه"، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري:"هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه"من طول إشراف" بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 275 - 276.

هذا في خبر محمد بن كعب القرظي وعمر بن عبد العزيز لما استخلف فرآه شعثًا قال:

وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا، حسن الجسم، ممتلئ البضعة، فجعلت أنظر إليه نظرًا، لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: يا ابن كعب، مالك تنظر إلي نظرًا ما كنت تنظره إلي قبل؟ قال فقلت: لعجبي! قال: ومما عجبك؟ فقلت: لما نحل من جسمك، ونفى من شعرك، وتغير من لونك؟ قال: وكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، حين تقع عيناي على وجنتي، ويسيل منخري وفمي دودًا وصديدًا، لكنت لي أشد نكرة منك اليوم! .

نفى الشعر: ثار وذهب وشعث وتساقط.

(5)

التفسير الميسر: 113.

(6)

الوجيز: 317.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 125.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 276.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 101.

(10)

صحيح مسلم برقم (1709).

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 185.

(12)

التفسير الميسر: 113.

(13)

تفسير الطبري: 10/ 276 - 277.

(14)

تفسير البيضاوي: 2/ 125.

(15)

صحيح مسلم برقم (1709).

(16)

تفسير ابن كثير: 3/ 101.

(17)

الوجيز: 317.

(18)

المسند (1/ 99) وسنن الترمذي برقم (2626) وسنن ابن ماجة برقم (2604) والعلل للدارقطني (3/ 129).

(19)

تفسير القرطبي: 6/ 157 - 158.

(20)

الناسخ والمنسوخ: 36.

(21)

انظر: الناسخ والمنسوخ: 299.

(22)

الناسخ والمنسوخ: 80.

(23)

الناسخ والمنسوخ: 36.

ص: 168

أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}، نسخت بالاستثناء بعدها في قوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} .

قال الزهري: "يقول: فلا سبيل لكم عليهم بعد التوبة. أراد بذلك الرجل المسلم الذي يكون منه الفساد ثم يتوب من قبل أن يظفر به ربّ الأمر. وأمّا الكفار الذين يفسدون في الأرض وهم في دار الحرب فهؤلاء لا تقبل توبتهم، فإنّهم لو كانت توبتهم صادقة للحقوا ببلاد المسلمين"(1).

وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في «العرنيين» ، على قولين (2):

أحدهما: أن ذلك حكم منسوخ، نسخَه نهيُه عن المثلة وذلك بقوله:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].

وقالوا: أنزلت هذه الآية عِتابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعُرَنيين. وهذا قول محمد بن العجلان (3)، والليث بن سعد (4).

والثاني: أن فِعْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، حكمٌ ثابت أبدًا، ولم ينسخ ولم يبدّل. وقوله:{إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} الآية، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا بالحِرَابة.

والعرنيون ارتدُّوا، وقتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة.

قال القرطبي: "وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي، ولذلك قال الله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} "(5).

وقدر روي عن السدي: " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن يسمُل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود، كما أنزلها الله عليه"(6).

الفوائد:

1 -

بيان حكم الحرابة وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى الصحراء بعيداً عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض، هذه هي الحرابة وأهلها، يقال لهم: المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية.

2 -

أن الإمام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن، وهذا مذهب الجمهور من الأئمة، وهو أرفق وأصلح وأكثر تمثيلاً للآية وانسجامًا معها.

وهذا إن قلنا {أو} في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً يُنفى.

ومذهب الجمهور، وهو الحق لا تقطع يد المحارب إلا في مال تقطع فيه يد السارق، وهو زنة: ربع دينار ذهب فأكثر.

وإن تعذر النفي فالسجن يقوم مقامه، إذ هو نفي من ظاهر الأرض إلى باطنها. كما قال بعض المسجونين (7):

(1) الناسخ والمنسوخ: 36.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 252 - 253.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11818): ص 10/ 253.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11818): ص 10/ 253.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 150.

(6)

أخرجه الطبري (11819): ص 10/ 253.

(7)

. البيتان من الطويل، وهما لصالح بن عبد القدوس في أمالي المرتضى 1/ 101، وبلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 81 - 82، والمحاسن والأضداد ص 38.

ص: 169

خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها

فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة

عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدّنيا

قال ابن قتيبة: ولا أرى شيئا اشبه بالنفي من الحبس، "لأنه إذا حبس ومنع من التصرّف والتقلّب في البلاد، فقد نفي منها كلّها وألجئ إلى مكان واحد"(1).

وقال الشافعي: " في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال: قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال: قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا: قطعت أيديهم وأرجلهم من

خلاف، وإذا هربوا: طلبوا حتى يوجدوا، فتقام عليهم الحدود، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا: نفوا من الأرض" (2).

القرآن

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)} [المائدة: 34]

التفسير:

لكن مَن أتى من المحاربين من قبل أن تقدروا عليهم وجاء طائعًا نادمًا فإنه يسقط عنه ما كان لله، فاعلموا -أيها المؤمنون- أن الله غفور لعباده، رحيم بهم.

قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، أي:" لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّأع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم "(3).

قال ابن شهاب الزهري: " يقول: فلا سبيل لكم عليهم بعد التوبة. أراد بذلك الرجل المسلم الذي يكون منه الفساد ثم يتوب من قبل أن يظفر به ربّ الأمر. وأمّا الكفار الذين يفسدون في الأرض وهم في دار الحرب فهؤلاء لا تقبل توبتهم، فإنّهم لو كانت توبتهم صادقة للحقوا ببلاد المسلمين"(4).

قال مقاتل: " يقول: من جاء منهم مسلما قبل أن يؤخذ فإن الإسلام يهدم ما أصاب في كفره من قتل أو أخذ مال"(5).

قال الإمام الشافعي: " فمن تاب قبل أن يقدر عليه سقط حق الله عنه، وأخذ بحقوق بني آدم"(6).

قال السمرقندي: " يعني: رجعوا عن صنيعهم قبل أن يؤخذوا ويردوا المال"(7).

قال الجصاص: " فاستثنى التائب قبل القدرة عليه من جملة من أوجب عليه الحد المذكور في الآية"(8).

قال الفراء: " المعنى: إلا الذين يتوبون من قبل أن تقدروا عليهم"(9).

قال ابن عطية: " استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر عليه"(10).

قال أبو حيان: ظاهره أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة، وهذا فعل علي رضي الله عنه بحارثة بن بدر العراني (11) " (12).

(1) تاويل مشكل القرآن: 229. [بتصرف].

(2)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 733.

(3)

صفوة التفاسير: 314.

(4)

الناسخ والمنسوخ وتنزيل القرآن: 36.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473.

(6)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 723.

(7)

بحر العلوم: 1/ 387.

(8)

أحكام القرآن: 1/ 66.

(9)

معاني القرآن: 1/ 244.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 186.

(11)

البحر المحيط: 4/ 242.

(12)

سوف يأتي بيان الخبر.

ص: 170

قال ابن الجوزي: " هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشافعي"(1).

قال السمعاني: " وقوله {من قبل أن تقدروا عليهم} خطاب للأئمة، أي: من قبل الظفر بهم"(2).

قال الراغب: " الاستثناء [في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}] راجع إلى كل من تقدم ذكره، وهو في العذاب وفي إقامة الحدود، وقال بعض الفقهاء: كل حق لله مختص بقاطع الطريق فالتوبة قبل القدرة يزيل ما عليه إن كان من حقوق الله، وإن كان من حقوق الآدميين فلا يزول إذا طالب به صاحبه"(3).

وقوله: {تاب} ، يريد به المستقبل، قال الشاعر (4):

فإني لاتيكم تشكر ما مضى

من الأمر واستيجاب ما كان في غد

يريد به المستقبل: لذلك قال «كان في غد» ولو كان ماضيا لقال: ما كان في أمس، ولم يجز ما كان في غد. وأما قول الكميت (5):

ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها

فيما مضى أحد إذا لم يعشق

فمن ذلك إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق (6).

وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، ستة وجوه:

أحدها: إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم فى الأرض فساداً بإسلامهم، فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم، وهذا قول ابن عباس (7)، والحسن (8)، وعكرمة (9)، ومجاهد (10)، والضحاك (11)، وقتادة (12)، وعطاء الخراساني (13)، واختيار الواحدي (14).

الثاني: إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم، فأما التائب بغير أمان فلا، وهذا قول عليّ عليه السلام (15)، والشعبي (16)، والسدي (17)، ومكحول (18).

(1) زاد المسير: 1/ 543.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 35.

(3)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 337 - 338.

(4)

هو الطرماح بن حكيم الطائى. وقبله:

من كان لا يأتيك إلا لحاجة

يروح بها فيما يروح ويغتدى

وانظر: الديوان 146.

(5)

انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 244.

(6)

انظر: معاني القرآن للفراء: 1/ 244.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11875): ص 10/ 278 - 279.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11872): ص 10/ 277 - 278.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11872): ص 10/ 277 - 278.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11873)، و (11874): ص 10/ 278.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11875): ص 10/ 278.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11877)، و (11878): ص 10/ 279.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11878): ص 10/ 279.

(14)

انظر: الوجيز: 318.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11879): ص 10/ 279 - 280.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11880): ص 10/ 280.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11882): ص 10/ 281 - 282.

(18)

انظر: تفسير الطبري (11883): ص 10/ 282.

ص: 171

وروى الشعبي: "كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب، ثم تاب. وكُلِّم له عليّ فلم يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه، فانطلق سعيدُ بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقولُ فيمن حارب الله ورسوله؟ فقرأ الآية كلها، فقال: أرأيت من تابَ من قبل أن تقدِر عليه؟ قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر! قال: فأمَّنه علي، فقال حارثة:

أَلا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتَها

عَلَى النَّأيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا

لَعَمْرُ أَبِيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِي

الإلهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا" (1).

والثالث: إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه، وهذا قول عروة بن الزبير (2).

وقد روي عن عروة خلاف هذا القول (3).

والرابع: إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته، وإن لم يكن له فئة يمتنع بها وتاب لم تسقط عنه توبته شيئاً من عقوبته، وهذا قول أبو عمرو (4)، وربيعة (5)، والحكم بن عيينة (6).

والخامس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين، وهذا قول الشافعي (7).

قال ابن قدامة: " فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين، من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق: لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل فيه قوله تعالى: إلا الذين تابوا

فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة، لأنها حدود الله تعالى، إلا حد القذف، لأنه حق آدمي، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا" (8).

والسادس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء، وهذا مذهب مالك (9).

قال الإمام الطبري: " وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القُدرة عليه، تضع عنه تَبِعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه وحِرَابته، من حدود الله، وغُرْم لازم، وقَوَدٍ وقصاص، إلا ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ على أهله لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله، الساعيةِ في الأرض فسادًا على وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا.

فأمَّا المستخفي بسرقته، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من سرقه، والشاهرُ السلاحَ في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه تاب أو لم

(1) أخرجه الطبري (11881): 10/ 280 - 281. والبيتان في تاريخ ابن عساكر 3/ 430، مع اختلاف يسير في روايتهما.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11892): 10/ 285.

(3)

أخرج الطبري (11893): ص 10/ 286: عن هشام بن عروة، عن عروة قال:"يقام عليه حدُّ ما فر منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان يعني، الذي يصيب حدًّا، ثم يفرُّ فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبًا".

(4)

انظر: تفسير الطبري (11894)، و (11895): ص 10/ 286 - 287.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11896): ص 10/ 287.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11897): ص 10/ 287.

(7)

انظر: تفسير الطبري (11898): ص 10/ 287، وتفسير الإمام الشافعي: 2/ 723.

(8)

المغني: 12/ 483.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 34.

ص: 172

يتب ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله، أو أصاب وليَّه بدم أو خَتْلٍ مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حربًا، أن حربه إياهم لن يضعَ عنه حقًا لله عز ذكره، ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعةٌ منه.

وفي قوله: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} ، دليل واضح لمن وُفِّق لفهمه، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ في المحاربين، يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكمًا في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين ودون ذمتهم، لوجب أن لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ يضع عنه، بعد قدرة المسلمين عليه، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة عليه ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال: عنى بآية المحاربين في هذا الموضع، حُرَّاب أهل الملة أو الذمة، دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب" (1).

قال ابن عطية: " ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب، وقول مالك أسد للذريعة وأحفظ للناس والطرق، والمخيف في حكم القاتل ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحسانا"(2).

قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34]، أي:" فاعلموا -أيها المؤمنون- أن الله غفور لعباده، رحيم بهم"(3).

قال مقاتل: " {غفور} لما كان منه في كفره، {رحيم} به حين تاب ورجع إلى الإسلام"(4).

قال السمرقندي: أي: " فلا يعاقبون في الدنيا ولا فى الآخرة، ويغفر الله تعالى لهم ذنوبهم"(5).

قال النسفي: أي: " يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم"(6).

قال ابن عطية: " أخبر بسقوط حقوق الله عنه"(7).

قال الزجاج: " وجعل توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا ترفع عنهم إقامة

الحدود عليهم، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة، لأن في إقامة الحدود الصلاح للمؤمنين، والحياة، قال الله جل ثناؤه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] " (8).

الفوائد:

1 -

من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذنوبه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك.

2 -

عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له.

3 -

ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: «الغفور» ، و «الرحيم» ؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.

فـ «الغفور» : هو الذي تكثر منه المغفرة. وبناء «فعول» : بناء المبالغة في الكثرة (9).

(1) تفسير الطبري: 10/ 287 - 289.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 184.

(3)

التفسير الميسر: 113.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473.

(5)

بحر العلوم: 1/ 387.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 445.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 187.

(8)

معاني القرآن: 2/ 171.

(9)

انظر: شأن الدعاء: 1/ 65.

ص: 173

والفرق بين صيغتي: «الغفار» ، و «الغفور»: أن " «الغفار» (1)، معناه: الستار لذنوب عباده في الدنيا بأن لا يهتكهم ولا يشيدهما عليهم، ويكون معنى «الغفور»: منصرفا إلى مغفرة الذنوب في الآخرة، والتجاوز عن العقوبة فيها"(2).

و«الرحيم» : أي: ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء (3).

قال الشيخ ابن عثيمين: " «الرحيم»: أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده"(4)، وهو "صيغة مبالغة، أو صفة مشبهة من الرحمة؛ والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية الفعلية؛ فهي باعتبار أصل ثبوتها لله صفة ذاتية؛ وباعتبار تجدد من يرحمه الله صفة فعلية؛ ولهذا علقها الله سبحانه وتعالى بالمشيئة في قوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} [العنكبوت: 21]، فهي صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل، وأهل التأويل -والأصح أن نسميهم أهل التحريف- يقولون: إن الرحمة غير حقيقية؛ وأن المراد برحمة الله إحسانه؛ أو إرادة الإحسان؛ فيفسرونها إما بالإرادة؛ وإما بالفعل؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ وحجتهم: أنهم يقولون: إن الرحمة رقة، ولين؛ والرقة، واللين لا تناسبان عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فنقول لهم: إن هذه الرحمة رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق فإنها تليق به سبحانه وتعالى؛ ولا تتضمن نقصاً؛ فهو ذو رحمة بالغة، وسلطان تام؛ فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين"(5).

4 -

ومنها: إثبات ما ذكره أهل السنة والجماعة من أن أسماء الله سبحانه وتعالى المتعدية يستفاد منها ثبوت تلك الأحكام المأخوذة منها؛ فالأسماء المتعدية تتضمن الاسم، والصفة، والأثر - الذي هو الحكم المترتب عليه -؛ والعلماء يأخذون من مثل هذه الآية ثبوت الأثر - وهو الحكم -؛ لأنه لكونه غفوراً رحيماً غفر لمن تاب من المحاربين قبل التمكن منه فيعفو عنه، فيكون في هذا دليل واضح على أن أسماء الله عز وجل تدل على «الذات» الذي هو المسمى؛ و «الصفة» ؛ و «الحكم» ، كما قال بذلك أهل العلم رحمهم الله (6).

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} [المائدة: 35]

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، خافوا الله، وتَقَرَّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وجاهدوا في سبيله; كي تفوزوا بجناته.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 35]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله"(7).

(1) قال الخطابي: " الغفار: هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى. كلما تكررت التوبة في الذنب من العبد تكررت المغفرة. كقوله -سبحانه-: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82].

وأصل الغفر في اللغة: الستر والتغطية، ومنه قيل لجنة الرأس: المغفر، وبه سمي زئبر الثوب غفرا وذلك لأنه يستر سداه؛ فالغفار: الستار لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته. ومعنى الستر في هذا أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم ويقال: إن المغفرة مأخوذة من الغفر: وهو فيما حكاه بعض أهل اللغة نبت يداوى به الجراح، يقال إنه إذا ذر عليها دملها وأبراها". [شأن الدعاء: 1/ 52 - 53، وانظر: اللسان وتاج العروس، مادة"غفر"].

(2)

شأن الدعاء: 1/ 65.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 1/ 188، وشرح أسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسنة:84.

(4)

تفسير ابن عثيمين الفاتحة والبقرة: 1/ 5.

(5)

تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 2/ 252 - 253.

(6)

انظر: تسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 2/ 259.

(7)

التفسير الميسر: 13.

ص: 174

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(1).

وعن خيثمة قال: "ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(2).

قال الشيخ ابن عثيمين: " إن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(3).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك [يعني استمع لها]؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(4).

قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 35]، أي:" خافوا الله"(5).

قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، أي:" وتَقَرَّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه"(6).

قال أبو عبيدة: " أي: القربة، أي اطلبوا، واتخذوا ذلك بطاعته"(7).

قال الزجاج: " معناه: اطلبوا إليه القربة"(8).

قال الثعلبي: أي: " واطلبوا إليه القربة، وهي في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به"(9).

قال ابن عطية: " {ابتغوا}، معناه: اطلبوا، و {الوسيلة}، القربة وسبب النجاح في المراد"(10).

قال مقاتل: " يعني: في طاعته بالعمل الصالح"(11).

قال السمرقندي: " يعني: اطلبوا القرابة والفضيلة بالأعمال الصالحة"(12).

قال البيضاوي: " أي: ما تتوسلون به إلى ثوابه والزلفى منه من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا إذا تقرب إليه"(13).

وفي معنى: {الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]، ثلاثة اقوال:

أحدها: أنها القربة، قاله ابن عباس (14)، وأبي وائل (15)، والحسن (16)، وعطاء (17)، ومجاهد (18)، وقتادة (19)، وعبدالله بن كثير (20)، والسدي (21)، والفراء (22)، وأبو عبيدة (23)، والطبري (24)، والزجاج (25)، والسمرقندي (26)، وابن عطية (27)، والقرطبي (28).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196، و (5025): ص 3/ 902

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(5)

التفسير الميسر: 13.

(6)

التفسير الميسر: 13.

(7)

مجاز القرآن: 1/ 164.

(8)

معاني القرآن: 2/ 171.

(9)

تفسير الثعلبي: 4/ 59.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 186.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473.

(12)

بحر العلوم: 1/ 387.

(13)

تفسير البيضاوي: 2/ 125.

(14)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 104.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11899): ص 10/ 290 - 291.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11903): ص 10/ 291.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11900): ص 10/ 291.

(18)

انظر: تفسير الطبري (11902): ص 10/ 291.

(19)

انظر: تفسير الطبري (11902): ص 10/ 291. [أعطاءه السيد المحقق نفس الرقم، لعله تكرار].

(20)

انظر: تفسير الطبري (11904): ص 10/ 291.

(21)

انظر: تفسير الطبري (11901): ص 10/ 291.

(22)

كما في زاد المسير: 1/ 543، ولم أجده في معاني القرآن.

(23)

مجاز القرآن: 1/ 164.

(24)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 290.

(25)

انظر: معاني القرآن: 2/ 171.

(26)

انظر: بحر العلوم: 1/ 387.

(27)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 186.

(28)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 159.

ص: 175

وقال قتادة: " أي: تقربوا إليه بطاعته والعملِ بما يرضيه"(1).

قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه تقرّبت" (2). وأنشد (3):

إِذَا غَفَلَ الوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا

وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالوَسَائِلُ

وقال لبيد (4):

أرَى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

بَلَى كُلّ ذي لبّ إلى الله وَاسِلُ

والثاني: أنها المحبة، يقول: تحببوا إلى الله، هذا قول ابن زيد (5).

والثالث: أنها الحاجة، وهذا قول ابن عباس أيضا، جاء في مسائل نافع (6)، "قال نافع: يا ابن عباس أخبرني عن قول الله عز وجل: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ، الحاجة. قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة العبسي وهو يقول (7):

إنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ

إِنْ يَأْخُذُوكِ، تكَحَّلِي وتَخَضَّبي" (8)

قال الزمحشري: " الوسيلة: كل ما يتوسل به أى يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي"(9).

قال ابن كثير: " والوسيلة: هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضًا: علم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش"(10).

(1) أخرجه الطبري (11902): ص 10/ 291.

(2)

مجاز القرآن: 1/ 164.

(3)

لم أتعرف على قائله. والبيت بلا نسبة أيضا في مجاز القرآن: 1/ 164، وتفسير الطبري 10/ 290 وتفسير القرطبي 6/ 159.

(4)

شرح ديوان لبيد بن ربيعة" ص 256، والواسل: الطالب، أي يتوسل إلى الله بالطاعة والعمل الصالح. وقد جاء بعد هذا البيت بيت لبيد المشهور:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11905): ص 10/ 291.

(6)

انظر: مسائل نافع بن الأزرق: 29.

(7)

البيت لعنترة بن الشداد في الديوان: 33، وأشعار الستة الجاهليين: 396، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 165، والخزانة 3/ 11، الإتقان: 1/ 120، والأغاني: 10/ 180، وبلوغ الأرب للآلوسي: 1/ 167، وغيرها، من أبيات له قالها لامرأته، وكانت لا تزال تذكر خيله، وتلومه في فرس كان يؤثره على سائر خيله ويسقيه ألبان إبله، فقال: لا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ

فَيَكُونَ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الأَجْرَبِ

إِنَّ الْغَبُوقَ لَهُ، وَأَنْتِ مَسُوءَةٌ،

فَتَأَوَّهِي مَا شِئْتِ ثُمَّ تَحَوَّبِي

كَذَبَ الْعَتِيقُ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٌ

إنْ كُنْتِ سَائِلَتِي غَبُوقًا فَاذْهَبي

إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ. . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وَيَكُونَ مَرْكَبُكِ القَعُودُ وَحِدْجُهُ

وَابْنُ النَّعَامَةِ يَوْمَ ذَلِكَ مَرْكَبِي!

ينذرها بالطلاق إن هي ألحت عليه بالملامة في فرسه، فإن فرسه هو حصنه وملاذه. أما هي فما تكاد تؤسر في حرب، حتى تتكحل وتتخضب لمن أسرها. يقول: إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم.

(8)

مسائل نافع بن الأزرق: 29.

(9)

الكشاف: 1/ 628.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 103.

ص: 176

قال ابن عطية: " وأما الوسيلة المطلوبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فهي أيضا من هذا، لأن الدعاء له بالوسيلة والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود"(1).

وقد ثبت في صحيح البخاري، من طريق محمد بن المُنكَدِر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودا الذي وعدته، إلا حَلَّتْ له الشفاعة يوم القيامة"(2).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلُّوا عَليّ، فإنه من صلى عَليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حَلًّتْ عليه الشفاعة"(3).

وعن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم عَليّ فَسَلُوا لي الوسيلة". قيل: يا رسول الله، وما الوسيلة؟ قال:"أعْلَى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رَجُلٌ واحد وأرجو أن أكون أنا هو"(4).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو: شفيعًا - يوم القيامة"(5).

وعن أبي سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقها درجة، فسَلُوا الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه"(6).

قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة: 35]، أي:" وجاهدوا لإِعلاء دينه"(7).

قال مقاتل: " وجاهدوا العدو {في سبيله}، يعني: في طاعته"(8).

قال ابن عطية: " خص الجهاد بالذكر لوجهين:

أحدهما: نباهته في أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام، وقد دخل بالمعنى في قوله: وابتغوا إليه الوسيلة ولكن خصه تشريفا.

والوجه الآخر: أنها العبادة التي تصلح لكل منهي عن المحاربة وهو معدلها من حاله وسنه وقوته وشره نفسه، فليس بينه وبين أن ينقلب إلى الجهاد إلا توفيق الله تعالى" (9).

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، أي:" كي تفوزوا بجناته"(10).

قال مقاتل: " {لعلكم} يعني: لكي، {تفلحون}، يعني: تسعدون، ويقال تفوزون"(11).

قال الزجاج: " أي: لعلكم تظفرون بعدوكم، والمفلح الفائز بما فيه غاية صلاح حاله"(12).

قال ابن كثير: " لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم، التاركين للدين القويم، ورغبهم في ذلك

(1) المحرر الوجيز: 2/ 186.

(2)

أخرجه البخاري في: الأذان، 8 - باب الدعاء عند النداء، حديث 392.

(3)

صحيح مسلم برقم (1384).

(4)

المسند (2/ 265) وسنن الترمذي برقم (3612).

(5)

المعجم الأوسط للطبراني برقم (639)"مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (1/ 333): "فيه الوليد بن عبد الملك الحراني قد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: مستقيم الحديث إذا روي عن الثقات. قلت: وهذا من روايته عن موسى بن أعين وهو ثقة".

(6)

ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (640، 641)"مجمع البحرين" من طريق عمارة بن غزية به.

(7)

صفوة التفاسير: 314.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 187.

(10)

التفسير الميسر: 13.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473.

(12)

معاني القرآن: 2/ 171.

ص: 177

بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تَبِيد ولا تَحُول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة، الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها يَنْعَم لا ييأس، ويحيا لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه" (1).

قال ابن عطية: " هذه الآية وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعظ لأنه يرد على النفوس وهي خائفة وجلة، وعادة البشر إذا رأى وسمع أمر ممتحن ببشيع المكاره أن يرق ويخشع، فجاء الوعظ في هذه الحال"(2).

الفوائد:

1 -

وجوب تقوى الله عز وجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله.

2 -

مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.

قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب: " إن المشي إلى الطاعة وسؤاله امتثالاً لأمره عمل طاعة، وذلك من أعظم الوسائل المأمور بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وقد أجمع العلماء أنها القربة ولا قربة أعظم من عمل الطاعة"(3).

4 -

أن التوسل إما بما يناسب المطلوب عقلاً وأذن فيه شرعاً، وإما بغير ذلك، وتفصيله: أن المتوسل إما أن يتوسل بما لله من صفات وأسماء، وإما بما له من اعتقاد صحيح، وإما بما له من عمل صالح، وإما بما لغيره من دعاء أو جاه، وإما بطاعة تعمه وغيره؛ فتلك ستة أنواع فيما ياتي نفصل القول فيها (4):

اولا: - التوسل بصفات الله:

النوع الأول: التوسل بصفات الله، وهو مشروع؛ لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، ولما رواه الترمذي وحسَّنه عن عاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ! فَقَالَ: «قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ؛ فَسَلْ» (5)، وله أمثلة:

1 -

منها ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربع أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم، عن أنس رضي الله عنه؛ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو:"اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ! يَا قَيُّومُ! ". فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ» (6).

2 -

ومنها ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ! رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ» (7)؛ فإن إضافة لفظ الرب إلى تلك المخلوقات العظيمة مشعر بعظيم قدرته وكمال حكمته.

3 -

ومنها الأبيات المشهورة المنسوبة لابن القاسم السهيلي، ومطلعها:

يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ

أَنْتَ الْمُعِدُّ لِكُلِّ مَا يُتَوَقَّعُ

ثانيا: - التوسل بالإِيمان:

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 105.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 186.

(3)

التوضيح عن توحيد الخلاق: 312.

(4)

انظر: رسالة الشرك ومظاهره، مبارك الجزائري: 293 - 309.

(5)

ضعيف: أخرجه أحمد (5/ 235 - 236 - مصورة المكتب)، والبخاري في " الأدب المفرد "(726)، والترمذي (9/ 511 - 513/ 3595 و 3596.

(6)

صحيح: أخرجه أحمد (3/ 120 - مصورة المكتب)، وأبو داود (1/ 234)، والترمذي (9/ 529/ 3612)، والنسائي (3/ 52)، وابن ماجه (3858)، وابن حبان (3/ 175 - 176/ 893)، والحاكم (1/ 503 - 504) من طرق عن أنس به.

وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي.

(7)

أخرجه مسلم (1/ 534/ 770).

ص: 178

النوع الثاني: التوسل بالإِيمان الصحيح الصادق، وهو مشروع؛ لما فيه من تقوية التوحيد، وله أمثلة:

1 -

منها ما حكاه الله عن أولي الألباب: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193].

2 -

ومنها ما رواه الترمذي وحسنه- بل صححه كما في " مدارج السالكين "(1) - وبقية أصحاب السنن الأربع، وصححه ابن حبان والحاكم؛ عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» (2).

3 -

ومنها: قول تميم بن المعز بن باديس الأمير الصنهاجي المالكي (3):

فَكَّرْتُ فِي نَارِ الْجَحِيمِ وَحَرِّهَا

يَا وَيْلَتَاهُ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ

فَدَعَوْتُ رَبِّي أَنَّ خَيْرَ وَسِيلَتِي

يَوْمَ الْمَعَادِ شَهَادَةُ الْإِخْلَاص

ثالثا: - التوسل بالعمل الخاص:

النوع الثالث: توسل الداعي بطاعته وصالح عمله، وهو مشروع لما فيه من تغذية الخشوع المناسب للموضوع، وله أمثلة:

1 -

منها: حديث الصخرة في " الصحيحين "؛ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «انْطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَل فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَاّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُ

» ثم ذكر برور الأول بأبويه وانفراج الصخرة قليلاً لدعائه، وعفة الثاني عمن أمكنته من نفسها بعد شوق طويل وانفراج الصخرة له أيضاً، ومبالغة الثالث في حفظ الأمانة وتمام انفراج الصخرة، وأنهم كلهم قالوا في أدعيتهم:«اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ» (4).

2 -

ومنها: تقديم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، لما رواه أبو داود، والترمذي وصححه، أَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي وَيَدْعُو، وَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ، فَقَالَ:«عَجِلَ هَذَا» . ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ:«إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، وَلْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ» (5).

(1) انظر: مدارج السالكين: 1/ 13.

(2)

صحيح: أخرجه أحمد (5/ 349 و 350 و 360 - مصورة المكتب)، وأبو داود (1/ 234)، والترمذي (9/ 445 - 446/ 3542)، وابن ماجه (3857)، وابن حبان (3/ 173 و 174/ برقم: 891 و 892)، والحاكم (1/ 504) من طرق عن مالك بن مِغْوَل عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه به.

وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".

وقال الحاكم: " حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط مسلم! " ووافقه الذهبي!

وقال المنذري في " مختصر السنن "(2/ 145): " قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وهو إسناد لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روي في هذا الباب حديث " أجود إسناداً منه ". وقاله في " الترغيب " (3/ 289) أيضاً، وحكاه المباركفوري في " التحفة " (9/ 447) عنه بزيادة: " وهو حديث حسن ".

وللحديث شاهد بنحوه أخرجه أبو داود (1/ 156)، والنسائي (3/ 52)، وابن خزيمة في " صحيحه " (1/ 358/ 724) من طريق عبد الوارث ثنا الحسين المعلم عن عبد الله بن بُريدة عن حنظلة بن علي أن محجن بن الأدرع حدثه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ

أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ: فَقَالَ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ (ثَلَاثاً)» .

(3)

انظر: الوافي بالوفيات: 10/ 257، وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية: 2/ 225.

(4)

رواه البخاري (6/ 505 - 506/ 3465)، ومسلم (4/ 2099 - 2100/ 2743) عن أبن عمر موقوفاً مطولاً، وقد ذكره المؤلف مختصراً بمعناه.

(5)

) صحيح: أخرجه أحمد (6/ 18)، وعنه أبو داود (1/ 233)، والترمذي (9/ 450 - 451/ 3546)، وابن خزيمة (1/ 351/ 710)، وابن حبان (5/ 290/ 1960)، والحاكم (1/ 230)، وإسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " (106). وقال الترمذي:" حسن صحيح "، وقال الحاكم:" صحيح على شرط مسلم! "، ووافقه الذهبي!

وأخرجه الترمذي (9/ 449/ 3544) عن رشدين بن سعد، والنسائي (3/ 44 - 45) عن ابن وهب، وكذا ابن خزيمة (1/ 351/ 709)، وابن السني (112) عن حميد بن مالك: ثلاثتهم عن أبي هانئ به، وقال الترمذي:" حديث حسن ".

ص: 179

3 -

ومنها: قول محمد بن عبد الله العبدري المالكي (1):

تَوَسَّلْتُ يَا رَبِّي بِأَنِّيَ مُؤْمِنٌ

وَمَا قُلْتُ إِنِّي سَامِعٌ وَمُطِيعٌ

أَيُصْلَى بَحَرِّ النَّارِ عَاصٍ مُوَحِّدٌ

وَأَنْتَ كَرِيمٌ وَالرَّسُولُ شَفِيعُ

وهذه الأنواع الثلاثة لتقاربها قد تجتمع أو بعضها في الصيغة الواحدة.

رابعا: - التوسل بالدعاء:

النوع الرابع: تَوسُّل المرء بدعاء غيره، وهو على وجهين:

أحدهما: أن تكتفي عن دعائك بدعاء من سألته الدعاء، وهذا تقدم في فصل الدعاء، وأنه مأذون فيه، ما لم يكن ذريعة إلى منهي عنه؛ كسؤال الدعاء من الميت والغائب؛ لما فيه من مظنة الاعتقاد بعلم الغيب.

قال الشيخ محمد صالح العثيمين: " من الشرك أن يدعو غير الله؛ لأن الدعاء لا يكون إلا مع محبة وتعظيم وافتقار وتذلُّل، واعتقاد أن المدعو قادر"(2).

والوجه الثاني: أن تسأل الدعاء من الحي الحاضر، فيدعو لك، وتتوجه أنت إلى الله داعياً متوسلاً بدعائه.

وهو مشروع لحديث الأعمى عند أحمد والنسائي، والترمذي وصححه، وهو أن رجلاً ضريرا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الدعاء ليرد الله عليه بصره، فخيره بين الصبر ودعائه له، فأصر على اختيار دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمره بالوضؤ وصلاة ركعتين، ثم الدعاء بهذا اللفظ:«اللَّهُمَّ! إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَجَّهُ إلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ، نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ! إنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ! فَشَفِّعْهُ فِيَّ» (3).

والتوجه بالنبي معناه التوجه بدعائه، دل على هذا المحذوف اختيار الأعمى لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تخييره له بينه وبين الصبر، وأمره للأعمى بالدعاء بعد دعائه صلى الله عليه وسلم؛ نظير ما أخرجه مسلم وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله مرافقته في الجنة:«أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (4)؛ فنصح لهما بعبادتي الصلاة والدعاء لمناسبتهما للمطلوب.

ونظير حديث الأعمى ما رواه البخاري في " صحيحه " من استسقاء عمر بالعباس (5) وقوله: " اللَّهُمَّ! إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بَنَبِيِّنَا، فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا؛ فَاسْقِنَا "؛ ففيه إِثبات التوسل بالرسول في حياته، وبأهل الفضل- ولا سيما ذوو قرابته- بعد موته، والمقصود التوسل بدعائهم إذا كانوا معنا في عالمنا، أما من كان في العالم الغيبي؛ فكل شيء منه غائب علينا؛ فلا

(1) انظر: الغحاطة في أخبار غرناطة: 3/ 62، والذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة: 4/ 351.

(2)

القول المفيد: 1/ 262.

(3)

صحيح: أخرجه أحمد (4/ 138)، والترمذي (10/ 32 - 33/ 3649)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(658 و 659 و 660)، وابن ماجه (1385)، وابن خزيمة (2/ 225 - 226/ 1219)، والحاكم (1/ 313 و 519 و 526 - 527)، والطبراني في " الكبير "(9/ 17 - 18/ 8311)، و " الصغير "(1/ 306 - 307/ 508) عن عثمان بن حُنيف رضي الله عنه.

وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح غريب "؛ وقال الحاكم في الموضع الأول: " صحيح على شرط الشيخين "، وفي الموضع الثاني:" صحيح الإِسناد "، وفي الأخير:" صحيح على شرط البخاري "، ووافقه الذهبي فيها، وقال الطبراني بعد ذكر طرقه:" والحديث صحيح " قاله في " الصغير "، ونقله عنه المنذري في " الترغيب "(3/ 67).

وقد صححه أيضاً البيهقي وأبو عبد الله المقدسي وابن تيمية كما في " مجموع الفتاوى "(1/ 265 وما بعدها).

(4)

أخرجه مسلم (1/ 353/ 489) ..

(5)

رواه البخاري (2/ 494/ 1010) عن أنس.

ص: 180

نعلم هل دعا لنا ولم يرد الشرع بدعائهم لنا، والعباس حاضر وقع منه الدعاء، وأنه قال - كما في " الفتح " -:" اللَّهُمَّ! إِنِّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلاءٌ إِلا بِذَنْبٍ، وَلَمْ يُكْشَفْ إِلا بِتَوْبَةٍ، وَقَدْ تَوَجَّهَ الْقَوْمُ بِي إِلَيْكَ لِمَكَانِي مِنْ نَبِيِّكَ، وَهَذِهِ أَيْدِينَا إِلَيْكَ بِالذُّنُوبِ، وَنَوَاصِينَا إِلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ، فَاسْقِنَا الْغَيْثَ"(1).

خامسا: - التوسل بالطاعة المطلقة:

النوع الخامس: التوسل بطاعة تعم المتوسل وغيره.

ومن أمثلته:

1 -

ما في " كبير الطبراني " من طريق فضال بن جبير المجمع على ضعفه عن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً: " أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَبِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَكَ، وَبِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ؛ أَنْ تَقْبَلَنِي فِي هَذِهِ الْغَدَاةِ وَفِي هَذِهِ الْعَشِيَّةِ، وَأَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ بِقُدْرَتِكَ"(2).

2 -

ومنها: ما رواه أحمد وابن ماجه عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه:«وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ، وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، وَلَكِنْ خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنَ النَّارِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» (3).

3 -

ومنها: ما رواه محمد بن عوف عن جابر في دعاء الأذان مرفوعاً: «اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ» (4).

(1) صحيح: أخرجه الزبير بن بكار في " الأنساب "؛ كما قال الحافظ في " الفتح "(2/ 497)، وسكت عليه، وأشار إلى ثبوته الألباني في " التوسل: أنواعه وأحكامه " [ص: 62]، والله أعلم.

(2)

ضعيف جداً: أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير "(8/ 316 - 317/ رقم: 8027) من طريق هشام.

قال الهيثمي (15/ 117): " وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه"

(3)

ضعيف: أخرجه أحمد (3/ 21 - مصورة المكتب)، وابن ماجه (778)، وابن السني (85) من طريق فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي به. وسنده ضعيف، وفيه علتان:

الأولى: فضيل بن مرزوق ضعفه جماعة كما في " المجروحين "، و " الميزان "، و " ديوان الضعفاء "، و " التقريب " وغيرها.

والأخرى: عطية العوفي، وقد سبق تضعيفه في الحديث المخرج برقم (65).

وللحديث شاهد أخرجه ابن السني (84) عن بلال رضي الله عنه، وفيه الوازع بن نافع العقيلي " متفق على ضعفه وأنه منكر الحديث "، كما قال النووي في " الأذكار " [ص: 25]، فلا يصلح جابراً له ولا يصح الاستشهاد به، كما لا يخفى على طلاب هذا العلم وأهله.

انظر: " ترغيب المنذري "(3/ 272)، و " أذكار النووي "، و " مجموع فتاوى ابن تيمية "(1/ 288 و 240)، و " اقتضاء الصراط المستقيم " [ص: 418] أيضاً، و " ضعيفة الألباني "(24)، و " التوسل "(ص 94 - 101) له أيضاً، والله الموفق.

(4)

. شاذ بهذا اللفظ: أخرجه البيهقي في " سننه الكبرى "(1/ 410)، و " السنن الصغير "(1/ 124/ 296) من طريق محمد بن عوف حدثنا عليّ بن عياش عن شُعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدرعن جابر مرفوعاً.

قلتُ: ومحمد بن عوف- وهو ابن سفيان أبو جعفر الطائي الحمصي- وإنْ " وثقه غير واحد وأثنوا على معرفته ونبله " كما في " تذكرة الذهبي "(2/ 583)، بل هو " ثقة حافظ " كما في " تقريب ابن حجر "(3/ 197)، فلفظ حديثه شاذ مخالف للفظ المحفوظ «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ» الذي تتابع عليه جماعة من الحفاظ الثقات الأثبات في روايته عن علي بن عياش، منهم:

1 -

الإِمام أحمد: في " المسند " و " سنن أبي داود ".

2 -

البخاري: في " صحيحه "، وفي " شرح السنة " للبغوي.

3 -

عمرو بن منصور: في " سنن النسائي "، و " عمل اليوم والليلة " لابن السني.

4 -

محمد بن يحى: عند " ابن ماجه " وابن حبان في " صحيحه ".

5 و 6 - العباس بن الوليد الدمشقي، ومحمد بن أبي الحسين، عند ابن ماجه في " سننه " أيضاً.

7 -

موسى بن سهل الرملي: عند ابن خزيمة في " صحيحه ".

8 و 9 - محمد بن سهل بن عسكر البغدادي وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: عند الترمذي.

10 -

محمد بن مسلم بن وارة: عند ابن أبي عاصم في " السنة "(826).

وانظر: " إرواء الغليل "(1/ 261) للألباني. 302.

ص: 181

وعطية العوفي ضعفوه، وأطال السهسواني في " صيانة الإِنسان " القول في تعليل حديثه هذا، ومحمد بن عوف فيه مقال.

فلم تسلم الأحاديث الثلاثة من الطعن.

سادسا: - التوسل بالجاه:

النوع السادس: توسل المرء بحق المخلوق وجاهه، وردت آثار لو صحت ولم تؤول لدلت على جوازه بكل معظم شرعاً، من ميت أو غائب أو حاضر لم يقع منه دعاء للمتوسل، ولنقتصر من الآثار على أحسنها إسناداً أو أشهرها على الألسنة.

ومما ورد في التوسل بالجاه:

1 -

روى ابن السني وأبو نعيم وأبو الشيخ الأصبهاني من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده؛ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني. فعلمه صلى الله عليه وسلم أن يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمُحَمَّدِ نَبِيِّك، وَبِإِبْرَاهِيمَ خَلِيلِك، وَبِمُوسَى نَجِيِّك، وَعِيسَى رُوحِك وَكَلِمَتِك، وَبِتَوْرَاةِ مُوسَى وَإِنْجِيلِ عِيسَى وَزَبُورِ دَاوُد وَفُرْقَانِ مُحَمَّدٍ، وَبِكُلِّ وَحْيٍ أَوْحَيْته وَقَضَاءٍ قَضَيْته

» الحديث (1).

2 -

وروى الحاكم في " المستدرك " وصححه من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب مرفوعاً:" لما اقترف آدم الخطيئة؛ قال: يا رب! أسألك بحق محمد لما غفرت لي. قال: وكيف عرفت محمداً؟ قال: لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك، رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. قال: صدقت يا آدم! ولولا محمد ما خلقتك "(2).

(1) موضوع: أخرجه أبو الشيخ ابن حيان في كتاب " الثواب " وغيره من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة الشيباني عن أبيه- زاد بعضهم: عن جدّه -؛ أنّ أبا بكر الصديق أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتعلَّم القرآن فيتفلّت منّي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«قل: اللهم إني أسألك بمحمد نبيّك، وإبراهيم خليلك، وموسى نجيّك، وعيسى روحك وكلمتك، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزابور داود، وفرقان محمد، وكل وحي أوحيته أو قضاء قضيته أو شيء أعطيته أو فقير أغنيته أو غني أفقرته أو ضال هديته، وأسألك باسمك الذي أنزلته على موسى، وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت، وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فأرست، وأسألك باسمك الذي استقل به عرشك، وأسألك باسمك المطهر الطاهر الأحد الصمد الوتر المنزل في كتابك من لدنك من النور المبين، وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار، وعلى الليل فاظلم، وبعظمتك وكبريائك وبنور وجهك أن ترزقني القرآن والعلم، وتخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري وتستعمل به جسدي بحولك وقوتك؛ فإنه لا حول ولا قوّة إلا بدً» .

وهذا حديثٌ مَوْضوعٌ، وآفته عبد الملك بن هارون؛ فإنه " من أضعف الناس، وهو عند أهل العلم بالرجال متروك، بل كذّاب "، كما قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " مجموع الفتاوى "(1/ 299) ملخصاً كلام أهل الجرح والتعديل فيه، المبثوث في ثنايا " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم، و " المجروحين " لابن حبان، و " الميزان " للذهبي، و " اللسان " لابن حجر، وغيرها.

وفيه علة ثانية- وإن كانت دون الأولى- وهي ضعف أبيه هارون كما قاله الدارقطني وغيره.

وعلة ثالثة: وهي الانقطاع بين هارون وأبي بكر، قاله العراقي في " تخريج الإِحياء " (1/ 315). وانظر:" مجموع الفتاوى "(1/ 252 - 253) أيضاً، و " اللآلئ المصنوعة "(2/ 357) للسيوطي.

وللحديث طرق أخرى عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بأسانيد مظلمة لا يثبت منها شيء كما في " المجموع "(1/ 258 - 259)، و " اللآلئ "(2/ 356، 357) أيضاً.

(2)

موضوع: أخرجه الحاكم (2/ 615) وقال: " صحيح الإِسناد! ! وهو أوَّل حديث ذكرته لعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في هذا الكتاب ". وتعقبه الحافظ الذهبي في " التلخيص " بقوله: " قلتُ: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من ذا؟ "، وفي " الميزان "(2/ 504) حكم على الحديث بالبطلان، وأقره الحافظ العسقلاني في " اللسان "(3/ 360).

وقال ابن تيمية (1/ 254): " ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أُنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتاب " المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم ": عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا تخفى على من تأمّلها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه.

قلتُ: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيراً، وضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني وغيرهم، وقال أبو حاتم بن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف، فاستحق الترك.

وأمّا تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله؛ فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث وقالوا: إن الحاكم يصحّح أحاديث وهي موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث

".

وانظر: " الضعيفة "(25)، و " التوسل "(ص 106 - 118) للألباني.

ص: 182

3 -

وأخرج الطبراني في " الكبير " و " الأوسط " والحاكم وصححه من طريق روح بن صلاح المصري، عن أنس رضي الله عنه، في قصة وفاة فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل لحدها، واضطجع فيه، ثم قال:«الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اللهم! اغفر لي ولأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، حق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإنك أرحم الراحمين» (1).

4 -

وجاء من طريق عمرو بن ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه؛ قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، قال:" سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت عليَّ، فتيب عليه "(2).

5 -

وروي: " إذا كانت لكم إلى الله حاجة؛ فسلوه بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم "(3).

6 -

وفي الباب الثالث من القسم الثاني من الشفاء عن محمد بن حميد الرازي، أن مالكاً والخليفة المنصور اجتمعا، فسأل المنصور مالكاً: أيستقبل القبلة ويدعو أو يستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه: " ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامه، بل استقبله واستشفع به؛ يشفعه الله فيك. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] "(4).

(1) ضعيف: أخرجه أبو نعيم في " الحلية "(3/ 121)؛ قال: حدثنا سليمان بن أحمد- وهو الطبراني- وهذا في (المعجم الكبير " (24/ 351 - 352/ 871) - و " الأوسط " كما في " المجمع "(9/ 257) - ثنا أحمد بن حماد بن زغبة حدثنا روح بن صلاح أخبرنا سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك؛ قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أمّ عليّ رضي الله عنهما، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها، فقال:" رحمكِ اللهُ يا أمّي، كنتِ أمّي بعد أمّي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيّباً وتطعميني، تريد بذلك وجه الله والدار الآخرة "، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور؛ سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه، وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد، حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ؛ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضطجع فيه، فقال:

" فذكره، وزاد: " وكبَّر عليها أربعاً، وأدخلوها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم".

(2)

منكر: آفته عمرو بن ثابت الذي سيذكر المؤلف قريباً أقوال بعض أهل العلم في تضعيفه جداً، ثم هو مخالف للثابت عن ابن عباس في تفسير الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فأخرج الحاكم (2/ 545) عنه:" {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}؛ قال: أي ربّ! ألم تخلقني بيدك؛ قال: بلى، قال: أي ربّ! ألم تنفخ في من روحك؛ قال: بلى. قال: أي ربّ! ألم تسكني جنتك؛ قال: بلى. قال: أي رب! ألم تسبق رحمتك غضبك؛ قال: بلى. قال: إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنتَ إلى الجنة؛ قال: بلى. قال: فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ".

وقال الحاكم: " صحيح الإِسناد "، ووافقه الذهبي.

قلتُ: وهو في حكم المرفوع كما لا يخفى، فدلّ على نكارة حديث عمرو بن ثابت، والله أعلم.

(3)

باطل لا أصل له: قال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " القاعدة الجليلة " المطبوعة ضمن " مجموع الفتاوى "(1/ 319):

" وهذا الحديث كذب ليس في شيءٍ من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحدٌ من أهل العلم بالحديث، مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين

".

وانظر: (1/ 346 و 24/ 335 و 27/ 126) منه أيضاً.

(4)

منقطع، ابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه، بل روايته عنه منطقة غير متصلة.

ص: 183

قلت: والتوسل بحق الأنبياء، فهذا فيه نزاع، إذ منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام.

قال أبو حنيفة: " "وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام" (1).

وقال أيضا: "يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام"(2).

وقال بشير بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك (3)، أو بحق خلقك"(4).

وقد ذكر أهل العلم أنه لم يصح في التوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم دليل، والأخبار التي ذكرت لم ترد شيء منها من كتب المسلمين التي يعتمد عليها، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، والتوسل من العبادة، والعبادات لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح.

قالوا: بأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم عند الله عظيم ولا شك، لكن التوسل به في الدعاء لم يدل عليه دليل صحيح فهو لا يجوز وهو من البدع في الدعاء (5).

قال ابن باز: " أما التوسل بمخلوقات فلا، جاه النبي، أو بحق النبي أو بجاه فلان، أو شرف فلان، وسيلة باطلة ما تنفع، ليست وسيلة شرعية"(6).

قال محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي- واللفظ للوالد-: "إن معنى «الاستشفاع» به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس معناه: الإقسام به على الله تعالى

وعلى هذا لا يصلح «الخبر» [أي خبر التوسل والاستشفاع] ولا ما قبله [في آية الوسيلة]- دليلاً لمن ادعى جواز الإقسام [والتوسل] بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه، عليه الصلاة والسلام" (7).

وقد أجازه بعض العلماء، منهم: الشيخ محمد العز بن عبدالسلام، إذ نقل عنه جواز التوسل في رسول الله-صلى الله عليه وسلم خاصة، فقال:"أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: "قل: اللهم إني أقسم عليك بمحمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة" (8).

(1) إتحاف السادة المتقين 2/ 285؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص 234.

(2)

العقيدة الطحاوية ص 234؛ وإتحاف السادة المتقين 2/ 285؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص 198.

(3)

كره الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يقول الرجل في دعائه"اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك".

لعدم وجود النص في الإذن به، وأما أبو يوسف فقد جوز لوقوفه على نص من السنة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه:"اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدِّك الأعلى وكلماتك التامة".

وهذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير كما في البناية 9/ 382، ونصب الراية 4/ 272، 273.

وفي إسناده ثلاثة أمور قادحة:

1 -

عدم سماع داود بن أبي عاصم من ابن مسعود.

2 -

عبد الملك بن جريج مدلس ويرسل.

3 -

عمر بن هارون متهم بالكذب.

من أجل هذا قال ابن الجوزي كما في البناية 9/ 382 "هذا حديث موضوع بلا شك وإسناده محبط كما ترى".

انظر تهذيب التهذيب 3/ 189، 6/ 405، 7/ 501؛ وتقريب التهذيب 1/ 520.

(4)

التوسل والوسيلة ص 82؛ وانظر شرح الفقه الأكبر ص 198.

(5)

انظر: مجموع الفتاوى: 10/ 318 - 319.

(6)

مجموع فتاوى ابن باز: 28/ 56.

(7)

انظر: تفسير الآلوسي: 3/ 294 - وما بعدها.

(8)

.سبق تخريجه.

قال أهل العلم: " وليس في هذا الحديث متمسّك لمن يرى جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه؛ فإن الحديث صريح في أن الغرض من مجيء هذا الرجل، وهو ضرير البصر إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس التوسل بذاته أو جاهه، ولو أراد غير ذلك لجلس في بيته ودعا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "ادع الله أن يعافيني".

ورد الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ".

فتبين مما سبق أن الحديث ليس فيه ما يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بذاته إذ قوله: "بنبيك" على تقدير المضاف أي بدعاء نبيك أو بشفاعته". انظر: التوسل والوسيلة ص 259.

ص: 184

وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وألا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة، لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيها على درجته ومرتبته" (1).

قال بعض أهل العلم: " وأما جاه النبي صلى الله عليه وسلم فورد فيه حديث مشكل، فإذا اجتهد أحد العلماء وأجاز ذلك -لا سيما أنه ورد عن بعض الصحابة أنه كان يجيز ذلك- فيكون هذا من الاجتهاد الذي يعذر فيه صاحبه، لا نبدعه ولا نعصمه في نفس الوقت، وإنما نقول: الصواب هو ترك هذا لضعف حديث الأعمى، ولغموض الاستدلال به (2).

القرآن

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)} [المائدة: 36]

التفسير:

إن الذين جحدوا وحدانية الله، وشريعته، لو أنهم سلكوا جميع ما في الأرض، وملكوا مثله معه، وأرادوا أن يفتدوا أنفسهم يوم القيامة من عذاب الله بما ملكوا، ما تَقبَّل الله ذلك منهم، ولهم عذاب مُوجع.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 36]، أي:" إن الذين جحدوا وحدانية الله، وشريعته"(3).

قال المراغي: " أي إن الذين جحدوا ربوبية ربهم وعبدوا غيره من عجل أو صنم أو وثن وهلكوا وهم على هذه الحال قبل التوبة"(4).

قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} [المائدة: 36]، أي:" لو أنهم سلكوا جميع ما في الأرض، وملكوا مثله معه"(5).

قال السمرقندي: " يقول: إن الكافر إذا عاين العذاب ثم تكون له الدنيا جميعا ومثلها معها"(6).

قال البيضاوي: أي: " من صنوف الأموال جميعا ومثله معه"(7).

قال ابن كثير: " أي: لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبًا، وبمثله"(8).

قوله تعالى: {لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 36]، أي:" وأرادوا أن يفتدوا أنفسهم يوم القيامة من عذاب الله بما ملكوا"(9).

قال البيضاوي: أي: " ليجعلوه فدية لأنفسهم. من عذاب يوم القيامة"(10).

(1) فتاوى العز بن عبد السلام ص 126.، وانظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 147) - ط المكتب الإسلامي-، وفتوى العز موجودة في المطبوع من فتاويه (ص: 126 - 127).

(2)

انظر: شرح كتاب التوحيد، عبدالرحيم السلمي: الدرس (7) /19. [دروس صوتية مرقم آليا].

(3)

التفسير الميسر: 113.

(4)

تفسير المراغي: 6/ 112.

(5)

التفسير الميسر: 113.

(6)

بحر العلوم: 387.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 125.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 105.

(9)

التفسير الميسر: 113.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 125.

ص: 185

قال مقاتل: " أي: فقدروا أن يفتدوا به من عذاب جهنم يوم القيامة"(1).

قال السمرقندي: أي" فيقدر على أن يفتدي بها، من العذاب لافتدى بها"(2).

قال الراغب: " أي لو حصل كل واحد ما في الأرض ومثله قاصدا بإحرازه أن يجعل ذلك وقاية لنفسه"(3).

قال أبو حيان: " المعنى: لو أن ما في الأرض ومثله معه مستقر لهم على سبيل الملك ليجعلوه فدية لهم"(4).

قال ابن كثير: أي: " ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به وتيقن وصوله إليه "(5).

قال الزمخشري: " {ليفتدوا به}، ليجعلوه فدية لأنفسهم"(6).

وقد وحّد الضمير في قوله: {ليفتدوا به} ، وإن كان قد تقدم شيئان معطوف عليه ومعطوف، وهو {ما في الأرض ومثله معه]، لوجهين (7):

أحدهما: لفرض تلازمهما فأجريا مجرى الواحد، كما قالوا: رب يوم وليلة مر بي، قال الشاعر (8):

فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدِينَةِ رَحْلُهُ

فإنّي وَقيار بِهَا لَغَرِيبُ

والثاني: وإما لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قال: ليفتدوا بذلك.

قال الزمخشري: "ويجوز أن تكون الواو في: ومثله، بمعنى مع، فيوحد المرجوع إليه"(9).

قوله تعالى: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: 36]، أي:" ما تَقبَّل الله ذلك منهم"(10).

قال السعدي: أي: "ما تقبل منهم، ولا أفاد، لأن محل الافتداء قد فات"(11).

قال السمرقندي: أي: " لو كان ذلك لهم ففعلوه ما تقبل منهم ذلك النداء"(12).

قال الراغب: أي: " لم ينفعه، وذلك حث على المبادرة بالامتناع عن الآثام وترك الاهتمام بالمال في المعاد"(13).

قال البغوي: " أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء"(14).

قال الزمخشري: " وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه"(15).

قال ابن كثير: أي: " ما تُقُبل ذلك منه، بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص"(16).

وقرأ يزيد بن قطيب: «تقبل» ، بفتحها على معنى: ما قبل الله (17).

قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36]، أي:" ولهم عذاب مُوجع"(18).

قال السمرقندي: "أي وجيع"(19).

قال ابن كثير: " أي: موجع"(20).

قال أبو حيان: " لما أرشد المؤمنين إلى معاقد الخير ومفاتح السعادة، وذكر فوزهم في الآخرة وما آلوا إليه من الفلاح، شرح حال الكفار وعاقبة كفرهم، وما أعد لهم من العذاب"(21).

روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، قال: فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» (22).

الفوائد:

1 -

أن سبب الفلاح والنجاة إنما يكون من نفس الإنسان لا من خارج عنها، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10].

وهذا هو الفارق بين الإسلام وغيره من الأديان فالنصارى يعتقدون أن خلاصهم وسعادتهم يكون بالمسيح فدية لهم يفتديهم بنفسه مهما كانت حالهم، والمسلمون يعتقدون أن العمدة فى النجاة تزكية النفس بالفضائل والأعمال الصالحة.

2 -

أن من استحق العذاب ذلك اليوم لا يُقبل منه عدل؛ قال تعالى: {إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم} .

3 -

أن النار عذابها شديد، وفيها من الأهوال وألوان العذاب ما يجعل الإنسان يبذل في سبيل الخلاص منها نفائس الأموال. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب "(23).

إنها لحظات قليلة تُنسي أكثر الكفار نعيماً كلّ أوقات السعادة والهناء.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا وما فيها، أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك (أحسبه قال: ) ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك "(24).

إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة:{يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه* وصاحبته وأخيه* وفصيلته التي تؤيه* ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه* كلا إنها لظى * نزاعة للشوى} [المعارج: 11 - 16].

وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة هؤلاء المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر.

القرآن

{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)} [المائدة: 37]

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473.

(2)

بحر العلوم: 387.

(3)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 330.

(4)

البحر المحيط: 4/ 243.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 105.

(6)

الكشاف: 1/ 629.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 629 - 630.

(8)

ن الأبيات التي قالها ضأبى بن الحارث البرجى وهو محبوس بالمدينة فى زمن عثمان بن عفان، فى الأصمعيات 16. والبيت فى الكتاب 1/ 29 والكامل 181 والطبري 6/ 121 والشنتمرى 1/ 38 والقرطبي 6/ 246 وابن يعيش 1/ 113، 2/ 1126 والعيني 2/ 318 وشواهد المغني 293 والخزانة 4/ 223 واللسان والتاج (قير).

(9)

الكشاف: 1/ 629.

(10)

التفسير الميسر: 113.

(11)

تفسير السعدي: 230.

(12)

بحر العلوم: 387.

(13)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 330.

(14)

تفسير البغوي: 3/ 51.

(15)

الكشاف: 1/ 629.

(16)

تفسير ابن كثير: 3/ 105.

(17)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 187.

(18)

التفسير الميسر: 113.

(19)

بحر العلوم: 387.

(20)

تفسير ابن كثير: 3/ 105.

(21)

البحر المحيط: 4/ 242.

(22)

مسند أحمد (14107): ص 21/ 471، وأخرجه البخاري (6538)، ومسلم (2805)(52)، وأبو يعلى (2926) و (2976) و (3021)، وأبو عوانة في القدر كما في "إتحاف المهرة" 2/ 255، وابن حبان (7351) من طرق عن معاذ بن هشام، به. وانظر (13288).

(23)

روه مسلم: 2807.

(24)

رواه البخاري: صحيح البخاري: 3334، ورواه مسلم:2805. المصابيح: (3/ 102).

ص: 186

التفسير:

يريد هؤلاء الكافرون الخروج من النار لما يلاقونه من أهوالها، ولا سبيل لهم إلى ذلك، ولهم عذاب دائم.

قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} [المائدة: 37]، أي:" يريد هؤلاء الكافرون الخروج من النار لما يلاقونه من أهوالها"(1).

قال الطبري: أي: " يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن يخرجوا من النار بعد دخولها"(2).

قال المراغي: " أي: يتمنون الخروج من النار دار العذاب والشقاء بعد دخولهم فيها"(3).

قال ابن كثير: أي: " فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه"(4).

قال الماتريدي: " أي: يطلبون ويسألون الخروج منها من غير عمل الخروج نفسه"(5).

قال السمرقندي: " وذلك أنهم يريدون أن يخرجوا من الأبواب، فتستقبلهم الملائكة فيضربونهم بمقامع من حديد ويردونهم إليها"(6).

قال النسفي: " {يريدون} يطلبون أو يتمنون"(7).

وقرأ أبو واقد: «أن يخرجوا» ، بضم الياء، من: أخرج. ويشهد لقراءة العامة قوله: {بخارجين} (8).

قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37]، أي:" ولا سبيل لهم إلى الخروج من النار"(9).

قال ابن كثير: أي: " ولا سبيل لهم إلى ذلك، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعالي جهنم، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد، فيردونهم إلى أسفلها"(10).

قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37]، أي:" ولهم عذاب دائم"(11).

قال السمرقندي: أي: "دائم أبدا "(12).

قال ابن عاشور: " أي: دائم تأكيد لقوله: {وما هم بخارجين منها} "(13).

قال ابن كثير: " أي: دائم مستمر لا خروج لهم منها، ولا محيد لهم عنها "(14).

قال الطبري: " يقول: لهم عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر (15):

فَإنَّ لَكُمْ بِيَوْمِ الشِّعْبِ مِنِّي

عَذَابًا دَائِمًا لَكُمُ مُقِيمَا" (16).

قال المراغي: " «المقيم»: هو الثابت الذي لا يرتحل أبدا"(17).

(1) التفسير الميسر: 114.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 293.

(3)

تفسير المراغي: 6/ 113.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 105.

(5)

تفسير الماتريدي: 3/ 510.

(6)

بحر العلوم: 1/ 387.

(7)

تفسير النسفي: 1/ 445.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 630.

(9)

التفسير الميسر: 114.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 106.

(11)

التفسير الميسر: 114.

(12)

بحر العلوم: 1/ 387.

(13)

التحريري والتنوير: 6/ 189.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 106.

(15)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري: 10/ 293، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 1/ 165.

(16)

تفسير الطبري: 10/ 293.

(17)

تفسير المراغي: 6/ 113.

ص: 187

قال ابن عطية: " أخبر تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد"(1).

قال السعدي: " ولم يبق إلا العذاب الأليم، الموجع الدائم الذي لا يخرجون منه أبدا، بل هم ماكثون فيه سرمدا"(2).

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود "(3).

وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار، يا أهل النار خلود لا موت "(4).

وهذا يقال بعد ذبح الموت كما في حديث ابن عمر عند البخاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم "(5).

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} [مريم: 39] " (6).

وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار "(7) قال: حديث حسن صحيح.

عن عكرمة: "أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله جل وعز: {وما هم بخارجين منها}؟ فقال ابن عباس: ويحك، أقرأ ما فوقها! هذه للكفّار"(8).

وعن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: " «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة» قال: فقلت لجابر بن عبد الله: يقول الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} قال: اتل أول الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} الآية، ألا إنهم الذين كفروا"(9).

عن يزيد الفقير قال: "جلست إلى جابر بن عبد الله، وهو يحدث، فحدّث أن أُنَاسًا يخرجون من النار - قال: وأنا يومئذ أنكر ذلك، فغضبت وقلت: ما أعجب من الناس، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد! تزعمون أن الله يخرج ناسًا من النار، والله يقول:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} فانتهرني أصحابه، وكان أحلمهم فقال: دعوا الرجل، إنما ذلك للكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ

(1) المحرر الوجيز: 2/ 187.

(2)

تفسير السعدي: 230.

(3)

صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فتح الباري:(11/ 406).

(4)

صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فتح الباري:(11/ 406).

(5)

صحيح البخاري، كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار، فتح الباري:(11/ 415).

(6)

صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها:(4/ 2188).

(7)

سنن الترمذي: 2558.

(8)

أخرجه الطبري (11906): ص 10/ 294.

(9)

المسند (3/ 355)، وصحيح مسلم برقم (191).

ص: 188

مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} حتى بلغ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قد جمعته قال: أليس الله يقول: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} ؟ [الإسراء: 79]، فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحتبس أقوامًا بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم. قال: فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به" (1).

وعن طَلْق بن حبيب قال: "كنت من أشد الناس تكذيبًا بالشفاعة، حتى لقيت جابر بن عبد الله، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله تعالى فيها خلود أهل النار، فقال: يا طلق، أتُرَاك أَقْرَأُ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها، هم المشركون، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبًا فعذبوا، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه، فقال: صُمَّتًا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرجون من النار بعدما دخلوا». ونحن نقرأ كما قرأت"(2).

الفوائد:

1 -

أن الشرك بالله عبادة غير الله معه، وهو أعظمُ ذنب عُصي الله به، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، وهو الذنب الذي يُخلَّد صاحبُه في النار أبد الآباد، ولا سبيل له للخروج منها، كما قال الله عز وجل:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} .

وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"(3)، الحديث.

2 -

الرد على الذين نفوا الشفاعة من الخوارج والمعتزلة، وذلك لأنهم يكفرون الناس بالمعاصي، وعندهم أن من دخل النار من أصحاب الذنوب فإنه يخلد فيها، فالخوارج يكفرونه في الدنيا والآخرة، والمعتزلة يفسقونه في الدنيا ويحكمون بتخليده في الآخرة في النار، وينكرون على هذا شفاعة الشافعين، وينكرون أيضاً الأحاديث التي وردت في الشفاعة مع كثرتها، ويستدلون بمثل قول الله تعالى:{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، وقول الله تعالى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فمثل هذه الآيات فيها نفي الشفاعة، فلذلك قالوا: ليس في الآخرة شفاعة، بل من دخل النار فهو مخلد فيها.

وقد يستدلون بقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: 22]، وقوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] على أن من دخل النار فإنه لا يخرج منها، ولا دلالة في الآية، بل الآية فيها نفي الشفاعة التي هي بدون إذن الله، ولأجل ذلك أثبت الله تعالى الشفاعة بشرطين -وعليه قول أهل السنة-:

الشرط الأول: الإذن للشافع.

الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع.

كما في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] يأذن للشافع ويرضى عن المشفوع، وذكر الرضا في سورة طه وفي سورة الأنبياء، قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]، فهذه الآية ذكر فيها الشرطين:{أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]، وذكر الإذن في آية الكرسي:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ} [البقرة: 255]، وفي آية سورة سبأ:{وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، فكل هذه أدلة على أن هناك شفاعة، ولكنها لا تكون إلا بعد إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له، وعلى هذا فإن العبد لا يطلبها إلا من الله، فيقول: يا رب! اجعلني ممن تنفعه شفاعة الشافعين، أسألك أن تُشَفِّع فيِّ أنبياءك ورسلك وملائكتك، أسألك عملاً صالحاً أكون به أهلاً أن يشفع فيّ الشافعون، وما أشبه ذلك (4).

(1) راه ابن ابي حاتم كما في تفسير ابن كثير: 3/ 106 - 107.

(2)

رواه ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: 3/ 1 - 7.

(3)

صحيح البخاري (4761) ومسلم (141).

(4)

انظر: اعتقاد أهل السنة، ابن جبرين: الدرس الصوتي (10) /3. [مرقم آليا].

ص: 189

3 -

ذكر اهل العلم في أبدية النار، آراء كثيرة، وقد أشار شارح الطحاوية في أبدية النار ودوامها ثمانية أقوال، وهي (1):

أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.

والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم! وهذا قول ابن عربي الطائي (2).

الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 80 - 81].

الرابع: أن أهل النار يخرجون من النار بعد حين، ثم تبقى النار على حالها ليس فيها أحد (3).

الخامس: أنها تفنى بنفسها، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه! ! وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.

السادس: تفنى حركات أهلها ويصيرون جمادا، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف (ت - 235 هـ).

السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئا، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه (4).

ونسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة من الصحابة، وابن تيمية، وابن القيم (5)، وجماعة (6).

واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)} [الأنعام: 128]، وقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} هود: [106 - 107]، قالوا: استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وبقوله في الآية الثانية {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ولم يأتِ بعد الاستثناءين ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة، فإن الآية ختمت بقوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} .

وأما الأحاديث والآثار التي يستدل بها القائلون بفناء النار، فهي كالآتي:

1 -

حديث: «ليأتين على جهنم يوم كأنها زرع هاج، وآخر تخفق أبوابها" (7)، وهذا حديث باطل موضوع.

(1) انظر: شرح الطحاوية: 427 وما بعدها.

(2)

انظر: فصوص الحكم 1/ 169 - 170.

(3)

ذكر ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح ص 249 أن شيخ الإسلام حكاه، ولم ينسبه لأحد ..

(4)

ممن قال بهذا بعض المعاصرين مثل فيصل عبد الله في أطروحته التي تقدم بها لنيل درجة الماجستير إلى قسم العقيدة في جامعة أم القرى بعنوان (الجنة والنار والآراء فيهما) انظر: 228، وعبد الكريم الحميد في القول المختار لبيان فناء النار.

(5)

انظر: حادي الأرواح ص 248 - 249.

وقد ذكر ابن القيم سبعة أقوال، فلم يذكر القول الثامن، ونقلها عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 11/ 421 - 422 وقال:(جمع بعض المتأخرين في هذه المسألة سبعة أقوال) ثم ذكرها، وزاد عليها ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية 2/ 624 - 625 القول الثامن الذي هو قول أهل السنة والجماعة.

(6)

انظر: شرح الطحاوية: 529، والرد على من قال بفناء الجنة والنار لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. محمد بن عبد الله السمهري:(ص 53).

(7)

انظر: الموضوعات لابن الجوزي 2/ 437 مع اختلاف في اللفظ.

وهذا حديث باطل موضوع، وآفته: جعفر بن الزبير، وأيضاً الراوي عنه: عبد الله بن مسعر بن كدام.

أما جعفر بن الزبير، فقد وضع أربعمائة حديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبه شعبة بن الحجاج، وقال ابن معين رحمه الله: ليس بثقة. وقال البخاري رحمه الله: تركوه، وقال ابن عدي رحمه الله: الضعف على حديثه بيّن، وذكر الذهبي رحمه الله هذا الحديث، وقال: إسناده مظلم. [انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 2/ 558 - 560، ميزان الاعتدال للذهبي 1/ 406 - 407].

وأما عبد الله بن مسعر فهو متروك - أيضاً - وذكر الذهبي (ت - 748 هـ) رحمه الله حديثه هذا وقال: هذا باطل. [انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 502].

ص: 190

2 -

وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور، بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال:"لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه"(1).

3 -

واستدلوا أيضا بالأثر المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً"(2).

ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابا} [النبأ: 23].

4 -

أثر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله - تعالى -: {إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] قال: "هذه الآية قاضية على القرآن كله"(3).

ويجاب على هذا الأثر من وجهين (4):

أحدهما: أن هذا الأثر وإن كان صحيحاً موقوفاً، إلا أنه لا دلالة فيه على فناء النار، بل كما يقول الإمام الصنعاني رحمه الله:"غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذكر فيه الخلود لأهل النار، فإن آية الاستثناء حاكمة عليه، وهي عبارة مجملة لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات الثلاث"(5).

والثاني: أن هذا الأثر محمول على عصاة المؤمنين من الموحدين الذي يبقون في النار - ما شاء الله - ثم يخرجون منها بهذه المشيئة الربانية، وعلى هذا يبطل الاستدلال به على فناء النار.

(1) ضعيف لأنه من رواية الحسن قال: قال عمر: والحسن لم يدرك عمر رضي الله عنه. وقال ابن القيم في "حادي الأرواح""2/ 71 طبع الكردي" عقبه. والحسن لم يسمع من عمر. ومع ذلك فقد حاول تقويته بكلام خطابي، لا غناء فيه. "وحسبك بهذا الإسناد جلالة "! " والحسن وإن لم يسمع من عمر فإنما رواه عن بعض التابعين، ولو لم يصح عنده ذلك عن عمر لما جزم به، وقال: عمر بن الخطاب"!

قلت: وهذا كلام عجيب من مثل ابن القيم رحمه الله، لأن معناه الاحتجاج بحديث التابعي المجهول العين! لأنه إذا كان الحسن قد أخذه من بعض التابعين، فمن هو؟ وما حاله في الحديث حفظا وضبطا؟ أليس منطق ابن القيم هذا يؤدي إلى قلب القواعد الأصولية الحديثية التي تجعل حديث المجهول ضعيفا، والحديث المرسل والمنقطع ضعيفا كذلك، لأنهما يرجعان إلى راو لم يذكر ولم يسم؟ ! ويؤدي كذلك إلى قبول أحاديث الحسن البصري المعنعنة، فضلا عن المنقطعة والمرسلة، مثل حديثه عن سمرة "لما حملت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث، فسمته عبد الحارث، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره".

وهو حديث ضعيف، بل باطل، ولا علة فيه سوى عنعنة الحسن البصري، وقد فسر هو الآية التي يفسرها بعض المفسرين بهذا الحديث، فسرها الحسن نفسه بغير ما دل عليه حديثه، وتبعه على ذلك بعض المحققين، منهم ابن القيم نفسه، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة" "رقم الحديث 342".

ومثل حديثه المرسل في إبطال الوضوء بالقهقهة، وهو ضعيف باتفاق المحدثين! .

سامح الله ابن القيم وغفر له، فإنه بتصحيحه لمثل هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه يفتح بابا كبيرا لبعض الفرق الضالة يلجون فيه إلى تأييد ضلالهم، كالقاديانية، فإن من خلالهم القول بفناء النار، وانتهاء عذاب الكفار.

وجملة القول: أن هذا الأثر لا يصح عن عمر، كما لا يصح عن غيره مرفوعا، والله ولي التوفيق. وراجع هذا البحث كتاب "رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار". للعلامة الصنعاني.

(2)

وهذا الأثر ضعيف لا يصح لا مرفوعاً ولا موقوفاً، وآفته: أبو أبلج يحيى بن سليم، وهذا الرجل ثقة في نفسه، إلا أن تضعيف الحفّاظ له جاء من قبل حفظه، فقال الحافظ ابن حجر (ت - 852 هـ) رحمه الله عنه:"صدوق ربما أخطأ"[انظر: تقريب التهذيب 2/ 401 – 402]، وقد جعل الإمام الذهبي (ت - 748 هـ) رحمه الله هذا الحديث من بلاياه، وحكم عليه بأنه منكر. [انظر: ميزان الاعتدال 4/ 384 – 385].

(3)

انظر: جامع البيان للطبري 7/ 115 - 116، الأسماء والصفات للبيهقي 1/ 264، الدر المنثور للسيوطي 3/ 350.

(4)

انظر: دعاوى المناوئين لشيخ الاسلام ابن تيمية: 601.

(5)

رفع الأستار ص 79، والدلالات الثلاث هي دلالة: التضمن، المطابقة، الالتزام.

ص: 191

5 -

أثر عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه قال: "ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد".

وهذا الأثر رواه الطبري باسناد تالف (1)، وذكره البغوي بدون إسناد ثم قال:" ومعناه عند أهل السنة - إن ثبت - أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبداً"(2).

6 -

الأثر المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، وما فيها من أمة محمد أحد"(3). وهو اثر موضوع.

7 -

الأثر المروي عن أبي هريرة- رضي الله عنه قوله-: "ما أنا بالذي لا أقول إنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد".قد ذكره بسنده ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح (4)، وإسناده صحيح (5).

وقد قال أحد رواة الحديث -وهو عبيد الله بن معاذ (6) - كما في تتمة الأثر: "كان أصحابنا يقولون: يعني به الموحدين"(7).

وأجاب الإمام الصنعاني على هذا الأثر بقوله: "فإن قوله: «ليس فيها أحد» دال على بقائها، فإنك إذا قلت: ليس في الدار أحد، فإنه دال على بقاء الدار لا على فنائها"(8).

8 -

واستدلوا بأن النار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته. وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لما قضى الله الخلق، كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي» . وفي رواية: «تغلب غضبي» (9).

قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: {عذاب يوم عظيم} [الأنعام: 15]، و {أليم} [هود: 26]، و {عقيم} [الحج: 55]، ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى:{عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156]، وقال تعالى حكاية عن الملائكة:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته. وقد ثبت في الصحيح

(1) انظر: جامع البيان للطبري 7/ 116.

(2)

معالم التنزيل 2/ 403.

(3)

انظر: الحكم عليه في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 2/ 71، تخريج الألباني لأحاديث رفع الأستار للصنعاني ص 82.

وهذا الأثر موضوع، وآفته: العلاء بن زيدل، فقد كان يضع الحديث كما قال البخاري وغيره: منكر الحديث [انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 3/ 99]، وقال أبو حاتم:"هو متروك الحديث، قال ابن حبان: لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل التعجب"[المجروحين 2/ 180 - 181]، وذكر ابن عدي هذا الحديث في ترجمته وقال:"منكر الحديث"[الكامل في ضعفاء الرجال 5/ 1862 - 1863]، وقال الذهبي:"تالف"، وذكر هذا الحديث [ميزان الاعتدال للذهبي 3/ 99 - 100].

(4)

انظر: حادي الأرواح: 252، وأورده ابن تيمية في الرد على من قال بفناء الجنة والنار ص 70، وانظر: الدر المنثور للسيوطي 4/ 478 ..

(5)

انظر: تخريجه في حاشية تحقيق الألباني على رفع الأستار للصنعاني ص 75، وتخريج شرح العقيدة الطحاوية للأرناؤوط 2/ 627.

(6)

عبيد الله بن معاذ: بن نصر بن حسان العنبري. أبو عمرو الأنصاري. ثقة حافظ. (ت 235 هـ). انظر: الكاشف للذهبي 2/ 231، تقريب التهذيب لابن حجر 1/ 539.

(7)

انظر: حادي الأرواح لابن القيم ص 252، الدر المنثور للسيوطي 4/ 478، وانظر: رفع الأستار للصنعاني ص 76.

(8)

رفع الأستار للصنعاني ص 76.

(9)

أخرجه البخاري في الصحيح بشرحه فتح الباري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ} {والطور، وكتاب مسطور} حديث 7554، 13/ 522 من طريق آخر عن أبي هريرة بلفظ:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش".

أخرجه الترمذي في الجامع بشرحه تحفة الأحوذي، كتاب الدعوات باب "109" حديث 3611 جـ 9 ص"528" قال: حدثنا قتيبة، حدثني الليث بهذا السند، عن أبي هريرة بلفظه وقال: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 192

تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقا يعذبهم أبد الآباد عذابا سرمدا لا نهاية له. وأما أنه يخلق خلقا ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيما سرمدا - فمن مقتضى الحكمة. والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض.

قالوا: وما ورد من الخلود فيها، والتأبيد، وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام - كله حق مسلم، لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد. ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه (1).

الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء، كما ورد في السنة، ويبقى فيها الكفار، بقاء لا انقضاء له، كما قال الشيخ رحمه الله.

إذ يرى جمهور السلف: أن النار باقية لا تفنى، ومن دخل بقي مخلدا فيها أبدا إلا من دخلها من عصاة المؤمنين فإنهم يخرجون منها.

واستدلوا على بقائها ومن بها من الكافرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 167]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)} [المائدة: 36]، وقوله:{لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)} الزخرف: 75، قوله:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)} [فاطر: 36]، وقوله: قال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)} [الإسراء: 97]، {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]، أي مقيما لازما. وغيرها من الآيات.

وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله"، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما (2).

وقول الجماعة بدوامها وبقاء الكفار فيها، وهو القول الحق الذي تسنده الأدلة-كما تقدم-.

إلا أن أقبح الأقوال وأشدها شذوذاً ونكراناً: قول الجهم بن صفوان إمام المعطلة، الذي ذهب إلى القول بفناء الجنة والنار جميعاً، وليس له في هذا القول سلف، وأنكر عليه عامة أهل السنة.

القرآن

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} [المائدة: 38]

التفسير:

والسارق والسارقة فاقطعوا -يا ولاة الأمر- أيديهما بمقتضى الشرع، مجازاة لهما على أَخْذهما أموال الناس بغير حق، وعقوبةً يمنع الله بها غيرهما أن يصنع مثل صنيعهما. والله عزيز في ملكه، حكيم في أمره ونهيه.

سبب النزول:

نقل الواحدي والماوردي وابن الجوزي عن ابن السائب: أنها "نزلت في طعمة بن أبيرق سارق الدرع وقد مضت قصته"(3).

(1) انظر: شرح الطحاوية: 429 - 430.

(2)

انظر: شرح الطحاوية: 431.

(3)

أسباب النزول: 195، وانظر: النكت والعيون: 2/ 37، وززاد المسير: 1/ 544، ومضت قصة طعمة بن أبريق سارق الدرع في سورة النساء، سبب نزول قوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الْآيَةَ {105} . إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} .

ص: 193

قلت: وابن السائب هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فخبره باطل، لا أصل له.

قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، أي:" والسارق والسارقة فاقطعوا -يا ولاة الأمر- أيديهما بمقتضى الشرع"(1).

قال أبو السعود: " أي: حكمهما"(2).

قال السدي: " فاقطعوا أيديهما اليمنى"(3).

قال مقاتل: "يعني: أيمانهما من الكرسوع"(4).

قال البيضاوي: " السرقة: أخذ مال الغير في خفية"(5).

قال الزمخشري: " والسارق في الشريعة: من سرق من الحرز: والمقطع: الرسغ، وعند الخوارج: المنكب"(6).

قال ابن عرفة: "السارق عند العرب هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب ومحترس (7)، فإن تمنع بما في يده فهو غاصب"(8).

قال السعدي: " السارق: هو من أخذ مال غيره المحترم خفية، بغير رضاه. وهو من كبائر الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة، وهو قطع اليد اليمنى، كما هو في قراءة بعض الصحابة"(9).

قال ابن الجوزي: " السارق: إنما سمي سارقا، لأنه يأخذ الشيء في خفاء، واسترق السمع: إذا تسمع مستخفيا

وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كل سارق، وبينت السنة أن المراد به السارق لنصاب من حرز مثله" (10).

قال الإمام الموفق: "وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده، وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم، والابن والبنت، والجد والجدة، من قبل الأب والأم وهذا قول عامة أهل العلم منهم: مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر: القطع على كل سارق بظاهر الكتاب

والعبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا، ووافقهم أبو ثور، وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية اه ملخصا" (11).

واختلفوا في السارق الذي عناه الله عز ذكره في قوله: : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، على وجوه (12):

أحدها: أنه سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك، بأنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ قيمته ثلاثةُ دَرَاهم (13).

(1) التفسير الميسر: 114.

(2)

تفسير أبي السعود: 3/ 34.

(3)

أخرجه الطبري (11909): ص 10/ 295.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 473 - 474.

(5)

تفسير البيضاوي: 2/ 126.

(6)

الكشاف: 1/ 632.

(7)

المحترس الذي يسرق حريسة الجبل.

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 167.

(9)

تفسير السعدي: 230.

(10)

زاد المسير: 1/ 544.

(11)

المغني: 12/ 459، في شرح المسألة 1589، وانظر: أحكام الجصاص: 4/ 80 - 81.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 295 - 296.

(13)

تفسير الطبري (11911): ص 10/ 295. رواه بغير إسناد. ورواه مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر في الموطأ: 831، ورواه البخاري من طريق مالك (الفتح 2: 93 - 94)، ورواه مسلم من طريقه أيضًا، في صحيحه 11: 184، 185.

والمجن: الترس، لأنه يجن صاحبه، أي يواريه.

ص: 194

والثاني: أنه سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القطعُ في ربع دِينارٍ فصاعدًا"(1).

والثالث: انه سارقَ عشرة دراهم فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ قيمته عَشْرة دراهم"(2).

والرابع: أنه سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا، إلا بحجة يجب التسليم لها، وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من السُرَّاق، قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم.

وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم.

عن نجدة الحنفي قال: "سألت ابن عباس عن قوله: {والسارق والسارقة}، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام"(3).

والخامس: أنه سارق درهم. وهذا قول الحسن (4). وفي مواعظه: "احذر من قطع يدك في درهم"(5).

قال الإمام الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو قيمت، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القطعُ في ربع دينار فصاعدًا» (6) "(7).

قال الماوردي: " إنما بدأ الله تعالى في السرقة بالسارق قبل السارقة، وفي الزنى بالزانية قبل الزاني، لأن حب المال على الرجال أغلب، وشهوة الاستمتاع على النساء أغلب، ثم جعل حد السرقة قطع اليد لتناول المال بها، ولم يجعل حد الزنى قطع الذكر مع مواقعة الفاحشة به، لثلاثة معانٍ:

أحدها: أن للسارق مثل يده التي قطعت فإن انزجر بها اعتاض بالثانية، وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه.

والثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره، وقطع اليد في السرقة ظاهر، وقطع الذكر فى الزنى باطن.

والثالث: أن فى قطع الذكر إبطال النسل وليس في قطع اليد إبطاله" (8).

وقد قطع السارق في الجاهلية، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد ابن المغيرة، فأمر الله تعالى بقطعه فى الإِسلام، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإِسلام الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من

(1) أخرجه الشافعي في المسند: 2/ 83 والبخاري في الحدود، باب قول الله تعالى:"والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" وفي كم يقطع؟ : 12/ 96، ومسلم في الحدود، باب حد السرقة ونصابها، برقم (1684): 3/ 1312، والمصنف في شرح السنة: 10/ 312، والطبري (11912): ص 10/ 259.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11913): ص 10/ 296، ورواه الطحاوي في معاني الآثار 2/ 93، وأحمد في المسند برقم:6900.

(3)

أخرجه الطبري (11914): ص 10/ 296.

(4)

انظر: الكشاف: 1/ 632.

(5)

الكشاف: 1/ 632.

(6)

سبق تحريجه.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 296.

(8)

النكت والعيون: 2/ 35.

ص: 195

بني مخزوم، وقال:"لَو كَانَتْ فَاطِمَةُ لَقَطَعْتُ"(1)، وقطع عمر ابن سمرة أخا عبد الرحمن بن سمرة (2).

والقطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه بعد علم الإِمام به، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سارق رداء صفوان حين أمر بقطعه، فقال صفوان: قد عفوت عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هَلَاّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ "(3).

وروي: "أن معاوية بن أبي سفيان أُتِيَ بلصوص فقطعهم حتى بقي واحد منهم فقدم ليقطع فقال (4):

يميني أمير المؤمنين أعيذها

بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها (5)

يدي كانت الحسناء لو تم سبرها

ولا تعدمُ الحسناءُ عابا يعيبها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبة

إذا ما شمالي فارقتها يمينها (6)

فقال معاوية: كيف أصنع وقد قطعت أصحابك، فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين اجعلها من ذنوبك التي تتوب منها، فَخَلَّى سبيله، فكان أول حد ترك في الإٍسلام" (7).

وفي قراءة عبد الله ابن مسعود: «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما» (8).

وقرأ عيسى بن عمر: «السارق والسارقة» بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر، لأن «زيدا فاضربه» أحسن من «زيد فاضربه» (9).

قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38]، أي:" مجازاة لهما على أَخْذهما أموال الناس بغير حق"(10).

قال مقاتل: " يقول: القطع جزاء {بما كسبا}، يعنى: سرقا"(11).

قال الطبري: "يقول: مكافأةً لهما على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله"(12).

قال السعدي "أي: ذلك القطع جزاء للسارق بما سرقه من أموال الناس"(13).

واختلفوا هل يجب مع القطع غُرْم المسروق إذا استهلك على مذهبين:

أحدهما: أنه لا غرم، وهذا قول أبي حنيفة (14).

والثاني: يجب فيه الغرم، وهو مذهب الشافعي (15).

(1) أخرجه احمد (15149): ص 24/ 346، والبخاري (6788)، ومسلم (1689)، والنسائي 8/ 71، والبيهقي 8/ 281، والطبراني في "الأوسط" (7832،

و(2) انظر: النكت والعيون: 2/ 36.

(3)

رواه أبو داود (4394)، والنسائي (4879)، وابن ماجه (2595)، من حديث صفوان بن أمية.

(4)

في المستطرف 1: 193 أنه أعرابي اسمه «حمزة» كان قد سرق وقامت عليه البينة، فهمّ عبد الملك بقطع يده، فكتب إليه حمزة من السجن هذين البيتين، وأن أمه استشفعت له عند الخليفة فعفا عنه. والخبر كذلك في عيون الأخبار 1: 99، والعقد 2: 167 والبرصان والعرجان والعميان والحولان للجاحظ: 372، بدون ذكر لاسم الأعرابي.

وفي رواية المصادر غير النكت: " فأبى إلّا قطعها، فدخلت عليه أمّه فقال: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي. فقال: بئس الكاسب! هذا حدّ من حدود الله. فقال: اجعله من الذنوب التي تستغفر الله منها. فعفا عنه".

(5)

وفي رواية البرصان للجاحظ: : " بك اليوم أن تلقى".

(6)

وفي رواية أنس المسجون صفي الدين الحلبي: 156، " ولا خير في الدّنيا ولا في نعيمها

إذا ما شمال فارقتها يمينها".

(7)

النكت والعيون: 2/ 36، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير: 8/ 145.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 35.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 631.

(10)

التفسير الميسر: 114.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474.

(12)

تفسير الطبري: 10/ 296.

(13)

تفسير السعدي: 230.

(14)

انظر: النكت والعيون: 2/ 37.

(15)

انظر: النكت والعيون: 2/ 37.

ص: 196

قوله تعالى: {نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، أي:" وعقوبةً يمنع الله بها غيرهما أن يصنع مثل صنيعهما"(1).

قال مقاتل: " يعنى: عقوبة من الله: قطع اليد"(2).

قال الطبري: "يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما"(3).

قال السعدي: " أي: تنكيلا وترهيبا للسارق ولغيره، ليرتدع السراق -إذا علموا- أنهم سيقطعون إذا سرقوا"(4).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، أي:" والله عزيز في ملكه، حكيم في أمره ونهيه"(5).

قال السعدي "أي: عز وحكم فقطع السارق"(6).

قال أبو السعود: " {والله عزيز} غالب على أمره يمضيه كيف يشاء من غير ند ينازعه ولا ضد يمانعه {حكيم} في شرائعه لا يحكم إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ولذلك شرع هذه الشرائع المنطوية على فنون الحكم والمصالح"(7).

قال الطبري: أي: " والله عزيزٌ في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل معاصيه حكيم، في حكمه فيهم وقضائه عليهم، يقول: فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على السرَّاق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم"(8).

قال قتادة: "لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا وهو فساد"(9).

وكان عمر بن الخطاب يقول: "اشتدُّوا على السُّرَّاق، فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا"(10).

قال السيد احمد محمد شاكر: " ولكننا قد أظلنا زمان عطلت فيه الحدود، بزعم الرثاء لمن أصاب حدًا من حدود الله. وطالت ألسنة قوم من أهل الدخل، فاجترأوا على الله بافترائهم، وزعموا أن الذي يدعونه من الرحمة لأهل الحدود هو الصلاح، وأن ما أمر الله به هو الفساد! ! فاللهم نجنا من زمان تبجح فيه الأشرار بسلطانهم، وتضاءل فيه أهل الإيمان بمعاصيهم"(11).

الفوائد:

1 -

بيان حكم حد السرقة، وهو قطع يد السارق والسارقة.

2 -

ومنها: إثبات العزة، والحكمة لله؛ لقوله تعالى:{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

3 -

ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله. وهما «العزيز» «الحكيم» ، وما تضمناه من مناسبة العزة، والحكمة في سياق الآية.

فـ «العزيز» : هو المنيع الذي لا يغلب. والعز في كلام العرب على ثلاثة أوجه. أحدها: بمعنى الغلبة، ومنه قولهم: من عز بز، أي: من غلب سلب، يقال منه: عز يعز -بضم العين- من يعز. ومنه قول الله سبحانه: {وعزني في الخطاب} [ص: 23].

(1) التفسير الميسر: 114.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 296.

(4)

تفسير السعدي: 230.

(5)

التفسير الميسر: 114.

(6)

تفسير السعدي: 230.

(7)

تفسير أبي السعود: 3/ 35.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 298.

(9)

أخرجه الطبري (11915): ص 10/ 297.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 298. ذكره دون إسناد.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 297 [الهامش].

ص: 197

والثاني: بمعنى الشدة والقوة. يقال منه: عز يعز -بفتح العين- من "يعز"، كقول الهذلي -يصف العقاب- (1):

حتى انتهيت إلى فراش عزيزة

سوداء روثة أنفها كالمخصف

جعلها عزيزة، لأنها من أقوى جوارح الطير.

والوجة الثالث: أن يكون بمعنى نفاسة القدر. يقال منه: عز الشيء يعز -بكسر العين- من يعز، فيتأول معنى العزيز على هذا، أنه الذي لا يعادله شيء، وأنه لا مثل له، ولا نظير" (2).

و«الحكيم» : "هو المحكم لخلق الأشياء. صرف عن مفعل إلى فعيل، كقولهم: أليم بمعنى: مؤلم، وسميع بمعنى: مسمع؛ كقوله -جل وعز-: {آلر، تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] وقال في موضع آخر: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1]، فدل على أن المراد بـ «الحكيم هنا الذي أحكمت آياته، صرف عن مفعل إلى فعيل.

ومعنى الإحكام لخلق الأشياء، إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها. إذ ليس كل الخليقة موصوفا بوثاقة البنية، وشدة الأسر كالبقة، والنملة، وما أشبههما من ضعاف الخلق، إلا أن التدبير فيهما، والدلالة بهما على كون الصانع وإثباته، ليس بدون الدلالة عليه بخلق السموات والأرض والجبال وسائر معاظم الخليقة، وكذلك. هذا في قوله -جل وعز-:{الذي أحسن كل شيء خلقه} [السجدة: 7] لم تقع الإشارة به إلى الحسن الرائق في المنظر، فإن هذا المعنى معدوم في القرد، والخنزير، والدب، وأشكالها من الحيوان، وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شىء من خلقه على ما أحب أن ينشئه عليه وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها. كقوله [تعالى]:{وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2] " (3).

القرآن

{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} [المائدة: 39]

التفسير:

فمن تاب مِن بعد سرقته، وأصلح في كل أعماله، فإن الله يقبل توبته. إن الله غفور لعباده، رحيم بهم.

سبب النزول:

عن عبد الله بن عمرو قال: "سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! قال: فأنزل الله جل وعز: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} "(4). [ضعيف]

(1) ديوان الهذليين القسم الثاني ص 110، وشرح أشعارهم للسكري ص 1089 آخر قصيدة لأبي كبير الهذلي، أبياتها 23 بيتا، مطلعها:

أزهير هل عن شيبة من مصرف

أم لا خلود لباذل متكلف

وفي مقاييس اللغة 2/ 182 وتهذيب الأزهري 7/ 147 برواية: فتخاء، بدل، سوداء، وفي اللسان والقاموس وشرحه (عزز). وفي الديوان، يريد: أن منسرها حديد دقيق كأنه مخصف. والروثة: طرف الأنف، وفراشها: عشها.

والبيت استشهد به الزجاج في تفسير الأسماء ص 34 على معنى "العزيز" ..

(2)

شأن الدعاء: 1/ 47 - 48.

(3)

شأن الدعاء: 1/ 72 - 73.

(4)

أخرجه أحمد (2/ 177، 178)، والطبري في "جامع البيان" (11917): ص 10/ 299، كلاهما من طريق موسى بن داود ثنا ابن لهيعة عن حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو به.

قلنا: وهذا إسناد ضعيف؛ ابن لهيعة فيه كلام مشهور، والراوي عنه هنا لم يرو عنه قبل اختلاطه واحتراق كتبه.

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 276): "رواه أحمد؛ وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 73) وزاد نسبته لابن أبي حاتم ..

ص: 198

قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} [المائدة: 39]، أي:" فمن تاب مِن بعد سرقته"(1).

قال مقاتل: " يقول: من تاب من بعد سرقته"(2).

قال ابن كثير: " أي: من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله"(3).

قال ابن عباس: " يقول: الحدُّ"(4).

قال مجاهد: " يقول: «الحد كفارة عنه» (5). قال ابن عطية: " وهذا تشديد وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة" (6).

وقال الشافعي: إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحاكم بأخذه فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب" (7).

وقال السمعاني: "الصحيح أن القطع للجزاء على الجناية، كما قال: {جزاء بما كسبا} فلا بد من التوبة بعده، وتوبته: الندم على ما مضى، والعزم على تركه في المستقبل"(8).

قال البغوي: " فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين، ولا بد من التوبة بعده، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما صرف من المال عند أكثر أهل العلم"(9).

قال الراغب: " قيل: إن تاب في الدنيا قبل القدرة عليه، وأصلح سقط عنه الحد، ورجى له الغفران، وإن تاب بعد القدرة عليه رجي له الغفران، ولم يسقط عنه الحد"(10).

قال السمرقندي: " والظلم في هذا الوجه يرجع إلى النقصان؛ لأن السارق ينقص مال المسروق، ويجوز أن يكون سمى الله السارق ظالما لأنه يدخل الضرر على من لا يستحقه، وكل ضرر غير مستحق ولا معقب نفعا ظلم، وقد سمي أيضا ظالما؛ لظلمه لنفسه"(11).

قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39]، أي:" وأصلح في كل أعماله"(12).

قال مقاتل: " وأصلح العمل فيما بقي"(13).

قال الزمخشري: " بالتفصى عن التبعات"(14).

قال الراغب: " واشترط إصلاح العمل تنبيها أن التوبة باللفظ غير مغنية ما لم يضامها ما يحققها من الفعل"(15).

قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39]، أي:" فإن الله يقبل توبته"(16).

قال الواحدي: أي: " يعود عليه بالرَّحمة"(17).

قال السعدي "أي: فيغفر لمن تاب فترك الذنوب، وأصلح الأعمال والعيوب"(18).

قال الثعلبي: " هذا ما بينه وبين الله تعالى فأما القطع فواجب"(19).

قال ابن كثير: " فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: "متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها " (20).

قال الزمخشري: أي: "ويسقط عنه عقاب الآخرة. وأما القطع فلا تسقطه التوبة عند ابى حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه من يشاء من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين. وقيل: يسقط حد الحربي إذا سرق بالتوبة، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه، ولا يسقطه عن المسلم، لأن في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] "(21).

قال ابن عطية: " المعنى عند جمهور أهل العلم أن من تاب من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله وأصلح أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق فإن الله يتوب عليه ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه"(22).

عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال: "ما إخَاله سرق"! فقال السارق: بلى يا رسول الله. قال: "اذهبوا به فاقطعوه، ثم احسموه، ثم ائتوني به". فقطع فأتي به، فقال:"تب إلى الله". فقال: تبت إلى الله. فقال: "تاب الله عليك"(23).

عن عائشة-رضي الله عنها: "أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ » فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال «أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها»، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"(24).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]، أي:" إن الله غفور لعباده، رحيم بهم"(25).

قال مقاتل: " إن الله غفور لذنبه رحيم به"(26).

قال الراغب: "جعل علة قبول توبته كونه تعالى غفورا رحيما"(27).

الفوائد:

1 -

بيان أن التائب من السراق إذا اصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته.

2 -

إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع، فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.

(1) التفسير الميسر: 114.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 110.

(4)

تفسير الطبري (11916): ص 10/ 299.

(5)

تفسير مجاهد: 308، وتفسير الطبري: 10/ 299.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 190.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 190.

(8)

تفسير السمعاني: 2/ 37.

(9)

تفسير البغوي: 2/ 50.

(10)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 348.

(11)

تفسير السمرقندي: 326.

(12)

التفسير الميسر: 114.

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474.

(14)

الكشاف: 1/ 632.

(15)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 348.

(16)

التفسير الميسر: 114.

(17)

والوجيز: 319.

(18)

تفسير السعدي: 230.

(19)

تفسير الثعلبي: 4/ 62.

(20)

تفسير ابن كثير: 3/ 110.

(21)

الكشاف: 1/ 632.

(22)

المحرر الوجيز: 2/ 189.

(23)

سنن الدارقطني (3/ 102) ورواه الحاكم في المستدرك (4/ 381) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان به موصولا وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي.

(24)

صحيح مسلم (حدود حديث 9) وصحيح البخاري (حدود باب 12).

(25)

التفسير الميسر: 114.

(26)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474.

(27)

تفسير الراغب الاصفهاني: 4/ 348.

ص: 199

3 -

وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم.

4 -

ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: «الغفور» ، و «الرحيم» ؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.

فـ «الغفور» : هو الذي تكثر منه المغفرة. وبناء فعول: بناء المبالغة في الكثرة (1).

والفرق بين صيغتي: «الغفار» ، و «الغفور»: أن " «الغفار» (2)، معناه: الستار لذنوب عباده في الدنيا بأن لا يهتكهم ولا يشيدهما عليهم، ويكون معنى «الغفور»: منصرفا إلى مغفرة الذنوب في الآخرة، والتجاوز عن العقوبة فيها"(3).

و«الرحيم» : أي: ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء (4).

قال الشيخ ابن عثيمين: " «الرحيم»: أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده"(5)،

القرآن

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)} [المائدة: 40]

التفسير:

ألم تعلم -أيها الرسول- أن الله خالق الكون ومُدبِّره ومالكه، وأنه تعالى الفعَّال لما يريد، يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء، وهو على كل شيء قدير.

قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المائدة: 40]، أي:" ألم تعلم -أيها الرسول- أن الله خالق الكون ومُدبِّره ومالكه"(6).

قال الصابوني: " أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير"(7).

قال المراغي: " أي: ألم تعلم أيها الرسول أن الله له ملك السموات والأرض يدبر الأمر فيها بحكمته وعدله ورحمته وفضله، ومن حكمته أنه وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا كما وضع العقاب للمحاربين المفسدين فى الأرض"(8).

قال الطبري: " يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء [يعني القائلين]: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه وخالقه، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما في واحدة منهما، فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه

وخرج قوله: ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض، خطابًا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول

(1) انظر: شأن الدعاء: 1/ 65.

(2)

قال الخطابي: " الغفار: هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى. كلما تكررت التوبة في الذنب من العبد تكررت المغفرة. كقوله -سبحانه-: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82].

وأصل الغفر في اللغة: الستر والتغطية، ومنه قيل لجنة الرأس: المغفر، وبه سمي زئبر الثوب غفرا وذلك لأنه يستر سداه؛ فالغفار: الستار لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته. ومعنى الستر في هذا أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم ويقال: إن المغفرة مأخوذة من الغفر: وهو فيما حكاه بعض أهل اللغة نبت يداوى به الجراح، يقال إنه إذا ذر عليها دملها وأبراها". [شأن الدعاء: 1/ 52 - 53، وانظر: اللسان وتاج العروس، مادة"غفر"].

(3)

شأن الدعاء: 1/ 65.

(4)

انظر: تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 1/ 188، وشرح أسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسنة:84.

(5)

تفسير ابن عثيمين الفاتحة والبقرة: 1/ 5.

(6)

التفسير الميسر: 114.

(7)

صفوة التفاسير: 314.

(8)

تفسير المراغي: 6/ 115.

ص: 200

الله صلى الله عليه وسلم وما حَوَاليها. وقد بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع" (1).

قال السمرقندي: " يعني: خزائن السموات والارض، يعني: خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات. ويقال: له ملك السماوات والأرض يحكم فيها ما يشاء"(2).

قوله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40]، أي:" وأنه تعالى الفعَّال لما يريد، يعذب من يشاء"(3).

قال السدي: " يقول: يميت منكم من يشاء على كفره فيعذب"(4).

قال السمرقندي: " يعذب من يشاء إذا أصر على ذنوبه"(5).

قال الطبري: أي: " يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه"(6).

قال المراغي: " أي: وأنه يعذب من يشاء تعذيبه من العصاة تربية له وتأمينا لعباده من أذاه وشره "(7).

وقال الواحدي: " {يعذب مَنْ يشاء}، على الذَّنب الصَّغير"(8).

وقال الضحاك: "يعذب من يشاء على الصغير إذا قام عليه"(9).

قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40]، أي:" وأنه تعالى الفعَّال لما يريد، يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء"(10).

قال السدي: " يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له"(11).

قال السمرقندي: " ويغفر لمن يشاء إذا تاب ورجع"(12).

قال الطبري: أي: "ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة"(13).

قال المراغي: " أي: وأنه يغفر للتائبين من هؤلاء وهؤلاء ويرحمهم إذا صدقوا فى التوبة وأصلحوا عملهم "(14).

وقال الواحدي: " {ويغفر لمن يشاء} الذَّنب العظيم"(15).

وقال الضحاك: " ويغفر لمن يشاء على الكبير إذا نزع عنه"(16).

قال الزمخشري: " إن قلت: لم قدم التعذيب على المغفرة (17)؟ قلت: لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة"(18).

(1) تفسير الطبري: 10/ 300 - 301.

(2)

بحر العلوم: 1/ 389.

(3)

التفسير الميسر: 114.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6348): ص 4/ 1129.

(5)

بحر العلوم: 1/ 389.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 301.

(7)

تفسير المراغي: 6/ 115.

(8)

الوجيز: 319.

(9)

تفسير الثعلبي: 4/ 63.

(10)

التفسير الميسر: 114.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6349): ص 4/ 1129.

(12)

بحر العلوم: 1/ 389.

(13)

تفسير الطبري: 10/ 301.

(14)

تفسير المراغي: 6/ 115.

(15)

الوجيز: 319.

(16)

تفسير الثعلبي: 4/ 63.

(17)

قال محمود صاحب الحاشية: " فان قلت لم قدم التعذيب على المغفرة

الخ» قال أحمد: هو مبنى على أن المراد بالمغفور لهم التائبون، وبالمعذبين السراق. ولا يجعل المغفرة تابعة للمشيئة إلا بقيد التوبة، لأن غير التائب على زعمه لا يجوز أن يشاء الله المغفرة له، فلذلك ينزل الإطلاق على المتقدم ذكره. ونحن نعتقد أن المغفرة في حق غير التائب من الموحدين تتبع المشيئة، حتى أن من جملة ما يدخل في عموم قوله:(ويغفر لمن يشاء) السارق الذي لم يتب. وعلى هذا يكون تقديم التعذيب لأن السياق للوعيد فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر والله أعلم".

(18)

الكشاف: 1/ 632.

ص: 201

وقال الراغب: " وإنما قال يعذب من يشاء فقدم ذكر العقوبة على الغفران، لأن القصد بما تقدم الردع عن ارتكاب ما يقتضى عقوبة الدارين فكان تقديم ما يقتضي ذلك أولى"(1).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40]، أي:" وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء"(2).

قال محمد بن إسحاق: " إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير"(3).

قال الطبري: يقول" والله جل وعز على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الامور كلها قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه، والعباد عباده"(4).

قال المراغي: " أي: وهو القادر على كل شىء من التعذيب والرحمة لا يعجزه شىء فى تدبير ملكه"(5).

وذكر السمرقندي وجها ىخر من التأويل للآية فقال: " ومعناه: أن السارق إذا تاب، ورد المال لا يقطع ويتجاوز عنه، وإن لم يتب قطعت يده، ألا ترى أن الله تعالى قال: {له ملك السماوات والأرض} يعذب إذا لم يتب ويتجاوز إذا تاب، فافعلوا أنتم مثل ذلك، لأن الله تعالى مع قدرته يتجاوز عن عباده، وهو قوله: {والله على كل شيء قدير}، من المغفرة والعذاب"(6).

الفوائد:

1 -

أن أن عقاب السراق والعفو عن التائبين جاء وفق الحكمة والعدل والرحمة.

2 -

وفي الآية نقض على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: الصغيرة مغفورة ليس له أن يعذب عليها، والكبيرة يخلد صاحبها في النار ليس له أن يعفو عنها. فلو كان على ما قالوا لذهب معنى التخيير بقوله - تعالى -:{يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} إذا ما عفا: عفا ما عليه أن يعفو، وكذلك ما عذب: عذب ما عليه أن يعذب؛ فيذهب فائدة التخيير، وقد أخبر أنه {يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء} (7).

3 -

ومن اسمائه تعالى: «القدير» : إذ "وصف الله نفسه بأنه قادر على كل شيء، أراده: لا يعترضه عجز ولا فتور"(8).

روي البيهقي عن عبد العزيز قال الحليمي، قال:"و «القدير»: التام القدرة لا يلابس قدرته عجز بوجه"(9).

القرآن

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 350.

(2)

صفوة التفاسير: 314.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6349): ص 4/ 1129.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 301.

(5)

تفسير المراغي: 6/ 115.

(6)

بحر العلوم: 1/ 389.

(7)

انظر: تفسير الماتريدي: 3/ 518.

(8)

شأن الدعاء للخطابي: 85.

(9)

الاسما والصفات: 2/ 111.

ص: 202

لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} [المائدة: 41]

التفسير:

يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك من المنافقين الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم خالية منه، فإني ناصرك عليهم. ولا يحزنك تسرُّع اليهود إلى إنكار نبوتك، فإنهم قوم يستمعون للكذب، ويقبلون ما يَفْتَريه أحبارُهم، ويستجيبون لقوم آخرين لا يحضرون مجلسك، وهؤلاء الآخرون يُبَدِّلون كلام الله من بعد ما عَقَلوه، ويقولون: إن جاءكم من محمد ما يوافق الذي بدَّلناه وحرَّفناه من أحكام التوراة فاعملوا به، وإن جاءكم منه ما يخالفه فاحذروا قبوله، والعمل به. ومن يشأ الله ضلالته فلن تستطيع -أيها الرسول- دَفْعَ ذلك عنه، ولا تقدر على هدايته. وإنَّ هؤلاء المنافقين واليهود لم يُرِدِ الله أن يطهِّر قلوبهم من دنس الكفر، لهم الذلُّ والفضيحة في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

في سبب نزول الآيات [41 - 47] خمسة أقوال:

أحدها: قال البراء بن عازب: " مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ محمَّم (1) مجلود، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من علمائهم فقال: أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم؟ قال: نعم! قال: فأنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدِّثك، ولكن الرجم، ولكن كثرُ الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا نجتمع فنضع شيئًا مكان الرجم، فيكون على الشريف والوضيع، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! فأمر به فرجم، فأنزل الله: {لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} الآية"(2). [صحيح]

والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة (3).

والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهوديا، ثم قال: سلوا محمدا فإن كان بعث بالدية، اختصمنا إليه، وإن كان بعث بالقتل، لم نأته، قاله عامرالشعبي (4).

والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس (5)، ومجاهد (6)، والضحاك (7)، وعبدالله بن كثير (8).

والخامس: أن رجلا من الأنصار زعموا أنه أبو أبي لُبابة بن عبد المنذر أشارت إليه بنو قريظة يوم حصارهم: على ماذا ننزل؟ فأشار إليهم: أنه الذبح، قاله السدي (9)، ومقاتل (10).

(1) في «اللسان» : حمم الرجل: سخم وجهه بالحمم، وهو الفحم. وفي الحديث أنه أمر بيهودي محمم مجلود أي مسود الوجه.

(2)

أخرجه مسلم (1700)، وأبو داود (4447) و (4448)، وأحمد: 4/ 286، وابن ماجة (2558)، والبيهقي: 8/ 246، والطبري (11922): ص 10/ 304 - 305، واللفظ له، والواحدي في أسباب النزول: 195 - 196.

(3)

انظر: تفسير الطبري (11921): ص 10/ 303 - 304، وسيرة ابن هشام 2/ 213، 214، وهذا الخبر رواه أحمد مختصرا. ورواه أبو داود في سننه 4/ 216 - 218، رقم: 4450، 4451، بغير هذا اللفظ، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا، والبيهقي في السنن 8/ 246، 247. وانظر تفسير ابن كثير 3/ 156.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11919): ص 10/ 302. [مرسل ضعيف، وهو معارض بحديث البراء، وذاك أصح].

وإسناد ضعيف، فيه راو لم يسم.

(5)

كما في زاد المسير: 1/ 548، ولم أره عن ابن عباس، والخبر ضعيف بكل حال. وقد أخرج ابن ابي حاتم (6351): ص 4/ 1130: "علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر}، هم اليهود".

(6)

انظر: تفسير الطبري (11926): ص 10/ 306، وتفسير مجاهد:262.

(7)

انظر: بحر العلوم: 1/ 389، وفيه:" قال الضحاك: نزلت الآية في شأن المنافقين، كانت علانيتهم تصديقا، وسرائرهم تكذيبا".

(8)

انظر: تفسير الطبري (11925): ص 10/ 306.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11918): ص 10/ 302. [مرسل، ضعيف جدا، والمرسل من قسم الضعيف، والمتن منكر، معارض بما تقدم عن البراء، ومراسيل السدي مناكير. وانظر: أحكام القرآن: 717]

(10)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474.

ص: 203

قال مقاتل: "نزلت في أبي لبابة: اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصاري من بني عمرو بن عوف. وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه (1) أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت فلا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان حليفا لهم"(2).

قال ابن عطية: " وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة"(3).

قال ابن عطية: " وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة

وظاهر حديث بيت المدارس (4) أنه كان في صدر الهجرة اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم مع عزة كلمته من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم" (5).

وقال القرطبي: " وقيل إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم وهذا أصح الأقوال"(6).

وقال ابن كثير: " والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، من الأمر برجم من أحْصن منهم، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه،

(1) وكانت هذه الإشارة معناها أن محمدا-صلى الله عليه وسلم سيحكم فيكم بالقتل والذبح.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 474، ومقاتل متروك، وكذبه غير واحد، فخبره لا شيء.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 191.

(4)

يقصد رواية ابي هريرة، انظر: تفسير الطبري (11921): ص 10/ 303 - 304. وفيه: " أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، فقال: يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم! فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور وقد روى بعض بني قريظة، أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألةَ، يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنزل الله جل وعز: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ".

(5)

المحرر الوجيز: 2191.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 176.

ص: 204

واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك" (1).

قال الطبري: "وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: عني بقوله: {لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم} ، قومٌ من المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابنُ صوريا وجائز أن يكون أبو لبابة وجائز أن يكون غيرُهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك، ما ذكرناه من الرواية قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن عازب، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال: عُنِي به عبد الله بن صوريَا، وإذا صحّ ذلك، كان تأويل الآية: يا أيُّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك، والتكذيبِ بأنك لي نبي، من الذين قالوا: صدَّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينًا، بوجودنا صِفَتك في كتابنا.

وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري: أن ابن صُوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والله يا أبا القاسم، إنهم ليعلمون أنك نبى مُرسْل، ولكنهم يحسدونك، فذلك كان على هذا الخبر من ابن صوريا إيمانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه، ولم يكن مصدِّقًا لذلك بقلبه، فقال الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُطْلِعَه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول مرسل" (2).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41]، أي:" يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوتك"(3).

قال ابن عباس: "هم اليهود"(4).

قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، أي:" من المنافقين الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم خالية منه، فإني ناصرك عليهم "(5).

قال ابن عباس: " هم المنافقون"(6).

قال مجاهد: ": {آمنا بأفواههم}، يقول: هم المنافقون"(7).

قال الزمخشري: " المعنى: لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أى في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين، فإنى ناصرك عليهم وكافيك شرهم. يقال: أسرع فيه الشيب، وأسرع فيه الفساد، بمعنى: وقع فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها"(8).

قال السمرقندي: {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} " أي: يبادرون ويقعون في الكفر، {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} يعني: ذلك بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم في السر "(9).

وقرئ «لا يحزنك» ، بضم الياء، و «يسرعون» (10).

قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 41]، أي:" ولا يحزنك تسرُّع اليهود إلى إنكار نبوتك"(11).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 113.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 307.

(3)

التفسير الميسر: 114.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (6351): ص 4/ 1130.

(5)

التفسير الميسر: 114.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (6351): ص 4/ 1130.

(7)

اخرجه الطبري (11926): ص 10/ 306.

(8)

الكشاف: 1/ 622 - 623.

(9)

تفسير السمرقندي: 1/ 389.

(10)

انظر: الكشاف: 1/ 632.

(11)

التفسير الميسر: 114.

ص: 205

قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، أي:" فإنهم قوم يستمعون للكذب، ويقبلون ما يَفْتَريه أحبارُهم"(1).

قال جابر بن عبدالله: " يهود المدينة"(2).

قال مقاتل بن حيان: " فهم يهود أهل قريظة والنضير فيهم لبابة بن سعفة وكعب بن الأشرف، وسعيد بن عمرو"(3).

قال السدي: " هم أبو بسرة وأصحابه"(4).

قال الماوردي: " أى: قائلون للكذب عليك"(5).

قال الزمخشري: أي: " قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان. ومنه «سمع الله لمن حمده» "(6).

قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41]، أي:" ويستجيبون لقوم آخرين لا يحضرون مجلسك"(7).

قال الزمخشري: "يعنى: اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدة البغضاء وتبالغ من العداوة قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان. ومنه «سمع الله لمن حمده» "(8).

عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: " {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين} قال: لقوم آخرين لم يأتوك من أهل الكتاب، هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوا، يقولون لهم الكذب محمد كاذب وليس من التوراة، فلا تؤمنوا به وليس يحرفون هؤلاء الذين لم يأتوك"(9).

وفي قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة: 41]، وجهان:

احدهما: يعني: {سماعون لقوم آخرين} : أهل فدك. وهذا قول جابر بن عبدالله (10).

وروي عن مجاهد: "انهم هم اليهود"(11).

والثاني: أنهم يهود خيبر، وذلك حين زنت المرأة. وهذا قول مقاتل بن حيان (12).

قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، أي:" وهؤلاء الآخرون يُبَدِّلون كلام الله من بعد ما عَقَلوه"(13).

قال ابن زيد: " هؤلاء كلهم يهود بعضهم من بعض"(14).

قال مقاتل بن حيان: " قوله: {يحرفون الكلم}، يزيدون فيه وينقصونه"(15).

قال ابن عباس: " {يحرفون الكلم}، يعني: يحرفون حدود الله في التوراة"(16).

(1) التفسير الميسر: 114.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (6354): ص 4/ 1130.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6355): ص 4/ 1130.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (6356): ص 4/ 1130.

(5)

النكت والعيون: 2/ 39.

(6)

الكشاف: 1/ 633.

(7)

التفسير الميسر: 114.

(8)

الكشاف: 1/ 633.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6359): ص 4/ 1131.

(10)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6357): ص 4/ 1130 - 1131.

(11)

. انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 3/ 1131. ذكره دون إسناد.

(12)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6358): ص 4/ 1131.

(13)

التفسير الميسر: 114.

(14)

أخرجه ابن ابي حاتم (6364): ص 4/ 1132.

(15)

أخرجه ابن ابي حاتم (6361): ص 4/ 1131.

(16)

أخرجه ابن ابي حاتم (6362): ص 4/ 1131.

ص: 206

قال السدي: " حرفوا الرجم فجعلوه جلدا"(1).

وفي قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41]، وجوه:

أحدها: أنهم إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم غيروه بالكذب عليه، وهذا قول الحسن (2).

والثاني: المراد: تغير حدود الله في التوراة، وهو تغيير حكم الله تعالى في جَلْد الزاني بدلاً من رجمه، وهذا قول ابن عباس (3)، والسدي (4).

والثالث: وقيل: في إسقاط القود عند استحقاقه (5).

قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]، أي:" ويقولون: إن جاءكم من محمد ما يوافق الذي بدَّلناه وحرَّفناه من أحكام التوراة فاعملوا به"(6).

قال جابر: " يقولون: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه"(7).

قال مجاهد: " إن وافقكم فخذوه، يهود يقوله للمنافقين"(8).

قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41]، أي:" وإن جاءكم منه ما يخالفه فاحذروا قبوله، والعمل به"(9).

قال جابر: " وإن لم تؤتوه فاحذروا الرجم"(10).

قال مجاهد: " إن لم يوافقكم فاحذروا، يهود يقوله للمنافقين"(11).

وفي قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41]، قولان:

أحدهما: أنه يريد بذلك حين زنى رجل منهم بامرأة فأنفذوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم وقالوا: إن حكم عليكم بالجلد فاقبلوه وإن حكم عليكم بالرجم فلا تقبلوه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدارس توارتهم وفيها أحبارهم يتلون التوراة، فأتى عبد الله بن صوريا، وكان أعور، وهو من أعلمهم فقال له أسألك بالذي أنزل التوراة بطور سيناء على موسى بن عمران هل فى التوراة الرجم؟ فأمسك، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَا، قال عبد الله: وكنت فيمن رجمه وأنه ليقيها الأحجار بنفسه حتى ماتت، ثم إن ابن صوريا أنكر وفيه أنزل الله تعالى هذه الآية وهذا قول ابن عباس (12)، والبراء بن عازب (13)، وجابر (14)، وسعيد بن المسيب (15)، والسدي (16)، وابن زيد (17).

والقول الثاني: أن ذلك في قتيل منهم، وهذا قول قتادة (18)، والكلبي (19).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6363): ص 4/ 1131.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 39.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6362): ص 4/ 1131.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11934): ص 10/ 316، وتفسير ابن ابي حاتم (6363): ص 4/ 1131.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 39.

(6)

التفسير الميسر: 114.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6367): ص 4/ 1132.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6366): ص 4/ 1132.

(9)

التفسير الميسر: 114.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6367): ص 4/ 1132.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6369): ص 4/ 1132.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11936): ص 10/ 315.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11939): ص 10/ 314.

(14)

انظر: تفسير الطبري (11935): ص 10/ 316.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11931): ص 10/ 316.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11934): ص 10/ 316.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11938): ص 10/ 316.

(18)

انظر: تفسير الطبري (11937): ص 10/ 315.

(19)

انظر: النكت والعيون: 2/ 39.

ص: 207

قال قتادة: " ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقَوَد لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة على تَفِئَةِ قتيلهم هذا، فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عَمْدٍ، متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القَوَد، فإن قبل منكم الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ! "(1).

قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، أي:" ومن يشأ الله ضلالته فلن تستطيع -أيها الرسول- دَفْعَ ذلك عنه، ولا تقدر على هدايته"(2).

قال ابن عباس: " يقول: لن تغير عنه شيئا"(3).

قال الطبري: أي: " ومن يرد الله، يا محمد، مَرْجعه بضلالته عن سبيل الهدى، فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة.، فلا تشعر نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية

ومعنى «الفتنة» في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل" (4).

وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41]، أربعة تاويلات:

أحدها: عذابه، وهذا قول الحسن (5).

والثاني: معنه: من يرد الله ضلالته، وهو قول ابن عباس (6)، والسدي (7).

والثالث: فضيحته، وهو قول الزجاج (8).

والرابع: اختباره بما يظهر به أمره، يقال فتنت الحديد إذا أحميته، وفتنت الرجل إذا أزلته عما كان عليه، ومنه قوله:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]، أي: وإن كادوا ليزيلونك. أفاده الزجاج (9).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، أي:" وإنَّ هؤلاء المنافقين واليهود لم يُرِدِ الله أن يطهِّر قلوبهم من دنس الكفر"(10).

قال الطبري: أي: " هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهِّر من دنس الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم، بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان، فيتوبوا"(11).

قال الزجاج: " أي: أن يهينهم (12).

قال ابن عباس: " إنما سمي: «القلب»، لتقلبه"(13).

وفي قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]، وجهان:

أحدهما: لم يطهرها من الضيق والحرج عقوبة لهم. ذكره الماوردي (14).

والثاني: لم يطهرها من الكفر. قاله الطبري (15)، والزجاج (16).

(1) أخرجه الطبري (11937): ص 10/ 315 - 316.

(2)

التفسير الميسر: 114.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6371): ص 4/ 1133.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 316 - 317.

(5)

.انظر: النكت والعيون: 2/ 39

(6)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6370): ص 4/ 1133.

(7)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6370): ص 4/ 1133.

(8)

انظر: معاني القرآن: 2/ 176.

(9)

انظر: معاني القرآن: 2/ 176.

(10)

التفسير الميسر: 114.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 317 - 318.

(12)

معاني القرآن: 2/ 176.

(13)

أخرجه ابن ابي حاتم (6372): ص 4/ 1133.

(14)

انظر: النكت والعيون: 2/ 40.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 317 - 318.

(16)

انظر: معاني القرآن: 2/ 176.

ص: 208

قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [المائدة: 41]، أي:" لهم الذلُّ والفضيحة في الدنيا"(1).

قال الطبري: أي: "بل أراد بهم الخزي في الدنيا وذلك الذلّ والهوان"(2).

قال الزجاج: " قيل لهم في الدنيا فضيحة بما أظهر الله من كذبهم، وقيل لهم في الدنيا خزي بأخذ الجزية منهم، وضرب الذلة والمسكنة عليهم"(3).

قال عكرمة: " مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن"(4).

قال ابن السدي: " أما خزيهم في الدنيا، إذا قام المهدي فتح القسطنطينية فقتلهم وذلك الخزي"(5).

وروي عن قتادة قال: "مدينة تفتح بالروم"(6).

وفي رواية اخرى عن قتادة: " يعني: ما أنزل الله بأهل قريظة من السبي والقتل، وبأهل النضير من الجلاء"(7).

قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]، أي:"ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو الخلود في نار جهنم"(8).

قال مقاتل بن حيان: عذاب عظيم يعني: عذابا وافرا" (9).

قال الطبري: أي: " وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا"(10).

الفوائد:

1 -

استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.

2 -

حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك.

3 -

حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد.

4 -

أن الهدى نوعان:

أحدهما: الهدى العام: وهو البيان والدلالة والإرشاد، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم فبين المحجة البيضاء، حتى تركها ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها هالك.

والثاني: الهدى الخاص: وهو التفضل بالتوفيق ; لأن ذلك بيد الله وحده، وليس بيده صلى الله عليه وسلم كما قال - تعالى -:{ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم الآية} [المائدة: 41]. وقوله - تعالى -: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 37]. والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.

5 -

أن هذه الآية منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين، ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أنه تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الايمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته، وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها، لو أراد الله أن يطهر قلوبهم من وضر البدع، أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.

(1) التفسير الميسر: 114.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 318.

(3)

معاني القرآن: 2/ 177.

(4)

أخرجه الطبري (11941): ص 10/ 318.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6373): ص 4/ 1133.

(6)

تفسير ابن ابي حاتم: ص 4/ 1133. ذكره دون إسناد

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6374): ص 4/ 1133.

(8)

التفسير الميسر: 114.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6375): ص 4/ 1133.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 318.

ص: 209

وقد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} : أي: " أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ} [النحل: 104]، {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] "(1).

وما أبشع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله أن يمنحهم ألطافه، لعلمه أن ألطافه لا تنجع فيهم ولا تنفع، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع وإرادة من تنجع؟ وليس وراء الله للمرء مطمع (2).

القرآن

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)} [المائدة: 42]

التفسير:

هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام، فإن جاؤوك يتحاكمون إليك فاقض بينهم، أو اتركهم، فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك بشيء، وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل. إن الله يحب العادلين.

قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، أي:" هؤلاء اليهود يجمعون بين استماع الكذب وأكل الحرام"(3).

قال الحسن: " تلك الحكام، سمعوا كِذْبَةً وأكلوا رِشْوَةً"(4).

قال قتادة: " كان هذا في حكّام اليهودِ بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشَى"(5).

قال الطبري: أي: " هؤلاء اليهود الذين وصفتُ لك، يا محمد، صفتَهم، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب، ومن قيل بعضهم لبعض: محمد كاذب، ليس بنبي، وقيل بعضهم: إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم، وغير ذلك من الأباطيل والإفك ويقبلون الرُّشَى فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه"(6).

قال الواحدي: "يعني: حكَّام اليهود يسمعون الكذب ممَّنْ يأتيهم مُبطلاً ويأخذون الرِّشوة منه فيأكلونها"(7).

وفي قوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42]، وجوه:

أحدها: أن السحت الرشوة، رواه ابن عمرعن النبي صلى الله عليه وسلم (8).

والثاني: إن مهر البغي وثمن الكلب والسنور وكسب الحجام من السحت. رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (9)

والثالث: أنه الرشوة فى الحكم، وهو قول ابن عباس (10)، ومجاهد (11)، والضحاك (12)، وسعيد بن جبير (13)، والحسن (14)، وإبراهيم (15)، وعكرمة (16)، وابن زيد (17).

(1) الكشاف: 1/ 624.

(2)

انظر: الكشاف: 1/ 624، الحاشية.

(3)

التفسير الميسر: 115.

(4)

أخرجه الطبري (11942): ص 10/ 318 - 319.

(5)

أخرجه الطبري (11943): ص 10/ 319.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 318.

(7)

الوجيز: 320.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11967): ص 10/ 323، وتفسير ابن أبي حاتم (6379): ص 4/ 1134.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6384): ص 4/ 1135

(10)

انظر: تفسير الطبري (11962): ص 10/ 322.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11944): ص 10/ 319.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11957): ص 10/ 321.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135، وتفسير الطبري (11942): ص 10/ 318 - 319

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135.

(16)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11966): ص 10/ 323.

ص: 210

والرابع: أنه الرشوة في الدين. قاله عبدالله (1).

والخامس: أنه مهر البغي، وعسب الفحل، وكسب الحجّام، وثمن الكلب. وهو مروي عن أبي هريرة (2).

والسادس: أن للسحت خصال ست: الرشوة في الحكم، وثمن الكلب، وثمن الميتة وثمن الخمر، وكسب البغي، وعسب الفحل. وهذا قول عطاء بن أبي رباح (3).

والسابع: أنه: مهرُ البغي، والرشوة في الحكم، وما كان يُعطى الكُهان في الجاهلية. وهذا قول عبد الله بن هبيرة السَّبائي (4).

والثامن: أنه في كسب الحجام ومهر البغيّ، وثمن الكلب، والاستجْعَال في القضية، وحلوان الكاهن، وعسب الفحل، والرشوة في الحكم، وثمن الخمر، وثمن الميتة. وهذا مروي عن علي-رضي الله عنه (5).

والتاسع: وقال عبد الله بن شقيق: " هذه الرغف الذي يأخذها المعلمون من السحت. يعني: إذا احتسب بتعليمه فجائز أن يأخذ كرى مثله سمعت أبي يقول: إذا لم يحتسب بالتعليم فله أيأخذ الكرى وإذا احتسب بالتعليم فذاك السحت"(6).

قال ابن عطية: " وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل

والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا" (7).

قال الزمخشري: " السحت: كل ما لا يحل كسبه، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام"(8).

وروي عن النبي-صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم "(9).

وأصل السحت الاستئصال، ومنه قوله تعالى:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61]، أي: يستأصلكم، وقال الفرزدق (10):

(1) انظر: تفسير الطبري (11952): ص 10/ 320.

(2)

انظر: تفسير الطبري (11956): ص 10/ 320.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6385): ص 4/ 1135.

(4)

انظر: تفسير الطبري (11964): ص 10/ 322.

(5)

انظر: تفسير الطبري (11965): ص 10/ 322 - 323.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (6386): ص 4/ 1135.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 193 - 194

(8)

الكشاف: 1/ 634.

(9)

أخرجه الطبري (11967): ص 10/ 323، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 284، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه مرفوعًا من حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: رواه ابن جرير مرفوعا ورجاله ثقات ولكنّه مرسل". انظر: 5/ 360 (كتاب الإجارة - باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب.

(10)

ديوانه: 556، والنقائض: 556، وطبقات فحول الشعراء: 19، والخزانة 2: 347، واللسان (سحت)(جلف)، وفي غيرها كثير. والبيت من قصيدته المشهورة، وقبل البيت:

إِلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَتْ بِنَا

هُمُومُ الْمُنَى والْهَوْجَلُ الْمُتَعَسَّفُ

الهوجل: البطن الواسع من الأرض. والمتعسف: المسلوك بلا علم ولا دليل، فهو يسير فيها بالتعسف. ويروى: أو مجرف، وهو الذي جرفه الدهر، أي: اجتاح ماله وأفقره. ويروى في إلا مسحت أو مجلف بالرفع فيهما. وقد تجرف النحاة هذا البيت إعرابًا وتأويلا ..

ص: 211

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع

مِنَ الْمَالِ إلا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ

فسمي سحتاً لأنه يسحت الدين والمروءة (1).

قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر:«السحت» مضمومة الحاء مثقلة،

وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة:«السحت» ساكنة الحاء خفيفة، وروى خارجة بن مصعب عن نافع:«أكالون للسحت» بفتح السين وجزم الحاء (2).

قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، أي:" فإن جاؤوك يتحاكمون إليك فاقض بينهم، أو اتركهم"(3).

قال ابن عطية: " تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم"(4).

قال البيضاوي: " تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض ولهذا قيل: لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، وهو قول للشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميا لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم، والآية ليست في أهل الذمة، وعند أبي حنيفة يجب مطلقا"(5).

فيمن أريد بقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]، وجهان:

أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بالرجم أو يدع، وهذا قول ابن عباس (6)، والحسن (7)، ومجاهد (8)، وابن شهاب الزهري (9)، وعبدالله بن كثير (10).

والثاني: أنها في نفسين من بني قريظة وبني النضير قتل أحدهما صاحبه فخّير رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتكامهما إليه بين أن يحكم بالقود أو يدع، وهذا قول ابن عباس-في رواية أخرى (11)، وقتادة (12)، وابن زيد (13).

قوله تعالى: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42]، أي:" فإن لم تحكم بينهم فلن يقدروا على أن يضروك بشيء"(14).

قال قتادة: "يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم"(15).

روي عن إبراهيم والشعبي، قالا: إذا أتاك المشركون فحكَّموك فيما بينهم، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعدُه إلى غيره، أو أعرض عنهم وخلِّهم وأهلَ دينهم" (16).

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 324، والنكت والعيون: 2/ 40.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 550.

(3)

التفسير الميسر: 115.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 194.

(5)

تفسير البيضاوي: 2/ 127.

(6)

انظر: تفسير الطبري (11972): ص 10/ 325 - 326.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 40.

(8)

انظر: تفسير الطبري (11970): ص 10/ 325.

(9)

انظر: تفسير الطبري (11971): ص 10/ 325.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11973): ص 10/ 326.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11974): ص 10/ 326 - 327.

(12)

انظر: تفسير الطبري (11937): ص 10/ 315 - 316، و (11984): ص 10/ 330.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11976): ص 10/ 327 - 328.

(14)

التفسير الميسر: 115.

(15)

أخرجه الطبري (11984): ص 10/ 330.

(16)

أخرجه الطبري (11985): ص 10/ 330.

ص: 212

قال ابن عطية: " أمن الله تعالى نبيه –ص-لى الله عليه وسلم من ضررهم إذ أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ} [آل عمران: 111] "(1).

قال البيضاوي: " بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس"(2).

قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]، أي:" وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل"(3).

قال البيضاوي: " أي: بالعدل الذي أمر الله به"(4).

قال ابن عطية: " أي: إن اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما {فاحكم بينهم بالقسط}، أي: بالعدل، يقال: أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار، ومنه قوله: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] "(5).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، أي:" إن الله يحب العادلين"(6).

قال أبو مالك: " يعني: المعدلين في القول والفعل"(7).

قال البيضاوي: " فيحفظهم ويعظم شأنهم"(8).

واختلفوا في التخيير في الحكم بينهم، هل هو ثابت أو منسوخ؟ على قولين (9):

أحدهما: أن التخيير منسوخ بقوله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، وهذا قول ابن عباس (10)، وعمر بن عبدالعزيز (11)، والحسن (12)، وعكرمة (13)، ومجاهد (14)، وقتادة (15)، والسدي (16)، وزيد بن أسلم (17)، وعطاء الخراساني (18)، والزهري (19).

وعلى هذا القول َيجب أن الحكم بينهم واجب على من تحاكموا إليه من حكام المسلمين.

قال ابن عباس: " آيتان نسختا من هذه الآية السورة- يعني المائدة- آية القلائد. وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (20)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم مخير إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (21)، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا"(22).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 195.

(2)

تفسير البيضاوي: 2/ 127.

(3)

التفسير الميسر: 115.

(4)

تفسير البيضاوي: 2/ 127.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 195.

(6)

التفسير الميسر: 115.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6393): ص 4/ 1137.

(8)

تفسير البيضاوي: 2/ 127.

(9)

انظر: قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن: 99.

(10)

انظر: تفسير الطبري (11986): ص 10/ 330، وتفسير ابن ابي حاتم (6388): ص 4/ 1135 - 1136.

(11)

انظر: تفسير الطبري (11992): ص 10/ 332.

(12)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1136، ذكره دون إسناد.

(13)

انظر: تفسير الطبري (11986)، و (11987)، و (11988): ص 10/ 330، 331، وتفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1136، ذكره دون إسناد.

(14)

انظر: تفسير الطبري (11989): ص 10/ 331.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11991): ص 10/ 331.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11995): ص 10/ 332، وتفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1136، ذكره دون إسناد.

(17)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1136، ذكره دون إسناد.

(18)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1136، ذكره دون إسناد.

(19)

انظر: تفسير الطبري (11994): ص 10/ 332.

(20)

[سورة المائدة: 42].

(21)

[سورة المائدة: 49].

(22)

أخرجه ابن ابي حاتم (6388): ص 4/ 1135 - 1136.

ص: 213

والثاني: أن التخيير ثابت، وأن كل حاكم من حكام المسلمين مخير فى الحكم بين أهل الذمة بين أن يحكم أو يدع وهذا قول عامر الشعبي (1)، وإبراهيم النخعي (2).

قال الزجاج: " أجمعت العلماء على أن هذه الآية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مخير بها في الحكم بين أهل الذمة"(3).

قال ابن عطية: " وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله"(4).

قال الإمام الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية.

وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} [سورة المائدة: 49]، والنسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.

وإذْ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} ، أنه ناسخٌ قوله:{فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} ، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط.

وإذْ لم يكن في ظاهر التنزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبٌر يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر" (5).

الفوائد:

1 -

أن الرشوة سُحْتٌ وحرام وباطل، والآية فيها على أن الرشوة عند اليهود أيضا حرام ولولا حرمته عندهم ما عَيَّرَهم الله بقوله:{أكالون للسحت} ، وهو حرام عند جميع أهل الكتاب.

والرشوة وباء خطير، إذا فشت في المجتمع خرب نظامه، واستطال الأشرار على الأخيار، وأهين الحق، فهي سحت وباطل، وهي من أعظم الحرام- والعياذ بالله-.

2 -

ومنها أن الأوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآني العام، قال تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة، آية: 256].

والأوضاع المدنية والأحوال الشخصية للأقليات، تحكمها شريعة الإسلام إن هم تحاكموا إلينا، قال تعالى:{فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة، آية: 42]، فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمي ـ عندهم ـ لأصل إلهي: كما سياتي في الآية التالية: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة، آية: 43].

(1) انظرك تفسير ابن ابي حاتم (6390): ص 4/ 1136.

(2)

انظرك تفسير ابن ابي حاتم (6390): ص 4/ 1136.

(3)

معاني القرآن: 2/ 177.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 194.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 333 - 334.

ص: 214

2 -

أن الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب، إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم.

2 -

وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم.

3 -

أن حكم الله أحسن الأحكام، والشرع هو ما أنزل الله، فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل، لكن العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج، فيكون العدل في كل شرعة بحسبها، ولهذا قال تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} .

القرآن

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)} [المائدة: 43]

التفسير:

إنَّ صنيع هؤلاء اليهود عجيب، فهم يحتكمون إليك -أيها الرسول- وهم لا يؤمنون بك، ولا بكتابك، مع أن التوراة التي يؤمنون بها عندهم، فيها حكم الله، ثم يتولَّون مِن بعد حكمك إذا لم يُرضهم، فجمعوا بين الكفر بشرعهم، والإعراض عن حكمك، وليس أولئك المتصفون بتلك الصفات، بالمؤمنين بالله وبك وبما تحكم به.

قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43]، أي:" كيف يحكّمك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الله يرونه ولا يعملون به؟ "(1).

قال ابن عباس: " يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة"(2).

قال قتادة: " أي: بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم ثم يتولون من بعد ذلك، الآية"(3).

قال السدي: " قال -يعني الرب تعالى ذكره- يعيِّرهم: وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله، يقول: الرجم"(4).

قال الزمخشري: " وكيف يحكمونك تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به"(5).

قال الواحدي: " عجَّب الله نبيه عليه السلام من تحكيم اليهود إيَّاه بعد علمهم بما في التَّوراة من حكم الزَّاني وحدِّه"(6).

قال عبدالقاهر الجرجاني: " {وكيف} أداة تعجب، وهو استبقاء درجة وجودة تحكيمهم النبي عليه السلام وتسليمهم له وهم به منكرون مع مخالفتهم التوراة وهم به مقرُّون"(7).

قال الراغب: " أنكر الله تعالى تحكيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يؤمنون به وعندهم الحكم في التوراة، والمعنى هاتين الحالتين مستنكر بتحكيمهم إياك"(8).

قال الطبري: أي: "وكيف يحكمك هؤلاء اليهود، يا محمد، بينهم، فيرضون بك حكمًا بينهم وعندهم التوراة التي أنزلتها على موسى، التي يقرُّون بها أنها حق، وأنها كتابي الذي أنزلته إلى نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك يتولون، يقول: يتركون الحكم

(1).صفوة التفاسير: 318

(2)

أخرجه الطبري (12003): ص 10/ 337.

(3)

أخرجه الطبري (12004): ص 10/ 337.

(4)

أخرجه الطبري (12005): ص 10/ 337.

(5)

الكشاف: 1/ 636.

(6)

الوجيز: 320.

(7)

درج الدرر: 2/ 672.

(8)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 358 - 359.

ص: 215

به، بعد العلم بحكمي فيه، جراءة عليّ وعصيانًا لي، وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره: كيف تقرّون، أيها اليهود، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي - أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته " (1).

قال الجصاص: " قوله تعالى: {وعندهم التوراة فيها حكم الله} يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا، وأنه صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم شريعة لنا لم ينسخ; لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله، كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ، وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم"(2).

وفي قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43]، ثلاثة أقوال (3):

أحدها: حكم الله بالرجم، لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا. وهذا قول الحسن (4)، والسدي (5)، واختيار الواحدي (6).

والثاني: حكم الله بالقود، لأنهم اختصموا في ذلك. وهذا قول قتادة (7).

والثالث: حكم الله بالرجم للمحصن والمحصنة، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق له. وهذا قول مقاتل بن حيان (8).

قال الجصاص: " وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود

فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته، وإنما طلبوا الرخصة; ولذلك قال:{وما أولئك بالمؤمنين} ، يعني: هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة. ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين " (9).

قوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43]، أي:"ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان"(10).

قال مقاتل بن حيان: " يعني: يتولون عن الحق"(11)، "بعد البيان"(12).

قال الزمخشري: أي: " ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به"(13).

قال مكي: " أي: [ثم] يتركون حكم التوراة جرأة على الله، وهذا تقريع لليهود، لأنهم تركوا حكم ما في أيديهم من كتابهم، ورجعوا إلى حكم النبي عليه السلام وهم يجحدون نبوته"(14).

(1) تفسير الطبري: 10/ 336 - 337.

(2)

أحكام القرآن: 2/ 547.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 41.

(4)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 547.

(5)

انظر تفسير الطبري (12005): ص 10/ 337.

(6)

انظر: الوجيز: 320.

(7)

انظر: الطبري (12004): ص 10/ 337.

(8)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6395): ص 4/ 1137.

(9)

أحكام القرآن: 2/ 547.

(10)

صفوة التفاسير: 318

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6396): ص 4/ 1137.

(12)

أخرجه ابن ابي حاتم (6397): ص 4/ 1137.

(13)

الكشاف: 1/ 636.

(14)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1725.

ص: 216

وفي قوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43]، قولان:

أحدهما: : أن توليهم، ما تركوا من كتاب الله، أي: بعد حكم الله في التوراة. وهذا قول عبدالله بن كثير (1).

والثاني: بعد تحكيمك. ذكره الماوردي (2)، واختاره الواحدي (3).

والثالث: بعد البيان. وهذا قول مقاتل بن حيان (4).

قوله تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43]، أي:"وليس أولئك المتصفون بتلك الصفات، بالمؤمنين بالله وبك وبما تحكم به"(5).

قال مقاتل بن حيان: "يعني: اليهود"(6).

قال مكي: " أي: ما من فعل هذا بمؤمن"(7).

قال الزمخشري: أي: " بكتابهم كما يدعون. أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم"(8).

قال الراغب: " أي: لا يصدقونك فيما تحكم به، والواو واو حال"(9).

قال الطبري: " يقول: ليس من فعل هذا الفعل - أي: من تولّى عن حكم الله، الذي حكم به في كتابه الذي أنزله على نبيه، في خلقه بالذي صدَّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان"(10).

قال السعدي: " أي: ليس هذا دأب المؤمنين، وليسوا حريين بالإيمان. لأنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم، وجعلوا أحكام الإيمان تابعة لأهوائهم"(11).

وأصل التولى عن الشيء، الانصرافُ عنه (12).

وفي قوله تعالى: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43]، قولان (13):

أحدهما: أي فى تحكيمك أنه من عند الله مع جحودهم نبوتك.

والثاني: يعني فى توليهم عن حكم الله غير راضين به.

الفوائد:

1 -

تقرير كفر اليهود وعدم إيمانهم.

2 -

ومن الفوائد: أنه كان حتى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نسخ غير محرفة من التوراة والإنجيل بدلالة قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ} [المائدة: 47] وقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} [المائدة: 43]، وقوله:{لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [المائدة: 68].

فقد كانت هناك نسخ كثيرة محرفة وبعض النسخ لم يصبها التحريف، ولكن اليهود كانوا يخفونها، ولعلّ بعضاً من هذه النسخ لا تزال إلى يومنا يخفيها بعض علماء اليهود والنصارى،

(1) انظر: تفسير الطبري (12002): ص 10/ 337).

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 41.

(3)

انظر: الوجيز: 320.

(4)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6397): ص 4/ 1137.

(5)

التفسير الميسر: 115.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6398): ص 4/ 1137.

(7)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1725.

(8)

الكشاف: 1/ 636.

(9)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 359.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 337.

(11)

تفسير السعدي: 232.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 337.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 41.

ص: 217

ويذكر صاحب كتاب "محمد نبي الإسلام"(1)، نقلاً عن مجلة "أيكونومست" البريطانية أن أول عمل يؤديه المرشح لوظيفة في "الكوريا"، أي: الإدارية المركزية للكنيسة الكاثولوكية هو أن يقسم اليمين المقدسة على كتمان كل شيء يصل إلى علمه أو يقع تحت بصره، من معلومات خصوصاً عن ثروة الكنيسة ومواردها إلى جانب ما يملكه الفاتيكان من تحف وثروة فنية تعتبر من أثمن الثروات في العالم. ولا شك أن عبارة ثروة فنية تشمل مكتبة الفاتيكان الضخمة بما تحويه من كتب في الديانة المسيحية لو تركت للبحث العلمي الحر لألقت أضواءً لامعة على حقبة مجهولة من تاريخ المسيحية في قرونها الأولى المظلمة.

القرآن

{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} [المائدة: 44]

التفسير:

إنا أنزلنا التوراة فيها إرشاد من الضلالة، وبيان للأحكام، وقد حكم بها النبيُّون -الذين انقادوا لحكم الله، وأقروا به- بين اليهود، ولم يخرجوا عن حكمها ولم يُحَرِّفوها، وحكم بها عُبَّاد اليهود وفقهاؤهم الذين يربُّون الناس بشرع الله; ذلك أن أنبياءهم قد استأمنوهم على تبليغ التوراة، وفِقْه كتاب الله والعمل به، وكان الربانيون والأحبار شهداء على أن أنبياءهم قد قضوا في اليهود بكتاب الله. ويقول تعالى لعلماء اليهود وأحبارهم: فلا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي; فإنهم لا يقدرون على نفعكم ولا ضَرِّكم، ولكن اخشوني فإني أنا النافع الضار، ولا تأخذوا بترك الحكم بما أنزلتُ عوضًا حقيرًا. الحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، فالذين يبدلون حكم الله الذي أنزله في كتابه، فيكتمونه ويجحدونه ويحكمون بغيره معتقدين حله وجوازه فأولئك هم الكافرون.

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]، أي:" إنا أنزلنا التوراة على موسى فيها بيانٌ واضح ونور ساطع يكشف ما اشتبه من الأحكام"(2).

قال القرطبي: " أي: بيان وضياء وتعريف أن محمدا صلى الله عليه وسلم حق"(3).

قال الماوردي: "يعني بالهدى: الدليل. وبالنور: البيان"(4).

قال المراغي: " أي: إنا أنزلنا التوراة على موسى مشتملة على هدى وإرشاد للناس إلى الحق، ونور وضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم، وبهذا الهدى خرج بنو إسرائيل من وثنية المصريين وضلالهم، وبذلك النور أبصروا طريق الاستقلال فى أمر دينهم ودنياهم"(5).

قال السعدي: " {فيها هدى}: يهدي إلى الإيمان والحق، ويعصم من الضلالة، {ونور}: يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك، والشبهات والشهوات، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] "(6).

قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، أي:" يحكم بالتوراة أنبياء بني إِسرائيل الذين انقادوا لحكم الله لليهود، فلا يخرجون عن حكمها ولا يُبدّلونها ولا يُحرّفونها"(7).

قال ابن كثير: "أي: لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها"(8).

(1).انظر: محمد نبي الله: 46.

(2)

صفوة التفاسير: 318.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 188.

(4)

النكت والعيون: 2/ 41.

(5)

تفسير المراغي: 6/ 123.

(6)

تفسير السعدي: 232.

(7)

صفوة التفاسير: 318.

(8)

التفسير الميسر: 3/ 117.

ص: 218

قال المراغي: " أي: أنزلناها قانونا يحكم به النبيون الذين أسلموا وجوههم لله مخلصين له الدين- موسى ومن بعده من أنبياء بنى إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، للذين هادوا أي لليهود خاصة، لأنها شريعة خاصة بهم لا عامة، ولم يكن لداود وسليمان وعيسى شريعة دونها"(1).

قال الزمخشري: " المعنى: يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى، وكان بينهما ألف نبى وعيسى، للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد"(2).

قال السعدي: " {يحكم بها} بين الذين هادوا، أي: اليهود في القضايا والفتاوى {النبيون الذين أسلموا} لله وانقادوا لأوامره، الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم، وهم صفوة الله من العباد. فإذا كان هؤلاء النبيون الكرام والسادة للأنام قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها، فما الذي منع هؤلاء الأراذل من اليهود من الاقتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي لا يقبل عمل ظاهر وباطن، إلا بتلك العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف، وإقامة رياستهم ومناصبهم بين الناس، والتأكل بكتمان الحق، وإظهار الباطل، أولئك أئمة الضلال الذين يدعون إلى النار"(3).

وفي قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44]، وجوه (4):

أحدها: أنهم جماعة أنبياء منهم محمد صلى الله عليه وسلم.

والثاني: المراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحده وإن ذكر بلفظ الجمع.

والثالث: وقيل: كل من بعث من بعد موسى بإقامة التوراة.

وفي الذي يحكم به من التوراة قولان (5):

أحدهما: أنه أراد رجم الزاني المحصن، والقود من القاتل العامد.

والقول الثاني: أنه الحكم بجميع ما فيها من غير تخصيص ما لم يرد به نسخ.

قال الماوردي: وقوله: " {لِلَّذِينَ هَادُوا}، يعني: على الذين هادوا، وهم اليهود"(6).

وقد اختلفت آراء اللغويين والمفسرين في أصل الكلمة التي اشتقت منها كلمة «يهود» ، وسبب تسمية اليهود بهذا الاسم، وذكروا وجوها (7):

أحدها: أنها من (هاد) بمعنى رجع، سموا بذلك حين تابوا عن عبادة العجل.

والثاني: أنما سميت اليهود (يهود)، من أجل قولهم:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [سورة الأعراف: 156]، أي: تبنا، قاله ابن جريج (8)، والهائد (9): التائب، قال الشاعر (10):

إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ

(1) تفسير المراغي: 6/ 123.

(2)

الكشاف: 1/ 637.

(3)

تفسير السعدي: 232.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 41، وتفسير القرطبي: 6/ 188.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(6)

النكت والعيون: 2/ 42.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 143، وتفسير القرطبي: 1/ 433، والمحرر الوجيز: 1/ 157، والدر المصون: 1/ 405، واللباب في علوم الكتاب: 2/ 133، واللسان، مادة:"هود"،

وتفسير القرطبي: 1/ 432 - 433.

(8)

أنظر: تفسير الطبري (1094): ص 2/ 143.

(9)

قيل: (هود): جمع هائد كعوذ جمع عائذ وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف وعلى القول بالجمعية يكون أسم كان مفردا عائدا على من بإعتبار لفظها وجمع الخبر بإعتبار معناها وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه. (انظر: التحرير والتنوير: 1/ 359).

(10)

البيت ورد في تفسير القرطبي: 1/ 433، ولم أتعرف على قائله.

ص: 219

أي تائب، وقال ابن عرفة:"هدنا إليك" أي سكنا إلى أمرك، والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} ، وقرأ أبو السمال:«هادوا» ، بفتح الدال (1).

والثالث: نُسِبُوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، فقلبت العربُ الذال دالاً، لأن الأعجمية إذا عُرِّبت، غيرت من لفظها.

والرابع: أنها مشتقة من هاد، يهود؛ فالهود: الميل والرجوع؛ لأن اليهود كانوا كلما جاءهم نبي أو رسول هادوا إلى ملكهم ودلوه عليه ليقتلوه.

والخامس: أنه من التهويد، وهو النطق في سكون ووقار ولين، وسموا بذلك لأنهم يتهودون عند قراءة التوراة. حكاه ابن عطية عن الزهراوي (2)، وأنشد قول الراعي النميري (3):

وخودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحَى

قريضَ الرُّدَافَى بالغِنَاءِ المُهَوَّدِ

والسادس: أنه من الهوادة، وهي الخضوع، فـ {هدنا إليك} ، أي: خضعنا إليك.

والسابع: «هاد يهيد» ، أي: تحرك، ومنه سمي اليهود؛ لتحركهم في دراستهم، قاله أبو عمرو بن العلاء (4).

وأما من حيث نسبة هذا الاسم فقيل: نسبة إلى يهوذا بالذال المعجمة، وهو ابن يعقوب عليه السلام، فغيرته العرب من الذال المعجمة إلى الدال المهملة، جريا على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية، فعرب ونسب الواحد إليه، فقيل يهودي، ثم حذف الياء في الجمع، فقيل يهود (5).

وقد ورد بأن اليهود يرجعون إلى بقايا جماعة يهوذا الذين سباهم نبوخذ نصّر إلى بابل في القرن السادس (ق. م)، وهؤلاء سموا كذلك نسبة إلى مملكة ومنطقة يهوذا (139 - 685 ق. م)، ولم تستعمل هذه التسمية إلا في عهد مملكة يهوذا، لذلك فهي تسمية متأخرة ولا صلة لها بيهوذا ويعقوب، اللذين عاشا في القرن السابع عشر قبل الميلاد، ولعل -يهوذا- كانت اسم مدينة في فلسطين منذ عهد الكنعانيين، فبعد أن نزحت جماعة موسى عليه السلام إلى فلسطين تكونت مملكة يهوذا بعد عصر يعقوب وابنه -يهوذا- بحوالي ألف عام في منطقة يهوذا الكنعانية، فسميت باسمها، ثم انتشر استعمال اسم اليهود بعد السبي البابلي منذ القرن السادس للميلاد (6).

وقد ذكروا في القرآن بعبارات عدة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، والآيات في ذكرهم باسم اليهود كثيرة، وذكر شيخ الاسلام:" أن هؤلاء المذكورين في الآية، الذين أثنى الله عليهم من الذين هادوا والنصارى كانوا مسلمين مؤمنين لم يبدلوا ما أنزل الله ولا كفروا بشيء مما أنزل الله؛ فاليهود والنصارى صاروا كفاراً من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل على محمد"(7).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 432.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 157.

(3)

انظر: تهذيب اللغة، باب ا"الهاء والدال"، و"خوط"، ومقاييس اللغة، مادة"ردف"، وأساس البلاغة، باب"ردف"، والعباب الزاخر، "ردف"، واللسان، مادة"ردف"، وتاج العروس، مادة"وخد"، "هود"، "ردف"، وغريب الحديث للقاسم بن سلام: 4/ 287، والمحرر الوجيز: 1/ 157، وواللباب: 63 ..

(4)

انظر: اللباب في علوم الكتاب: 2/ 133.

(5)

انظر: اللسان، مادة:"هود"، وتفسير القرطبي: 1/ 433، والمحرر الوجيز: 1/ 157، والدر المصون: 1/ 405، واللباب في علوم الكتاب: 2/ 133.

(6)

انظر: مفصل العرب واليهود في التاريخ: 925.

(7)

مجموع الفتاوى (21/ 91).

ص: 220

ولهذا فإن لفظ اليهود هو اسم خاص بالمنحرفين من بني إسرائيل .. وهو لفظ أعم من لفظة "عبرانيين"(1) و"بني إسرائيل"(2) وذلك لأن لفظة يهود تطلق على العبرانيين وعلى غيرهم ممن دخل في دين اليهود وهو ليس منهم، وفي الحقيقة أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بتحديد التاريخ الذي أطلقت فيه هذه التسمية على بني إسرائيل وسبب إطلاقها، لعدم وجود دليل على ذلك لا من الكتاب ولا من السنة، وإنما بنيت الاجتهادات السابقة على تخمينات لغوية لا تقوم بها حجة؛ غير أننا نستطيع أن نستنتج من الاستعمال القرآني لكلمة "يهود" أن هذه التسمية إنما أطلقت عليهم بعد انحرافهم عن عبادة الله وعن الدين الصحيح، وذلك لأنه لم يرد في القرآن الكريم إطلاق اليهود على سبيل المدح، بل لم تذكر عنهم إلا في معرض الذم والتحقير، وإظهار صفاتهم وأخلاقهم الذميمة، والتنديد بكفرهم.

قوله تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، أي:" وكذلك حكم العلماء منهم والفقهاء، بسبب أمر الله إِياهم بحفظ كتابه من التحريف والتضييع"(3).

قال ابن كثير: " أي: وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء، والأحبار وهم العلماء، بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به"(4).

(1) اختلفت الآراء في سبب تسميتهم بـ"العبريين" أو "العبرانيين"، قيل: إنهم سموا بذلك نسبة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام نفسه، فقد ذكر في سفر التكوين باسم:"إبراهيم العبراني"، لأنه عبر نهر الفرات وأنهاراً أخرى، وقيل إنهم: سموا بالعبرانيين نسبة إلى "عِبْر "، وهو الجد الخامس لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والرأي الثالث يقول: إن سبب التسمية يرجع إلى الموطن الأصلي لبني إسرائيل، ذلك أنهم في الأصل كانوا من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان، بل ترحل من بقعة إلى أخرى بإبلها وماشيتها للبحث عن الماء والمرعى.، وغالب المؤرخين أجمعوا على أن التسمية ناتجة عن عبور إبراهيم عليه الصلاة والسلام نهر الفرات، ويؤكد هذا الرأي ما جاء في سفر يسوع:"وهكذا قال الرب إله إسرائيل في عبر النهر سكن آباؤكم منذ الدهر ".

ويرى البعض أن هذه اللفظة لم تظهر إلا بعد اجتياز إبراهيم نهر الفرات"، فضلا ً عن أن الأخذ بهذا الرأي أقرب إلى الصحة والصواب من الآراء الأخرى

وقيل: لفظ "العبري" أطلق تاريخياً على شراذم من الغجر الرحل كانوا يعيثون في الأرض فسادا، ويتبعون الجيوش الغازية، بوصفهم مرتزقة يستعان بهم في الأعمال الدنية، ووصفهم إبراهيم بأنه "عبري" غير صحيح، إلا إذا أخذنا من لفظ عبري معنى: الترحال والتنقل، وقد ألصق اليهود بإبراهيم وصف "العبري" ليصلوا إلى وصف لغتهم بأنها "العبرية" قديمة ترجع إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام باطل لأن اللغة العبرية جاءت متأخرة جداً عن زمن إبراهيم، وهي لهجة آرامية عربية، ظهرت بعد عصر موسى بحوالي ست مئة سنة ولأن التوراة نزلت باللغة الهيروغلوفية، حيث تخاطب قوما في مصر أو أخرجوا من مصر.

وأرى أن الذي ذكره هو الصواب؛ فاللغة العبرية لغة متأخرة جداً عن زمن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. (انظر: العرب واليهود في التاريخ: الأستاذ شراب: 36).

(2)

تم إطلاق مصطلح إسرائيليين على شتات اليهود القادمين إلى فلسطين بعد إعلان اليهود قيام دولة أسموها "إسرائيل" في 51 مايو 8491 م؛ فأصبح كل من يعيش على أرض فلسطين من اليهود يأخذ مُسَمى "إسرائيلي"، وجنسية "إسرائيلية"، ومجموع شتاتهم على أرض فلسطين المغتصبة "إسرائيليين"! !

وشاعت تلك التسميات على ألسن الناس عموماً وفي بلاد المسلمين أيضاً، حيث أطلق على الكيان اليهودي والصهيوني "إسرائيل" واليهودي "بالإسرائيلي"، وشاع مصطلح "إسرائيليون" على اليهود الذين أتوا إلى فلسطين غزاة

وإسرائيل كلمة عبرانية مركبة من "إسرا" بمعنى: عبد، ومن "إيل" وهو الله، فيكون معنى الكلمة: عبد الله، وإسرائيل اسم لنبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام، وجاء في تسمية بني إسرائيل بهذا الاسم نسبة إلى أبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام، ويهود اليوم التصقوا بهذا الاسم، ليلبسوا على العامة بأنهم من نسل "إسرائيل" يعقوب عليه الصلاة السلام، ولإثبات عدم اختلاطهم بالشعوب الأخرى ليتحقق لهم الزعم بنقاء الجنس اليهودي، وأن يهود اليوم هم النسل المباشر ليهود التوراة، وذلك لتبرير العودة إلى أرض الميعاد! !

لذا فهذه التسمية منكرة، لما شاع على الألسن القول في سياق الذم فعلت إسرائيل كذا، وستفعل كذا؛ وإسرائيل هو رسول كريم من رسل الله تعالى، وهو "يعقوب" عليه الصلاة والسلام، وهو بريء من الكيان اليهودي الخبيث الماكر، إذ لا توارث بين الأنبياء والرسل وبين أعدائهم من الكافرين.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 637 وصفوة التفاسير: 318.

(4)

التفسير الميسر: 3/ 117.

ص: 221

قال الزمخشري: أي: " وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون، بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه، وبسبب كونهم عليه شهداء.

ويجوز أن يكون الضمير في: {استحفظوا} للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا ويكون الاستحفاظ من الله، أى كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء" (1).

قال المراغي: " أي: ويحكم بها الربانيون والأحبار فى الأزمنة التي لم يكن فيها أنبياء معهم أو يحكمون مع وجودهم بإذنهم بسبب ما أودعوه من الكتاب وائتمنوا عليه وطلب منهم أنبياؤهم حفظه، كالعهد الذي أخذه موسى بأمر الله على شيوخ بنى إسرائيل بعد أن كتب التوراة أن يحفظوها ولا يحيدوا عنها"(2).

قال السعدي: " أي: وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادوا أئمة الدين من الربانيين، أي: العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس بأحسن تربية، ويسلكون معهم مسلك الأنبياء المشفقين. و «الأحبار»، أي: العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم، وترمق آثارهم، ولهم لسان الصدق بين أممهم"(3).

و«الأحبار» : جمع حَبْر، بالفتح والكسر، وهو العالم (4)، وفي سبب تسميته أقوال:

أحدها: أنه سُمِّي بذلك اشتقاقاً من التحبير، وهو التحسين، لأن العالم يحسن الحسن ويقبح القبيح، ويحتمل أن يكون ذلك لأن العلم فى نفسه حسن. وهذا قول الفراء (5).

والثاني: وقال الثوري سألت الفراء: لم سمي الحبر حبرا؟ فقال: يقال للعالم: حَبر، وحِبر، والمعنى: مداد حبر، ثم حذف كما قال تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82](6).

والثالث: أنه سمي حبرا، لتأثيره يقال على أسنانه حبرة أي صفرة أو سواد. وهذا قول الأصمعي (7).

وفي قوله تعالى: {اسْتُحْفِظُوا} [المائدة: 44]، تأويلان:

أحدهما: استودعوا، وهو قول الزجاج (8)، والأخفش (9)، والنحاس (10).

والثاني: العلم بما حفظوا، وهو قول الكلبي (11).

قال السعدي: " وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق {بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} أي: بسبب أن الله استحفظهم على كتابه، وجعلهم أمناء عليه، وهو أمانة عندهم، أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان والكتمان، وتعليمه لمن لا يعلمه، وهم شهداء عليه، بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه، وفيما اشتبه على الناس منه"(12).

قوله تعالى: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، أي:"وكانوا رقباء على الكتاب لئلا يبدل"(13).

قال ابن عباس: " هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قاله إنه حق جاء من عند الله، فهو نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم أتته اليهود فقضى بينهم بالحق"(14).

(1) الكشاف: 1/ 637.

(2)

تفسير المراغي: 6/ 123.

(3)

تفسير السعدي: 232.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(6)

انظر: معاني القرآن للنحاس: 2/ 314.

(7)

انظر: معاني القرآن للنحاس: 2/ 314.

(8)

انظر: معاني القرآن: 2/ 178.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(10)

انظر: معاني القرآن: 2/ 314.

(11)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(12)

تفسير السعدي: 232.

(13)

انظر: الكشاف: 1/ 637.

(14)

أخرجه ابن ابي حاتم (6417): ص 4/ 1141.

ص: 222

قال الماوردي: " يعني: على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة"(1).

قال القاسمي: " أي: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه. أو بأنه حق وصدق من عند الله"(2).

قال المراغي: " أي: وكان السلف الصالح منهم رقباء على الكتاب وعلى من تحدثه نفسه العبث به كما فعل عبد الله بن سلام فى مسألة الرجم، لا كما فعل الخلف من كتمان بعض أحكامه اتباعا للهوى، أو خوفا من أشرافهم إن أقاموا عليهم حدوده، وطمعا فى صلاتهم إذا هم حابوهم، ومما كتموه صفة النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به"(3).

قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، أي:" فلا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي; فإنهم لا يقدرون على نفعكم ولا ضَرِّكم، ولكن اخشوني فإني أنا النافع الضار"(4).

قال مقاتل بن حيان: " {فلا تخشوا الناس}، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والرجم، يقول: أظهروا أمر محمد صلى الله عليه وسلم والرجم"(5)، " واخشون في كتمان محمد صلى الله عليه وسلم والرجم"(6).

قال ابن كثير: " أي: لا تخافوا منهم وخافوني"(7).

قال مقاتل: " يقول: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ونعت محمد- صلى الله عليه وسلم واخشون إن كتمتموه "(8).

قال الزمخشري: "نهى للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم (9) فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء"(10).

قال المراغي: ثم خاطب الله تعالى رؤساء اليهود الذين كانوا زمن التنزيل لا يخافون الله فى الكتمان والتبديل بعد أن قص سيرة السلف الصالح من بنى إسرائيل لعلهم يعتبرون ويرعوون عن غيهم فقال: {فلا تخشوا الناس واخشون} ، أي: وإذا كان الحال كما ذكر أيها الأحبار ولا شك أنكم لا تنكرونه كما تنكرون غيره مما قصه الله على رسوله من سير أسلافهم- فلا تخشوا الناس فتكتموا ما عندكم من الكتاب خشية أحد، أو طمعا فى منفعة عاجلة منه، واخشوني واقتدوا بمن كان قبلكم من الربانيين والأحبار واحفظوا التوراة ولا تعدلوا عن ذلك، فإن النفع والضر بيدي" (11).

وفي قوله تعالى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]، تأويلان:

أحدهما: فلا تخشوهم فى كتمان ما أنزلت، وهذا قول السدي (12).

والثاني: في الحكم بما أنزلت (13).

قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44]، أي:" ولا تأخذوا بترك الحكم بما أنزلتُ عوضًا حقيرًا"(14).

(1) النكت والعيون: 2/ 42.

(2)

محاسن التأويل: 4/ 144.

(3)

تفسير المراغي: 6/ 123.

(4)

التفسير الميسر: 115.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6419): ص 4/ 1141.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6420): ص 4/ 1141.

(7)

التفسير الميسر: 3/ 117.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 479.

(9)

قوله «وادهانهم فيها» في الصحاح: المداهنة- كالمصانعة. والادهان مثله.

(10)

الكشاف: 1/ 637.

(11)

تفسير المراغي: 6/ 123.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12019): ص 10/ 344.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(14)

التفسير الميسر: 115.

ص: 223

قال مقاتل: " عرضا يسيرا مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من الطعام والثمار"(1).

قال الطبري: أي: " ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنزلته على موسى، أيها الأحبار، عوضًا خسِيسًا وذلك هو الثمن القليل، وإنما أراد تعالى ذكره، نهيَهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين، وغير ذلك من الأحكام التي بدَّلوها طلبًا منهم للرشَى"(2).

قال المراغي: " أي: ولا تتركوا بيانها للناس والعمل بها لقاء منفعة دنيوية قليلة تأخذونها من الناس كرشوة أو جاه أو غيرهما من الحظوظ العاجلة التي تصدكم عن الاهتداء بآيات الله وتمنعكم عن الخير العظيم الذي تنالونه من ربكم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم"(3).

قال السعدي: أي: " فتكتمون الحق، وتظهرون الباطل، لأجل متاع الدنيا القليل، وهذه الآفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته، بأن يكون همه الاجتهاد في العلم والتعليم، ويعلم أن الله قد استحفظه ما أودعه من العلم واستشهده عليه، وأن يكون خائفا من ربه، ولا يمنعه خوف الناس وخشيتهم من القيام بما هو لازم له، وأن لا يؤثر الدنيا على الدين.

كما أن علامة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة، غير قائم بما أمر به، ولا مبال بما استحفظ عليه، قد أهمله وأضاعه، قد باع الدين بالدنيا، قد ارتشى في أحكامه، وأخذ المال على فتاويه، ولم يعلم عباد الله إلا بأجرة وجعالة، فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة، كفرها ودفع حظا جسيما، محروما منه غيره" (4).

وفي قوله تعالى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة: 44]، وجوه من التفسير:

أحدها: معناه لا تأخذوا على كتمانها أجراً. ذكره الماوردي (5).

والثاني: معناه لا تأخذوا على القرآن أجراً. وهذا قول الربيع بن أنس (6).

والثالث: معناه: لا تأكلوا علينا السحت كما صنعت اليهود. وهذا قول عبدالرحمن بن زيد بن أسلم (7).

والرابع: معناه: لا تأخذوا طعما قليلا وتكتموا اسم الله فذلك الطمع وهو الثمن. وهذا قول السدي (8).

قال سعيد بن جبير: " وإن آيات كتابه الذي أنزل إليهم وإن الثمن القليل هو الدنيا وشهواتها"(9).

قال الحسن: " الثمن القليل: الدنيا بحذافيرها"(10).

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، أي:" أي من لم يحكم بشرع الله كائناً من كان فقد كفر"(11).

قال ابن عباس: " من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ"(12).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 479.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 344.

(3)

تفسير المراغي: 6/ 123.

(4)

تفسير السعدي: 232.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 42.

(6)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6421): ص 4/ 1141.

(7)

انظر: : تفسير ابن ابي حاتم (6422): ص 4/ 1141.

(8)

انظر: : تفسير ابن ابي حاتم (6424): ص 4/ 1142.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6423): ص 4/ 1141.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6425): ص 4/ 1142.

(11)

صفوة التفاسير: 318.

(12)

أخرجه الطبري (12063): ص 10/ 357.

ص: 224

قال مقاتل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله في التوراة: بالرجم ونعت محمد- صلى الله عليه وسلم، ويشهد به {فأولئك هم الكافرون} "(1).

قال الزمخشري: أي: " ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهينا به فأولئك هم الكافرون"(2).

قال الطبري: أي: "ومن كتم حُكم الله الذي أنزله في كتابه وجعله حكمًا يين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقِصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوَّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة فهؤلاء هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه، وغطَّوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحتٍ أخذوه منهم عليه"(3).

قال المراغي: " أي: وكل من رغب عن الحكم بما أنزل الله وأخفاه وحكم بغيره كحكم اليهود فى الزانيين المحصنين بالتحميم، وكتمانهم الرجم وقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفى بعضها بنصف الدية، والله قد سوى بين الجميع فى الحكم فأولئك هم الكافرون الذين ستروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينه، وغطوه وأظهروا لهم غيره وقضوا به"(4).

قال السعدي: " فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر، وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه. وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد"(5).

وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، ثم قال تعالى:{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، ، ثم قال تعالى {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفي اختلاف هذه الآي الثلاث أربعة أقاويل:

أحدها: أنها واردة في اليهود دون المسلمين، وهذا قول ابن مسعود (6)، وحذيفة (7)، والبراء (8)، وقتادة (9)، وعكرمة (10).

الثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب، وحكمها عام في جميع الناس، وهذا قول الحسن (11)، وإبراهيم (12)، والسدي (13).

والثالث: أنه أراد بالكافرين أهل الإِسلام، وبالظالمين اليهود، وبالفاسقين النصارى، وهذا قول الشعبي (14).

والرابع: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، فهو كافر، ومن لم يحكم مقراً به فهو ظالم فاسق، وهذا قول ابن عباس (15).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 479.

(2)

الكشاف: 1/ 637.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 345 - 346 س.

(4)

تفسير المراغي: 6/ 123.

(5)

تفسير السعدي: 232.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12037): ص 10/ 352 - 353.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12027)، و (12029)، و (12030) ص 10/ 347 - 349.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12022): ص 10/ 345، و (12034): ص 10/ 351.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12032): ص 10/ 351.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12031)، و (12033): ص 10/ 351.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12060): ص 10/ 357.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12057) - (12059): ص 10/ 356 - 357.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12062): ص 10/ 357.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12038) - (12046): ص 10/ 353 - 355.

(15)

انظر: تفسير الطبري (12063): ص 10/ 357.

ص: 225

قال الطبري: " وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى.

فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصًّا؟

قيل: إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون. وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ" (1).

الفوائد:

1 -

وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم.

2 -

كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض.

3 -

قال السعدي: إن" الله تعالى قد حمل أهل العلم، ما لم يحمله الجهال، فيجب عليهم القيام بأعباء ما حملوا، وأن لا يقتدوا بالجهال، بالإخلاد إلى البطالة والكسل، وأن لا يقتصروا على مجرد العبادات القاصرة، من أنواع الذكر، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، ونحو ذلك من الأمور، التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا ونجوا.

وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم، فإنهم مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، خصوصا الأمور الأصولية والتي يكثر وقوعها وأن لا يخشوا الناس بل يخشون ربهم" (2).

القرآن

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]

التفسير:

وفَرَضنا عليهم في التوراة أن النفس تُقْتَل بالنفس، والعين تُفْقَأ بالعين، والأنف يُجْدَع بالأنف، والأذُن تُقْطع بالأذُن، والسنَّ تُقْلَعُ بالسنِّ، وأنَّه يُقْتَصُّ في الجروح، فمن تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المُعتدي فذلك تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه وإزالةٌ لها. ومن لم يحكم بما أنزل الله في القصاص وغيره، فأولئك هم المتجاوزون حدود الله.

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، أي:" وفَرَضنا عليهم في التوراة أن النفس تُقْتَل بالنفس"(3).

قال ابن عباس: "يقول: تقتل النفس بالنفس"(4).

قال سعيد بن جبير: " يعني نفس المسلم الحر بنفس المسلم الحر وبالمسلمة إذا كان عمدا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مؤمن بكافر» (5) "(6).

قال مقاتل: " يعني قضى، أن النفس بالنفس"(7).

قال ابن الجوزي: أي: " فرضنا على اليهود في التوراة"(8).

(1) تفسير الطبري: 10/ 358.

(2)

تفسير السعدي: 232.

(3)

التفسير الميسر: 115.

(4)

أخرجه الطبري (12072): ص 10/ 361.

(5)

أخرجه البخاري كتاب العلم 1/ 38.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (6439): ص 4/ 1144.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 480.

(8)

زاد المسير: 1/ 553.

ص: 226

قال السمرقدي: " يعني: فرضنا على بني إسرائيل، في التوراة أن النفس بالنفس إذا كان القتل عمدا"(1).

قال الزمخشري: أي: " فرضنا عليهم فيها أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق"(2).

قال الطبري: أي: " وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق بالنفس، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة"(3).

قال ابن كثير: " وهذا أيضًا مما وُبّخَتْ به اليهود وقرعوا عليه، فإن عندهم في نص التوراة: أن النفس بالنفس. وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا، ويُقيدون النضري من القرظي، ولا يُقيدون القرظي من النضري، بل يعدلون إلى الدية، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار"(4).

عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها: " {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} نصب النفس ورفع العين"(5).

قال ابن عباس: " كان على بني إسرائيل القصاصُ في القتلى، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال: وذلك قول الله تعالى ذكره: وكتبنا عليهم فيها في التوراة، فخفف الله عن أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن تصدَّق به فهو كفارة له"(6).

في مصحف أبى: «وأنزل الله على بنى إسرائيل فيها» (7).

قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]، أي:" والعين تُفْقَأ بالعين"(8).

قال ابن عباس: " وتفقأ العين بالعين"(9).

قال السمرقدي: " يعني: والعين بالعين إذا كان عمدا"(10).

قال الطبري: أي: "وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين المفقوءة"(11).

قال الزمخشري: أي: " وكذلك العين مفقوءة بالعين"(12).

قال عقيل: " سألت بن شهاب عن رجل أعور فقأ عين صحيح أتفقأ عينه الباقية فيكون أعمى؟ قال: قضاء الله في كتابه أن العين بالعين فعينه وإن كانت بقية بصره"(13).

قوله تعالى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45]، أي:" والأنف يُجْدَع بالأنف"(14).

قال ابن عباس: "ويقطع الأنف بالأنف"(15).

(1) بحر العلوم: 1/ 394.

(2)

الكشاف: 1/ 638.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 358.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 120.

(5)

المسند (3/ 215) وسنن أبي داود برقم (3977) وسنن الترمذي برقم (2929).

وقال الترمذي: حسن غريب. وقال البخاري: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.

(6)

أخرجه الطبري (12067): ص 10/ 360 - 361 ..

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 638.

(8)

التفسير الميسر: 115.

(9)

أخرجه الطبري (12072): ص 10/ 361.

(10)

بحر العلوم: 1/ 394.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 359.

(12)

الكشاف: 1/ 638.

(13)

أخرجه ابن ابي حاتم (6441): ص 4/ 1144 - 1145.

(14)

التفسير الميسر: 115.

(15)

أخرجه الطبري (12072): ص 10/ 361.

ص: 227

قال الطبري: أي: " ويجدع الأنف بالأنف"(1).

قال الزمخشري: أي: " والأنف مجدوع بالأنف"(2).

قوله تعالى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} [المائدة: 45]، أي:" والأذُن تُقْطع بالأذُن"(3).

قال الطبري: أي: " وتقطع الأذن بالأذن "(4).

قال الزمخشري: أي: " والأذن مصلومة بالأذن"(5).

روي عن ربيعة: " أنه قال في رجل وقع به قوم فقطعوا أذنيه، قال: أرى أن يصنع لهم مثل الذي صنعوا به"(6).

قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]، أي:" والسنَّ تُقْلَعُ بالسنِّ"(7).

قال ابن عباس: "وتنزع السنّ بالسن"(8).

قال الطبري: أي: " وتقلع السنّ بالسنّ"(9).

قال الزمخشري: أي: " والسن مقلوعة بالسن"(10).

قال أنس: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتصاص من السن، وقال: كتاب الله القصاص"(11).

قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، أي:" وأنَّه يُقْتَصُّ في الجروح"(12).

قال ابن عباس: "وتقتصّ الجراح بالجراح"(13).

وعن ابن عباس ايضا: " يقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونسائهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وكما دون النفس ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس"(14).

قال الطبري: أي: " ويُقْتَصَّ من الجارِح غيره ظلمًا للمجروح"(15).

قال الزمخشري: أي: " ذات قصاص، وهو المقاصة، ومعناه: ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة"(16).

والقصاص: "مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من: قص الأثر"(17).

وإن قيل: "كيف يكون القصاص فرضا والولي مخير بينه وبين العفو؟ فالجواب: أنه فرض على القاتل للولي، لا على الولي"(18).

وعن ابن عباس رضى الله عنهما: "كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، فنزلت"(19).

(1) تفسير الطبري: 10/ 359.

(2)

الكشاف: 1/ 638.

(3)

التفسير الميسر: 115.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 359.

(5)

الكشاف: 1/ 638.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6443): ص 4/ 1145.

(7)

التفسير الميسر: 115.

(8)

أخرجه الطبري (12072): ص 10/ 361.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 359.

(10)

الكشاف: 1/ 638.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6444): ص 4/ 1145.

(12)

التفسير الميسر: 115.

(13)

أخرجه الطبري (12072): ص 10/ 361.

(14)

أخرجه ابن ابي حاتم (6445): ص 4/ 1145.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 359.

(16)

الكشاف: 1/ 638.

(17)

زاد المسير: 1/ 137.

(18)

زاد المسير: 1/ 137.

(19)

الكشاف: 1/ 638.

ص: 228

في مصحف أبى: «وأن الجروح قصاص» ، والمعطوفات كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أن النفس، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا، وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة. تقول: كتبت الحمد لله (1).

قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، أي:" فمن تجاوز عن حقه في الاقتصاص من المُعتدي فذلك تكفير لبعض ذنوب المعتدى عليه وإزالةٌ لها"(2).

قال ابن عباس: " فمن عفى عنه وتصدق عليه، فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب"(3).

قال الزمخشري: أي: " فمن تصدق من أصحاب الحق به بالقصاص وعفا عنه فهو كفارة له فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر الله من سيئاته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته"(4).

وفي قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، تاويلان:

أحدهما: أنه كفارة للجروح، وهو قول عبد الله بن عمر (5)، وإبراهيم (6)، والحسن (7)، وقتادة (8)، والشعبي (9)، وجابر بن زيد (10).

روى الشعبي عن ابن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ جُرِحَ فِي جَسَدِهِ جِرَاحَةً فَتَصَدَّقَ بِهَا كَفَّرَ عَنْهُ ذُنُوبَهُ بِمِثْلِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ"(11).

والثاني: أنه كفارة للجارح، لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وهذا قول ابن عباس (12)، ومجاهد (13)، وزيد بن اسلم (14)، وهذا محمول على من عفى عنه بعد توبته.

قال الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: عني به: فمن تصدّق به فهو كفارة له، المجروحَ فلأن تكون الهاء في قوله: {له}، عائدةً على {مَنْ}، أولى من أن تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، وأحرَى، إذ الصدقة هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات"(15).

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]، أي:" ومن لم يحكم بما أنزل الله في القصاص وغيره، فأولئك هم المتجاوزون حدود الله"(16).

قال ابن كثير: " لأنهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا، وقال هاهنا: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا، وتعدى بعضهم على بعض"(17).

(1) انظر: الكشاف: 1/ 638.

(2)

التفسير الميسر: 115.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6447): ص 4/ 1145.

(4)

الكشاف: 1/ 638.

(5)

نظر: تفسير الطبري (12073) - (12075): ص 10/ 362 - 363.

(6)

نظر: تفسير الطبري (12076): ص 10/ 363.

(7)

نظر: تفسير الطبري (12082): ص 10/ 365.

(8)

نظر: تفسير الطبري (12084): ص 10/ 365.

(9)

نظر: تفسير الطبري (12083): ص 10/ 365.

(10)

نظر: تفسير الطبري (12077): ص 10/ 363.

(11)

أخرجه أحمد (22792): ص 37/ 454، والطبري (12081): ص 10/ 364 - 365، ورواه البيهقي بغير هذا اللفظ من طريق أبي داود، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن مرثه، عن الشعبي، وقال: هو منقطع، وذلك أن الشعبي، لم يسمع من عبادة بن الصامت، وخرجه ابن كثير في تفسيره 3/ 168، وزاد نسبته للنسائي، عن علي بن حجر، عن جرير بن عبد الحميد.

(12)

نظر: تفسير الطبري (12086): ص 10/ 366، و (12096) - (12098)، و (12101): ص 367 - 368.

(13)

نظر: تفسير الطبري (12087) - (12093): ص 10/ 366 - 367.

(14)

نظر: تفسير الطبري (12094): ص 10/ 367.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 369.

(16)

التفسير الميسر: 115.

(17)

تفسير ابن كثير: 3/ 120.

ص: 229

عن البراء قوله: {فأولئك هم الظالمون} ، قال: أنزلت في اليهود" (1). قال ابن أبي حاتم: "وروي عن ابن عباس والشعبي والحسن ومقاتل بن حيان نحو ذلك" (2).

وروي عن عطاء قوله: " {فأولئك هم الظالمون}، قال: ظلم دون ظلم"(3).

قال ابن كثير: " وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ، كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة.

وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم.

وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها: أن شرع إبراهيم حجة دون غيره، وصحح منها عدم الحجية، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا.

وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ، رحمه الله، في كتابه "الشامل" إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة.

وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم: «أن الرجل يقتل بالمرأة» (4).

وفي الحديث الآخر: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (5)، وهذا قول جمهور العلماء" (6).

وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: " أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية؛ لأن ديتها على النصف من دية الرجل، وإليه ذهب أحمد في روايته عنه وحكي هذا عن الحسن البصري وعطاء، وعثمان البتي، ورواية عن أحمد به أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل تجب ديتها.

وهكذا احتج أبو حنيفة، رحمه الله تعالى، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي، وعلى قتل الحر بالعبد، وقد خالفه الجمهور فيهما، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر"(7).

وأما العبد فعن السلف في آثار متعددة: أنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحر، ولا يقتلون حرًا بعبد، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.

ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك: عن أنس بن مالك: «أن الرُّبَيع عَمّة أنس كسرت ثَنيَّة جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"القصاص". فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس، كتاب الله القصاص". قال:

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6451): ص 4/ 1146.

(2)

تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1146.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6452): ص 4/ 1146.

(4)

سنن النسائي (قسامة باب 46).

(5)

روي من حديث عبد الله بن عباس: أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من طريق سليمان عن أبيه، عن حنش، عن عكرمة، عن ابن عباس. وقال البوصيري في الزوائد (2/ 353):"هذا إسناد ضعيف لضعف حنش واسمه حسين بن قيس". وروي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أبو داود في السنن برقم (4531) من طريق يحيى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 121.

(7)

صحيح البخاري برقم (6903).

ص: 230

فقال: لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنية فلانة. قال: فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره» (1) "(2).

الفوائد:

1 -

حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة فيقتل الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة

والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة، ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث:"المرء مقتول بما قتل به".

ولما كان العبد مقوماً بالمال فإنه لا يقتل به الحر، بل يدفع إلى سيده مال. وبهذا حكم الصحابة والتابعون وعليه الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وخالف أبو حنيفة فرأى القود فيقتل الحر بالعبد أخذاً بظاهر هذه الآية.

2 -

وجوب القود في النفس والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة.

3 -

من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل الواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين الواحدة عينان مثلاً، وهو كفر مع الاستحلال وظلم في نفس الوقت.

4 -

محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو والدية بدل القصاص.

القرآن

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)} [المائدة: 46]

التفسير:

وأتبعنا أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم مؤمنًا بما في التوراة، عاملا بما فيها مما لم ينسخه كتابه، وأنزلنا إليه الإنجيل هاديا إلى الحق، ومبيِّنًا لما جهله الناس مِن حكم الله، وشاهدًا على صدق التوراة بما اشتمل عليه من أحكامها، وقد جعلناه بيانًا للذين يخافون الله وزاجرًا لهم عن ارتكاب المحرَّمات.

قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46]، أي:" وأتبعنا أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم"(3).

قال البغوي: " أي: على آثار النبيين الذين أسلموا، {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} "(4).

قال القرطبي: " أي: جعلنا عيسى يقفو آثارهم، أي: آثار النبيين الذين أسلموا"(5).

قال الواحدي: " أَيْ: جعلناه يقفو آثار النَّبيِّين يعني: بعثناه بعدهم على آثارهم"(6).

قال ابن كثير: " {وَقَفَّيْنَا}، أي: أتبعنا {َلَى آثَارِهِمْ}، يعني: أنبياء بني إسرائيل عليه السلام"(7).

قال القاسمي: " أي: أتبعنا على آثار أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، أي: أرسلناه عقبهم مصدقا"(8).

قال السعدي: " أي: وأتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين، الذين يحكمون بالتوراة، بعبدنا ورسولنا عيسى ابن مريم، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم"(9).

يقال: قفّى أثره، وقفّى غيرَه على أثره، أي: اتبعه إياه، والقفا: مُؤَخَّرُ العُنُق، ويقال للشيخ إذا هرم: رُدّ على قَفَاه، ورُدّ قَفًا، قال الشاعر (10):

إِن تَلْقَ رَيْبَ المنايا أو تُرَدُّ قفًا

لا أَبْكِ مِنك على دينٍ ولا حَسَب

ومنه: قافية الشعر (11).

قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46]، أي:" عاملا بما فيها مما لم ينسخه كتابه"(12).

قال القرطبي: " يعني: التوراة، فإنه رأى التوراة حقا، ورأى وجوب العمل بها إلى أن يأتي ناسخ"(13).

قال ابن كثير: " أي: مؤمنا بها حاكما بما فيها"(14).

قال السعدي: " بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة، فهو شاهد لموسى ولما جاء به من التوراة بالحق والصدق، ومؤيد لدعوته، وحاكم بشريعته، وموافق له في أكثر الأمور الشرعية، وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام، كما قال تعالى عنه أنه قال لبني إسرائيل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] "(15).

قال الواحدي: أَيْ: "يُصدِّق أحكامها ويدعو إليها"(16).

قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 46]، أي:" وأنزلنا إليه الإنجيل هاديا إلى الحق، ومبيِّنًا لما جهله الناس مِن حكم الله"(17).

قال ابن كثير: "أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات"(18).

قال القاسمي: " {فِيهِ هُدًى}، أي: إلى الحق {وَنُورٌ}، أي: بيان للأحكام"(19).

قال السعدي: أي: " يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبين الحق من الباطل"(20).

وقرأ الحسن: «الإنجيل» ، بفتح الهمزة/ فإن صح عنه فلأنه أعجمى خرج لعجمته عن زناة العربية، كما خرج: هابيل، وآجر (21).

قوله تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46]، أي:" وشاهدًا على صدق التوراة بما اشتمل عليه من أحكامها"(22).

قال السعدي: أي: " بتثبيتها والشهادة لها والموافقة"(23).

قال القاسمي: "أي: لما فيها من الأحكام. وتكرير ذلك لزيادة التقرير"(24).

(1) المسند (3/ 128) وصحيح البخاري برقم (6894) وصحيح مسلم برقم (1675).

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 121 - 122.

(3)

التفسير الميسر: 116.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 64.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 208.

(6)

الوجيز: 321.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 127.

(8)

محاسن التأويل: 4/ 154.

(9)

تفسير السعدي: 233.

(10)

البيت بلا نسبة في: "لسان العرب" 6/ 3708، و"أساس البلاغة" ص 2/ 269، والتفسير البسيط: 3/ 128.

(11)

انظر: تهذيب اللغة" 3/ 3013، "المحرر الوجيز" 1/ 385، والتفسير البسيط: 3/ 128، واللسان" 6/ 3708 مادة (قفا).

(12)

التفسير الميسر: 116.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 208.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 127، ونقله بتمامه القاسمي في محاسن التأويل: 4/ 154.

(15)

تفسير السعدي: 233.

(16)

الوجيز: 321.

(17)

التفسير الميسر: 116.

(18)

تفسير ابن كثير: 3/ 127.

(19)

محاسن التأويل: 4/ 154.

(20)

تفسير السعدي: 233.

(21)

انظر: الكشاف: 1/ 639.

(22)

التفسير الميسر: 116.

(23)

تفسير السعدي: 233.

(24)

محاسن التأويل: 4/ 154.

ص: 231

قال ابن كثير: " أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: {وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة"(1).

وفي قوله تعالى: : {وَمُصَدِّقًا} [المائدة: 46]، وجهان (2):

أحدهما: أن يكون لعيسى وتعطفه على مصدقا الأول.

والثاني: أن يكون حالا من الإنجيل، ويكون التقدير: وآتيناه الإنجيل مستقرا فيه هدى ونور ومصدقا.

قوله تعالى: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46]، أي:" وقد جعلناه بيانًا للذين يخافون الله وزاجرًا لهم عن ارتكاب المحرَّمات"(3).

قال الواحدي: " معناه: وهادياً وواعظاً"(4).

قال ابن كثير: " أي: وجعلنا الإنجيل {هُدًى} يهتدى به، {وَمَوْعِظَةً} أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم {لِلْمُتَّقِينَ} أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه"(5).

قال القرطبي: أي: " هاديا وواعظا {للمتقين}، وخصهم لأنهم المنتفعون بهما"(6).

قال السعدي: أي: " فإن [المتقين] الذين ينتفعون بالهدى، ويتعظون بالمواعظ، ويرتدعون عما لا يليق"(7).

قال الشيخ ابن عثيمين: " و «التقوى»: اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه"(8).

الفوائد:

1 -

أن التوراة والإنجيل: كتابان أنزلا على موسى وعيسى عليهما السلام، - على الترتيب - إلى بني إسرائيل.

2 -

ومن الفوائد أن التوراة كانت مضموماً إليها تعديلات الإنجيل شريعة وعقيدة، قال تعالى:{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 46 - 47]، لكن الذي حدث هو أن هذه الشريعة لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام لسببين متلازمين:

الأول: أنه لم يقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، إذ من المعلوم أن عيسى عليه السلام، توفاه الله ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة.

والثاني: أنه، عليه السلام، قد بعث إلى قوم قساة القلوب غلاظ الأكباد، وفي الوقت نفسه كانت المنطقة المبعوث فيها جزءاً من مستعمرات إمبراطورية وثنية عاتية، فكان ميلاد الدين الجديد في محيط معاد كل العداء له ولرسوله ونتج عن ذلك اضطهاد فظيع للمؤمنين به لم يدع لهم فرصة لتطبيقه إلا في النطاق الشخصي الضيق.

وكان أول من وضع العراقيل أمام دعوة المسيح وشريعته اليهود قتلة الأنبياء، وتكاد الأناجيل والرسائل تكون وصفاً للعنت الذي لقيه المسيح وأتباعه من الطوائف اليهودية، وقد

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 127.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 208 - 209.

(3)

التفسير الميسر: 116.

(4)

الوجيز: 321.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 127.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 209.

(7)

تفسير السعدي: 233.

(8)

تفسير ابن عثيمين، الفاتحة والبقرة: 1/ 28.

ص: 232

جللوا عداوتهم بإغراء الحاكم الرومانى بقتله وصلبه، ولكن الله تعالى رفعه إليه ونجاه منهم ومنه (1).

3 -

ومن فوائد الآية: فضيلة التقوى، وأنها من أسباب الاهتداء والاتعاض.

4 -

ومنها: أن المواعظ قسمان:

- كونية: وذلك مثل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66]، فالموعظة هنا كونية قدرية؛ لأن الله أحل بهم العقوبة التي تكون نكالاً لما بين يديها، وما خلفها، وموعظة للمتقين.

- وشرعية: وأما الشرعية فمثل قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور} [يونس: 57]؛ والمواعظ الكونية أشد تأثيراً لأصحاب القلوب القاسية؛ أما المواعظ الشرعية فهي أعظم تأثيراً في قلوب العارفين بالله اللينة قلوبهم؛ لأن انتفاع المؤمن بالشرائع أعظم من انتفاعه بالمقدورات (2).

القرآن

{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} [المائدة: 47]

التفسير:

وليحكم أهل الإنجيل الذين أُرسِل إليهم عيسى بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الخارجون عن أمره، العاصون له.

قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47]، أي:" وليحكم أهل الإنجيل الذين أُرسِل إليهم عيسى بما أنزل الله فيه"(3).

قال مقاتل: " من الأحبار والرهبان بما أنزل الله فيه يعني في الإنجيل من العفو عن القاتل أو الجارح والضارب"(4).

قال الخطيب الإسكافي: " قيل لهم في ذلك الزمان وأمروا أن يحكموا به"(5).

قال الواحدي: " أَيْ: وقلنا لهم: ليحكموا بهذا الكتاب في ذلك الوقت"(6).

قال الزمخشري: " ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم"(7).

قال ابن كثير: "، أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية [المائدة: 68]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] "(8).

قال مقاتل بن حيان: " فأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما أنزل الله في التوراة قبل أن ينزل الإنجيل فكفر من كفر من أهل التوراة والإنجيل، فكذبهم محمدا صلى الله عليه وسلم بقولهم: أن عزير ابن الله، والمسيح ابن مريم ابن الله، وأن الله ثالث ثلاثة، وأن عيسى هو الله،

(1).انظر: العلمانية، نشأتها وتطورها: 58

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 228.

(3)

التفسير الميسر: 116.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 481.

(5)

درة التنزيل وغرة التأويل: 1/ 465.

(6)

الوجيز: 322.

(7)

الككشاف: 2/ 199.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 126.

ص: 233

وأن يد الله مغلولة، وأن الله فقير وهم أغنياء، ولو أنهم حكموا بالرجم والقصاص والجراحات لكانوا كفارا بالله بتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم وقولهم على الله الكذب والبهتان" (1).

وقيل: "إن عيسى عليه السلام كان متعبدا بما في التوراة من الأحكام لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة. وظاهر قوله {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} يرد ذلك، وكذلك قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وإن ساغ لقائل أن يقول: معناه: وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة"(2).

قال الجصاص: " قوله تعالى: {وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه}: فيه دلالة على أن ما لم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت، على معنى أنه صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {وليحكم أهل الأنجيل بما أنزل الله فيه} ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صار شريعة له; لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم غير متبعين له لكانوا كفارا، فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي عليه السلام"(3).

قرأ الأعمش وحمزة: «وليحكم» ، بكسر اللام وفتح الميم، على معنى «كي» ، فكأنه قال: وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه.

قال القرطبي: " ومن قرأه على الأمر فهو كقوله: {وأن احكم بينهم} [المائدة: 49]، فهو إلزام مستأنف يبتدأ به، أي ليحكم أهل الإنجيل أي في ذلك الوقت، فأما الآن فهو منسوخ.

وقيل: هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول" (4).

وقرأ الباقون {وليحكم} بإسكان اللام وجزم الميم، على معنى الأمر، تقديره: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه (5).

قال مكي: "والاختيار الجزم، لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل"(6).

قال الطبري: " قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ"(7).

وقال النحاس: " والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان، لأن الله تعالى لم ينزل كتابا إلا ليعمل فيما فيه وأمر بالعمل بما فيه فصحتا جميعا"(8).

قال الزجاج: " و «الإنجيل»، القراءة فيه بكسر الهمزة، ورويت عن الحسن: «الأنجيل»، بفتح الهمزة، وهذه قولة ضعيفة، لأن «أنجيل»، أفعيل، وليس في كلام العرب هذا المثال"(9).

قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، أي:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الخارجون عن أمره، العاصون له"(10).

قال مقاتل: " ومن لم يحكم بما أنزل الله في الإنجيل من العفو واقتص من القاتل والجارح والضارب، {فأولئك هم الفاسقون} ـ يعنى: العاصين لله- عز وجل"(11).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6458): ص 4/ 1148.

(2)

الكشاف: 1/ 639.

(3)

أحكام القرآن: 2/ 552.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 209.

(5)

انظر: السبعة في القراءات: 244، ومعاني القرآن للفراء: 1/ 312، وزاد المسير: 1/ 554.

(6)

نقلا عن: تفسير القرطبي: 6/ 209.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 374.

(8)

إعراب القرآن: 1/ 270.

(9)

معاني القرآن: 2/ 180.

(10)

التفسير الميسر: 116.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 481.

ص: 234

قال ابن كثير: " أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق. وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى، وهو ظاهر السياق"(1).

قال البراء: " فأنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها"(2).

قال عبدالرحمن بن زيد بن اسلم: " هذا الحكم لكتابه قال: ومن لم يحكم أيضا في أهل الإنجيل بذلك فأولئك هم الفاسقون"(3).

وقال أيضا: " كل شيء في القرآن إلا قليلا {فاسق}، فهو كاذب. وقرأ قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [سورة الحجرات: 6] قال: «الفاسق»، ههنا، كاذب "(4).

وقال الحسن: " أنزلت في أهل الكتاب أنهم تركوا أحكام الله كلها في هذه الآية: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} "(5).

وعن الشعبي: " {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، قال: أنزلت في النصارى"(6).

وعن عطاء في قوله: " {فأولئك هم الفاسقون}، قال: فسق دون فسق"(7). وروي عن ابن طاوس مثل ذلك (8).

وعن مجاهد: " {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، العاصون"(9).

وعن إبراهيم: " {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، الآيات. قال: نزلت في بني إسرائيل ورضي بها لهؤلاء"(10).

قال الزمخشري: " وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله

وتقريره: هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد، وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها" (11).

و«الفسق» لغة: الخروج عن الشيء، أو القصد، وهو الخروج عن الطاعة، والفسق: الفجور، والعرب تقول: إذا خرجت الرطبة من قشرها: قد فسقت الرطبة من قشرها، وفسق فلان في الدنيا فسقاً: إذا اتسع فيها، وهوّن على نفسه، واتسع بركونها لها، لم يضيّقها عليه، ورجل فاسق، وفسيق وفُسَق: دائم الفِسْق، والفويسقة الفأرة: تصغر فاسقة، لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها، والتفسيق ضدّ التّعديل (12).

وأما المقصود بالفسق اصطلاحًا: فقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك، على النحو الآتي:

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 127.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6461): ص 4/ 1148.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6460): ص 4/ 1148.

(4)

أخرجه الطبري (12103): ص 10/ 376.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6462): ص 4/ 1148.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6463): ص 4/ 1149.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6464): ص 4/ 1149.

(8)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1149. ذكره دون إسناد.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6465): ص 4/ 1149.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6467): ص 4/ 1149.

(11)

الككشاف: 2/ 199.

(12)

انظر: اللسان (10/ 308) ومعجم مقاييس اللغة (2/ 502)، والمصباح المنير للفيومي ص (568)، وترتيب القاموس المحيط للزاوي (4/ 502)، ومفردات الراغب ص (572).

(2)

تفسير ابن عطية (1/ 155).

ص: 235

أولا: - قال ابن عطية: 'الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان " (1). وكذا قاله الطبري (2)، والقرطبي (3).

وقد روي "عن ابن عباس في قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة البقرة: 59]، أي بما بعُدوا عن أمري"(4).

قال الشوكاني: عن هذا التعريف: " وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض "(5).

والثاني: - وقال ابن كثير: والفاسق: هو الخارج عن الطاعة. تقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد (6).

وثبت في الصحيحين، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خمس فواسق يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور"(7).

والثالث: - وقال البيضاوي: " الفاسق الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة "(8).

والرابع: - وقال الألوسي: "الفسق شرعًا: خروج العقلاء عن الطاعة، فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة، واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة، فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرًا بقرينة "(9).

ومن خلال التعريفات السابقة: ندرك عموم مصطلح الفسق، فهو في الأصل – أعمّ من الكفر - (10) حيث يشمل الكفر وما دونه من المعاصي، ولكن خصّه العرف بمرتكب الكبيرة، ولذا يقول الراغب الأصفهاني:" والفسق يقع بالقليل من الذنوب والكثير، ولكن تعورف فيما كان كثيراً"(11).

الفوائد:

1 -

أن أن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والعرافين ونحوهم ينافي الإيمان بالله عز وجل، وهو كفر وظلم وفسق.

2 -

الرد على من يقول: إننا نجد في القرآن الكريم آيات تشهد بصدق التوراة -كما هي اليوم- وتشهد بصدق الإنجيل -كما هو اليوم- وتؤكد أن الكتابين لم يصابا بتحريف، ولا تزييف، من مثل قول القرآن {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43]، وقوله:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47].

قلنا له (12):

(1) انظر: اللسان (10/ 308) ومعجم مقاييس اللغة (2/ 502)، والمصباح المنير للفيومي ص (568)، وترتيب القاموس المحيط للزاوي (4/ 502)، ومفردات الراغب ص (572).

(2)

تفسير ابن عطية (1/ 155).

(2)

أنظر: تفسيره: 1/ 409 - 410.

(3)

تفسير القرطبي (1/ 245).

(4)

أخرجه الطبري (571): ص 1/ 409 - 410.

(5)

فتح القدير (1/ 57).

(6)

تفسير ابن كثير: 1/ 209.

(7)

صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).

(8)

- تفسر البيضاوي (1/ 41) وانظر: تفسير أبي السعود (1/ 131).

(9)

تفسير الألوسي (1/ 210).

(10)

انظر: تفسير ابن كثير (1/ 63)، ومفردات الراغب ص (572)، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي (2/ 72)، والكليّات للكفوي ص:(693).

(11)

المفردات ص (572).

(12)

انظر: مناظرة بين الإسلام والنصرانية: 408 - 409.

ص: 236

أولًا: نصدر الإجابة بآيات كريمة من القرآن الكريم تؤكد أن أصابع العبث امتدت إلى هذه الكتب، كقوله تعالى: - {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 75 - 79].

وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 13 - 15].

وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة: 41].

وقد روى أحمد من حديث جابر - مرفوعًا-: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا» (1).

فهذه النصوص الكريمة- قرآنية أو حديثية- تفيد أن القوم قد حرفوا كتبهم، ونسوا حظًّا من وحي الله وهداه، . . . وإن هذه الكتب- بعد أن أصابها ما أصابها- لم تعد قادرة على إعطاء الإنسان رشده وهداه وتقواه. . .!

ثانيًا: أنه ما زال في كتب القوم شيء من الحق، وإن كان قد بدلت وغيرت ألفاظه، إما بحكم الترجمة، أو بدافع الأغراض الشخصية.

وإذا قرأنا الآيتين الثالثة والأربعين، والسابعة والأربعين من سورة المائدة، وهما الآيتان اللتان استدل بهما المستدل، في سياقهما من السورة، لزال كثير من الغموض، ولاتضحت الحقيقة جلية سافرة. والله أعلم.

القرآن

(1) أخرجه احمد (14631): ص 22/ 468. إسناده ضعيف لضعف مجالد: وهو ابن سعيد. يونس: هو ابن محمد المؤدب.

وأخرجه البزار (124 - كشف الأستار)، وأبو يعلى (2135)، والبيهقي في "السنن" 2/ 10 - 11، وفي "الشعب"(179) من طرق عن حماد بن زيد، بهذا الإسناد.

وسيأتي برقم (15156) من طريق هشيم، عن مجالد.- وفيه قصة لعمر بن الخطاب، وانظر تمام تخريجه هناك.

وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" و (10158) و (19209) عن ابن جريج، قال: حدثت عن زيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد أضلوا أنفسهم". وهذا إسناد ضعيف لإبهام الواسطة بين ابن جريج وزيد بن أسلم، ولإرساله، فإن رواية زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة.

وأخرج عبد الرزاق أيضا (10162) و (19212) من طريق عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير، قال: قال عبد الله: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، فتكذبوا بحق، وتصدقوا الباطل

وإسناده - على وقفه- ضعيف لجهالة حريث بن ظهير.

وأخرج البخاري في "صحيحه"(2685) عن ابن عباس قال: يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب؟ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا! أفلا ينهاكم بما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا قط يسألكم عن الذي أنزل عليكم.

ص: 237

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)} [المائدة: 48]

التفسير:

وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن، وكل ما فيه حقّ يشهد على صدق الكتب قبله، وأنها من عند الله، مصدقًا لما فيها من صحة، ومبيِّنًا لما فيها من تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها، فاحكم بين المحتكمين إليك من اليهود بما أنزل الله إليك في هذا القرآن، ولا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهوائهم وما اعتادوه، فقد جعلنا لكل أمة شريعة، وطريقة واضحة يعملون بها. ولو شاء الله لجعل شرائعكم واحدة، ولكنه تعالى خالف بينها ليختبركم، فيظهر المطيع من العاصي، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين بالعمل بما في القرآن، فإن مصيركم إلى الله، فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون، ويجزي كلا بعمله.

قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 48]، أي:" وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن، وكل ما فيه حقّ"(1).

قال ابن عباس: " فهو: القرآن"(2).

قال مقاتل: " يعني: القرآن بالحق، لم ننزله عبثا ولا باطلا لغير شيء"(3).

قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48]، أي:" أي مصدّقاً للكتب السماوية التي سبقته"(4).

قال الماوردي: " يعني: لما قبله من الكتاب "(5).

قال السمعاني: " يعني: سائر الكتب المنزلة قبله"(6).

قال ابن عباس: " فهو القرآن شاهد على التوراة والإنجيل مصدقا بهما"(7).

وروي عن قتادة قال: "الكتب التي خلت قبله"(8).

وقال الكلبي: " موافقا لها"(9).

قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، أي:" ومبيِّنًا لما فيها من تحريف، ناسخًا لبعض شرائعها"(10).

قال مقاتل: " يقول: وشاهدا عليه وذلك إن قرآن محمد- صلى الله عليه وسلم شاهد بأن الكتب التي أنزلت قبله أنها من الله- عز وجل"(11).

قال السعدي: " أي: مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه، وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو

(1) التفسير الميسر: 116.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (6469): ص 4/ 1149.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 481.

(4)

صفوة التفاسير: 319.

(5)

النكت والعيون: 2/ 44.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 43.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6471): ص 4/ 1150.

(8)

تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1150. ذكره دون إسناد.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 45.

(10)

التفسير الميسر: 116.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 481.

ص: 238

المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه" (1).

وفي قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وجوه من التفسير:

أحدها: يعني مؤتمنًا عليه، وهو قول ابن عباس (2)، وعكرمة (3)، والحسين (4)، وسعيد بن جبير (5)، وعطاء الخراساني (6).

والثاني: يعني شاهداً عليه، وهو قول ابن عباس في رواية أخرى (7)، والسدي (8).

والثالث: أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت من قبله. وهذا قول قتادة (9).

والرابع: مؤتمنًا على القرآن، وشاهدًا ومصدِّقًا. وهذا قول مجاهد في إحدى الروايات (10).

والخامس: مصدقا عليه، والمهيمن: المصدق، فكل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق. وهذا قول ابن زيد (11).

والسادس: وقال مجاهد: " محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن"(12).

قال الطبري: " وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ. وذلك أنّ المهيمن عطفٌ على المصدق، فلا يكون إلا من صفة ما كان المصدِّق صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد، لقيل: وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا عليه، لأنه لم يتقدم من صفة الكاف التي في إليك بعدَها شيءٌ يكون مهيمنًا عليه عطفًا عليه، وإنما عطف به على المصدق، لأنه من صفة الكتاب الذي من صفته المصدق"(13).

والسابع: حاكما على ما قبله من الكتب. وهذا قول ابن عباس (14)، وعبدالله بن الزبير (15).

والثامن: رقيبا حفيظاً عليه. قاله أبو عبيدة (16).

قال ابن كثير: " وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فأما ما حكاه ابن أبي حاتم، عن عكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، وابن أبي نَجيح عن مجاهد؛ أنهم قالوا في قوله:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن، فإنه صحيح في المعنى، ولكن في

(1) تفسير السعدي: 234.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12107) - (12118): ص 10/ 378 - 380.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12120): ص 10/ 380.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12120): ص 10/ 380.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12119): ص 10/ 380.

(6)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1150. ذكره دون إسناد.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12103): ص 10/ 377، وتفسير ابن أبي حاتم (6472): ص 4/ 1149.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12104): ص 10/ 377.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12105): ص 10/ 378.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12106): ص 10/ 378.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12121): ص 10/ 380.

(12)

أخرجه الطبري (12123)، و (12123): ص 10/ 380 - 381.

(13)

تفسير الطبري: 10/ 381.

(14)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 127. في رواية العوفي عنه.

(15)

انظر: تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 32.

(16)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 43، والنكت والعيون: 2/ 45.

ص: 239

تفسير هذا بهذا نظر، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر. وبالجملة فالصحيح الأول (1) " (2).

قال السمعاني: " والمعاني متقاربة، ومعنى الكل أن كل كتاب يصدقه القرآن، ويشهد بصدقه، فهو كتاب الله"(3).

وقرئ: «ومهيمنا» - بفتح الميم الثانية – قال الزجاج: "وهي عربية ولا أحب القراءة

بها، لأن الإجماع في القراءة على كسر الميم في قوله:{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] " (4).

قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]، أي:" فاحكم بين المحتكمين إليك من اليهود بما أنزل الله إليك في هذا القرآن"(5).

قال السدي: " أمر محمدا على أن يحكم بينهم"(6).

وعن بن عباس قوله: " {فاحكم بينهم بما أنزل الله}، قال: بحدود الله عز وجل"(7).

قال السعدي: " أي: من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك"(8).

قال ابن كثير: " أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عَرَبهم وعجمهم، أُميهم وكتابيهم {بِمَا أَنزلَ اللَّهُ} إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك "(9)

قال الماوردي: " هذا يدل على وجوب الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إلينا، وألا نحكم بينهم بتوراتهم ولا بإنجيلهم "(10).

قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]، أي:" ولا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهوائهم وما اعتادوه"(11).

قال مقاتل: " يعني: أهواء اليهود عما جاءك من الحق وهو القرآن"(12).

قال ابن كثير: " أي: آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله؛ ولهذا قال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}، أي: لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء"(13)

قال السعدي: " أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير"(14).

قال ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم. فردهم إلى أحكامهم فنزلت: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا"(15).

قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، أي:"، فقد جعلنا لكل أمة شريعة، وطريقة واضحة يعملون بها"(16).

(1) أي: " مؤتمنًا عليه".

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 128.

(3)

تفسير المسعاني: 2/ 43.

(4)

معاني القرآن: 2/ 179.

(5)

التفسير الميسر: 116.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (6479): ص 4/ 1151.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (6480): ص 4/ 1151.

(8)

تفسير السعدي: 234.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 129.

(10)

النكت والعيون: 2/ 44.

(11)

التفسير الميسر: 116.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 481.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 129.

(14)

تفسير السعدي: 234.

(15)

أخرجه ابن أبي حاتم (6481): ص 4/ 1151.

(16)

التفسير الميسر: 116.

ص: 240

قال الزمخشري: أي: " شريعة وطريقا واضحا في الدين تجرون عليه، وقيل: هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا"(1).

قال ابن عباس: " يعني: سبيلا وسنةً "(2)، وروي عن الحسن (3)، ومجاهد (4)، والضحاك (5)، وقتادة (6)، والسدي (7)، نحو ذلك.

قال السعدي: " {لكل جعلنا منكم} أيها الأمم جعلنا {شرعة ومنهاجا} أي: سبيلا وسنة، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان، فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع"(8).

قال مقاتل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} : " يعنى: من المسلمين وأهل الكتاب {شرعة}، يعني: سنة، {ومنهاجا}، يعني: طريقا وسبيلا، فشريعة أهل التوراة في قتل العمد القصاص ليس لهم عقل (9) ولا دية، والرجم على المحصن والمحصنة إذا زنيا. وشريعة الإنجيل في القتل العمد العفو ليس لهم قصاص ولا دية، وشريعتهم في الزنا الجلد بلا رجم. وشريعة أمة محمد- صلى الله عليه وسلم في قتل العمد القصاص والدية والعفو، وشريعتهم في الزنا: إذا لم يحصن الجلد، فإذا أحصن فالرجم"(10).

و«الشرعة» : هي الشريعة، وهي الطريقة الظاهرة، وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة، ومنه قيل لشريعة الماء: شريعة، لأنها أظهر طرقه إليه، ومنه قولهم: أُشْرِعَتِ الأسنة إذا ظهرت، ومنه سميت شرائع الإسلام شرائع، لشروع أهله فيه (11).

وأما «المنهاج» : فإنّ أصله: الطريقُ البيِّن الواضح، يقال: طريق نهج ومنهج، قال الزاجر (12):

مَن يَكُ ذَا شَكٍّ فهذَا فَلْجُ

مَاءٌ رُوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ

ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا

فيكون معنى قوله: {شرعة ومنهاجاً} ، لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه، وسبيلا واضحًا يعمل به (13).

(1) الكشاف: 1/ 640.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12130) - (12137): ص 10/ 386 - 388.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12138): ص 10/ 388.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12139) - (12141): ص 10/ 388.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12147): ص 10/ 389.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12146): ص 10/ 389.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12143): ص 10/ 388 - 389.

(8)

تفسير السعدي: 234.

(9)

العقل: هو أن تشترك أسرة القاتل فى سداد دية المقتول وتسمى الأسرة عاقلة لأنها تعقل عن الجاني جناية وتؤديها عنه.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 481 - 482.

(11)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 383، النكت العيون: 2/ 45.

(12)

انظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 168، وتفسير الطبري: 10/ 383، ومعجم ما استعجم: 1027، واللسان (روي)، وروايتهم جميعًا: من يك ذا شك.

وفلج (بفتح فسكون): ماءه لبني العنبر بن عمرو بن تميم، يكثر ذكره في شعر بني تميم، ويمتدحون ماءه، قال بعض الأعراب:

أَلا شَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ مُزْنٍ عَلَى الصَّفَا

حَدِيثَهُ عَهْد بالسَّحَاب المُسَخَّرِ

إلَى رَصَفٍ مِنْ بَطْنِ فَلْجٍ، كأَنَّهَا

إذَا ذُقْتَهَا بَيُّوتَةً مَاءُ سُكَّرِ

وماء رواء (بفتح الراء): الماء العذب الذي فيه للواردين ري.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 383، النكت العيون: 2/ 45.

ص: 241

وذكر أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وجهان:

أحدهما: أنه عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة، أي: أن الله جعل لكل مِلّةٍ شريعة ومنهاجًا. وهذا قول علي (1)، وقتادة (2).

عن قتادة قوله: " {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا}، يقول: سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل"(3).

رجحه ابن كثير، وقال:" ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} وهم أمة واحدة، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم"(4).

والثاني: أنه عنى بذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أيها الناس، لكُلِّكم أي لكل من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيٌّ شرعةً ومنهاجا. وهذا قول مجاهد (5).

عن مجاهد قوله: " {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا}، قال: سنة، ومنهاجًا، السبيل لكلكم، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج"(6).

قال الطبري: " وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لقوله:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ولو كان عنى بقوله: لكل جعلنا منكم، أمة محمد، وهم أمّة واحدةٌ، لم يكن لقوله: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك، على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم - في توحيد الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه - واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم" (7).

وقرأ يحيى بن وثاب: «شرعة» بفتح الشين (8).

(1) انظر: تفسير الطبري (12127): ص 10/ 385.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12126): ص 10/ 385.

(3)

أخرجه الطبري (12126): ص 10/ 385.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 129.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12129): ص 10/ 386.

(6)

أخرجه الطبري (12129): ص 10/ 386.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 386.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 640.

ص: 242

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، أي:" ولو شاء الله لجعل شرائعكم واحدة"(1).

قال ابن ابي زمنين: " يعني: ملة واحدة"(2).

قال الزمخشري: أي: " جماعة متفقة على شريعة واحدة، أو ذوى أمة واحدة أى دين واحد لا اختلاف فيه"(3).

قال السعدي: أي: " تبعا لشريعة واحدة، لا يختلف متأخرها ولا متقدمها"(4).

وفي قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، وجهان:

أحدهما: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى. وهذا قول الضحاك (5).

الثاني: لجمعكم على الحق، وهذا قول الحسن (6).

قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48]، أي:" ولكنه تعالى خالف بينها ليختبركم، فيظهر المطيع من العاصي"(7).

قال: ابن جريج: " قال ابن كثير: ما أعمله إلا في ما آتاكم من الكتاب"(8).

قال ابن ابي زمنين: أي: "ليختبركم فيما أعطاكم من الكتاب والسنة"(9).

قال السعدي: أي: " فيختبركم وينظر كيف تعملون، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته، ويؤتي كل أحد ما يليق به، وليحصل التنافس بين الأمم فكل أمة تحرص على سبق غيرها"(10).

قال الزمخشري: أي: " من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها مذغنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ "(11).

قال ابن كثير: " أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة، ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله "(12).

قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، أي:" فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين بالعمل بما في القرآن"(13).

قال الضحاك: " أمة محمد صلى الله عليه وسلم"(14).

قال مقاتل: " يقول: سارعوا في الأعمال الصالحة «يا أمة محمد» فيما ذكر من السبيل والسنة"(15).

قال الزمخشري: أي: " فابتدروها وتسابقوا نحوها"(16).

(1) التفسير الميسر: 116.

(2)

تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 32.

(3)

الكشاف: 1/ 640.

(4)

تفسير السعدي: 234.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6489): ص 4/ 1152.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 45.

(7)

التفسير الميسر: 116.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6490): ص 4/ 1153.

(9)

تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 32.

(10)

تفسير السعدي: 234.

(11)

الكشاف: 1/ 640.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(13)

التفسير الميسر: 116.

(14)

أخرجه ابن ابي حاتم (6491): ص 4/ 1153.

(15)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 482.

(16)

الكشاف: 1/ 640.

ص: 243

قال ابن كثير: " وهي طاعة الله واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله "(1).

قال السعدي: " أي: بادروا إليها وأكملوها، فإن الخيرات الشاملة لكل فرض ومستحب، من حقوق الله وحقوق عباده، لا يصير فاعلها سابقا لغيره مستوليا على الأمر، إلا بأمرين: المبادرة إليها، وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها، والاجتهاد في أدائها كاملة على الوجه المأمور به. ويستدل بهذه الآية، على المبادرة لأداء الصلاة وغيرها في أول وقتها، وعلى أنه ينبغي أن لا يقتصر العبد على مجرد ما يجزئ في الصلاة وغيرها من العبادات من الأمور الواجبة، بل ينبغي أن يأتي بالمستحبات، التي يقدر عليها لتتم وتكمل، ويحصل بها السبق"(2).

قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48]، أي:"فإن مصيركم إلى الله"(3).

قال الضحاك: " البر والفاجر"(4).

قال الزمخشري: "استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات"(5).

قال ابن كثير: " أي: معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة"(6).

قال السعدي: أي: " الأمم السابقة واللاحقة، كلهم سيجمعهم الله ليوم لا ريب فيه"(7).

قوله تعالى: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48]، أي:"فيخبركم بما كنتم فيه تختلفون، ويجزي كلا بعمله"(8).

قال ابن كثير: " أي: فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق، فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة"(9).

قال الزمخشري: "فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرطكم في العمل"(10).

قال السعدي: أي: " من الشرائع والأعمال، فيثيب أهل الحق والعمل الصالح، ويعاقب أهل الباطل والعمل السيئ"(11).

قال الربيع بن أنس: "يبعثهم الله من بعد الموت فيبعث أولياءه وأعداءه فينبئهم بأعمالهم"(12).

الفوائد:

1 -

وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة.

2 -

لا يحوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة.

3 -

أن القرآن جاء بموافقة التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء في الخبر عن الله -تعالى- وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك تفصيلا وبيانا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(2)

تفسير السعدي: 234.

(3)

التفسير الميسر: 116.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6492): ص 4/ 1153.

(5)

الكشاف: 1/ 640.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(7)

تفسير السعدي: 234.

(8)

التفسير الميسر: 116.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(10)

الكشاف: 1/ 640.

(11)

تفسير السعدي: 234.

(12)

أخرجه ابن ابي حاتم (6493): ص 4/ 1153.

ص: 244

بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها.

وهذا معنى كون القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب كما قال -تعالى-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} .

4 -

أن الله تعالى حفظ القرآن من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل، فبقي كما أنزله الله إلى يوم القيامة، فهو كله حق من عند الله، ولم يحفظ غيره من الكتب فدخلت عليها الزيادة والنقص والتحريف والتبديل ففيها حق وفيها باطل، لقوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} .

5 -

بيان الحكمة من اختلاف الشرائع، وهو الابتلاء.

القرآن

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} [المائدة: 49]

التفسير:

واحكم -أيها الرسول- بين اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن، ولا تتبع أهواء الذين يحتكمون إليك، واحذرهم أن يصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك فتترك العمل به، فإن أعرض هؤلاء عمَّا تحكم به فاعلم أن الله يريد أن يصرفهم عن الهدى بسبب ذنوبٍ اكتسبوها من قبل. وإن كثيرًا من الناس لَخارجون عن طاعة ربهم.

في سبب نزول الآية والتي بعدها وجهان:

أحدهما: عن سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس-رضي الله عنهما:" قال كعب بن أسد، وابن صوريا وشأس بن قيس، بعضُهم لبعضٍ: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنَّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنَّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومِنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} إلى قوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) "(2). [ضعيف]

والثاني: عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيراً: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم؛ فردهم إلى أحكامهم؛ فنزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ

(1)[سورة المائدة: 50].

(2)

أخرجه ابن إسحاق في "المغازي"(2/ 196، 197 - ابن هشام)، وأخرجه الطبري (12150): ص 10/ 393، وابن أبي حاتم (6498): ص 4/ 1154، والبيهقي في "الدلائل"(2/ 536) من طريق ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما به. وإسناده حسن.

وقيل: سنده ضعيف؛ لجهالة شيخ ابن إسحاق محمد هذا؛ كما قال الحافظان الذهبي والعسقلاني. [انظر: الاستيعاب في بيان الأسباب: 2/ 57].

وأخرجه ابن جرير (12156): ص 10/ 395 - 396، وابن أبي شيبة (فتح القدير: 2/ 52) عن عطية به. وإسناده صحيح إليه، وهو مقطوع، ويشهد له:

1 -

ما أخرجه ابن جرير (12158): ص 10/ 396 - 397، وابن أبي حاتم (6506): ص 4/ 1155، وابن المنذر وأبو الشيخ وابن عساكر كما في فتح القدير: 2/ 52، والبيهقي في "الدلائل"(3/ 74) من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت بنحوه، وهو معضل، صحيح الإسناد إلى عبادة بن الوليد.

2 -

ما أخرجه ابن مردويه (فتح القدير: 2/ 52) من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده بنحوه.

ص: 245

بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا" (1). [صحيح]

قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، أي:" واحكم -أيها الرسول- بين اليهود بما أنزل الله إليك في القرآن"(2).

عن ابن عباس: " {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}، قال: بحدود الله"(3).

وعن عطية: " {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}، قال: في كتابه"(4).

عن ابن عباس: " {فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم}، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا في هذه الآية حتى نزلت: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} "(5).

قال قتادة: " فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بعد ما كان قد رخص له أن يعرض عنهم إن شاء، فنسخت هذه الآية التي كانت قبلها"(6).

قال السعدي: " هذه الآية هي التي قيل: إنها ناسخة لقوله: {فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} .

والصحيح: أنها ليست بناسخة، وأن تلك الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه، وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم للحق. وهذه الآية تدل على أنه إذا حكم، فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من الكتاب والسنة، وهو القسط الذي تقدم أن الله قال:{وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} ودل هذا على بيان القسط، وأن مادته هو ما شرعه الله من الأحكام، فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط، وما خالف ذلك فهو جور وظلم" (7).

قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، أي:" ولا تتبع أهواء الذين يحتكمون إليك"(8).

قال الشافعي: " يحتمل: تساهلهم في أحكامهم، ويحتمل: ما يهوون، وأيهما كان فقد نهي

عنه، وأمر أن يحكم بينهم بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم –" (9).

قال السعدي: " كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها. ولأن ذلك في مقام الحكم والفتوى، وهو أوسع، وهذا في مقام الحكم وحده، وكلاهما يلزم فيه أن لا يتبع أهواءهم المخالفة للحق"(10).

قوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، أي:" واحذرهم أن يصدُّوك عن بعض ما أنزل الله إليك فتترك العمل به"(11).

قال ابو يزيد بن اسلم: " أن يقولوا في التوراة كذا، قال: وبين له ما في التوراة"(12).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم: (6494): ص 4/ 1153، والطبراني في "الكبير" (11054): ص 11/ 53، والنحاس في "الناسخ والمنسوخ"(ص 123)، والحاكم (2/ 312)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 80 رقم 6369 وص 295 رقم 7219) والطحاوي في "مشكل الآثار"(11/ 437/ 4540)، والبيهقي (8/ 248 - 249) جميعهم من طريق عباد بن العوام نا سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس به.

قلنا: وهذا إسناد صحيح رجاله رجال مسلم.

قال النحاس: وهذا إسناد مستقيم.

وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

(2)

التفسير الميسر: 116.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6496): ص 4/ 1153.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6497): ص 4/ 1154.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6501): ص 4/ 1154.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6502): ص 4/ 1154.

(7)

تفسير السعدي: 234.

(8)

التفسير الميسر: 116.

(9)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 756.

(10)

تفسير السعدي: 234.

(11)

التفسير الميسر: 116.

(12)

أخرجه ابن ابي حاتم (6499): ص 4/ 1154.

ص: 246

قال ابن كثير: " أي: احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور، فلا تغتر بهم، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة"(1).

قال السعدي: " أي: إياك والاغترار بهم، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل [الله] إليك، فصار اتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب، والفرض اتباعه"(2).

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} [المائدة: 49]، أي:" فإن أعرض هؤلاء عمَّا تحكم به"(3).

عن ابن عباس: " {فإن تولوا}، يعني: الكفار"(4).

قال الواحدي: " أي: فإن أعرضوا عن الإِيمان والحكم بالقرآن"(5).

قال ابن كثير" أي: عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله "(6).

قال الزمخشري: أي: " فإن تولوا عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره"(7).

قال السعدي: أي: "عن اتباعك واتباع الحق "(8).

قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، أي:"فاعلم أن الله يريد أن يصرفهم عن الهدى بسبب ذنوبٍ اكتسبوها من قبل"(9).

قال ابن كثير" أي: فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم"(10).

قال الواحدي: أي: " فاعلم أنَّ ذلك من أجل أنَّ الله يريد أن يعجِّل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم، ويجازيهم في الآخرة بجميعها ثمَّ كان تعذيبهم في الدُّنيا الجلاء والنَّفي"(11).

قال السمعاني: " وقيل: معناه: بكل ذنوبهم، فعبر بالبعض عن الكل، وقيل: معناه: يصيبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا"(12).

قال السعدي: "فإن للذنوب عقوبات عاجلة وآجلة، ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك اتباع الرسول، وذلك لفسقه"(13).

قال الزمخشري: " يعنى: بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك وأراد أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد، وأن هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها، وهذا الإيهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه. ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد (14):

أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُها

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(2)

تفسير السعدي: 234.

(3)

التفسير الميسر: 116.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6500): ص 4/ 1154.

(5)

الوجيز: 323.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(7)

الكشاف: 1/ 640.

(8)

تفسير السعدي: 234.

(9)

التفسير الميسر: 116.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(11)

الوجيز: 323.

(12)

تفسير السمعاني: 2/ 44.

(13)

تفسير السعدي: 234.

(14)

عجز بيت للبيد، ديوانه (175)، وهذا العجز في اللسان والتاج (بعض)، وصدره:

تَرَّاك أمكنِةٍ إِذا لم أَرْضَها

يقول: أنا كثير ترك الأمكنة إذا لم أرض الاقامة بها. أو يربط ويحتبس بعض النفوس، يعنى نفسه «حمامها» أى موتها المقدر لها فإذا رضيتها أو احتبسني الموت فيها فكيف أتركها؟ فقوله «يرتبط» بالجزم، عطف على المجزوم قبله. وقيل «أو» بمعنى «إلا» لكن كان حقه النصب حينئذ. ولعله سكن للضرورة. وكما أن التنوين يفيد معنى التعظيم، فكذلك كل ما فيه إبهام كالبعضية هنا، فعبر عن نفسه ببعض النفوس دلالة على التعظيم، بل ربما ادعى أنها كل النفوس مبالغة.

ص: 247

أراد نفسه: وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام، كأنه قال: نفسا كبيرة، ونفسا أى نفس، فكما أن التنكير يعطى معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض" (1).

قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]، أي:" وإن كثيرًا من الناس لَخارجون عن طاعة ربهم "(2).

عن عبدالرحمن زيد بن اسلم: " {لفاسقون}، يقول: الكاذبون"(3).

قال الزمخشري: أي: " المتمردون في الكفر معتدون فيه، يعنى أن التولي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر"(4).

قال الواحدي: " يعني: اليهود"(5).

قال ابن كثير" أي: أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم، مخالفون للحق ناؤون عنه، كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]. وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية [الأنعام: 116] "(6).

قال السعدي: أي: طبيعتهم الفسق والخروج عن طاعة الله واتباع رسوله" (7).

الفوائد:

1 -

التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق.

2 -

أكثر المصائب في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب.

3 -

ومن الفوائد: سنة الله في الخلق: أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل؛ لقوله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} .

وقد يشعر المؤمن المتقي بغربته في هذا الزمان وهو بين أهله، وبوحدته وهو بين أترابه، ليست غربة اتخذها اختياراً، ولا وحدة اصطفاها لنفسه استئثاراً، وإنما سيق لها اضطراراً، سنة اقتضتها حكمة رب عليم حكيم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"(8).

4 -

أن أن أمر هداية التوفيق والقبول، إلى الله وحده وهو القادر عليه، لقوله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وأما هداية الدلالة والبيان، فالرسول-صلى الله عليه وسلم المبين عن الله والدال على دينه وشرعه.

القرآن

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} [المائدة: 50]

التفسير:

أيريد هؤلاء اليهود أن تحكم بينهم بما تعارف عليه المشركون عبدةُ الأوثان من الضلالات والجهالات؟ ! لا يكون ذلك ولا يليق أبدًا ومَن أعدل مِن الله في حكمه لمن عقل عن الله شَرْعه، وآمن به، وأيقن أن حكم الله هو الحق؟

قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]، أي:" أيريد هؤلاء اليهود أن تحكم بينهم بما تعارف عليه المشركون عبدةُ الأوثان من الضلالات والجهالات؟ ! "(9).

قال مقاتل: " يعني: حكمهم الأول"(10).

(1) الكشاف: 1/ 641.

(2)

التفسير الميسر: 116.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6494): ص 4/ 1153.

(4)

الكشاف: 1/ 641.

(5)

الوجيز: 323.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 130.

(7)

تفسير السعدي: 234.

(8)

مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(9)

التفسير الميسر: 116.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 480.

ص: 248

قال السمرقندي: " يعني: يطلبون منك شيئا لم ينزله الله إليك في حكم الزنى والقصاص كما يفعل أهل الجاهلية"(1).

قال المراغي: " أي: أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله، فيبغون حكم الجاهلية المبنى على التحيز والهوى لجانب دون آخر وترجيح القوى على الضعيف؟ "(2).

قال البيضاوي: " المراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى"(3).

قال السعدي: " أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى"(4).

عن مجاهد: قوله: " {أفحكم الجاهلية يبغون}، يهود"(5).

قال الحسن: " يقول: من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية"(6).

عن هشام بن عروة عن أبيه قال: "كانت تسمى الجاهلية العالمية حتى جاءت امرأة قالت: يا رسول الله، كان في الجاهلية كذا وكذا، فأنزل الله ذكر الجاهلية"(7).

وفي تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]، وجوه (8):

أحدها: أن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى، وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:«القتلى بواء» (9)، فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك، فنزلت.

والثاني: أن يكون تعبيرا لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحى من الله تعالى.

والثالث: أنه عام في كل من يبغى غير حكم الله، والحكم حكمان: حكم بعلم فهو حكم الله، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان. وهذا قول الحسن (10).

وسئل طاوس: عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، فقرأ هذه الآية (11).

وقوله: {يبغون} ، يقرأ بالياء والتاء، ومعناهما واحد، يعني: أنهم إذا لم يرضوا بحكم الله، وأرادوا خلاف حكم الله، فقد طلبوا حكم الجاهلية (12).

وقرأ الحسن، وقتادة والأعمش، والأعرج:«أفحكم الجاهلية» ، بمعنى: الحاكم (13).

قال الزمخشري: " على أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به أفعى نجران، أو نظيره من حكام الجاهلية، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكما كأولئك الحكام"(14).

(1) بحر العلوم: 1/ 397.

(2)

تفسير المراغي: 1/ 123.

(3)

تفسير البيضاوي: 2/ 120.

(4)

تفسير السعدي: 234.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6503): ص 4/ 1155.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6504): ص 4/ 1155.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6502): ص 4/ 1154 - 1155.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 641.

(9)

ذكره الزمخشري في الكشاف: 1/ 641، لم أجده هكذا، وفي ابن أبى شيبة من طريق الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال- فذكر قصة فيها: فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «القتلى بواء» أى سواء .. انظر: تخريج أحاديث الكشاف: 1/ 397

(10)

انظر: الكشاف: 1/ 641.

(11)

انظر: الكشاف: 1/ 641.

(12)

انظر: السبعة في القراءات: 244، وتفسير السمعاني: 2/ 44.

(13)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 44.

(14)

الكشاف: 1/ 641 - 642.

ص: 249

وقرأ السلمى: «أفحكم الجاهلية يبغون» ، برفع «الحكم» ، على الابتداء (1).

قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، أي:" ومَن أعدل مِن الله في حكمه لمن عقل عن الله شَرْعه، وآمن به، وأيقن أن حكم الله هو الحق؟ "(2).

قال مقاتل: " يقول: فلا أحد أحسن من الله حكما، «لقوم يوقنون» "(3).

قال السمرقندي: أي: " ومن أعدل من الله قضاء، لقوم يوقنون يعني: يصدقون بالقرآن"(4).

قال الزمخشري: " فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه"(5).

قال القرطبي: " هذا استفهام على جهة الإنكار بمعنى: لا أحد أحسن، {لقوم يوقنون}، أي: عند قوم يوقنون"(6).

قال البيضاوي: " {لقوم يوقنون}: هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله سبحانه وتعالى"(7).

قال المراغي: " أي: لا أحد أحسن حكما من حكم الله لقوم يوقنون بدينه ويذعنون لشرعه، لأنه حكم جامع بين منتهى العدل والحق من الحاكم، والقبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه، وبهذا يحصل التفاضل بين الشرائع الإلهية والقوانين البشرية.

والخلاصة- إن مما ينبغى التعجب منه من أحوالهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر، ويؤثرونه على حكم الله العادل، وفى الأول تفضيل القوى على الضعيف واستذلاله واستئصال شأفته، وفى الثاني العدل الذي يستقيم به أمر الخلق، وبه يستتب الأمن والرضا والطمأنينة بين الناس ويشعر كل منهم بالهدوء وراحة الضمير" (8).

قال الآلوسي: " إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية، وقيل: محل الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم: ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف، أي أهل الجاهلية"(9).

قال السعدي: " فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه. واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل"(10).

عن ابن أبي نجيح قال: "كان طاوس إذا سأله رجل أفصل بين ولدين في النحل، قرأ {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} "(11).

الفوائد:

1 -

أن من حكم بغير ما أنزل الله وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون (12).

(1) انظر: السبعة في القراءات: 244، وتفسير السمعاني: 2/ 44.

(2)

التفسير الميسر: 116.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 480.

(4)

بحر العلوم: 1/ 397.

(5)

الكشاف: 1/ 641 - 642.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 216.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 130.

(8)

تفسير المراغي: 1/ 123.

(9)

روح المعاني: 3/ 323 - 324.

(10)

تفسير السعدي: 234.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6505): ص 4/ 1155.

(12)

انظر: الإيمان للقاسم بن سلام: 90.

ص: 250

2 -

ومنها: أن أن حكم الجاهلية ليس حكماً من الله، فكذلك كل حكمٍ قبيحٍ.

3 -

أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين

4 -

تتنوع الجاهلية من حيث متعلقها أنواعا كثيرة جدا، يصعب حصرها، فمنها جاهلية المعتقد، ومنها جاهلية الأخلاق، ومنها جاهلية الاقتصاد، ومنها جاهلية الحكم والسياسة، ومنها جاهلية الفن .... إلخ.

وبالجملة، فكل أمر من الأمور خولف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أمر جاهلي.

وأن الجاهلية تتنوع من حيث الحكم نوعين (1):

النوع الأول: جاهلية كفر.

ومن هذا النوع قوله-تعالى-: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} 2، وقوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} .

النوع الثاني: جاهلية معصية، وهي ما تكون بترك واجب أو فعل محرم دون الكفر (2) ، وهذه لا يكفر صاحبها (3).

ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية"(4). وكذا الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة على الميت.

5 -

وفي الآية دليل على وجوب إطراح الرأي مع السنة، وإن ادعى صاحبه أنه مصلح، وأن دعوى الإصلاح ليس بعذر في ترك ما أنزل الله، والحذر من العجب بالرأي، قال:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون} .

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} [المائدة: 51]

التفسير:

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى حلفاءَ وأنصارًا على أهل الإيمان; ذلك أنهم لا يُوادُّون المؤمنين، فاليهود يوالي بعضهم بعضًا، وكذلك النصارى، وكلا الفريقين يجتمع على عداوتكم. وأنتم -أيها المؤمنون- أجدرُ بأن ينصر بعضُكم بعضًا. ومن يتولهم منكم فإنه يصير من جملتهم، وحكمه حكمهم. إن الله لا يوفق الظالمين الذين يتولون الكافرين.

اختلف أهل التفسير في سبب نزول الآيات [51 - 53] على ثلاثة أقاويل:

أحدها: أنها نزلت في عُبادة بن الصامت، وعبد بن أبي ابن سلول، حين تبرأ عُبادة من حِلْف اليهود وقال: أتولى الله ورسوله حين ظهرت عداوتهم لله ولرسوله. وقال عبد الله بن أبي: لا

(1) انظر بتوسع في هذا: "جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب، "مصطلحات إسلامية" لمحيي الدين القضماني (ص 46 - 52)، وانظر:"فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 261.

(2)

نظر: فتح الباري: 1/ 85.

(3)

انظر صحيح البخاري -كتاب الإيمان- باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك.

(4)

البخاري رقم (30) في الإيمان: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ورقم (2545) في العتق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العبيد إخوانكم فأطعموهم مما تأكلون ، ورقم (6050) في الأدب: باب ما ينهى من السباب واللعن ، ومسلم رقم (1661) في الإيمان: باب إطعام المملوك مما يأكل

، وأبو داود رقم (5157) في الأدب: باب في حق المملوك ، والترمذي رقم (1946) في البر: باب الإجسان إلى الخدم ، وأحمد في " المسند " 5/ 161.

ص: 251

أتبرأ من حلفهم وأخاف الدوائر، وهذا قول ابن عباس (1)، والزهري (2)، وعطية العوفي (3)، وعبادة بن الوليد (4).

وقال عبادة بن الصامت" فيّ نزلت هذه الآية حين أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأت إليه من حلف يهود، وظاهرت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عليهم "(5).

والثاني: أنها نزلت فى أبي بلابة بن عبد المنذر حين بَعَثَه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لما نقضوا العهد أطاعوا بالنزول على حكم سعد أشار إلى حلقه إليهم أنه الذبح، وهذا قول عكرمة (6).

والثالث: أنها نزلت فى رجلين من الأنصار خافا من وقعة أحد فقال أحدهما لصاحبه: أَلْحَقُ باليهود وأتهود معهم، وقال الآخر: ألحق بالنصارى فأتنصر معهم ليكون ذلك لهما أماناً من إدالة الكفار على المسلمين، وهذا قول السدي (7)، ومقاتل (8).

قال الإمام الطبري: " والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصرانيّ بالشأم ولم يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله حجة، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل.

فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله:{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} ، الآية" (9).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 51]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(10).

(1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 98) ونسبه لابن مردويه.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12157): ص 10/ 396.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12156): ص 10/ 395 - 396، وأسباب النزول للواحدي: 198 - 199. [ضعيف، فيه علتان: الأولى: الإرسال. والثانية: عطية هذا؛ ضعيف مدلس، ولخصه ابن حجر في "التقريب" (2/ 24) بقوله:"صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً".

(4)

انظر: تفسير الطبري (12158): ص 10/ 396 - 397. [ضعيف لإرساله]

وأخرجه ابن إسحاق في "المغازي"(2/ 428، 429 - ابن هشام)، والبيهقي في "دلائل النبوة"(3/ 174، 175)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1155/ 6506)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 98) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه وابن عساكر.

(5)

أخرجه ابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 99) من طريق عبادة بن الوليد عن أبيه عن جده عبادة به.

قلنا: إن كان السند إلى عبادة صحيح؛ فالحديث صحيح غاية -إن شاء الله-.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12160): ص 10/ 398.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12159): ص 10/ 397 - 398. [ضعيف جدا]

(8)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 483 - 484. [متروك]

(9)

تفسير الطبري: 10/ 398 - 399.

(10)

التفسير الميسر: 106.

ص: 252

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(1).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك [يعني استمع لها]؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(2)(3).

قال الشوكاني: " الظاهر أنه خطاب للمؤمنين حقيقة وقيل: المراد بهم المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه. وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك، والأولى أن يكون خطابا لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهرا وباطنا أو ظاهرا فقط، فيدخل المسلم والمنافق، ويؤيد هذا قوله: {فترى الذين في قلوبهم مرض}، والاعتبار بعموم اللفظ"(4).

قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51]، أي:" لا تتخذوا اليهود والنصارى حلفاءَ وأنصارًا على أهل الإيمان"(5).

قال ابن كثير: " ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله، قاتلهم الله"(6).

قال الزمخشري: " {لا تتخذوهم أولياء}: تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين"(7).

قال السعدي: " يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بين لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة، أن لا يتخذوهم أولياء"(8).

قال الشوكاني: " المراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة، ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم، فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم"(9).

قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]، أي:"فاليهود يوالي بعضهم بعضًا، وكذلك النصارى، وكلا الفريقين يجتمع على عداوتكم. وأنتم -أيها المؤمنون- أجدرُ بأن ينصر بعضُكم بعضًا"(10).

قال سعيد حوى: " دلّ هذا على أن الكفر ملّة واحدة تجاه الإسلام والمسلمين، فما أسخف من ينسى هذا"(11).

قال الطبري: أي: " أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم معرِّفًا بذلك عباده المؤمنين: أنّ من كان لهم أو لبعضهم وليًّا، فإنما هو وليهُّم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم البراءة، وأبان قطع وَلايتهم"(12).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(4)

فتح القدير: 2/ 57.

(5)

التفسير الميسر: 117.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 132.

(7)

الكشاف: 1/ 642.

(8)

تفسير السعدي: 235.

(9)

فتح القدير: 2/ 57، 58.

(10)

التفسير الميسر: 117.

(11)

الأساس في التفسير: 3/ 1426.

(12)

تفسير الطبري: 10/ 399.

ص: 253

قال الزمخشري: " علل النهى بقوله: {بعضهم أولياء بعض}، أى إنما يوالى بعضهم بعضا لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم"(1).

قال الجزائري: " تعليل لتحريم موالاتهم، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ "(2).

قال السعدي: أي: " فإن بعضهم أولياء بعض يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم، فأنتم لا تتخذوهم أولياء، فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم، بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم، فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم"(3).

قال الشوكاني: " تعليل للنهي، والمعنى: أن بعض اليهود أولياء البعض الآخر منهم، وبعض النصارى أولياء البعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، وبالبعض الآخر الطائفة الأخرى للقطع بأنهم في غاية من العداوة والشقاق، وقيل: المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين"(4).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، أي:" ومن يتولهم منكم فإنه يصير من جملتهم، وحكمه حكمهم"(5).

قال الزمخشري: أي: "من جملتهم وحكمه حكمهم"(6).

قال الشوكاني: " أي: فإنه من جملتهم وفي عدادهم، وهو وعيد شديد فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية"(7).

قال السعدي: " التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم. والتولي القليل يدعو إلى الكثير، ثم يتدرج شيئا فشيئا، حتى يكون العبد منهم"(8).

وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، "تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تراءى ناراهما» (9).

ومنه قول عمر رضى الله عنه لأبى موسى في كاتبه النصراني: "لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله"(10).

(1) الكشاف: 1/ 642.

(2)

أيسر النفاسير: 1/ 642.

(3)

تفسير السعدي: 235.

(4)

فتح القدير: 2/ 57.

(5)

التفسير الميسر: 117.

(6)

الكشاف: 1/ 642.

(7)

فتح القدير: 2/ 58.

(8)

تفسير السعدي: 235.

(9)

أخرجه أبو داود في: الجهاد، 95 - باب على ما يقاتل المشركون، حديث 2645 ونصه: عن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود. فأسرع فيهم القتل.

قال، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل. وقال «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال «لا تراءى ناراهما» .

قال في النهاية 2/ 54: "يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. والترائي: تفاعل من الرؤية وإسناد الترائي إلى النار مجاز".

(10)

السنن الكبرى (20409): ص 10/ 216. ونصه: عن سماك بن حرب، قال: "سمعت عياضا الأشعري، أن أبا موسى، رضي الله عنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ومعه كاتب نصراني ، فأعجب عمر رضي الله عنه ما رأى من حفظه ، فقال: " قل لكاتبك يقرأ لنا كتابا " ، قال: إنه نصراني ، لا يدخل المسجد ، فانتهره عمر رضي الله عنه ، وهم به ، وقال: " لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله ، ولا تأتمنوهم إذ خونهم الله عز وجل".

وصححه الألباني في الإرواء تحت حديث: 2630.

ص: 254

وروى أنه قال له أبو موسى: «لا قوام للبصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام» (1)، يعنى: هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره" (2).

قال شيخ الإسلام: " وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن مشركاً لحقه ليقاتل معه، فقال له: «إني لا أستعين بمشرك» (3) "(4).

أخرج سفيان عن بن عباس: " أنه سئل عن ذبايح مشركي العرب، فقرأ: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} "(5).

قال هشام: " كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسًا، وكان يتلو هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهَّم منكم فإنه منهم} "(6).

قال إبراهيم: " سئل ابن سيرين عن رجل يبيع دارَه من نصارَى يتخذونها بِيعَةً، قال: فتلا هذه الآية: لا تتَّخِذوا اليهود والنصارى أولياء "(7).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]، أي:" إن الله لا يوفق الظالمين الذين يتولون الكافرين"(8).

قال محمد بن إسحاق: " أي المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم الطاعة وقلوبهم مصرة على المعصية"(9).

قال الطبري: أي: "إن الله لا يوفِّق من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين، وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حَرْبٌ"(10).

قال الزمخشري: " يعني: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ويخذلهم مقتا لهم"(11).

قال السعدي: " أي: الذين وصفهم الظلم، وإليه يرجعون، وعليه يعولون. فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك، ولا انقادوا لك"(12).

قال الشوكاني: " تعليل للجملة التي قبلها أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين"(13)، إذ"حكم على من يتولى من

(1) تخريج أحاديث الكشاف: 1/ 404. يعني: قدره أنه مات، هل إذا مات تتعطل المحاسبة عندنا في بيت المال، فقطع طمع أبي موسى رضي الله عنه.

ذكره ابن القيم في أحكام أهل الذمة 1/ 211 ، عن معاوية بمثله مختصراً.

وذكر أن بعض عمال عمر كتب إليه يستشيره في استعمال الكفار فقال: إن المال قد كثر ، وليس يحصيه إلا هم ، ما كتب إلينا بما ترى ، فكتب إليه: لا تدخلوهم في دينكم، ولا تسلموهم ما منعهم الله منه ، ولا تأمنوهم على أموالكم ، وتعلموا الكتابة ، فإنما هي حيلة الرجال.

(2)

الكشاف: 1/ 642.

(3)

هو في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها - في كتاب الجهاد وباب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر، رقم 1817.

(4)

مسألة في الكنائس: 128.

(5)

أخرجه الطبري (12161): ص 10/ 400، وانظر: تفسير سفيان الثوري: 103.

(6)

أخرجه الطبري (12164): ص 10/ 401.

(7)

أخرجه الطبري (12165): ص 10/ 401 - 402.

(8)

التفسير الميسر: 117.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (6514): ص 4/ 1157.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 402.

(11)

الكشاف: 1/ 642.

(12)

تفسير السعدي: 235.

(13)

فتح القدير: 2/ 58.

ص: 255

استحب الكفر على الإيمان بالظلم، فدل ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدها" (1).

عن أبي العالية قوله: " {الظالمين}، يعني: من أبا أن يقول لا إله إلا الله"(2). وروي عن عكرمة وقتادة، والربيع بن أنس نحو ذلك (3).

الفوائد:

1 -

نفي الولاية بين أهل الحق وأهل الباطل.

2 -

حرمة موالاة اليهود والنصارى وسائر الكافرين، هذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة، ، وقد خص في هذه الآية باليهود والنصارى; لأن المقام يقتضيه.

3 -

الولاء والبراء أصل من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، إذ يجب على كل مسلم أن يكون ولاؤه لله ولرسوله وللمؤمنين، ويجب أن يكون براؤه من أعداء الملة والدين.

وكما حرم الله موالاة أعداء الملة والدين، فقد أوجب سبحانه موالاة المؤمنين ومحبتهم، قال تعالى:{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة: 55 - 56]، وقال تعالى:{إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} [الحجرات: 10].

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "موالاة الكفار بالموادة والمناصرة واتخاذهم بطانة: حرام منهي عنها بنص القرآن الكريم، قال الله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}، وأخبر أنه إذا لم يكن المؤمنون بعضهم أولياء بعض، والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ويتميز هؤلاء عن هؤلاء، فإنها تكون فتنة في الأرض وفساد كبير"(4).

القرآن

{فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 52]

التفسير:

يخبر الله تعالى عن جماعة من المنافقين أنهم كانوا يبادرون في موادة اليهود لما في قلوبهم من الشكِّ والنفاق، ويقولون: إنما نوادُّهم خشية أن يظفروا بالمسلمين فيصيبونا معهم، قال الله تعالى ذكره: فعسى الله أن يأتي بالفتح -أي فتح «مكة» - وينصر نَبِيَّه، ويُظْهِر الإسلام والمسلمين على الكفار، أو يُهيِّئ من الأمور ما تذهب به قوةُ اليهود والنَّصارى، فيخضعوا للمسلمين، فحينئذٍ يندم المنافقون على ما أضمروا في أنفسهم من موالاتهم.

سبب النزول:

قال عطية العوفي: "جاء عبادة بن الصامت فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثير عددهم حاضر نصرهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية اليهود، وآوي إلى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت

(1) فتح القدير: 2/ 395.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (6515): ص 4/ 1157.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1157.

(4)

الولاء والبراء في الإسلام: البركاتي: 16.

ص: 256

فهو لك دونه"، فقال: قد قبلت، فأنزل الله تعالى فيهما: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} إلى قوله تعالى: {فترى الذين في قلوبهم مرض} "(1)، «يعني: عبد الله بن أبي {يسارعون فيهم} في ولايتهم {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} الآية» (2).

وقال عبادة بن الوليد: " فأنزل الله فيهم: {الذين في قلوبهم مرض}، يعني: عبد الله بن أبي"(3).

وفي هذا السياق قال مقاتل: " هم المنافقون يسارعون فيهم يعني في ولاية اليهود بالمدينة يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة يعني دولة اليهود على المسلمين وذلك، أن نفرا من المنافقين: أربعة وثمانين رجلا منهم عبد الله بن أبي، وأبو نافع، وأبو لبابة، قالوا: نتخذ عند اليهود عهدا ونواليهم فيما بيننا وبينهم، فإنا لا ندري ما يكون في غد ونخشى ألا ينصر محمد- صلى الله عليه وسلم فينقطع الذي بيننا وبينهم ولا نصيب منهم قرضا ولا ميرة فأنزل الله- عز وجل: {فعسى الله أن يأتي بالفتح}، يعني بنصر محمد- صلى الله عليه وسلم الذي يئسوا منه، {أو يأتي أمر من عنده}: قتل قريظة وجلاء النضير إلى أذرعات، فلما رأى المنافقون ما لقي أهل قريظة والنضير ندموا على قولهم، قال: {فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} "(4).

قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52]، أي:" فترى الذين في قلوبهم شك ونفاق يسارعون في مُوالات اليهود ومُعاونتهم"(5).

قال عطية: " يعني: عبد الله بن أبي في ولاية اليهود"(6).

قال الزمخشري: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} ، أي:"ينكمشون في موالاتهم ويرغبون فيها"(7).

قال ابن كثير: {مَرَضٌ} " أي: شك، وريب، ونفاق، يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر"(8).

عن السدي قوله: " {فترى الذين في قلوبهم مرض}، قال: الشك"(9).

قال الواحدي: " يعني: عبد الله بن أُبيٍّ وأصحابه {يسارعون فيهم} في مودَّة أهل الكتاب ومعاونتهم على المسلمين بإلقاء أخبارهم إليهم"(10).

وفي قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52]، وجوه من التاويل:

أحدها: أن المعنيّ به عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي سلول، كما تقدم في سبب النزول، وهذا قول عطية بن سعد (11).

والثاني: أنهم قوم من المنافقين، في قلوبهم مرض الشك، يسارعون في ولاية اليهود بالمدينة. وهذا قول مقاتل (12).

(1) أخرجه أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(12351): ص 12/ 137، والطبري (12156): ص 10/ 395 - 396، وذكره الواحدي في أسباب النزول: 198 - 199، [وإسناده ضعيف، لعلتين: : الأولى: الإرسال. والثانية: عطية هذا؛ ضعيف مدلس، ولخصه ابن حجر في "التقريب" (2/ 24) بقوله: "صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً"].

(2)

هذه الزيادة في أسباب النزول: 198 - 199.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6516): ص 4/ 1157. [ضعيف لإرساله].

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 484.

(5)

انظر: صفوة التفاسير: 322.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6520): ص 4/ 1158.

(7)

الكشاف: 1/ 643.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 132.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6517): ص 4/ 1157.

(10)

الوجيز: 323.

(11)

انظر: ابن أبي حاتم (6520): ص 4/ 1158، وتفسير الطبري (12156): ص 10/ 395 - 396.

(12)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 484.

ص: 257

والثالث: أنهم المنافقون يسارعون في المعصية وملاحات اليهود، أو مناجاتهم واسترضاعهم أولادهم إياهم. وهذا قول مجاهد (1).

والرابع: أنهم المنافقون، يوافقون أهل الكتاب في السر. وهذا قول ابن أبي زمنين (2).

قوله تعالى: {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52]، أي:" ويقولون: إنما نوادُّهم خشية أن يظفروا بالمسلمين فيصيبونا معهم"(3).

قال عبادة بن الصامت: "يعني: عبد الله بن أبي، لقوله: إني أخشى الدوائر"(4).

قال مجاهد: " يقول: نخشى أن تكون الدائرة لليهود بالفتح حينئذ"(5).

عن السدي قوله: " {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة}، ظهور المشركين عليهم"(6).

قال مقاتل: " يعني: دولة اليهود على المسلمين"(7).

قال الزجاج: " أي: نخشى ألا يتم الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى: {دائرة}، أي: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها"(8).

قال الواحدي: " أَيْ: يدور الأمر عن حاله التي يكون عليها يعنون: الجدب فتنقطع عنا الميرة والقرض"(9).

قال السمرقندي: " يعني: ظهور المشركين، ويقال: شدة وجدوبة فاحتجنا إليهم، ويقال: نخشى الدائرة على المسلمين، فلا ننقطع عنهم"(10).

قال ابن كثير: " أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك"(11).

قال الزمخشري: أي: " ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أى صرف من صروفه ودولة من دوله، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم"(12).

قال القرطبي: " أي: يدور الدهر علينا إما بقحط فلا يميروننا ولا يفضلوا علينا، وإما أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يدوم الأمر لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا القول أشبه بالمعنى، كأنه من دارت تدور، أي نخشى أن يدور الأمر، ويدل عليه قوله عز وجل: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} "(13).

قال أبو عبيدة: " {دائِرَةٌ} ، أي: دولة، والدوائر قد تدور، وهى الدولة، والدوائل تدول، ويديل الله منه، قال حميد الأرقط (14):

تَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا

وَدَائِرَاتِ الدَّهْرِ أَنْ تَدُورَا " (15)

قوله: «دَائِرَاتِ الدَّهْرِ» يعني: "دول الدهر الدائرة من قوم إلى قوم"(16).

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6518): ص 4/ 1157 - 1158.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 33.

(3)

التفسير الميسر: 117.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6521): ص 4/ 1158.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6522): ص 4/ 1158.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6523): ص 4/ 1158.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 484.

(8)

معاني القرآن: 2/ 181.

(9)

الوجيز: 323.

(10)

بحر العلوم: 1/ 397.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 132.

(12)

الكشاف: 1/ 643.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 217.

(14)

ديوانه 16، وانظر: تفسير الطبري: 10/ 404، وتفسير القرطبي: 6/ 217.

(15)

مجاز القرآن: 1/ 169.

(16)

تفسير القرطبي: 6/ 217.

ص: 258

قال الراغب: " «الدائرة»: دوران الأمر من قولهم والدهر بالإنسان دواري، والدورة والدولة يتقاربان"(1).

قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52]، أي:" فعسى الله أن يأتي بالفتح، وينصر نَبِيَّه، ويُظْهِر الإسلام والمسلمين على الكفار"(2).

قال الزجاج: " أي: فعسى الله أن يظهر المسلمين، و «عسى» من الله -جل وعز- واجبة"(3).

قال الزمخشري: أي: " فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين"(4).

قال السعدي: أي: " الذي يعز الله به الإسلام على اليهود والنصارى، ويقهرهم المسلمون"(5).

وفي قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52]، أربعة أقاويل:

أحدها: يريد فتح مكة، قاله السدي (6).

والثاني: فتح بلاد المشركين على المسلمين (7).

والثالث: أنه القضاء الفصل، قاله قتادة (8).

والرابع: يعني به: نصر محمد- صلى الله عليه وسلم الذي يئسوا منه. قاله مقاتل (9).

و«الفتح» : في كلام العرب، هو «القضاء» ، كما قال قتادة، ومنه قول الله تعالى

ذكره ومنه قوله تعالى: {افْتَحْ بَينَنَا وَبَينَ قَومِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]، وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعدَ الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله:{فعسى الله أن يأتي بالفتح} فتح، مكة، لأن ذلك كان من عظيم قضاءِ الله، وفَصْل حُكمه بين أهل الإيمان والكفر، ومقرِّرًا عند أهل الكفر والنفاق، أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين (10).

قوله تعالى: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]، أي:" أو يُهيِّئ من الأمور ما تذهب به قوةُ اليهود والنَّصارى، فيخضعوا للمسلمين"(11).

قال الزمخشري: أي: " أو أمر من عنده يقطع شأفة اليهود (12) ويجلبهم عن بلادهم"(13).

وفي قوله تعالى: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]، ستة أقاويل:

أحدها: هو دون الفتح الأعظم (14).

الثاني: أنه موت من تقدم ذكره من المنافقين (15).

الثالث: أنه الجزية، قاله السدي (16).

والرابع: أنه قتل قريظة وجلاء النضير إلى أذرعات. وهذا قول مقاتل (17).

(1) تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 377.

(2)

التفسير الميسر: 117.

(3)

معاني القرآن: 2/ 181.

(4)

الكشاف: 1/ 643.

(5)

تفسير السعدي: 235.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12173): ص 10/ 405.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 47.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12172): ص 10/ 405.

(9)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 484.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 405 - 406.

(11)

التفسير الميسر: 117.

(12)

في الصحاح «الشأفة» قرحة تخرج في أسفل القدم فتكوى فتذهب، فضرب بها المثل في الاستئصال.

(13)

الكشاف: 1/ 643.

(14)

انظر: النكت والعيون: 2/ 47.

(15)

انظر: النكت والعيون: 2/ 47.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12174): ص 10/ 406.

(17)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 484.

ص: 259

والخامس: أي: أو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار أسماء المنافقين والأمر بقتلهم. قاله الحسن (1)، والزجاج (2)، والزمخشري (3).

والسادس: أنه الخصب والسعة للمسلمين (4).

قال الطبري: " وقد يحتمل أن يكون الأمر الذي وعد الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأتي به هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها، غير أنه أيّ ذلك كان، فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما يسوء المنافقين ولا يسرُّهم. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنّ ذلك الأمر إذا جاء، أصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين"(5).

قوله تعالى: {فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، أي:" فحينئذٍ يندم المنافقون على ما أضمروا في أنفسهم من موالاتهم"(6).

قال ابن الزبير: " يقول: فيصبح الفساق على ما أسروا به أنفسهم نادمين"(7).

قال قتادة: " من موادّتهم اليهود، ومن غِشِّهم للإسلام وأهله"(8).

قال القرطبي: " أي: فيصبحوا نادمين على توليهم الكفار إذا رأوا نصر الله للمؤمنين، وإذا عاينوا عند الموت فبشروا بالعذاب"(9).

قال الطبري: " يعني: هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى. يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتي بأمرٍ من عنده يُديل به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم من مخالّة اليهود والنصارى ومودّتهم، وبغْضَة المؤمنين ومُحَادّتهم، نادمين"(10).

قال الزمخشري: أي: " فيصبح المنافقون نادمين، على ما حدثوا به أنفسهم: وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: ما نظن أن يتم له أمر، وبالحرى أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء"(11).

قال السعدي: أي: " على ما كان منهم وضرهم بلا نفع حصل لهم، فحصل الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين، وأذل به الكفر والكافرين، فندموا وحصل لهم من الغم ما الله به عليم"(12).

قال ابن كثير: " يعني: الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين، {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} من الموالاة {نَادِمِينَ} أي: على ما كان منهم، مما لم يُجْد عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم محذورًا، بل كان عين المفسدة، فإنهم فضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم"(13).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 6/ 218. ولم أقف عليه.

(2)

انظر: معاني القرآن: 2/ 181.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 643.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 218.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 406.

(6)

التفسير الميسر: 117.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6527): ص 4/ 1159.

(8)

أخرجه الطبري (12175): ص 10/ 407.

(9)

تفسير القرطبي: 6/ 218.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 406.

(11)

الكشاف: 1/ 643.

(12)

تفسير السعدي: 235.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 132.

ص: 260

قال الكلبي: "فجاء الله بالفتح؛ فنصر نبيه، وجاء أمر الله من عنده بإجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبي ذراريهم؛ فندم المنافقون حتى ظهر نفاقهم، وأجلي أهل ودهم عن أرضهم"(1).

الفوائد:

1 -

موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدى إلى الكفر.

2 -

التحذير من موالاة المشركين ولو كان بسبب متاع زائل، أو دنيا فانية، أو خوف دوائر الدهر.

وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرء مع من أحب"(2)، ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم.

القرآن

{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)} [المائدة: 53]

التفسير:

وحينئذ يقول بعض المؤمنين لبعض مُتعجِّبين من حال المنافقين -إذا كُشِف أمرهم-: أهؤلاء الذين أقسموا بأغلظ الأيمان إنهم لَمَعَنا؟ ! بطلت أعمال المنافقين التي عملوها في الدنيا، فلا ثواب لهم عليها; لأنهم عملوها على غير إيمان، فخسروا الدنيا والآخرة.

قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 53]، أي:" وحينئذ يقول بعض المؤمنين لبعض مُتعجِّبين من حال المنافقين -إذا كُشِف أمرهم-"(3).

قال مجاهد: "حينئذ، يقول الذين آمنوا: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} "(4).

قال ابن كثير: " فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم"(5).

قوله تعالى: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة: 53]، أي:" أهؤلاء الذين أقسموا بأغلظ الأيمان إنهم لَمَعَنا؟ ! "(6).

(1) بحر العلوم: 2/ 33.

(2)

إسناده صحيح على شرط الشيخين. شعبة: هو ابن الحجاج، وسليمان بن مهران: هو الأعمش، وأبو وائل: هو شقيق بن سلمة.

وأخرجه البخاري (6168)، ومسلم (2640)، من طريق محمد بن جعفر، بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم (2640)، والشاشي (575) و (576) و (577)، والقضاعي في "الشهاب"(189) من طرق عن شعبة، به.

وأخرجه البخاري (6169)، ومسلم (2640)(165)، وأبو يعلى (5166) من طريق جرير -وهو ابن عبد الحميد-، عن الأعمش، به.

وأخرجه الطيالسي (253) من طريق عطاء بن السائب، والبزار (3597)، والدارقطني مطولا في "السنن" 1/ 132 من طريق سمعان بن مالك والمعلى المالكي، ثلاثتهم عن شقيق، به، وذكر الدارقطني أن سمعان والمعلى كلاهما مجهول.

وأخرجه بنحوه الشاشي (664) من طريق يحيى بن ثعلبة الأنصاري، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن عبد الله، به.

(3)

التفسير الميسر: 117.

(4)

أخرجه الطبري (12176): ص 10/ 407.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 133.

(6)

التفسير الميسر: 117.

ص: 261

قال ابن عطية: " المعنى: أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان إنهم لمعكم ثم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم"(1).

قال المراغي: " أي: ويقول بعض المؤمنين لبعض متعجبين من حال المنافقين، إذا أقسموا بأغلظ الأيمان لهم إنهم معكم وإنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود، فلما حل بهم ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم وممالأتهم على المؤمنين كما قال فى سورة براءة «ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون» أي فهم لفرقهم وخوفهم يظهرون الإسلام تقية"(2).

وفي معنى قوله تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} [المائدة: 53]، وجهان:

أحدهما: أن جهد أيمانهم: القسم بالله. قاله مقاتل (3).

والثاني: المراد: أنهم حلفوا وأكدوا أيمانهم أنهم مؤمنون وأنهم معكم أعوانكم على من خالفكم. قاله الزجاج (4).

قال القرطبي: أي: "حلفوا واجتهدوا في الأيمان"(5).

قال الراغب: " قوله: {جهد أيمانهم}، أي: أبلغ الإيمان وأقصاها من قولهم جهد في الأمر"(6).

قال الزمخشري: " فإن قلت: لمن يقولون هذا القول؟

قلت: إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم واغتباطا بما من الله عليهم من التوفيق في الإخلاص أهؤلاء الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار.

وإما أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة، كما حكى الله عنهم:{وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر: 11] " (7).

قال الرازي: " الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين عند ما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى، وقالوا: إنهم يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم معنا ومن أنصارنا، فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟ "(8).

وقد ذهب كثير من المفسرين: إلى "أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى، فحينئذ يقول المؤمنون:{أهؤلاء الذين أقسموا} [المائدة: 53] الآية.

وتحتمل الآية: أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض: {نخشى أن تصيبنا دائرة} [المائدة: 52]، وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع. فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله. فمقتهم النبي والمؤمنون، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبي رغبة في المصلحة والألفة، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى. فصار ذلك موطنا يحسن أن يقول فيه المؤمنون:{أهؤلاء الذين أقسموا} الآية" (9).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 207.

(2)

افسير المراغي: 6/ 138.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 485.

(4)

مهعاني القرآن: 2/ 181.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 218.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 378.

(7)

الكشاف: 1/ 643.

(8)

مفاتيح الغيب: 12/ 377.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 206.

ص: 262

قرأ أبو عمرو وحده: «ويقول الذين ءامنوآ» ، بنصب «اللام» ، ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفا. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر:«يقول» ، بغير «واو» ، مع رفع «اللام» ، وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة (1).

قوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [المائدة: 53]، أي:" بطلت أعمال المنافقين التي عملوها في الدنيا، فلا ثواب لهم عليها"(2).

قال السمرقندي: أي: " فلا ثواب لهم في الآخرة"(3).

قال القرطبي: أي: "بطلت نفاقهم"(4).

قال الزجاج: " أي: ذهب ما أظهروه من الإيمان، وبطل كل خير عملوه بكفرهم وصدهم، عن سبيل الله كما قال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] "(5).

قال الزمخشري: " أى: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس. وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجبا من سوء حالهم"(6).

قال النسفي: أي: " ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة لا إيمانا وعقيدة وهذا من قول الله عزوجل شهادة لهم بحبوط الأعمال لهم وتعجيبا من سوء حالهم"(7).

قال المراغي: " أي: ويقول المؤمنون: حبطت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها نفاقا كالصلاة والصوم والجهاد معنا ليقنعونا بأنهم منا"(8).

قال البيضاوي: " فيه معنى التعجب كأنه قيل أحبط أعمالهم فما أخسرهم"(9).

قال ابن عطية: " وحبط العمل: إذا بطل بعد أن كان حاصلا، وقد يقال: حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه"(10).

وقوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [المائدة: 53]، يحتمل ثلاثة وجوه (11):

أحدها: أن يكون إخبارا من الله تعالى وشهادة لهم بحبوط أعمالهم.

والثاني: ويحتمل: أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال.

والثالث: ويحتمل: أن يكون قوله {حبطت أعمالهم} ، على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين.

قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53]، أي:" فخسروا الدنيا والآخرة"(12).

قال السمرقندي: "يعني: صاروا خاسرين في الدنيا وفي الآخرة"(13).

قال البغوي: " خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بالعذاب وفوات الثواب"(14).

(1) انظر: السبعة في القراءات: 245، وزاد المسير: 1/ 559

(2)

التفسير الميسر: 117.

(3)

بحر العلوم: 1/ 398.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 218.

(5)

معاني القرىن: 2/ 182.

(6)

الكشاف: 1/ 643.

(7)

تفسير النسفي: 1/ 454.

(8)

افسير المراغي: 6/ 138.

(9)

تفسير البيضاوي: 2/ 131.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 207.

(11)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 207، وتفسير البيضاوي: 2/ 131

(12)

التفسير الميسر: 117.

(13)

بحر العلوم: 1/ 398.

(14)

تفسيرالبغوي: 3/ 69.

ص: 263

قال القرطبي: " أي خاسرين الثواب. وقيل: خسروا في موالاة اليهود فلم تحصل لهم ثمرة بعد قتل اليهود وأجلائهم"(1).

قال النسفي: أي: " في الدنيا والعقبى، لفوات المعونة ودوام العقوبة"(2).

قال القاسمي: " أي: في الدنيا، إذ ظهر نفاقهم عند الكل. وفي الآخرة، إذ لم يبق لهم ثواب"(3).

قال المراغي: أي: "فخسروا بذلك ما كانوا يرجون لها من أجر وثواب لو صلحت حالهم وقوى إيمانهم"(4).

قال السعدي: " حيث فاتهم مقصودهم، وحضرهم الشقاء والعذاب"(5).

قال الرازي: " لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال، ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها، بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة"(6).

وقرأ جمهور الناس: «حبطت» ، بكسر الباء، وقرأ أبو واقد والجراح:«حبطت» بفتح الباء وهي لغة (7).

الفوائد:

1 -

بيان حبوط أعمال المنافقين، ليكون المؤمن لذلك من الحذرين.

2 -

ومنها: أن الردة مبطلة للأعمال إذا مات عليها.

3 -

إن الولاء لغير الله ولو مَوَّه أصحابه عليه بادعاء الإيمان وأخوة أهل الإسلام كما بينته هذه الآية الكريمة ردة واضحة وكفر صراح مهما جادلوا، وما النص فيها على إحباط العمل وخسران الآخرة إلا زيادة تأكيد لهذا الكفر وتخويف منه.

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)} [المائدة: 54]

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه من يرجع منكم عن دينه، ويستبدل به اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك، فلن يضرُّوا الله شيئًا، وسوف يأتي الله بقوم خير منهم يُحِبُّهم ويحبونه، رحماء بالمؤمنين أشدَّاء على الكافرين، يجاهدون أعداء الله، ولا يخافون في ذات الله أحدًا. ذلك الإنعام مِن فضل الله يؤتيه من أراد، والله واسع الفضل، عليم بمن يستحقه من عباده.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 54]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(8).

قال الطبري: أي: "أي: صدّقوا لله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم محمد صلى الله عليه وسلم"(9).

قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54]، أي:" من يرجع منكم عن دينه الحق ويبدّله بدينٍ آخر ويرجع عن الإِيمان إِلى الكفر"(10).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 218.

(2)

تفسير النسفي: 1/ 454.

(3)

محاسن التأويل: 4/ 164.

(4)

افسير المراغي: 6/ 138.

(5)

تفسير السعدي: 235.

(6)

مفاتيح الغيب: 12/ 377.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 207.

(8)

التفسير الميسر: 117.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 409.

(10)

صفوة التفاسير: 323.

ص: 264

قال الطبري: "يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم، فيبدِّله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر"(1).

قال الواحدي: " علم الله تعالى أنَّ قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيِّهم صلى الله عليه وسلم"(2).

قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، أي:" فسوف يأتي الله مكانهم بقوم خير منهم، يحبّهم الله ويحبّون الله"(3).

قال الحسن: "هذا والله أبو بكر وأصحابه"(4).

قال ابن عباس: " إنه وعيد من الله أنه من ارتد منهم سنستبدل بهم خيرا منهم"(5).

قال الطبري: أي: " فلن يضر الله شيئا، فسوف يجيء الله بدلا منهم، بقومٍ خير من الذين ارتدُّوا وابدَّلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله، وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدُّ بعد وفاةِ نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعدُه من وعدَ من المؤمنين ما وعدَه في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه، ولا يرتدّ. فلما قَبَض الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ارتدّ أقوام من أهل الوبَرِ، وبعضُ أهل المَدَر، فأبدل الله المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتدَّ منهم وعيدَه"(6).

قال الواحدي: " أخبرهم تعالى أنَّه سـ {يأتي اللَّهُ بقوم يحبهم ويحبونه}، وهم أبو بكر رضي الله عنه وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرِّدة"(7).

قال الزمخشري: " محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثنى عليهم ويرضى عنهم "(8).

عن محمد بن كعب: "أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ: وما هي، أيها الأمير؟ قال: قول الله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه}، حتى بلغ: {ولا يخافون لومة لائم}، فقال محمد: أيها الأمير، إنما عنى الله بالذين آمنوا، الولاةَ من قريش، من يرتدَّ عن الحق"(9).

قال قتادة: " أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون من الناس، فلما قبض الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ارتدّ عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس قالوا: نصلي ولا نزكِّي، والله لا تُغصب أموالنا! فكُلِّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد فُقِّهوا لهذا أعطوها أو: أدَّوها، فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عِقالا مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم عليه! فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون وهي الزكاة صَغرة أقمياء، فأتته وفود العرب، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب مُجْلية. فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال"(10).

(1) تفسير الطبري: 10/ 409.

(2)

الوجيز: 324.

(3)

انظر: صفوة التفاسير: 323، والتفسير الميسر:117.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12178): ص 10/ 411.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6536): ص 4/ 1160.

(6)

صفوة التفاسير: 323.

(7)

الوجيز: 324.

(8)

الكشاف: 1/ 646 - 647.

(9)

اخرجه الطبري (12177): 10/ 410.

(10)

أخرجه الطبري (12184): ص 10/ 412 - 413.

ص: 265

وفي وفي المراد بهؤلاء القوم أقوال:

أحدها: أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم الذين قاتلوا معه أهل الردة، قاله: علي (1)، والحسن (2)، وابن جريج (3)، والضحاك (4).

قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا: أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره" (5).

قال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء" (6).

والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضا (7).

والثالث: أنهم قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، لأنه كان لهم في نصرة الإِسلام أثر حسن. وهذا قول عياض الأشعري (8)، ومجاهد (9)، وشريح بن عبيد (10).

عن عياض الأشعري قال: "لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}، قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه، فقال: هم قومُ هذا! "(11).

قال شريح: " لما أنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه}، إلى آخر الآية، قال عمر: أنا وقومي هم، يا رسول الله؟ قال: «لا بل هذا وقومه! » يعني: أبا موسى الأشعري"(12).

والرابع: أنهم أهل اليمن، وهذا قول ابن عباس (13)، ومجاهد (14)، ومحمد بن كعب القرظي (15)، وشهر بن حوشب (16).

قال ابن عباس: "هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة، ثم من السكون، ثم من تجيب"(17).

قال ابن كثير: " وهذا حديث غريب جدا"(18).

عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي:"أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وهو أمير المدينة، يسأله عن ذلك: فقال محمد: {يأتي الله بقوم}، وهم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم! قال: آمين! "(19).

(1) انظر: تفسير الطبري (12186): ص 10/ 413 - 414.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12178)(12182): ص 10/ 411 - 412.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12185): ص 10/ 413.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12183): ص 10/ 412.

(5)

ذكره الواحدي في التفسير البسيط: 7/ 428 - 429، والبغوي في تفسيره: 3/ 69، وابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 559.

(6)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 70.

(7)

انظر: زاد المسير: 1/ 560.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12188) - (12193): ص 10/ 413 - 416.

(9)

انظر: زاد المسير: 1/ 560.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12194): ص 10/ 416.

(11)

أخرجه الطبري (12188): ص 10/ 414 - 415.

(12)

أخرجه الطبري (12194): ص 10/ 416.

(13)

رواه ابن ابي حاتم في رواية سعيد بن جبير عنه كما في تفسير ابن كثير: 3/ 135 - 136، وفي رواية الضحاك عنه، كما في زاد المسير: 1/ 560.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12195) - (12197): ص 10/ 417، وتفسير ابن ابي حاتم (6540): ص 4/ 1161، وتفسير مجاهد:311.

(15)

انظر: تفسير الطبري (12199): ص 10/ 417.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12198): ص 10/ 417.

(17)

رواه ابن ابي حاتم في رواية سعيد بن جبير عنه كما في تفسير ابن كثير: 3/ 135 - 136، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3312)"مجمع البحرين".

(18)

تفسير ابن كثير: 3/ 136.

(19)

أخرجه الطبري (12199): ص 10/ 417.

ص: 266

والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي (1).

والسادس: انهم أهل القادسية. قاله أبو بكر بن عياش (2).

والسابع: المهاجرون والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي (3).

والثامن: أنهم الفرس؛ ذكره الثعلبي (4)، والسمعاني (5)، والزمخشري (6)، والرازي (7)، وغيرهم.

وذكروا أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لما سئل عن هذه الآية ضرب يده على عاتق سلمان الفارسي وقال: «هذا وذووه، » ، ثم قال:«لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله ناس من أبناء فارس» (8).

قال الشيخ ولي الدين العراقي: "لم أقف عليه هكذا، ولعله وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى آخر سورة القتال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]، أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة"(9).

والتاسع: وقالت الإمامية: نزلت في علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه. ذكره الرازي (10)، والنيسابوري (11)، والآلوسي (12)، وغيرهم.

قال الآلوسي: " ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة"(13).

وقال الرازي: " ويدل عليه وجهان:

الأول: أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال: «لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» (14)، وهذا هو الصفة المذكورة في الآية.

والوجه الثاني: أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [المائدة: 55]، وهذه الآية في حق علي، فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقه" (15).

(1) انظر: تفسير الطبري (12200): ص 10/ 417 - 418.

(2)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6539): ص 4/ 1161.

(3)

انظر: زاد المسير: 1/ 560.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 4/ 79.

(5)

انظر: تفسير السمعاني: 5/ 187.

(6)

انظر: الكشاف: 1/ 646.

(7)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 378.

(8)

مصنف ابن أبي شيبة (32515): ص 6/ 415، من حديث أبى هريرة، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10470): ص 10/ 204، من حديث ابن مسعود، ومجمع الزوائد (16688) ص: 10/ 65.

قال الهيثمي: "وفيه محمد بن الحجاج اللخمي، وهو كذاب".

(9)

نواهد الأبكار وشوارد الافكار: 3/ 279.

ونص الحديث: " عن أبي هريرة، أنه قال: قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان قال: «هذا وأصحابه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» ".

انظر: سنن الترمذي (3261): ص 5/ 237، وقال:"هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وقد روى عبد الله بن جعفر أيضا هذا الحديث عن العلاء بن عبد الرحمن"، والطبري: 22/ 193، والحاكم: 2/ 458 وصححه، وعبد الرزاق في المصنف: 11/ 66، والمصنف في شرح السنة: 14/ 200. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7/ 506 لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في الدلائل.

(10)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 378.

(11)

انظر: تفسير النيسابوري: 2/ 604.

(12)

انظر: روح المعاني: 3/ 230.

(13)

روح المعاني: 3/ 320.

(14)

فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1056): ص 2/ 618، والسنن الكبرى للنسائي (8344): ص 7/ 411.

(15)

مفاتيح الغيب: 12/ 378 ..

ص: 267

قال الإمام الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أهل اليمن، قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال: هم أبو بكر وأصحابه، وذلك أنه لم يقاتل قومًا كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا على أعقابهم كفارًا، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنْ كان صلى الله عليه وسلم مَعْدِن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآيِ كتابه"(1).

قال الراغب: " وقيل: هى فيمن ارتد في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وقيل: فيمن كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه فيهم وفي غيرهم، وأنه وعد تعالى أنه يحفظ دينهم بقوم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويتحرى مرضاتهم ويتحروا مرضاته، وذلك كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39] "(2).

قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:«يرتد» ، بإدغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر:«يرتدد» ، بدالين (3).

قال الزجاج: وأما: «من يرتدد» فهو الأصل، لأن التضعيف إذا سكن الثاني من المضعفين ظهر التضعيف، نحو قوله:{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140]، ولو قرئت: إن يمسكم قرح، كان صوابا، ولكن لا تقرأن به لمخالفته المصحف، ولأن القراءة سنة" (4).

قوله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، أي:" أي رحماء متواضعين للمؤمنين أشداء متعززين على الكافرين"(5).

عن ابن عباس قوله: " {أذلة على المؤمنين}، يعني: بالأذلة الرحمة"(6).

عن مجاهد: " {أعزة على الكافرين}، أشداء عليهم"(7).

قال الواحدي: " {أذلة على المؤمنين} كالولد لوالده والعبد لسيِّده، {أعزة على الكافرين} غلاظٍ عليهم كالسَّبع على فريسته"(8).

قال الراغب: " {أذلة على المؤمنين}، أي: ليني الجانب على المؤمنين"(9).

قال ابن كثير: " هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليه، متعززًا على خصمه وعدوه، كما قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "الضحوك القتال" فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه"(10).

قال الزمخشري: " أذلة جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذل الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبي عنه أن ذلولا لا يجمع على أذلة. فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف «كأنه قيل:

(1) تفسير الطبري: 10/ 419.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 380.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 245، وزاد المسير: 1/ 559.

(4)

معاني القرآن: 2/! 82.

(5)

صفوة التفاسير: 323.

(6)

اخرجه ابن أبي حاتم (6541): ص 4/ 1161.

(7)

اخرجه ابن أبي حاتم (6543): ص 4/ 1161.

(8)

الوجيز: 324.

(9)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 380.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 136.

ص: 268

عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ونحوه قوله عز وجل: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] " (1).

وقرئ: «أذلة» ، «وأعزة» ، بالنصب على الحال (2).

قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} [المائدة: 54]، أي:" يجاهدون لإِعلاء كلمة الله ولا يبالون بمن لامهم، فهم صلاب في دين الله لا يخافون في ذات الله أحداً"(3).

قال مجاهد: " يسارعون في الحرب"(4).

قال السمعاني: " يعني: لا يخافون في الله لوم الناس"(5).

قال ابن كثير: " أي: لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله، وقتال أعدائه، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك راد، ولا يصدهم عنه صاد، ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل (6).

قال الزمخشري: " يحتمل أن تكون الواو للحال، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود- لعنت- فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم، يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة: المرة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام"(7).

قال القرطبي: قوله {ولا يخافون لومة لائم} ، أي: بخلاف المنافقين يخافون الدوائر، فدل بهذا على تثبيت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لأنهم جاهدوا في الله عز وجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا المرتدين بعده، ومعلوم أن من كانت فيه هذه الصفات فهو ولي لله تعالى. وقيل: الآية عامة في كل من يجاهد الكفار إلى قيام الساعة" (8).

قال أبو ذر: " أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع، أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش"(9).

وفي رواية اخرى عن ابي ذر أيضا: " بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعًا، وأشهد الله على تسعًا، أني لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو ذر: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل لك إلى بيعة ولك الجنة؟ " قلت: نعم، قال: وبسطت يدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط: على ألا تسأل الناس شيئا؟ قلت: نعم قال: "ولا سوطك وإن سقط منك يعني: تنزل إليه فتأخذه" (10).

(1) الكشاف: 1/ 648.

(2)

انظر: الكشاف: 1/ 648.

(3)

صفوة التفاسير: 323.

(4)

اخرجه ابن أبي حاتم (6544): ص 4/ 1161.

(5)

تفسير السمعاني: 2/ 47.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 136.

(7)

الكشاف: 1/ 648.

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 220 - 221.

(9)

المسند (5/ 159).

(10)

المسند (5/ 172).

ص: 269

عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا يُبَاعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم"(1).

وعن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى إنه ليسأله يقول له: أيْ عبدي، رأيت منكرًا فلم تنكره؟ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته، قال: أيْ رب، وثقت بك وخفت الناس"(2).

وعنه-صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه"، قالوا: وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله؟ قال: "يتحمل من البلاء ما لا يطيق"(3).

قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54]، أي:" ذلك الإنعام مِن فضل الله يؤتيه من أراد"(4).

قال السدي: " يختص به من يشاء"(5).

قال ابن كثير: " أي: من اتصف بهذه الصفات، فإنما هو من فضل الله عليه، وتوفيقه له"(6).

قال الواحدي: " أَيْ: محبَّتهم لله عز وجل ولين جانبهم للمسلمين وشدَّتهم على الكفَّار بفضلٍ من الله عليهم"(7).

قال الزمخشري: " و {ذلك}، إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة، {يؤتيه}، يوفق له {من يشاء}، ممن يعلم أن له لطفا"(8).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، أي:" والله واسع الفضل، عليم بمن يستحقه من عباده"(9).

قال ابن كثير: " أي: واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه"(10).

قال القرطبي: " أي واسع الفضل، عليم بمصالح خلقه"(11).

قال الزمخشري: " {واسع}: كثير الفواضل والألطاف، {عليم}: بمن هو من أهلها"(12).

الفوائد:

1 -

بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار.

2 -

الآية تدل على اشتراط المحبة في شهادة أن لا إله إلا الله التي لاتنفع قائلها إلا باجتماعها فيه (13)، ومنه قوله-صلى الله عليه وسلم: " «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن

(1) المسند (3/ 50).

(2)

المسند (3/ 77) وسنن ابن ماجة برقم (4017) وقال البوصيري في الزوائد (3/ 244): "هذا إسناد صحيح".

(3)

رواه الترمذي في السنن برقم (2254) وابن ماجة في السنن برقم (4016).

قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف.

(4)

التفسير الميسر: 117.

(5)

اخرجه ابن أبي حاتم (6545): ص 4/ 1162.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 137.

(7)

الوجيز: 324.

(8)

الكشاف: 1/ 648.

(9)

التفسير الميسر: 117.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 137.

(11)

تفسير القرطبي: 6/ 321.

(12)

الكشاف: 1/ 648.

(13)

شروطها سبعة: الأول: العلم بمعناها نفيا وإثباتا. الثاني: استيقان القلب بها، الثالث: الانقياد لها ظاهرا وباطنا. الرابع: القبول لها فلا يرد شيئا من لوازمها ومقتضياتها. الخامس: الإخلاص فيها. السادس: الصدق من صميم القلب لا باللسان فقط. السابع: المحبة لها ولأهلها، والموالاة والمعاداة لأجلها. [انظر: أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة: 10].

ص: 270

يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (1).

3 -

فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.

4 -

فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.

4 -

أرشدت هاته الآية إلى آية الصدق في دعوى حب العبد ربه، وأثبتت لهؤلاء المحبين أربع صفات على النحو الآتي (2):

- الوصف الأول: أنهم أذلة على المؤمنين فلا يحاربونهم ولا يقفون ضدهم ولا ينابذونهم.

- الوصف الثاني: أنهم أعزة على الكافرين أي أقوياء عليهم غالبون لهم.

- الوصف الثالث: أنهم يجاهدون في سبيل الله أي يبذلون الجهد في قتال أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا.

- الوصف الرابع: أنهم لا يخافون في الله لومة لائم. أي إذا لامهم أحد على ما قاموا به من دين الله لم يخافوا لومته، ولم يمنعهم ذلك من القيام بدين الله ع وجل.

ومجموع ما أفادته من صفات هي الدلائل على صدق المحبة لله، وهي: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والتراحم مع الإِخوان في الدين، والشدة على الأعداء فيه، والقيام بكل ما يؤيد الدين، وعدم التقصير في الصدع بالحق مراعاة للناس.

5 -

ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله. وهما «الواسع» ، و «العليم»:

- «الواسع» : هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده ووسع رزقه جميع خلقه. والسعة في كلام العرب: الغنى.

ويقال: الله يعطي عن سعة، أي: عن غنى، ومن هذا قول الشاعر (3):

رعاك ضمان الله يا أم مالك

ولله عن يشقيك أغنى وأوسع (4)

- و «العليم» : من أسمائه عز وجل، والْعِلْمُ صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عز وجل، ، فهو سبحانه «العليم» المحيط علمه بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (5).

قال الخطابي: " «العليم» : هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق. كقوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} [لقمان: 23]. وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم، ولذلك قال -سبحانه-:{وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]. والآدميون -وإن كانوا يوصفون بالعلم- فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالما بالفقه غير عالم بالنحو وعالما بهما غير عالم بالحساب وبالطب ونحوهما من

(1) رواه البخاري (16، 21، 6941)، ومسلم (الإيمان / 67، 68).

(2)

انظر: شرح كشف الشبهات، للشيخ ابن عثيمين: 137، ورسالة الشرك ومظاهره:267.

(3)

البيت في أسماء الله الحسنى للزجاج ص 52. ومع آخر بعده: يذكرنيك الخير والشر والذي

أخاف وأرجو والذي أتوقع في الحماسة بشرح المرزوقي 3/ 1316، والتبريزي 3/ 270، وفي البيان والتبيين 3/ 330، والحيوان 7/ 148، نسبهما لأعرابي من هذيل. ولم أجدهما في أشعارهم والبيت الشاهد يروى: يسقيك، من السقيا. ويشقيك: من الشقاء.

وجاء الرواية في المرزوقي بالفاء -من الشفاء- وأظنها تصحيف لأن التبريزي نقله عنه بالسين المهملة. ويروى أيضا: "أن، وعن يشقيك" وإبدال الهمزة عينا لغة معروفة لبني تميم، وتسمى هذه اللغة: عنعنة تميم. قال ذو الرمة:

أعن ترسمت من خرقاء منزلة

ماء الصبابة من عينيك مسجوم

انظر ديوانه 1/ 371، والبيت مطلع قصيده طويلة أبياتها (84) بيتا.

(4)

انظر: شأن الدعاء: 1/ 72.

(5)

انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين: 1/ 188.

ص: 271

الأمور، وعلم الله -سبحانه- علم حقيقة، وكمال {قد أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12]، {وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 28] " (1).

القرآن

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} [المائدة: 55]

التفسير:

إنما ناصركم -أيُّها المؤمنون- الله ورسوله، والمؤمنون الذين يحافظون على الصلاة المفروضة، ويؤدون الزكاة عن رضا نفس، وهم خاضعون لله.

اختلف فيمن نزلت الآية على خمسة أقوال:

أحدها: انها نزلت في علي-رضي الله عنه تصدق علي بخاتمه وهو راكع. وهذا قول ابن عباس (2)، ومجاهد (3)، وعتبة بن أبي حكيم (4)، وسلمة بن كهيل (5)، ومقاتل (6).

والثاني: قال جابر بن عبد الله: "جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن قوما من قريظة والنضير قد هاجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل، وشكى ما يلقى من اليهود، فنزلت هذه الآية، فقرأها

(1) شأن الدعاء: 57.

(2)

روي عنه قي ذلك ثلاثة روايات:

أحدها: - روي عنه: " نزلت في علي بن أبي طالب". أخرجه عبد الرزاق؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 74): ثنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ عبد الوهاب هذا متروك الحديث.

وقال ابن كثير: "عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به".

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 105) وزاد نسبته لعبد بن حميد والطبري -ولم نجده فيه- وأبي الشيخ وابن مردويه.

والثاني: وفي رواية أخرى عن ابن عباس: " كان علي بن أبي طالب قائماً يصلي، فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمة؛ فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ". أخرجه ابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 74)، و"تخريج أحاديث الكشاف"(2/ 409) من طريق الثوري عن أبي سنان عن الضحاك عن ابن عباس به.

قال الزيلعي في "تخريج الكشاف": "وفيه انقطاع؛ فإن الضحاك لم يلق ابن عباس".

وقال ابن كثير: "الضحاك لم يلق ابن عباس"؛ وهو كما قالا؛ فالأثر ضعيف.

والثالث: وفي رواية أخرى عن ابن عباس ايضا: " نزلت في المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم".

أخرجه ابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 74) من طريق ميمون بن مهران عنه به.

قلنا: وسنده ضعيف.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12214): ص 10/ 426. فيه غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري، منكر الحديث متروك. مترجم في لسان الميزان، والكبير للبخاري 4/ 1/101، وابن أبي حاتم 3/ 2/48، وفيه أيضا عبد العزيز؛ وهو متروك.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12213): ص 10/ 426. [عتبة بن أبي حكيم الهمداني، ثم الشعباني، أبو العباس الأردني. ضعفه ابن معين، وكان أحمد يوهنه قليلا، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وفيه إسناده أيوب بن سويد؛ وهو ضعيف؛ كما في ترجمته في "التهذيب"(1/ 406)، و"الميزان"(1/ 287، 288)]

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1162 رقم 6551) من طريق موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ لإعضاله، وموسى رمي بالتشبيع وهذا الحديث منقبة لعلي.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 105) وزاد نسبته لأبي الشيخ وابن عساكر.

(6)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 485 - 486. ومقاتل شيعي زيدي، فيؤخذ كلامه فى مدح علي بتحفظ.

ص: 272

عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء" (1). وروي عن الكلبي نحوه (2).

والثالث: أن عبادة بن الصامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه، وهذا قول عبادة بن الوليد (3)، وعطية العوفي (4).

والرابع: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله ابن عباس أيضا (5)، وعكرمة (6).

والخامس: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن (7).

قال ابن كثير: " قد تقدم في الأحاديث التي أوردنا أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، حين تبرأ من حلْف يَهُود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين"(8).

قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55]، أي:"إنما ناصركم -أيُّها المؤمنون- الله ورسوله والمؤمنون"(9).

قال ابن عباس: " يعني: إنه من أسلم تولاه الله ورسوله والذين آمنوا"(10).

قال الطبري: أي: " ليس لكم، أيها المؤمنون، ناصر إلا الله ورسوله"(11).

قال ابن كثير: "أي: ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين"(12).

قال المراغي: " أي لا ولى لكم أيها المؤمنون ولا ناصر ينصركم إلا الله ورسوله والمؤمنون الصادقون"(13).

قال الزمخشري: " عقب النهى عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، ومعنى «إنما» وجوب اختصاصهم بالموالاة"(14).

قال أبو السعود: " لما نهاهم الله عز وجل عن موالاة الكفرة وعلله بأن بعضهم أولياء بعض لا يتصور ولايتهم للمؤمنين وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم بين ههنا من هو وليهم بطريق قصر الولاية عليه كأنه قيل لا تتخذوهم أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أوليائكم الله ورسوله والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى غيرعم وإنما أفرد الولي مع تعدده للإيذان بأن الولاية أصالة لله تعالى وولايته عليه السلام وكذا ولاية المؤمنين بطريق التبعية لولايته عز وجل"(15).

(1) أسباب النزول للواحدي: 199.

(2)

انظر: أسباب النزول للواحدي: 199 - 200. إسناده مظلم، كما تقدم، وهذه هي سلسلة الكذب كما سماها السيوطي، ومتنه غريب جدا.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12207): ص 10/ 424 - 425.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12208): ص 10/ 425، ومصنف ابن أبي شيبة (12351): ص (12/ 137، وتفسير ابن أبي حاتم (6552): ص 4/ 1163.

وسنده ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: الإرسال.

الثانية: عطية؛ صدوق يخطئ كثيراً، وكان شيعياً مدلساً.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 4/ 81، وتفسير القرطبي: 6/ 221.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 561. ولم أقف عليه.

(7)

انظر: زاد المسير: 1/ 561. ولم أقف عليه.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 139.

(9)

التفسير الميسر: 117.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6546): ص 4/ 1162.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 424.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 137.

(13)

تفسير المراغي: 6/ 143.

(14)

الكشاف: 1/ 648.

(15)

تفسير أبي السعود: 3/ 52.

ص: 273

قال السعدي: " فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى. فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله، ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه، وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، فأداة الحصر في قوله {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين، والتبري من ولاية غيرهم "(1).

قال البيضاوي: " الولاية لله أصل ولغيره تبع ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع ومحل"(2).

قال التستري: " ولا تتم الولاية من الله تعالى إلا بالتبري ممن سواه"(3).

عن عقبة بن أبي حكيم في قوله: " {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، قال: علي بن أبي طالب"(4).

عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: " سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قوله: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، قلت: نزلت في علي، قال: علي من الذين آمنوا"(5).

قال السدي: " هم المؤمنون وعلي منهم"(6).

وفي قراءة عبد الله: «إنما مولاكم» (7).

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، أي:"الذين يحافظون على الصلاة المفروضة، ويؤدون الزكاة عن رضا نفس، وهم خاضعون لله"(8).

قال ابن كثير: " أي: المؤمنون المتصفون بهذه الصفات، من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهي له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين"(9).

قال السعدي: أي: "وأخلصوا للمعبود، بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها، وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم"(10).

قال الزهري: "إقامتها: أن تصلي الأوقات الخمس لوقتها"(11).

(1) تفسير السعدي: 236.

(2)

تفسير البيضاوي: 1/ 456.

(3)

تفسير سهل التستري: 23.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6549): ص 4/ 1162.

وردوا على هذا القول:

أن الآية صيغة جمع وعلي-رضي الله عنه واحد.

أن «الواو» ليست في {وهم راكعون} «واو» الحال، إذ لو كان كذلك لتعين بالبدء إعطاء الزكاة في الصلاة حال الركوع.

ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس كذلك بالإتفاق وإن في الصلاة شغلا

ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان له خاتم أو كان له فالخاتم زكاة ماذا لأن أكثر الفقهاء لا يجوزون إخراج الخاتم في الزكاة، وفي حديثهم أنه أعطاه سائلا والمدح في الزكاة أن يخرجها إبتداء وعلى الفور.

ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6547): ص 4/ 1162، وانظر: تفسير الطبري (12211): ص 10/ 425 - 426، سنده صحيح لكنه مرسل.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6548): ص 4/ 1162.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 648.

(8)

التفسير الميسر: 117.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 137.

(10)

تفسير السعدي: 236.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (6550): ص 4/ 1162.

ص: 274

قال الزجاج: " وإقامتها تمامها بجميع فرضها، وأول فروضها صحة الإيمان بها وهذا

كقولك: فلان قائم بعلمه الذي وليه، تأويله إنه يوفي العمل حقوقه، ومعنى:{يقيمون} من قولك هذا قوام الأمر" (1).

قوله تعالى: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، أي:" وهم خاضعون لله"(2).

قال السعدي: " أي: خاضعون لله ذليلون"(3).

قال الزمخشري: "الواو فيه للحال، أى: يعملون ذلك في حال الركوع، وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذا صلوا وإذا زكوا"(4).

قال ابو السعود: " حال مع فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى"(5).

والمراد بالركوع هاهنا التواضع والخضوع، ومن قول الشاعر (6):

لا تُهينَ الفقير علَّك أَنْ

تركع يوما والدهرُ قد رفعَهْ

فقوله: "تركع"، أي: تخضع وتنقاد، والمراد انحطاط الحال.

قال ابن كثير: " توهم بعضهم أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي: في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره؛ لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب: أن هذه الآية نزلت فيه: ذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه، فأعطاه خاتمه"(7).

الفوائد:

1 -

أن المؤمنين أولياء الله، يتولون أمره ويقيمون دينه، والله تعالى وليهم، يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، [يونس: 62 - 63].

وبذلك فغن الولاية تنقسم إلى:

- ولاية من الله للعبد: ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} ، [البقرة: من الآية 257].

- ولاية من العبد لله، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ، [المائدة: من الآية 56].

والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة:

- فالولاية العامة: هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق; فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} ، [الأنعام: 62].

- والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، قال تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} ، [البقرة: من الآية 257]، وقال تعالى: {أَلا

(1) نعاني القرآن: 2/ 183 - 184.

(2)

التفسير الميسر: 117.

(3)

تفسير السعدي: 236.

(4)

الكشاف: 1/ 649.

(5)

تفسير أبي السعود: 3/ 52.

(6)

لقائل هو: الأضبط بن قريع السعدي، من عوف بن كعب، من رهط الزبرقان بن بدر، ورهط أنف الناقة، جاهلي قديم؛ له أخبار مع قومه مذكورة، في كتب الأدب.

الخزانة: 11/ 455 - الشعر والشعراء: 1/ 382.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 137.

ص: 275

إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس: 62 - 63].

2 -

ومن الفوائد: إثبات موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم، فالله يتولى عباده المؤمنين، فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة، وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، قال تعالى:{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111]. فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعا، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه 1 لذله وحاجته إلى ولي ينصره (1).

3 -

فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.

2 -

استدل الروافض بهذه الآية على أن الخليفة بعد رسوله الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب-رضي الله عنه ثم الأئمة من آل البيت على ترتيبهم لديهم.

فالرد على استدلالهم بها ما يلي:

أولا: - أن الآية عامة فمن ناحية لفظها ليس فيها تخصيص لأحد.

ثانيا: - أن سبب نزول الآية ذكر فيه العلماء أقوالا: كما سبق، وقيل: أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث تصدق بخاتمه على مسكين وهو راكع، وروي ذلك عن مجاهد وعتبة بن أبي حكيم وغيرهم، إلا أن هذه الروايات لا يصح منها شيء، قال ابن كثير عنها:"وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف إسنادها وجهالة رجالها"(2).

فهذه الأقوال تبين أن الآية ليست خاصة بعلي رضي الله عنه، وأن الروايات الواردة في أنها نزلت في علي ضعيفة، وكذلك يتبين كذب الرافضة حين يدعون أن الروايات واردة لدى أهل السنة في الصحاح الستة حيث لم ترد في أي من الصحاح.

ثالثا: - أن حمل الآية على الخلافة غير صحيح لأن التولي من معانيه النصرة والتأييد والمحبة فحملها على الخلافة يحتاج إلى دليل خاص وليس عندهم دليل خاص.

قال الرازي: " وأما استدلالهم بأن هذه الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع، فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في حق الأمة، والمراد أن الله تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين"(3).

القرآن

{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة: 56]

التفسير:

ومن وثق بالله وتولَّى الله ورسوله والمؤمنين، فهو من حزب الله، وحزب الله هم الغالبون المنتصرون.

سبب النزول:

قال عبادة بن الصامت: "نزلت: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}، وذاك لقول عبادة بن الصامت: أتولى الله ورسوله، وتبرئه من بني قينقاع من حلفهم وولايتهم"(4).

قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 56]، أي:" ومن وثق بالله وتولَّى الله ورسوله والمؤمنين"(5).

(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 358

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 139.

(3)

مفاتيح الغيب: 12/ 386.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6553): ص 4/ 1163، والطبري (12207): ص 10/ 424، بنحوه، وابن إسحاق في سيرته:315.

(5)

التفسير الميسر: 117.

ص: 276

قال السمرقندي: " يعني: يجعل الله ناصره ويجالس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه"(1).

قال الواحدي: " يعني: يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين"(2).

قال القرطبي: " أي من فوض أمره إلى الله، وامتثل أمر رسوله، ووالى المسلمين، فهو من حزب الله. وقيل: أي ومن يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين"(3).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: أي: " ومن يتول الله تعالى بالإيمان به والتوكل عليه، ويتول الرسول والمؤمنين بنصرهم وشد أزرهم، وبالاستنصار بهم دون أعدائهم"(4).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يريد المهاجرين والأنصار"(5).

قوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56]، أي:"، فهو من حزب الله، وحزب الله هم الغالبون المنتصرون"(6).

قال السدي: " أخبرهم، يعني: الرب تعالى ذكره مَنِ الغالب، فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال: {ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}، والحزب، هم الأنصار"(7).

قال السمرقندي والسمعاني: " يعني: جند الله هم الغالبون"(8).

قال المراغي: أي: " فإنهم هم الغالبون، ولا يغلب من يتولاهم، لأنهم حزب الله"(9).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: أي: " فإنهم هم الغالبون، فلا يغلب من يتولاهم ; لأنهم حزب الله تعالى، ففيه وضع المظهر موضع الضمير، ونكتته بيان علة كونهم هم الغالبين"(10).

قال السعدي: " أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية، وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173].

وهذه بشارة عظيمة، لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده، أن له الغلبة، وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى، فآخر أمره الغلبة والانتصار، ومن أصدق من الله قيلا" (11).

قال الزمخشري: " وأصل «الحزب»: القوم يجتمعون لأمر حزبهم، ويحتمل أن يريد بحزب الله: الرسول والمؤمنين، ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب الله، واعتضد بمن لا يغالب"(12).

قال الواحدي: " معنى {هم الغالبون}: أنهم غلبوا اليهود فقتلوا قريظة، وأجلوا بني النضير من ديارهم، وغلبوهم عليها، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولوا الله ورسوله والذين آمنوا"(13).

قال الطبري: " وهذا إعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه جميعًا الذين تبرأوا من حلف اليهود وخلعوهم رضًى بولاية الله ورسوله والمؤمنين، والذين تمسكوا بحلفهم وخافوا دوائر السوء

(1) بحر العلوم: 1/ 401.

(2)

الوسيط: 2/ 202.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 222.

(4)

تفسير المنار: 6/ 366.

(5)

انظر: التفسير الوسيط للواحدي: 2/ 202، وتفسير البغوي: 3/ 73.

(6)

التفسير الميسر: 117.

(7)

أخرجه الطبري (12215): ص 10/ 427.

(8)

بحر العلوم: 1/ 401، وتفسير السمعاني: 2/ 48

(9)

تفسير المراغي: 6/ 144.

(10)

تفسير المنار: 6/ 366.

(11)

تفسير السعدي: 236.

(12)

الكشاف: 1/ 649.

(13)

التفسير الوسيط: 2/ 202.

ص: 277

تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم أنّ مَن وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين، ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادّهم، لأنهم حزب الله، وحزبُ الله هم الغالبون، دون حزب الشيطان" (1).

قال ابن كثير: " فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة [ومنصور في الدنيا والآخرة"(2).

وفي معنى قوله: {حِزْبَ اللَّهِ} [المائدة: 56]، وجوه:

أحدها: جند الله، قاله الحسن (3).

والثاني: أولياء الله. قاله أبو روق (4).

والثالث: شيعة الله، قاله أبو العالية (5).

والرابع: أنصار الله (6).

والخامس: أن حزب الله هم الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم. قاله الأخفش (7).

قال الواحدي: "معنى: «الحزب» في اللغة: الجماعة، وحزب الرجل: أصحابه الذين معه على رأيه، والمؤمنون حزب الله، والكافرون حزب الشيطان "(8).

قال رؤبة بن العجاج (9):

أَلَقَيتُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ الكُذْبِ

ولست أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي!

يعني بقوله: أضوى، أستضْعَفُ وأضام من الشيء الضاوي، وقوله: وبلال حزبي، يعني: ناصري (10).

قال القرطبي: " والمؤمنون حزب الله، فلا جرم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية.

والحزب: الصنف من الناس، وأصله من النائبة من قولهم: حزبه كذا أي نابه، فكأن المحتزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة عليها، وحزب الرجل أصحابه.

والحزب: الورد، ومنه الحديث «من فاته حزبه من الليل» (11)، وقد حزبت القرآن.

(1) تفسير الطبري: 10/ 427.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 138.

(3)

انظر: التفسير الوسيط للواحدي: 2/ 202، ومفاتيح الغيب: 12/ 387، وتفسير القرطبي: 6/ 222

(4)

انظر: التفسير الوسيط للواحدي: 2/ 202، ومفاتيح الغيب: 12/ 387.

(5)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 387.

(6)

انظر: التفسير الوسيط للواحدي: 2/ 202، ومفاتيح الغيب: 12/ 387، وتفسير القرطبي: 6/ 222.

(7)

انظر: تفسير النيسابوري: 2/ 607، ولم اجده في معاني القرآن.

(8)

التفسير الوسيط: 2/ 202، ونقله الرازي في مفاتيح الغيب: 12/ 387.

(9)

ديوانه: 16، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 169، وتفسير الطبري: 10/ 428، وفيهما" فَكَيْفَ أَضْوَى". من أرجوزة يمدح بها بلال ابن أبي بردة.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 428.

(11)

المسند (220): ص 1/ 343 - 344، إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عتاب بن زياد، فقد روى له ابن ماجه وهو ثقة. وهو في " الزهد " لابن المبارك (1247).

وأخرجه الدارمي (1477)، ومسلم (747)، وأبو داود (1313)، وابن ماجه (1343)، والترمذي (581)، والنسائي 3/ 259، وأبو عوانة 2/ 271، وابن حبان (2643)، والبيهقي 2/ 484 و 485، والبغوي (985) من طرق عن يونس بن يزيد، بهذا الاسناد.

وأخرجه أبو عوانة 2/ 271 من طريق عقيل بن خالد، عن الزهري، به.

وأخرجه النسائي 3/ 259 - 260 عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، به. بإسقاط السائب بن يزيد وعبيد الله.

وأخرجه موقوفا على عمر: مالك في " الموطأ " 1/ 200 عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن عمر قال: من فاته حزبه من الليل، فقرأه حين تزول الشمس، إلى صلاة الظهر، فانه لم يفته، أو كأنه أدركه.

ومن طريق مالك أخرجه النسائي 3/ 260، والبيهقي 2/ 484 و 485.

قال ابن عبد البر - فيما نقله عنه الزرقاني 2/ 9 - : " هذا وهم من داود، لأن المحفوظ من حديث ابن شهاب، عن السائب بن يزيد وعبيد الله بن عبد الله، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن عمر: من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل، ومن أصحاب ابن شهاب من رفعه عنه بسنده عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عند العلماء أولى بالصواب من رواية داود حين جعله من زوال الشمس إلى صلاة الظهر، لأن ذلك وقت ضيق قد لا يسع الحزب، ورب رجل حزبه نصف القرآن، أو ثلثه، أو ربعه، ونحوه، لأن ابن شهاب أتقن حفظا، وأثبت نقلا ".

«من فاته حزبه .. » أي: ورده الذي اعتاده من قراءة أو صلاة، الزرقاني 2/ 13.

ص: 278

والحزب: الطائفة، وتحزبوا اجتمعوا، والأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء، وحزبه أمر، أي: أصابه" (1).

الفوائد:

1 -

أن ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.

2 -

ومنها: بيان لما تثمره الموالاة لله ورسوله والمؤمنين، فإن من يوالى الله يكون من حزب الله، ومن كان فى حزب الله فهو من الفائزين، لأنه فى ضمان الله، وفى جنده الذين لا يغلب أبدا .. {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 21].

3 -

استدل الشيعة بالآية على ثبوت إمامة علي-رضي الله عنه بالنص، بناء على ما روي من نزول الآية فيه، وجعلوا الولي فيها بمعنى المتصرف في أمور الأمة، وقد بينا في تفسير الآية السابقة ضعف كون المؤمنين في الآية يراد به شخص واحد. وعلمنا من السياق أن الولاية هاهنا ولاية النصر، لا ولاية التصرف والحكم ; إذ لا مناسبة له في هذا السياق.

وقد رد عليهم الرازي، وغيره بوجوه (2)، وهذه المجادلات ضارة غير نافعة، فهي التي فرقت الأمة وأضعفتها، فلا نخوض فيها، ولو كان في القرآن نص على الإمامة لما اختلف الصحابة فيها ; أو لاحتج به بعضهم على بعض، ولم ينقل ذلك (3).

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)} [المائدة: 57]

التفسير:

(1) تفسير القرطبي: 6/ 223.

(2)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 386.

قال الرازي: " وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع حال كونه في الركوع، وذلك هو علي بن أبي طالب فنقول: هذا أيضا ضعيف من وجوه:

الأول: - أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى وآتوا الزكاة [البقرة: 43] فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب، وذلك عند أكثر العلماء معصية، وأنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام، وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله وآتوا الزكاة ظاهره يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب.

الثاني: - وهو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة، والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه، ولهذا قال تعالى:{الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض} [آل عمران: 191]، ومن كان قلبه مستغرقا في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير.

الثالث: أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير عمل كثير، واللائق بحال علي عليه السلام أن لا يفعل ذلك. الرابع: أن المشهور أنه عليه السلام كان فقيرا ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه، ولذلك فإنهم يقولون: إنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة {هل أتى} [الإنسان: 1] وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيرا، فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص، وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله ويؤتون الزكاة وهم راكعون عليه.

الوجه الخامس: - هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لا يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب، وقد سبق الكلام فيه".انتهى

(3)

انظر: تفسير المنار: 6/ 366.

ص: 279

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لا تتخذوا الذين يستهزئون ويتلاعبون بدينكم من أهل الكتاب والكفارَ أولياءَ، وخافوا الله إن كنتم مؤمنين به وبشرعه.

سبب النزول:

قال ابن عباس: " كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فأنزل الله فيهما: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ}، إلى قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} (1) "(2).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 57]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(3).

قال الطبري: أي: " يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله"(4).

قال مقاتل: " يعني: المنافقين الذين أقروا باللسان وليس الإيمان في قلوبهم"(5).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(6).

قال خيثمة: "ما تقرأون في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(7).

قال ابن عثيمين: " إن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(8).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك [يعني استمع لها]؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(9).

قوله تعالى: {لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 57]، أي:" لا تتخذوا الذين يستهزئون ويتلاعبون بدينكم من أهل الكتاب والكفارَ أولياءَ"(10).

قال السدي: " نهاهم وتقدم إليهم"(11).

قال الطبري: أي: " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هُزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، يعني اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنزلت عليهم الكتب من قبل بَعْث نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن قبل نزول كتابنا أولياء، يقول: لا تتخذوهم، أيها

(1)[سورة المائدة: 61].

(2)

أخرجه ابن إسحاق في "المغازي"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 107) -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(12216): ص 10/ 429 - 430، وابن أبي حاتم في "التفسير" (6556): ص 4/ 1163، وذكره الواحدي في أسباب النزول:200.

وهذا إسناد ضعيف؛ لجهالة شيخ ابن إسحاق محمد بن أبي محمد.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 107) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ.

وقال محقق أسباب النزول للواحدي: أخرجه" ابن إسحاق بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما به. وإسناده حسن. [انظر: أسباب النزول: 200]

(3)

التفسير الميسر: 117.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 428.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 487.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196، و (5025): ص 3/ 902

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

(8)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(10)

التفسير الميسر: 117.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6555): ص 4/ 1163.

ص: 280

المؤمنون، أنصارًا أو إخوانًا أو حُلفاء، فإنهم لا يألونكم خَبَالا وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة" (1).

قال الزمخشري: " يعنى أن اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة، وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار- وإن كان اهل الكتاب من الكفار- إطلاقا للكفار على المشركين خاصة، والدليل عليه قراءة عبد الله: «ومن الذين أشركوا» "(2).

قال السمرقندي: " يعني: الذين آمنوا بلسانهم، ولم يؤمنوا بقلوبهم. ويقال: أراد به المخلصين نهاهم الله تعالى عن ولاية الكفار"(3).

قال أبو السعود: " بيان للمستهزئين والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن الاستهزاء بالدلين المؤسس على الكتاب المصدق لكتابهم {والكفار} أي المشركين خصوا به لتضاعف كفرهم وهو عطف على الموصول الأول ففيه إشعار بأنهم ليسوا بمستهزئين كما ينبىء عنه تخصيص الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى: {يا أهل الكتاب هل تنقمون منا}، الآية"(4).

قال مكي: " أن الله حذر المؤمنين ألا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ووصفهم تعالى بأنهم اتخذوا الإسلام هزواً ولعباً، وهم قد أوتوا الكتاب من قبلنا، يعني التوراة والإنجيل، و [حذرهم] ألا يتخذوا الكفار أولياء، وهم مشركو قريش"(5).

قال الراغب: " نهاهم عن موالاة المتهكمين بدين الحق أي عن الاستعانة بالمشركين"(6).

قال الواحدي: " معنى اتخاذهم الدين هزو ولعبا: تلاعبهم بالدين وإظهارهم ذلك باللسان واستبطانهم الكفر"(7).

قال البغوي: " بإظهار ذلك بألسنتهم قولا وهم مستبطنون الكفر"(8).

قال ابن عطية: " نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هزوا ولعبا والهزء السخرية والازدراء"(9).

قال الجصاص: " فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين; لأن الأولياء هم الأنصار"(10).

قال ابن كثير: " وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله، من الكتابيين والمشركين، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي، يتخذونها {هُزُوًا وَلَعِبًا} يستهزئون بها، {وَلَعِبًا} يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد كما قال القائل (11):

وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا

وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيمِ" (12)

قال الشوكاني: " هذا النهي عن موالاة المتخذين الدين هزؤا ولعبا يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام، والبيان بقوله: {من الذين

(1) تفسير الطبري: 10/ 428 - 429.

(2)

الكشاف: 1/ 650.

(3)

بحر العلوم: 1/ 401.

(4)

تفسير ابي السعود: 3/ 53.

(5)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 2/ 1788.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 4/ 384.

(7)

التفسير الوسيط: 2/ 202.

(8)

تفسير البوغي: 3/ 73.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 209.

(10)

أحكام القرىن: 2/ 559.

(11)

البيت للمتنبي. وهو في ديوانه بشرح العكبري: 4/ 120.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 140.

ص: 281

أوتوا الكتاب}، إلى آخره لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي" (1).

قال السعدي: " ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم، ويبدون لهم أسرار المؤمنين، ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين، وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك موالاتهم، ويحثهم على معاداتهم"(2).

قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة: {والكفار} نصبا، وقرأ أبو عمرو والكسائى:«والكفار» خفضا، وروى حسين الجعفى عن أبي عمرو:{الكفار} نصبا (3).

قال الطبري: " إنهما قراءتان متفقتا المعنى، صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب"(4).

وقرأ ابن مسعود: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» (5).

ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة (6).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57]، أي:" وخافوا الله إن كنتم مؤمنين به وبشرعه"(7).

قال مقاتل: " يعني: إن كنتم مصدقين فلا تتخذوهم أولياء، يعني: كفار العرب حين، قال عبد الله بن أبي، وعبد الله بن نتيل وأبو لبابة وغيرهم من اليهود: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، حين كتبوا إليهم"(8).

قال الطبري: أي: " وخافوا الله، أيها المؤمنون الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار، أن تتخذوهم أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدُّمه إليكم بالنهي عنه، إن كنتم تؤمنون بالله وتصدِّقونه على وعيده على معصيته"(9).

قال الزمخشري: أي: "واتقوا الله في موالاة الكفار وغيرها، إن كنتم مؤمنين حقا لأن الإيمان حقا يأبى موالاة أعداء الدين اتخذوها الضمير للصلاة أو للمناداة"(10).

قال ابن عطية: " ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله: {إن كنتم مؤمنين}، أي: حق مؤمنين"(11).

قال البيضاوي: أي: " واتقوا الله بترك المناهي. إن كنتم مؤمنين لأن الإيمان حقا يقتضي ذلك. وقيل إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده"(12).

قال ابو السعود: " {واتقوا الله} في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا {إن كنتم مؤمنين}، أي: حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة"(13).

(1) فتح القدير: 2/ 62.

(2)

تفسير السعدي: 236.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 245.

(4)

تفسيرالطبري: 10/ 431.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12217): ص 10/ 430.

(6)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 209.

(7)

التفسير الميسر: 117.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 487.

(9)

تفسيرالطبري: 10/ 432.

(10)

الكشاف: 1/ 650.

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 209.

(12)

تفسير البيضاوي: 2/ 133.

(13)

تفسير ابي السعود: 3/ 53.

ص: 282

قال أبو حيان: " لما نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء، أمرهم بتقوى الله، فإنها هي الحاملة على امتثال الأوامر واجتناب النواهي. أي: اتقوا الله في موالاة الكفار، ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي: من كان مؤمنا حقا يأبى موالاة أعداء الدين"(1).

قال السعدي: أي: كذلك أن"التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما تدعوهم إلى معاداتهم"(2).

الفوائد:

1 -

حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم، إذ ينفر الله تعالى المؤمنين من موالاة أعداء الإسلام، من أهل الكتاب ومن المشركين، الذين يتخذون شرائع الإسلام المطهرة، هزوا يستهزئون بها، ويعدونها نوعا من اللعب، ويتمنون زوال الإسلام وأهله، ويأمر الله المؤمنين بتقواه، وبألا يتخذوا هؤلاء الأعداء أولياء إن كانوا مؤمنين بشرع الله حقا وصدقا (3).

وهؤلاء الأعداء يسخرون من الأذان، ومن الصلاة، ومن العبادة، ويتخذونها هزوا ولعبا وسخرية، لأنهم قوم لا يعقلون معنى العبادة، ولا معنى شرع الله، والصلاة أكرم شيء وأفضله لمن يعقل ويعلم

2 -

سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم.

3 -

مباعدة الكفار والمفسدين والغلظة عليهم، لأن موالاتهم تنافي الإيمان.

4 -

جاء في شرح المسائل للسعيدي: وقد اختلف المفسرون في معنى اتخاذ الكفار دينهم لهوًا ولعبًا على أقوال منها (4):

أولاً: أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو الإسلام لعبًا ولهوًا حيث سخروا به واستهزؤوا به، إذًا المراد بكونهم جعلوا دينهم لهوًا ولعبًا سخروا بالإسلام واستهزؤوا به، فإذا دعاهم الداعي إلى الإسلام سخروا به وهزءوا به، وهذا موجود في كل زمان ومكان، وهذا كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُوا اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 57، 58].

ثانيًا: أنهم اتخذوا ما هو لهوٌ ولعبٌ من عبادة الأصنام وغيرها دينًا لهم وتركوا دين الحق وهو الإسلام.

والأول أقرب من هذا لكنه هذا غير مستبعد، بمعنى أن اتخاذ الدين لهوًا ولعبًا أن يعبد الأصنام، ولذلك قد يتخذوا الصنم من تمر وعجين ثم إذا جاع أكله، هذا لَعِب كيف أنت تعبده من دون الله عز وجل وتستغيث به وتستفتح به الأمور ويكشف لك الضر ويجلب لك النفع ويدفع عنك الضر ثم بعد ذلك تأكله؟ هذا لعب ولهو.

ثالثًا: أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني وما تزينه لهم شياطينهم ونفوسهم من تحليل حرام، أو تحريم حلال، أو تعبد بما لم يشرعه الله، وهذا له أمثلة كثيرة وذكرها في الشرح هناك.

رابعًا: وهو أن المراد به الإشارة إلى من يتوصل بدينه إلى دنياه، يعني: يجعل الدين وسيلة إلى تحصيل الدنيا، وهذا اختلاف تنوع لا تضاد وتشترك في أمر واحد وهو: عدم الاهتمام بأمر الدين، كلها أقوال للمفسرين وكلها داخلة فيما ذكروا، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. {قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} هذا لعب،

(1) بحر المحيط: 4/ 303.

(2)

تفسير السعدي: 236.

(3)

انظر: أيسر التفاسير لأسعد حومد: ص: 727، بترقيم الشاملة آليا.

(4)

انظر: شرح مسائل الجاهلية للحازمي: 6/ 21 - 23.

ص: 283

رسولهم قد أنزل عليه الكتاب من الله عز وجل ثم ينفون ذلك، هذا يعتبر من اللعب، وقال تعالى في اليهود:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. يعني: تؤمنون بما اشتهته الأنفس وأما ما لم تقدروا عليه أو تشتهيه الأنفس فحينئذٍ يكفر به، وقال تعالى:{مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46]. تحريف الكلم يعتبر من اتخاذ الدين لهوًا ولعبًا، وقال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]. لبس الحق بالباطل وكتمان الحق يعتبر من اتخاذ الدين لهوًا ولعبًا، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]. يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، وقال في النصارى أنهم قالوا:{إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ، {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] المسيحُ ابن الله أو المسيحَ ابن الله، نقول: هذا كله يعتبر من اتخاذ الدين لهوًا ولعبًا، لأنه تبديل وتحريف عما أنزله الله عز وجل، وكذلك الابتداع وعده دينًا {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]، كذلك مشركو قريش قالوا:{مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2]. إذًا اللعب كذلك من شأن قريش، وقال جل وعلا:{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9]. وقال مهددًا لهم: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} . إذًا كل من أعرض عن الدين وتلبس بغيره فهو ممن اتخذ دينه لهوًا ولعبًا، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ} هذا يعتبر وعيد من الله تعالى بمن اتخذ آياته ودينه هزوًا قال تعالى:{وَلا تَتَّخِذُوَا آيَاتِ اللهِ هُزُواً} [البقرة: 231]. وقال صلى الله عليه وسلم: «أَيُلْعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهركم» (1). وقال عليه الصلاة والسلام: «ما بال أقوام يَلْعَبُون بحدود الله» (2).

إذًا امتثال ما أراده الله عز وجل من البشر يُعتبر من أخذ الدين بقوة {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، ولذلك قال المفسرون في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170]. قال: {يُمَسَّكُونَ} . بصيغة التفعيل ولم يقل يُمْسِكُونَ، لأن الذي يأتي بالدين على وجهه يعتبر مستمسكًا أبلغ استمساك بالدين، إذًا {أنهم اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا} .

5 -

إن المتتبع لآيات القرآن الكريم والسنة النبوية يجد من الآيات والأحاديث ما تدل دلالة قطعية على غش الكفار للمسلمين وعداوتهم لهم وخيانتهم لقضاياهم، وتمنيهم السوء للمسلمين ومسرتهم بذلك، وعداوتهم لله ورسوله، فمن والاهم وأعزهم وولاهم أمور المسلمين، فقد خالف ما أمر الله عز وجل بحقهم من وجوب الغلظة والشدة عليهم، ومن اعتقد فيهم النصح والإخلاص فقد كذب بما أخبر الله به عنهم من خيانة وغش وإرادة السوء بالمسلمين.

واما الاستعانة بالكفار في الحرب فقد اختلف العلماء في هذه مسألة على قولين:

القول الأول: هو قول من قال بعدم جواز الاستعانة بالكفار في الحرب وهو مذهب المالكية (3). وبه قال الإمام أحمد رحمه الله (4) وقد استدل المانعون بعدد من الآيات والأحاديث هي كما يلي (5):

1 -

قول الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. قيل: إنها نزلت في عبادة ابن الصامت رضي الله عنه فقد كان له حلفاء من اليهود فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال: له عبادة، يا

(1) السنن الكبرى (5564): ص 5/ 252، وسنن النسائي (3401): ص 6/ 142، إسناده منقطع، ورجال إسناده ثقات، ولكن مخرمة لم يسمع من أبيه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في " التهذيب ". وحكم الالباني: ضعيف. المشكاة (3292).

(2)

أخرجه ابن ماجة (2017): ص 1/ 650، والبزار في "مسنده"(3117)، والروياني في "مسنده"(452)، والطبري في "تفسيره" 2/ 539، وابن حبان (4265)، والبيهقي 7/ 322.

إسناده حسن. مؤمل بن إسماعيل اختلف فيه. فقيل ثقة. وقيل كثير الخطأ. وقيل منكر الحديث. وحكم الالباني: ضعيف.

(3)

انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن/ محمد علي الصابوني ج 1 ص 402 - وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج 2 ص 7.

(4)

انظر الأحكام السلطانية/ للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص 39، 225.

(5)

انظر: الوالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية، محماس الجلعود: 2/ 813 - 821.

ص: 284

نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله هذه الآية (1).

2 -

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].

فقد رجح القرطبي عدم جواز الاستعانة بالكفار حيث يقول: إن الله قد وضح لنا العلة في النهي عن اتخاذهم بطانة بقوله: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} ثم ختم الآية بقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فهل نكذب بيان الله فيهم ونصدقهم فنقربهم ونتقرب إليهم؟ (2).

وفي زاد المسير قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في أمر من أمور المسلمين (3).

3 -

قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].

قال ابن خويز منداد: "هذه الآية تضمنت مع مثيلاتها المنع من التأييد والانتصار بالمشركين ونحو ذلك"(4).

ويقول القرطبي: "إن الصحيح من مذهب الشافعي هو منع الاستعانة بالكفار في القتال"(5). وهو ما ذهب إليه القرطبي أيضًا (6).

وقد ذكر أن الشافعي علل ذلك بأنه طريق لأن يكون للكافرين على المؤمنين سبيلا (7).

وأجاب من يرى الجواز بأن السبيل هو اليد وهي للإمام الذي استعان بالكفار (8).

4 -

ومن الأحاديث ما روى مسلم في صحيحه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، فلما كان بحرّة الوبر أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه. فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك، وأصيب معك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «تؤمن بالله ورسوله؟ قال لا

قال فارجع: فلن أستعين بمشرك» قالت: ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل

فقال له كما قال أول مرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة. قال: «فارجع فلن نستعين بمشرك» . قال: ثم رجع فأدركه بالبيداء. فقال كما قال أول مرة «تؤمن بالله ورسوله؟ » قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «فانطلق» (9).

روى الواقدي أن خبيب بن يساف، كان رجلاً شجاعًا وكان يأبى الإسلام فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، خرج هو وقيس بن محرث، فعرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجا معه، فقال «لا يخرج معنا رجل ليس على ديننا» فقال

(1) انظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج 2 ص 6. وانظر جامع البيان للقرطبي ج 4 ص 58. وانظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن/ محمد علي الصابوني ج 1 ص 403. وانظر أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 36 - 37.

(2)

انظر تفسير القرطبي ج 4 ص 180.

(3)

انظر زاد المسير في علم التفسير/ عبد الرحمن بن الجوزي ج 1 ص 447.

(4)

انظر تفسير القرطبي: 6/ 224.

(5)

انظر تفسير القرطبي: 6/ 224.

(6)

انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(7)

انظر: نيل الأوطار للشوكاني: 8/ 44.

(8)

انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(9)

صحيح مسلم ج 3 ص 1449 - 1450 وسنن أبي داود ج 3 ص 75.

ص: 285

خبيب: قد علم قومي أني عظيم الغناء في الحرب فأقاتل معك للغنيمة قال: «لا، ولكن أسلم ثم قاتل» (1).

6 -

روى الإمام أحمد عن خبيب عن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزوًا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدًا لا نشهده معهم «قال أو اسلمتما» قلنا لا! «قال فلا نستعين بالمشركين على المشركين» قال فأسلمنا وشهدنا معه، فقتلت رجلاً وضربني ضربة وتزوجت بابنته بعد ذلك، فكانت تقول: لا عدمت رجلا وشحك هذا الوشاح فأقول: لا عدمت رجلاً عجل أباك النار"(2).

القول الثاني: قول من جوَّز الاستعانة بالكفار عند الحاجة إلى ذلك وهو قول جمهور الشافعية والحنابلة والأحناف (3).

وقد استدل أصحاب هذا القول بعدة أحاديث هي كما يلي:

1 -

ما روي أن قزمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر» (4).

2 -

وفي صلح الحديبية كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث أثناء توجهه إلى مكة عندما كان بذي الحليفة عينًا له من قبيلة خزاعة اسمه بشر بن أبي سفيان ليأتيه بخبر أهل مكة، وبشر بن أبي سفيان كان مشركًا من قبيلة خزاعة، وفي هذا تأكيد لجواز الاستعانة بالمشركين، عند الطمأنينة إليهم (5).

3 -

وقد شارك في معركة أحد مع المسلمين مخريق بن ثعلبة اليهودي عقيدة وديانة العربي نسبًا وعرقًا، وكان قتاله تنفيذًا للمعاهدة المبرمة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود، فدعا اليهود إلى حمل السلاح مع المسلمين فقالوا اليوم يوم السبت، فأخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى قتل، وقال إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء وكان له سبعة بساتين وقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقافًا بالمدينة (6).

4 -

إن النبي صلى الله عليه وسلم قد استعان بيهود بني قينقاع وقسم لهم، واستعان بصفوان بن أمية في يوم حنين (قبل إسلامه) فدل ذلك على الجواز (7).

5 -

وعن ذي مخبر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم» (8).

6 -

وعن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم (9).

(1) انظر: صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 325/ أمين دويدار. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 43 ..

(2)

مسند الإمام أحمد ج 3 ص 454. وانظر أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 2 ص 102.

(3)

انظر روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن ج 1 ص 402 وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج 2 ص 7. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 43، وانظر زاد المعاد/ لابن قيم الجوزية ج 2 ص 190، وانظر كتاب الإسلام انطلاق لا جمود/ د/ مصطفى الرافعي ص 16 وانظر الدرر السنية ج 7 ص 376.

(4)

انظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 44، وانظر غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل ص 228.

(5)

انظر فقه السيرة محمد سعيد رمضان البوطي ص 252.

وانظر زاد المعاد لابن القيم الجوزي ج 2 ص 123. وانظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 45.

(6)

انظر غزوة أحد/ محمد أحمد باشميل ص 226 - 231.

(7)

انظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 22، وروائع البيان في تفسير القرآن ج 1 ص 402، وتفسير آيات الأحكام، محمد علي السايس ج 2 ص 7، ونيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 43.

(8)

رواه أحمد وأبو داود. انظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 43.

(9)

رواه أبو داود في مراسيله. المصدر السابق نفس المكان.

ص: 286

وقد رد أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول القائلين بعدم جواز الاستعانة بالكفار بردود هي: -

أ- إن أدلة النهي عن الاستعانة بالكفار منسوخة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله كما تقدم ذكر ذلك (1).

ب- إن القائلين بالجواز لم يذكروا أنه يجوز الاستعانة بالكفار مطلقًا وإنما قيدوا ذلك بشرطين هما: -

1 -

الحاجة إلى الكفار في حالة عدم وجود من يحل محلهم من المسلمين.

2 -

الوثوق بهم، وغلبة الظن على أمانتهم، وعدم مكرهم. أما بدون هذين الشرطين فلا تجوز الاستعانة بهم بحال من الأحوال وهذا هو الراجح، وعلى ذلك يحمل حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في صحيح مسلم، ويحصل الجمع بين الأدلة أدلة المنع وأدلة الجواز (2).

وقد نقل عن الشافعي رحمه الله ما يوافق هذا المعنى حيث روي أنه قال: «إن رأى الإمام أن الكافر حسن النية، حسن الرأي مأمون الجانب على المسلمين، وكانت الحاجة داعية إلى الاستعانة به جاز ذلك وإلا فلا» (3).

ولعل هذا هو المتفق مع أدلة النهي وأدلة الجواز، إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قبل معونة صفوان بن أمية يوم حنين، وهو مشرك، فتكون المسألة في ذلك داخلة تحت مفهوم السياسة الشرعية لمصلحة الدعوة الإسلامية (4).

والظاهر لي من الأدلة عدم جواز الاستعانة بالمشركين إلا عند توفر الشرطين المتقدمين وذلك لسببين:

السبب الأول: إن الأحاديث التي استدل بها على جواز الاستعانة بالكفار لا تسلم من مقال أو توجيه يجعل العمل بها غير ملزم. فمقاتلة قزمان مع المسلمين لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن له بذلك في ابتداء الأمر، وغاية ما فيه، أنه يجوز للإمام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين (5).

وأما استعانته صلى الله عليه وسلم ببشر بن أبي سفيان عينا له على قريش وهو مشرك فإنما استعان به بما دون القتال، وهذه المسألة أقرب في الجواز من مسألة القتال والحرب (6).

وأما ما روي عن الزهري مرسلاً، فإن مراسيل الزهري ضعيفة والمسند فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف (7).

وأما استعانته صلى الله عليه وسلم بابن أبي من المنافقين فليس من قبيل الاستعانة بالكفار لأنه مظهر للإسلام، والمنافق يحكم عليه بحسب ظاهره والله عز وجل يتولى سره (8).

السبب الثاني: إن توجيه أدلة الجواز وأدلة المنع ممكن باتباع الأوجه التالية: -

الوجه الأول: ما قال الشافعي رضي الله عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم غرس الرغبة في الذين ردهم، فردهم رجاء أن يسلموا فصدّق الله ظنه فيهم، وفيه نظر لأن قوله صلى الله عليه وسلم «فارجع فلن نستعين بمشرك» نكرة في سياق النفي وهي تفيد العموم (9).

(1) انظر روائع البيان تفسير آيات الأحكام من القرآن. ج 1 ص 402، وانظر تفسير آيات الأحكام/ محمد علي السايس ج 2 ص 7.

(2)

انظر المصدرين السابقين، من نفس المكان.

(3)

انظر مغني المحتاج ج 4 ص 221.

(4)

انظر فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص 190.

(5)

انظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 45.

(6)

فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص 252.

(7)

انظر نيل الأوطار للشوكاني ص 45.

(8)

انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(9)

انظر نيل الأوطار للشوكاني ج 8 ص 43 - 44.

ص: 287

الوجه الثاني: قول الجماعة إن الاستعانة كانت ممنوعة، ثم رخص فيها قال: ذلك الحافظ في التلخيص، وعليه نص الإمام الشافعي (1).

الوجه الثالث: ما ذكر في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق، إلا عندما يستقيمون على أوامر الولي المسلم ونواهيه، واستدلوا بأن استعانته صلى الله عليه وسلم بمن سبق ذكرهم إنما كانت بهذا الوصف، بمعنى أن يكون الكفار مأمورين منهيين، لا آمرين ناهين (2).

أما استعانته صلى الله عليه وسلم بالمنافقين فقد انعقد الإجماع على جواز الاستعانة بهم على الكفار، فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بابن أبي وأصحابه، وكذلك الاستعانة بالفساق على الكفار (3).

ومن هذا الباب الاستعانة بالفساق على البغاة حيث يرى الإمام الشوكاني جواز ذلك (4).

الوجه الرابع: اشتراط بعض أهل العلم ومنهم الهادوية، أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق، إلا إذا كان مع الإمام جماعة يستقل بهم في إمضاء الأحكام الشرعية، على الذين استعان بهم ليكون المستعان بهم مغلوبين لا غالبين، كما كان وضع المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبناء على ما تقدم فقد اشترط القائلون بجواز الاستعانة بالكفار شروطًا تجعل الاستعانة بالكفار عند الضرورة القصوى، وفي مجالات لا تؤثر في عقيدة الإسلام وحياة المسلمين وهذه الشروط كما يلي: -

1 -

أن لا يوجد من المسلمين من يقوم مقام الكافر أو الكفار الذين يراد الاستعانة بهم.

2 -

أن يستعان بهم فيما دون القتال مع المسلمين كما هو رأي الجمهور (5).

3 -

أن يكون المستعان بهم من الكفار فيه نصح ونفع للمسلمين.

4 -

أن لا يستقل الكافر برأي أو مشورة، عن رأي أهل الحل والعقد من المسلمين، بل يكون تابعًا مأمورًا، لا آمرًا متبوعًا.

5 -

أن لا يكون للمشركين صولة ودولة يخشى منها التعاون مع من استعان بهم المسلمون من الكفار لضرب الإسلام وأهله.

6 -

أن يكون الكافر أو الكفار المستعان بهم مستخدمين أجراء لا أنصارًا مكرمين.

7 -

إن جاز على بعض الأقوال الاستعانة بالمشرك في حرب غيره من المشركين فلا يجوز بحال من الأحوال الاستعانة بالمشركين في حرب البغاة من أهل الإسلام (6).

ولكن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يجد عكس ذلك تمامًا حيث إن الكفار يقدمون على المسلمين في ديار الإسلام فهم المستشارون العسكريون والخبراء المنفذون، ولهم من الامتيازات العظيمة والتسهيلات الواسعة ما جعلهم يحصلون على تقدير مادي ومعنوي، لا يحصل عليه المسلم الذي يساويهم أو يتفوق عليهم علمًا وعملاً، فبلاد المسلمين تكتظ بملايين النصارى واليهود وأهل الأوثان الذين يحملون جنسيات مختلفة وهم في حقيقة أمرهم جواسيس للأعداء وقد كشفت الحروب الثلاثة مع اليهود جوانب من ذلك (7).

بينما كثير من أهل الخبرة والمعرفة من المسلمين مهاجرون إلى دول الغرب والشرق بسبب سوء المعاملة التي يتلقونها في داخل البلاد الإسلامية فواقع المسلمين عكس ما يجب أن يكون

(1) انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(2)

انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(3)

انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(4)

انظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

(5)

انظر فقه السيرة/ محمد سعيد رمضان البوطي ص 190.

(6)

انظر الدرر السنية ج 7 ص 376.

(7)

انظر كتاب كيف تحطمت الطائرات عند الفجر، وكتاب سقوط الجولان، تأليف/ خليل مصطفى/ ضابط استخبارات الجولان قبل حرب 1387 هـ-1967 م.

ص: 288

تمامًا، حيث إنهم أذلاء في معاملة الكافرين أشداء في معاملة المؤمنين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

القرآن

{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)} [المائدة: 58]

التفسير:

وإذا أذَّن مؤذنكم -أيها المؤمنون- بالصلاة سخر اليهود والنصارى والمشركون واستهزؤوا من دعوتكم إليها؛ وذلك بسبب جهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون حقيقة العبادة.

في سبب نزول الآية وجوه:

أحدها: قال الكلبي: " ان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة، فقام المسلمون إليها، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا. على طريق الاستهزاء والضحك فأنزل الله تعالى هذه الآية"(1). [موضوع]

والثاني: قال السدي: " نزلت في رجل من نصارى المدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله قال: حرق الكاذب. فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام، فطارت منها شرارة في البيت فاحترق هو وأهله"(2). [مرسل]

قال الزمخشري: " قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده"(3).

والثالث: نقل الواحدي عن بعضهم: "إن الكفار لما سمعوا الآذان حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ذلك، فدخلوا على رسول الله وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الآذان الأنبياء من قبلك، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل من قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العير؟ فما أقبح من صوت ولا أسمج من كفر! فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} الآية. [فصلت: 33] "(4).

قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 58]، أي:" وإذا أذَّن مؤذنكم -أيها المؤمنون- بالصلاة"(5).

قال الواحدي: " أي: إذا دعوتم الناس إلى الصلاة بالأذان، والنداء: الدعاء بأرفع الصوت"(6).

قال ابن كثير: " أي: وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب"(7).

قال الجصاص: " قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها"(8).

(1) أسباب النزول للواحدي: 200، ذكره دون إسناد، وتفسير الثعلبي: 4/ 82، والكلبي ضعيف، متروك متهم بالكذب.

وأخرجه البيهقي في "الدلائل"(6/ 275) من طريق محمد بن مروان السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به وهو موضوع.

(2)

أسباب النزول للواحدي: 201، ذكره دون إسناد، وأخرجه الطبري (12218): ص 10/ 432، مرسلا، وابن ابي حاتم (6557): ص 4/ 1163 - 1164، وليس فيهما "نزلت".

وعزاه في الدر: 2/ 294، لابن أبي حاتم وأبي الشيخ، وانظر: تفسير الثعلبي: 4/ 82.

(3)

الكشاف: 1/ 650.

(4)

أسباب النزول للواحدي: 201، ذكره دون إسناد، وانظر: تفسير الثعلبي: 4/ 82، وتفسير القرطبي: 6/ 224.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 433، وانظر: التفسير الميسر: 118.

(6)

تفسير الوسيط: 2/ 203.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 140.

(8)

أحكام القرآن: 4/ 103.

ص: 289

عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري: "قد ذكر الله الأذان في كتابه فقال: {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} "(1).

قوله تعالى: {اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58]، أي:" سخر اليهود والنصارى والمشركون واستهزؤوا من دعوتكم إليها"(2).

قال السمرقندي: " يعني: الكفار، إذا سمعوا الأذان استهزءوا به. وإذا رأوهم ركعا وسجدا ضحكوا واستهزءوا بذلك"(3).

قال الطبري: أي: "سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك"(4).

قال ابن الجوزي: " واتخاذهم إياها هزوا: تضاحكهم وتغامزهم ذلك"(5).

قال مقاتل: "يعنى: استهزاء وباطلا، وذلك أن اليهود كانوا إذا سمعوا الأذان ورأوا المسلمين قاموا إلى صلاتهم يقولون قد قاموا لا قاموا، وإذا رأوهم ركعوا قالوا لا ركعوا وإذا رأوهم سجدوا ضحكوا وقالوا لا سجدوا واستهزءوا"(6).

قال السعدي: " فكيف تدعي لنفسك دينا قيما، وأنه الدين الحق وما سواه باطل، وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا، وسخر به وبأهله، من أهل الجهل والحمق؟ ! وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم"(7).

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]، أي:" وذلك بسبب جهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون حقيقة العبادة"(8).

قال القرطبي: " أي: أنهم بمنزلة من لا عقل له يمنعه من القبائح"(9).

قال السمرقندي: أي: " ذلك الاستهزاء بأنهم قوم لا يعقلون، يعني: لا يعلمون ثوابه"(10).

قال مقاتل: " يقول: لو عقلوا ما قالوا هذه المقالة"(11).

قال الزمخشري: " لأن لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم"(12).

قال البيضاوي: " فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهزء به، والعقل يمنع منه"(13).

قال الطبري: أي"فعلهم الذي يفعلونه، وهو: هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة، وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عَقَلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب، ما فعلوه"(14).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (6558): ص 4/ 1164.

(2)

التفسير الميسر: 118.

(3)

بحر العلوم: 1/ 401.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 433.

(5)

زاد المسير: 1/ 562.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 487.

(7)

تفسير السعدي: 237.

(8)

التفسير الميسر: 118.

(9)

تفسير القرطبي: 6/ 233.

(10)

بحر العلوم: 1/ 401.

(11)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 487.

(12)

الكشاف: 1/ 650.

(13)

تفسير البيضاوي: 2/ 133.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 433.

ص: 290

قال الرازي: " أي: لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن تعظيم الخالق المنعم وخدمته مقرونة بغاية التعظيم لا يكون هزوا ولعبا، بل هو أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم، ولذلك قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة، وأنفع السكنات الصيام"(1).

قال ابن كثير: " {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} مَعَانِي عبادة الله وشرائعه، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص، أي: ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل إن يدري كم صلَّى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين قبل السلام" (2)."(3).

قال المراغي: " أي ذلك الفعل الذي يفعلونه وهو الهزؤ والسخرية إنما كان لجهلهم بحقيقة الأديان وما أوجب الله فيها من تعظيمه والثناء عليه بما هو أهله، ولو كان عندهم عقل لخشعت قلوبهم كلما سمعوا المؤذن يكبر الله تعالى ويمجده بصوته الندى ويدعو إلى الصلاة له والفلاح بمناجاته وذكره، فهو ذكر مؤثر فى النفوس لا تخفى محاسنه على من يعقل الحكمة فى إرسال الشرائع ويؤمن بالله العلى الكبير"(4).

قال الماتريدي: " نفى عنهم العقل؛ لما لم ينتفعوا بما عقلوا؛ وإلا كانوا يعقلون؛ وعلى ذلك يخرج قوله: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]، لما لم ينتفعوا بما سمعوا به وعقلوا، وكذلك قوله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171] الآية: إنا نعلم أنهم كانوا يبصرون ويسمعون؛ لكن نفي عنهم لما لم ينتفعوا بالبصر والسمع واللسان؛ كمن ليس له ذلك في الأصل.

ويحتمل وجها آخر: وهو أن شدة بغضهم وحسدهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم تمنعهم عن فهم ما خوطبوا به، وتحول بينهم وبين معرفة ذلك - فكانوا كمن ليس لهم ذلك رأسا " (5).

الفوائد:

1 -

تحريم موالاة من اتخذ ديننا هزوا.

2 -

الإخبار بأن الذين لا يستفيدون من العقل ويعرضون عنه ويتبعون الهوى كأنهم في حكم فاقدي العقل، قال تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ [المائدة: 58].

فهؤلاء الأعداء يسخرون من الأذان، ومن الصلاة، ومن العبادة، ويتخذونها هزوا ولعبا وسخرية، لأنهم قوم لا يعقلون معنى العبادة، ولا معنى شرع الله، والصلاة أكرم شيء وأفضله لمن يعقل ويعلم.

وهذه صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر وله حصاص، أي: ضراط حتى لا يسمع التأذين .. "(6).

3 -

ومنها: أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْقِلُونَ} .

والمراد هنا: عقل رشد- وإن كان عندهم عقل إدراك -؛ فلعدم انتفاعهم بعقولهم نفى الله عنهم العقل.

القرآن

(1) مفاتيح الغيب: 12/ 388.

(2)

أخرجه ابن ماجه (1217)، والدارقطني 1/ 374 - 375، والبيهقي 2/ 340 من طريق ابن إسحاق.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 140.

(4)

تفسير المراغي: 6/ 146 - 147.

(5)

تفسير الماتريدي: 3/ 547.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 140.

ص: 291

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)} [المائدة: 59]

التفسير:

قل -أيها الرسول- لهؤلاء المستهزئين من أهل الكتاب: ما تَجِدُونه مطعنًا أو عيبًا هو محمدة لنا: من إيماننا بالله وكتبه المنزلة علينا، وعلى من كان قبلنا، وإيماننا بأن أكثركم خارجون عن الطريق المستقيم!

سبب النزول:

قال ابن عباس-رضي الله عنه: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود، فيهم: أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، قال: "أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به؛ فأنزل الله فيهم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} "(1). [ضعيف]

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [المائدة: 59]، أي:" قل -أيها الرسول- لهؤلاء المستهزئين من أهل الكتاب"(2).

قال مكي: أي: " قل يا محمد لليهود والنصارى"(3).

قال ابن كثير: أي: " قل يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب"(4).

قوله تعالى: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59]، أي:" هل تعيبون علينا من شىء وتكرهوننا لأجله، إلا إيماننا بالله وكتبه المنزلة علينا، وعلى من كان قبلنا"(5).

قال مكي: " هل [تكرهون] منا وتجدون علينا شيئاً من الأشياء إلا إيماننا بالله وإقرارنا به، وبما أنزل إلينا، وبما أنزل من قبل أي: التوراة والإنجيل وجميع الكتب؟ "(6).

قال الطبري: أي: " هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزئون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا ولعبًا، إلا أن آمنا بالله، يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا"(7).

قال السعدي: " أي: هل لنا عندكم من العيب إلا إيماننا بالله، وبكتبه السابقة واللاحقة، وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين؟ "(8).

قال البغوي: " أي: إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق"(9).

(1) أخرجه ابن إسحاق في "المغازي"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 108) -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(12219): ص 10/ 434، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6559): ص 4/ 1164: ثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ لجهالة محمد هذا كما تقدم مراراً.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 107) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ.

(2)

التفسير الميسر: 118.

(3)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1791.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 142.

(5)

انظر: تفسير المراغي: 6/ 147، والتفسير الميسر:118.

(6)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1791.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 433.

(8)

تفسير السعدي: 237.

(9)

تفسير البغوي: 3/ 75.

ص: 292

قال ابن كثير: أي: هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة، فيكون الاستثناء منقطعًا كما في قوله:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] وكقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 74] وفي الحديث المتفق عليه: «ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله» (1) " (2).

قال الماتريدي: " أي: كيف تطعنون علينا وتعيبون، وأنتم ممن قد دعوتم إلى الإيمان بالله، والإيمان بما أنزل في الكتب، وأنتم ممن قد أوتيتم الكتاب، وفي كتابكم الإيمان بالله، والإيمان بالكتب كلها؛ فكيف تنكرون الإيمان بذلك كله، وتعيبون علينا؟ ! "(3).

قال الزجاج: " معنى نقمت بالغت في كراهة الشيء"(4).

قال الراغب: " يقال: نقم ونقم عليه نقمة إذا أنكر ما فعله وسخط عليه ولتضمين النقمة

السخط والإنكار استعمل في كل واحد منهما على الانفراد" (5).

والعرب تقول: نقَمتُ عليك كذا أنقِم وبه قرأه القرأة من أهل الحجاز والعراق وغيرهم ونقِمت أنقِم، لغتان ولا نعلم قارئًا قرأ بهما بمعنى وجدت وكرهت، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات (6):

مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلا

أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا (7)

وقرأ الحسن، والأعمش:«تنقمون» بفتح القاف (8). قال الزمخشري: " والفصيح كسرها"(9).

وقرأ الجمهور: «أنزل» بضم الهمزة، وكذلك في الثاني، وقرأ أبو نهيك:«أنزل» بفتح الهمزة والزاي فيهما (10).

قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]، أي:" وإيماننا بأن أكثركم خارجون عن الطريق المستقيم"(11).

قال مقاتل: " يعني: عصاة"(12).

قال مكي: "أي: وهل تنقمون منا إلا أن أكثركم فاسقون؟ "(13).

قال ابن ابي زمنين: " أي: بفسقكم نقمتم ذلك علينا"(14).

قال ابن كثير: " أي: وآمنا بأن أكثركم فاسقون، أي: خارجون عن الطريق المستقيم"(15).

(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (1468) ورواه مسلم في صحيحه برقم (983) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 142.

(3)

تفسير الماتريدي: 3/ 548.

(4)

معاني القرآن: 2/ 186.

(5)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 387.

(6)

ديوانه: 70، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 170، واللسان (نقم)، من قصيدته التي قالها لعبد الملك بن مروان، في خبر طويل ذكره أبو الفرج في الأغاني 5: 76 - 80، وبعد البيت: وأنَّهُمْ مَعْدِنَ المُلُوكِ، فَلا

تَصْلُحُ إلا عَلَيْهِمُ العَرَبُ

إِن الفَنِيق الَّذِي أَبُوهُ أَبُو

العَاصِي، عَلَيْهِ الوَقَارُ والحُجُبُ

خَلِيفَةُ اللهِ فَوْقَ مِنْبَرِه

جَفَّتْ بِذَاكَ الأقْلامُ والكُتُبُ

يَعْتَدِلُ التَّاجُ فَوْقَ مَفْرِقِهِ

عَلَى جَبِينٍ كأَنّهُ الذَّهَب.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 433 - 434.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 650، وزاد المسير: 1/ 562.

(9)

الكشاف: 1/ 650.

(10)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 210.

(11)

التفسير الميسر: 118.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 488.

(13)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1791.

(14)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 35.

(15)

تفسير ابن كثير: 3/ 142.

ص: 293

قال السمرقندي: " يعني: لم تؤمنوا لفسقكم، وعصيانكم"(1).

قال السعدي: أي: " ومع هذا فأكثركم خارجون عن طاعة الله، متجرئون على معاصيه، فأولى لكم -أيها الفاسقون- السكوت، فلو كان عيبكم وأنتم سالمون من الفسق، وهيهات ذلك - لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع فسقكم"(2).

قال البغوي: " لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة وحب الأموال"(3).

قال الماتريدي: " أي: كيف تطعنون علينا وتعيبون، وأنتم ممن قد دعوتم إلى الإيمان بالله، والإيمان بما أنزل في الكتب، وأنتم ممن قد أوتيتم الكتاب، وفي كتابكم الإيمان بالله، والإيمان بالكتب كلها؛ فكيف تنكرون الإيمان بذلك كله، وتعيبون علينا؟ ! "(4).

قال الزجاج: " المعنى: هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم، أي إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق لأنكم فسقتم، بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرياسة، وكسبكم بها الأموال"(5).

قال ابن عطية: " وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، ونظير هذا الغرض في الاستثناء قول النابغة (6):

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب" (7)

أي: ليس فيهم عيب (8).

وفي عطف قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]، وجوه (9):

أحدها: أن يعطف على: {أن آمنا} ، بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه.

والثاني: أن يكون على تقدير حذف المضاف، أى: واعتقاد أنكم فاسقون.

والثالث: أن يعطف على المجرور، أى: وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون.

والرابع: ويجوز أن تكون «الواو» بمعنى «مع» ، أى: وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون.

والخامس: ويجوز أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف، كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان، لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات.

قال الزمخشري: "ويدل عليه تفسير الحسن: بفسقكم نقمتم ذلك علينا"(10).

قال ابن عطية: " وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ

وقوله تعالى: {وأن أكثركم فاسقون} ، هو عند أكثر المتأولين معطوف على قوله: أن آمنا فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه" (11).

(1) بحر العلوم: 1/ 402.

(2)

تفسير السعدي: 237.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 75.

(4)

تفسير الماتريدي: 3/ 548.

(5)

معاني القرآن: 2/ 186.

(6)

.ديوانه: 11، وكتاب البديع: 111، والعمدة: 2/ 45، والصناعتين: 408، وإعجاز القرآن:161.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 210.

(8)

انظر: غريب القرآن لابن قتيبة: 165.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 650 - 651.

(10)

.الكشاف: 1/ 651

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 210.

ص: 294

و «الفسق» لغة: الخروج عن الشيء، أو القصد، وهو الخروج عن الطاعة، والفسق: الفجور، والعرب تقول: إذا خرجت الرطبة من قشرها: قد فسقت الرطبة من قشرها، وفسق فلان في الدنيا فسقاً: إذا اتسع فيها، وهوّن على نفسه، واتسع بركونها لها، لم يضيّقها عليه، ورجل فاسق، وفسيق وفُسَق: دائم الفِسْق، والفويسقة الفأرة: تصغر فاسقة، لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها، والتفسيق ضدّ التّعديل (1).

وأما المقصود بـ «الفسق» اصطلاحًا: فقد تنوعت عبارات العلماء في ذلك، على النحو الآتي:

أولا: - أن الفسق في عرف الاستعمال الشرعي: الخروج من طاعة الله عز وجل فقد يقع على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان. قاله ابن عطية (2)، والطبري (3)، والقرطبي (4).

وقد روي "عن ابن عباس في قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة البقرة: 59]، أي بما بعُدوا عن أمري"(5).

قال الشوكاني: عن هذا التعريف: " وهذا هو أنسب بالمعنى اللغوي، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض "(6).

والثاني: - وقال ابن كثير: والفاسق: هو الخارج عن الطاعة. تقول العرب: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها؛ ولهذا يقال للفأرة: فويسقة، لخروجها عن جُحْرها للفساد (7).

وثبت في الصحيحين، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خمس فواسق يُقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور"(8).

والثالث: - وقال البيضاوي: " الفاسق الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة "(9).

والرابع: - وقال الألوسي: "الفسق شرعًا: خروج العقلاء عن الطاعة، فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة، واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة، فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرًا بقرينة "(10).

ومن خلال التعريفات السابقة: ندرك عموم مصطلح الفسق، فهو في الأصل – أعمّ من الكفر - (11) إذ يشمل الكفر وما دونه من المعاصي، ولكن خصّه العرف بمرتكب الكبيرة، ولذا يقول الراغب الأصفهاني:" والفسق يقع بالقليل من الذنوب والكثير، ولكن تعورف فيما كان كثيراً"(12).

الفوائد:

1 -

التقريع لأهل الكتاب والتنديد بباطلهم ومخازيهم، إذ أن القرآن الكريم قد شنع بأهل الكتاب ودحض شبهاتهم وأغاليطهم.

(1) انظر: اللسان (10/ 308) ومعجم مقاييس اللغة (2/ 502)، والمصباح المنير للفيومي ص (568)، وترتيب القاموس المحيط للزاوي (4/ 502)، ومفردات الراغب ص (572).

(2)

تفسير ابن عطية (1/ 155).

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 112.

(3)

أنظر: تفسيره: 1/ 409 - 410.

(4)

تفسير القرطبي (1/ 245).

(5)

أخرجه الطبري (571): ص 1/ 409 - 410.

(6)

فتح القدير (1/ 57).

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 209.

(8)

صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).

(9)

- تفسر البيضاوي (1/ 41) وانظر: تفسير أبي السعود (1/ 131).

(10)

تفسير الألوسي (1/ 210).

(11)

انظر: تفسير ابن كثير (1/ 63)، ومفردات الراغب ص (572)، ونزهة الأعين النواظر لابن الجوزي (2/ 72)، والكليّات للكفوي ص:(693).

(12)

المفردات ص (572).

ص: 295

2 -

أن شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.

3 -

أن لهذه الأمة قيراطان من الأجر؛ لإيمانهم بموسى وعيسى مع إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن التصديقَ عَمَلٌ، ويدل على ذلك قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].

4 -

أن العُرف في الفاسق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غيرُ العرف في وقتنا مثل قوله تعالى في الكفار: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين} [الأعراف: 102]، وقوله تعالى في المشركين:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] ومثل قوله في اليهود: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] وقوله فيهم: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81].

فَهذِهِ النصوص -كما ترى- دالةٌ على أن في الكفار المصرحين من لا يستحِقُّ أن يُسَمَّى فاسقاً، فدلَّ ذلِكَ على أن ثَمَّ عُرفاً في اسم الفاسق غيرَ هذا العرفِ الذي اصطلح عليه المتأخرون، وغير الحقيقة اللغوية.

5 -

ضرورة عدم الخلط بين مفهوم الفسق عند أهل السنة، ومخالفيهم، وفيما يأتي بعض التنبيهات على ذلك:

أولا: - إن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مع أنه فاسق بكبيرته، إلا أنه لا يخرج من الإيمان بالكلية، فيمكن اجتماع الإيمان مع هذا الفسق الأصغر ـ كما هو مقرر عند أهل السنة ـ، ومن ثم فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته (1)، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء غفر له برحمته، وإن شاء عذبه بعدله، ومآله إلى الجنة فيما بعد؛ فأهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها ـ فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة (2).

يقول ابن تيمية ـ مقررًا هذه المسألة ـ " ومن أصول أهل السنة والجماعة: أن الدين والإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178]، وقال سبحانه:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [9] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10].

ثانيا: - ولا يسلبون الفاسق الملّي الإسلام بالكلية، ولا يخلدونه في النار، كما تقول المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

ثالثا: - وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال: 2]، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذات شرف يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ" (3)، ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يعطي الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم (4).

فارتكاب الكبير يعدّ فسقاً ينافي كمال الإيمان الواجب، وهذا الفسق يمكن اجتماعه مع الإيمان، وصاحبه متعرّض للوعيد، فأهل السنة يقولون بجواز التبعض في الاسم والحكم، بمعنى

(1) هذا بالنسبة للحكم العام المطلق، فنطلق القول بنصوص الوعيد والتكفير والتفسيق، ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضي الذي لا معارض له. انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (10/ 332)، (4/ 484)، (28/ 499).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (4/ 486).

(3)

أخرجه البخاري ومسلم، كتاب المظالم ح (2475) ومسلم، كتاب الإيمان، ح (76).

(4)

العقيدة الواسطية بشرح محمد خليل هراس ص (152 - 156).

ص: 296

أن يكون مع الرجل بعض الإيمان لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه (1).

وإذا تقرر مفهوم الفسق عند أهل السنة، فإننا نورد مفهومه عند المخالفين:

أولا: الأشاعرة:

فأما الأشاعرة: فنجد فيهم من يجعل الفاسق الملي مؤمنًا بإطلاق، ويعتبرونه مؤمنًا حقًا، كما قال أحدهم – وهو الآمدي -:" فعلى هذا مهما كان مصدقاً بالجنان وإن أخلّ بشيء من الأركان، فهو مؤمن حقّاً، وانتفاء الكفر عنه واجب، وإن صح تسميته فاسقاً بالنسبة إلى ما أخلّ به من الطاعات، وارتكب من المنهيّات "(2).

وسمى الإيجي مرتكب الكبيرة مؤمناً بإطلاق (3).

وبجدر القول بأن مرتكب الكبيرة ـ عند أهل السنة ـ لا يعطي الإيمان المطلق، فلا يقال عن الزاني، أو شارب الخمر ـ مثلًا ـ: إنه مؤمن بإطلاق، ولكن نقيده، فنقول: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان.

وقد عاب إبراهيم النخعي – رحمه الله – تلك المقولة، فقال:" ما أعلم قوماً أحمق في رأيهم من هذه المرجئة؛ لأنهم يقولون: مؤمن ضالّ، ومؤمن فاسق"(4).

وعلى كلٍّ فإن مقالة أولئك الأشاعرة متفرعة من قول جمهورهم بأن الإيمان هو التصديق، حيث أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان.

ثانيا: المعتزلة:

وأما المعتزلة: فمفهوم الفسق عندهم على عكس المقالة السابقة، فالفاسق عندهم ليس مؤمنًا، كما أنه ليس كافرًا، بل هو في منزلة بين المنزلتين، ولم يقل أحد من المعتزلة بإيمان مرتكب الكبيرة سوى الأصم (5).

يقول عبد الجبار الهمداني المعتزلي: " صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين، وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقاً، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر، ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهو المنزلة بين المنزليتن "(6).

ولما كان مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ فاسقًا غير مؤمن، لذا حكموا عليه بالخلود في النار.

وكما قال عبد الجبار المعتزلي: " والذي يدل على أن الفاسق يُخلّد في النار، ويُعذّب فيها أبداً ما ذكرناه من عمومات الوعيد، فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة، تدل على أنه يُخلّد "(7).

ثالثا: الزيدية:

وقد تبع الزيديةُ المعتزلة في مفهوم الفسق، ووافقهوهم على ما سبق ذكره (8).

القرآن

{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)} [المائدة: 60]

التفسير:

(1) انظر: شرح الأصفهانية: مخلوف ص (144).

(2)

غاية المرام في علم الكلام ص (312).

(3)

انظر: المواقف في علمِ الكلام ص (389).

(4)

السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد حنبل (1/ 341).

(5)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/ 333).

(6)

شرح الأصول الخمسة ص (697).

(7)

شرح الأصول الخمسة ص (666).

(8)

انظر: مثلاً العقد الثمين في معرفة رب العالمين للحسين بن بدر الدين ص (57) ومصباح العلوم في معرفة الحيّ القيوم للرصاص، ص (20).

ص: 297

قل -أيها النبي- للمؤمنين: هل أخبركم بمن يُجازَى يوم القيامة جزاءً أشدَّ مِن جزاء هؤلاء الفاسقين؟

إنهم أسلافهم الذين طردهم الله من رحمته وغَضِب عليهم، ومَسَخَ خَلْقهم، فجعل منهم القردة والخنازير، بعصيانهم وافترائهم وتكبرهم، كما كان منهم عُبَّاد الطاغوت [وهو كل ما عُبِد من دون الله وهو راضٍ]، لقد ساء مكانهم في الآخرة، وضلَّ سَعْيُهم في الدنيا عن الطريق الصحيح.

سبب النزول:

قال مقاتل: " قالت اليهود للمؤمنين: ما نعلم أحدا من أهل هذه الأديان أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم. فأنزل الله- عز وجل: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك} ، يعنى: المؤمنين {مثوبة عند الله} ، يعني: ثوابا من عند الله، قالت اليهود: من هم يا محمد؟ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم: {من لعنه الله}

" (1).

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} [المائدة: 60]، أي:" قل -أيها النبي- للمؤمنين: هل أخبركم بمن يُجازَى يوم القيامة جزاءً أشدَّ مِن جزاء هؤلاء الفاسقين؟ "(2).

قال ابن كثير: " أي: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ "(3).

قال النحاس: أي: " قل هل أنبئكم بشر من ذلك أي بشر من نقمتكم علينا، وقيل: من شر ما تريدون لنا من المكروه"(4).

قال الطبري: " قل، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار هل أنبئكم، يا معشر أهل الكتاب، بشر من ثواب ما تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنزل إلينا من كتاب الله، وما أنزل من قبلنا من كتبه؟ "(5).

قال الراغب: " ذكر أن إيماننا بالله وما أنزل إلينا إن كان شرا عندكم، فإني أنبئكم بما هو شر عاقبة عند الله منه"(6).

قال السدي: " {مثوبة عند الله}، يقول: ثوابا عند الله"(7).

قال ابن زيد: " المثوبة، الثواب، مثوبة الخير، ومثوبة الشر، وقرأ: {خَيْرٌ ثَوَابًا} [سورة الكهف: 44] "(8).

وفي قوله تعالى: {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} [المائدة: 60]، قولان:

أحدهما: بشر من المؤمنين، قاله ابن عباس (9)، ومقاتل (10).

والثاني: بشر مما نقمتم من إيماننا، قاله الزجاج (11).

قال ابن عطية: " ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم: هل أنبئكم، هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤا ولعبا، قال ذلك الطبري (12) وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي قل يا محمد للمؤمنين هل

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 488، وانظر: زاد المسير: 1/ 563.

(2)

التفسير الميسر: 118.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 142.

(4)

إعراب القرآن: 1/ 274.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 435.

(6)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 387.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6560): ص 4/ 1164.

(8)

أخرجه الطبري (12221): ص 10/ 436.

(9)

انظر: زاد المسير: 1/ 563.

(10)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 488.

(11)

انظر: معاني القرآن: 2/ 187.

(12)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 435.

ص: 298

أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله

وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بـ {ذلك} إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم" (1).

والمثوبة مختصة بالإحسان، وضعت موضع العقوبة على سبيل التهكم، على طريقة قول الشاعر (2):

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ

تَحِيَّةُ بَيْنهمْ ضرْبٌ وَجِيعُ

أي: ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية، ومنه {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] (3).

قرأ الجمهور: {أنبئكم} بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي «أنبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ (4).

وقرأ أكثر الناس: «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو (5).

قوله تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60]، أي:" إنهم أسلافهم الذين طردهم الله من رحمته وغَضِب عليهم"(6).

قال الطبري: أي: " من أبعده الله وأسْحَقه من رحمته وغضب عليه"(7).

قال ابن كثير: " أي: [من] أبعده من رحمته، {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي: غضبًا لا يرضي بعده أبدًا"(8).

قال الراغب: أي: " وهو ممن أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم"(9).

قال مقاتل: " وهم اليهود، فإن لم يقتل أقر بالخراج وغضب عليه"(10).

قال الماتريدي: " الملعون هو المطرود عن الخيرات"(11).

قال أبو صالح عن ابن عباس: "من لعنه الله بالجزية، وغضب عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند الله"(12).

قال الزمخشري: " فإن قلت: المعاقبون من الفريقين هم اليهود، فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهود- لعنوا- يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه الله شر عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم"(13).

قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60]، أي:" ومَسَخَ خَلْقهم، فجعل منهم القردة والخنازير"(14).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 211.

(2)

يقال هو: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. كما في: شعره 149. وقد ورد منسوبًا له في: "كتاب سيبويه" 3/ 50، و"النوادر" لأبي زيد 150، و"العمدة" لابن رشيق 2/ 1056، و"الممتع في صنعة الشعر" 159.

وأوردته المصادر التالية غير منسوب: "كتاب سيبويه" 2/ 232، و"المقتضب" 2/ 20، 4/ 413، و"الخصائص" 1/ 368، و"مفردات ألفاظ القرآن" 126، 835، و"المحرر الوجيز" 3/ 375، و"شرح المفصل" 2/ 80، و"التصريح" 1/ 353، و"خزانة الأدب" 9/ 257، 263؛ حيث ذكر نسبته للشاعر ولم يجزم بذلك.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 651.

(4)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 210.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 210 - 211.

(6)

التفسير الميسر: 118.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 437.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 142.

(9)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 387.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 488.

(11)

تفسير الماتريدي: 2/ 549.

(12)

زاد المسير: 1/ 563.

(13)

الكشاف: 1/ 652.

(14)

التفسير الميسر: 118.

ص: 299

قال الراغب: أي: " ومسخهم القردة والخنازير"(1).

قال مجاهد: ": مسخت من يهود"(2).

قال مقاتل: " القردة في شأن الحيتان (3)، والخنازير (4) في شأن المائدة"(5).

قال الزمخشري: " قيل: وجعل منهم القردة أصحاب السبت، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى. وقيل: كلا المسخين من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير، وروى أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم"(6).

قال ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله تعالى؟ فقال: إن الله لم يهلك قومًا - أو قال: لم يمسخ قومًا - فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك" (7).

وفي رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا: " سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي من نسل اليهود؟ فقال: "لا إن الله لم يلعن قومًا فيمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم، جعلهم مثلهم" (8).

وفي سبب مسخهم خنازير، فروي عن عُمرَ بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، قال:"حدِّثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل، وكان فيها مَلِك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أنّ تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله، حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله، وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت، وخرج إليها ذلك الملك في الناس، فقتل أصحابها جميعًا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمَّع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعًا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعًا، وانفلتت من بينهم، فرجعت وقد أيست، وهي تقول: سبحان الله، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ، لقد أظهره بَعْدُ! قال: فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعزَّ دينه وأمر دينه! قال: فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ تلك المرأة"(9).

وروي عن ابن عباس: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحيات مَسْخ الجن، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير" (10). قال ابن كثير:"هذا حديث غريب جدا"(11).

(1) تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 387.

(2)

أخرجه الطبري (12224): ص 10/ 439.

(3)

الحيتان هي: الأسماك التي نهوا عن صيدها يوم السبت فاصطادوها بالحيلة فقال لهم الله: كونوا قردة خاسئين.

قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65].

(4)

وأما المائدة فقد طلبها عيسى من السماء واشترط عليهم الإيمان بالله وألا يرفعوا شيئا منها فأكلوا منها ثم كفروا ورفعوا من المائدة فدعا عليهم عيسى: أن يلعنهم الله كما لعن أصحاب السبت، فمسخهم الله خنازير.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 488.

(6)

الكشاف: 1/ 653.

(7)

صحيح مسلم برقم (2663).

(8)

مسند الطيالسي برقم (307) ومسند أحمد (1/ 395) وفي إسناده محمد بن زيد الكندي وهو مجهول، وأبو الأعين العبدي ضعيف.

(9)

أخرجه الطبري (12223): ص 10/ 438.

(10)

رواه ابن حبان في صحيحه برقم (1080)"موارد" والطبراني في المعجم الكبير (11/ 341) والبزار في مسنده برقم (1232)"كشف الأستار" وابن أبي حاتم في العلل (2/ 290) من طرق عن عبد العزيز بن المختار به.

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة يقول: "هذا الحديث هو موقوف لا يرفعه إلا عبد العزيز بن المختار ولا بأس في حديثه".

ولم يتبين لي وجه غرابته عند الحافظ ابن كثير إلا أن يكون قصد أن عبد العزيز بن المختار قد خالفه فيه معمر، فرواه عن أيوب عن عكرمة به موقوفاً. رواه الطبراني فى المعجم الكبير (11/ 341). فهذا بعيد وهو محتمل، وقد صحح هذا الحديث الحافظ المقدسى في المختارة، كما في السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الألباني (4/ 439).

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 143.

ص: 300

قال ابن عطية: "وقوله تعالى: {وجعل} هي بمعنى صير، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى «خلق» (1)، وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله: {وعبد الطاغوت} تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحدا عابد الطاغوت"(2).

قوله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]، أي:" وجعل منهم عُبَّاد الطاغوت"(3).

قال الطبري: أي: " ومن عبد الطاغوت"(4). قال البغوي: " وتصديقها قراءة ابن مسعود: «ومن عبدوا الطاغوت» "(5).

قال ابن كثير: أي: "وجعل منهم من عبد الطاغوت"(6).

قال مقاتل: فيها تقديم وعبد الطاغوت، يعني: ومن عبد الطاغوت وهو الشيطان" (7).

قال الزجاج: أي: " أطاع الشيطان فيما سول له وأغراه به"(8).

قال أبو غسان قال: "قلت لابن أبي ليلى: {وعبد الطاغوت}، فقال: فخدم الطاغوت"(9).

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟

قلت: فيه وجهان:

أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوه.

والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به، كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] " (10).

وقد تعددت عبارات أهل التفسير في معنى «الطاغوت» على أقوال:

أحدها: أنه الشيطان (11)، وهو قول عمر بن الخطاب (12)، ومجاهد (13)، والشعبي (14)، والضحاك (15)، وقتادة (16)، والسدي (17)، وعكرمة (18)، واختاره الزجاج (19)، وابن كثير (20)، والقاسمي (21) وآخرون.

(1) انظر: الحجة للقراء السبعة: 3/ 236. قال: " ومعنى: «جعل»: خلق كما قال: {وجعل منها زوجها} [الأعراف: 189]، وكما قال: {وجعل الظلمات والنور} [الأنعام: 1]، وليس عبد".

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 211.

(3)

التفسير الميسر: 118، وصفوة التفاسير: 1/ 324

(4)

تفسير الطبري: 10/ 443.

(5)

تفسير البغوي: 3/ 75.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 143.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 489.

(8)

معاني القرآن: 2/ 187.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6563): ص 4/ 1165.

(10)

الكشاف: 1/ 653.

(11)

قال الشنقيطي: " قال بعض العلماء: (الطاغوت): الشيطان، ويدل لهذا قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه}، أي يخوفكم من أوليائه. وقوله تعالى: {الذين آمنوا يقاتلون فى سبيل الله والذين كفروا يقاتلون فى سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا، وقوله: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دونى وهم لكم عدو} وقوله: {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء}، والتحقيق أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت والحظ الأكبر من ذلك للشيطان كما قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بنى ءادم أن لا تعبدوا الشيطان}، وقال: {إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا}، وقال عن خليله ابرهيم: {يا أبت لا تعبد الشيطان}، وقال: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}، إلى غير ذلك من الآيات". [أضواء البيان: 1/ 159].

(12)

أنظر: تفسير الطبري (5834) و (5835): ص 5/ 417. وابن ابي حاتم (2618): ص 2/ 495.

(13)

أنظر: تفسير الطبري (5836): ص 5/ 417.

(14)

أنظر: تفسير الطبري (5837): ص 5/ 417.

(15)

أنظر: تفسير الطبري (5838): ص 5/ 417.

(16)

أنظر: تفسير الطبري (5839): ص 5/ 417.

(17)

أنظر: تفسير الطبري (5840): ص 5/ 417.

(18)

البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنِ الْغَائِطِ} ، قبل الحديث رقم 4583، ولفظه:"الْجِبْتُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: شَيْطَانٌ، وَالطَّاغُوتُ: الْكَاهِنُ".

(19)

انظر: معاني القرآن: 2/ 187.

(20)

أنظر: تفسير ابن كثير: 1/ 683، إذ يقول:" ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها".

(21)

محاسن التأويل: 2/ 194.

ص: 301

والثاني: أنه الساحر، وهو قول أبي العالية (1)، ومحمد ابن سيرين (2) والشعبي (3).

والثالث: الكاهن، وهو قول جابر (4)، وسعيد بن جبير (5)، والرفيع (6)، وابن جريج (7).

والرابع: الأصنام والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللَّه تعالى (8). روي ذلك عن مالك (9).

والخامس: مَرَدَة الإنس والجن (10).

والسادس: وقيل: أنه كل ذي طغيان طغى على الله، فيعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، أو بطاعة له، سواء كان المعبود إنساناً أو صنماً، روي ذلك عن الإمام مالك (11)، وابن القيم (12)، وهذا قول أبي جعفر الطبري (13).

والسابع: أنها النفس لطغيانها فيما تأمر به من السوء، كما قال تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، ذكره الماوردي (14).

والراجح-والله أعلم- أن الطاغوت عبارة عن كل مُعتدٍ وكل معبود من دون الله (15)، وهو اختيار الإمام الطبري وأبي حيان (16) وغيرهم. وبه قال أكثر أهل العلم.

واختلفوا في أصل كلمة {الطَّاغُوتِ} [البقرة: 256]، على وجهين (17):

(1) أنظر: تفسير الطبري (5841): ص 5/ 417.

(2)

أنظر: تفسير الطبري (5842): ص 5/ 417.

(3)

أنظر تفسير ابن أبي حاتم (2620): ص 2/ 495.

(4)

صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنِ الْغَائِطِ} ، قبل الحديث رقم (4583)، ولفظه:""كَانَتْ الطَّوَاغِيتُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا: فِي جُهَيْنَةَ وَاحِدٌ، وَفِي أَسْلَمَ وَاحِدٌ، وَفِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ، كُهَّانٌ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ".

(5)

أنظر: تفسير الطبري (5843): ص 5/ 418.

(6)

أنظر: تفسير الطبري (5844): ص 5/ 418. والرفيه: ، هو أبو العالية الرياحي.

(7)

أنظر: تفسير الطبري (5845): ص 5/ 418.

(8)

انظر: تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، 2/ 446 - 447، تفسير قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} .

(9)

تفسير ابن أبي حاتم (2622): ص 2/ 495.

(10)

أنظر: النكت والعيون: 1/ 327.

(11)

ذكره القرطبي في تفسيره، 5/ 248، عن ابن وهب، عن الإمام مالك، وانظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، ص 44.

(12)

وأجمع ما قيل في تعريف الطاغوت ما ذكره ابن القيم / بقوله: "والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع". [إعلام الموقعين عن رب العالمين، 1/ 50].

(13)

أنظر: تفسير الطبري: 5/ 419.

(14)

أنظر: النكت والعيون: 1/ 327.

(15)

انظر: المفردات فى غريب القرآن للأصفهانى: 30.4

(16)

قال أبو حيان بعد أن سرد الأقوال في معنى (الطاغوت): " وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها". [البحر المحيط: 2/ 210].

(17)

أنظر: النكت والعيون: 1/ 328.

ص: 302

أحدهما: أنه اسم أعجمي معرّب، ومن ثم اختلف هؤلاء في اشتقاقه على أقوال (1):

أ- قال الشوكاني: "الطاغوت: فعلوت، من طغى يطغي ويطغو، إذا جاوز الحد"(2).

ب-قال سيبويه: "هو اسم مذكَّر"(3) مفرد، أي اسم جنس، يشمل القليل والكثير.

ج- وقال أبو على الفارسي: "إنه مصدر: كرهبوت، وجبروت، يوصف به الواحد، والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين، وعينه إلى موضع اللام"(4)، كجبذ، وجذب، ثم تقلب الواو ألفًا؛ لتحركها، وتحرك ما قبلها، فقيل: طاغوت. واختار هذا القول النحاس (5).

والثاني: أن "أصل الطاغوت في اللغة: مأخوذ من الطغيان، يؤدي معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآلٍ، من اللؤلؤ"(6).

والثاني: أنه اسم عربي مشتق من الطاغية، قاله ابن بحر (7).

قرأ حمزة وحده: «وعبد الطاغوت» ، بضم الباء من «عبد» ، وكسر التاء من «الطاغوت» ، وقرأ الباقون:{وعبد الطاغوت} منصوبا كله (8).

وقرأ بُريدة الأسلمي: «وعابد الطاغوت» (9).

وقرأ ابن مسعود: «وعبدوا» (10)، ردا إلى المعنى. قال الراغب:" وهو أجود"(11).

وقرأ أبو جعفر النحوي: «وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ» (12)، قال الطبري:" وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى ذكره، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام، فكان فيما ذمَّهم به عبادُتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة"(13).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} [المائدة: 60]، أي:"لقد ساء مكانهم في الآخرة"(14).

قال مقاتل: "في الدنيا، يعني: شر منزلة"(15).

قال ابن كثير: " أي: مما تظنون بنا"(16).

(1) انظر: فتح القدير: 1/ 275، والمحرر الوجيز: 1/ 344، وتفسير القرطبي: 3/ 281، والبحر المحيط: 2/ 599، وفتح البيان في مقاصد القرآن: 2/ 99، والحجة للقراء السبعة: 4/ 137.

(2)

فتح القدير: 1/ 275.

(3)

الكتاب: 3/ 240. وذكر صاحب اللسان (طغى)، قال ابن منظور: يقع على الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهي مشتقة من طغى، والطاغوتُ الشيطان، والكاهِنُ، وكلُّ رأْسٍ في الضَّلالة، وقد يكون واحداً قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60]، وقد يكون جَمْعاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257]، وهو مثل الفُلْكِ يُذَكَّرُ ويؤنَّث، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17]، والطاغوتُ يكونُ من الأَصْنامِ، ويكون من الجِنِّ والإِنس، ويكون من الشياطين، وجمعُ الطاغوتِ: طَواغِيتُ، والطَّوَاغِي: جمع طاغيَةٍ، ويجوز أَن يُراد بالطَّواغِي: من طَغَى في الكُفرِ، وجاوَزَ الحَدَّ". [لسان العرب لابن منظور، 15/ 7، مادة (طغى)، ومقاييس اللغة، 3/ 322، مادة (طغى)، والمصباح المنير، 2/ 273، مادة (طغى)].

(4)

المحرر الوجيز: 1/ 344.

(5)

أنظر: معاني القرآن: 1/ 270.

(6)

معاني القرآن للنحاس: 1/ 269.

(7)

نقلا عن الماوردي في النكت والعيون: 328. ولم اجده في تفسير ابي مسلم الأصفهاني المشهور بابن بحر.

(8)

انظر: السبعة في القراءات: 246. وذكر فيه ابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 563 - 564: "عشرون وجها من القراءة".

(9)

انظر: تفسير الطبري (12229): 10/ 440.

(10)

انظر: تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 387.

(11)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 387.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12228): 10/ 441 ..

(13)

تفسير الطبري: 10/ 440.

(14)

التفسير الميسر: 118.

(15)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 489.

(16)

تفسير ابن كثير: 3/ 143.

ص: 303

قال الزمخشري: " أولئك الملعونون الممسوخون شر مكانا جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ليست في قولك: أولئك شر وأضل، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز"(1).

قال ابن الجوزي: " أي: هؤلاء الذين وصفناهم شر مكانا من المؤمنين، ولا شر في مكان المؤمنين، ولكن الكلام مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شرا منكم، فقيل: من كان بهذه الصفة، فهو شر منهم"(2).

قال ابن عطية: " و «مكان»، يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة"(3).

قال النحاس: " يقال: ليس في المؤمنين شر فكيف جاء: {أولئك شر مكانا} ؟ ففي هذا أجوبة:

حكى الكوفيون: العسل أحلى من الخل، وإن كان مردودا، وقال أبو إسحاق: المعنى: «أولئك شر مكانا على قولكم» (4).

ومن أحسن ما قيل فيه: أولئك الذين لعنهم الله شر مكانا في الآخرة من مكانكم في الدنيا لما لحقكم من الشر، وقيل: أولئك الذين نسيهم الله شر من الذين نقموا عليكم، وقيل: أولئك الذين نقموا عليكم شر من الذين لعنهم الله" (5).

قال ابن عباس: "مكانهم سقر، ولا مكان أشد شرا منه"(6).

قوله تعالى: {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]، أي:" وضلَّ سَعْيُهم في الدنيا عن الطريق الصحيح"(7).

قال البغوي: " أي: عن طريق الحق"(8).

قال مقاتل: " يعني: وأخطأ عن قصد الطريق من المؤمنين"(9).

قال الماتريدي: " أي: أخطأ طريقا ودينا"(10).

قال ابن كثير: " وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة، كقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24] "(11).

قال ابن عطية: " و «سواء السبيل»: وسطه، ومنه قول العرب: قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: {في سواء الجحيم} [الصافات: 55]، وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء"(12).

قال أهل العلم: "ويوجه التفضيل بـ {شر} و {أضل} على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار، ويكون على هذا الاحتمال قوله: من لعنه الله الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه، فهو في حكمه"(13).

(1) الكشاف: 1/ 653.

(2)

زاد المسير: 1/ 564.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 213.

(4)

انظر: إعراب القرآن للنحاس: 1/ 274، وتفسير القرطبي: 6/ 236، والبحر المحيط: 4/ 309. ولم أجده في معاني القرآن. وإنما قال: 2/ 189: " مكانا " منصوب على التفسير".

(5)

إعراب القرآن: 1/ 274 - 275

(6)

البحر المحيط: 4/ 309.

(7)

التفسير الميسر: 118.

(8)

تفسير البوغي: 3/ 75.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 489.

(10)

تفسير الماتريدي: 2/ 549.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(12)

المحرر الوجيز: 2/ 213.

(13)

المحرر الوجيز: 2/ 211.

ص: 304

الفوائد:

1 -

تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير.

2 -

اليهود شر الناس مكاناً يوم القيامة، وأضل الناس في هذه الدنيا.

3 -

في الآية دليل على ذكر عيوب المردود عليه، وذلك في قوله:{من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل} ففيه ذكر معائب المردود عليه حتى يختزى ويفحم في الخصومة.

4 -

الآية تشير إلى اليهود وإلى كل من سلك سبيلهم، كما هو معروف في غالب ألفاظ القرآن التي تأتي في وصف أعمال أحد من الناس أو تأتي لسبب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومثل هذه الآية لا شك أنها كانت تحكي أخلاق اليهود وأوصافهم، لكن فيها أيضاً إشارة إلى كل من سلك سبيلهم.

5 -

أن الله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى، إذ وصف الله تعالى نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته، فقال عز وجل:{من لعنه الله وغضب عليه} .

ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضى، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات، التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى. كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليه الشيخ الطحاوي بقوله:" إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية"(1).

والأحاديث المشار إليها تؤكد ما جاء في هؤلاء الآي من وصف الله بالغضب، وإن هذا الغضب يحدث في وقت دون وقت، ومن ذلك:

- ما جاء في حديث الشفاعة الطويل وهو يخبر عما يقوله الأنبياء اعتذاراً للناس عندما يتقدمون إليهم لطلب الشفاعة منهم، وهم: آدم أوب البشر، ونوح، وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن كل واحد منهم يقول:" إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى غيري"(2) إلى آخر الحديث الطويل.

والحديث يدل دلالة واضحة على أن إثبات صفة الغضب من دين الرسل جميعاً، لأن الشرائع كلها متفقة في الأصول بيد أن الله جعل لكل واحد منهم شرعة ومنهاجاً. ومحل الشاهد من الحديث:" إن ربي غضب اليوم "واللفظ صريح في أنه قد يحدث في ذلك اليوم غضب لم يحدث مثله قبل ذلك، كما لا يحدث بعده مثله.

- وقوله عليه الصلاة والسلام: "من لم يسأل الله يغضب عليه "(3)، وقد نظم بعضهم هذا المعنى قائلاً (4):

اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ

وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

- وقوله عليه الصلاة والسلام: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"(5).

(1) متن الطحاوية بتحقيق الالباني: 44.

(2)

رواه أحمد 2/ 435 - 436 والبخاري 6/ 371، 8/ 395، ومسلم 1/ 185 من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه أحمد 2/ 442، وصححه الألباني "راجع مشكاة المصابيح رقم الحديث 2236 بتحقيق الألباني".

(4)

البيت بلا نسبة في تفسير القرطبي: 5/ 164، وتفسير ابن كثير: 1/ 39، و 7/ 139، ولأبي العتاهية في مجموع رسائل ابن رجب: 3/ 126.

وانظر البيت في: "شعب الإيمان" للبيهقي (2/ 361 رقم 1065) وهو في شروح "الأربعين".

وقبله:

لا تسألنَّ بُني آدم حاجةً

وسلِ الذي أبوابُهُ لا تُحجب

(5)

المسند (751): ص 2/ 147، وإسناده قوي، وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 306 و 10/ 386، وعبد بن حميد (81)، والترمذي (3566) وحسنه، وأبو يعلى (275) من طريق يزيد بن هارون، بهذا الإسناد.

وأخرجه الطيالسي (123)، وأبو داود (1427)، والنسائي في "المجتبى" 3/ 248 - 249، وفي "الكبرى"(7753)، والطبراني في "الدعاء"(751)، والبيهقي 3/ 42 من طرق عن حماد بن سلمة، به. وسيأتي برقم (957) و (1295).

قوله: "كما أثنيت"، قال السندي: أي: أنت الذي أثنيت على ذاتك ثناء يليق بك، فمن يقدر على أداء حق ثنائك، فالكاف زائدة، والخطاب في عائد الموصول بملاحظة المعنى، ويحتمل أن الكاف بمعنى "على"، والعائد محذوف، أي: أنت ثابت على أوصاف أثنيت بها على نفسك، والجملة على الوجهين في محل التعليل، وفيه إطلاق النفس عليه تعالى بلا مشاكلة، وقيل:"أنت" تأكيد للمجرور في "عليك"، فهو من استعارة المرفوع المنفصل موضع المجرور المتصل؛ إذ لا منفصل في المجرور، و"ما" مصدرية، والكاف بمعنى: مثل، صفة ثناء.

ص: 305

- وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ ! ! فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً"(1).

يستدل أهل السنة بهذا الحديث على أن يحل رضوانه في وقت دون وقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخطُ على من شاء، كم يحل سخطه ثم يرضى ولكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يعقبه سخط (2).

وما أصدق ما قاله الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: "ولا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام"(3).

استناداً إلى هذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة التي آثرنا عدم ذكرها رغبة في الإيجاز، يؤمن السلف وجمهور الأئمة بهذه الصفة ويبقونها على ظاهرها، الظاهر الذي يليق بالله إيماناً منهم بأن النصوص لا تدل بظاهرها إلا على ما يليق بالله - خلاف ما يزعمه الزاعمون- أي أنهم لا يؤولونه كما أوله غيرهم. يبد أن إثباتهم لا يصل بهم إلى حد التشبيه والتمثيل.

وأما الخلف فلم يوفقوا في هذه الصفة كما لم يحالفهم التوفيق أيضاً في جميع الصفات على اختلاف مشاربهم، فزعموا: أنه ما ثمةَ غضب. وإنما المراد بالغضب المذكور في النصوص لازم الغضب وهو إرادة الانتقام. وعللوا لما ذهبوا إليه بقولهم: إن أصل الغضب غليان دم القلب عند إرادة الانتقام، وذلك مستحيل على الله تعالى، أو بعبارة أخرى: إن حقيقة الغضب الانفعال والتغير من حال إلى حال، وهو أمر لا يليق بالله، إلى آخر تلك التعليلات والأعذار غير المقبولة لدى غيرهم، من أهل السنة والجماعة.

ولدفع هذه الشبهة التي نسجوها من خيوط العنكبوت نقول: أن لوازم صفات المخلوقين التي ذكروها لا تلزم صفات الخالق، إذ لا مناسبة بين صفات الخالق وصفات المخلوق حتى تقاس صفاته سبحانه على صفاتهم، وكما أنهم أثبتوا ذات البارئ دون تفكير في لوازم ذوات المخلوقين، يلزمهم إثبات صفاته ذاتية أو فعلية دون تفكير في لوازم صافت المخلوقين، وهذا الإلزام يلحق أو يلزم جميع النفاة المعتزلة والأشاعرة وأتباعهم (4).

القرآن

(1) متفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه راجع: البخاري 11/ 415، و 13/ 487، ومسلم في الإيمان 1/ 171، وأخرجه أحدم 3/ 88، 95.

3 الغضب والسخط والأسف ألفاظ مترادفة ومعناها واحد، القاموس المحيط والتاج.

(2)

الغضب والسخط والأسف ألفاظ مترادفة ومعناها واحد، القاموس المحيط والتاج.

(3)

شرح الطحاوية ص: 524.

(4)

انظر: الصفات الإلهية في الكتاب والسنة، محمد أمان: 299 - 301.

ص: 306

{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)} [المائدة: 61]

التفسير:

وإذا جاءكم -أيها المؤمنون- منافقو اليهود، قالوا: آمنَّا، وهم مقيمون على كفرهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم، ثم خرجوا وهم مصرُّون عليه، والله أعلم بسرائرهم، وإن أظهروا خلاف ذلك.

قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [المائدة: 61]، أي:" وإذا جاءكم -أيها المؤمنون- منافقو اليهود، قالوا: آمنَّا"(1).

قال السعدي: أي: " نفاقا ومكرا"(2).

قال الطبري: أي: "وإذا جاءكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم: "آمنا": أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه"(3).

قال الكلبي: "هؤلاء منافقو أهل الكتاب، كانوا إذا دخلوا على رسول الله، قالوا: آمنا"(4).

قال البغوي: " يعني: هؤلاء المنافقين، وقيل (5): هم الذين قالوا: {آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72]، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: آمنا بك وصدقناك فيما قلت، وهم يسرون الكفر"(6).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " الكلام في منافقي اليهود الذين كانوا في المدينة وجوارها ; أي ذلك شأنهم في حال البعد عنكم، وإذا جاءوكم قالوا للرسول ولكم: إننا آمنا بالرسول، وما أنزل عليه"(7).

قال ابن كثير: " وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر"(8).

قوله تعالى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61]، أي:"وهم مقيمون على كفرهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم، ثم خرجوا وهم مصرُّون عليه"(9).

قال السمعاني والبغوي: " يعني: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين"(10).

قال السعدي: أي: " فمدخلهم ومخرجهم بالكفر -وهم يزعمون أنهم مؤمنون، فهل أشر من هؤلاء وأقبح حالا منهم؟ "(11).

قال الواحدي: " أي: دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كلتي حالتيهم"(12).

قال عبدالقاهر الجرجاني: أي: " دخولهم بالكفر وخروجهم به عبارة عن دوام حالهم به، أي لا ينفكون عن الكفر داخلين لا خارجين"(13)، " وذلك أن قولهم {آمنا}: دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به؛ فالموضع موضع تكذيب" (14).

قال مكي: أي: " لم يحولوا عما يعتقدون، وإنما كذبوا بألسنتهم وقالوا ما لا يعتقدون"(15).

(1) التفسير الميسر: 118.

(2)

تفسير السعدي: 237.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 444.

(4)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 36.

(5)

هذا قول ابن زيد، انظر: تفسير الطبري (12233): ص 10/ 445 - 446. وسوف يأتي.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 75.

(7)

تفسير المنار: 6/ 372.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(9)

التفسير الميسر: 118.

(10)

تفسير السمعاني: 2/ 50، وتفسير البغوي: 3/ 75.

(11)

تفسير السعدي: 237.

(12)

التفسير الوسيط: 2/ 205.

(13)

درج الدرر: 2/ 679.

(14)

دلالئل الإعجاز: 154.

(15)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1795.

ص: 307

قال الراغب: " أي: يظهرون الإيمان ويدخلون كافرين، ويخرجون كافرين، تنبيها أنهم كاذبون فيما يظرون من الإيمان"(1).

قال الطبري: أي: " وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبًا التصديق لكم بألسنتهم، وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله، جهلا منهم بالله"(2).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " أي: والحال الواقعة منهم أنهم دخلوا عليكم متلبسين بالكفر، وهم أنفسهم قد خرجوا متلبسين به ; فحالهم عند خروجهم هي حالهم عند دخولهم، لم يتحولوا عن كفرهم بالرسول، وما نزل من الحق، ولكنهم يخادعونكم، كما قال في آية البقرة: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم} [البقرة: 76] الآية .. وقوله: {وهم قد خرجوا به}، هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول، وإنما احتاج هذا للتأكيد لمجيئه على خلاف الأصل ; لأن من كان يجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره، ويؤثر في قلبه، حتى إذا كان سيئ الظن رجع عن سوء ظنه، وأما سيئ القصد فلا علاج له، وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبه، وهذا هو المعقول الذي أيدته التجربة، وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم ; لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع والتجسس وما يراد به، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات، ويفهمون مغزى الحكم والآداب، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] "(3).

قال ابن كثير: " أي: عندك يا محمد {بِالْكُفْرِ}، أي: مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر؛ ولهذا قال: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ}، فخصهم به دون غيرهم"(4).

قال ابن عباس: " وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسرُّ قلوبهم الكفر، فقال: {دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} "(5).

وعن ابن عباس ايضا: " إنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق وشربت قلوبهم الكفر"(6).

قال ابن زيد: " {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، [سورة آل عمران: 72].، فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود"(7).

قال السدي: " هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارًا، وخرجوا كفارًا"(8).

قال قتادة: " أناسٌ من اليهود، كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم"(9).

(1) تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 389.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 444.

(3)

تفسير المنار: 6/ 372.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(5)

أخرجه الطبري (12232): ص 10/ 445.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6565): ص 4/ 1165.

(7)

أخرجه الطبري (12233): ص 10/ 445 - 446.

(8)

أخرجه الطبري (12231): ص 10/ 445.

(9)

أخرجه الطبري (12230): ص 10/ 445.

ص: 308

قال الكلبي: " وقد دخلوا حين دخلوا على النبي كفارا، وخرجوا من عنده وهم كفار ولم ينتفعوا بما سمعوا منه بشيء؛ وهم من اليهود"(1).

قال أبو حيان: " الظاهر أن الدخول والخروج حقيقة. وقيل: هما استعارة، والمعنى: تقلبوا في الكفر أي دخلوا في أحوالهم مضمرين الكفر وخرجوا به إلى أحوال أخر مضمرين له، وهذا هو التقلب. والحقيقة في الدخول انفصال بالبدن من خارج مكان إلى داخله، وفي الخروج انفصال بالبدن من داخله إلى خارجه"(2).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 61]، أي:" والله أعلم بسرائرهم، وإن أظهروا خلاف ذلك"(3).

قال محمد بن إسحاق: " أي: ما يخفون"(4).

قال مكي: أي: من كفرهم" (5).

قال ابن أبي زمنين: أي: " كانوا يكتمون دين اليهودية"(6).

قال النسفي: أي: " من النفاق"(7).

قال الواحدي: " أي: من نفاقهم وإبطانهم الكفر"(8).

قال الطبري: "يقول: والله أعلم بما كانوا- عند قولهم لكم بألسنتهم: «آمنا بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء به» - يكتمون منهم، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم"(9).

قال ابن كثير: " أي: والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء"(10).

قال السعدي: أي: " فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها"(11).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: أي: "عند دخولهم من قصد تسقط الأخبار والتوسل إليه بالنفاق والخداع، وعند خروجهم من الكيد والمكر والكذب الذي يلقونه إلى البعداء من قومهم"(12).

الفوائد:

1 -

وجود منافقين من اليهود على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

2 -

من صفات المنافقين: دعواهم الإيمان عند المؤمنين، فإذا خرجوا خرجوا بالكفر الذي دخلوا به، وهذه حال كثير من الدعاة إلى الباطل، إذ تجده ينخر في الإسلام مع ادعائه الحرص عليه وعلى أهله.

3 -

ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله تعالى: {يكتمون} ، لأن الكاتم مريد للكتم.

القرآن

{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)} [المائدة: 62]

(1) تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 36.

(2)

البحر المحيط: 4/ 311.

(3)

التفسير الميسر: 118.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6566): ص 4/ 1166.

(5)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1795.

(6)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 36.

(7)

تفسير النسفي: 1/ 458.

(8)

التفسير الوسيط: 2/ 205.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 444 - 445

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(11)

تفسير السعدي: 237.

(12)

تفسير المنار: 6/ 372.

ص: 309

التفسير:

وترى -أيها الرسول- كثيرًا من اليهود يبادرون إلى المعاصي من قول الكذب والزور، والاعتداء على أحكام الله، وأكْل أموال الناس بالباطل، لقد ساء عملهم واعتداؤهم.

قوله تعالى: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 62]، أي:" وترى -أيها الرسول- كثيرًا من اليهود يبادرون إلى المعاصي من قول الكذب والزور، والاعتداء على أحكام الله"(1).

قال القرطبي: " أي: يعني: من اليهود يسابقون في المعاصي والظلم"(2).

قال البيضاوي: أي: " أي: من اليهود أو من المنافقين. يسارعون في الحرام والظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي"(3).

قال الواحدي: أي: " يجترئون على الخطأ والظُّلم ويبادرون إليه"(4).

قال الماتريدي: أي: " من ملوكهم وعوامهم، {يسارعون} في قول الكفر والعدوان"(5).

قال ابن كثير: " أي: يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس"(6).

قال السعدي: " أي: يحرصون، ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على المخلوقين"(7).

قال مقاتل: " {الإثم}، يعني: المعصية، و {العدوان}، يعني: الظلم، وهو الشرك"(8).

قال قتادة: " وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم"(9).

قال الزمخشري: " والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة"(10).

قال الشوكاني: " الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والضمير في منهم عائد إلى المنافقين أو اليهود أو إلى الطائفتين جميعا ويسارعون في الإثم في محل نصب على الحال على أن الرؤية بصرية أو هو مفعول ثان لترى على أنها قلبية، والمسارعة: المبادرة"(11).

وفي معنى: {الإثم} [المائدة: 62]، أقوال:

أحدها: أنه المعاصي، قاله ابن عباس (12)، واختاره السمرقندي (13).

والثاني: الكفر، قاله السدي (14).

والثالث: أنه الكذب، بدليل قوله تعالى:{عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} [المائدة: 63]. قاله الزمخشري (15).

والرابع: أنه كتمان أمر محمد، وما كتموا من التوراة. ذكره بعض المفسرين (16).

(1) التفسير الميسر: 118.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 237، ونقله الصابوني في تفسيره:325.

(3)

تفسير البيضاوي: 2/ 134.

(4)

الوجيز: 327.

(5)

تفسير الماتريدي: 3/ 550.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(7)

تفسير السعدي: 237.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 489، ونقله السمرقندي بتمامه، انظر: بحر العلوم: 1/ 403.

(9)

أخرجه الطبري (12236): ص 10/ 446.

(10)

الكشاف: 1/ 654.

(11)

فتح القدير: 2/ 64.

(12)

انظر: زاد المسير: 1/ 565.

(13)

انظر: بحر العلوم: 1/ 403.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12235): ص 10/ 446.

(15)

انظر: الكشاف: 1/ 653.

(16)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 50، وتفسير البغوي: 3/ 76.

ص: 310

قال الطبري: " وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي، وإن كان قولا غير مدفوع جوازُ صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام: أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله، لا يتحاشون من شيء منها، لا من كفر ولا من غيره. لأن الله تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان، من غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم"(1).

قال السمرقندي، والزمخشري، وابن الجوزي:" {العدوان}، فهو الظلم"(2).

قال الطبري: " العدوان: فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه الله لهم في كل ما حدَّه لهم"(3).

قال الماتريدي: "و {العدوان}: هو المجاوزة عن الحد الذي حد لهم"(4).

قال الشوكاني: " و {العدوان}: الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب"(5).

وقيل: "والعدوان: ما زادوا في التوراة". ذكره بعض المفسرين (6).

وقرأ أبو حيوة: «والعدوان» ، بكسر العين (7).

قوله تعالى: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 62]، أي:"وأكْل أموال الناس بالباطل"(8).

قال الماتريدي: أي: " ويسارعون -أيضا- في أكل السحت"(9).

قال ابن كثير: " أي: وأكلهم أموالهم بالباطل"(10).

قال الشوكاني: " السحت: الحرام"(11).

قال الصابوني: " أي: وأكلهم الحرام"(12).

قال مقاتل: " يعني كعب بن الأشرف، لأنه كان يرشي في الحكم ويقضي بالجور"(13).

قال السعدي: " فلم يكتف بمجرد الإخبار أنهم يفعلون ذلك، حتى أخبر أنهم يسارعون فيه، وهذا يدل على خبثهم وشرهم، وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم. هذا وهم يدعون لأنفسهم المقامات العالية"(14).

وفي معنى «السحت» ، ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه الرشوة فى الحكم، وهو قول ابن عباس (15)، ومجاهد (16)، والضحاك (17)، وسعيد بن جبير (18)، والحسن (19)، وإبراهيم (20)، وعكرمة (21)، وابن زيد (22)، واختاره الطبري (23)، والسمرقندي (24)، والبغوي (25).

(1) تفسير الطبري: 10/ 447.

(2)

انظر: بحر العلوم: 1/ 403، والكشاف: 1/ 653، وزاد المسير: 1/ 565.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 447.

(4)

تفسير الماتريدي: 3/ 550.

(5)

فتح القدير: 2/ 64.

(6)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 50، وتفسير البغوي: 3/ 76.

(7)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 214.

(8)

التفسير الميسر: 118.

(9)

تفسير الماتريدي: 3/ 550.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(11)

فتح القدير: 2/ 64.

(12)

صفوة التفاسير: 325.

(13)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 489.

(14)

تفسير السعدي: 237.

(15)

انظر: تفسير الطبري (11962): ص 10/ 322.

(16)

انظر: تفسير الطبري (11944): ص 10/ 319.

(17)

انظر: تفسير الطبري (11957): ص 10/ 321.

(18)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135.

(19)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135، وتفسير الطبري (11942): ص 10/ 318 - 319

(20)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135.

(21)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6387): ص 4/ 1135.

(22)

انظر: تفسير الطبري (11966): ص 10/ 323.

(23)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 447.

(24)

انظر: بحر العلوم: 1/ 403.

(25)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 76.

ص: 311

والثاني: أنه الرشوة في الدين. قاله عبدالله (1).

والثالث: أنه الربا. ذكره بعض المفسرين (2).

قال الواحدي: هو" ما كانوا يأخذونه من الرَّشا على كتمان الحقِّ"(3).

قال ابن عطية: " السحت: هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث"(4).

قال الزمخشري: " السحت: كل ما لا يحل كسبه، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام"(5).

وروي عن النبي-صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم "(6).

وأصل «السحت» : الاستئصال، ومنه قوله تعالى:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61]، أي: يستأصلكم، وقال الفرزدق (7):

وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع

مِنَ الْمَالِ إلا مُسْحَتًا أَوْ مُجَلَّفُ

فسمي سحتاً لأنه يسحت الدين والمروءة (8).

قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62]، أي:" لقد ساء عملهم واعتداؤهم"(9).

قال البيضاوي والنسفي: أي: " لبئس شيئا عملوه"(10).

قال الطبري: " يقول: أقسم لَبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون، في مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت"(11).

قال السمرقندي: " يعني: لبئس ما كانوا يتزودون من دنياهم لآخرتهم"(12).

قال ابن كثير: " أي: لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم"(13).

قال السعدي: " وهذا في غاية الذم لهم والقدح فيهم"(14).

(1) انظر: تفسير الطبري (11952): ص 10/ 320.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 50، وتفسير السمعاني: 2/ 50، وزاد المسير: 1/ 565.

(3)

الوجيز: 327.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 214.

(5)

الكشاف: 1/ 634.

(6)

أخرجه الطبري (11967): ص 10/ 323، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 284، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه مرفوعًا من حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ: رواه ابن جرير مرفوعا ورجاله ثقات ولكنّه مرسل". انظر: 5/ 360 (كتاب الإجارة - باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب.

(7)

ديوانه: 556، والنقائض: 556، وطبقات فحول الشعراء: 19، والخزانة 2: 347، واللسان (سحت)(جلف)، وفي غيرها كثير. والبيت من قصيدته المشهورة، وقبل البيت:

إِلَيْكَ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَمَتْ بِنَا

هُمُومُ الْمُنَى والْهَوْجَلُ الْمُتَعَسَّفُ

الهوجل: البطن الواسع من الأرض. والمتعسف: المسلوك بلا علم ولا دليل، فهو يسير فيها بالتعسف. ويروى: أو مجرف، وهو الذي جرفه الدهر، أي: اجتاح ماله وأفقره. ويروى في إلا مسحت أو مجلف بالرفع فيهما. وقد تجرف النحاة هذا البيت إعرابًا وتأويلا ..

(8)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 324، والنكت والعيون: 2/ 40.

(9)

التفسير الميسر: 118.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 134، وتفسير النسفي: 1/ 458

(11)

تفسير الطبري: 10/ 447.

(12)

بحر العلوم: 1/ 403.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 144.

(14)

تفسير السعدي: 237.

ص: 312

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " تقبيح للعمل الذي كانوا يعملونه في استغراقهم في المعاصي المفسدة لأخلاقهم، وللأمة التي يعيشون فيها إن لم تنههم وتزجرهم على أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يكن يقوم به أحد منهم، لا العلماء ولا العباد ; إذ كان الفساد قد عم الجميع"(1).

قال ابن زيد: " هؤلاء اليهود {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2)، {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ} (3)، إلى قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (4)، قال: {يصنعون} و {يعملون} واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا، قال: وذلك الإدهان (5) "(6).

الفوائد:

1 -

من اوصاف المنافقين: المسارعة في الإثم والعدوان، وأكل السحت.

2 -

انحراف بني إسرائيل وكفرهم وتحريفهم لكلام الله.

القرآن

{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)} [المائدة: 63]

التفسير:

هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان أئمتُهم وعلماؤهم، عن قول الكذب والزور، وأكل أموال الناس بالباطل، لقد ساء صنيعهم حين تركوا النهي عن المنكر.

قوله تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63]، أي:" أي هلاّ يزجرهم علماؤهم وأحبارهم"(7).

قال الضحاك: " فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم"(8).

قال الزجاج: " وهم علماؤهم ورؤساؤهم، و «الحبر»: العالم، والحبر المداد بالكسر، فأعلم الله أن رؤساءهم وسفلتهم مشتركون في الكفر"(9).

قال السعدي: " أي: هلا ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس، الذين من الله عليهم بالعلم والحكمة -عن المعاصي التي تصدر منهم، ليزول ما عندهم من الجهل، وتقوم حجة الله عليهم، فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم، وأن يبينوا لهم الطريق الشرعي، ويرغبونهم في الخير ويرهبونهم من الشر"(10).

قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: " هؤلاء حين لم ينهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا وذلك الأمر كان"(11).

عن يحيى بن يعمر قال: "خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما هلك من هلك قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي ولم يمنعهم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر

(1) تفسير المنار: 6/ 373.

(2)

[المائدة: 62].

(3)

[المائدة: 63].

(4)

[المائدة: 63].

(5)

والإدهان: اللين والمصانعة، في الدين وفي كل شيء، قال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]. .

(6)

أخرجه الطبري (12237): ص 10/ 446 - 447.

(7)

صفوة التفاسير: 325.

(8)

أخرجه الطبري (12240): ص 10/ 449.

(9)

معاني القرآن: 2/ 189.

(10)

تفسير السعدي: 237.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6572): ص 4/ 1167.

ص: 313

قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا" (1).

وقد تعددت عبارات أهل التفسير في معنى قوله «الربانيين» ، على وجوه:

أحدها: فقهاء. قاله مجاهد (2).

والثاني: حكماء علماء. قاله أبو رزين (3).

والثالث: فقهاء علماء ، وهو قول ابن عباس (4)، الحسن (5)، ومجاهد- في رواية أخرى- (6)، والضحاك (7)، وقتادة (8)، وسعيد بن جبير -في رواية عنه- (9)، وعطاء الخراساني (10)، والربيع بن أنس (11)، وعطية (12)، ويحيى بن عقيل (13).

والرابع: الفقهاء المعلمون. قاله ابن عباس أيضا (14).

والخامس: حكماء فقهاء. قاله ابن عباس-في رواية اخرى- (15)، والسدي (16).

والسادس: حكماء أتقياء ، وهو قول سعيد بن جبير (17).

والسابع: حلماء علماء حكماء. وهذا مروي عن ابن عباس أيضا (18).

والثامن: أن المراد: كونوا أهل عبادة، وأهل تقوى لله. قاله الحسن –في رواية أخرى- (19).

والتاسع: أنهم الولاة الذين يربّون أمور الناس ، وهذا قول ابن زيد (20).

والراجح-والله أعلم- أن «الربانيين» : جمع: «رباني» ، وهو المنسوب إلى «الرَّبَّان» ، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، ويربّها، ويقوم بها (21).

وفي: {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [المائدة: 63]، وجوه:

أحدها: أن الربانيين هم فوق الأحبار. قاله مجاهد (22).

والثاني: أن الربانيين علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود. وهذا قول الحسن (23).

والثالث: أن الكل في اليهود، لأن هذه الآيات فيهم (24).

وفي أصل «الرباني» ، قولان:

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6571): ص 4/ 1166 - 1167.

(2)

انظر: تفسير الطبري (7306) - (8308): ص 6/ 541.

(3)

انظر: تفسير الطبري (7301) - (7304): ص 6/ 540 - 541، وتفسير ابن أبي حاتم (3747): ص 2/ 691

(4)

انظر: تفسير الطبري (7315): ص 6/ 542.

(5)

انظر: تفسير الطبري (7305): ص 6/ 541.

(6)

انظر: تفسير الطبري (7312): ص 6/ 541 - 542.

(7)

انظر: تفسير الطبري (7317): ص 6/ 542.

(8)

انظر: تفسير الطبري (7309): ص 6/ 541.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3749): ص 2/ 692، ذكره دون إسناد.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3749): ص 2/ 692، ذكره دون إسناد.

(11)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3749): ص 2/ 692، ذكره دون إسناد.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3749): ص 2/ 692، ذكره دون إسناد.

(13)

انظر: تفسير الطبري (7314): ص 6/ 542.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3746): ص 2/ 691.

(15)

انظر: تفسير الطبري (7313)، و (7316): ص 6/ 542.

(16)

انظر: تفسير الطبري (7311): ص 6/ 541.

(17)

انظر: تفسير الطبري (7318): ص 6/ 542.

(18)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3747): ص 2/ 691.

(19)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3748): ص 2/ 691.

(20)

انظر: تفسير الطبري (7319): ص 6/ 543.

(21)

انظر: تفسير الطبري: 6/ 543.

(22)

انظر: تفسير الطبري (7312): ص 6/ 541 - 542.

(23)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 237، وتفسير الثعلبي: 4/ 86. ذكروه بلا نسبة.

(24)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 237.

ص: 314

أحدها: أنه الذي يربُّ أمور الناس بتدبيره، يُصْلح أمورهم، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة (1):

وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي

وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ

فسمي العالم ربّانياً لأنه بالعلم يدبر الأمور، بتعليمه إياهم الخيرَ ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم.

ولذلك قال مجاهد: "وهم فوق الأحبار"(2)، لأن "الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم (3).

والثاني: أنه مضاف إلى عالم الرب ، وهو علم الدين ، فقيل لصاحب العلم الذي أمر به الرب ربّاني (4).

وقرأ أبو واقد الليثي، وابن الجراح العقيلي:«الربيون» ، كقوله:{مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146](5).

قوله تعالى: {عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ} [المائدة: 63]، أي:" عن قول الكذب والزور"(6).

قال أبو هلال العسكري: " أي: الكذب بأن عزيرا ابن الله وأن يد الله مغلولة"(7).

قوله تعالى: {وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63]، أي:"وأكل أموال الناس بالباطل"(8).

قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]، أي:" لقد ساء صنيعهم حين تركوا النهي عن المنكر"(9).

قال ابن أبي زمنين: " أي: حين يسارعون في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت، وبئس ما صنع الربانيون والأحبار حين لم ينهوهم عن ذلك"(10).

قال ابن عباس: " يعني: الربانيين إنهم بئس ما كانوا يصنعون"(11).

قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: "يصنعون ويعملون واحد"(12).

وقيل: "الصنع بمعنى العمل إلا أنه يقتضي الجودة، يقال: سيف صنيع إذا جود عمله"(13).

قال الزمخشري: " كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقذ السامع، وينعى على العلماء توانيهم"(14).

(1) البيت في ديوانه: 132 والمفضليات: 2/ 194، واللسان (ربب) ومقاييس اللغة: 2/ 383، وتفسير الطبري: 1/ 142، و 6/ 543، والصحاح (ربب) والمخصص: 17/ 154.

(2)

تفسير الطبري: 6/ 544.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 6/ 544.

(4)

انظر: النكت والعيون: 1/ 406.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 4/ 86.

(6)

التفسير الميسر: 118.

(7)

الوجوه والنظائر: 98.

(8)

التفسير الميسر: 118.

(9)

التفسير الميسر: 118.

(10)

تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 36.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6573): ص 4/ 1167.

(12)

أخرجه ابن ابي حاتم (6574): ص 4/ 1167.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 237.

(14)

الكشاف: 1/ 654.

ص: 315

قال القرطبي: " وبخ علماءهم في تركهم نهيهم فقال: {لبئس ما كانوا يصنعون} كما وبخ من يسارع في الإثم بقوله: {لبئس ما كانوا يعملون}، ودلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(1).

قال الثعلبي: " وهذه أشد آية على ما أتى النهي عن المنكر حيث أنزلهم منزلة من يرتكبه وجمع بينهم في التوبيخ"(2).

قال أبو السعود: " وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلغ درجة الصنع ما لم يتدرب فيه صاحبه ولم يحصل فيه مهارة تامة ولذلك ذم به خواصهم ولأن ترك الحسنة أقبح من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ ذم وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لا يخفي"(3).

وروي عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال: "ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} قال: كذا قرأ"(4).

وكذا قال الضحاك: "ما في القرآن آية أخوف عندي منها: إنا لا ننهى"(5).

قال أبو حفص النعماني: " قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكلهم السحت: {لبئس ما كانوا يعملون} [المائدة: 62]، وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر: {لبئس ما كانوا يصنعون} والصنع أقوى من العمل؛ فإنما العمل يسمى صناعة، إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل [حرم] العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة راسخا كذلك؛ لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية، كان كالمريض الذي يعالج بأدويته، قل فيها الشفاء، ومثل هذا المرض صعب شديد لا يكاد يزول، وكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دل على أن مرض فقد الإيمان في غاية القوة والشدة"(6).

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع، لم يغيروا، إلا أصابهم الله منه بعذاب"(7).

وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: «بئسما» ، بغير لام قسم (8).

الفوائد:

1 -

قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.

2 -

أن العبرة ليست بوجود العلماء ووفرتهم دون أن يكون لهم أثر فعال في الإصلاح،

فبنوا إسرائيل هلكوا وفيهم العلماء، فما لم يقم علماؤهم بما أوجب الله عليهم من النصح والإصلاح تسلط عليهم الشيطان.

القرآن

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى

(1) تفسير القرطبي: 6/ 237.

(2)

تفسير الثعلبي: 4/ 86.

(3)

تفسير أبي السعود: 3/ 57.

(4)

أخرجه الطبري (12239): ص 10/ 449.

(5)

أخرجه الطبري (12238): ص 10/ 449.

(6)

اللباب في علوم الكتاب: 7/ 424.

(7)

المسند (4/ 363) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 331) من طريق يزيد بن هارون به.

(8)

انظر: اللباب في علوم الكتاب: 7/ 424.

ص: 316

يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)} [المائدة: 64]

التفسير:

يُطلع الله نَبِيَّه على شيء من مآثم اليهود -وكان مما يُسرُّونه فيما بينهم- أنهم قالوا: يد الله محبوسة عن فعل الخيرات، بَخِلَ علينا بالرزق والتوسعة، وذلك حين لحقهم جَدْب وقحط. غُلَّتْ أيديهم، أي: حبست أيديهم هم عن فِعْلِ الخيرات، وطردهم الله من رحمته بسبب قولهم. وليس الأمر كما يفترونه على ربهم، بل يداه مبسوطتان لا حَجْرَ عليه، ولا مانع يمنعه من الإنفاق، فإنه الجواد الكريم، ينفق على مقتضى الحكمة وما فيه مصلحة العباد، لكنهم سوف يزدادون طغيانًا وكفرًا بسبب حقدهم وحسدهم; لأن الله قد اصطفاك بالرسالة. ويخبر تعالى أن طوائف اليهود سيظلون إلى يوم القيامة يعادي بعضهم بعضًا، وينفر بعضهم من بعض، كلما تآمروا على الكيد للمسلمين بإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ردَّ الله كيدهم، وفرَّق شملهم، ولا يزال اليهود يعملون بمعاصي الله مما ينشأ عنها الفساد والاضطراب في الأرض. والله تعالى لا يحب المفسدين.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما؛ قال: "قال رجل من اليهود -يقال له: النباش بن قيس-: إن ربك بخيل لا ينفق؛ فأنزل الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} "(1). [ضعيف]

والثاني: قال عكرمة: " نزلت في فنحاص اليهودي"(2). [ضعيف]

والثالث: وقال مقاتل: " يعني: ابن صوريا وفنحاص اليهوديين وعازر بن أبي عازر"(3).

قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، أي:" يد الله محبوسة عن فعل الخيرات، بَخِلَ علينا بالرزق والتوسعة"(4).

قال ابن عباس: " أي: بخيلة"(5).

قال السعدي: " أي: عن الخير والإحسان والبر"(6).

قال الطبري: " يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن

(1) أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" -ومن طريقه الطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 53 رقم 12497) -: ثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس به.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 17): "رواه الطبراني ورجاله ثقات"! !

قلنا: وسنده ضعيف؛ لجهالة محمد هذا كما تقدم مراراً.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 112) وزاد نسبته لابن مردويه.

(2)

أخرجه سنيد في "تفسيره" -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(12247): ص 10/ 453، وسنده ضعيف؛ للانقطاع بين عكرمة وابن جريج، وضعف سنيد صاحب "التفسير" ..

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 490.

(4)

التفسير الميسر: 118.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6575): ص 4/ 1167.

(6)

تفسير السعدي: 237.

ص: 317

الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم" (1).

قال الزجاج: " أي: قالوا يده ممسكة عن الاتساع علينا، كما قال الله جل وعز: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، تأويله لا تمسكها عن الإنفاق، قال بعضهم: معنى: {يد الله مغلولة}: نعمته مقبوضة عنا، وهذا القول خطأ ينقضه: {بل يداه مبسوطتان}، فيكون المعنى: بل نعمتاه مبسوطتان، نعم الله أكثر من أن تحصى"(2).

قال المراغي: " أي قال ذلك بعض منهم، ونسبه إلى الأمة بناء على التكافل العام بين أفرادها وكونها كالشخص الواحد، وأن الناس فى كل زمان يعزون إلى الأمة ما يسمعون من بعض أفرادها وقد جرت سنة القرآن أن ينسب إلى المتأخرين ما قاله أو فعله سلفهم منذ قرون، ولا عجب فى صدور هذا القول من بعض الأشخاص منهم، فإنا نرى من المسلمين فى عصرنا مثله فى الشكوى من الله عز وجل والاعتراض عليه عند الضيق وفى إبان المصايب"(3).

وفي قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وجهان:

أحدهما: أي مقبوضة عن العطاء على جهة البخل، قاله ابن عباس (4)، وقتادة (5)، وعكرمة (6)، والضحاك (7).

والثاني: مقبوضة عن عذابهم، قاله الحسن (8).

قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، أي:" حبست أيديهم هم عن فِعْلِ الخيرات"(9).

قال الضحاك: " أمسكت أيديهم عن النفقة والخير"(10).

قال السعدي: " وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم. فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان. فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم، فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي"(11).

وفي قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، أقوال:

أحدهما: أنه قال ذلك إلزاماً لهم البخل على مطابقة الكلام، والمعنى: أي جعلوا بخلاء. فهم أبخل قوم، قاله الزجاج (12).

والثاني: أن معناه: غلت أيديهم في نار جهنم على وجه الحقيقة، قاله الحسن (13).

قال الزمخشري: " ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدى حقيقة، يغللون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم: والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز، كما تقول: سبني سب الله دابره، أى قطعه لأن السب أصله القطع"(14).

والثالث: معناه: الدعاء عليهم بالبخل والنكد، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم، قاله الزمخشري (15)، وأنشد بيت الأشتر مالك بن الحارث (16):

(1) تفسير الطبري: 10/ 450.

(2)

معاني القرآن: 2/ 189.

(3)

تفسير المراغي: 6/ 152 - 153.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12242): ص 10/ 452.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12245): ص 10/ 452.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1167. ذكره دون إسناد.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12248): ص 10/ 453 - 454.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 51.

(9)

التفسير الميسر: 118.

(10)

أخرجه الطبري (12248): ص 10/ 453 - 454.

(11)

تفسير السعدي: 237.

(12)

انظر: معاني القرآن: 2/ 190.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 51. وذكره الزجاج: 2/ 190، بلانسبة.

(14)

الكشاف: 1/ 656.

(15)

انظر: الكشاف: 1/ 655 - 656.

(16)

هو مالك بن الحارث النخعي من أصحاب الإمام علي. توفي 38 هـ. (الولاة والقضاة 23 - 26، تهذيب التهذيب، 1/ 11). والأبيات في البخلاء: 244، وشرح ديوان الحماسة:(م) 149 و (ت) 1/ 143.

ص: 318

وفَرتُ وفري وانحرْفتُ عن العُلا

فلقيتُ أضْيافي بوجْهٍ عَبُوسِ

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟

قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم، فيزيدون بخلا إلى بخلهم ونكدا إلى نكدهم، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم" (1).

والحق أن الله يدعو عليهم بالبخل ودعاؤه عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، فهو الداعي والخالق، لا خالق إلا هو يخلق لهم البخل ويتقدس عنه، قال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23](2).

قوله تعالى: {وَلُعِنُوا بِمَا} [المائدة: 64]، أي:" وطردهم الله من رحمته بسبب قولهم"(3).

عن السدي قوله: " {ولعنوا بما قالوا}، قال: قالوا إن الله وضع يده على صدره فلم يبسطها أبدا حتى يرد علينا ملكنا"(4).

وفي قوله تعالى: {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]، قولان:

أحدهما: يعني: يعذبهم بالجزية. قاله الكلبي (5).

والثاني: ويحتمل: أن يكون لَعْنُهم هو طردهم حين أجلوا من ديارهم. أفاده الماوردي (6).

قال ابن كثير: "وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه، فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}، وهكذا وقع لهم، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 53 - 55]، وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس} الآية [آل عمران: 112] "(7).

وقرئ: «ولعنوا» ، بسكون العين. وفي مصحف عبد الله: بل يداه بسطان (8).

قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، أي:" بل يداه مبسوطتان لا حَجْرَ عليه، ولا مانع يمنعه من الإنفاق، فإنه الجواد الكريم، ينفق على مقتضى الحكمة وما فيه مصلحة العباد"(9).

عن قتادة: قوله: " {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، ينفق بهما كيف يشاء"(10).

عن السدي: " {ينفق كيف يشاء}، قال: يرزق كيف يشاء"(11).

قال الزجاج: " أي: هو جواد"(12).

(1) الكشاف: 1/ 656.

(2)

انظر: تفسير الكشاف: 1/ 655، الهامش رقم (4).

(3)

التفسير الميسر: 118.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6579): ص 4/ 1168.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 51.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 51.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 146.

(8)

انظر: الكشاف: 1/ 656.

(9)

التفسير الميسر: 118.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6581): ص 4/ 1168.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6582): ص 4/ 1168.

(12)

معاني القرآن: 2/ 190.

ص: 319

قال ابن كثير: " أي: بل هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه، في ليلنا ونهارنا، وحضرنا وسفرنا، وفي جميع أحوالنا، كما قال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} الآية [إبراهيم: 34]. والآيات في هذا كثيرة"(1).

قال السعدي: أي: " لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم.

فيداه سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارا، يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا، ويجيب سائلا ويعطي فقيرا عائلا ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين. وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.

وقبح الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم، لهلكوا، وشقوا في دنياهم، ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى، يحلم عنهم، ويصفح، ويمهلهم ولا يهملهم" (2).

قال الزمخشري: : قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} "تاكيد للوصف بالسخاء، ودلالة على أنه لا يتفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روى أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس ما لا، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء: يد الله مغلولة (3)، ورضى بقوله الآخرون فأشركوا فيه"(4).

وفي قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، أربعة تاويلات (5):

أحدها: أن اليدين ها هنا النعمة، من قولهم لفلان: عندي يد، أي نعمة، ومعناه: بل نعمتاه مبسوطتان، نعمة الدين، ونعمة الدنيا. ضعّفه الزجاج (6).

والثاني: اليد ها هنا القوة، كقوله تعالى:{أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص: 45]، ومعناه: بل قوتان بالثواب والعقاب.

والثالث: أن اليد ها هنا الملك، من قولهم فى مملوك الرجل: هو ملك يمينه، ومعناه: ملك الدنيا والآخرة.

والرابع: أن التثنية للمبالغة فى صفة النعمة كما تقول العرب لبيك وسعديك، وكقول الأعشى (7):

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 146.

(2)

تفسير السعدي: 237.

(3)

انظر الأقوال في سبب نزول الآية.

(4)

الكشاف: 1/ 656 - 657.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 454 - 456، والنكت والعيون: 2/ 51 - 52.

(6)

انظر: معاني القرآن: 2/ 189.

(7)

ديوانه: 150، وغيره. من قصيدته الغالية التي رفعت المحلق وطارت بذكره في الآفاق، يقول له: لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ

إلَى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُ

تُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِا

وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحَلَّقُ

رَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَا

بِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا نَتَفَرَّقُ

تَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِ

كَمَا زَانَ مَتْنَ الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُ

يَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌ

وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ.

ص: 320

يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌ مُفِيدَةٌ

وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ

فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد، ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى (1).

قال الطبري: " وإنما وصف تعالى ذكره اليد بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه"(2).

قال صاحب الكشاف: " غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29]، ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد، كقوله (3):

جاد الحمى بسط اليدين بوابل

شكرت نداه تلاعه ووهاده

ولقد جعل لبيد للشمال يدا في قوله (4):

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

ويقال: بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، ومن لم ينظر في علم البيان عمى عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به" (5).

وقد ثنيت اليد في قوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} ، وهي مفردة في:{يد الله مغلولة} ، وذلك "ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفى البخل عنه. وذلك أن غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعا فبنى المجاز على ذلك"(6).

وفي مصحف عبد الله: «بل يداه بسطان» (7).

ويحتمل قوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]، وجهان (8):

أحدهما: يمعنى أنه يعطي من يشاء من عباده إذا علم أن في إعطائه مصلحة دينه.

والثاني: ينعم على من يشاء بما يصلحة في دينه.

عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِض ما

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 451.

(2)

.تفسير الطبري: 10/ 451

(3)

البيت من شواهد الزمخشري في الكشاف: 1/ 655، ولم يعزه هو ولا شارحوه، ولم أتعرف على قائله، وانظر: البيت في تفسير البيضاوي: 2/ 135، وتفسير البحر المحيط: 4/ 315، والدر المصون: 4/ 343، واللباب في علوم الكتاب: 7/ 427، وغيرها.

(4)

البيت في ديوانه (230) ط، دار القاموس الحديث، وصدره:

"وغداة ريح قد كشفت وقرة"

وأورده القزويني في الإيضاح (277)، والمبرد في الكامل وعزاه للبيد، وأساس البلاغة (يدي). والبيت من معلقته المشهورة، والقرة والقر: البرد، يقول: كم من غداة تهب فيها الشمال وهي أبرد الرياح، وقد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم.

(5)

الكشاف: 1/ 654 - 655.

(6)

الكشاف: 1/ 656.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 656.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 52.

ص: 321

في يمينه" قال: "وعرشه على الماء، وفي يده الأخرى القبْض، يرفع ويخفض": قال: قال الله تعالى: "أنفق أنفق عليك"(1).

قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]، أي:" لكنهم سوف يزدادون طغيانًا وكفرًا بسبب حقدهم وحسدهم"(2).

قال قتادة: " حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم"(3).

قال الزجاج: " أي: كلما نزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم والطغيان الغلو والكفر ههناك"(4).

قال الزمخشري: أي: " عند نزول القرآن، لحسدهم تماديا في الجحود وكفرا بآيات الله"(5).

قال ابن كثير: " أي: يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك {طُغْيَانًا} وهو: المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء {وَكُفْرًا}، أي: تكذيبا، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] وقال تعالى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] "(6).

قال السعدي: " قوله {وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا} وهذا أعظم العقوبات على العبد، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة، وفلاح الدارين، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده، توجب عليهم المبادرة إلى قبولها، والاستسلام لله بها، وشكرا لله عليها، أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره، وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة"(7).

وفي قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]، قولان:

أحدهما: أنه عنى اليهود بما حصل منهم من الخلاف.

والثاني: أنه أراد بين اليهود والنصارى في تباين قولهم في المسيح، قاله الحسن (8).

قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64]، أي:" أي ألقينا بين اليهود العداوة والبغضاء فكلمتهم مختلفة وقلوبهم شتّى لا يزالون متباغضين متعادين إِلى قيام الساعة"(9).

قال مجاهد: " اليهود والنصارى "(10).

عن إبراهيم التيمي قوله: " {العداوة والبغضاء}، قال: الخصومات والجدال في الدين"(11).

(1) المسند (2/ 313) وصحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993).

(2)

التفسير الميسر: 118.

(3)

أخرجه الطبري (12249): ص 10/ 457.

(4)

معاني القرآن: 2/ 190.

(5)

الكشاف: 1/ 657.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(7)

تفسير السعدي: 237.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 52.

(9)

صفوة التفاسير: 325.

(10)

أخرجه الطبري (12250): ص 10/ 458.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6584): ص 4/ 1168.

ص: 322

قال الزجاج: " جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، كما قال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، فألقى الله بينهم العداوة، وهي أحد الأسباب التي أذهب الله بها جدهم وشوكتهم"(1).

قال ابن كثير: " يعني: أنه لا تجتمع قلوبهم، بل العداوة واقعة بين فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق، وقد خالفوك وكذبوك"(2).

قال الزمخشري: " فكلمهم أبدا مختلف، وقلوبهم شتى، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد"(3).

قال السعدي: " فلا يتآلفون، ولا يتناصرون، ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم، متعادين بأفعالهم، إلى يوم القيامة"(4).

قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64]، أي:" كلما تآمروا على الكيد للمسلمين بإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ردَّ الله كيدهم، وفرَّق شملهم"(5).

قال مجاهد: " هم اليهود"(6)، " {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله}، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم"(7).

وفي رواية أخرى عن مجاهد: " كلما مكروا مكرا أطفأ الله النار والمكر"(8).

قال الحسن: " كلما اجتمعت السفلة على قتل العرب أذلهم الله"(9).

قال قتادة: " أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه"(10).

قال السدي: " كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب"(11).

قال الطبري: أي: " كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم"(12).

قال ابن كثير: " أي: كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم، ويحيق مكرهم السيئ بهم"(13).

قال الزجاج: " هذا مثل أي كلما جمعوا على النبي والمسلمين وأعدوا لحربهم فرق الله جمعهم وأفسد ذات بينهم"(14).

قال الزمخشري: " كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بخت نصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومى، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم

(1) معاني القرآن: 2/ 190.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(3)

الكشاف: 1/ 657.

(4)

تفسير السعدي: 237.

(5)

التفسير الميسر: 118.

(6)

أخرجه الطبري (12252): ص 10/ 460.

(7)

أخرجه الطبري (12255): ص 10/ 461.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6585): ص 4/ 1168 - 1169

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6589): ص 4/ 1169

(10)

أخرجه الطبري (12253): ص 10/ 460.

(11)

أخرجه الطبري (12254): ص 10/ 460.

(12)

تفسير الطبري: 10/ 458.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(14)

معاني القرآن: 2/ 190.

ص: 323

أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين. وقيل: كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم" (1).

قال السعدي: " {كلما أوقدوا نارا للحرب} ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم {أطفأها الله} بخذلانهم وتفرق جنودهم، وانتصار المسلمين عليهم"(2).

روي عن الربيع في قوله: " {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [سورة الإسراء: 4 - 6]، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني قال: والفساد، المعصية ثم قال، {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إلى قوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [سورة الإسراء: 7، 8] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا: يد الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، وقالوا في عزير: إن الله اتخذه ولدًا، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، فقال: كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم، وهم يقولون: يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم واسمه محمد، واسمه في الإنجيل أحمد فلما جاءهم وعرفوا، كفروا به، قال: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة: 89]، وقال: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}، بسورة البقرة: 90] "(3).

قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64]، أي:" ولا يزال اليهود يعملون بمعاصي الله مما ينشأ عنها الفساد والاضطراب في الأرض"(4).

قال قتادة: " أولئك أعداء الله اليهود"(5).

قال الطبري: أي: " ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيُهم فيها بالفساد"(6).

قال ابن كثير: " أي: من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض"(7).

قال الزجاج: " أي: يجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كتبهم"(8).

قال السعدي: " أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل، والتعويق عن الدخول في الإسلام"(9).

(1) الكشاف: 1/ 657.

(2)

تفسير السعدي: 237.

(3)

أرجه الطبري (12251): ص 10/ 459 - 460.

(4)

التفسير الميسر: 118.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6591): ص 4/ 1169

(6)

تفسير الطبري: 10/ 461.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(8)

معاني القرآن: 2/ 191.

(9)

تفسير السعدي: 237.

ص: 324

قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، أي:" والله تعالى لا يحب المفسدين"(1).

قال ابن كثير: أي: "والله لا يحب من هذه صفته"(2).

قال الطبري: أي: " يقول: والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه "(3).

قال السعدي: " بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك"(4).

الفوائد:

1 -

أن اليهود وصفوا الله-سبحانه وتعالى بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص فقالوا: {يد الله مغلولة} [المائدة: 64].

2 -

في الآية إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى كما يليق به من غير تشبيه ولا تكييف.

3 -

تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء وهو من تدبير الله تعالى.

فاليهود لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، ولا تجاب لهم دعوة، دعوتهم مدحوضة، وكلمتهم مختلفة، وجمعهم متفرق، {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله} .

وإن قيل: إن التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الآية، قلنا: إن اليهود احتالوا على النصارى فضربوهم بالإلحاد، فلما قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم يتحكمون فيهم، وبذلك فرضوا عليهم حبهم وعدم عداوتهم.

4 -

سعى اليهود الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالذهب المادي الإلحادي الشيوعي، وضربوها أيضاً بالإباحة ومكائد الماسونية.

5 -

أن قوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، حجة على المعتزلة والقدرية.

القرآن

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)} [المائدة: 65]

التفسير:

ولو أن اليهود والنصارى صدَّقوا الله ورسوله، وامتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه، لكفَّرنا عنهم ذنوبهم، ولأدخلناهم جنات النعيم في الدار الآخرة.

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا} [المائدة: 65]، أي:" ولو أن اليهود والنصارى صدَّقوا الله ورسوله"(5).

قال قتادة: " يقول: آمنوا بما أنزل الله"(6).

قال البغوي: آمنوا "بمحمد صلى الله عليه وسلم"(7).

قال ابن كثير: " أي: لو أنهم آمنوا بالله ورسوله"(8).

قال السعدي: أي: " لو آمنوا بالله وملائكته، وجميع كتبه، وجميع رسله"(9).

قال السمرقندي: " يعني: اليهود والنصارى، [لو] صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن"(10).

(1) التفسير الميسر: 118.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 461.

(4)

تفسير السعدي: 237.

(5)

التفسير الميسر: 119.

(6)

أخرجه الطبري (12256): ص 10/ 462.

(7)

تفسير البغوي: 3/ 77.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(9)

تفسير السعدي: 238.

(10)

بحر العلوم: 1/ 405.

ص: 325

قال الزمخشري: أي: " ولو أن أهل الكتاب مع ما عددنا من سيئاتهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به"(1).

قال الشوكاني: " أي: لو أن المتمسكين بالكتاب، وهم اليهود والنصارى، على أن التعريف للجنس آمنوا الإيمان الذي طلبه الله منهم، ومن أهمه الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كما أمروا بذلك في كتب الله المنزلة عليهم"(2).

قوله تعالى: {وَاتَّقَوْا} [المائدة: 65]، أي:" وامتثلوا أوامر الله واجتنبوا نواهيه"(3).

قال الزمخشري: أي: " وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان"(4).

قال قتادة: " واتقوا ما حرم الله"(5).

قال السمعاني: " يعني: عن المعاصي"(6).

قال ابن كثير: أي: " واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المحارم والمآثم "(7).

قال السمرقندي والقرطبي: أي: "الشرك والمعاصي"(8).

قال البغوي: " واتقوا، الكفر"(9).

قال الواحدي: أي: " واتقوا: اليهودية والنصرانية"(10).

قال البيضاوي: " واتقوا ما عددنا من معاصيهم ونحوه"(11).

قال الشوكاني: أي: " واتقوا المعاصي التي من أعظمها ما هم عليه من الشرك بالله والجحود لما جاء به رسول الله"(12).

قوله تعالى: {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [المائدة: 65]، أي:" لكفَّرنا عنهم ذنوبهم"(13).

قال السمرقندي: "يعني: غفرنا ذنوبهم"(14).

قال الطبري: أي: " محوْنا عنهم ذنوبَهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها"(15).

قال الواحدي: أي: " محونا ذنوبهم التي سلفت بالإيمان بك"(16).

قال الزمخشري: أي: " لكفرنا عنهم تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها"(17).

قال البيضاوي: " لكفرنا عنهم سيئاتهم التي فعلوها ولم نؤاخذهم بها"(18).

قال ابن كثير: " أي: لأزلنا عنهم المحذور ولحصّلْناهم المقصود"(19).

قال السعدي: أي: "لكفر عنهم سيئاتهم ولو كانت ما كانت"(20).

(1) الكشاف: 1/ 657.

(2)

فتح القدير: 2/ 67.

(3)

التفسير الميسر: 119.

(4)

الكشاف: 1/ 657.

(5)

أخرجه الطبري (12256): ص 10/ 462.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 52.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(8)

انظر: بحر العلوم: 1/ 405، وتفسير القرطبي: 6/ 241.

(9)

تفسير البغوي: 3/ 77.

(10)

الوسيط: 2/ 208.

(11)

تفسير البيضاوي: 2/ 135.

(12)

فتح القدير: 2/ 67.

(13)

التفسير الميسر: 119.

(14)

بحر العلوم: 1/ 405.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 461.

(16)

الوسيط: 2/ 208.

(17)

الكشاف: 1/ 657.

(18)

تفسير البيضاوي: 2/ 135.

(19)

تفسير ابن كثير: 3/ 147.

(20)

تفسير السعدي: 238.

ص: 326

قال الشوكاني: أي: لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها، وإن كانت كثيرة متنوعة وقيل المعنى: لوسعنا عليهم في أرزاقهم" (1).

قال الراغب: " ذكر أنهم لو أصلحوا اعتقادهم وأفعالهم لغفروا وأثيبوا، كقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] "(2).

قال القرطبي: " {وكفرنا}، غطينا"(3).

والتكفير: "ستر الذنوب حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل، ويصح أن يكون أصله إزالة الكفر كقولهم: مرضت فلان وقديت عينه"(4).

قال الماتريدي: " عامل الله عز وجل خلقه معاملة أكرم الأكرمين؛ حيث وعد لهم المغفرة، وتكفير ما ارتكبوا في حال الكفر، وقولهم في الله من القبيح الوخش؛ لو آمنوا واتقوا الذي قالوا في الله؛ وهو كما قال الله: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]ـ وذلك - والله أعلم - أنه لما تاب ورجع عن صنيعه يرجع عن جميع ما كان منه، ويندم على ذلك، ويتمنى أن يكون ما كان منه في تلك الحال من الشر: خيرا؛ فهو كقوله - تعالى -: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]؛ لأنهم يندمون على تلك السيئات التي كانت منهم، ويتمنون أن يكون الذي كان منهم في تلك الحال خيرا لا شرا"(5).

قوله تعالى: {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة: 65]، أي:" ولأدخلناهم جنات النعيم في الدار الآخرة"(6).

قال الطبري: " يقول: ولأدخلناهم بساتِين ينعَمون فيها في الآخرة"(7).

قال السعدي: أي: " ولأدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين"(8).

قال الزمخشري: أي: " ولأدخلناهم مع المسلمين الجنة. وفيه إعلام بعظم معاصى اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه"(9).

قال البيضاوي: " وجعلناهم داخلين فيها، وفيه تنبيه على عظم معاصيهم وكثرة ذنوبهم، وأن الإسلام يجب ما قبله، وإن جل وأن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم."(10).

قال مالك بن دينار: " جنات النعيم بين جنان الفردوس وبين جنات عدن، وفيها جواري خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين عملوا بالمعاصي فلما ذكروا عظمتي راقبوني والذين انثنت أصلابهم من خشيتي وعزتي إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب"(11).

الفوائد:

1 -

وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة.

2 -

الوعد والجزاء للمؤمنين الذين أتوا من الأعمال القلبية وأعمال الجوارح ما يحقق لهم الإيمان الكامل أو الإيمان التام.

3 -

وهذه الآية شهادة من الله عز وجل على أن أولئك الأقوام الذين يتعصبون ويدعون أنهم على إتباع دينهم ورسلهم موسى في التوراة وعيسى في الإنجيل أنهم كاذبون.

(1) فتح القدير: 2/ 67.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 396.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 241.

(4)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 396.

(5)

تفسير الماتريدي: 3/ 555.

(6)

التفسير الميسر: 119.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 461.

(8)

تفسير السعدي: 238.

(9)

الكشاف: 1/ 657.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 135.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6594): ص 4/ 1170.

ص: 327

4 -

أن مجرد الايمان يجب ما قبله ويمحوه، كما ورد النص فلو فرضنا موت الداخل في الايمان عقيب دخوله فيه، لكان كيوم ولدته أمه باتفاق مكفر الخطايا محكوما له بالجنة، فدل ذلك على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط. هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال.

وإن كانت التقوى على أصل موضعها الخوف من الله عز وجل، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر (1).

القرآن

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} [المائدة: 66]

التفسير:

ولو أنَّهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، وبما أُنْزِل عليك أيها الرسول -وهو القرآن الكريم- لرُزِقوا من كلِّ سبيلٍ، فأنزلنا عليهم المطر، وأنبتنا لهم الثمر، وهذا جزاء الدنيا. وإنَّ مِن أهل الكتاب فريقًا معتدلا ثابتًا على الحق، وكثير منهم ساء عملُه، وضل عن سواء السبيل.

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 66]، أي:" ولو أنَّهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، وبما أُنْزِل عليك أيها الرسول -وهو القرآن الكريم-"(2).

قال مجاهد: " أما إقامتهم التوراة والإنجيل فالعمل بهما"(3).

عن ابن عباس: " {وما أنزل إليهم من ربهم}، يعني: ما أنزل إليهم الفرقان"(4).

عن السدي: " {وما أنزل إليهم من ربهم}، يقول: لو عملوا بما أنزل إليهم مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم"(5).

قال الواحدي: أي: " عملوا بما فيهما من التَّصديق بك، {وما أنزل إليهم} من كتب أنبيائهم"(6).

قال السمعاني: " يعني: ولو أنهم قاموا وعملوا ما في التوراة، وما في الإنجيل وما في القرآن"(7).

قال البغوي: " يعني: أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما، وما أنزل إليهم من ربهم، يعني: القرآن، وقيل: كتب أنبياء بني إسرائيل"(8).

قال الزمخشري: أي: " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليهم من سائر كتب الله، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها، فكأنها أنزلت إليهم وقيل: هو القرآن"(9).

قال السعدي: " أي: قاموا بأوامرهما ونواهيهما، كما ندبهم الله وحثهم، ومن إقامتهما الإيمان بما دعيا إليه، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم، أي: لأجلهم وللاعتناء بهم"(10).

(1) اانظر: تفسير الكشاف: 1/ 657، الهامش.

(2)

التفسير الميسر: 119.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6596): ص 4/ 1170.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6597): ص 4/ 1170.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6598): ص 4/ 1170 - 1171.

(6)

الوجيز: 328.

(7)

تفسير السمعاني: 2/ 52.

(8)

تفسير البغوي: 2/ 67 - 68.

(9)

الكشاف: 1/ 658.

(10)

تفسير السعدي: 238.

ص: 328

قال ابن كثير: " أي: [لو أنهم] عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء، على ما هي عليه، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة"(1).

قال الشوكاني: " قوله: {وما أنزل إليهم من ربهم}، من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها"(2).

وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 66]، وجهان (3):

أحدهما: أقاموها نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من أحكام الله تعالى وأوامره لم يزلوا.

والثاني: إن إقامتها العمل بما فيها من غير تحريف ولا تبديل. وهذا قول مجاهد (4).

عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يوشك أن يرفع العلم". فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا؟ ! قال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة، أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله" ثم قرأ {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} "(5).

قوله تعالى: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، أي:" لرُزِقوا من كلِّ سبيلٍ، فأنزلنا عليهم المطر، وأنبتنا لهم الثمر"(6).

قال الطبري: " يعني: لأنزل الله عليهم من السماء قَطْرَها، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها، فأخرج ثمارَها، وأما قوله: {ومن تحت أرجلهم}، فإنه يعني تعالى ذكره: لأكلوا من برَكة ما تحت أقدامِهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حَبِّها ونباتها وثمارِها، وسائرِ ما يؤكل مما تخرجه الأرض"(7).

قال ابن كثير: " يعني بذلك: كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض"(8).

قال السعدي: " أي: لأدر الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96] "(9).

وفي قوله تعالى: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، ثلاثة اقوال:

أحدها: أنه أراد التوسعة عليهم كما يقال هو في الخير من قرنه إلى قدمه، وقد أعلم الله جل وعز أن التقى سعة في الرزق فقال:{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا} ، وقال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، وقال في قصة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 147 - 148.

(2)

فتح القدير: 2/ 67.

(3)

اظر: النكت والعيون: 2/ 52.

(4)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6596): ص 4/ 1170.

(5)

رواه ابن ابي حاتم كما في تفسير ابن كثير: 3/ 148، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/ 43) والبزار في مسنده برقم (232) "كشف الأستار" من وجه آخر: من طريق إبراهيم بن أبي عبلة، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك بنحوه.

(6)

التفسير الميسر: 119.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 463.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 148.

(9)

تفسير السعدي: 238.

ص: 329

جَنَّاتٍ} [نوح: 10 - 12]، وهي البساتين. فوعدهم الله أتم الغنى على الإيمان والاستغفار. أفاده الزجاج (1).

والثاني: لأكلوا من فوقهم بإنزال المطر، ومن تحت أرجلهم بإنبات الثمر. قاله ابن عباس (2)، وسعيد بن جبير (3)، ومجاهد (4)، والسدي (5)، وقتادة (6).

والثالث: وذكر النقاش أن المعنى: "لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض"(7).

قال الشوكاني: " ذكر فوق وتحت للمبالغة في تيسر أسباب الرزق لهم وكثرتهم وتعدد أنواعها"(8).

قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66]، أي:"وإنَّ مِن أهل الكتاب فريقًا معتدلا ثابتًا على الحق"(9).

قال الشوكاني: "قوله: {منهم أمة مقتصدة، جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: هل جميعهم متصفون بالأوصاف السابقة، أو البعض منهم دون البعض، والمقتصدون منهم هم المؤمنون كعبد الله بن سلام ومن تبعه وطائفة من النصارى"(10).

وفي قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66]، وجوه:

أحدها: مقتصدة على أمر الله تعالى وكتابه، قاله قتادة (11).

الثاني: مؤمنة. قاله السدي (12)، وبه قال الواحدي (13).

والثالث: أن "المقتصدة: أهلُ طاعة الله، وهؤلاء أهل الكتاب" قاله ابن زيد (14).

والرابع: قال الربيع: " فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جَفَوا في الدين ولا هم غلوا، والغلو، الرغبة عنه، والفسق، التقصير عنه"(15).

والخامس: عادلة، قاله الكلبي (16)، وبه قال السمعاني (17)، والبغوي (18)، وابن عطية (19).

قال البغوي: " {مقتصدة}، أي: عادلة غير غالية، ولا مقصرة جافية. ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير"(20).

قال ابن عطية: أي: " معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال"(21).

(1) انظر: معاني القرآن: 2/ 191.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12257): ص 10/ 463، و (12262): ص 10/ 464، وتفسير ابن ابي حاتم (6599): ص 4/ 1171.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1171. ذذكره دون إسناد

(4)

انظر: تفسير الطبري (12260): ص 10/ 464.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12259): ص 10/ 463 - 464.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12258): ص 10/ 463.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 217.

(8)

فتح القدير: 2/ 67.

(9)

التفسير الميسر: 119.

(10)

فتح القدير: 2/ 67.

(11)

أانظر: تفسير الطبري (12266): ص 10/ 466.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12267): ص 10/ 466.

(13)

انظر: الوجيز: 328.

(14)

أخرجه الطبري (12268): ص 10/ 466.

(15)

أخرجه الطبري (12269): ص 10/ 466.

(16)

انظر: النكت والعيون: 2/ 53.

(17)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 52.

(18)

انظر: تفسير البغوي: 2/ 68.

(19)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 217.

(20)

تفسير البغوي: 2/ 68.

(21)

المحرر الوجيز: 2/ 217.

ص: 330

والسادس: أي: متبعة؛ يعني: من آمن من أهل الكتاب برسول الله، وبما جاء به. قاله ابن أبي زمنين (1).

والسابع: وقيل: يعنى به طائفة لم تناصب النبى صلى الله عليه وسلم مناصبة هؤلاء. حكاه الزجاج (2)، واختاره الزمخشري (3).

قال الزمخشري: أي: " طائفة حالها أمم (4) في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم"(5).

قال الزجاج: "والذي أظنه - والله أعلم - أنه لا يسمي الله من كان على شيء من الكفر مقتصدا"(6).

والثامن: معناه: منهم جماعة مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم، قائلةٌ فيه الحقَّ أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غاليةٌ قائلةٌ: إنه ابن الله، تعالى الله عما قالوا من ذلك، ولا مقصرة قائلةٌ: هو لغير رِشْدَة. وهذا قول الطبري (7)، ومعنى قول مجاهد (8).

قال مجاهد: " تفرَّقت بنو إسرائيل فِرَقًا، فقالت فرقة: عيسى هو ابن الله، وقالت فرقة: هو الله، وقالت فرقة: هو عبد الله وروحه، وهي المقتصدة، وهي مسلمةُ أهل الكتاب"(9).

قال ابن عطية: "وعلى قول مجاهد يتخرج قول الطبري: ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم"(10).

قال السعدي: " {منهم} أي: من أهل الكتاب {أمة مقتصدة} أي: عاملة بالتوراة والإنجيل، عملا غير قوي ولا نشيط "(11).

قال ابن كثير: " قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} كقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وكقوله عن أتباع عيسى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} الآية [فاطر: 32، 33]. والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة"(12).

عن أنس بن مالك قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعًا. واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار". قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "الجماعات الجماعات"(13).

(1) انظر: تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 37.

(2)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 2/ 192.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 658.

(4)

قوله «أمم» أى يسير. أفاده الصحاح.

(5)

الكشاف: 1/ 658.

(6)

معاني القرآن: 2/ 192.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 465.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12265): ص 10/ 465 - 466، وانظر:(12266): ص 10/ 466.

(9)

أخرجه الطبري (12265): ص 10/ 465 - 466، وانظر:(12266): ص 10/ 466.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 217.

(11)

تفسير السعدي: 238.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 149.

(13)

رواه ابن مردويه كما في تفسير ابن كثير: 3/ 149.

ص: 331

قال يعقوب بن يزيد: " كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلا فيه قرآنا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} وتلا أيضًا: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181]، يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم"(1).

قال ابن كثير: "وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق"(2).

قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66]، أي:" وكثير منهم ساء عملُه، وضل عن سواء السبيل"(3).

قال مجاهد: " {وكثير منهم}، يهود"(4).

قال قتادة: " ثم ذم أكثر القوم فقال: {وكثير منهم ساء ما يعملون} "(5).

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم"(6).

قال الزجاج: " المعنى بئس شيئا عملهم"(7).

قال ابن ابي زمنين: " يعني: من ثبت منهم على اليهودية والنصرانية"(8).

قال الشوكاني: "وهم المصرون على الكفر المتمردون عن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به"(9).

قال القرطبي: " أي: بئس شي عملوه، كذبوا الرسل، وحرفوا الكتب وأكلوا السحت"(10).

قال السعدي: " أي: والمسيء منهم الكثير. وأما السابقون منهم فقليل ما هم"(11).

قال الزمخشري: " و {ساء ما يعملون}، فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وكثير منهم ما أسوأ عملهم، وقيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم"(12).

الفوائد:

1 -

وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، أي: لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة. وما زال العرض كما هو لكل الأمم والشعوب أيضاً.

2 -

أن ثمرة الإيمان السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، وقد وعد الله عز وجل العاملين بشرعه الخير والبركات في الدنيا والآخرة، فقال:{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} .

3 -

ومن الفوائد، بيان فضل الأمة المحمدية-صلى الله عليه وسلم، إذ جعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصد وهي درجة السابق بالخيرات؛ حيث قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32].

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 149، ورواه أبو يعلى في مسنده (6/ 340) من طريق أبي معشر، عن يعقوب بن زيد به من حديث طويل. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 257):"فيه أبو معشر نجيح وهو ضعيف" ..

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 149.

(3)

التفسير الميسر: 119.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6606): ص 4/ 1172.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6607): ص 4/ 1172.

(6)

تفسير البغوي: 2/ 68.

(7)

معاني القرآن: 2/ 192.

(8)

تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 37.

(9)

فتح القدير: 2/ 67.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 242.

(11)

تفسير السعدي: 238.

(12)

الكشاف: 1/ 658.

ص: 332

وهذه استدلال لطيف على تقدم هذه الأمة على بني إسرائيل في الفضل ألمح إليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُون} ؛ إذ قال: "فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد، وهو أوسط مقامات هذه الأمة، وفوق ذلك رتبة السابقين، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} "(1).

القرآن

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]

التفسير:

يا أيها الرسول بلِّغ وحي الله الذي أنزِل إليك من ربك، وإن قصَّرت في البلاغ فَكَتَمْتَ منه شيئًا، فإنك لم تُبَلِّغ رسالة ربِّك، وقد بلَّغ صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كاملة، فمن زعم أنه كتم شيئًا مما أنزِل عليه، فقد أعظم على الله ورسوله الفرية. والله تعالى حافظك وناصرك على أعدائك، فليس عليك إلا البلاغ. إن الله لا يوفق للرشد مَن حاد عن سبيل الحق، وجحد ما جئت به من عند الله.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: روى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً، وعرفت أن الناس مكذبي، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني"؛ فأنزل الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} " (2). [ضعيف جداً].

والثاني: وقال مجاهد: لما نزلت {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ؛ قال: "يا رب إنما أنا واحد، كيف أصنع ليجتمع عليّ من الناس؟ "؛ فنزلت: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} " (3). [ضعيف]

وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزئون به، فسكت عنهم، فحرض بهذه الآية" (4). [ضعيف]

والثالث: قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس، فكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه، حتى نزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إلى قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ؛ فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه؛ فقال: "يا عم! إن الله عز وجل قد عصمني من الجن والإنس"(5). [ضعيف جداً]

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 149.

(2)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 116، 117) ونسبه لأبي الشيخ.

مراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. وانظر: تفسير الشوكاني: 825.

(3)

أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12272): ص 10/ 468، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6613): ص 4/ 1173، من طريق سفيان الثوري عن رجل عن مجاهد.

قلنا: وسنده ضعيف؛ لإرساله، وجهالة الرجل الذي لم يسم.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 117) وزاد نسبته لعبد بن حميد وأبي الشيخ.

(4)

.

(5)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(11/ 205 رقم 11663)، والواحدي في "أسباب النزول"(ص 135)، و"الوسيط"(2/ 209)، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 81) من طريق الحماني عن النضر أبي عمر عن عكرمة عنه به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ فيه علتان:

الأولى: النضر هذا؛ متروك الحديث؛ كما في "التقريب"(2/ 302).

الثانية: الحماني؛ ضعيف.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 17): "وفيه النضر بن عبد الرحمن، وهو ضعيف".

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 118) وزاد نسبته لأبي الشيخ وأبي نعيم في "الدلائل" -ولم نجده فيه بعد طول بحث- وابن عساكر.

ص: 333

والرابع: وقال أبو سعيد الخدري: " نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} على رسول الله يوم غدير خم في علي بن أبي طالب"(1). [ضعيف جداً]

والخامس: قال ابن عباس: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ قال: فقال: "كنت بمنى أيام موسم، واجتمع مشركوا العرب وأفناء الناس في الموسم، فأنزل عليَّ جبريل؛ فقال:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} قال: فقمت عند العقبة، فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم؛ تفلحوا أو تنجحوا ولكم الجنة، قال: فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة، ويبصقون في وجهي، ويقولون: كذاب صابئ، فعرض عليّ عارض فقال: يا محمد! إن كنت رسول الله؛ فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك"، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه، قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون: فيهم نزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] هوى النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب، وشاء الله عباس بن عبد المطلب"(2). [ضعيف]

والسادس: أنها نزلت لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك. وهذا قول ابن جريج (3). [ضعيف جدا]

والسابع: وقال مقاتل: "لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزئون به، فسكت عنهم، فحرض بهذه الآية"(4).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6609): ص 4/ 1172، والواحدي في "الأسباب"(ص 135) من طريق علي بن عابس عن الأعمش وأبي حجاب عن عطية عن أبي سعيد به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ لأن عطية ضعيف مدلس، وتدليسه معروف أنه من شر أنواع التدليس، وهو المسمى بتدليس السكوت، هذا أولًا، وثانياً: علي بن عابس؛ ضعيف؛ كما في "التقريب".

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 117) وزاد نسبته لابن مردويه وابن عساكر.

قال فصيح الدين الحيدري: " وذهب الشيعة إلى أن الله تعالى قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجعل الخليفة من بعده علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أشار في مرض موته إلى علي رضي الله عنه خفية بأنه الخليفة من بعده بالاستحقاق، وأن الآية نزلت في علي رضي الله تعالى عنه، أي بلِّغ ما أنزل إليك من أمر علي، بزعمهم الباطل، إلا أنه أسرّ أمر الخلافة بينه وبين علي وأمره بعدم دعوى الخلافة فانظر إلى هذا الهذيان المستلزم لعدم تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم أوامر الله تعالى، لأن معنى التبليغ إعلان الأمر لجميع الأمة. فما أعمى بصائرهم! والعياذ بالله تعالى من سوء المنقلب". [النكت الشنيعة في بيان الخلاف بين الله تعالى والشيعة: 109 - 110].

(2)

أخرجه ابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 117، 118) -ومن طريقه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(10/ 13، 14 رقم 2) - بسند ضعيف؛ فيه قابوس بن أبي ظبيان؛ لين الحديث، والأعمش مدلس، وفيه من لم نعرفه.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12279): 10/ 471. [ضعيف جدا]، أخرجه من طريق سنيد صاحب "التفسير" عن حجاج عن ابن جريج به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف سنيد.

(4)

عزاه ابن الجوزي في زاد المسير: 1/ 568 لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وخبره معضل، وهو متروك متهم إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟ ! .

وفي تفسيره 1/ 492: " {والله يعصمك من الناس}، يعني: من اليهود فلا تقتل، {إن الله لا يهدي القوم الكافرين}، يعني اليهود، فلما نزلت هذه الآية أمن النبي- صلى الله عليه وسلم من القتل والخوف فقال: لا أبالي من خذلني ومن نصرني، وذلك أنه كان خشي أن تغتاله اليهود فتقتله ".

ص: 334

قال البغوي: " قيل: نزلت في عيب اليهود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به، فيقولون له: تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية، وأمره أن يقول لهم: "{يا أهل الكتاب لستم على شيء} [المائدة: 68] الآية" (1).

والثامن: وقيل: "نزلت في الجهاد، وذلك أن المنافقين كرهوه كما قال الله تعالى: فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت [محمد: 5]، وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم [النساء: 77] الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم، فأنزل الله هذه الآية"(2).

والتاسع: وقيل: "بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص، نزلت في قصة اليهود"(3).

والعاشر: وقيل: "نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها"(4).

الحادي عشر: عن أبي هريرة؛ قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم فينزل تحتها، وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجرة. فبينما هو نازل تحت شجرة -وقد علق السيف عليها- إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة ثم دناه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فأيقظه، فقال: يا محمد من يمنعك مني الليلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله"؛ فأنزل الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} "(5). [حسن]

(1) تفسير البغوي: 3/ 78.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 78.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 78.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 78.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة؛ كما في "فتح الباري"(6/ 98)، وابن حبان في "صحيحه"(رقم 1739 - موارد)، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 82) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.

قلنا: وهذا إسناد حسن، وكذا حسنه شيخنا في "الصحيحة".

قال الحافظ: "وهذا إسناد حسن، فيحتمل -إن كان محفوظاً- أن يقال: كان مخيراً في اتخاذ الحرس؛ فتركه مرة؛ لقوة يقينه، فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ترك ذلك".

قلنا: وأصل الحديث في "الصحيحين" من حديث جابر بن عبد الله عند البخاري في "صحيحه"(6/ 96 رقم 2910، ص 97 رقم 2913)، ومسلم في "صحيحه"(4/ 1786، 1787) بلفظ: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قفل رسول الله قفل معه، فأدركهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومةً، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال:"إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله (ثلاثًا) "، ولم يعاقبه فجلس.

ومنها: حديث عائشة عند البخاري (6/ 81 رقم 2885، 13/ 219 رقم 7231)، ومسلم (4/ 1875/ 2410)؛ قالت عائشة رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر، فلما قدم المدينة قال: ليت رجلًا من أصحابي صالحاً يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوتَ سلاح، فقال:"من هذا؟ " فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم.

و-أيضاً- من حديث جابر عند ابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1173 رقم 6614) من طريق موسى بن عبيدة ثني زيد بن أسلم عن جابر؛ قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه؛ فقال الحارث من بني النجار: لأقتلن محمداً، فقال أصحابه: كيف تقتله، قال: أقول له: أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به، قال: فأتاه، فقال: يا محمد أعطني سيفك أشيمه فأعطاه إياه، فرعدت يده حتى سقط السيف من يده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حال الله بينك وبين ما تريد"؛ فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} .

وسنده ضعيف؛ موسى بن عبيدة ضعيف.

وقال ابن كثير: "هذا حديث غريب من هذا الوجه".

لكنه حسن في الشواهد.

ومنها مرسل محمد بن كعب القرظي عند الطبري في "جامع البيان"(6/ 199) وسنده صحيح.

ومنها مرسل سعيد بن جبير عنده -أيضاً- بسند ضعيف.

وانظر: ما كتبه شيخنا الإِمام الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(رقم 2489).

ص: 335

الثاني عشر: قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرس؛ فنزلت: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال: «أيها الناس انصرفوا؛ فقد عصمني الله من الناس» "(1). [حسن لغيره]

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، أي:" يا أيها الرسول بلِّغ وحي الله الذي أنزِل إليك من ربك"(2).

عن مقاتل بن حيان: "يقول: يا محمد"(3)."بلغ ما أرسلت به، يحرضه على أن يبلغ الرسالة عن ربه"(4).

قال الزمخشري: أي: " جميع ما أنزل إليك وأى شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه"(5).

قال الباقلاني: " فحثة وحضَّه على أداء ما حُمِّل"(6).

(1) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(4/ 1503، 1504 رقم 768 - تكملة)، والترمذي (5/ 251 رقم 3046)، والطبري في "جامع البيان" (12276): ص 10/ 469، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6615): ص 4/ 1173، والقاضي عياض في "الشفا"(ص 346، 347)، والحاكم (2/ 313)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(9/ 8)، و"الدلائل"(2/ 184) جميعهم من طريق الحارث بن عبيد عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: الحارث بن عبيد؛ ضعفه ابن معين والنسائي وابن حبان وأبو زرعة والذهبي وغيرهم، ولخصه الحافظ بقوله:"صدوق يخطئ".

انظر: "تاريخ الدوري"(2/ 93)، و"ضعفاء النسائي"(رقم 119)، و"المجروحين"(1/ 224)، و"الكامل"(2/ 607، 608)، و"الميزان"(1/ 438، 439)، و"التهذيب"(2/ 149، 150)، و"التقريب"(1/ 142).

الثانية: الجريري؛ اختلط، ولم يذكروا الحارث ضمن الذين رووا عنه قبل الاختلاط.

قال الترمذي: "هذا حديث غريب، وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ولم يذكروا فيه عن عائشة".

وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.

وقال الحافظ "فتح الباري"(6/ 82): "إسناده حسن، واختلف في وصله وإرساله".

قلنا: والصواب أن الحديث مرسل؛ فقد أخرجه الطبري في "جامع البيان"(6/ 199)، وابن مردويه؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 81) من طريق إسماعيل بن عليه ووهيب بن خالد كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق به مرسلاً.

قلنا: وهذا مرسل صحيح الإسناد، وابن عليه سمع من الجريري قبل الاختلاط وهو أصح من سابقه.

وقال شيخنا العلّامة الألباني رحمه الله في "الصحيحة"(5/ 645): "فهو صحيح مرسل".

وقال قبل ذلك: "وهذا أصح -يعني: المرسل-".

فهو ضعيف إذًا، لكن للحديث شواهد كثيرة يصح بها.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 118) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.

(2)

التفسير الميسر: 119.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6608): ص 4/ 1172.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6610): ص 4/ 1172.

(5)

الكشاف: 1/ 658.

(6)

الانتصار للقرآن: 2/ 451.

ص: 336

قال ابن كثير: " يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وقام به أتمّ القيام"(1).

قال الجصاص: " فيه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعا ما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه، وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له"(2).

قال ابن عطية: " هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته صلى الله عليه وسلم تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد حالهم فكان يلقى منهم عنتا وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية، فقال الله له بلغ ما أنزل إليك من ربك أي كاملا متمما"(3).

قال الشوكاني: " العموم الكائن في ما أنزل يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ جميع ما أنزله الله إليه لا يكتم منه شيئا، وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله إليه شيئا"(4).

قال السعدي: " هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوامر وأجلها، وهو التبليغ لما أنزل الله إليه، ويدخل في هذا كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والأعمال والأقوال، والأحكام الشرعية والمطالب الإلهية. فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا وأنذر، وبشر ويسر، وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين، وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله. فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين"(5).

عن مسروق، عن عائشة قالت:"من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أُنزل عليه، فقد كذب، الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية"(6).

وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: "لو كان محمد صلى الله عليه وسلم -كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] "(7).

وعن هارون بن عنترة، عن أبيه قال:" كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له: إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء"(8).

وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال: «قلت لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفَكَاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر» (9).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 150.

(2)

أحكام القرآن: 2/ 516.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 217 - 218.

(4)

فتح القدير: 2/ 68.

(5)

تفسير السعدي: 239.

(6)

صحيح البخاري برقم (4612) وبرقم (4855، 7380) وصحيح مسلم برقم (177) وسنن الترمذي برقم (3068) وسنن النسائي الكبرى برقم (11147).

(7)

صحيح البخاري برقم (7420) رواه من حديث أنس، وقد ذكره ابن كثير: 3/ 150، تابعا هنا شيخه المزي حيث ذكره في تحفة الأشراف (11/ 385) من حديث أنس عن عائشة، ولعله اعتمد على رواية الداودي كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح، ورواه مسلم في صحيحه برقم (177).

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم كما في تفسير ابن كثير: 3/ 150. قال ابن كثير: 3/ 150: " وهذا إسناد جيد".

(9)

صحيح البخاري برقم (111).

ص: 337

قال ابن كثير: " وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل، في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من الصحابه نحو من أربعين ألفًا كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ: «أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها إليهم ويقول: "اللهم هل بَلَّغْتُ، اللهم هل بلغت» (1) "(2).

وقال ابن عباس: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟ " قالوا: يوم حرام. قال: "أيّ بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام. قال: "فأيّ شهر هذا؟ " قالوا: شهر حرام. قال: "فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا". ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: "اللهم هل بلغت! " مرارًا - قال: يقول ابن عباس: والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل ثم قال: "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"» (3).

قال القرطبي: "قبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه"(4).

قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، أي:" وإن قصَّرت في البلاغ فَكَتَمْتَ منه شيئًا، فإنك لم تُبَلِّغ رسالة ربِّك"(5).

قال ابن عباس: " يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي"(6).

قال ابن كثير: " يعني: وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به، {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع"(7).

قال السعدي: " أي: لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك، فما امتثلت أمره"(8).

قال الزجاج: أي: " بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، وإن تركت منه شيئا فما بلغت، أي لا تراقبن أحدا ولا تتركن شيئا من ذلك خوفا من أن ينالك مكروه"(9).

قال السمعاني: " فيه معنيان: أحدهما: معناه: إن لم تبلغ الجميع، وتركت واحدا، فما بلغت شيئا، يعني: جرمك في ترك التبليغ في واحد كجرمك في ترك الكل، وقيل: معناه: بلغ ما أنزل إليك أي: أظهر تبليغه"(10).

قال قتادة: " أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما صاحبتهم"(11).

قال مجاهد: " لما نزلت: {بلغ ما أنزل إليك من ربك}، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! فنزلت: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}، الآية"(12).

(1) صحيح مسلم برقم (1218).

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 151.

(3)

المسند (1/ 230) وصحيح البخاري برقم (1739).

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 243.

(5)

التفسير الميسر: 119.

(6)

أخرجه الطبري (12270): ص 10/ 468.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 151.

(8)

تفسير السعدي: 239.

(9)

معاني القرىن: 2/ 192.

(10)

تفسير السمعاني: 2/ 53.

(11)

أخرجه الطبري (12271): ص 10/ 468.

(12)

أخرجه الطبري (12272): ص 10/ 468.

ص: 338

قال الجصاص: " أخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئا، بقوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام"(1).

وفي وقوع قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، جزاء للشرط، وجهان (2):

أحدهما: أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا كان أمرا شنيعا لا خفاء بشناعته، فقيل: إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها، كما عظم قتل النفس بقوله:{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ} [المائدة: 32].

والثاني: أن يراد: فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحى كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام «فأوحى الله إلى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك» (3).

قال ابن عطية: " ثم توعده تعالى بقوله: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ، أي: إنك إن تركت شيئا فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتد به، فقوله تعالى:{وإن لم تفعل} معناه: وإن لم تستوف، ونحو هذا قول الشاعر (4):

سُئلتَ فلمْ تبخل ولم تعطِ طائلاً

فسيَّانِ لا ذمٌّ عليكَ ولا حمدُ

أي: ولم تعط ما يعد نائلا وإلا فيتكاذب البيت" (5).

وقرأ أهل المدينة: «رسالاته» (6).

قال الزمخشري: المعنى: " فلم تبلغ إذا ما كلفت من أداء الرسالات، ولم تؤد منها شيئا قط، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها. وكونها كذلك في حكم شيء واحد. والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ، مؤمنا به غير مؤمن به"(7).

قال النحاس: "والقراءتان حسنتان إلا أن الجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا شيئا ثم يبينه"(8).

قال الإمام الشوكاني: " وفيه نظر، فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات، كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ما نزل إليهم، وقال لهم في غير موطن: هل بلغت؟ فيشهدون له بالبيان، فجزاه الله عن أمته خيرا"(9).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، أي:" والله تعالى حافظك وناصرك على أعدائك"(10).

قال قتادة: " أخبر الله نبيه أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم وأمره بالبلاغ"(11).

(1) أحكام القرآن: 2/ 516.

(2)

انظر: الكشاف: 1/ 659.

(3)

رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (443): ص 1/ 402، ومسند الشاميين للطبراني (2376): ص 3/ 314، ونصه:" إن الله أرسلني برسالة فضقت بها ذرعا، وعلمت أن الناس مكذبي فأوعدني أن أبلغها أو يعذبني ".

(4)

ديوان الحطيئة: 329، وانظر: المقرب: 1/ 250، والتذييل: 3/ 114، 115، 157، وشرح الصفار للكتاب (ق 87 / ب)، وشرح الجمل لابن عصفور: 1/ 613، والأغاني: 2/ 168، والشعر والشعراء: 1/ 313، والفاخر: 213، والعقد الفريد: 1/ 239، والحماسة البصرية: 2/ 299،

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 218.

(6)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 2/ 192، وإعراب القرآن للنحاس: 1/ 275.

(7)

الكشاف: 1/ 659.

(8)

إعراب القرآن: 1/ 275.

(9)

فتح القدير: 2/ 68 - 69.

(10)

التفسير الميسر: 119.

(11)

.أخرجه ابن ابي حاتم (6616): ص 4/ 1174

ص: 339

قال مقاتل بن حيان: " {والله يعصمك من الناس}، يعني: ممن حولك من العرب كلها إنهم لا يصلون إليك، فأمن النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك"(1).

قال السمرقندي: " يعني: اليهود ويقال: كيد الكفار"(2).

قال ابن كثير: " أي: بلغ أنت رسالتي، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس" (3).

قال الزجاج: " أي: يحول بينهم وبين أن ينالك منهم مكروه، فأعلمه الله جل وعز أنه

يسلم منهم. وفي هذا آية للنبي صلى الله عليه وسلم بينة (4).

قال الجصاص: " أخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره، بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية; لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ، وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} "(5).

قال البغوي: أي: " يحفظك ويمنعك من الناس، فإن قيل: أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى؟

قيل: معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك.

وقيل: نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.

وقيل: والله يخصك بالعصمة من بين الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم" (6).

قال الزمخشري: قوله: {والله يعصمك} " عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت: أين ضمان العصمة وقد شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت: المراد أنه يعصمه من القتل. وفيه: أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: نزلت بعد يوم أحد، والناس الكفار بدليل قوله: {إن الله لا يهدي القوم الكافرين}، ومعناه: أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك"(7).

قال ابن عطية: " يعصمك معناه: يحفظك ويجعل عليك وقاية، ومنه قوله تعالى:{يعصمني من الماء} [هود: 43]

وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية" (8).

عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة، وقال: «يأيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل» "(9).

(1).أخرجه ابن ابي حاتم (6617): ص 4/ 1174

(2)

بحر العلوم: 1/ 406.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 151 - 152.

(4)

معاني القرآن: 2/ 192.

(5)

أحكام القرآن: 2/ 516.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 79.

(7)

الكشاف: 1/ 659.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 218.

(9)

سنن الترمذي برقم (5037) وتفسير الطبري (12276): ص 10/ 469، والمستدرك (2/ 313) وسنن سعيد بن منصور برقم (768). قال الترمذي:"وهذا حديث غريب".

ص: 340

قال سعيد بن جبير: "لما نزلت: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني"(1).

عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: "أن عائشة كانت تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهي إلى جنبه، قالت: فقلتُ: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: "ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة؟ " قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: "من هذا؟ " فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: "ما جاء بك؟ " قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه"(2).

قال الطبري: " يمنعك من أن ينالوك بسوء. وأصله من عِصَام القربة، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط، ومنه قول الشاعر (3):

وَقُلْتُ: عَلَيْكُمْ مَالِكًا، إنَّ مَالِكًا

سَيَعْصِمُكُمُ، إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ

يعني: يمنعكم" (4).

قال ابن كثير: "ومن عصمة الله عز وجل لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا، ثم قيض الله عز وجل له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه الله منه ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها"(5).

قال الإمام الشوكاني: " وعده بالعصمة من الناس دفعا لما يظن أنه حامل على كتم البيان، وهو خوف لحوق الضرر من الناس، وقد كان ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام، ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم، وكانت كلمة الله هي العليا، فأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (6)، وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس، إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا وصلابة في دين الله وشدة شكيمة في القيام بحجة الله، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلفة وتوهمات باطلة، فإن كل محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"(7).

قال السعدي: " هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ المبين، فمن اهتدى فلنفسه، وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم ولا يوفقهم للخير، بسبب كفرهم"(8).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، أي:" إن الله لا يوفق للرشد مَن حاد عن سبيل الحق، وجحد ما جئت به من عند الله"(9).

قال الواحدي: أي: " لا يرشد مَنْ كذَّبك"(10).

قال الطبري: " يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه"(11).

قال الإمام الشوكاني: " قوله: {إن الله لا يهدي القوم الكافرين}، جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة، أي: إن الله لا يجعل لهم سبيلا إلى الإضرار بك، فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه"(12).

قال ابن عطية: " وقوله تعالى: {لا يهدي القوم الكافرين}، إما على الخصوص فيمن سبق في علم أنه لا يؤمن، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره"(13).

الفوائد:

1 -

وجوب البلاغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: " ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئاً، فإن كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة، ومن المعلوم في دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصوم من الكذب فيها، والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله، وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم:«تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (14)، وقال:«ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به» (15). وقال أبو ذر: «لقد

(1) أخرجه الطبري (12273): ص 10/ 468.

(2)

المسند (6/ 140) وصحيح البخاري برقم (2885) وصحيح مسلم برقم (2410).

وفي لفظ: سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني: على أثر هجرته إليها بعد دخوله بعائشة، رضي الله عنها، وكان ذلك في سنة ثنتين منها. [انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 151].

(3)

لم اتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري في تفسيره: 10/ 472، وابو عبيدة في مجاز القرآن: 1/ 171. و"عليك ": اسم فعل للإغراء، يقال: عليك زيدًا وعليك بزيد.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 472.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 154.

(6)

السنن الكبرى (18276): ص 9/ 199.

(7)

فتح القدير: 2/ 69.

(8)

تفسير السعدي: 239.

(9)

التفسير الميسر: 119.

(10)

الوجيز: 328.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 472.

(12)

فتح القدير: 2/ 69.

(13)

المحرر الوجيز: 2/ 218.

(14)

المسند (17142): ص 28/ 367، وأخرجه الحاكم 1/ 96، وابن ماجه (43)، وابن عبد البر في "جامع بين العلم" ص 482، ابن أبي عاصم في "السنة"(33) و (48) و (56)، والطبراني في "الكبير" 18/ (619)، وفي "مسند الشاميين"(2017)، والآجري في "الشريعة" ص 47. [حديث صحيح]

(15)

اخرجه البيهقي في الأسما والصفاة (198)، وعبدالرزاق في المصنف (20100)، [إسناده صحيح] انظر: كتاب الألباني النصيحة 232 وانظر الصحيحة 1803.

ص: 341

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علماً» (1) " (2).

2 -

أن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- خلاصة مختارة من البشر، لما كان الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم سفراء الله تعالى إلى خلقه يقومون بتبليغهم أوامره ونواهيه وهو سبحانه حارسهم وحافظهم.

3 -

عصمة الرسول المطلقة، وكفاية الله له أعداءه وعصمته من الناس، وهذا النوع من أعظم الآيات الدالّة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك:

1 -

كفاه الله تعالى المشركين والمستهزئين، فلم يصلوا إليه بسوء، قال تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94 - 95].

2 -

كفاه الله تعالى أهل الكتاب، قال تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].

3 -

وعصمه تعالى من جميع الناس بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

وهذا خبر عام بأن الله يعصمه من جميع الناس، فكلُّ من هذه الأخبار الثلاثة قد وقعت كما أخبر الله تعالى، فقد كفاه أعداءه بأنواع عجيبة خارجة عن العادة المعروفة، ونصره مع كثرة أعدائه وقوتهم وغلبتهم، وانتقم ممن عاداه.

ومن ذلك أن رجلاً نصرانيّاً أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ وعاد نصرانيّاً، فكان يقول: ما يَدْرِي محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنه قومه، فأصبح وقد أخرجته الأرض من بطنها، فأعادوا دفنه، وأعمقوا قبره، فأصبح وقد أخرجته الأرض منبوذاً على ظهرها فأعادوا دفنه وأعمقوا له فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أن هذا ليس من الناس فتركوه منبوذاً (3).

4 -

ومنها: دلالة قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر، نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها، لعموم البلوى بها; فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل، أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث (4).

(1) رواه أبو داود الطيالسي 1/ 385 (481)، وأحمد 5/ 153، 162 من طريق الأعمش، عن منذر الثوري، عن أصحاب له عن أبي ذر.

ورواه ابن سعد في "الطبقات" 2/ 354، وأحمد 5/ 162 من طريق فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، عن أبي ذر.

قال البزار في "البحر الزخار"، (3897) ومنذر الثوري لم يدرك أبا ذر. اهـ.

ورواه البزار في "البحر الزخار"(3897)، والطبراني في "الكبير" 2/ 155 - 156 (1647)، وابن حبان 1/ 267 (65) من طريق محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء، عن ابن عيينة، عن فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر.

قال الهيثمي في "المجمع" 8/ 263: رواه أحمد والطبراني، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يسم. اهـ.

والحديث صحح إسناده الألباني في "الصحيحة"(1803).

ورواه أبو يعلى في "مسنده"(5109) من طريق فطر بن خليفة، عن عطاء قال: قال أبو الدرداء، ثم ساقه.

وعزاه الحافظ في "المطالب العالية"(3846) لابن منيع، وقال: رواته ثقات إلا أنه منقطع واختلف على فطر. اهـ.

(2)

مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية: 1/ 188.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة، برقم 3617، ومسلم، كتاب صفات المنافقين، برقم 2781 ..

(4)

انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 561

ص: 342

5 -

ومنها: دلالة قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم; إذ كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به; لأنه لم يصل إليه أحد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة، نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه; ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية، فأعلمه الله إياه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتياله، فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة، ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله. وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به، إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدس والتخمين وتعاطي علم النجوم والرزق والفأل ونحوها، فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شيء منها، علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون (1).

القرآن

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)} [المائدة: 68]

التفسير:

قل -أيها الرسول- لليهود والنصارى: إنكم لستم على حظٍّ من الدين ما دمتم لم تعملوا بما في التوراة والإنجيل، وما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وإن كثيرًا من أهل الكتاب لا يزيدهم إنزالُ القرآن إليك إلا تجبُّرًا وجحودًا، فهم يحسدونك; لأن الله بعثك بهذه الرسالة الخاتمة، التي بَيَّن فيها معايبهم، فلا تحزن -أيها الرسول- على تكذيبهم لك.

سبب النزول:

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: " جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حرملة، فقالوا: يا محمد! ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بلى؛ ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس، وأنا برئ من أحداثكم"، قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا؛ فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك ولا نتبعك؛ فأنزل الله -تعالى-: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} "(2). [ضعيف]

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 68]، أي:" قل -أيها الرسول- لليهود والنصارى: إنكم لستم على حظٍّ من الدين ما دمتم لم تعملوا بما في التوراة والإنجيل"(3).

(1) انظر: أحكام القرآن للجصاص: 2/ 562.

(2)

أخرجه ابن إسحاق في "السيرة" -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(12284): ص 10/ 473 - 474: ثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ لجهالة محمد شيخ ابن إسحاق؛ كما قال الحافظان الذهبي والعسقلاني.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 120) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

قلنا: أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(6618): ص 4/ 1174: من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد به معضلاً.

(3)

التفسير الميسر: 119.

ص: 343

عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " {حتى تقيموا}، تعملوا بما فيه"(1)." {التوراة والإنجيل}: التوراة أنزلت على اليهود والإنجيل على النصارى وعلى عيسى بن مريم"(2).

قال القرطبي: " أي: لستم على شي من الدين حتى تعملوا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد عليه السلام، والعمل بما يوجبه ذلك منهما"(3).

قال السمرقندي: أي: " قل يا أهل الكتاب: لستم على شيء من الدين ولا ثواب لأعمالكم حتى تعملوا بما في التوراة، والإنجيل"(4).

قال البغوي: " أي: تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيهما"(5).

قال ابن كثير: " {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} أي: من الدين، {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} أي: حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء، وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر باتباع بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه، والاقتداء بشريعته"(6).

قال الزمخشري: " {لستم على شيء}، أى: على دين يعتد به حتى يسمى شيئا لفساده وبطلانه، كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء"(7).

قال ابن عرفة: "أي: لستم على شيء معتبر؛ لأنه شيء غير معتبر شرعا"(8).

قال ابن عطية: " أمر تعالى نبيه محمدا عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه: {لستم على شيء}، أي: على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم"(9).

قال السعدي: " أي: قل لأهل الكتاب، مناديا على ضلالهم، ومعلنا بباطلهم: {لستم على شيء} من الأمور الدينية، فإنكم لا بالقرآن ومحمد آمنتم، ولا بنبيكم وكتابكم صدقتم، ولا بحق تمسكتم، ولا على أصل اعتمدتم {حتى تقيموا التوراة والإنجيل} أي: تجعلوهما قائمين بالإيمان بهما واتباعهما، والتمسك بكل ما يدعوان إليه"(10).

قال الطبري: " وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له: قل، يا محمد، لهؤلاء اليهود والنصارى يا أهل الكتاب، التوراة والإنجيل لستم على شيء، مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم، معشرَ اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى، معشرَ النصارى حتى تقيموا التوراة والإنجيل"(11).

قال الشوكاني: " قوله: {على شيء}، فيه تحقير وتقليل لما هم عليه: أي لستم على شيء يعتد به {حتى تقيموا التوراة والإنجيل}: أي تعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه التي من جملتها أمركم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ونهيكم عن مخالفته"(12).

وإن قيل: كيف أمرهم أن يقيموا الكتب وقد علم أن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل، ولا يصح إقامة جميعها؟ ففيه أجوبة:

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6619): ص 4/ 1174.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6620): ص 4/ 1175.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 245.

(4)

بحر العلوم: 1/ 406.

(5)

تفسير البغوي: 3/ 81.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 155.

(7)

الكشاف: 1/ 660.

(8)

تفسير ابن عرفة: 2/ 116.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 218.

(10)

تفسير السعدي: 239.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 473.

(12)

فتح القدير: 2/ 71.

ص: 344

أحدها: قيل: "يجوز أنه عنى الإقرار بصحة ثلاثتها، ويجوز أنه أراد أحكام أصولها، فإن ثلاثتها تستوي في ذلك وإنما الاختلاف في الفروع بسحب مصالح الأزمنة"(1).

والثاني: وقيل: "أراد إقامة هذه الكتب بإظهار ما فيه من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وتصديق بعضها بعضا"(2).

والثالث: وقال أبو علي: "ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما"(3).

قال البيضاوي: " ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه والمعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له، والمراد إقامة أصولها وما لم ينسخ من فروعها"(4).

قال الطرطوشي: " قال سفيان: " ليس في كتاب الله تعالى آية أشد علي من قوله تعالى {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} ، وإقامتها: فهمها والعمل بها" (5).

قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، أي:"وما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن"(6).

قال مجاهد: "ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"(7).

عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قوله" {وما أنزل إليكم من ربكم}، قال: القرآن"(8).

قال الشوكاني: " قيل: هو القرآن، فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته، ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين"(9).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " "وهو القرآن المجيد، فإنه هو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين، على حسب سنته في النشوء والارتقاء بالتدريج" (10).

قال السعدي: أي: " {و} تقيموا {ما أنزل إليكم من ربكم} الذي رباكم، وأنعم عليكم، وجعل أجل إنعامه إنزال الكتب إليكم. فالواجب عليكم، أن تقوموا بشكر الله، وتلتزموا أحكام الله، وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده"(11).

قال الراغب: " إن قيل: قوله: {وما أنزل إليكم من ربكم} داخل فيه التوراة والإنجيل إذ كل ذلك منزل من الله، فلم أفردا؟

قيل: إنه أفردهما بالذكر على سبيل التفصيل وخص ما أنزل بالقرآن" (12).

قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 68]، أي:" وإن كثيرًا من أهل الكتاب لا يزيدهم إنزالُ القرآن إليك إلا تجبُّرًا وجحودًا"(13).

قال الطبري: أي: " وأقسم: ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات، الكتابُ الذي أنزلته إليك، يا محمد تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نزول الفرقان وكفرًا يقول: وجحودًا لنبوتك"(14).

(1) تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 403.

(2)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 403.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 245، وفتح القدير للشوكاني: 2/ 71

(4)

تفسير البيضاوي: 2/ 136.

(5)

الحوادث والبدع: 101.

(6)

التفسير الميسر: 119.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6621): ص 4/ 1175.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6622): ص 4/ 1175.

(9)

فتح القدير: 2/ 71.

(10)

تفسير المنار: 6/ 392.

(11)

تفسير السعدي: 239.

(12)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 403.

(13)

التفسير الميسر: 119.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 474 - 474.

ص: 345

قال السمرقندي: " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من القرآن من ربك طغيانا وكفرا يعني: تماديا بالمعصية، وكفرا بالقرآن، يعني: إنما عليك تبليغ الرسالة والموعظة، فإن لم ينفعهم ذلك فليس عليك شيء"(1).

قال القرطبي: " أي: يكفرون به فيزدادون كفرا على كفرهم"(2).

قال الشوكاني: " أي: كفرا إلى كفرهم وطغيانا إلى طغيانهم، والمراد بالكثير منهم من لم يسلم، واستمر على المعاندة وقيل: المراد به العلماء منهم، وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد مضمونها"(3).

و«الطغيان» : " تجاوز الحد في الظلم والغلو فيه، وذلك أن الظلم منه صغيرة ومنه كبيرة، فمن تجاوز منزلة الصغيرة فقد طغى. ومنه قوله تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى} [العلق: 6]، أي: يتجاوز الحد في الخروج عن الحق"(4).

قال ابن عرفة: " «الطغيان»: التعنت والعصيان، و «الكفر»: العصيان بالاعتقاد"(5).

قوله تعالى: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68]، أي:" فلا تحزن -أيها الرسول- على تكذيبهم لك"(6).

قال ابن عباس والسدي: " يقول: فلا تحزن"(7).

قال ابن كثير: " أي: فلا تحزن عليهم ولا يَهيدنَّك ذلك منهم"(8).

قال السمرقندي: " يعني: لا تحزن عليهم إن كذبوك"(9).

قال القرطبي: " أي: لا تحزن عليهم، وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس بنهي عن الحزن، لأنه لا يقدر عليه ولكنه تسلية ونهي عن التعرض للحزن"(10).

قال الزمخشري: أي: " فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم"(11).

قال الشوكاني: " أي: دع عنك التأسف على هؤلاء، فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم، وفي المتبعين لك من المؤمنين غنى لك عنهم"(12).

قال الصابوني: " أي: لا تحزن عليهم فإِن تكذيب الأنبياء عادتُهم ودأبهم"(13).

وقوله: {فلا تأس} ، أي: فلا تحزن، يقال: أسِيَ فلان على كذا، إذا حزن يأسَى أسىً، ومنه قول العجاج (14):

(1) بحر العلوم: 1/ 406.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 245.

(3)

فتح القدير: 2/ 71.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 245.

(5)

تفسير ابن عرفة: 2/ 117.

(6)

التفسير الميسر: 119.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12286)، و (12287): ص 10/ 476.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 155.

(9)

بحر العلوم: 1/ 406.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 245.

(11)

الكشاف: 1/ 660.

(12)

فتح القدير: 2/ 71.

(13)

صفوة التفاسير: 329.

(14)

ديوانه: 31، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 171، والكامل 1: 352، واللسان (حلب) مادة "بجس" و "كرس"، وهو من رجزه المشهور، يقول:

يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا?

قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ! وَأَبْلَسَا

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى

والوكيف: مصدر؛ أي: وكفت. والغرب: الدلو العظيم. والدالج: من يأخذ الدلو من البئر فيفرغه في الحوض. والمعنى: انصبت دموع عينيه من شدة الحزن كانصباب دلوي رجل مفرغ لهما في الحوض.

و"انحلبت عيناه" و"تحلبتا": سال دمعهما وتتابع.

ص: 346

وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى

وكيف غربي دالج تبجسا

قوله: " من فرط الأسى"، يعني: من شدة الحزن (1).

الفوائد:

1 -

كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق.

فلم يعد يقبل من أحد أن يستمسك بما سبق من الكتب ويرفض القرآن.

2 -

التقريع لأهل الكتاب والتنديد بباطلهم ومخازيهم.

3 -

أن أهل الكتاب مكلفون بإقامة التوراة والإنجيل معا، لكنهم كفروا بهما، قال تعالى: لْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ [المائدة: 68]، ومن إقامة التوراة والإنجيل: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم حيث بشَّرت به هذه الكتب، واتباع الإسلام الذي نسخ ما قبله من الأديان.

4 -

أن أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتواً ونفوراً وطغياناً وكفرا.

5 -

ومنها: ان أن الكفر يزيد كما في قوله تعالى في آيتي المائدة: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَنًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64]. {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثيِرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَنًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} [المائدة: 68].

وقوله في الإسراء: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَكَ إِلَاّ فِتْنةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْيانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60].

وفي آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثًمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} [آل عمران: 90].

وفي النساء: {إِنَ الَّذِينَءَامَنُوا ثُمَّ كّفَرُوا} [النساء: 137].

فكذلك الإيمان يزيد حتى يبلغ أعلى درجاته، والكفر يزيد حتى يسفل إلى أدنى دركاته أيضاً مما يدل على زيادة الإيمان عند أهله تفاضلهم فيه، بكون بعضهم أفضل من بعض (2).

6 -

أن القرآن جاء مؤيدًا للحق الذى ورد فيها كما سبقت إليه الإشارة من عبادة الله وحده، والإيمان برسله، والتصديق بالجزاء، ورعاية الحق والعدل، والتخلق بالأخلاق الصالحة؛ وهو فى الوقت ذاته مهيمنًا عليها ومبينًا ما وقع فيها من أخطاء وأغلاط، وتحريف وتصحيف، وتغيير وتبديل.

وإذا انتفت هذه الأخطاء التى أدخلها رجال الدين على الكتب السماوية وزوروها على الناس باسم الله، ظهر الحق، واستبان، والتقى القرآن مع التوراة والإنجيل، قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وإقامتها لا تتحقق إلا بعد تطهيرها من الزيف (3).

7 -

ومن فوائد الآية أيضا: تأكيد ضلال اليهود والنصارى وأنهم على دين باطل بعد نسخه بدين محمد-صلى الله عليه وسلم.

8 -

أن الألقاب والانتساب لا ينفع صاحبه دون عمل ومتابعة لمن انتسب إليه كما قال الرب جل وعلا {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران: 68]، وليس الذين أحبوه، أو انتسبوا إليه.

فحب اليهود ليعقوب وانتسابهم إليه، وحبهم لداود وموسى وسليمان وغيرهم. وحب النصارى للمسيح وانتسابهم إليه ليس بنافعهم لانقطاعهم عن المنهج والتعاليم التي جاء بها هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم السلام: قال تعالى {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135].

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 475.

(2)

انظر: مسألة الإيمان دراسة تأصيلية: 26.

(3)

انظر: العقائد الإسلامية: 169.

ص: 347

هذا هو الانتساب الأجوف الذي لا قيمة له. لذلك عقب الله عليه بقوله {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].

إنّ الله يريد الملة والدين الصحيح. أما الاسم والنسب فلا قيمة له عنده، ومع هذا كله انتقل إلينا هذا المرض الخطير فصار فينا من يتعصب للأسماء والطوائف، ويفخر بالانتساب إلى مشاهير الملة دون العمل بما دعوا إليه، وجاهدوا من أجله. وهذا ليس بنافعهم بل هو ضار بهم: في الدنيا تفرقة وتمزقاً وفتناً. وفي الآخرة خسراناً مبيناً.

القرآن

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} [المائدة: 69]

التفسير:

إن الذين آمنوا -وهم المسلمون-، واليهود، -والصابئون كذلك -وهم قوم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه-، والنصارى -وهم أتباع المسيح- من آمن منهم بالله الإيمان الكامل، وهو توحيد الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وآمن باليوم الآخر، وعمل العمل الصالح، فلا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة، ولا هم يحزنون على ما تركوه وراءهم في الدنيا.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 69]، أي: إن الذين "صدّقوا الله ورسوله وهم المسلمون"(1).

قال الطبري: أي: " إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل الإسلام"(2).

قال ابن عثيمين: " يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم هم الذين يستحقون الوصف بالإيمان المطلق، حيث آمنوا بجميع الكتب، والرسل"(3).

وقرأ عبد الله: «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» (4).

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 69]، أي:" واليهود"(5).

قال الشيخ ابن عثيمين: "أي: الذين انتسبوا إلى دين اليهود. وهي شريعة موسى"(6).

واختلفوا في أصل كلمة «واليهود» ، وسبب تسمية اليهود بهذا الاسم، وذكروا وجوها (7):

أحدها: أنها من: «هاد» بمعنى رجع، سموا بذلك حين تابوا عن عبادة العجل.

والثاني: أنهم سمّوا بذلك، لقولهم:{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [سورة الأعراف: 156]، أي: تبنا، قاله ابن جريج (8)، والهائد (9): التائب، ومن ذلك قول الشاعر (10):

إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ

أي: تائب.

(1) صفوة التفاسير: 329.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 476.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 221.

(4)

انظر: الكشاف: 1/ 662.

(5)

التفسير الميسر: 329.

(6)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 221.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 2/ 143، وتفسير القرطبي: 1/ 432 - 433، والمحرر الوجيز: 1/ 157، والدر المصون: 1/ 405، واللباب في علوم الكتاب: 2/ 133، واللسان، مادة:"هود".

(8)

أنظر: تفسير الطبري (1094): ص 2/ 143.

(9)

قيل: (هود): جمع هائد كعوذ جمع عائذ وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف وعلى القول بالجمعية يكون أسم كان مفردا عائدا على من بإعتبار لفظها وجمع الخبر بإعتبار معناها وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه. (انظر: التحرير والتنوير: 1/ 359).

(10)

البيت بلا نسبة في: درج الدرر في تفسير الآي والسور: 1/ 189، تفسير القرطبي: 1/ 433، والدر المصون: 1/ 405، واللباب في علوم الكتاب: 2/ 132، ولم أتعرف على قائله.

ص: 348

والثالث: وقال ابن عرفة: {هدنا إليك} ، أي: سكنا إلى أمرك، والهوادة السكون والموادعة. قال: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} (1).

والرابع: أنهم نُسِبُوا إلى «يهوذا» بالذال المعجمة، وهو أكبر ولد يعقوب-عليه الصلاة والسلام، فغيرته العرب بالدال المهملة، جريا على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية، فعرب ونسب الواحد إليه، فقيل يهودي، ثم حذف الياء في الجمع، فقيل:«يهود» .

والخامس: أنها مشتقة من: هاد، يهود؛ فالهود: الميل والرجوع؛ لأن اليهود كانوا كلما جاءهم نبي أو رسول هادوا إلى ملكهم ودلوه عليه ليقتلوه.

والسادس: أنه من «التهويد» ، وهو النطق في سكون ووقار ولين، وسموا بذلك لأنهم يتهودون عند قراءة التوراة. حكاه ابن عطية عن الزهراوي (2)، وأنشد قول الراعي النميري (3):

وخودٌ من اللائي تَسَمَّعْنَ بالضُّحَى

قريضَ الرُّدَافَى بالغِنَاءِ المُهَوَّدِ

والسابع: أنه من الهوادة، وهي الخضوع، فـ {هدنا إليك} ، أي: خضعنا إليك.

والثامن: أن أصلها من: «هاد يهيد» ، أي: تحرك، ومنه سمي اليهود؛ لتحركهم في دراستهم، قاله أبو عمرو بن العلاء (4).

وفي أصل الألف في كلمة: «هادوا» ، وجهان (5):

أحدهما: أنه من «واو» ، والأصل:«هاد يهود» أي: تاب.

الثاني: أنها من «ياء» ، والأصل:«هاد يهيد» ، أي: تحرك.

وقد ورد بأن اليهود يرجعون إلى بقايا جماعة «يهوذا» الذين سباهم نبوخذ نصّر إلى بابل في القرن السادس (ق. م)، وهؤلاء سموا كذلك نسبة إلى مملكة ومنطقة يهوذا (139 - 685 ق. م)، ولم تستعمل هذه التسمية إلا في عهد مملكة يهوذا، لذلك فهي تسمية متأخرة ولا صلة لها بيهوذا ويعقوب، اللذين عاشا في القرن السابع عشر قبل الميلاد، ولعل -يهوذا- كانت اسم مدينة في فلسطين منذ عهد الكنعانيين، فبعد أن نزحت جماعة موسى عليه السلام إلى فلسطين تكونت مملكة يهوذا بعد عصر يعقوب وابنه -يهوذا- بحوالي ألف عام في منطقة يهوذا الكنعانية، فسميت باسمها، ثم انتشر استعمال اسم اليهود بعد السبي البابلي منذ القرن السادس للميلاد (6).

وقد ذكروا في القرآن بعبارات عدة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135]، والآيات في ذكرهم باسم اليهود كثيرة، وذكر شيخ الاسلام:" أن هؤلاء المذكورين في الآية، الذين أثنى الله عليهم من الذين هادوا والنصارى كانوا مسلمين مؤمنين لم يبدلوا ما أنزل الله ولا كفروا بشيء مما أنزل الله؛ فاليهود والنصارى صاروا كفاراً من جهة تبديلهم لما أنزل الله، ومن جهة كفرهم بما أنزل على محمد"(7).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 1/ 432، وفتح القدير للشوكاني: 1/ 110، وعمدة الحفاظ في تفسير أشرف الالفاظ: 4/ 264.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 1/ 157.

(3)

انظر: تهذيب اللغة، باب ا"الهاء والدال"، و"خوط"، ومقاييس اللغة، مادة"ردف"، وأساس البلاغة، باب"ردف"، والعباب الزاخر، "ردف"، واللسان، مادة"ردف"، وتاج العروس، مادة"وخد"، "هود"، "ردف"، وغريب الحديث للقاسم بن سلام: 4/ 287، والمحرر الوجيز: 1/ 157، وواللباب: 63 ..

(4)

انظر: اللباب في علوم الكتاب: 2/ 133.

(5)

انظر: اللباب في علوم الكتاب: 2/ 131 - 132.

(6)

انظر: مفصل العرب واليهود في التاريخ: 925.

(7)

مجموع الفتاوى (21/ 91).

ص: 349

ولهذا فإن لفظ «اليهود» : هو اسم خاص بالمنحرفين من بني إسرائيل .. وهو لفظ أعم من لفظة "عبرانيين"(1) و"بني إسرائيل"(2) وذلك لأن لفظة يهود تطلق على العبرانيين وعلى غيرهم ممن دخل في دين اليهود وهو ليس منهم، وفي الحقيقة أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بتحديد التاريخ الذي أطلقت فيه هذه التسمية على بني إسرائيل وسبب إطلاقها، لعدم وجود دليل على ذلك لا من الكتاب ولا من السنة، وإنما بنيت الاجتهادات السابقة على تخمينات لغوية لا تقوم بها حجة؛ غير أننا نستطيع أن نستنتج من الاستعمال القرآني لكلمة «يهود» أن هذه التسمية إنما أطلقت عليهم بعد انحرافهم عن عبادة الله وعن الدين الصحيح، وذلك لأنه لم يرد في القرآن الكريم إطلاق اليهود على سبيل المدح، بل لم تذكر عنهم إلا في معرض الذم والتحقير، وإظهار صفاتهم وأخلاقهم الذميمة، والتنديد بكفرهم.

وذكروا في قوله تعالى: {هَادُوا} [المائدة: 69]، وجهان من القراءة (3):

أحدهما: {هَادُوا} ، بضم الدال. قرأ بها الجمهور.

والثاني: {هَادَوا} ـ بفتح الدال، من المهاداة، قرأ بها أبو السماك العدوي.

قوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ} [المائدة: 69]، أي:" والصابئون-وهم قوم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه-"(4).

قال البيضاوي: " قوم بين النصارى والمجوس"(5).

قال النسفي: أي: "الخارجين من دين مشهور إلى غيره، من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة"(6).

قال الثعلبي: يقال: صبا يصبوا صبوءا، إذا مال وخرج من دين إلى دين" (7).

وقد اختلفت عبارات المفسرون في تفسير معنى (الصابئة) على أقوال:

أحدها: أنهم قوم بين المجوس واليهود والنصارى، وليس لهم دين. قاله مجاهد (8)، وعطاء (9).

والثاني: أنهم منزلة بين اليهود والنصارى. قاله سعيد بن جبير (10).

والثالث: قبيلة بين المجوس واليهود، ولاتؤكل ذبائحهم ولاتنكح نساؤهم. قاله الحسن (11)، ومجاهد (12)، وابن أبي نجيح (13).

والرابع: هم فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور. قاله أبو العالية (14) والسدي، والربيع بن أنس، وأبو الشعشاء جابر بن زيد، والضحاك، وإسحاق بن راهويه (15).

والخامس: أنهم أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل، يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله، ولم يؤمنوا برسول الله. قاله ابن زيد (16).

والسادس: هم الذين لم تبلغهم دعوة نبي. ذكره ابن كثير (17).

والسابع: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة. قاله قتادة (18)، وزياد بن أبيه (19)، وأبو جعفر الرازي (20).

والثامين: أنهم طائفة من أهل الكتاب. قاله السدي (21).

قال ابن كثير: "وأظهر الأقوال – والله أعلم – قول مجاهد ومتابعيه، ووهب بن منبه: أنهم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين وإنما هم باقون على فطرتهم، ولادين مقرر يتبعونه ويقتضونه"(22).

نستنتج مما سبق، بأن الصابئة أحد أمرين:

(1) اختلفت الآراء في سبب تسميتهم بـ"العبريين" أو "العبرانيين"، قيل: إنهم سموا بذلك نسبة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام نفسه، فقد ذكر في سفر التكوين باسم:"إبراهيم العبراني"، لأنه عبر نهر الفرات وأنهاراً أخرى، وقيل إنهم: سموا بالعبرانيين نسبة إلى "عِبْر "، وهو الجد الخامس لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، والرأي الثالث يقول: إن سبب التسمية يرجع إلى الموطن الأصلي لبني إسرائيل، ذلك أنهم في الأصل كانوا من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان، بل ترحل من بقعة إلى أخرى بإبلها وماشيتها للبحث عن الماء والمرعى.، وغالب المؤرخين أجمعوا على أن التسمية ناتجة عن عبور إبراهيم عليه الصلاة والسلام نهر الفرات، ويؤكد هذا الرأي ما جاء في سفر يسوع:"وهكذا قال الرب إله إسرائيل في عبر النهر سكن آباؤكم منذ الدهر ".

ويرى البعض أن هذه اللفظة لم تظهر إلا بعد اجتياز إبراهيم نهر الفرات"، فضلا ً عن أن الأخذ بهذا الرأي أقرب إلى الصحة والصواب من الآراء الأخرى

وقيل: لفظ "العبري" أطلق تاريخياً على شراذم من الغجر الرحل كانوا يعيثون في الأرض فسادا، ويتبعون الجيوش الغازية، بوصفهم مرتزقة يستعان بهم في الأعمال الدنية، ووصفهم إبراهيم بأنه "عبري" غير صحيح، إلا إذا أخذنا من لفظ عبري معنى: الترحال والتنقل، وقد ألصق اليهود بإبراهيم وصف "العبري" ليصلوا إلى وصف لغتهم بأنها "العبرية" قديمة ترجع إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام باطل لأن اللغة العبرية جاءت متأخرة جداً عن زمن إبراهيم، وهي لهجة آرامية عربية، ظهرت بعد عصر موسى بحوالي ست مئة سنة ولأن التوراة نزلت باللغة الهيروغلوفية، حيث تخاطب قوما في مصر أو أخرجوا من مصر.

وأرى أن الذي ذكره هو الصواب؛ فاللغة العبرية لغة متأخرة جداً عن زمن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام. (انظر: العرب واليهود في التاريخ: الأستاذ شراب: 36).

(2)

تم إطلاق مصطلح إسرائيليين على شتات اليهود القادمين إلى فلسطين بعد إعلان اليهود قيام دولة أسموها "إسرائيل" في 51 مايو 8491 م؛ فأصبح كل من يعيش على أرض فلسطين من اليهود يأخذ مُسَمى "إسرائيلي"، وجنسية "إسرائيلية"، ومجموع شتاتهم على أرض فلسطين المغتصبة "إسرائيليين"! !

وشاعت تلك التسميات على ألسن الناس عموماً وفي بلاد المسلمين أيضاً، حيث أطلق على الكيان اليهودي والصهيوني "إسرائيل" واليهودي "بالإسرائيلي"، وشاع مصطلح "إسرائيليون" على اليهود الذين أتوا إلى فلسطين غزاة

وإسرائيل كلمة عبرانية مركبة من "إسرا" بمعنى: عبد، ومن "إيل" وهو الله، فيكون معنى الكلمة: عبد الله، وإسرائيل اسم لنبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام، وجاء في تسمية بني إسرائيل بهذا الاسم نسبة إلى أبيهم يعقوب عليه الصلاة والسلام، ويهود اليوم التصقوا بهذا الاسم، ليلبسوا على العامة بأنهم من نسل "إسرائيل" يعقوب عليه الصلاة السلام، ولإثبات عدم اختلاطهم بالشعوب الأخرى ليتحقق لهم الزعم بنقاء الجنس اليهودي، وأن يهود اليوم هم النسل المباشر ليهود التوراة، وذلك لتبرير العودة إلى أرض الميعاد! !

لذا فهذه التسمية منكرة، لما شاع على الألسن القول في سياق الذم فعلت إسرائيل كذا، وستفعل كذا؛ وإسرائيل هو رسول كريم من رسل الله تعالى، وهو "يعقوب" عليه الصلاة والسلام، وهو بريء من الكيان اليهودي الخبيث الماكر، إذ لا توارث بين الأنبياء والرسل وبين أعدائهم من الكافرين.

(3)

أنظر: انظر: تفسير القرطبي: 1/ 432، والبحر المحيط: 1/ 204.

(4)

التفسير الميسر: 329.

(5)

تفسير البيضاوي: 1/ 84.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 95.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 209.

(8)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (638): ص 1/ 127.

(9)

أنظر: تفسير الطبري (1106): ص 2/ 146.

(10)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (637): ص 1/ 127.

(11)

أنظر: تفسير الطبري (1103): ص 2/ 146.

(12)

أنظر: تفسير الطبري (1102): ص 2/ 146.

(13)

أنظر: تفسير الطبري (1104): ص 2/ 146.

(14)

أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (639): ص 1/ 127، وتفسير الطبري (1110): ص 2/ 147.

(15)

انظر تفسير الطبري، 1/ 252 - 253. وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 127، وتفسير القرطبي، 1/ 475 - 476.

(16)

أنظر: تفسير الطبري (1107): ص 2/ 147.

(17)

انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 104.

(18)

أنظر: تفسير الطبري (1109): ص 2/ 147.

(19)

أنظر: تفسير الطبري (1108): ص 2/ 147. زياد بن أبيه: هو والى العراق في زمن معاوية رضي الله عنه.

(20)

أنظر: تفسير الطبري: 2/ 147، وزاد:"أنهم ويقرءون الزبور".

(21)

أنظر: تفسير الطبري (1111): ص 2/ 147.

(22)

تفسير ابن كثير، 1/ 104.

ص: 350

إما أن تكون فرقة واحدة لكن بعضهم انخرط مع المجوسية والبعض مع أهل الكتاب والبعض اعتزل جميع الأديان.

وإما أن تكون فرقة الصابئة، عبارة عن فرق متعددة ومذاهب متفرقة، كل فرقة لها طابع خاص تستقل به عن الفرقة الأخرى، فالجامع بينهم جميعاً المسمى – فقط – أما الحقيقة ففيه اختلاف فيما بينهم.

يقول ابن القيم – رحمه الله –: " وقد اختلف الناس فيهم اختلافاً كثيراً، بحسب ماوصل إليهم من معرفة دينهم، وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر. قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين

الآية} [البقرة: 62].

فذكرهم – جل وعلا – في الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منها إلى ناج وهالك كما في قوله تعالى {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة} [الحج: 17]، فذكر الأمتين اللتين لاكتاب لهم، ولاينقسمون إلى شقي وسعيد وهما: المجوس والمشركون، ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة، وذكر الصابئين فيهما فعلم أن فيهم الشقي والسعيد" (1).

وقد اختلف موقف العلماء في الصائبة، قال ابن القيم: "لقد اختلف الناس فيهم اختلافاً كثيراً، وأشكل أمرهم على الأئمة لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم:

فقال الشافعي رحمه الله تعالى: هم صنف من النصارى، وقال في موضع: ينظر في أمرهم، فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع، فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية، ثم اختلف أصحابه – وكذلك اختلف الأحناف والمالكية والحنابلة –" (2).

ويقول ابن القيم – رحمه الله –: "وبالجملة فالصابئة أحسن حالاً من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأولى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ولايتمسكون بكتاب ولاينتمون إلى ملة ولايثبت لهم كتاب ولاشبهة كتاب أصلاً

وكل ماعليه المجوس من الشرك فشر الصابئة إن لم يكن أخف منه فليس بأعظم منه" (3).

قال ابن ابي زمنين: " اختلف القول في رفع: {الصابئون}، والأجود: أنه محمول على التأخير، ومرفوع بالابتداء، المعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - فلا خوف عليهم والصابئون والنصارى كذلك أيضا"(4).

قال الزمخشري: " والصابئون رفع على الابتداء وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها، كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا، والصابئون كذلك، وأنشد سيبويه (5) شاهدا له (6):

وإلَاّ فاعْلَموا أَنَّا وأنتمْ

بُغَاةٌ ما بَقينا فِي شِقاقِ

أى: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك" (7).

وقرأ عثمان وأبي وعائشة وابن جبير والجحدري وابن كثير: «والصابئين» ، بالنصب (8).

وقرئ: {الصَّابِينَ} و {والصّابون} ، بترك الهمزة، قرأ بها أهل المدينة في جميع القرآن (9).

(1) انظر: إغاثة اللهفان، 2/ 249 - 250.

(2)

أحكام أهل الذمة، ابن القيم الجوزية، تحقيق يوسف البكر وشاكر العاروري، ط (الأولى)، بيروت: دار ابن حزم، 1418 هـ، ص 231 وما بعدها.

(3)

المصدر السابق، ص 242.

(4)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 38.

(5)

انظر: الكتاب: 2/ 156، علّق على البيت:" كأنه قال: بُغاةٌ ما بقينا وأنتم".

(6)

البيت لبشر بن أبي خازم في الكتاب 2/ 158، وفي ديوانه 165، وتخليص الشواهد ص 373، وخزانة الأدب 10/ 293، وشرح أبيات سيبويه 2/ 14، وشرح التصريح 1/ 228، والمقاصد النحوية 2/ 271، وبلا نسبة في أسرار العربية 154، وشرح المفصل 8/ 69.

(7)

الكشاف: 1/ 660 - 661.

(8)

انظر: البحر المحيط: 3/ 541، وإعراب القرآن للنحاس: 1/ 276، وقال:"قرأ بها سعيد ابن جبير".

(9)

أنظر: تفسير الثعلبي: 1/ 208.

ص: 351

قوله تعالى: {وَالنَّصَارَى} [المائدة: 69]، أي:"والنصارى-وهم اتباع المسيح-"(1).

قال الثعلبي: " الذين كانوا على دين عيسى عليه السلام ولم يبدّلوا وماتوا على ذلك"(2).

و{النَّصَارَى} جمع اختلف في مفرده على قولين (3):

الأول: واحده (نصراني)، وقيل:(نصران)، بإسقاط الياء، وهذا قول سيبويه (4).

وقد حكى عنهم سماعا (نصران)، بطرح الياء، ومنه قول الشاعر (5):

تراه إذا زار العشي مُحَنِّفًا

ويضحي لديه وهو نصران شامس

والأنثى (نصرانة)، قال الأخزر الحماني (6):

فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا

كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ

والثاني: واحده نصْرِي. قاله الخليل بن أحمد (7).

قال الماوردي: "والأول أظهر"(8).

وفي سبب تسميتهم بـ (النصارى)، ثلاثة أقوال (9):

أحدها: أنهم سُمُّوا بذلك، لقريةٍ تُسَمَّى (ناصرة)، كان ينزلها عيسى عليه السلام، فَنُسِبَ إليها، فقيل: عيسى الناصري، ثم نسب أصحابه إليه فقيل: النصارى، وهذا قول ابن عباس (10)، وقتادة (11)، وابن جريج (12).

والثاني: أنهم سُمُّوا بذلك، لنصرة بعضهم لبعضٍ، قال الشاعر (13):

لمَّا رأيتُ نَبَطاً أَنْصَارَا

شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإْزَارَا

كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا

(1) التفسير الميسر: 329.

(2)

تفسير الثعلبي: 1/ 209.

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 1/ 43.

(4)

أنظر: الكتاب: 3/ 256.

(5)

لم أعرف قائله. الأضداد لابن الأنباري: 155، ورواه:" تراه ويضحى وهو. . " ونقله أبو حيان في البحر المحيط 1: 238 عن الطبري، وفيهما " إذا دار العشى " وأخطأ القرطبي (تفسيره 1: 369) فقال: و " أنشد سيبويه " وذكر البيت، ولم ينشده سيبويه. وروى صدره. (تراه إذا دار العشا متحنفا)

والبيت في صفة الحرباء. و " محنفا ": قد تحنف، أو صار إلى الحنيفية. ويعني أنه مستقبل القبلة. وقوله:" لديه "، أي لدى العشى، ويريد قبل أن يستوى العشى أو لدى الضحى، ويكون قد ذكره في بيت قبله. وقوله:" شامس "، يريد مستقبل الشمس، قبل المشرق. يقول يستقبل الشمس كأنه نصراني، وهو كقول ذي الرمة في صفة الحرباء أيضًا: إذا حول الظل العشى رأيته

حنيفا، وفي قرن الضحى ينتصر

(6)

البيت من شواهد سيبويه (411): ص 3/ 256، وانظر: شرح شواهده للنحاس ص 178، و"تفسير الطبري" 1/ 318، "الزاهر" 1/ 141، 2/ 225، "الإنصاف" ص 357، "المخصص" 17/ 44، "تهذيب اللغة"(نصر) 4/ 3584، "اللسان"(نصر) 5/ 211، "تفسير ابن عطية" 1/ 245، "تفسير القرطبي" 1/ 433، "البحر المحيط" 1/ 238، "الدر المصون" 1/ 406، "فتح القدير" 1/ 148، يصف ناقتين، طأطأتا رؤوسهما من الإعياء، فشبه رأس الناقة في طأطأتها، برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وأسجد الرجل: طأطأ رأسه وخفضه وانحنى. قال حميد بن ثور، يصف نوقا:

فلما لوين على معصم

وكف خضيب وأسوارها

فضول أزمتها أسجدت

سجود النصاري لأحبارها

(7)

انظر: تفسير القرطبي: 1/ 43.

(8)

النكت والعيون: 1/ 133.

(9)

أنظر: تفسير الطبري: 2/ 144 - 145، والنكت والعيون: 1/ 133.

(10)

أنظر: تفسير الطبري (1096): ص 2/ 145.

(11)

أنظر: تفسير الطبري (1097)، و (1098): ص 2/ 145.

(12)

أنظر: تفسير الطبري (1095): ص 2/ 145.

(13)

لم أعرف صاحب الرجز. والأبيات، في معاني القرآن للفراء 1/ 44 أمالي ابن الشجرى 1/ 79، 371. أنشده شاهدا على حذف واو العطف: أي " وكنت لهم من النصارى جارا "، ثم أنشده في الموضع الآخر شاهدا على حذف الفاء العاطفة أي " فكنت لهم. . ". والبيت من شواهد الطبري: 2/ 144.

ص: 352

والثالث: أنهم سُمُّوا بذلك، لقوله:{مَنْ أَنْصَارِي إلى الله} [الصف: 14](1).

ولفظة (النصرانية) و (نصارى) التي تطلق في العربية على أتباع المسيح، من الألفاط المعربة، يرى بعضى المستشرقين أنّها من أصل سرباني هو:(نصرويو) Nosroyo، (نصرايا) Nasraya (2)، ويرى بعضٌ آخر أنّها من Nazerenes التّسمية العبرانية التي أطلقها اليهود على من اتّبع ديانة المسيح، وقد وردت في العهد الجديد في (أعمال الرسل) حكاية على لسان يهود (3)، وبرى بعض المؤرخين أن لها صلةً (بالناصرة) التي كان منها (يسوع) حيث يُقال:(يسوع الناصري) أو أنّ لها صلة ب (الناصريين) Nasarenes = Nazarenes إحدى الفرق القديمة اليهودية المتنصرة. وقد بقي اليهود يطلقون على من اتّبع ديانة المسيح (النصارى)، وبهذا المعنى وردت الكلمة في القرآن الكريم، ومن هنا صارت النصرانية علماً لديانة المسيح عند المسلمين.

ولعلماء اللغة الإسلاميين آراء في معنى هذه الكلمة وفي أصلها، هي من قبيل التفسيرات المألوفة المعروفة عنهم في الكلمات الغريبة التي لا يعرفون لها أصلاً، وقد ذهب بعضهم إلى أنها نسبة إلى الناصرة التي نُسب اليها المسيح (4)، وزعم بعض منهم أنها نسبة إلى قرية يُقال لها (نصران)، فقبل نصراني وجمعه نصارى (5)، وذُكر أن (النصرانة) هي مؤنث النصراني (6).

وقد وردت هذه التسمية في الشعر الجاهلي، فقد ذُكر ان أمية بن أبي الصلت ذكرهم في هذا البيت (7):

أيام يلقى نصاراهم مسيحهم

والكائنين له وداً وقربانا

وذكر أنّ شاعراً جاهلياً ذكر النصارى في شعر له، هو (8):

اليكَ تعدو قلقا وضينها معترضاً في بطنها جنينها

مخالفاً دين النصارى دينها

وذُكر أنّ جابر بن حُنىّ قال (9):

وقد زعمت بهراء أنّ رماحنا رماح نصارى لا تخوض إلى دم

وأنّ حاتماً الطّائي قال في شعر له (10):

ومازلت أسعى بين نابٍ ودارة

بلحيانَ حتى خفت أن أتنصرا

وأنّ «طخيم بن أبي الطخماء» قال في شعر له في مدح بني تميم (11):

وإنّي وإنْ كانوا نصارى أحبهّم ويرتاح قلبى نحوهم ويُتَوَّق

وأنّ حسان بن ثابت قال (12):

(1) أنظر: تفسير الطبري: 2/ 145.

(2)

غرائب اللغة (ص 207)، Ency. ، III، p. 848.

(3)

أعمال الرسل: الإصحاح 24، الآية 5 «فإننا إذْ وجدنا هذا الرجل مفسداً ومهيج فتنة بين جميع اليهود الذين في المسكونة ومقدام شيعة الناصريين» ، Ency. Relig. Ethic. ، III، p. 574.

(4)

اللسان (7/ 68)، تاج العروس (3/ 568)، (نصر).

(5)

المفردات، للأصفهاني (ص 514).

(6)

ومنه قول الشاعر:

فكلتاهما خرت وأسجد رأسها

كما أسجدت نصرانة لم تحنف

اللسان (7/ 68)، (نصر)، «والنصرانية واحدة النصارى» ، تاج العروس (3/ 569)، (نصر).

(7)

النصرآنية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول (ص 187).

(8)

البيت من شواهد اللسان (قلق)، (ودن)، (وضن)، وتاج العروس (قلق)، (وضن)، وهو بلا نسبة فيهما. والوضين: حزام الناقة.

(9)

النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول (ص 171، 225)، شعراء النصرانية (190)، المشرق، السنة السابعة 1904، (620 وما بعدها).

(10)

الأغاني (16/ 104)، النصرانية وآدابها، القسم الثاني، الجزء الثاني، القسم الأول (171، 225).

(11)

المشرق، السنة السابعة: 1904 (620 وما بعدها).

(12)

ديوان حسان: 24.

ص: 353

فرحت نصارى يثرب ويهودها لما توارى في الضريح الملحد

غير أنّ هذه الأبيات وأمثالها إنْ صح أنها لشعراء جاهليين حقاً، هي من الشعر المتأخر الذي قيل قبيل الإسلام. أما قبل ذلك، فليس لنا علم بما كان العرب يسمّون به النصارى من تسميات.

والذي نعرفه أن قدماء النصارى حينما كانوا يتحدثون عن أنفسهم كانوا يقولون (تلاميذ) Disciples، و (تلاميذ المسيح)، ذلك أنهم كانوا ينظرون إلى المسيح نظرتهم إلى معلم يعلمهم (1) وكذلك نظروا إلى حوارييه، فورد (تلاميذ يوحنا) وقصدوا بذلك النصارى (2)، وهذه التعابير من أقدم التعابير التي استعملها النصارى للتعبير عن أنفسهم.

كذلك دعا قدماء النصارى جماعتهم ب (الاخوة) وب (الاخوة في الله) Brethren in Lord للدلالة على الجماعة، وب (الأخ) للتعبير عن المفرد، ذلك لأن العقيدة قد آخت بينهم، فصار النصارى كلهم إخوة في الله وفي الدين (3)، ثم تخصصت كلمة (الأخ) برجل الدين (4)، ودعوا أنفسهم (القديسين) Saints (5) والمؤمنين (6) والمختارين الأصفياء والمدعوّين، ويظهر أنها لم تكن علمية، وإنما وردت للأشارة إلى التسمية التي تليها.

وقد كنى عن مجتمع النصارى ب (الكنيسة) Ecclesia وتعني (المجمع) في الإغريقية، بمعنى المحل الذي يجتمع فيه المواطنون. فكنى بها عن المؤمنين وعن الجماعة التابعة للمسيح. كما عبر عن النصارى ب (الفقراء) وب (الأصدقاء)(7).

وقد عرف النصارى ب Christians نسبةً إلى Christos اليونانية التي تعني (المسيح) Messiah، أيْ المنتظر المخلص الذي على يديه يتم خلاص الشعب المختار. ويسوع هو المسيح، أي المنتظر المخلص الذي جاء للخلاص كما جاء في عقيدة أتباعه، ولذلك قيل لهم أتباع المسيح. فأطلقت عليهم اللفظة اليونانية، وعُرفوا بها، تمييزاً لهم عن اليهود. وقد وردت الكلمة في أعمال الرسل وفي رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس (8).

أما في القرآن الكريم وفي الأخبار، فلم ترد هذه اللفظة اليونانية الأصل. ولهذا نجد أن العربية اقتصرت على إطلاق (نصارى) و (نصراني) و (نصرانية) على النصارى تمييزاً لهم عن أهل الأديان الأخرى. أما مصطلح (عيسوي) و (مسيحي)، فلم يُعرفا في المؤلفات العربية القديمة وفي الشعر الجاهلي، فهما من المصطلحات المتأخرة التي أطلقت على النصارى (9)، وقد قصد في القرآن الكريم ب (أهل الإنجيل)(10) النصارى، إذ لا يعترف اليهود بالإنجيل، وقد أدخل علماء اللغة اللفظة في المعربات (11).

وأهم علامة فارقة ميزت نصارى عرب الجاهلية عن العرب الوثنيين، هي أكل النصارى للخنازير، وحملهم الصليب وتقديسه، ورد أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لراهبيْن أتياه من نجران، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلما تسلما، فقالا: قد

(1) Hastings، p. 192.

(2)

إنجيل مرقس: الإصحاح الثاني، الآية 18.

(3)

Hastings، p. 104.

(4)

أعمال الرسل، الإصحاح الأول، الآية 15 وما بعدها، Ency. Reli. Ethic. ، 3، p. 573.

(5)

رسالة بولس الرسول، الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس، الإصحاح الأول، الآية الأولى ما بعدها.

(6)

أعمال الرسل: الإصحاح الخامس، الآية 14، رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس، الإصحاح الأول، الآية الأولى وما بعدها.

(7)

Ency. Reli. Ethic. ، 3، p. 574.

(8)

أعمال الرسل: الإصحاح الحادي عشر: الآية 26، الإصحاح 26، الآية 28، رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتس: الإصحاح الرابع، الآية 16، Hastings، p. 127.

(9)

Hughes، Dictionary of Islam، p. 431.

(10)

المائدة، الآية 47.

(11)

النهاية في غريب الحديث (4/ 136)، المعرب، للجوالقي (23).

ص: 354

أسلمنا قبلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبتما منعكما من الإسلام ثلاث، سجودكما للصليب، وقولكما: إتخذ الله ولداً، وشربكما الخمر، فقالا: فما تقول في عيسى؟ ، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إلى قوله: أبناءنا وأبناءكم قال: فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملاعنة قال: وجاء بالحسن والحسين وفاطمة أهله وولده، قال: فلما خرجا من عنده، قال أحدهما لصاحبه: أقرر بالجزية ولا تلاعنه، قال: فرجعا، فقالا: نقر بالجزية ولا نلاعنك، قال: فإقرأ بالجزية" (1).

وقد روي عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ:"أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ: "يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الوَثَنَ"، وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ""(2).

وورد في شعر ذي الرّمة (3):

ولكنَّ أصل امرىء القيس معشرٌ

يحل لهم أكل الخنازير والخمر

يريد أنّهم نصارى في الأصل، فهم يختلفون عن المسلمين في أكلهم لحم الخنزير وفي شربهم الخمر (4).

وفد أقسم النصارى بالصليب. هذا «عدي بن زيد» يحلف به في شعر ينسب اليه، فيقول (5):

سَعى الأَعداءُ لا يَألونَ شَرّاً

عَلَيكَ وَرَبِّ مَكَّةَ وَالصَليبِ

قوله تعالى: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [المائدة: 69]، أي:" مَنْ آمن من هؤلاء المذكورين إِيماناً صحيحاً خالصاً لا يشوبه ارتيابٌ بالله وباليوم الآخر"(6).

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: قوله: " {من آمن بالله}، يعني: من وحد الله"(7).

قال البغوي: المعنى: " آمنوا بالقلب، وقيل: الذين آمنوا على حقيقة الإيمان من آمن بالله، أي: ثبت على الإيمان"(8).

قال الراغب: " إن قيل: كيف قال: {من آمن منهم بالله} و {من} يدل على ما تقدم، وتقديره: من آمن من المؤمنين ومن الذين هادوا، وذلك خلف من الكلام؟

قيل في ذلك وجهان:

أحدهما: أن معنى قوله: {إن آلذينءامنوا} : أظهروا الإيمان وأمنوا من القتل والسبي وهم الموصوفون بقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41].

وقوله: {منءامن منهم} ، أي: من يحقق الإيمان فبين أن المظهر للإيمان، والذين ما داموا فيهم ممن ذكرهم، لا يسقط عنهم الخوف والحزن في الدارين ما لم يتحققوا بتصديق الله، والإيمان بالمعاد، والتحري لمصالح الأعمال.

والثاني: أن قوله: {منءامن بالله} راجع إلى قوله: {والذين هادوا والصابئون} ، دون قوله:{إن الذينءامنوا} " (9).

(1) أحمد بن حنبل - فضائل الصحابة - فضائل الحسن والحسين 1332، وانظر: البلاذري (71).

(2)

سنن الترمذي ت شاكر 5/ 278، وانظر: اللسان (13/ 443)، (وثن)، السيوطي، الدرر المنثور (10/ 75).

(3)

النصرانية وآادابها بين عرب الجاهلية: 57.

(4)

انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي:4010.

(5)

الأغاني: 2/ 24، وانظر: شيخو، شعراء النصرانية (451).

(6)

صفوة التفاسير: 329.

(7)

تفسير ابن أبي حاتم (646): ص 1/ 128.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 81.

(9)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 404.

ص: 355

وقال الزمخشري: " فان قلت: كيف قال: {الذين آمنوا}، ثم قال: {من آمن}؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يراد بالذين آمنوا: الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن. من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه"(1).

قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا} [المائدة: 69]، " أي: وعمل بطاعة الله في دار الدنيا" (2).

قال البيضاوي: أي: " عاملاً بمقتضى شرعه"(3).

قال أبو حيان: " هو عام في جميع أفعال الصلاح وأقوالها وأداء الفرائض، أو التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم"(4).

قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 69]، أي:" فلا خوف عليهم من أهوال يوم القيامة"(5).

قال الصابوني: "أي: ليس على هؤلاء المؤمنين خوف في الآخرة، حين يخاف الكفار من العقاب"(6).

قال الثعلبي: " فيما قدّموا"(7).

قال البيضاوي: " حين يخاف الكفار من العقاب"(8).

قال الطبري: أي: "ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة"(9).

وقرأ الجمهور: {وَلا خَوْفٌ} ، بالرفع والتنوين. وقرأ الحسن:{ولا خوف} ، من غير تنوين (10).

قوله تعالى: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69]، أي:" ولا هم يحزنون على ما تركوه وراءهم في الدنيا"(11).

قال الثعلبي: " على ما خلّفوا"(12).

قال البيضاوي: حين "يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب"(13).

قال الطبري: " ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده"(14).

قال ابن عثيمين: " لأنهم انتقلوا إلى خير منها؛ أما الكافر فيحزن على ما فرط في الحياة الدنيا، ويتحسر، كما قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله} [الزمر: 54 - 56]: هذا تحزُّن، وتحسُّر"(15).

قال الشيخ السعدي: " يخبر تعالى عن أهل الكتب من أهل القرآن والتوراة والإنجيل، أن سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد، وأصل واحد، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل

(1) الكشاف: 1/ 661.

(2)

صفوة التفاسير: 1/ 55.

(3)

تفسير البيضاوي: 1/ 85.

(4)

البحر المحيط: 1/ 205.

(5)

التفسير الميسر: 329.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 55.

(7)

تفسير الثعلبي: 1/ 210.

(8)

تفسير البيضاوي: 1/ 85.

(9)

تفسير الطبري: 2/ 150.

(10)

أنظر: البحر المحيط: 1/ 205.

(11)

التفسير الميسر: 329.

(12)

تفسير الثعلبي: 1/ 210.

(13)

تفسير البيضاوي: 1/ 85.

(14)

تفسير الطبري: 2/ 150.

(15)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 223.

ص: 356

الصالح، فمن آمن منهم بالله واليوم الآخر، فله النجاة، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من الأمور المخوفة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا منها. وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الأزمنة" (1).

الفوائد:

1 -

من فوائد الآية: أن العبرة بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالإنتساب إلى دين من الأديان.

2 -

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً، فكل من آمن بالله واليوم الآخر، فإن له أجره من أيّ صنف كان.

3 -

ومنها: ثمرة الإيمان بالله، واليوم الآخر، وهو حصول الأجر، وانتفاء الخوف مما يستقبل، والحزن على ما مضى.

4 -

ومنها: أنه لا فرق في ذلك بين جنس وآخر؛ فالذين هادوا، والنصارى، والصابئون مثل المؤمنين إذا آمنوا بالله، واليوم الآخر. وإن كان المؤمنون من هذه الأمة يمتازون على غيرهم بأنهم أكثر أجراً.

القرآن

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} [المائدة: 70]

التفسير:

لقد أخذنا العهد المؤكَّد على بني إسرائيل في التوراة بالسمع والطاعة، وأرسلنا إليهم بذلك رسلنا، فَنَقَضوا ما أُخذ عليهم من العهد، واتبعوا أهواءهم، وكانوا كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تشتهيه أنفسهم عادَوْه: فكذبوا فريقًا من الرسل، وقتلوا فريقًا آخر.

قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 70]، أي:" لقد أخذنا العهد المؤكَّد على بني إسرائيل في التوراة بالسمع والطاعة"(2).

قال أبو العالية: " أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره"(3).

قال مقاتل: " في التوراة على أن يعملوا بما فيها"(4).

قال الزمخشري: " لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد"(5).

قال القرطبي: " الميثاق: هو ألا يعبدوا إلا الله، وما يتصل به"(6).

قال الطبري: المعنى: " أقسم: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص في توحيدنا، والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما نهيناهم عنه"(7).

قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا} [المائدة: 70]، أي:" وأرسلنا إليهم بذلك رسلنا"(8).

قال الزمخشري: " ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم"(9).

قال البيضاوي: أي: " ليذكروهم وليبينوا لهم أمر دينهم"(10).

قال السعدي: " يتوالون عليهم بالدعوة، ويتعاهدونهم بالإرشاد، ولكن ذلك لم ينجع فيهم، ولم يفد"(11).

(1) تفسير السعدي: 239.

(2)

التفسير الميسر: 119.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6634): ص 4/ 1177.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 494.

(5)

الكشاف: 1/ 662.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 247.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 477.

(8)

التفسير الميسر: 119.

(9)

الكشاف: 1/ 662.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(11)

تفسير السعدي: 239.

ص: 357

قال القرطبي: "المعنى: لا تأس على القوم الكافرين فإنا قد أعذرنا إليهم، وأرسلنا الرسل فنقضوا العهود، وكل هذا يرجع إلى ما افتتحت به السورة وهو قوله: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] "(1).

قوله تعالى: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 70]، أي:" كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما يخالف أهواءهم وشهواتهم"(2).

قال الطبري: أي: " كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبَّتهم"(3).

قال الزمخشري: أي" بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع"(4).

وقال السدي: " لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة وخاصموه"(5).

قال ابن عباس: " ما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أخذه الله إليه ثم ذكر كفرهم بذلك كله، ثم قال: {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} "(6).

قوله تعالى: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70]، أي:" فكذبوا فريقًا من الرسل، وقتلوا فريقًا آخر"(7).

قال مقاتل: " يعني: اليهود كذبوا بطائفة من الرسل وقتلوا طائفة من الرسل يعني زكريا ويحيى في بني إسرائيل"(8).

قال المحاسبي: أي: " وفريقا يقتلُون فريقا كلا الْكَلِمَتَيْنِ مُقَدّمَة مؤخرة"(9).

قال الشوكاني: أي: " فريقا منهم كذبوهم ولم يتعرضوا لهم بضرر، وفريقا آخر منهم قتلوهم"(10).

قال الطبري: أي: " كذّبوا منهم فريقًا، ويقتلون منهم فريقًا، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا"(11).

قال الزجاج: " المعنى كلما جاءهم رسول كذبوا فريقا وقتلوا فريقا، أما التكذيب فاليهود والنصارى مشتركة فيه، وأما القتل فكانت إليهود خاصة – دون النصارى - يقتلون الأنبياء، وكانت الرسل على ضربين، رسل تأتي بالشرائع والكتب نحو موسى وعيسى وإبراهيم ومحمد - صلى الله عليهم وسلم -، فهؤلاء معصومون من الخلق، لم يوصل إلى قتل واحد منهم، ورسل تأتي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحث على التمسك بالدين نحو يحيى وزكريا - صلى الله عليهما وسلم"(12).

قال القرطبي: " أي: كذبوا فريقا وقتلوا فريقا، فمن كذبوه عيسى ومن مثله من الأنبياء، وقتلوا زكريا ويحيى وغيرهما من الأنبياء. وإنما قال: {يقتلون} لمراعاة رأس الآية. وقيل: أراد فريقا كذبوا، وفريقا قتلوا، وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون، فهذا دأبهم وعادتهم فاختصر. وقيل: فريقا كذبوا لم يقتلوهم، وفريقا قتلوهم فكذبوا. و {يقتلون}، نعت لفريق"(13).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 247.

(2)

صفوة التفاسير: 329.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 477.

(4)

الكشاف: 1/ 662.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6635): ص 4/ 1177.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6636): ص 4/ 1177.

(7)

التفسير الميسر: 119.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 494.

(9)

فهم القرآن: 485.

(10)

فتح القدير: 2/ 72.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 477.

(12)

معاني القرآن: 2/ 194 - 195.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 247.

ص: 358

قال الزمخشري: " فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا «2» وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها"(1).

قال البيضاوي: " وإنما جيء بـ {يقتلون}، موضع «قتلوا»، على حكاية الحال الماضية استحضارا لها واستفظاعا للقتل، وتنبيها على أن ذلك من ديدنهم ماضيا ومستقبلا ومحافظة على رؤوس الآي"(2).

الفوائد:

1 -

بيان تاريخ بني إسرائيل، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل.

2 -

أن عقيدة اليهود: الكفر برسل الله، والوقاحة الدائمة مع رسل الله، واتهام رسل الله، وتقتيل رسل الله، إنهم كما قال الله:{لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} [المائدة: 70].

تأمل فريقا كذبوا وفريقا يقتلون كما قال الله عنهم: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} [البقرة: 87].

ويلاحظ هنا استعمال أداة العموم، والتكرار كلما تعبيرا عن اطراد اليهود على التكذيب، أو القتل للرسل إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم الضالة فكم من رسل قتلوهم، وكم من رسل كذبوهم، وكم من رسل شنعوا عليهم واتهموهم، وهذا سيدنا عيسى عليه السلام نال منهم حظا وافرا حين اتهموه عليه السلام بأنه ابن زنا -والعياذ بالله- اتهموه مع أمه اتهموا مريم الطاهرة البتول بأنها زانية، وأن عيسى عليه السلام هو ابن زنا، فنعى الله عز وجل عليهم هذا في قوله سبحانه:{وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا} [النساء: 156، 157].

سبحان الله ما هذا الافتراء على الله، وما هذا الكذب على رسل الله، بل قتل الأنبياء ما هذه الاتهامات؟ ما هذه الخسائس، وتلك الشناعات؟

وأما موقف اليهود من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأي أمة في التاريخ بلغت في النكالة، والإفك مبلغ هؤلاء اليهود حين فعلوا هذا مع أنبياء الله ورسله؟ وحين تعنتوا معهم، وتعنتوا مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تعنتوا معه في الأسئلة فكما قال الله:{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا} [النساء: 153] فكذبوا رسول الله، وأرادوا قتله عشرات المرات، ولكن الله عز وجل عصمه منهم.

وأخبر تعالى بقوله: {وهموا بما لم ينالوا} [التوبة: 74] وقال في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] وأصروا على موقفهم بل على كفرهم، وأبوا أن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله عنهم:{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} بالبقرة: 120].

استبان الحق لهم واضحا، فأبوا أن يتبعوه مع وضوحه وضوح الشمس حتى قال الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام:{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين} [البقرة: 145]، ولم يكتفوا بهذا، بل راحوا يجاهدون أو يقاتلون باطلا لردة الناس عن دينهم {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217].

(1) الكشاف: 1/ 662 - 663.

(2)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

ص: 359

إنهم اتخذوا كل الوسائل في تكذيب النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما كذبوا رسلا من قبله، وحاولوا قتله، كما قتلوا رسلا من قبله حتى وصموا بهذه الصفة، ولازمتهم تلك الذلة والمسكنة حين قال الله:{ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [آل عمران: 112].

وحين طالبهم النبي عليه الصلاة والسلام بالإيمان به ردوا قائلين كما قال القرآن: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين} [آل عمران: 183] ومن ثم أبوا أن يؤمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم المذكور في توراتهم، والمصرح به كما سنذكر ذلك بعد قليل إن شاء الله تبارك وتعالى.

إذا فهم مع الإيمان بالرسل على نحو ما ذكرنا، ولهم دور كبير مع النبي محمد عليه الصلاة والسلام في المجادلة واللجاج، والتعنت في الأسئلة وفي المواقف، وفي كل شيء؛ ولذلك حكى القرآن الكريم هذا عنهم فيما ذكروه من أسئلة ومجادلات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما وقع منهم من فساد؛ فجدالهم لم ينقطع، واستهزاؤهم بالدين لم ينته، أذكر من هذا على سبيل المثال لا الحصر؛ المجادلات، والمخاصمات الكلامية التي أرادوا من ورائها الطعن في الإسلام، ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام فجادلوا في نبوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بقصد الطعن فيها، وصرحوا بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس هو النبي المنتظر التي بشرت به الكتب السماوية بعد أن عرفوا صدقه، كما يعرفون أبناءهم.

ولم يكتف اليهود بكل هذا؛ فبعد فشلهم في هذه المجادلات، وتلك المحاولات راحوا ينقضون المعاهدات، ويدبرون المؤامرات، ويقاتلون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدث هذا في بني قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، ولهم أحابيل شيطانية، حاولوا بها تفريق الكلمة، وتمزيق الأمة، وإشاعة البغضاء بين الأوس والخزرج مرة، وبين المهاجرين والأنصار أخرى، عاهدهم النبي عليه الصلاة والسلام معاهدة عدل وبر، وقسط ورحمة، ومع ذلك نقضوا عهود، فهم اليهود قتلة الأنبياء، نقضة العهود، وكما قال القائل: لو تركت الحمر نهيقها، والكلاب نباحها، والحيات لدغها ما ترك اليهود نقضهم للعهود؛ فقد كانت مواقفهم مع أنبياء الله ورسله بصفة عامة، كما حكاه القرآن {كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون} [المائدة: 70].

ومع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة على نحو ما أسلفنا من المجادلات والمحاولات، ونقض المعاهدات، وتدبير المؤامرات، واستمر ذلك بعد النبي عليه الصلاة والسلام وإلى هذا العصر الحديث.

القرآن

{وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)} [المائدة: 71]

التفسير:

وظنَّ هؤلاء العُصاة أن الله لن يأخذهم بالعذاب جزاء عصيانهم وعُتُوِّهم، فمضوا في شهواتهم، وعمُوا عن الهدى فلم يبصروه، وصَمُّوا عن سماع الحقِّ فلم ينتفعوا به، فأنزل الله بهم بأسه، فتابوا فتاب الله عليهم، ثم عَمِي كثيرٌ منهم، وصمُّوا، بعدما تبين لهم الحقُّ، والله بصير بأعمالهم خيرها وشرها وسيجازيهم عليها.

قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71]، أي:" وظنَّ هؤلاء العُصاة أن الله لن يأخذهم بالعذاب جزاء عصيانهم وعُتُوِّهم"(1).

(1) التفسير الميسر: 120.

ص: 360

قال قتادة: " يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ {فعموا وصموا}، كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه"(1).

قال السدي: " يقول: حسبوا أن لا يبتلوا"(2).

قال الحسن: " {فتنة}: بلاء"(3).

وقال ابن عباس: " {فتنة}: الشرك"(4).

قال عبد الله بن كثير: "هذه الآية لبني إسرائيل، و {الفتنة}، البلاء والتَّمحيص"(5).

قال ابن كثير: " أي: وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا"(6).

قال الطبري: أي: " وظن هؤلاء الإسرائيليون الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: أنه أخذ ميثاقهم: وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا، أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون"(7).

قال القرطبي: " المعنى، ظن هؤلاء الذين أخذ عليهم الميثاق أنه لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد، اغترارا بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإنما اغتروا بطول الإمهال"(8).

قال البيضاوي: " أي: وحسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم"(9).

قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: "وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونُ" بالرفع، وأضاف ابن الجزري: خلفًا ويعقوب، وقرأ الباقون:{أَلَّا تَكُونَ} بالنصب، ولم يختلفوا فى رفع {فتنة} (10).

قوله تعالى: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} [المائدة: 71]، أي:" فمضوا في شهواتهم، وعمُوا عن الهدى فلم يبصروه، وصَمُّوا عن سماع الحقِّ فلم ينتفعوا به"(11).

قال السدي: " فعموا عن الحق وصمُّوا"(12).

قال الزجاج: " هذا مثل، تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا ولا بما رأوا من الآيات، فصاروا كالعمى الصم"(13).

قال القرطبي: " {فعموا}، أي: عن الهدى. {وصموا}، أي: عن سماع الحق، لأنهم لم ينتفعوا بما رأوه ولا سمعوه"(14).

قال البيضاوي: " أي: فعموا عن الدين أو الدلائل والهدى. وصموا عن استماع الحق كما فعلوا حين عبدوا العجل"(15).

قال ابن كثير: " فترتب [لهم الشر]، وهو أنهم عموا عن الحق وصَمُّوا، فلا يسمعون حقًا ولا يهتدون إليه "(16).

(1) أخرجه الطبري (12288): ص 10/ 479.

(2)

أخرجه الطبري (12289): ص 10/ 479.

(3)

أخرجه الطبري (12290): ص 10/ 479.

(4)

أخرجه الطبري (12291): ص 10/ 479.

(5)

أخرجه الطبري (12293): ص 10/ 480.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 157.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 478.

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 247.

(9)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(10)

انظر: السبعة في القراءات: 247.

(11)

التفسير الميسر: 120.

(12)

أخرجه الطبري (12289): ص 10/ 479.

(13)

معاني القرآن: 2/ 195.

(14)

تفسير القرطبي: 6/ 248.

(15)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(16)

تفسير ابن كثير: 3/ 157.

ص: 361

قال الطبري: أي: " فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم، من إخلاص عبادتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي، بحسبانهم ذلك وظنهم، {وصموا} عنه"(1).

قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 71]، أي:" فأنزل الله بهم بأسه، فتابوا فتاب الله عليهم"(2).

قال البيضاوي: " أي: ثم تابوا فتاب الله عليهم"(3).

قال ابن كثير: " أي: مما كانوا فيه "(4).

قال القرطبي: "في الكلام إضمار، أي أوقعت بهم الفتنة فتابوا فتاب الله عليهم بكشف القحط، أو بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم يخبرهم بأن الله يتوب عليهم إن آمنوا، فهذا بيان {تاب الله عليهم}، أي: يتوب عليهم إن آمنوا وصدقوا لا أنهم تابوا على الحقيقة"(5).

قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71]، أي:" ثم عَمِي كثيرٌ منهم، وصمُّوا، بعدما تبين لهم الحقُّ"(6).

قال القرطبي: " أي: عمي كثير منهم وصم بعد تبين الحق لهم بمحمد عليه الصلاة والسلام"(7).

قال البيضاوي: " أي: ثم عموا وصموا كرة أخرى"(8).

وقرئ: «عموا وصموا» بالضم فيهما، على أن الله تعالى عماهم وصمهم، أي: رماهم بالعمى والصمم، وهو قليل واللغة الفاشية أعمى وأصم (9).

وقوله: {كثير منهم} ، بدل من الضمير، أو فاعل والواو علامة الجمع كقولهم:«أكلوني البراغيث» (10)، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: العمى والصم كثير منهم، وقيل: مبتدأ والجملة قبله خبره وهو ضعيف، لأن تقديم الخبر في مثله ممتنع (11).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71]، أي:" والله بصير بأعمالهم خيرها وشرها وسيجازيهم عليها"(12).

قال البيضاوي: " فيجازيهم على وفق أعمالهم"(13).

قال ابن كثير: " أي: مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية "(14).

الفوائد:

1 -

إكرام الله تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم، والمكر بهم.

2 -

ومن اسماءه سبحانه وتعالى: «البصير» : وهو المبصر، «فعيل» ، بمعنى:«مفعل» ، كقولهم، أليم: بمعنى: مؤلم، وكقول عمرو بن معد يكرب (15):

(1) تفسير الطبري: 10/ 478 - 479.

(2)

التفسير الميسر: 120.

(3)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 157.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 248.

(6)

التفسير الميسر: 120.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 248.

(8)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(9)

انظر: تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(10)

.

(11)

انظر: تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(12)

التفسير الميسر: 120.

(13)

تفسير البيضاوي: 2/ 137.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 157.

(15)

وهو مطلع الأصمعية رقم (61)، وأبياتها (37) بيتا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، وفي الكامل 1/ 172، وأمالي ابن الشجري 1/ 64 و 2/ 106، وتفسير الطبري 1/ 123، وتهذيب الأزهري 2/ 124، والشريشي 2/ 258، وسرح العيون 271، وأورده ابن فارس في الصاحبي ص 201، شاهدا على السميع بمعنى: مسمع، وضعهم فعيل بمعنى مفعل، وروح المعاني 1/ 150، والشطرة في غريب القرآن ص 17 وانظر تفسير أسماء الله الحسنى ص 43.

ص: 362

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

يريد: المسمع. ويقال: البصير: العالم بخفيات الأمور (1).

و{الْبَصِيرُ} ، يعني: المدرك لجميع المبصرات، ويطلق البصير بمعنى العليم، فالله سبحانه وتعالى بصير، يرى كل شيء وإن خفي، وهو سبحانه بصير بمعنى: عليم بأفعال عباده، قال تعالى:{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18]، والذي نعمل بعضه مرئي وبعضه غير مرئي، فبصر الله إذاً ينقسم إلى قسمين، وكله داخل في قوله:{الْبَصِيرُ} (2).

قال الشيخ ابن عثيمين: " فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله، لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر، لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وإيمان الإنسان بذلك يثمر للعبد أن يعظمه غاية التعظيم، لأنه ليس مثله أحد من المخلوقات، فتعظم هذا الرب العظيم الذي لا يماثله أحد، وإلا، لم يكن هناك فائدة من إيمانك بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} " (3).

القرآن

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)} [المائدة: 72]

التفسير:

يقسم الله تعالى بأن الذين قالوا: إن الله هو المسيح بن مريم، قد كفروا بمقالتهم هذه، وأخبر تعالى أن المسيح قال لبني إسرائيل: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فأنا وأنتم في العبودية سواء. إنه من يعبد مع الله غيره فقد حرَّم الله عليه الجنة، وجعل النار مُستَقَرَّه، وليس له ناصرٌ يُنقذُه منها.

سبب النزول:

قال مقاتل: " نزلت فى نصارى نجران المار يعقوبيين منهم السيد والعاقب وغيرهما قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم"(4).

قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72]، أي:" أي أقسم إن هؤلاء الذين ادعوا أن الله هو المسيح بن مريم- قد كفروا"(5).

قال ابن كثير: " يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى، من الملكية واليعقوبية والنسطورية، ممن قال منهم بأن المسيح هو الله، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا"(6).

قوله تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 72]، أي:" والحال أن المسيح قال لهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فأنا وأنتم في العبودية سواء"(7).

قال الشوكاني: " أي: والحال أنه قد قال المسيح هذه المقالة، فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم؟ "(8).

(1) انظر: شأن الدعاء للخطابي: 60 - 61.

(2)

انظر: شرح العقيدة الواسطية، ابن عثيمين: 1/ 208.

(3)

شرح العقيدة الواسطية: 1/ 115.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 494.

(5)

تفسير المراغي: 6/ 165.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 157.

(7)

تفسير المراغي: 6/ 165، والتفسير الميسر:120.

(8)

فتح القدير: 2/ 73.

ص: 363

قال السمرقندي: " يعني: وحدوا الله وأطيعوه، ربي وربكم يعني: خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم"(1).

قال السعدي: " فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق"(2).

قال أبو حيان: " رد الله تعالى مقالتهم بقول من يدعون إلهيته وهو عيسى، أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون، وأمرهم بإخلاص العبادة، ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية. وفي ذلك رد عليهم في فساد دعواهم، وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يرد عليهم مقالتهم"(3).

قال ابن كثير: " تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله. بل قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} إلى أن قال: {وإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم: 30 - 36]، وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته، آمرًا لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له"(4).

قال الزمخشري: " لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم، وهو احتجاج على النصارى"(5).

عن ابن عباس قوله: " {اعبدوا}، أي: وحدوا ربكم"(6).

قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]، أي:" وإنه من يعبد مع الله غيره فقد حرَّم الله عليه الجنة"(7).

قال السعدي: " فأثبت لنفسه العبودية التامة، ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق"(8).

قال السمرقندي: " يعني: ويموت على شركه، فقد حرم الله عليه الجنة أن يدخلها"(9).

قال الزمخشري: أي: " إنه من يشرك بالله في عبادته، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله فقد حرم الله عليه الجنة التي هي دار الموحدين أى حرمه دخولها ومنعه منه، كما يمنع المحرم من المحرم عليه"(10).

قال الشوكاني: " وهذا كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة وقيل: هو من قول عيسى"(11).

قال أبو حيان: " الظاهر أنه كلام المسيح، فهو داخل تحت القول. وفيه أعظم ردع منه عن عبادته، إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة .. . وقيل: هو من كلام الله تعالى مستأنف، أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد"(12).

وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة"، وفي لفظ:"مؤمنة"(13).

(1) بحر العلوم: 1/ 408.

(2)

تفسير السعدي: 139.

(3)

البحر المحيط: 4/ 329.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 157.

(5)

الكشاف: 1/ 663.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6642): ص 4/ 1178.

(7)

التفسير الميسر: 120.

(8)

تفسير السعدي: 139.

(9)

بحر العلوم: 1/ 408.

(10)

الكشاف: 1/ 663.

(11)

فتح القدير: 2/ 73.

(12)

البحر المحيط: 4/ 329.

(13)

صحيح مسلم برقم (111).

ص: 364

وعن عائشة-رضي الله عنها-قال صلى الله عليه وسلم: "الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يدعه الله لشيء. فأما الديوان الذي لا يغفر ف إن الله لا يغفر أن يشرك به وقال: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} "(1).

قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72]، أي:" وجعل النار مُستَقَرَّه"(2).

قال أبو حيان: " وجعل مأواه النار"(3).

قال السمرقندي: " يعني: مصيره إلى النار"(4).

قال السعدي: " وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق، وصرف ما خلقه الله له - وهو العبادة الخالصة - لغير من هي له، فاستحق أن يخلد في النار"(5).

قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، أي:" وما للظالمين لأنفسهم بشركهم بالله من نصير ينصرهم "(6).

قال ابن كثير: " أي: وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه"(7).

قال الشوكاني: " ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار"(8).

قال السعدي: " ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم"(9).

قال السمرقندي: " يعني: ليس للمشركين من مانع يمنعهم من العذاب"(10).

قال الزمخشري: أي: " من كلام الله على أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما يقولوا على عيسى عليه السلام، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم رده وأنكره، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره. أو من قول عيسى عليه السلام، على معنى: ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول. أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله"(11).

قال أبو حيان: " ظاهره أنه من كلام عيسى، أخبرهم أنه من تجاوز ووضع الشيء غير موضعه فلا ناصر له، ولا مساعد فيما افترى وتقول، وفي ذلك ردع لهم عما انتحلوه في حقهم من دعوى أنه إله، وأنه ظلم إذ جعلوا ما هو مستحيل في العقل واجبا وقوعه، أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى، أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقولهم عليه، فلا ناصر لهم على ذلك"(12).

الفوائد:

1 -

تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو الله.

2 -

تقرير عبودية عيسى عليه السلام لربه تعالى.

3 -

بيان الشرك الوخيم الذي حذر الله منه عباده وأنكرته الرسل على أممهم وحكم الله على أهله بالخلود في النار وحرمانهم من دخول الجنة دار الأبرار.

(1) المسند (6/ 240).

(2)

التفسير الميسر: 120.

(3)

البحر المحيط: 4/ 329.

(4)

بحر العلوم: 1/ 408.

(5)

تفسير السعدي: 139.

(6)

تفسير المراغي: 6/ 166

(7)

تفسير ابن كثير: 1/ 158.

(8)

فتح القدير: 2/ 73.

(9)

تفسير السعدي: 139.

(10)

بحر العلوم: 1/ 408.

(11)

الكشاف: 1/ 663.

(12)

البحر المحيط: 4/ 329.

ص: 365

4 -

أن أعظم ما يتقى: الشرك؛ لأنه الذنب الذي لا يغفر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وحرم الله على من أشرك به في عبادته الجنة كما قال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَليْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: من الآية 72].

وفي الحديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له"(1).

وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار"(2).

في البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعوا لله ندا دخل النار"(3).

أخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: "يحبس الناس يوم القيامة بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر، قيل: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة "(4).

5 -

أن الجنة محرمة على الكفار، لقوله تعالى:{إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار} .

وقوله: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} [الأعراف: 40]، وكقوله صلى الله عليه وسلم َ الذي أمر الذي أمر بالمناداة به يوم حنين:"إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة"(5).

ويكفي في ذلك قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، فإننا نعلم بالضرورة أن من دخل الجنة فقد غفر الله له وعلى العكس، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ولا يدخل الجنة إلا أهل التوحيد وهم أهل «لا إله إلا الله» ". ثم قال: "ولكن لا يعذب الله أحدا حتى يبعث إليه رسولا وكما أنه لا يعذبه فلا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة مؤمنة ولا يدخلها مشرك ولا مستكبر عن عبادة ربه (6).

القرآن

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)} [المائدة: 73]

التفسير:

لقد كفر من النصارى من قال: إنَّ الله مجموع ثلاثة أشياء: هي الأب، والابن، وروح القدس. أما عَلِمَ هؤلاء النصارى أنه ليس للناس سوى معبود واحد، لم يلد ولم يولد، وإن لم ينته أصحاب هذه المقالة عن افترائهم وكذبهم ليُصِيبَنَّهم عذاب مؤلم موجع بسبب كفرهم بالله.

قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]، أي:" لقد كفر من النصارى من قال: إنَّ الله مجموع ثلاثة أشياء: هي الأب، والابن، وروح القدس"(7).

قال مجاهد: " النصارى، يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وكذبوا"(8).

(1) رواه الترمذي (3328) وقال: هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث قد تفرد بهذا الحديث عن ثابت.

(2)

برقم (93).

(3)

برقم (4497).

(4)

الدر المنثور: 1/ 130 - 131.

(5)

أخرجه البخاري ومسلم (01/ 74) عن أبي هريرة وله مثله عن عمر بلفظ: "

إلا المؤمنون"، وله شواهد فانظر: إرواء الغليل: 963.

(6)

المجموع: 14/ 476 – 477.

(7)

التفسير الميسر: 120.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6644): ص 4/ 1178.

ص: 366

وعن مجاهد أيضا: " تفرقت بنوا إسرائيل ثلاث فرق في عيسى فقالت فرقة: هو الله، وقالت فرقة هو ابن الله وقالت فرقة: هو عبد الله، ورسوله وروحه، وهي المقتصدة، ومن مسلمة أهل الكتاب"(1).

قال السدي: " قالت النصارى: هو والمسيح وأمه، فذلك قول الله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة: 116] "(2).

وقال أبو الصخر: " هو قول اليهود: عزير ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله، فجعلوا لله تبارك وتعالى ثالث ثلاثة"(3).

قال مقاتل: " يعنى: الملكانيين (4)، قالوا: الله والمسيح ومريم"(5).

قال الأخفش: " وذلك انهم جعلوا معه: عيسى ومريم"(6).

قال الواحدي: " أَيْ: ثالث ثلاثةٍ من الآلهة والمعنى: أنَّهم قالوا: اللَّهُ واحدُ ثلاثةِ آلهة: هو والمسيح ومريم فزعموا أنَّ الإِلهيَّة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة فكفروا بذلك"(7).

قال الطبري: " وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل: أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُتبلون ولا يفتنون، قالوا كفرًا بربهم وشركًا: {الله ثالث ثلاثة}، وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية، كانوا فيما بلغنا يقولون: الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما"(8).

قال الراغب: " أخبر عن النسطورية (9) والملكية، فهم الذين يقولون أب وابن وروح القدس فيجعلون الله أحد الأقانيم الثلاثة، ومن أن الله هو واحد وهو سبب الموجودات"(10).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6645): ص 4/ 1179.

(2)

أخرجه الطبري (12294): ص 10/ 483.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6647): ص 4/ 1179.

(4)

الملكانية: : أصحاب ملكا الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها. ومعظم الروم ملكانية. قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، وتدرعت بناسوته. ويعنون بالكلمة: أقنوم العلم، ويعنون بروح القدس أقنوم الحياة، ولا يسمون العلم قبل تدرعه ابنا، بل المسيح مع ما تدرع به ابن، فقال بعضهم إن الكلمة مازجت جسد المسيح، كما يمازج الخمر أو الماء اللبن.

وصرحت الملكانية بأن الجوهر غير الأقانيم، وذلك كالموصوف والصفة وعن هذا صرحوا بإثبات التثليث وأخبر عنهم القرآن {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73]، وقالت الملكانية: إن المسيح ناسوت كلي، لا جزئي، وهو قديم أزلي، من قديم أزلي، وقد ولدت مريم عليها السلام إلها أزليا، والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا. وأطلقوا لفظ الأبوة والبنوة على الله عز وجل وعلى المسيح

". [انظر: الملل والنحل: 2/ 27].

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 495.

(6)

معاني القرآن: 1/ 286.

(7)

الوجيز: 330.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 481 - 482.

(9)

النسطورية: أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمان المأمون، وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه. وإضافته إليهم إضافة المعتزلة إلى هذه الشريعة. قال: إن الله تعالى واحد، ذو أقانيم ثلاثة: الوجود، والعلم، والحياة. وهذه الأقانيم ليست زائدة على الذات، ولا هي هو. واتحدت الكلمة بجسد عيسى عليه السلام، لا على طريق الامتزاج كما قالت الملكانية، ولا على طريق الظهور به كما قالت اليعقوبية، ولكن كإشراق الشمس في كوة على بلورة. وكظهور النقش في الشمع إذا طبع بالخاتم.

وأشبه المذاهب بمذهب نسطور في الأقانيم: أحوال أبي هاشم من المعتزلة، فإنه يثبت خواص مختلفة لشيء واحد، ويعني بقوله: واحد، يعني الإله. قال هو واحد بالجوهر، أي ليس هو مركبا من جنسين بل هو بسيط وواحد. ويعنى بالحياة والعلم أقنومين جوهرين، أي أصلين مبدأين للعالم. ثم فسر العلم بالنطق، والكلمة. ويرجع منتهى كلامه إلى إثبات كونه تعالى موجودا، حيا، ناطقا كما تقول الفلاسفة في حد الإنسان، إلا أن هذه المعاني تتغاير في الإنسان لكونه جوهرا مركبا، وهو جوهر بسيط غير مركب.

وبعضهم يثبت لله تعالى صفات أخر بمنزلة القدرة والإرادة ونحوهما. ولم يجعلوها أقانيم كما جعلوا الحياة والعلم أقنومين.

ومنهم من أطلق القول بأن كل واحد من الأقانيم الثلاثة: حي، ناطق، إله. وزعم الباقون أن اسم الإله لا يطلق على كل واحد من الأقانيم.

وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الآب، وإنما تجسد واتحد بجسد المسيح حين ولد. [انظر: الملل والنحل: 2/ 29].

(10)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 409.

ص: 367

قال البغوي: " يعني: المرقوسية (1)، وفيه إضمار معناه: ثالث ثلاثة آلهة، لأنهم يقولون: الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم وعيسى، وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، يبين هذا قوله عز وجل للمسيح: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116]، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به الإلهية لا يكفر، فإن الله يقول: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (2) " (3).

قال أبن عطية: " هذه الآية إخبار مؤكد كالذي قبله، وهو عن هذه الفرقة الناطقة بالتثليث وهي فيما يقال الملكية وهم فرق منهم النسطورية وغيرهم، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتاب تفسير، إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الألوهية عددا ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكما إلهيا"(4).

قال السعدي: " وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم، زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى، كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟ ! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين؟ ! كيف خفي عليهم رب العالمين؟ ! " (5).

عن أحمد بن أبي الحواري، قال أبو سليمان الداراني:"يا أحمد والله ما حرك ألسنتهم بقولهم ثالث ثلاثة إلا هو ولو شاء لأخذ من ألسنتهم"(6).

قال الرازي: " في تفسير قول النصارى ثالث ثلاثة طريقان:

الأول: قول بعض المفسرين، وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة، والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله [المائدة: 116] فقوله ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة، والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم وما من إله إلا إله واحد وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار، إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم، قال الواحدي ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة، فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم، لقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم [المجادلة: 7].

والطريق الثاني: أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أب، وابن، وروح القدس، وهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، وأثبتوا الذات والكلمة والحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر، واختلاط الماء باللبن، وزعموا أن الأب إله، والابن إله، والروح إله، والكل إله واحد.

واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل، فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد، لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى" (7).

(1) ويقال لهم الملكانية. انظر: بحر العلوم: 1/ 360.

(2)

أخرجه البخاري في التفسير، سورة التوبة، باب "ثاني اثنين إذ هما في الغار

" 8/ 325.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 82.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 222.

(5)

تفسير السعدي: 239.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6648): ص 4/ 1179.

(7)

مفاتيح الغيب: 12/ 408 - 409.

ص: 368

قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73]، أي:" أما عَلِمَ هؤلاء النصارى أنه ليس للناس سوى معبود واحد، لم يلد ولم يولد"(1).

قال مقاتل: " يقول الله- عز وجل تكذيبا لقولهم {وما من إله إلا إله واحد} "(2).

قال الطبري: " يقول: ما لكم معبود، أيها الناس، إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولو"(3).

قال الزمخشري: المعنى: " وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثانى له، وهو الله وحده لا شريك له"(4).

قال ابو السعود: " أي: والحال أنه ليس في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة"(5).

قال الشوكاني: " أي: ليس في الوجود إلا الله سبحانه، وهذه الجملة حالية، والمعنى: قالوا تلك المقالة، والحال أنه لا موجود إلا الله، ومن في قوله: من إله لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي"(6).

قال السعدي: " قال تعالى -رادا عليهم وعلى أشباههم -: {وما من إله إلا إله واحد} متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه. فكيف يجعل معه إله غيره؟ " تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا" (7).

قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} [المائدة: 73]، أي:" وإن لم ينته أصحاب هذه المقالة عن افترائهم وكذبهم"(8).

قال مقاتل: "من الشرك"(9).

قال القرطبي: " أي يكفوا عن القول بالتثليث"(10).

قال الطبري: " يقول: إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم: الله ثالث ثلاثة"(11).

قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 73]، أي:" ليُصِيبَنَّهم عذاب مؤلم موجع بسبب كفرهم بالله"(12).

قال أبو العالية: " {عذاب أليم}: موجع"(13).

قال مقاتل: " يعني: وجيع، والقتل بالسيف والجزية على من بقي منهم عقوبة"(14).

قال القرطبي: " ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة"(15).

قال الراغب: " هددهم إن لم ينتهوا يعذبون"(16).

قال الزجاج: " معنى {الذين كفروا منهم}: الذين أقاموا على هذا الدين وهذا القول"(17).

(1) التفسير الميسر: 120.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 495.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 482.

(4)

الكشاف: 1/ 664.

(5)

تفسير أبي السعود: 3/ 66.

(6)

فتح القدير: 2/ 73.

(7)

تفسير السعدي: 239.

(8)

التفسير الميسر: 120.

(9)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 495.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 250.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 482.

(12)

التفسير الميسر: 120.

(13)

أخرجه ابن أبي حاتم (6649): ص 4/ 1179.

(14)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 495.

(15)

تفسير القرطبي: 6/ 250.

(16)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 409.

(17)

معاني القرآن: 2/ 196.

ص: 369

قال الطبري: " يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الأخرى: "هو المسيح ابن مريم"، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم، ولم يقل: ليمسنَّهم عذابٌ أليم، لأن ذلك لو قيل كذلك، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني، وهم القائلون: {الله ثالث ثلاثة}، ولم يدخل فيهم القائلون: المسيح هو الله، فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه"(1).

قال الزمخشري: " المعنى: ليمسن الذين كفروا من النصارى خاصة عذاب أليم أى نوع شديد الألم من العذاب كما تقول: أعطنى عشرين من الثياب، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون. ويجوز أن تكون للتبعيض، على معنى: ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم، لأن كثيرا منهم تابوا من النصرانية"(2).

قال البيضاوي: " أي: ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر، أو ليمسن الذين كفروا من النصارى، وضعه موضع ليمسنهم تكريرا للشهادة على كفرهم وتنبيها على أن العذاب على من دام على الكفر ولم ينقلع عنه"(3).

قال أبو السعود: " أي: وبالله إن لم ينتهوا لميسنهم وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن في قوله تعالى {منهم} بيانية أو ليمسن الذين بقوا منهم على ما كانوا عليه من الكفر فمن تبعيضية وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع من نص عيسى عليه السلام وغيره وكفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر، {عذاب أليم} أي: نوع شديد الألم من العذاب "(4).

قال ابن عطية: " ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين هذه العظيمة بمس العذاب، وذلك وعيد بعذاب الدنيا من القتل والسبي وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد منهم"(5).

الفوائد:

1 -

إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد.

2 -

إبراء عيسى ووالدته عليهما السلام من دعوى الألوهية للناس.

3 -

بيان أن عيسى عليه السلام ليس بابن الله ولا هو الله، ولا ثالث ثلاثة، بل هو عبد الله ورسوله أمه مريم، وجدته حنة، وجده عمران، من بيت شرف وصلاح في بني إسرائيل.

4 -

التحذير من الغلو، وهو تجاوز الحد وإعطاء الشيء أكثر من حقه أو الزيادة في ذمه، وحكمه لا يجوز وقد يصل إلى حد الشرك وإلى حد البدعة وإلى حد الكفر قال الله ـ تعالى ـ:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ} [النساء: 171]، وقال ـ تعالى ـ:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وأهل الكتاب المراد بهم اليهود والنصارى فاليهود غلوا وزادوا في ذم عيسى حتى وصل بهم الأمر أن جعلوه ولد بغي، والنصارى غلوا فيه مدحاً فأوصلوه إلى منزلة الألوهية وجعلوه معبوداً لهم هو وأمه وجعلوا الله ثالث ثلاثة تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً. قال ـ تعالى ـ:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73].

(1) تفسير الطبري: 10/ 482.

(2)

الكشاف: 1/ 664.

(3)

تفسير البيضاوي: 2/ 138.

(4)

تفسير أبي السعود: 3/ 67.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 222.

ص: 370

وقد أدى الغلو في الصالحين ومجاوزة الحد بهم درجتهم إلى أن عبدوا من دون الله وصار ذلك سبباً لهلاك العابدين والغالين، والغلو سبب أول شرك حصل في بني آدم كما حصل من قوم نوح فهم أول من أحدث الشرك ونوح عليه السلام أول رسول أرسل بالدعوة إلى توحيد الله والإنذار والتحذير عن الشرك.

قال ـ تعالى ـ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 1 - 3]، فاستمر قومه في كفرهم وعنادهم وتمسكهم بعباداتهم الشركية وتواصوا فيما بينهم بالبقاء على معبوداتهم:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].

قال ابن عباس: أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت " (1).

القرآن

{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74]

التفسير:

أفلا يرجع هؤلاء النصارى إلى الله تعالى، ويتوبون عمَّا قالوا، ويسألون الله تعالى المغفرة؟ والله تعالى متجاوز عن ذنوب التائبين، رحيمٌ بهم.

قوله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة: 74]، أي:" أفلا يرجع هؤلاء النصارى إلى الله تعالى، ويتوبون عمَّا قالوا، ويسألون الله تعالى المغفرة؟ "(2).

قال مكي: " المعنى: أفلا يرجعون عن قولهم ويستغفرون منه"(3).

قال الماتريدي: أي: " عن مقالتهم الشرك"(4).

قال الطبري: " أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران، القائل أحدهما: إن الله هو المسيح ابن مريم، والآخر القائل: إن الله ثالث ثلاثة، عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، ويسألان ربهما المغفرة مما قالا"(5).

قال الزمخشري: أي: " ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر. وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجب من إصرارهم"(6).

قال البيضاوي: " أي: أفلا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد"(7).

قال ابن كثير: " وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، فكل من تاب إليه تاب عليه"(8).

قال القرطبي: " تقرير وتوبيخ، أي فليتوبوا إليه وليسألوه ستر ذنوبهم، والمراد الكفرة منهم"(9).

(1) رواه البخاري (4920).

(2)

التفسير الميسر: 120.

(3)

الهداية إى بلوغ النهاية: 3/ 1814.

(4)

تفسير الماتريدي: 3/ 566.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 483 - 484.

(6)

الكشاف: 1/ 664.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 138.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 158.

(9)

تفسير القرطبي: 6/ 250.

ص: 371

قال السمرقندي: " لفظه لفظ الاستفهام والمراد به الأمر فكأنه قال: توبوا إلى الله، وكذلك كل ما يشبه هذا في القرآن، مثل قوله: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20]، يعني: اصبروا"(1).

قال السمعاني: " أرشدهم إلى التوبة والإسلام"(2).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 74]، أي:" والله تعالى متجاوز عن ذنوب التائبين، رحيمٌ بهم"(3).

قال الطبري: أي: " {والله غفور}، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم، {رحيم} بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك"(4).

قال الماتريدي: أي: " فإن فعلوا فإن الله غفور رحيم؛ كقوله - تعالى -: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] "(5).

قال الزمخشري: أي: " يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم"(6).

قال البيضاوي: " يغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا"(7).

قال ابن عطية: " وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم"(8).

الفوائد:

1 -

فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون.

2 -

أن الله واسع الرحمة عظيم المغفرة يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم ما فرط من الزلات إذا هم آمنوا وأحسنوا واتقوا وعملوا الصالحات.

3 -

أن الرجوع إلى الحق شرف وفضيلة، بل واجب وفريضة، أما التمادي في الباطل فهو ذل وهوان واستكبار عن الحق وسير في ركاب الشيطان، والله -سبحانه- يتوب على التائبين، ويغفر زلات المذنبين، إذا صدقوا في التوبة إليه، كما قال الله سبحانه:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} الآية .. وقال في حق النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه:"الإسلام يهدم ما كان قبله"(9).

4 -

ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: «الغفور» ، و «الرحيم» ؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.

فـ «الغفور» : هو الذي تكثر منه المغفرة. وبناء فعول: بناء المبالغة في الكثرة (10).

والفرق بين صيغتي: «الغفار» ، و «الغفور»: أن " «الغفار» (11)، معناه: الستار لذنوب عباده في الدنيا بأن لا يهتكهم ولا يشيدهما عليهم، ويكون معنى «الغفور»: منصرفا إلى مغفرة الذنوب في الآخرة، والتجاوز عن العقوبة فيها"(12).

(1) بحر العلوم: 1/ 409.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 55.

(3)

التفسير الميسر: 120.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 484.

(5)

تفسير الماتريدي: 3/ 566.

(6)

الكشاف: 1/ 664.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 138.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 222.

(9)

من حديث مطول أخرجه مسلم في الصحيح 1/ 112، كتاب الإيمان (1)، باب كون الإِسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (54)، الحديث (192/ 121).

(10)

انظر: شأن الدعاء: 1/ 65.

(11)

قال الخطابي: " الغفار: هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى. كلما تكررت التوبة في الذنب من العبد تكررت المغفرة. كقوله -سبحانه-: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82].

وأصل الغفر في اللغة: الستر والتغطية، ومنه قيل لجنة الرأس: المغفر، وبه سمي زئبر الثوب غفرا وذلك لأنه يستر سداه؛ فالغفار: الستار لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته. ومعنى الستر في هذا أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم ويقال: إن المغفرة مأخوذة من الغفر: وهو فيما حكاه بعض أهل اللغة نبت يداوى به الجراح، يقال إنه إذا ذر عليها دملها وأبراها". [شأن الدعاء: 1/ 52 - 53، وانظر: اللسان وتاج العروس، مادة"غفر"].

(12)

شأن الدعاء: 1/ 65.

ص: 372

و «الرحيم» : أي: ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء (1).

قال الشيخ ابن عثيمين: " «الرحيم»: أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده"(2)، وهو "صيغة مبالغة، أو صفة مشبهة من الرحمة؛ والرحمة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية الفعلية؛ فهي باعتبار أصل ثبوتها لله صفة ذاتية؛ وباعتبار تجدد من يرحمه الله صفة فعلية؛ ولهذا علقها الله سبحانه وتعالى بالمشيئة في قوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} [العنكبوت: 21]، فهي صفة حقيقية ثابتة لله عز وجل، وأهل التأويل -والأصح أن نسميهم أهل التحريف- يقولون: إن الرحمة غير حقيقية؛ وأن المراد برحمة الله إحسانه؛ أو إرادة الإحسان؛ فيفسرونها إما بالإرادة؛ وإما بالفعل؛ وهذا لا شك أنه خطأ؛ وحجتهم: أنهم يقولون: إن الرحمة رقة، ولين؛ والرقة، واللين لا تناسبان عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فنقول لهم: إن هذه الرحمة رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق فإنها تليق به سبحانه وتعالى؛ ولا تتضمن نقصاً؛ فهو ذو رحمة بالغة، وسلطان تام؛ فلا يرد بأسه عن القوم المجرمين"(3).

القرآن

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)} [المائدة: 75]

التفسير:

ما المسيح ابن مريم عليه السلام إلا رسولٌ كمن تقدمه من الرسل، وأُمُّه قد صَدَّقت تصديقًا جازمًا علمًا وعملا وهما كغيرهما من البشر يحتاجان إلى الطعام، ولا يكون إلهًا مَن يحتاج الى الطعام ليعيش. فتأمَّل -أيها الرسول- حال هؤلاء الكفار. لقد وضحنا العلاماتِ الدالةَ على وحدانيتنا، وبُطلان ما يَدَّعونه في أنبياء الله. ثم هم مع ذلك يَضِلُّون عن الحق الذي نَهديهم إليه، ثم انظر كيف يُصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟

قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75]، أي:" ما المسيح ابن مريم عليه السلام إلا رسولٌ كمن تقدمه من الرسل"(4).

قال ابن قتيبة: " أي: تقدمت قبله الرسل. يريد أنه لم يكن أول رسول أرسل فيعجب منه"(5).

قال ابن كثير: " أي: له سَويَّة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام، كما قال: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] "(6).

قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]، أي:" وأُمُّه قد صَدَّقت تصديقًا جازمًا علمًا وعملا"(7).

قال ابن كثير: " أي: مؤمنة به مصدقة له. وهذا أعلى مقاماتها فدل على أنها ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 1/ 188، وشرح أسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسنة:84.

(2)

تفسير ابن عثيمين الفاتحة والبقرة: 1/ 5.

(3)

تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 2/ 252 - 253.

(4)

التفسير الميسر: 120.

(5)

غريب القرآن: 145.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 158.

(7)

التفسير الميسر: 120.

ص: 373

أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، قالوا وهذا معنى النبوة، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمه الله، الإجماع على ذلك" (1).

قال السعدي: " {وأمه} مريم {صديقة} أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا. وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم} فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ "(2).

قال القرطبي: " وقد استدل من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية بقوله تعالى: {وأمه صديقة}. قلت: وفيه نظر، فإنه يجوز أن تكون صديقة مع كونها نبية كإدريس عليه السلام، وقد مضى في «آل عمران» (3) ما يدل على هذا. والله أعلم. وإنما قيل لها صديقة لكثرة تصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما أخبرها به، عن الحسن وغيره"(4).

قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، أي:" وهما كغيرهما من البشر يحتاجان إلى الطعام، ولا يكون إلهًا مَن يحتاج الى الطعام ليعيش"(5).

قال مقاتل: " فلو كانا إلهين ما أكلا الطعام"(6).

قال الزجاج: " أي إنما يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الآدميين، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام"(7).

قال ابن كثير: " أي: يحتاجان إلى التغذية به، وإلى خروجه منهما، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة"(8).

قال ابن قتيبة: " قوله: {كانا يأكلان الطعام} هذا من الاختصار والكناية، وإنما نبه بأكل الطعام على عاقبته وعلى ما يصير إليه وهو الحدث؛ لأن من أكل الطعام فلا بد له من أن يحدث"(9).

قال الطبري: أي: " أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا"(10).

قال الزمخشري: " لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم (11) وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام"(12).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 158 - 159.

(2)

تفسير السعدي: 239.

(3)

الآية: 42.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 251.

(5)

التفسير الميسر: 120.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 595.

(7)

معاني القرآن: 2/ 197.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 159.

(9)

غريب القرآن: 145.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 485.

(11)

قوله «وقرم» في الصحاح «القرم» بالتحريك: شدة شهوة اللحم ..

(12)

الكشاف: 1/ 665.

ص: 374

قال الجصاص: قوله: {كانا يأكلان الطعام} ، " فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء وقد قيل في معنى قوله كانا يأكلان الطعام إنه كناية عن الحدث لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه وأن ذلك ينفي كونه إلها وقديما"(1).

قال القرطبي: " وقال بعض المفسرين في قوله: {كانا يأكلان الطعام}، إنه كناية عن الغائط والبول. وفي هذا دلالة على أنهما بشران"(2).

قال السعدي: " وقوله: {كانا يأكلان الطعام} دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب، ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد"(3).

قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ} [المائدة: 75]، أي: فتأمَّل -أيها الرسول- "كيف نوضّح لهم الآيات الباهرة على بطلان ما اعتقدوه"(4).

قال ابن كثير: " أي: نوضحها ونظهرها"(5).

قال الزمخشري: " أى: الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم"(6).

قال مقاتل: " انظر يا محمد {كيف نبين لهم الآيات}، يعني: العلامات في أمر عيسى ومريم أنهم كانا يأكلان الطعام والآلهة لا تأكل الطعام"(7).

قال السعدي: " ولما بين تعالى البرهان قال: {انظر كيف نبين لهم الآيات} الموضحة للحق، الكاشفة لليقين، ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا، بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم، وذلك ظلم وعناد منهم"(8).

قال الطبري: " انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى الآيات، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم"(9).

قوله تعالى: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، أي:" ثم انظر كيف يُصرفون عن الحق بعد هذا البيان"(10).

قال ابن عباس وأبو مالك: " كيف يؤفكون؟ "(11).

قال مقاتل: " يعني: من أين يكذبون"(12).

قال الزمخشري: " يصرفون عن استماع الحق وتأمله"(13).

(1) أحكام القرىن: 4/ 107 - 108.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 251.

(3)

تفسير السعدي: 239.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 331.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 159.

(6)

الكشاف: 1/ 665.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 595.

(8)

تفسير السعدي: 239.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 485 - 486.

(10)

التفسير الميسر: 120.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6652): ص 4/ 1180.

(12)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 595.

(13)

الكشاف: 1/ 665.

ص: 375

قال الزجاج: " أي: انظر بعد البيان، من أين يصرفون عن الحق الواضح"(1).

قال ابن كثير: " أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون؟ وبأيّ قول يتمسكون؟ وإلى أيّ مذهب من الضلال يذهبون؟ "(2).

قال الشيخ عبدالعزيز بن حمد: " أي: ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون وبأي شيء يتمسكون؟ "(3).

قال الطبري: " يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟ "(4).

قال المراغي: " أي: انظر أيها السامع نظرة عقل وفكر، كيف نبين لهؤلاء النصارى الآيات والبراهين البالغة أقصى الغايات فى الوضوح على بطلان ما يدعون فى أمر المسيح ثم هم بعد ذلك يعرضون عنها، وكيف لا ينتقلون من مقدماتها إلى نتائجها، ومن مباديها إلى غاياتها، فكأنهم فقدوا عقولهم وصارت أفئدتهم هواء"(5).

قال ابن قتيبة: {أنى يؤفكون} ، " أي: يصرفون عن الحق ويعدلون. يقال: أفك الرجل عن كذا: إذا عدل عنه. وأرض مأفوكة: أي محرومة المطر والنبات. كأن ذلك عدل عنها وصرف" (6).

وأما التراخي في قوله: {ثم انظر} ، معناه:"ما بين العجبين، يعنى أنه بين لهم الآيات بيانا عجيبا، وأن إعراضهم عنها أعجب منه"(7).

الفوائد:

1 -

الآية برهان قاطع على بطلان ربوبية المسيح وأمه-عليهما سلام-.

2 -

تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام بنيتهما، ومن كان مفتقراً لا تصح ألوهيته عقلاً وشرعاً.

فإن المسيح عليه السلام لا يعدو أن يكون رسولا من رسل الله الذين خلوا من قبل. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد قال الله عنه كذلك {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].

وأن أمه- عليها السلام لا تعدو أن تكون صديقة، فهي ليست بنبية {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} .

3 -

بيان ما عليه الآلهة المزعومة من صفات النقص المنافية للألوهية، فهي إما مخلوقات محتاجة، لا قيام لها بنفسها، أو جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم، قال تعالى:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَاكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75]، وهذا من أظهر الصفات النافية للألوهية، لأن الآكل في حاجة إلى ما يدخل جوفه ليشبعه من جوع، وكذلك هو في حاجة إلى أن يخرج ما في جوفه من الفضلات ليتخلص من الأذى.

وقال: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14]، وقال ـ حكاية عن الخليل عليه السلام:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، وقال:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148].

4 -

وإذا كان القرآن الكريم قد نفى الألوهية عن المسيح عليه السلام، فقد أثبت له العبودية، كما قال تعالى {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ

(1) معاني القرآن: 2/ 197.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 159.

(3)

منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب: 1/ 370.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 486.

(5)

تفسير المراغي: 6/ 168.

(6)

غريب القرآن: 145.

(7)

الكشاف: 1/ 665.

ص: 376

مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 57 - 59]، وأخبر- سبحانه وتعالى أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو في المهد، هي الإقرار بعبوديته لله- قال تعالى {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (29) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 29 - 31]

5 -

أنه ليس من تعظيم الأنبياء الغلو فيهم ومجاوزة الحد برفعهم عن منزلة العبودية إلى منزلة الألوهية والربوبية، كما هو مذهب النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، بل غلوا في أتباعه، وادعوا فيهم العصمة، اتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صدقا أو كذبا، ولهذا قال -تعالى-:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31].

القرآن

{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)} [المائدة: 76]

التفسير:

قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفرة: كيف تشركون مع الله من لا يَقْدِرُ على ضَرِّكم، ولا على جَلْبِ نفع لكم؟ والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بأحوالهم.

قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76]، أي:" قل -أيها الرسول- لهؤلاء الكفرة: كيف تشركون مع الله من لا يَقْدِرُ على ضَرِّكم، ولا على جَلْبِ نفع لكم؟ "(1).

قال مقاتل: " قل لنصارى نجران أتعبدون من دون الله يعني عيسى ما لا يملك لكم ضرا في الدنيا ولا نفعا في الآخرة"(2).

قال النحاس: " أي: أنتم مقرون أن عيسى كان جنينا في بطن أمه لا يملك لأحد ضرا ولا نفعا"(3).

قال السمرقندي: " ثم أخبر الله تعالى عن جهلهم، وقلة عقلهم، فقال: قل يا محمد، {أتعبدون من دون الله}، يعني: عيسى، {ما لا يملك لكم} يقول: ما لا يقدر لكم، {ضرا} في الدنيا {ولا نفعا} في الآخرة: وتركتم عبادة الله"(4).

قال ابن كثير: " يقول تعالى منكرًا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان، ومبينًا له أنها لا تستحق شيئًا من الإلهية: {قُلْ} أي: يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم، ودخل في ذلك النصارى وغيرهم: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي: لا يقدر على إيصال ضرر إليكم، ولا إيجاد نفع"(5).

قال الطبري: أي: " قل، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر

(1) التفسير الميسر: 120.

(2)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 495.

(3)

إعراب القرآن: 1/ 278.

(4)

بحر العلوم: 1/ 409 - 410.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 160.

ص: 377

على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون" (1).

قال الزمخشري: " ما لا يملك هو عيسى، أى شيئا لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب، ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئا. وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية، حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا، وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته"(2).

قال السعدي: " أي: {قل} لهم أيها الرسول: {أتعبدون من دون الله} من المخلوقين الفقراء المحتاجين، {ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا} وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع"(3).

أخرج ابن ابي حاتم بسنده عن مجاهد: {ضرا ولا نفعا} ، قال:{ضرا} ، ضلالة" (4).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة: 76]، أي:" والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بأحوالهم"(5).

قال محمد بن إسحاق: " {السميع}، أي: سميع ما يقولون"(6)، {العليم} ، أي: عليم بما يخفون" (7).

قال السمرقندي: أي: " {السميع} لقولكم، {العليم} بعقوبتكم"(8).

قال الواحدي: أي: " {السميع} لكفركم {العليم} بضميركم"(9).

قال القرطبي: " أي: لم يزل سميعا عليما يملك الضر والنفع. ومن كانت هذه صفته فهو الاله على الحقيقة"(10).

قال البيضاوي: أي: " والله هو السميع العليم بالأقوال والعقائد فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر"(11).

قال السعدي: أي: " {السميع} لجميع الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، {العليم} بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة، فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة، ويخلص له الدين"(12).

قال الطبري: " والله هو السميع، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه العليم، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم"(13).

قال ابن كثير: " أي: فلم عدلتم عن إفراد السميع لأقوال عباده، العليم بكل شيء إلى عبادة جَمَاد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه"(14).

(1) تفسير الطبري: 10/ 486 - 487.

(2)

الكشاف: 1/ 665.

(3)

تفسير السعدي: 240.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم (6653): ص 4/ 1180.

(5)

التفسير الميسر: 120.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6654): ص 4/ 1180.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6655): ص 4/ 1180.

(8)

بحر العلوم: 1/ 410.

(9)

الوجيز: 330.

(10)

تفسير القرطبي: 6/ 251.

(11)

تفسير البيضاوي: 2/ 139.

(12)

تفسير السعدي: 240.

(13)

تفسير الطبري: 10/ 487.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 160.

ص: 378

قال مقاتل: " {والله هو السميع}، لقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم وثالث ثلاثة، {العليم} بمقالتهم"(1).

قال النحاس: " أي أنتم قد أقررتم أن عيسى كان في حال من الأحوال لا يسمع ولا يعلم والله جل وعز لم يزل سميعا عليما"(2).

قال الزمخشري: قوله: {والله هو السميع العليم} ، متعلق بـ {أتعبدون} ، أى: أتشركون بالله ولا تخشونه، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حى قادر" (3).

الفوائد:

1 -

ذم كل من يعبد غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعابدها ضراً ولا نفعاً، لا تسمع دعاء من يدعوها، ولا تعلم عن حاله شيئاً، والله وحده السميع لأقوال كل عباده العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم، فهو المعبود بحق وما عداه باطل.

2 -

إثبات اسمين من أسمائه تعالى، وهما:«السَّمِيعُ» ، و «الْعَلِيمُ»:

أ-فـ «السَّمِيعُ» : بمعنى السامع، إلا أنه أبلغ في الصفة، وبناء فعيل: بناء المبالغة، كقولهم: عليم: من عالم، وقدير: من قادر، وهو الذي يسمع السر والنجوى. سواء عنده الجهر، والخفوت، والنطق، والسكوت، وقد يكون السماع بمعنى القبول والإجابة.

كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع"(4)، أي: من دعاء لا يستجاب.

ومن هذا قول المصلي: "سمع الله لمن حمده"(5)، معناه: قبل الله حمد من حمده.

وأنشد أبو زيد لشتير بن الحارث الضبي (6):

دعوت الله حتى خفت ألا

يكون الله يسمع ما أقول

أي: لا يجيب، ولا يقبل (7).

و{السَّمِيعُ} له معنيان

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 4955 - 496.

(2)

إعراب القرآن: 1/ 278.

(3)

الكشاف: 1/ 665.

(4)

. هذا طرف حديث رواه ابن حبان في صحيحه برقم 2440 موارد، والنسائي 8/ 264، والإمام أحمد 3/ 192، 255، 383، والخطابي في غريب الحديث 1/ 342 من حديث أنس وانظر الكنز 2/ 201.

(5)

أخرجه البخاري بشرح الفتح برقم 690، 722، 732، 735، 736، 738، 739، 788، 795، 796، 797، 799، وفيه:"ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه" وبرقم 3203، 3228، 4069، 4560، 4598.

ومسلم صلاة برقم (25)، (28)، (54)، (62)، (63)، (71)، (77)، (86)، (88)، (89)، (196)، (198)، (199)، (202)، وفيه:"اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعده". وكذلك روايته برقم (203) وكتاب صلاة المسافرين برقم (202)، (203)، والنسائي (افتتاح) 2/ 195، 196، 197، 198، 199، 201، 202، 211. وابن ماجه برقم 862، 875، 876، 877، 878، 879، 1061، 1238، 1239. وغيرهم.

(6)

أنشده الطبري في تفسيره، 5/ 6 - 528، وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 144، والقرطبي 2/ 31، وفي الخزانة 2/ 363، مطلع قصيدة من سبعة أبيات في الشاهد السادس والستين بعد الثلاثمائة منسوبا إلى شمير بن الحارث الضبي. وقال: شمير، بضم الشين المعجمة وفتح الميم وآخره راء مهملة، هكذا ضبطه أبو زيد. وقال الأخفش -فيما كتبه عليه- الذي في حفظي سمير -بالسين المهملة وكذا ضبطه الصاغاني في العباب بالمهملة- وقال: هو شاعر جاهلي والله أعلم. اهـ وفي نوادر أبي زيد ص 124 مع ستة أبيات أخرى. وفي أمالي المرتضى 1/ 603، وفي اللسان (سمع) ولم ينسبه. وأنشده الخطابي في غريب الحديث 1/ 342، والزمخشري في الفائق 1/ 612 كما هنا، إلى شتير. وانظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 42.

(7)

انظر: شأن الدعاء للخطابي: 59 - 60.

ص: 379

أحدهما: بمعنى المجيب. ومثالهقوله تعالى عن إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، أي: لمجيب الدعاء.

والثاني: بمعنى السامع للصو، وهو ينقسم إلى عدة أقسام:

الأول: سمع يراد به بيان عموم إدراك سمع الله عز وجل، وأنه ما من صوت إلا ويسمعه الله، وهو من الصفات الذاتية، وإن كان المسموع قد يكون حادثاً، ومثاله: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، فهذا فيه بيان إحاطة سمع الله تعالى بكل مسموع، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني لفي الحجرة، وإن حديثها ليخفى على بعضه"(1).

الثاني: سمع يراد به النصر والتأييد، وهو من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب، ومثاله: قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].

الثالث: سمع يراد به الوعيد والتهديد، ومثاله: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، فإن هذا يراد به تهديدهم ووعيدهم، حيث كانوا يسرون ما لا يرضى من القول (2).

ب-وأما «الْعَلِيمُ» : : فهو من أسمائه عز وجل، والْعِلْمُ صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عز وجل، فهو سبحانه «العليم» المحيط علمه بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (3).

قال الخطابي: " «العليم»: هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق. كقوله تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} [لقمان: 23]. وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم، ولذلك قال -سبحانه-: {وفوق كل ذي علم عليم} [يوسف: 76]. والآدميون -وإن كانوا يوصفون بالعلم- فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات، دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فيخلف علمهم الجهل، ويعقب ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالما بالفقه غير عالم بالنحو وعالما بهما غير عالم بالحساب وبالطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله -سبحانه- علم حقيقة، وكمال {قد أحاط بكل شيء علما} [الطلاق: 12]، {وأحصى كل شيء عددا} [الجن: 28] "(4).

القرآن

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} [المائدة: 77]

التفسير:

قل -أيها الرسول- للنصارى: لا تتجاوزوا الحقَّ فيما تعتقدونه من أمر المسيح، ولا تتبعوا أهواءكم، كما اتَّبع اليهود أهواءهم في أمر الدين، فوقعوا في الضلال، وحملوا كثيرًا من الناس على الكفر بالله، وخرجوا عن طريق الاستقامة إلى طريق الغَواية والضلال.

قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77]، أي:" قل -أيها الرسول- للنصارى: لا تتجاوزوا الحقَّ فيما تعتقدونه من أمر المسيح"(5).

قال الاحدي: " أي: في عيسى"(6).

(1) رواه البخاري معلقاً"الفتح"(131/ 372) في كتاب التوحيد/ باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} . وقد وصله الإمام أحمد في "المسند"(6/ 46)، وابن كثير 4/ 286 ، وابن ماجة بهذا اللفظ، ورواه ايضاً لفظ "تبارك"(2063).

(2)

انظر: شرح العقيدة الواسطية، ابن عثيمين: 1/ 206 - 207.

(3)

انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين: 1/ 188.

(4)

شأن الدعاء: 57.

(5)

التفسير الميسر: 240.

(6)

التفسير البسيط: 7/ 488.

ص: 380

قال قتادة: " {لا تغلوا في دينكم}، يقول: لا تبتدعوا"(1).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "الغلو فراق الحق وكان مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولدا"(2).

قال السعدي: " أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل، وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم، وكغلوهم في بعض المشايخ"(3).

قال الطبري: " يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: هو الله، أو: هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"(4).

قال صاحب الكشاف: " أى: لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق، أى: غلوا باطلا"(5).

قال ابن عطية: " أمر تعالى نبيه محمدا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله لا تغلوا بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب غير وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه"(6).

قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 77]، أي:" ولا تتبعوا أهواءكم، كما اتَّبع اليهود أهواءهم في أمر الدين، فوقعوا في الضلال"(7).

قال السعدي: " أي: تقدم ضلالهم"(8).

قال الطبري: " يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا: هو لغير رَشْدة، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها بالفرية وهي صدِّيقة"(9).

قال الواحدي: " ويعني بـ {القوم الذين ضلوا من قبل}: رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى"(10).

قال الزمخشري: " هم أئمتهم في النصرانية، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم"(11).

قال الزجاج: " «أهواء»: جمع هوى، وهوى النفس مقمبور لأنه مثل الفرق وفعل جمعه أفعال، وتأويله لا تتبعوا شهواتهم لأنهم آثروا الشهوات على البيان والبرهان، وما في القرآن من ذكر اتباع الهوى مذموم نحو قوله: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16]، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] "(12).

قال الواحدي: "ومعنى «الأهواء» هنا: المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة، وقد يشق على الإنسان النظر ويميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده فيكون ذلك هوى، قال

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6656): ص 4/ 1180.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6657): ص 4/ 1180.

(3)

تفسير السعدي: 240.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 487.

(5)

.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 223.

(7)

التفسير الميسر: 240.

(8)

تفسير السعدي: 240.

(9)

تفسير الطبري: 10/ 487 - 488.

(10)

التفسير البسيط: 7/ 488 - 489.

(11)

.

(12)

معاني القرآن: 2/ 197.

ص: 381

الشعبي: ما ذكر الله تعالى هوى في القرآن إلا ذمَّهُ كقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} [ص: 26]{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه: 16]{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، ومثله كثير" (1).

قال أبو عبيد: "لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال في الخير: يريد ويحب، وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، وقيل: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار"(2).

وأنشدوا في ذم الهوى (3):

إنَّ الهوانَ هو الهوَى نقضُ اسمهِ

فإذا هويتَ فقدْ لقيتَ هوانَا

وقال مضر القاضي: "لنحت الجبال بالأظافير حتى تتقطع الأوصال، أهون من مخالفة الهوى إذا تمكن في النفوس"(4).

وسئل ابن المقفع عن الهوى، فقال:"هوان سرقت نونه"(5)، فنظمه الشاعر (6):

نون الهوان من الهوى مسروقة

فإذا هويت فقد لقيت هوانا

وقال آخر (7):

إن الهوى لهو الهوان بعينه

فإذا هويت فقد كسبت هوانا

وإذا هويت فقد تعبدك الهوى

فاخضع لحبك كائنا من كانا

وقال عبد الله المبرك (8):

ومن البلاء للبلاء علامة

أن لا يرى لك عن هواك نزوع

وقال أبو العتاهية (9):

فاعص هوى النفس ولا ترضها

إنك إن أسخطتها زانكا

حتى متى تطلب مرضاتها

وإنها تطلب عدوانكا

وقال أبو عبيد الطوسي (10):

والنفس إن أعطيتها مناها

فاغرة نحو هواها فاها

وسئل سهل بن عبد الله التستري عن الهوى فقال للسائل: "هواك يأمرك فإن خالفته فرط بك، وقال: إذا عرض لك أمران شككت خيرها فانظر أبعدهما من هواك فإنه"(11).

وأنشد أبو بكر الزيدي (12):

إذا طالبتك النفس يوما بشهوة

وكان إليها للخلاف طريق

فدعها وخالف ما هويت فإنما

هواك عدو والخلاف صديق

وقال رجل لابن عباس: "الحمد لله الذي هواي على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة"(13).

(1) التفسير البسيط: 7/ 489، ولم أقف عليه عن الشعبي، معناه في "معاني القرآن" للنحاس 2/ 346.

(2)

ذكره الواحدي في التفسير االبسيط: 7/ 488، ولم أقف عليه ..

(3)

البيت لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر في التمثيل والمحاضرة ص 103 ورواية صدره فيه:

نونُ الهوانِ من الهوى مسروقةٌ.

(4)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 362.

(5)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 362، وتفسير القرطبي: 16/ 168، والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص 103.

(6)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 362، وتفسير القرطبي: 16/ 168، والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص 103.

(7)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 362، وتفسير القرطبي: 16/ 168.

(8)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 363، وتفسير القرطبي: 16/ 168.

(9)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 363، وتفسير القرطبي: 16/ 168.

(10)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 363، وتفسير القرطبي: 16/ 168.

(11)

تفسير الثعلبي: 8/ 363.

(12)

انظر: تفسير الثعلبي: 8/ 363، وتفسير القرطبي: 16/ 168.

(13)

ذكره الواحدي في التفسير االبسيط: 7/ 488، ولم أقف عليه ..

ص: 382

وفي توجيه الخطاب في قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 77]، قولان:

أحدهما: أنها خطاب لليهود والنصارى لذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم، وأن يقلدوهم فيما هووا. قاله الواحدي (1).

والثاني: وقال الحسن (2)، ومجاهد (3):{الذين ضلوا من قبل} هم اليهود، وعلى هذا الخطاب للنصارى فقط، يقول: لا تؤثروا الشهوات على البيان كما فعلت اليهود حين كذبوا الرسل ونقضوا العهد، والمراد بالنهي عن اتباع اهوائهم: النهي عن اتباع أهواء مثل أهوائهم في التكذيب والمخالفة على الرسل.

قال الواحدي: "ففي القول الأول وقع النهي على اتباع غير ما هووا، وفي هذا الثاني وقع النهي على اتباع مثل أهوائهم، والتقدير في اللفظ: لا تتبعوا مثل أهواء قوم، أي أهواء مثل أهوائهم، ثم حذف الأهواء الأول وأقيم الثاني مقامه؛ لأنه هوى مثله. والأول أظهر"(4).

قال ابن عطية: " وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله"(5).

قوله تعالى: {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} [المائدة: 77]، أي:" وحملوا كثيرًا من الناس على الكفر بالله"(6).

قال السدي: " {وأضلوا كثيرا}، أتباعهم"(7).

قال السعدي: "من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه"(8).

قال الزمخشري: أي: " ممن شايعهم على التثليث"(9).

قال الطبري: أي: " وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح"(10).

عن السدي: {لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا} ، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم" (11).

قوله تعالى: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، أي:" وخرجوا عن طريق الاستقامة إلى طريق الغَواية والضلال"(12).

عن مجاهد في قول الله: " {وضلوا عن سواء السبيل}، قال: هم يهود"(13).

قال السدي: " {عن سواء السبيل}، عن عَدْل السبيل"(14).

(1) انظر: التفسير البسيط: 7/ 489.

(2)

انظر: التفسير البسيط للواحدي: 7/ 489، ولم أقف عليه.

(3)

أخرجه عنه الطبري (12296): ص 10/ 488، وانظر:"زاد المسير" 2/ 405.

(4)

التفسير البسيط: 7/ 489.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 223.

(6)

التفسير الميسر: 240.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6658): ص 4/ 1181.

(8)

تفسير السعدي: 240.

(9)

.

(10)

تفسير الطبري: 10/ 488.

(11)

أخرجه الطبري (12297): ص 10/ 488.

(12)

التفسير الميسر: 240.

(13)

أخرجه الطبري (12296): ص 10/ 488، وابن ابي حاتم (659): ص 4/ 1181.

(14)

أخرجه الطبري (12297): ص 10/ 488.

ص: 383

قال الزمخشري: " وضلوا لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سواء السبيل حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه"(1).

قال الطبري: أي: " يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق"(2).

قال السعدي: " أي: قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة"(3).

قال الربيع بن أنس قال: "وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زمانا فأتاه الشيطان فقال: إنما تركب أثرا أو أمرا قد عمل به قبلك فلا تحمد عليه ولكن إبتدع أمرا من قبل نفسك وادع إليه وأجبر الناس عليه ففعل، ثم تذكر من بعد فعله زمانا، فأراد أن يتوب، فخلع سلطانه وملكه، وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أياما، فأتي فقيل له: لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سبيلك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة. فكيف لك بهداهم، فلا توبة لك أبدا، ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل"(4).

الفوائد:

1 -

حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء.

2 -

أن الله تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو في الدين من طريقيه: في التوحيد، وفي العمل.

فغلوهم في التوحيد نسبتهم له الولد سبحانه، وغلوهم في العمل ما ابتدعوه من الرهبانية في التحليل والتحريم والعبادة والتكليف. وقال صلى الله عليه وسلم:«لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (5). وهذا صحيح لا كلام فيه (6).

وقد ثبت في الصحاح «أن الحولاء بنت تويت، مرت على عائشة وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقلت: يا رسول الله، هذه الحولاء، وزعموا أنها لا تنام الليل؟ فقال: لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا» (7).

3 -

ومنها ان اتباع الهوى مفسدة للدين والدنيا، وإذا كان لكل نفس هوى وشهوه، فان العاقل يحترس من الهوى. لأن العقل والهوى متعاديان، فإذا كان الهوى عدو العقل وآفته وجب على الإنسان أن يتجرد من الهوى، فالإنسان إذا اتبع الهوى نسي الله، وضل عن سبيل الرشاد، ولهذا قيل:"الهوى شريك العمى"، و"كم من عقل أسير في يدي هوى أمير"، ولهذا نهى الله عن الهوى فقال جل شأنه:{وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وفي الحديث:"ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ"(8).

(1).

(2)

تفسير الطبري: 10/ 488.

(3)

تفسير السعدي: 240.

(4)

اخرجه ابن ابي حاتم: 4/ 1180 - 1181.

(5)

أخرجه أحمد 5/ 218، حديث رقم 22242؛ وأخرجه الترمذي ص 1871، كتاب الفتن، باب 18: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، حديث رقم 2180؛ وأخرجه ابن حبان في صحيحه 8/ 248، باب: ذكر الأخبار عن اتباع هذه الأمة سنن من قبلهم من الأمم، حديث رقم 6667، وقال الألباني في صحيح الترمذي: صحيح 2/ 235، حديث رقم 1771.

(6)

انظر: أحكام القرآن لابن عربي: 2/! 41.

(7)

أخرجه أحمد (26095): ص 43/ 202، وعبد بن حميد (1485)، وأبو عوانة 2/ 298 - 299، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 65 من طريق عثمان بن عمر إسناده صحيح.

وأخرجه مسلم (785)(220)، وابن حبان (2586)، والبيهقي 3/ 17 من طريق ابن وهب.

وأخرجه الطبراني في "الشاميين"(1753) من طريق عبد الله بن سالم.

(8)

أخرجه الطبراني في الأوسط ج 5 ص 328 حديث (5452).

ص: 384

وقد روي أن لقمان عليه السلام قال لابنه: "يا بني أول ما أحذرك من نفسك فان لكل نفس هوى وشهوه فان أعطيتها شهوتها تمادت وطلبت سواها فان الشهوة كامنة في القلب كمون النار في الحجر إن قدح أورى وإن ترك توارى"(1)، قال الشاعر (2):

إذا ما أجبت النفس في كل دعوة

دعتك إلى الأمر القبيح المحرم

فلا تغتر أخي بترفع بعض مطيعي الهوى في هذه الحياة فان الهوى يردي اللبيب، وقد نسب إلى الفضل بن العباس انه قال (3):

لقد ترفع الأيام من كان جاهلاً

ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب

وقد تحمد الناس الفتى وهو مخطئ

ويعذل في الإحسان وهو مصيب

ومن مفاسد إتباع الهوى (4):

أولا: - إن اتباع الهوى ـ وهو "ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الشرع"، خلاف مقصود الشرع؛ لأن "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلَّف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً"(5).

ثانيا: - أن صاحب الهوى لا حكَمَةَ له ولا زمام، ولا قائد له ولا إمام، إلهه هواه، حيثما تولت مراكبه تولى، وأينما سارت ركائبه سار، فآراؤه العلمية، وفتاواه الفقهية، ومواقفه العملية، تبع لهواه، فدخل تحت قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23}.

قال عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام: "ما ابتدع رجل بدعة إلا أتى غداً بما ينكره اليوم"(6).

وقال عبد الله بن عون البصري: "إذا غلب الهوى على القلب، استحسن الرجل ما كان يستقبحه"(7).

ثالثا: - أن صاحب الهوى ليس له معايير ضابطة، ولا مقاييس ثابتة، يردُّ الدليل إذا خالف هواه لأدنى احتمال، ويستدل به على ما فيه من إشكال أو إجمال، وإذا لم يستطع ردَّ الدليل لقوته، حمله على غير وجهه، وصرفه عن ظاهره إلى احتمال مرجوح بغير دليل.

قال شيخ الإسلام: "والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون: نفوّض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم"(8).

(1) انظر: مكاشفة القلوب، للغزالي: 340، والخلق الكامل، محمد جاد المولى: ص 4/ 303.

(2)

البيت من شواهد الغززالي في مكاشفة القلوب: 340.

(3)

وردت هذه الأبيات في مكاشفة القلوب: 341، منسوبه للفضل بن العباس، ووردت ضمن أبيات للأخضر اللهبي مع اختلاف في بعض الألفاظ وهي ضمن ديوانه ورددت بلفظ:

وقد يحكم الأيام من كان جاهلاً

ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيبُ

ويحمد في الأمر وهو مخطىء

ويعذل في الإحسان وهو مصيب.

(4)

للشيخ الدكتور إبراهيم بن عبدالله الزهراني، شبكة القلم الفكرية.

(5)

الموافقات، الشاطبي: 2/ 469.

.

(6)

الشرح والإبانة على أصول السنَّة والديانة؛ ابن بطة، تحقيق: الدكتور رضا بن نعسان معطي، المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى، 1423 هـ، ص 148، برقم 83 ..

(7)

الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة، تقديم وضبط: كمال الحوت، المدينة المنورة: مكتبة الزمان، ط 1، 1409 هـ، 3/ 45.

(8)

مجموع الفتاوى: 8/ 66.

ص: 385

رابعا: -أن صاحب الهوى ـ إذا كان عنده شيء من العلم الشرعي ـ مفزع كل مفترٍ، ومأوى كل مبطلٍ، ومستشار كل طاغٍ، وفتنة كل جاهل، بما يسوغه لهم من الآراء الباطلة، ويسوقه لهم من الأدلة الزائفة، ويلبس عليهم به من الشبه الصارفة.

قال الحسن البصري: "شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل؛ ليعموا بها عباد الله"(1).

خامسا: - أن صاحب الهوى تسهل استمالته من قبل أعداء الأمة، والمتربصين بها الدوائر، فسرعان ما يرتد خنجراً في خاصرة الأمة، وسوطاً يلهبُ ظهرَها، وعيناً يكشف سرها، ويبدي سوأتها، ويهتك سترها، داعيةً لتثبيط العزائم، إماماً لكل متهتك وخائن.

سادسا: - أن صاحب الهوى مفرق لجماعة المسلمين، مبتغٍ لهم العنت والمشقة، الطعن في الصالحين ديدنه، والهمز واللمز دأبه، والحسد طبعه.

تراه معتزلاً كل من يخالف هواه، وإن كان أهدى سبيلا، مقرباً لكل من هو على شاكلته وإن كان للشيطان قبيلا.

قال سعيد بن عنبسة: "ما ابتدع رجل بدعة إلا غلَّ صدرُه على المسلمين، واختلجتْ منه الأمانة"(2)، وذلك لأن "جميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان، وهما العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن التحابّ والتآلف إنما هو بالإيمان، والعمل الصالح كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم: 96]، أي: يلقي بينهم المحبة، فيحب بعضهم بعضا، فيتراحمون، ويتعاطفون، بما جعل الله لبعضهم في قلوب بعض من المحبة".

وكان ابن طاووس جالسا فجاء رجل من المعتزلة، قال:"فجعل يتكلم، قال: فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه قال: وقال لابنه: أي بني، أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئاً. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف"(3).

وعن ابن عمر- رضي الله عنهما: أنه جاءه رجل فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام، قال: بلغني أنه قد أحدث، فإن كان أحدث فلا تقرأ عليه السلام" (4).

وقال الشوكاني في تفسيره لقول الله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا

}، الآية [الأنعام: 68]: "وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتمسح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة، وبدعهم الفاسدة. فإنه إذا لم يُنْكِر عليهم ويُغَيِّر ما هم فيه، فَأَقَلُّ الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير غير عسير. وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهةً يشبهون بها على العامة، فيكون حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر"(5).

وقال البغوي رحمه الله: "فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتا"(6).

وقال ـ الإمام أحمد ـ في رسالته إلى مسدد: "ولا تشاور صاحب بدعة في دينك، ولا ترافقه في سفرك"(7).

وقال إبراهيم النَخعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء، فإنَّ مجالستهم تذهب بنور الإيمان، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغيضة في قلوب المؤمنين"(8).

(1) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، ابن رجب: 102، وتفسير ابن رجب: 1/ 457.

(2)

أخرجه ابن بطة في الشرح والإبانة ص 152.

(3)

أخرجه اللالكائي 1/ 152.

(4)

أخرجه الدارمي 1/ 68.

(5)

فتح القدير 2/ 128.

(6)

شرح السنة 1/ 224.

(7)

الآداب الشرعية: 3/ 578.

(8)

الإبانة: (375): ص 1/ 137.

ص: 386

القرآن

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)} [المائدة: 78]

التفسير:

يخبر تعالى أنه طرد من رحمته الكافرين من بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله على داود عليه السلام وهو الزَّبور، وفي الكتاب الذي أنزله على عيسى عليه السلام وهو الإنجيل; بسبب عصيانهم واعتدائهم على حرمات الله.

قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78]، أي:" طرد الله من رحمته الكافرين من بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله على داود عليه السلام وهو الزَّبور، وفي الكتاب الذي أنزله على عيسى عليه السلام وهو الإنجيل "(1).

قال السعدي: " أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله، : {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، أي: بشهادتهما وإقرارهما، بأن الحجة قد قامت عليهم، وعاندوها "(2).

قال ابن كثير: " يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل، فيما أنزل على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى ابن مريم"(3).

قال السمعاني: " الذين لعنوا على لسان داود: هم أصحاب السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى: أصحاب المائدة، وأولئك الذين جعلهم الله قردة، وهؤلاء الذين جعلهم الله خنازير"(4).

قال ابن عطية: " قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهدا في وقت نزول القرآن، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاما بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام"(5).

قال الراغب: " إن قيل: على أي وجه لعنوا على ألسنتهما؟ ، قيل في ذلك أوجه:

الأول: أنهم فعلوا ما استحقوا به اللعن، فلعناهم بأسمائهم، وذلك راجع إلى آبائهم.

الثاني: أنهما قالا: من لم يفعل كذا فلعنة الله عليه، فعصو، فصاروا ملعونين من هذا الوجه.

الثالث: أن الله تعالى لما أنزل على كل واحد منهما كتابا اقتضى أن من خالفه فهو ملعون، فخالف هؤلاء، فصاروا من هذا الوجه ملعونين" (6).

عن ابن عباس: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود} ، يعني: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود" (7).

وفي رواية اخرى عن ابن عباس أيضا: " لعنوا بكل لسان على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن"(8).

(1) التفسير الميسر: 121.

(2)

تفسير السعدي: 240.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 160.

(4)

تفسير السمعاني: 2/ 56.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 223.

(6)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 416 - 417.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6662): ص 4/ 1181 - 1182.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6663): ص 4/ 1182.

ص: 387

وعن ابن عباس أيضا: " خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم"(1).

قال مجاهد (2)، وقتادة (3)، وأبو مالك الغفاري (4):" يقول: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى بن مريم فصاروا خنازير"(5).

قال ابن عطية: "وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه"(6).

وعن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"قوله: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل}، بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن قال ابن جريج: وقال آخرون: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود، على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير. قال: اللهم اجعلهم خنازير! فكانوا خنازير. قال: ثم أصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال: اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين! "(7).

قال عبدالله بن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعزيرا، فإذا كان من الغد يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه- وفي حديث هارون وشريبه ثم اتفقا في المتن. فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتأخذن على يدي المسيء ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم"(8).

عن أبي عبيدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقصُ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه، فإذا كان الغدُ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ونزل فيهم القرآن فقال: لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم حتى بلغ ولكن كثيًرا منهم فاسقون، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، وقال: لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا "(9).

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]، أي: ذلك اللعن" بسبب عصيانهم واعتدائهم على حرمات الله"(10).

قال الزجاج: " أي: ذلك اللعن بمعصيتهم واعتدائهم"(11).

قال السعدي: أي: " {ذلك} الكفر واللعن بعصيانهم لله، وظلمهم لعباد الله، صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة الله، فإن للذنوب والظلم عقوبات"(12).

(1) أخرجه الطبري (12300): ص 10/ 489 - 490.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12301): ص 10/ 490.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12303): ص 10/ 490.

(4)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6664): ص 4/ 1182. واللفظ له.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6664): ص 4/ 1182.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 224

(7)

أخرجه الطبري (12302): ص 10/ 490.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6661): ص 4/ 1181، والترمذي كتاب التفسير رقم 3047 5/ 235، أبو داود كتاب الملاحم رقم 4337.

(9)

أخرجه الطبري (12309): ص 10/ 493 - 494.

(10)

التفسير الميسر: 121.

(11)

معاني القرآن: 2/! 98.

(12)

تفسير السعدي: 240.

ص: 388

قال ابن كثير: " بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه"(1).

قال الطبري: أي: " بما عصوا الله فخالفوا أمره وكانوا يعتدون، يقول: وكانوا يتجاوزون حدودَه"(2).

قال الراغب: " الاعتداء والتعدي والعدوان خروج عما حد ورسم"(3).

قال قتادة: " اجتنبوا المعصية والعرفان فإن بنا ملك من ملك قبلكم من الناس"(4).

الفوائد:

1 -

العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران.

2 -

التحذير من التغيير للحق والتبديل لأنه من التشبه بأعداء الله تعالى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد جاء الذم البليغ والوعيد الشديد على ذلك كما في الآية.

القرآن

{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)} [المائدة: 79]

التفسير:

كان هؤلاء اليهود يُجاهرون بالمعاصي ويرضونها، ولا يَنْهى بعضُهم بعضًا عن أيِّ منكر فعلوه، وهذا من أفعالهم السيئة، وبه استحقوا أن يُطْرَدُوا من رحمة الله تعالى.

قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]، أي:" كان هؤلاء اليهود يُجاهرون بالمعاصي ويرضونها، ولا يَنْهى بعضُهم بعضًا عن أيِّ منكر فعلوه"(5).

قال ابن جريج: " لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر"(6).

قال الجصاص: " معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر"(7).

قال الطبري: " كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضًا، ويعني بـ «المنكر»: المعاصي التي كانوا يعصون الله بها"(8).

قال السعدي: " أي: كانوا يفعلون المنكر، ولا ينهى بعضهم بعضا، فيشترك بذلك المباشر، وغيره الذي سكت عن النهي عن المنكر مع قدرته على ذلك، وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله، وأن معصيته خفيفة عليهم، فلو كان لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه، ولغضبوا لغضبه"(9).

قال ابن عطية: " ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله يتناهون وفعلوه يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي"(10).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 160.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 495.

(3)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 416.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6665): ص 4/ 1182.

(5)

التفسير الميسر: 121.

(6)

أخرجه الطبري (12313): ص 10/ 496.

(7)

أحكام القرآن: 4/ 108.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 496.

(9)

تفسير السعدي: 240.

(10)

المحرر الوجيز: 2/ 224

ص: 389

قال السمعاني: " التناهي: تفاعل من النهي، والمنكر: كل ما أنكره الشرع"(1).

قال الراغب: " التناهى: أن ينهى بعضهم بعضا، والانتهاء الانزجار، وهو أبلغ من الانتهاء والمعنى لم يكونوا ينتهون، ولا يتناهون عن القبح الذي أناطوه"(2).

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " كانت معصيتهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"(3).

عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:"لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقَى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنزل فيهم كتابًا: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَّكئًا، فجلس وقال: كلا والذى نفسي بيده، حتى تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا "(4).

قال الجصاص: " قال أبو بكر في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر وأنه لا يكتفى منهم بالنهي دون الهجران"(5).

قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]، أي:": لبئس الفعل كانوا يفعلون"(6).

قال الزجاج: " أي: لبئس سيئا فعلهم"(7).

قال الطبري: " وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول: أقسم: لبئس الفعل كانوا يفعلون، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله"(8).

قال الزمخشري: قوله {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} : " للتعجيب من سوء فعلهم، مؤكدا لذلك بالقسم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهى عن المناكير، وقلة عبثهم به، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب. فان قلت: كيف وقع ترك التناهى عن المنكر تفسيرا للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أن الله تعالى أمر بالتناهى، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء، لأن في التناهى حسبما للفساد فكان تركه على عكسه. فإن قلت: ما معنى وصف المنكر بفعلوه، ولا يكون النهى بعد الفعل؟

قلت: معناه لا يتناهون عن منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوى وتهيأ فتنكر. ويجوز أن يراد: لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله. يقال: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه" (9).

الفوائد:

1 -

حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع.

2 -

إن السكوت عن المنكر -مع القدرة- موجب للعقوبة، لما فيه من المفاسد العظيمة (10):

- منها: أن مجرد السكوت، فعل معصية، وإن لم يباشرها الساكت. فإنه -كما يجب اجتناب المعصية- فإنه يجب الإنكار على من فعل المعصية.

- ومنها: ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي، وقلة الاكتراث بها.

(1) تفسير السمعاني: 2/ 56.

(2)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 417 - 418.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6666): ص 4/ 1182.

(4)

أخرجه الطبري (12307): ص 10/ 492.

(5)

أحكام القرآن: 4/ 108.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 496.

(7)

معاني القرآن: 2/ 199.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 496.

(9)

الكشاف: 1/ 667.

(10)

انظر: تفسير السعدي: 240.

ص: 390

- ومنها: أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الإكثار من المعاصي إذا لم يردعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، ويكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أولا.

- ومنها: أن - في ترك الإنكار للمنكر- يندرس العلم، ويكثر الجهل، فإن المعصية- مع تكررها وصدورها من كثير من الأشخاص، وعدم إنكار أهل الدين والعلم لها - يظن أنها ليست بمعصية، وربما ظن الجاهل أنها عبادة مستحسنة، وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حرم الله حلالا؟ وانقلاب الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟ "

- ومنها: أن السكوت على معصية العاصين، ربما تزينت المعصية في صدور الناس، واقتدى بعضهم ببعض، فالإنسان مولع بالاقتداء بأضرابه وبني جنسه، ومنها ومنها.

فلما كان السكوت عن الإنكار بهذه المثابة، نص الله تعالى أن بني إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم، وخص من ذلك هذا المنكر العظيم.

3 -

دلت هذه الآية على المذهب الصحيح الأشعرى، من أن متعلق النهي فعل وهو الترك، خلافا لأبى هاشم المعتزلي في قوله «إن متعلقه نفى محض وعدم صرف» (1)، ووجه دلالة الآية على أن متعلقه فعل، أنه عبر عن ترك التناهى الذي وقع توبيخهم عليه بالفعل، حيث قال:{لبئس ما كانوا يفعلون} ، أى: لبئس الترك للتناهي فعلا، كما تقول: زيد بئس الرجل، فتجعل الرجل واقعا على زيد.

وقد سمى تركهم للنهى عن المنكر في الآية السالفة قبل هذه صنعا، فقال:{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} إلى قوله: {لبئس ما كانوا يصنعون} وذلك أبلغ في الدلالة على أن متعلق النهى أمر ثابت، إذ «الصنع» أمكن من الفعل في الدلالة على الإثبات (2).

القرآن

{تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة: 80]

التفسير:

تَرَى -أيها الرسول- كثيرًا من هؤلاء اليهود يتخذون المشركين أولياء لهم، ساء ما عملوه من الموالاة التي كانت سببًا في غضب الله عليهم، وخلودهم في عذاب الله يوم القيامة.

قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 80]، أي:" تَرَى -أيها الرسول- كثيرًا من هؤلاء اليهود يتخذون المشركين أولياء لهم"(3).

قال مكي: " المعنى: ترى يا محمد كثيراً من اليهود يوالون المشركين من عبدة الأوثان ويعادون أولياء الله"(4).

قال الواحدي: " أي: من اليهود يتولون كفار مكة، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم –"(5).

قال الزمخشري: " هم منافقو أهل الكتاب، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم"(6).

قال ابن عطية: " {ترى كثيرا} ، يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى

(1) انظر: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف: 1/ 667، الهامش (1).

(2)

انظر: الانتصاف فيما تضمنه الكشاف: 1/ 667، الهامش (1).

(3)

التفسير الميسر: 121.

(4)

الهداية غلى بلوغ النهاية: 3/ 1823.

(5)

البتفسير البسيط: 7/ 491 - 492.

(6)

الكشاف: 1/ 667.

ص: 391

الله عليه وسلم لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم" (1).

وفي عود الضمير في قوله تعالى: {كثيرا مِنْهُمْ} [المائدة: 80]، ثلاثة وجوه:

أحدهما: أن الضمير في {منهم} راجع إلى اليهود، وهم كعب بن الأشرف وأصحابه، يتولون كفار قريش حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم حكاه الجصاص عن الحسن وغيره (2)، وبه قال مقاتل (3).

والثاني: أنه راجع إلى أهل الكتاب، {والذين كفروا} هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته (4).

والثالث: أنه راجع إلى المنافقين، يتولون الذين كفروا، يعني: اليهود. وهذا قول ابن عباس (5)، ومجاهد (6)، والحسن (7)، والكلبي (8).

قال الواحدي: "وهذا القول يؤكده ما بعد هذه الآية"(9).

قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 80]، أي:" ساء ما عملوه من الموالاة التي كانت سببًا في غضب الله عليهم"(10).

عن ابن عباس: {لبئس ما قدمت لهم أنفسهم} ، قال: أمرتهم" (11).

قال السمرقندي: " معناه: لبئس الفعل الذي كانوا يستوجبون به السخط من الله تعالى ويوجب لهم العقوبة والعذاب"(12).

قال ابن الجوزي: " أي: بئسما قدموا لمعادهم أن سخط الله عليهم"(13).

قال الطبري: " أُقسم: لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة {أنْ سخط الله عليهم}، يقول: قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا"(14).

قال ابن كثير: " يعني: بذلك موالاتهم للكافرين، وتركهم موالاة المؤمنين، التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم؛ ولهذا قال: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}، فسر بذلك ما ذمهم به"(15).

ويحتمل قوله تعالى: : {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 80]، وجهين (16):

أحدهما: يعني: من اليهود: {يتولون الذين كفروا} ، من مشركي العرب وغيرهم، كانوا يظاهرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويعاونون عليهم، وقد كان من الفريقين جميعا ذلك.

والثاني: أن قوله: {ترى كثيرا منهم} ، أي: من هؤلاء الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولون الذين كفروا، يعني: أسلافهم ورؤساءهم؛ كقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي

(1) المحرر الوجيز: 2/ 224.

(2)

انظر: احكام القرىن للجصاص: 4/ 109.

(3)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 496.

(4)

انظر: احكام القرىن للجصاص: 4/ 109.

(5)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 492، وتفسير البغوي: 3/ 85، وزاد المسير: 1/ 574.

(6)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 492، وتفسير البغوي: 3/ 85، وزاد المسير: 1/ 574.

(7)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 492، وتفسير البغوي: 3/ 85، وزاد المسير: 1/ 574.

(8)

انظر: بحر العلوم: 1/ 411.

(9)

التفسير البسيط: 7/ 492.

(10)

التفسير الميسر: 121.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6667): ص 4/ 1182.

(12)

بحر العلوم: 1/ 411.

(13)

زاد المسير: 1/ 574.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 497.

(15)

تفسير ابن كثير: 3/ 164 - 165.

(16)

انظر: تفسير الماتريدي: 3/ 571.

ص: 392

دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، تولى هؤلاء أولئك واتبعوا أهواءهم.

قوله تعالى: {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80]، أي:" أي وفي عذاب جهنم مخلّدون أبد الآبدين"(1).

قال السمرقندي: " يعني: دائمون"(2)

قال ابن كثير: " يعني يوم القيامة"(3).

قال الطبري: " يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة هم خالدون، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه"(4).

الفوائد:

1 -

حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد.

2 -

أن موالاة الكفار موجبة لسخط الله، والخلود في العذاب بمجردها، وإن كان الإنسان خائفاً، إلا من أكره بشرطه، إذ ان الموالاة بمجردها لا تعد كفراً.

3 -

في الآية الدّليل على إثبات صفة: «السّخط» ، وهي من صفات الله الفعلية الخبرية، مع الإعتقاد بأن صفاته ـ تعالى ـ ليست كالصّفات، كما أنّ ذاته ـ تعالى ـ ليست كذاتنا؛ فالمجسّم والممثّل يعبد صنمًا، والمعطّل والنّافي يعبد عدمًا، والمثبت المنزّه يعبد حيًّا قيومًا واحدًا لا شريك له في ذاته وصفاته؛ فتعالى الله عمّا يقول الظّالمون النّافون والمشبّهون علوًّا كبيرًا.

أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك وسعديك

[إلى أن قال فيه]: فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني؛ فلا أسخط عليكم بعده أبداً" (5).

قال أبو إسماعيل الصابوني: "وكذلك يقولون في جميع الصفات [يعني: الإثبات] التي نزل بها القرآن ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين

والرضا والسخط

" (6).

والفرق بين السخط والغضب، فإن" السخط: هو عدم الرضا، والسخط إلى الكراهة أقرب منه إلى الغضب، فإن الغضب يعدى بـ «على» ، والسخط يعدى بها تارة، وبنفسه أخرى؛ وبين السخط والغضب فرق واضح: كثيرًا ما يقابل السخط بالرضا، والغضب لا يقابل به؛ وفيه إثبات الرضا؛ فإن الله يرضى حقيقة كما أنه يسخط حقيقة" (7).

القرآن

{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)} [المائدة: 81]

التفسير:

(1) صفوة التفاسير: 332.

(2)

بحر العلوم: 1/ 411.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 165.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 497.

(5)

أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع أهل الجنة، برقم (7518)، ومسلم في كتاب الجنة وصفها ونعيم أهلها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة فلا يسخط عليهم أبدا، برقم (2829).

(6)

عقيدة السلف أصحاب الحديث: 5.

(7)

شرح العقيدة الواسطية من تقريرات: سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، أخرجها وأعدها للطبع: د. عبد المحسن بن محمد بن قاسم (1/ 38).

ص: 393

ولو أن هؤلاء اليهود الذين يناصرون المشركين كانوا قد آمنوا بالله تعالى والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقرُّوا بما أنزل إليه -وهو القرآن الكريم- ما اتخذوا الكفار أصحابًا وأنصارًا، ولكن كثيرًا منهم خارجون عن طاعة الله ورسوله.

قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، أي:" ولو أن هؤلاء اليهود الذين يناصرون المشركين كانوا قد آمنوا بالله تعالى والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأقرُّوا بما أنزل إليه -وهو القرآن الكريم- ما اتخذوا الكفار أصحابًا وأنصارًا "(1).

قال الزمخشري: أي: " {ولو كانوا يؤمنون} إيمانا خالصا غير نفاق ما اتخذوا المشركين أولياء يعنى أن موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وأن إيمانهم ليس بإيمان .. وقيل معناه: ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدعون، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون"(2).

قال ابن كثير: " أي: لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان، لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه "(3).

قال الطبري: " ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل يؤمنون بالله والنبي، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل وما أنزل إليه، يقول: ويقرُّون بما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان، ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين"(4).

قال الشوكاني: " أي: نبيهم كما يزعمون، {وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ} من التوراة وغيره، {مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ}، لأن النبي لا يأمر بموالاة الكفار، ولو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه- كما هو الواجب عليهم- ما اتخذوا الكفار أولياء"(5).

قال الرازي: أي: " لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدعون ما اتخذوا المشركين أولياء، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام، فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه"(6).

قال السعدي: " فإن الإيمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه، يوجب على العبد موالاة ربه، وموالاة أوليائه، ومعاداة من كفر به وعاداه، وأوضع في معاصيه، فشرط ولاية الله والإيمان به، أن لا يتخذ أعداء الله أولياء، وهؤلاء لم يوجد منهم الشرط، فدل على انتفاء المشروط"(7).

عن مجاهد قوله: " {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء}، قال: المنافقون"(8).

قال الراغب: " {النبي}، يجوز أن يكون إشارة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ويجوز أن يكون إشارة إلى نبيهم، ونبه أنهم لو آمنوا بمن ادعوا الإيمان به، لما فعلوا ما فعلوا، فإن دينهم لا يقتضي ما يرتكبونه ويفعلونه، ويجوز أن يكون النبي إشارة إلى الجنس، أي: الإيمان بالله وبالنبوة والكتاب، لا يقتضي ما يتحرونه من مولاة الكفار"(9).

(1) التفسير الميسر: 121.

(2)

الكشاف: 1/ 667.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 165.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 497.

(5)

فتح القدير: 2/ 68.

(6)

مفاتيح الغيب: 12/ 413.

(7)

تفسير السعدي: 240.

(8)

أخرجه الطبري (12314): ص 10/ 498.

(9)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 418.

ص: 394

قال ابن عطية: " وقوله تعالى: و {النبي}، إن كان المراد الأسلاف، فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد، فالنبي محمد عليه السلام، و {الذين كفروا}، هم عبدة الأوثان"(1).

قوله تعالى: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81]، أي:" ولكن كثيرًا منهم خارجون عن طاعة الله ورسوله"(2).

قال الزمخشري: أي: "متمردون في كفرهم ونفاقهم "(3).

قال السعدي: " أي: خارجون عن طاعة الله والإيمان به وبالنبي. ومن فسقهم موالاة أعداء الله"(4).

قال القرطبي: " أي: خارجون عن الإيمان بنبيهم لتحريفهم، أو عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لنفاقهم"(5).

قال ابن كثير: " أي: خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله"(6).

قال الطبري: " يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل"(7).

قال السمعاني: " فإن قيل: لم سماهم فاسقين وهم كافرون؟ قيل: معناه: «خارجون» عن أمر الرب، والكفار خارجون عن كل أمره، وقيل: معناه: متمردون، أي: هم مع كفرهم متمردون"(8).

قال ابن عطية: " خص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن"(9).

قال الشوكاني: " ذكر الحق جل جلاله في هذه الآية ثلاثة أمور، وجعلها سببًا للعن والطرد، وموجبة للسخط والمقت:

أولها: الانهماك في المعاصي والعدوان، والإصرار على الذنوب والطغيان.

والثاني: عدم الإنكار على أهل المعاصي والسكوت عنهم والرضا بفعلهم.

والثالث: موالاة الفجار والمودة مع الكفار، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم، وفي بعض الأخبار:«لو أن رجلاً قام الليل وصام النهار، ثم تودد مع الفجار لبعث معهم، ولو أن رجلاً عمل بالمعاصي ما عمل، ثم أحب الأبرار لحُشر معهم» ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويعضده حديث:«المَرءُ مَعَ مَن أحبَّ» (10) " (11).

الفوائد:

1 -

أن موالاة الكفار منافية للإيمان بالله، والنبي وما أنزل إليه، وأن سبب ذلك، كون كثير منهم فاسقون.

وفي الآية دليل على أن من اتخذ كافرا وليا فليس بمؤمن إذا اعتقد اعتقاده ورضي أفعاله. قاله القرطبي (12).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 225.

(2)

التفسير الميسر: 121.

(3)

الكشاف: 1/ 667.

(4)

تفسير السعدي: 240.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 254.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 165.

(7)

تفسير الطبري: 10/ 497 - 498.

(8)

تفسير السمعاني: 2/ 57.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 225.

(10)

أخرجه البخاري كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل ويلك، (6167) ومسلم كتاب البر باب المرء مع من أحب (2639)(161).

(11)

فتح القدير: 2/ 68.

(12)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 254.

ص: 395

2 -

أن الإيمان له لوازم وله أضداد موجودة تستلزم ثبوت لوازمه وانتفاء أضداده، ومن أضداده موادة من حاد الله ورسوله.

القرآن

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} [المائدة: 82]

التفسير:

لتجدنَّ -أيها الرسول- أشدَّ الناس عداوة للذين صدَّقوك وآمنوا بك واتبعوك، اليهودَ; لعنادهم، وجحودهم، وغمطهم الحق، والذين أشركوا مع الله غيره، كعبدة الأوثان وغيرهم، ولتجدنَّ أقربهم مودة للمسلمين الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين وعبَّادًا في الصوامع متنسكين، وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن قَبول الحق، وهؤلاء هم الذين قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بها.

سبب نزول الآيات (82 - 86):

قال المفسرون: نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه، وفيما يأتي ذكر الأخبار في ذلك:

أولا: - عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وعروة بن الزبير؛ قالوا: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه كتاباً إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} "(1). [ضعيف]

ثانيا: -عن عروة بن الزبير؛ قال: "في قوله: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} نزل ذلك في النجاشي "(2). [ضعيف]

(1). أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14/ 349 رقم 18491)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(4/ 1185 رقم 6678)، وأبو نعيم الأصبهاني في "حلية الأولياء"(1/ 117)، والواحدي في "أسباب النزول"(ص 136) جميعهم من طريق الزهري عنهم به.

قلنا: وهذا مرسل صحيح الإسناد.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(14/ 348، 349 رقم 18489)، و"المغازي"(167، 168 رقم 109)، والطبري في "جامع البيان" (12328): ص 10/ 508 من طريق هشام بن عروة عن أبيه به.

قلنا: وهذا مرسل صحيح الإسناد.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 130) وزاد نسبته لأبي الشيخ.

هكذا رواه عن هشام بن عروة: عبدة بن سليمان وأبو معاوية مرسلاً.

ورواه عمر بن علي بن مقدم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير به موصولاً.

أخرجه النسائي في "التفسير"(1/ 443 رقم 168)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1185 رقم 6680)، والطبري في "جامع البيان" (12326): ص 10/ 508، والطبراني في "المعجم الكبير"(ص 107 رقم 258 - قطعة من الجزء 13) -ومن طريقه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(9/ 323 رقم 284) -، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 129) -ومن طريقه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(9/ 323، 324 رقم 285، 286)، والبزار في "المسند"(3/ 286 رقم 2758 - كشف).

قلنا: ورجاله ثقات رجال "الصحيح"؛ لكن فيه علة؛ قال ابن سعد -عن عمر بن علي-: "وكان يدلس تدليساً شديداً، يقول: ثنا ثم يسكت، ثم يقول: هشام بن عروة أو الأعمش أو غيرهما"؛ كما في "التهذيب"(7/ 486).

فعلى رأي ابن سعد لا يقبل حديثه حتى ولو صرح بالتحديث كما في حديثنا، والله أعلم.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 129) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ.

* ملاحظة: في مسند البزار: (ثنا محمد بن عثمان ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي أو عمر بن علي).

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(9/ 419): "ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عثمان بحر وهو ثقة".

قلنا: وفي "التقريب": "صدوق يغرب"، ولعل هذا منها، والصواب رواية الجماعة دون شك ..

ص: 396

ثالثا: عن سعيد بن جبير: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} ؛ قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلًا اختارهم الخيّر فالخيّر، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم:{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} ؛ فبكوا وعرفوا الحق؛ فأنزل الله فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} ، وأنزل فيهم:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)} إلى قوله: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 52 - 54] " (1). [ضعيف]

رابعا: عن سلمان؛ قال: «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صنعت طعاماً، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا يا سلمان؟ "، قلت: صدقة، فقال لأصحابه: "كلوا" ولم يأكل، ثم إني رجعت حتى جمعت طعاماً، فأتيته به، فقال: "ما هذا يا سلمان؟ "، قلت: هدية فضرب بيده فأكل، وقال لأصحابه: "كلوا"، قلت: يا رسول الله! أخبرني عن النصارى؟ قال: "لا خير فيهم ولا فيمن أحبهم"، فقمت وأنا مثقل؛ فأنزل الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} حتى بلغ: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}؛ فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا سلمان! إن أصحابك هؤلاء الذين ذكر الله"» (2). [صحيح]

(1) أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12324): 10/ 505، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1185 رقم 6679)، والبغوي في "مسند علي بن الجعد" -ومن طريقه الواحدي في "أسباب النزول"(ص 137) -، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تخريج أحاديث الكشاف"(1/ 416) من طريق قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عن سعيد به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: الإرسال.

الثانية: قيس الربيع؛ ضعيف.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 130) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ ..

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(6/ 249 رقم 6121) من طريق السري بن يحيى عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان به.

قلنا: وسنده صحيح.

وأخرجه البزار في "البحر الزخار"(6/ 499 رقم 2537)، والطبراني في "المعجم الكبير"(6/ 266 رقم 6175)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1183 رقم 6671)، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 89)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(8/ 116 رقم 2405)، وعبد بن حميد في "تفسيره"؛ كما في "الإكمال"(4/ 5)، و"الدر المنثور"(3/ 132)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن"(ص 298)، وأبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده"(1/ 309، 310 رقم 465)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (2/ 720 رقم 710 - بغية) جميعهم من طريق نصير بن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن حامية بن رئاب قال: سمعت سلمان يقول -وقد سئل عن قوله-: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} ؛ قال: الرهبان الذين في الصوامع، قال سلمان: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} ، هذا لفظ الطبراني وهو عند غيره بنحوه.

قلنا: وهذا سند ضعيف جداً؛ فيه علتان:

1 -

حامية هذا؛ مجهول لم يرو عنه إلا الصلت الدهان، ولم يوثقه إلا ابن حبان.

2 -

نصير هذا؛ قال الأزدي: "منكر الحديث".

"الميزان"(4/ 264)، و"اللسان"(6/ 166).

والصلت هذا روى عنه جماعة ووثقه ابن حبان.

والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 17)، وقال:"فيه الحماني ونصير بن زياد وكلاهما ضعيف".

قلنا: الحماني توبع عند البخاري والبزار فالعلة ممن ذكرنا.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 132) وزاد نسبته للحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن الأنباري في "المصاحف" وابن المنذر.

ص: 397

خامسا: عن السدي؛ قال: "بعث النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلًا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكوا، وكان منهم رهبان وخمسة قسيسين، أو خمسة رهبان وسبعة قسيسين؛ فأنزل الله فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} "(1). [ضعيف جداً]

قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]، أي:" لتجدنَّ -أيها الرسول- أشدَّ الناس عداوة للذين صدَّقوك وآمنوا بك واتبعوك، اليهودَ; لعنادهم، وجحودهم، وغمطهم الحق، والذين أشركوا مع الله غيره، كعبدة الأوثان وغيرهم"(2).

قال ابن عطية: " وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة"(3).

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82]، أي:"ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين للذين صدَّقوك وآمنوا بك واتبعوك، الذين قالوا: إنا نصارى"(4).

قال ابن كثير: " أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس القتال مشروعًا في ملتهم"(5).

قال الزمخشري: " وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق «1» ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين، بل نبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا، وكذلك فعل في قوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا}، ولعمري إنهم لكذلك وأشد. وعن النبى صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» (6) "(7).

(1) أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12318): 10/ 500 - 501، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1184/ 6675) من طريقين عن أسباط بن نصر عن السدي به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف أسباط بن نصر.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 131) ..

(2)

التفسير الميسر: 121.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 225.

(4)

التفسير الميسر: 121.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 167.

(6)

رواه ابن حبان في كتابه الضعفاء (5064)، من طريق يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما خلا يهودي بمسلم قط إلا حدث نفسه بقتله". انتهى وأعله بيحيى بن عبيد الله.

ورواه الثعلبي في تفسيره: 4/ 97، كذلك وقال فيه:"ما خلا يهوديان"، وفي لفظ ابن مردويه:" إلا هم بقتله".

قال ابن حبان: " يحيى بن عبيد الله بن موهب التيمي القرشي يروي عن أبيه ما لا أصل له فلما كثر ذلك منه سقط عن الاحتجاج به قال ابن معين ليس بشيء وكان ابن عيينة شديد الحمل عليه وأبوه ثقة". انتهى. [انظر: تخريج احاديث الكشاف: 1/ 465].

قال العجلوني: " رواه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في الضعفاء عن أبي هريرة مرفوعا.

وفي رواية ابن حبان: " يهودي وهم"، بالإفراد.

وأخرجه الديلمي بلفظ: "ما خلا قط يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله".

وقد أطال الكلام عليه السخاوي في بعض الحوادث.

فأقول ويؤيد ذلك ما ذكره شيخنا المرحوم يونس المصري أنه كان يقرأ على يهودي يوما في المنطق فقال له وقد انفرد به: لا تأتني إلا ومعك سكين أو نحوها لأن اليهود إذا خلا بمسلم ولم يكن معه سلاح لزمه التعرض لقتله.

وقال النجم واشتهر في كلام الناس أنه ما خلا قط رافضي بسني إلا حدثته نفسه بقتله. وهي من الخصال التي شاركت الرافضة فيها اليهود". انتهى. [انظر: كشف الخفاء (2210): ص 2/ 187].

(7)

الكشاف 1/ 668.

ص: 398

قال ابن عطية: " والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث واللي بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا. ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى: الذين قالوا إنا نصارى إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم"(1).

قال مجاهد: " هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة"(2). وروي عن عطاء نحو ذلك (3).

قال عطاء: " ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه"(4).

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82]، أي:" ذلك بأن منهم علماء بدينهم متزهدين وعبَّادًا في الصوامع متنسكين"(5).

قال السمرقندي: "يعني: المتعبدين، وأصحاب الصوامع، ويقال: قسيسين علماؤهم، ورهبانا يعني: خائفين من الله تعالى"(6).

قال ابن كثير: " أي: يوجد فيهم القسيسون - وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم: قسيس وقَس أيضًا، وقد يجمع على قسوس، والرهبان: جمع راهب، وهو: العابد. مشتق من الرهبة، وهي: الخوف كراكب وركبان، وفارس وفرسان"(7).

قال ابن عطية: " معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد"(8).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 225 - 226.

(2)

تفسير مجاهد: 1/ 202، وتفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1183 ذكره دون إسناد.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1183.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (6670): ص 4/ 1183.

(5)

التفسير الميسر: 121.

(6)

بحر العلوم: 1/ 412.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 167.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 226.

ص: 399

قال الزمخشري: " وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهبانا أى علماء وعبادا"(1).

قال السعدي: " والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود، وشدة المشركين"(2).

عن الحسن: " {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا}، قال: علماؤهم وفقهاؤهم"(3).

قال سلمان: " هم الرهبان الذين في الصوامع والحزب فدعوهم فيها"(4).

قال سعيد بن جبير: " هم أصحاب النجاشي بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثين رجلا فقرأ عليهم يس فبكوا وقالوا نعرف والله فنزلت فيهم"(5).

قال الزجاج: «القس» و «القسيس» : من رؤساء النصارى، فأما القس في اللغة: فهي النميمة ونشر الحديث، يقال: قس فلان الحديث قسا" (6).

وقال قطرب: "القسيس: العالم بلغة الروم، فأما الرهبان: فهم العباد أرباب الصوامع"(7). وقال ورقة (8):

بما خبَّرتنا مِن قولِ قَسٍّ

من الرهبانِ أكرهُ أنْ يعوجا

وعلى هذا فالقس والقسيس: مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين (9).

قال ابن زيد: "القسيس: عبّادهم"(10).

وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وبقي واحد من علمائهم على الحق والاستقامة وهو قسّيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس" (11).

قال القرطبي: " القسيس: العالم، وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه، قال الراجز (12):

يُصْبِحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا

وتقسست أصواتهم بالليل: تسمعتها، والقس النميمة، والقس أيضا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه: قسوس، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير، فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعباد، ويقال في جمع قسيس مكسرا: قساوسة، أبدل من إحدى السينين واوا وقساوسة أيضا كمهالبة، والأصل قساسسة فأبدلوا إحدى السينات واوا لكثرتها، ولفظ القسيس: إما أن يكون عربيا، وإما أن يكون بلغة الروم ولكن خلطته العرب بكلامهم فصار من لغتهم إذ ليس في الكتاب ما ليس من لغة العرب" (13).

و«الرهبان» : جمع راهب، كركبان وراكب، قال الشاعر (14):

(1) الكشاف: 1/ 668.

(2)

تفسير السعدي: 241.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6674): ص 4/ 1184.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (6671): ص 4/ 1183.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (6673): ص 4/ 1184.

(6)

معاني القرآن: 2/ 200

(7)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 495، وتفسير البغوي: 3/ 87، وزاد المسير: 1/ 575، وانظر: تفسير القرطبي: 6/ 257.

(8)

كذا في التفسير البسيط للواحدي: 7/ 495، والظاهر أنه ورقة بن نوفل المشهور، من أهل الكتاب.

(9)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 495.

(10)

أخرجه الطبري (12321): ص 10/ 502.

(11)

ذكره الواحدي في التفسير البسيط: 7/ 494، ولم اقف عليه.

(12)

.الرجز في التهذيب (لرؤبة) وكذلك في اللسان وفيهما:

"يمسين من قس

"

ورواية الديوان ص 121، وكتاب العين، باب "القاف مع السين": ص 5/ 12: " يصبحن عن قس

".

والبيت تمامه: "يَمْشِيْنَ هَوْناً خُرَّداً بَهَالِلا". يصف الشاعر نساء عفيفات لا يتبعن النمائم.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 257.

(14)

وورد البيت منسوبا لربيعة بن مقروم (شاعر مخضرم) في "تهذيب اللغة" 4/ 291 مادة: (بتل)، و"لسان العرب" 11/ 43 مادة:(بتل)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد: 2/ 171، و"الأغاني" 19/ 92، وقد وجدت البيت للنابغة في "ديوانه" 41 ط المؤسسة العربية برواية "متعبد" بدلاً من "متبتل"، وكذلك نسبه أبو عبيد في "غريب الحديث" للنابغة أيضًا 1/ 421، ومعنى البيت: الراهب: العابد، الأشمط: الذي خالطه الشيب، الصرورة: الذي لم يتزوج. "ديوان النابغة" 41 ..

ص: 400

لو أنها عَرَضت لأشْمَطَ راهب

عبدَ الإلهَ صرورة متبتِّلِ (1)

والفعل منه: رهب الله يرهبه أي خافه، رهبا ورهبا ورهبة. والرهبانية والترهب التعبد في صومعة (2).

قال ابن فارس: الترهب: التعبد" (3).

جاء في اللسان: " استرهبه: استدعى رهبته حتى رهبه الناس؛ وبذلك فسر قوله عز وجل: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيم} [الأعراف: 116]؛ أي: أرهبوهم.

وفي حديث بهز بن حكيم: «إِنِّي لَأَسْمَعن الرَّاهِبَة» (4).

قال ابن الأثير: «هي الحالة التي ترهب، أي: تفزع وتخوف.

وفي رواية: «أسْمعك رَاهِباً» . أي: خائفا» (5).

وترهب الرجل: إذا صار راهبا يخشى الله، والراهب: المتعبد في الصومعة، وأحد رهبان النصارى، ومصدره: الرهبة والرهبانية، والجمع الرهبان" (6).

قال ابن الأعرابي: " وإن جمعت الرهبان الواحد رهابين ورهابنة، جاز؛ وإن قلت: رهبانيون كان صوابا"(7)، قال الشاعر في الجمع (8):

(1) قال الفراء في معاني القرآن: 2/ 198: "يقال للعابد إذا ترك كل شيء، وأقبل على العبادة: قد تبتل، أي قطع كل شيء إلا أمر الله وطاعته".

وقال زيد بن أسلم: التبتل: رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله". [انظر:"الكشف والبيان" جـ: 12: 201/ ب، و"معالم التنزيل" 4/ 409، و"المحرر والوجيز" 5/ 388، و"التفسير الكبير" 30/ 138]

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 258.

(3)

زاد المسير: 1/ 575.

(4)

صحيح، أخرجه أحمد (20039): ص 33/ 239 - 240، وهذا إسناد حسن من أجل بهز بن حكيم وأبيه، فهما صدوقان.

وأخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص 511 - 512 من طريق محمد ابن مسلمة الواسطي، عن يزيد بن هارون وحده، بهذا الإسناد.

وأخرجه الدارمي (2813)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"(566)، والطبراني في "الكبير" 19/ (1026) و (1027) و (1028) و (1029) من طرق عن بهز بن حكيم، به- وهو عند الطبراني مختصر. وانظر (20012).

ونص الحديث: " بهز المعنى، حدثني أبي، عن جدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه كان عبد من عباد الله أعطاه الله مالا وولدا، وكان لا يدين الله دينا. قال يزيد: فلبث حتى ذهب عمر وبقي عمر تذكر فعلم أن لم يبتئر عند الله خيرا دعا بنيه فقال: يا بني أي أب تعلموني؟ قالوا: خيره يا أبانا. قال: فوالله لا أدع عند رجل منكم مالا هو مني إلا أنا آخذه منه، أو لتفعلن ما آمركم به. قال: فأخذ منهم ميثاقا. قال: إما لا فإذا مت فخذوني فألقوني في النار حتى إذا كنت حمما فدقوني ". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على فخذه، كأنه يقول: " اسحقوني، ثم ذروني في الريح لعلي أضل الله ". قال:" ففعل به ذلك ورب محمد حين مات. قال: فجيء به أحسن ما كان، فعرض على ربه فقال: " ما حملك على النار؟ " قال: خشيتك يا رباه. قال: " إني لأسمعن الراهبة، قال يزيد: أسمعك راهبا، فتيب عليه " قال بهز: فحدثت بهذا الحديث الحسن، وقتادة وحدثانيه:" فتيب عليه "، أو " فتاب الله عليه " شك يحيى".

قال السندي: قوله: "لا يدين" أي: لا ينقاد ولا يعمل على وفق دينه.

"لم يبتئر" بتقديم الهمزة على الراء، أي: لم يقدم لنفسه ولم يدخره.

"إما لا" بكسر الهمزة وتشديد الميم، أصله:"إن" الشرطية أدغمت نونها في الميم، "ما" المزيدة، أي: إن لا تردوا علي المال ولا ترضوا به فافعلوا ما أقول لكم.

"الراهبة" هي الحالة التي ترهب، أي: تفزع وتخوف.

"راهبا" أي: خائفا.

(5)

النهاية في غريب الحديث: 2/ 281. والحديث سبق تخريجه.

(6)

اللسان، مادة"رهب": ص 1/ 437.

(7)

اللسان، مادة"رهب": ص 1/ 437.

(8)

القائل هو كثير، و (العُصْمُ) جمع الأعصم وهو الوعل، و (العقول) جمع عقل وهو الملجأ وشعف العقول رءوسها وأعاليها، والفارد: الوعل المسن أو الشاب، "معجم البلدان"(مدين) 5/ 77، "معاني القرآن" 2/ 304، وينسب لجرير وهو في "ديوانه" ص 308، "اللسان"(رهب) 3/ 1748، "تاج العروس"(رهب) 2/ 42، وقافيته (الفادر).

ص: 401

رهبانُ مديَن لو رأوك تنزَّلوا

والعُصمُ من شَعَفِ العَقُول الفادِر

قوله: «الفادر» : المسن من الوعول. ويقال: العظيم، وكذلك الفدور والجمع فدر وفدور وموضعها المفدرة (1).

قال الطبري: " وقد يكون الرهبان واحدًا، وإذا كان واحدًا كان جمعه: رهابين، مثل: قربان وقرابين، وجُرْدان، وجرادين، ويجوز جمعه أيضًا: رهابنة، إذا كان كذلك، ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا، قول الشاعر (2):

لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في الْقُلَلْ

لانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَمْشِي وَنزل" (3)

فان قيل: "كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمر شريعتنا؟

فالجواب: أنه مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم. والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم" (4).

قال القاضي أبو يعلى: "وربما ظن جاهل أن في هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إنما مدح من آمن منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود"(5).

قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]، أي:" وأنهم متواضعون لا يستكبرون عن قَبول الحق، وهؤلاء هم الذين قبلوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بها"(6).

قال السمرقندي: " يعني: لا يتعظمون على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن"(7).

قال ابن ابي زمنين: أي: " عن عبادة الله، والإيمان بالله"(8).

قال الثعلبي والبغوي (9): " لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق"(10).

قال الرااغب: أي: " أنهم يتحرون الحق ولا يستكبرون عن قبوله، والضمير في {أنهم} راجع إلى القسيسين والرهبان، وقيل: راجع إلى المعنيين بالدين كلهم"(11).

قال السعدي: " أي: ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر"(12).

قال الزمخشري: يعني: " أنهم قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم، واليهود على خلاف ذلك. وفيه دليل بين على أن التعلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين، وكذلك غم الآخرة والتحدث بالعاقبة وإن كان في راهب، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني"(13).

قال البيضاوي: أي: {لايستكبرون} " عن قبول الحق إذا فهموه، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود. وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر"(14).

قال القرطبي: " وهذا المدح لمن آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصر على كفره ولهذا قال: {وأنهم لا يستكبرون}، أي: عن الانقياد إلى الحق"(15).

قال السدي: " بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا سبعة قسيسين وخمسة رهبانا، ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل إليه بكوا وأسفوا فأنزل الله فيهم وأنهم لا يستكبرون"(16).

الفوائد:

1 -

عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين، فوجب المزيد من الحذر من كيدهم وعداوتهم.

2 -

قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين.

قال العلّامة ابن باز: " فالنصارى أقرب وقلوبهم ألين من قلوب اليهود لأن علتهم الجهل والضلال فإذا عرفوا وبين لهم رجع كثير منهم إلى الحق أما علة اليهود فليست الجهل، بل علتهم الحسد والبغي وعلتهم مخالفة الحق على بصيرة فعلتهم خبيثة وهي التكبر عن اتباع الحق والحسد لأهل الحق ولهذا قل وندر من يسلم منهم نعوذ بالله من ذلك"(17).

وقد عقد الألوسي في تفسيره: روح المعاني. مقارنة بينهما ومما ذكر من ذلك ما يلي (18):

أولا: -ـ اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد، ولذا قال تعالى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82]، والنصارى دون ذلك، وأقرب للإسلام منهم.

ثانيا: ـ أنهم كفروا بنبيين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ثالثا: - أن فضائح اليهود وفظائعهم أكثر مما عند النصارى، وقول النصارى بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، وقولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] وقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30].

رابعا: -أن من أخص أسباب وصف اليهود بالغضب كونهم قد فسدوا بعد علم، والنصارى فسدوا عن جهل فوصفوا بالضلال، لأن الضال قد يهتدي.

3 -

فضيلة التواضع، وقبح الكبر.

في الحديث الصحيح عن عياض رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: " إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد "(19).

(1) انظر: التفسير البسيط للواحدي: 7/ 495، وتفسير القرطبي: 6/ 257 - 258.

(2)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري في تفسيره: 10/ 503، والقرطبي في تفسيره: 6/ 258 عاين الشيء معاينة وعيانًا: نظر إليه بعينيه مواجهة. ومنه قيل: رأيت فلانًا عيانًا أي: مواجهة. وحق شرح هذا اللفظ هنا أن يقال: لو رمتهم بعينيها مواجهة. والقلل: جمع قلة: وهي رأس الجبل، وإنما عنى بذلك صوامع الرهبان في الجبال.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 503.

(4)

زاد المسير: 1/ 575.

(5)

زاد المسير: 1/ 575.

(6)

التفسير الميسر: 121.

(7)

بحر العلوم: 1/ 412.

(8)

تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 42.

(9)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 87، ولفظه:" لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق".

(10)

الكشف والبيان: 4/ 100.

(11)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 421.

(12)

تفسير السعدي: 241.

(13)

الكشاف: 1/ 668 - 669.

(14)

تفسير البيضاوي: 2/ 140.

(15)

تفسير القرطبي: 6/ 258.

(16)

أخرجه ابن أبي حاتم (6675): ص 4/ 1184.

(17)

.مجموع قتاوى ابن باز: 29/ 266 - 267

(18)

انظر: روح المعاني: 1/ 99.

(19)

رواه مسلم (2865).

ص: 402

وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله"(1).

قال الشافعي: "التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة "(2).

قال عباس الدوري: "حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا قال: كانت أمي مقعدة من نحو عشرين عامًا فقالت لي يومًا: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي، فأتيت فدققت عليه، وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفًا، فخرجت عجوزٌ فقالت: قد تركته يدعو لها، فجئت إلى بيتنا فدققت الباب فخرجت أمي على رجليها تمشي"(3). قال الذهبي: "هذه الواقعة نقلها ثقتان عن عباس"(4).

فهذا هو التواضع وهؤلاء هم الناس: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام/90].

القرآن

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} [المائدة: 83]

التفسير:

ومما يدل على قرب مودتهم للمسلمين أن فريقًا منهم -وهم وفد الحبشة لما سمعوا القرآن- فاضت أعينهم من الدمع فأيقنوا أنه حقٌّ منزل من عند الله تعالى، وصدَّقوا بالله واتبعوا رسوله، وتضرعوا إلى الله أن يكرمهم بشرف الشهادة مع أمَّة محمد عليه السلام على الأمم يوم القيامة.

قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: 83]، أي:" أي إِذا سمعوا القرآن المُنْزَل على محمد رسول الله"(5).

قال الطبري: أي: " وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا: إنا نَصَارى الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا"(6).

قال الواحدي: " يعني: النجاشيَّ وأصحابه قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة {كهيعص} [مريم: 1] "(7).

قوله تعالى: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83]، أي:" أي فاضت أعينهم بالدمع"(8).

قال الصابوني: أي: " من خشية الله لرقة قلوبهم وتأثرهم بكلام الله الجليل"(9).

قال البيضاوي: " عطف على {لا يستكبرون}، وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تأبيهم عنه، والفيض انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها"(10).

(1) رواه مسلم (2588). ورواه الترمذي (2325) بلفظ: (ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ) صححه الألباني في صحيح الترمذي.

(2)

سير اعلام النبلاء: 7/ 370، والمجموع شرح المهذب: 1/ 32.

(3)

سير أعلام النبلاء: 11/ 211.

(4)

سير أعلام النبلاء: 11/ 211.

(5)

صفوة التفاسير: 334.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 507.

(7)

الوجيز: 332.

(8)

صفوة التفاسير: 334.

(9)

صفوة التفاسير: 334.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 140.

ص: 403

و «فيض العين من الدمع» ، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى (1):

ففَاضَتْ دُمُوعِي، فَظَلَّ الشُّئُونُ:

إمَّا وَكِيفًا، وَإِمَّا انْحِدَارَا (2)

قال الراغب: " «الفيض»: سيلان عن امتلاء، وأفضا لسيلانه وفاضته دمعة: إذا امتلأت العين ثم سالت، وعنه اسستعير خبر مستفيض، وأفاض القوم من عرفه، فذكر تعالى أنهم يبكون ويؤمنون بالنبي عليه الصلاة والسلام"(3).

قال الزمخشري: قوله: " {تفيض من الدمع}، معناه تمتلئ من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أى تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعا"(4).

وقوله: {تفيض من الدمع} ، من أبلغ العبارات، وأنهاها وهي ثلاث مراتب (5):

فالأولى: فاض دمع عينه، وهذا هو الأصل.

والثانية: محولة من هذه، وهي قول القائل: فاضت عينه دمعا حولت الفعل إلى العين مجازا ومبالغة، ثم نبهت على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز.

والثالثة: فيها هذا التحويل المذكور، وهي الواردة في الآية، إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح المنبهة على الأصل وعدم نصب التمييز، وإبرازه في صورة التعليل. والله أعلم.

وإنما كان الكلام مع التعليل أبعد عن الأصل منه مع التمييز لأن التمييز في مثله قد استقر كونه فاعلا في الأصل في مثل: تصبب زيد عرقا، وتفقأ عمرو شحما، واشتعل الرأس شيبا، وتفجرت الأرض عيونا. فإذا قلت: فاضت عينه دمعا، فهم هذا الأصل في العادة في أمثاله. وأما التعليل فلم يعهد فيه ذلك. ألا تراك تقول: فاضت عينه من ذكر الله كما تقول فاضت عينه من الدمع، فلا يفهم التعليل ما يفهم التمييز.

عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنزلت في النجاشي: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع} " (6).

قال السدي: " بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة قسيسين أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين، فأنزل الله فيهم: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع}، إلى آخر الآية"(7).

قال ابن عباس: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي فلما دخلوا عليه قال: تعرفون ما أنزل إليكم قالوا نعم، قال: اقرءوا، فقرءوا وهنالك منهم قسيسين ورهبان وساير النصارى، فجعلت طائفة كلما قرءوا آية انحدرت دموعهم {مما عرفوا من الحق ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} "(8).

(1) ديوانه: 35. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 507.

(3)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 421.

(4)

الكشاف: 1/ 669 - 670.

(5)

انظر: حاشية الانتصاف: 1/ 669.

(6)

أخرجه الطبري (12328): ص 10/ 508.

(7)

أخرجه الطبري (12325): ص 10/ 507 - 508.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6677): ص 4/ 1184.

ص: 404

قال ابن شهاب: "أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري. وكتب معه كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا جعفر ابن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين، ثم أمر جعفر بن أبي طالب فقرأ عليهم سورة مريم فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله فيهم ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إلى قوله: {ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} "(1).

قال عبدالله بن الزبير: " نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع}، وقوله: {يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} "(2).

قال قتادة: " هم أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام، يؤمنون به وينتهون إليه، فلما بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فصدقوا وآمنوا به وعرفوا الذي جاء به أنه الحق من الله فأثنى عليهم كما تسمعون قوله تعالى: {ترى أعينهم} "(3).

قال سعيد عن عمرو بن مرة: "قدم على أبي بكر الصديق وفد من اليمن، فقالوا: اقرأ علينا القرآن، فقرأ عليهم القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر: كذا كنا حتى قست القلوب، وكان أبو بكر لا يملك دمعة حين يقرأ القرآن"(4).

قال التستري في تفسير هذه الآية: "هم القسيسون والرهبان، كان الناس يتمسحون بهم لعلمهم في الدين، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن، فرقوا له، ففاضت أعينهم ولم يستكبروا، بعصمة الله إياهم عن الاستكبار، فدخلوا في دينه لما وضع الله تعالى من علمه فيهم". ثم قال: "فساد الدين بثلاث:

- الملوك إذا أخذوا في السرف والشهوات.

- والعلماء إذا أفتوا بالرخص.

- والقراء إذا تعبدوا بغير علم.

وإن العلماء يحتاج إليهم الخلق في الدنيا والآخرة، وقد حكي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن أهل الجنة يحتاجون إلى العلماء في الجنة كما يحتاجون إليهم في الدنيا، يزورون ربهم في كل جمعة فيقال لهم: تمنوا ما شئتم. فينطلقون إلى العلماء، فيقول لهم العلماء: تمنوا كذا تمنوا كذا، فيتمنون» (5) " (6).

وقرئ: «ترى أعينهم» ، على البناء للمجهول (7).

قوله تعالى: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، أي:" من أجل معرفتهم أنه أنه حقٌّ منزل من عند الله تعالى"(8).

قال البيضاوي: " {مما عرفوا من الحق}، {من} الأولى للابتداء، والثانية لتبيين {ما عرفوا}، أو للتبعيض بأنه بعض {الحق}، والمعنى: أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله"(9).

قال الواحدي: " يريد: الذي نزل على محمَّد وهو الحقُّ"(10).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6678): ص 4/ 1185.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (66780): ص 4/ 1185.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6676): ص 4/ 1184.

(4)

أخرجه الثعلبي في تفسيره: 4/ 100.

(5)

كشف الخفاء 1/ 263، ولسان الميزان 5/ 15، وفيهما أن الحديث موضوع ..

(6)

تفسير التستري: 60، انظر مثل هذا القول للتستري في الحلية 10/ 206.

(7)

انظر: فتح القدير: 2/ 78.

(8)

صفوة التفاسير: 334، والتفسير الميسر: 121

(9)

تفسير البيضاوي: 2/ 140.

(10)

الوجيز: 332.

ص: 405

قوله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا} [المائدة: 83]، أي:" أي يقولون يا ربنا صدقنا بنبيّك وكتابك"(1).

قال البيضاوي: " {آمنا}، بذلك أو بمحمد"(2).

قال الشوكاني: " أي: آمنا بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد وبمن أنزلته عليه"(3).

قال الطبري: أي: " يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه"(4).

قوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]، أي: فاكتبنا "مع أمة محمد عليه السلام الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة"(5).

قال البيضاوي: أي: من"الذين شهدوا بأنه حق، أو بنبوته، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة"(6).

قال الشوكاني: أي: " على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين، بأنه حق، أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس"(7).

قال الزجاج: " أي: مع من شهد من أنبيائك عليهم السلام ومؤمني عبادك بأنك لا إله

غيرك" (8).

قال الواحدي: " مع أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون بالحق"(9).

قال السمعاني: " يعني: من أمة محمد؛ فإنهم الشاهدون على سائر الأمم"(10).

قال الثعلبي: " يعني أمة محمد عليه السلام دليله قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] "(11).

قال ابن أبي زمنين: أي: " مع من شهد بما جاء به محمد أنه حق"(12).

قال الراغب: " ويتضرعون إلى الله أن يجعلهم من جملة من وصفهم بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} [البقرة: 143]، ومعنى: {فاكتبنا}، أي: اجعلنا منهم وثبتنا في جملتهم"(13).

عن ابن عباس: " {اكتبنا مع الشاهدين}، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم"(14).

وفي رواية أخرى عن ابن عباس أيضا: " {فاكتبنا مع الشاهدين}، قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت"(15).

(1) صفوة التفاسير: 334.

(2)

تفسير البيضاوي: 2/ 140.

(3)

فتح القدير: 2/ 78.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 509.

(5)

صفوة التفاسير: 334.

(6)

تفسير البيضاوي: 2/ 140.

(7)

فتح القدير: 2/ 78.

(8)

معاني القرآن: 2/ 200.

(9)

الوجيز: 332.

(10)

تفسير السمعاني: 2/ 58.

(11)

تفسير الثعلبي: 4/ 100.

(12)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 42.

(13)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 422.

(14)

أخرجه الطبري (12331): ص 10/ 509.

(15)

أخرجه الطبري (12333): ص 10/ 509، والحاكم 2/ 313 وقال هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

ص: 406

فذهب ابن عباس إلى أن {الشاهدين} ، هم الشهداء في قوله:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعنى الكلام: يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك (1).

وقال الحسن: "الذين يشهدون بالإيمان"(2).

وقال أبو علي: "الذين يشهدون بتصديق نبيك وكتابك"(3).

قال السعدي: قوله {الشاهدين} " هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون لله بالتوحيد، ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب، وهم عدول، شهادتهم مقبولة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] "(4).

الفوائد:

1 -

فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها.

2 -

أن البكاء من خشية الله هو شعار المؤمنين المتقين.

روى الترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» (5).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير البكاء من خشية الله، وكذلك الصالحون من قبل ومن بعد، وقد توعد الله أصحاب القلوب القاسية بأشد الوعيد، فقال تعالى:{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِين (22)} [الزمر: 22].

3 -

ويستفاد من الآية قرأ منع قراءة القرآن بالألحان المطربة والمشبهة للأغاني؛ لأن ذلك يثمر ضد الخشوع، ونقيض الخوف والوجل، وقوله تعالى فيهم:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، وهذا يفيد الأمر بتلاوته على هذا الوجه، وأن بكاءهم إنما كان مما فهموا من معانيه، لا من نغمات القارئ.

فأين هذا من دق الرجل، وثني العطف، وتحريك الرأس، والصياح، والزعق، والمكاء، والتصدية؟ !

قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} .

فليت شعري! ما الذي يورث خشية الله تعالى؟ !

أألحان الملحنين، أو فهم معانيه، وتدبر آياته، واستخلاص حكمه وعجائب مضمونه؟ !

قال بهز بن حكيم: " صليت خلف زرارة بن أوفى، فقرأ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ}، فخر ميتا، فكنت ممن حمله "(6).

وقال أبو الربيع إدريس الخولاني: " كان أبو بكر البصري قد أوتي الحزن وحسن الصوت، وقراءته تقع على القلب من فضله، وكان يأتي إلى الليث بن سعد فيقرأ عنده، ويبكي الليث وأصحابه، ويقول الليث: لقد جعل الله لقراءته سلطانا على الأعين "(7).

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 510.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 259.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 259.

(4)

تفسير السعدي: 242.

(5)

سنن الترمذي (1639)، وقال حديث ابن عباس حديث حسن غريب وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (4113).

(6)

أخرجه ابن ابي عاصم في الزهد: 1/ 247.

(7)

انظر: الحوادث والبدع/61، ولم أجده.

ص: 407

ووري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "لما نزلت: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، قال عمر لما بلغ:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} ، قال: لهذا أجري الحديث (1).

وإنما كان همه في معنى الآية، لا في ترجيع ونغمة.

قال ابن أبي عبلة: " كانت أم الدرداء تأتينا من دمشق إلى بيت المقدس على بغلة لها، فإذا مرت بالجبال؛ تقول لقائدها: أسمع الجبال ما وعدها ربها، فيرفع صوته بهذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} "(2).

وروى مالك قال: " قيل لزيد بن ثابت: كيف ترى في قراءة القرآن في سبع؟ فقال: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشرين أحب إلي، وسلني: لم ذلك؟ قال: فإني أسألك؟ قال: كي أتدبره وأقف عليه "(3).

القرآن

{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة: 84]

التفسير:

وقالوا: وأيُّ لوم علينا في إيماننا بالله، وتصديقنا بالحق الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، واتباعنا له، ونرجو أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته في جنته يوم القيامة؟

قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 84]، أي:" وقالوا: وأيُّ لوم علينا في إيماننا بالله، وتصديقنا بالحق الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، واتباعنا له"(4).

قال الزجاج: " المعنى: أي شيء لنا تاركين للإيمان، أي: في حال تركنا للإيمان، وذلك أن قومهم عنفوهم على إيمانهم، فأجابوهم بأن قالوا ما لنا لا نؤمن بالله"(5).

قال البغوي: " وذلك أن اليهود عيروهم وقالوا لهم: لم آمنتم؟ فأجابوهم بهذا"(6).

قال السمرقندي: " معناه: وما لنا لا نصدق بالله أن محمدا رسوله، والقرآن من عنده، وما جاءنا من الحق"(7).

قال السعدي: " فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه، فقالوا: {وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} أي: وما الذي يمنعنا من الإيمان بالله، والحال أنه قد جاءنا الحق من ربنا، الذي لا يقبل الشك والريب"(8).

قال المراغي: " أي: وأى مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان هذا النبي الكريم، بعد أن ظهر لنا أنه هو روح الحق الذي بشر به المسيح؟ "(9).

قال الزمخشري: " {وما لنا لا نؤمن بالله}: إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين: وقيل: لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك. أو أرادوا: وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين، وذلك ليس بإيمان بالله"(10).

قال ابن عطية: " قولهم وما لنا توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم، فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير"(11).

قال ابن كثير: " وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الآية [آل عمران: 199]، وهم الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} إلى قوله {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 52 - 55] "(12).

قوله تعالى: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84]، أي:" ونرجو أن يدخلنا ربنا مع أهل طاعته في جنته يوم القيامة"(13).

قال ابن زيد: " «القومُ الصالحون»، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه"(14).

قال الطبري: أي: " ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين"(15).

قال البغوي: " أي: في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] "(16).

قال السمرقندي: " يقول: نرجو، أن يدخلنا ربنا مع المؤمنين الموحدين في الجنة"(17).

قال السعدي: أي: " ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا الله الجنة مع القوم الصالحين، فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة والانقياد للإيمان وعدم التخلف عنه"(18).

قال المراغي: " وإننا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة، والفضائل والآداب الكاملة، وهم أتباع هذا النبي الكريم الذين استبان لنا أثر صلاحهم وشاهدناه بأعيننا بعد ما كان منهم من فساد فى الأرض وعتو كبير فى جاهليتهم، والخلاصة- إنه لا مانع لنا من هذا الإيمان بعد أن تظاهرت أسبابه، وتحققت موجباته فوجب علينا الجري على سننه، واتباع نهجه وطريقه"(19).

قال الماتريدي: قال الحسن: قوله - تعالى -: {ونطمع} : أي: نعلم أن يدخلنا ربنا الجنة إذا آمنا بالله وما جاءنا من الحق.

قيل: نطمع: هو الطمع والرجاء، أي: نطمع ونرجو أن يدخلنا ربنا في دين قوم صالحين، و {الصالحين}: يحتمل: ما ذكرنا من الأنبياء والرسل" (20).

الفوائد:

(1) الدر المنثور: 15/ 267.

(2)

انظر: الحوادث والبدع/62، ولم أجده.

(3)

أخرجه الغمام مالك في الموطأ (472): ص 1/ 200، والبيهقي في شعب الإيمان (2043): : ص 2/ 360، وانظر: شرح الزرقاني: 2/ 13.

(4)

التفسير الميسر: 122.

(5)

معاني القرىن: 2/ 200.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 88.

(7)

تفسير السمرقندي: 1/ 412.

(8)

تفسير السعدي: 242.

(9)

تفسير المراغي: 7/ 8.

(10)

الكشاف: 1/ 670.

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 227.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 169.

(13)

التفسير الميسر: 122.

(14)

أخرجه الطبري (12335): ص 10/ 511 - 512.

(15)

تفسير الطبري: 10/ 511.

(16)

تفسير البغوي: 3/ 88.

(17)

تفسير السمرقندي: 1/ 412.

(18)

تفسير السعدي: 242.

(19)

تفسير المراغي: 7/ 8.

(20)

تفسير الماتريدي: 3/ 574، ولم اقف على قول الحسن.

ص: 408

1 -

فضل الكتابي إذا أسلم. وحسن إسلامه.

2 -

دفع اللوم عن الإنسان، فينبغي للغنسان ان يدفع اللوم عن نفسه، ولا يُبقي عرضه لعباد الله يعملون ما يشاءون فيه، قال تعالى:{وما لنا لانؤمن بالله} ، وكذلك حمل النفس عند الوسواس على الإيمان والعمل الصالح، وذلك عند رؤية الفتور، إذ يجب تقوية العزيمة.

3 -

أن ماجاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم حق بشهادة من سبق من الأمم، لقوله:{وما جاءنا من الحق} .

4 -

ومنها: اختيار الرفيق الصالح لقوله: {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحيم} ، قال الرسول-صلى الله عليه وسلم:"مثل الجليس الصالح كحامل المسك/ إما أن يبيعك أو يحذيك، أو تجد منه رائحة طيبة"(1).

القرآن

{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} [المائدة: 85]

التفسير:

فجزاهم الله بما قالوا من الاعتزاز بإيمانهم بالإسلام، وطلبهم أن يكونوا مع القوم الصالحين، جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها لا يخرجون منها، ولا يُحوَّلون عنها، وذلك جزاء إحسانهم في القول والعمل.

قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة: 85]، أي:" فجزاهم الله بما قالوا من الاعتزاز بإيمانهم بالإسلام، وطلبهم أن يكونوا مع القوم الصالحين"(2).

قال السمعاني: " أي: أعطاهم الله بما قالوا"(3).

قال السمرقندي: أي: " من التوحيد"(4).

قال الطبري: أي: " فجزاهم الله بقولهم: {ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءَنا من الحق ونطمع أن يدخلَنا ربَّنا مع القوم الصالحين} "(5).

قال ابن كثير: " أي: فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق"(6).

قال الزمخشري: أي: " بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان، أى اعتقاده وما يذهب إليه"(7).

وفي تفسير قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة: 85]، وجهان:

احدهما: معناه: بما قاولا من التوحيد. قاله الكلبي (8).

قال الواحدي: " وعلى هذا إنما علق الثواب بمجرد القول؛ لأنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة في قوله: {مما عرفوا من الحق} والبكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب ومعرفتة، والقول إذا اقترن به المعرفة والإخلاص فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه بالثواب"(9).

(1) رواه البخاري (5349)، ومسلم (2816) ..

(2)

التفسير الميسر: 122.

(3)

تفسير السمعاني: 2/ 59.

(4)

بحر العلوم: 1/ 412.

(5)

تفسير الطبري 10/ 512.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 169.

(7)

الكشاف: 1/ 670.

(8)

انظر: التفسير البسيط للواحدي: 7/ 498، وتنوير المقباس" بهامش المصحف ص 122.

(9)

التفسير البسيط للواحدي: 7/ 498.

ص: 409

والثاني: يريد: بما سألوا، يعني قولهم:{فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، وقولهم:{وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا} الآية. وهذا قول ابن عباس (1)، وعطاء (2).

وهذا يدل على مسألتهم الجنة، فعلى هذا التفسير، القول: معناه: المسألة (3).

وظاهر قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة: 85]، يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول، وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب، وأجابوا عنه من وجهين (4):

الأول: أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة، وذلك هو قوله:{مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]، فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان.

الثاني: أن قوله: {بما قالوا} ، يريد بما سألوا، يعني قولهم:{فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة: 83].

قال البغوي: " وإنما أنجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص، بدليل قوله: {وذلك جزاء المحسنين} "(5).

قال القرطبي: " قوله تعالى: {فأثابهم الله بما قالوا .. }، دليل على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم، فأجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم- وهكذا من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة"(6).

وقرأ الحسن: «فآتاهم الله بما قالوا» (7).

قوله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 85]، أي:" جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار"(8).

قال الطبري: " يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار"(9).

قال أبو مالك: " يعني: المساكن تجري أسفلها أنهارها"(10).

قال عبد الله: "أنهار الجنة تفجر من جبل مسك"(11).

قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [المائدة: 85]، أي:" ماكثين فيها لا يخرجون منها، ولا يُحوَّلون عنها"(12).

قال ابن عباس: " يخبرهم أن الثواب مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له"(13).

قال الطبري: " يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوَّلون عنها"(14).

قال ابن كثير: " أي: ساكنين فيها أبدًا، لا يحولون ولا يزولون"(15).

قوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85]، أي:" وذلك جزاء إحسانهم في القول والعمل"(16).

(1) انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 416. في رواية عطاء عنه.

(2)

انظر: التفسير البسيط، للواحدي: 7/ 498، وكذلك التفسير الوسيط له: 2/ 219.

(3)

انظر: التفسير البسيط للواحدي: 7/ 498.

(4)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 416.

(5)

تفسير البغوي: 3/ 88.

(6)

تفسير القرطبي: 6/ 260.

(7)

انظر: الكشاف: 1/ 670.

(8)

التفسير الميسر: 122.

(9)

تفسير الطبري 10/ 512.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6685): ص 4/ 1186.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6684): ص 4/ 1186.

(12)

التفسير الميسر: 122.

(13)

أخرجه ابن ابي حاتم (6686): ص 4/ 1186.

(14)

تفسير الطبري 10/ 512.

(15)

تفسير ابن كثير: 3/ 169.

(16)

التفسير الميسر: 122.

ص: 410

قال ابن عباس: "الموحدين"(1).

وقال الكلبي: "المؤمنين"(2).

قال البغوي: " يعني: الموحدين المؤمنين"(3).

قال السمرقندي: " يعني: ثواب الموحدين المطيعين"(4).

قال الطبري: " يقول: وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا، من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاءُ كل محسنٍ في قِيله وفِعله"(5).

قال ابن كثير: "أي: في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان، وأين كان، ومع من كان"(6).

الفوائد:

1 -

بيان فضل اللع عز وجل، إذ اثاب هؤلاء الذين منّ عليهم بالإيمان بهذا الجزاء العظيم.

2 -

إثبات الأسباب، لقوله:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ} .

3 -

إثبات الجنة وأنها أنواع، لقوله:{جَنَّاتٍ} ، وأنها ذات انهار، لقوله:{جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . وهي أيضا أنواع. كما دلّت الآية على أن نعيم الجنة دائم، لقوله:{خَالِدِينَ فِيهَا} .

4 -

الحثّ على الإحسان، لقوله:{وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ، إذ اشار إليه بإشارة البعيد.

5 -

أن الآية تدل على أن المصدِّق بقلبه، الموقن، المخلص من النفاق يُسمَّى مُحسناً، ويستحقُّ ما وعد الله به المحسنين، قال تعالى:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85]، فجعلهم من المحسنين بقولهم، وهو ما قدم من قولهم:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِين} [المائدة: 84].

ويوضحه قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وصح في تفسير ذلك مرفوعاً أن التثبيت في الآخرة بذلك هو الشهادتان في القبر عند المسألة (7)، وأنه بعد شهادتهما يُبَشَّرُ، ويرى مقعده من الجنة، ولا يُمتَحَنُ بالسؤال عن غيرهما في جميع الأخبار المتفق على صحتها.

ويشهد لمعنى ذلك شواهدُ كثيرةٌ، منها قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهمْ (3)} [الأعراف: 172](8).

6 -

احتج بعض الناس بهذه الآية، أن الإيمان هو مجرد القول، لأنه قال: فأثابهم الله بما قالوا ولكن لا حجة لهم فيها، لأن قولهم كان مع التصديق، والقول بغير التصديق، لا يكون إيمانا. افاده السمرقندي (9).

القرآن

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} [المائدة: 86]

التفسير:

والذين جحدوا وحدانية الله وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذَّبوا بآياته المنزلة على رسله، أولئك هم أصحاب النار الملازمون لها.

(1) انظر: نسبه لابن عباس في زاد المسير 2/ 410، والتفسير الوسيط" 2/ 219، والتفسير البسيط: 7/ 498.

(2)

انظر: التفسير البسيط: 7/ 498.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 88.

(4)

بحر العلوم: 1/ 412.

(5)

تفسير الطبري 10/ 512.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 169.

(7)

أخرجه من حديث البراء البخاري (1369)، ومسلم (2871)، وأبو داود (4750)، والترمذي (3120)، والنسائي 6/ 101، وابن ماجه (4269).

(8)

انظر: العواصم والقواصم في الذب عن سنة ابي القاسم: 9/ 204.

(9)

بحر العلوم: 1/ 412.

ص: 411

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 86]، أي:" والذين جحدوا وحدانية الله وأنكروا نبوة محمد-صلى الله عليه وسلم"(1).

قال القرطبي: أي: " من اليهود والنصارى ومن المشركين"(2).

قال القاسمي: أي: " وكذبوا بحجج الله وبراهينه"(3).

قال الآلوسي: " أي: حجبوا عن الذات"(4).

قال السعدي: أي: " كفروا بالله"(5).

قال المراغي: " أي: وأما الذين جحدوا توحيد الله، وأنكروا نبوة محمد-صلى الله عليه وسلم"(6).

قوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [المائدة: 86]، أي:" وكذَّبوا بآياته المنزلة على رسله"(7).

قال القاسمي: " أي: الذين جحدوا الحق الذي جاءهم"(8).

قال الآلوسي: أي: "الدالة على التوحيد"(9).

قال السعدي: أي: " كذبوا بآياته المبينة للحق"(10).

قال المراغي: أي: "وكذبوا بآيات كتابه"(11).

قال ابو السعود: " عطف التكذيب بآيات الله على «الكفر» مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها جمعا بين الترغيب والترهيب (12).

قال الشوكاني: " التكذيب بالآيات كفر فهو من باب عطف الخاص على العام"(13).

قوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 86]، أي:" أولئك هم أصحاب النار الملازمون لها"(14).

قال المراغي: أي: " سكانها المقيمون فيها لا يبرحونها"(15).

قال القاسمي: " أي: النار الشديدة الحرارة. جزاء وفاقا"(16).

قال الآلوسي: أي: " لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها"(17).

قال الشيخ ابن عثيمين: والجحيم هي النار، وسميت بذلك لبعد قعرها وظلمة مرءاها" (18).

و«الجحيم» : النار الشديدة الاتقاد. يقال: جحم فلان النار إذا شدد إيقادها. ويقال أيضا لعين الأسد: جحمة، لشدة اتقادها. ويقال ذلك للحرب، أي: جاحم الحرب هو شدة القتال في معركتها، قال الشاعر (19):

(1) التفسير الميسر: 122.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 260.

(3)

محاسن التأويل: 4/ 223.

(4)

روح المعاني: 4/ 9.

(5)

تفسير السعدي: 242.

(6)

تفسير المراغي: 7/ 9.

(7)

التفسير الميسر: 122.

(8)

محاسن التأويل: 4/ 223.

(9)

روح المعاني: 4/ 9.

(10)

تفسير السعدي: 242.

(11)

تفسير المراغي: 7/ 9.

(12)

تفسير أبي السعود: 3/ 73.

(13)

فتح القدير: 2/ 79.

(14)

التفسير الميسر: 122.

(15)

تفسير المراغي: 7/ 9.

(16)

محاسن التأويل: 4/ 223.

(17)

روح المعاني: 4/ 9.

(18)

تفسير جزء عم لابن عثيمين: 73.

(19)

البيتان لسعد بن مالك بن ضبيعة، وكان شاعراً جاهلياً مجيداً وفارساً من سادات بكر بن وائل، انظر الحماسة بشرح التبريزي:(1/ 192).

ص: 412

الْحَرْبُ لَا يَبْقَى لِجَاحِمِهَا

التَّخَيُّلُ وَالْمَرَاحُ

إِلَّا الْفَتَى الصَّبَّارُ فِي

النَّجَدَاتِ وَالْفَرَسُ الْوَقَاح (1)

وقال ابن فارس: "الجاحم: المكان الشديد الحر"(2)، وأنشد قول الأعشى (3):

يُعِدُّونَ لِلْهَيْجَاءِ قَبْلَ لِقَائِهَا

غَدَاةَ احْتِضَارِ الْبَأْسِ وَالْمَوْتُ جَاحِمُ

وقال قومٌ: الجَحَّامُ الذي يتحرقُ حرصاً وبُخْلاً، أخذ من الجحيم وهي النار المسْتَحْكِمةُ والمُتَلَظِّيَة. قال (4):

جحيماً تلظى لا تفترُ ساعة

ولا الحر منها غابر الدهر يبردُ (5)

وقال الفراء: "الجحيمُ: الجمرُ الذي بعضه على بعض"(6).

وقال ابن الأنباري: "قال أحمد بن عبيد: إنما قبل للجحيم: جحيم لأنها أُكْثِرَ وقودها، أُخذ من قول العرب: قد جَحَمْتُ النار: إذا أكثرتُ وقودها. قال عمران بن حطان (7):

يرى طاعة الله الهدى وخلافهم

الضلالة يُصلي أهلها جاحم الجمر" (8)

الفوائد:

1 -

بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم.

2 -

استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد.

3 -

الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلدا في النار، وبيانه من وجهين (9):

الأول: أنه تعالى قال في الآية السايقة: {وذلك جزاء المحسنين} ، وهذا الإحسان لا بد وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله:{مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83] ومن الإقرار به، وهو قوله:{فأثابهم الله بما قالوا} ، وإذا كان كذلك، فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة، وهذا الإقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب، وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الإقرار، فوجب أن يحصل له هذا الثواب، فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع، أو يقال: يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب.

الثاني: هو أنه تعالى قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 86]، فقوله:{أولئك أصحاب الجحيم} ، يفيد الحصر، أي: أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم، والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه، فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار، فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق.

القرآن

(1) انظر: الدلالئل في غريب الحديث: 3/ 1132، وجمهرة اللغة: 1/ 562، وتهذيب اللغة: 4/ 102، واللسان: 12/ 85، وتاج العروس: 31/ 372، ومعاني القرآن للزجاج: 2/ 200، وتفسيرالقرطبي: 6/ 260، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 570.

النجَدَات: الشدائد. الوَقَاح: الشديد الحافر.

(2)

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، مادة"جحم": ص 5/ 1883، ومقاييس اللغة، مادة"جحم": ص 1/ 429، ومجمل اللغة:177.

(3)

البيت للأعشى في اللسان، مادة جحم": ص 12/ 84، ومقاييس اللغة، مادة"جحم": ص 1/ 429، ومجمل اللغة: 177، وتاج العروس، مادةجحم"، وليس في ديوانه الذي يتضمن قصيدة على وزن البيت ورويه.

(4)

لا عزو في المذكر والمؤنث لابن الأنباري 371، والإبانة في اللغة العربية للصحاري: 2/ 368.

(5)

انظر: الإبانة في اللغة العربية: 2/ 368.

(6)

المذكر والمؤنث لابن الأنباري 277.

(7)

شعر الخوارج 171.

(8)

المذكر والمؤنث: 277.

(9)

انظر: مفاتيح الغيب: 12/ 416.

ص: 413

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} [المائدة: 87]

التفسير:

يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات أحلَّها الله لكم من المطاعم والمشارب ونكاح النساء، فتضيقوا ما وسَّع الله عليكم، ولا تتجاوزوا حدود ما حرَّم الله. إن الله لا يحب المعتدين.

في سبب نزول الآية ثلاثة اقوال:

أحدها: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي؛ فحرمت عليّ اللحم؛ فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (1). [صحيح لغيره]

الثاني: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}؛ قال: هم رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسبح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم، فقالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكنى أصوم وافطر، وأصلي وانام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي؛ فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي؛ فليس مني» "(2). [حسن]

(1) أخرجه الترمذي (5/ 255، 256 رقم 3054)، والطبراني في "المعجم الكبير"(11/ 277 رقم 11981)، والطبري في "جامع البيان" (12350): ص 10/ 520، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6687): ص 4/ 1186، وابن عدي في "الكامل"(5/ 1817)، والواحدي في "أسباب النزول"(ص 137) من طريق عثمان بن سعد الكاتب عن عكرمة عن ابن عباس به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ فيه عثمان هذا وهو ضعيف؛ ضعفه ابن معين وأبو زرعة والنسائي وغيرهم.

انظر: "الجرح والتعديل"(6/ رقم 838)، و"تهذيب الكمال"(19/ 376 - 378)، و"التقريب"(2/ 9).

وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".

لكن للحديث شواهد تدل على أن له أصلًا، ومعناه صحيح؛ فيرتقي الحديث إلى درجة الصحيح لغيره.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 139) وزاد نسبته لابن مردويه.

وقد قال الترمذي عقب الحديث: "ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلاً، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلاً".

يشير الترمذي إلى أن عثمان بن سعد قد خولف في إسناده.

فقد أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12337)، (12338)، (12340): ص 10/ 514 - 515، من طريق يزيد بن زريع وإسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي ثلاثتهم عن خالد الحذاء عن عكرمة؛ قال: كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هموا بالخصاء وترك اللحم والنساء؛ فنزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} . هذا لفظ يزيد.

قلنا: وهذا سند صحيح كالشمس إلى عكرمة؛ لكنه مرسل.

فقد خالف عثمان بن سعد خالداً لحذاء فوصله، والصواب رواية خالد؛ لأنه ثقة من رجال الشيخين بخلاف عثمان.

فتبين أن الصواب في الحديث هو الإرسال، لكن له شواهد تؤكد معناه وتثبت صحته، وانظر الأحاديث والآثار الآتية.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 140) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.

(2)

أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12346): ص 10/ 518: ثني المثنى، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1187 رقم 6689): ثنا أبي، كلاهما قال: ثنا عبد الله بن صالح -كاتب الليث- ثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عنه به.

قلنا: وهذا سند حسن، وقد أعلّ بعلتين وهما ليستا بشيء:

الأولى: الانقطاع بين علي وابن عباس، وقد تقدم مراراً أن رواية علي عن ابن عباس محمولة على الاتصال؛ كما نص على ذلك أهل العلم كابن حجر وغيره.

الثانية: ضعف عبد الله بن صالح؛ لكن الراوي عنه هنا أبو حاتم الرازي الثقة الحافظ، وقد قال الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" (ص 414):"ظاهر كلام هؤلاء الأئمة: أن حديثه في الأول كان مستقيماً ثم طرأ عليه فيه تخليط، فمقتضى ذلك أن ما يجيء من روايته عن أهل الحذق؛ كيحيى بن معين والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم، فهو من صحيح حديثه. .. ".

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 139) وزاد نسبته لابن مردويه.

ص: 414

قال أبو مالك: " نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه حرموا عليهم كثيراً من الطيبات والنساء، فهَمَّ بعضهم أن يقطع ذكره؛ فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} "(1). [صحيح]

قال قتادة: " نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا، ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون"(2). [ضعيف]

وقال مجاهد: " أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويُخْصوا أنفسهم، ويلبسوا المسوح؛ فنزلت هذه الآية إلى قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} "(3). [ضعيف]

عن المغيرة بن عثمان؛ قال: "كان عثمان بن مظعون وعلي وابن مسعود والمقداد وعمار أرادوا الاختصاء، وتحريم اللحم، ولبس المسوح في أصحاب لهم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون، فسأله عن ذلك؛ فقال: قد كان بعض ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنكح النساء وآكل اللحم، وأصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وألبس الثياب، لم آت بالتبتل ولا بالرهبانية، ولكن جئت بالحنيفية السمحة، ومن رغب عن سنتي؛ فليس مني"، قال ابن جريج: فنزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} "(4). [ضعيف]

وعن عكرمة: "أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزَلوا النساءَ، ولبسوا المسوحَ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالإخصَاء، وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} "(5). [ضعيف]

(1) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه"(4/ 1515 رقم 771 - تكملة)، والطبري في "جامع البيان"(7/ 7)، وأبو داود في "مراسيله"(رقم 201) من طريقين عن حصين بن عبد الرحمن السلمي عن أبي مالك به.

قلنا: وهذا مرسل صحيح الإسناد، أما ما يخشى من أن حصيناً تغيّر حفظه بآخره فالراوي عنه عند أبي داود وسعيد بن منصور هو خالد الطحان وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 139) وزاد نسبته لعبد بن حميد.

(2)

أخرجه الطبري (12342): 10/ 515: ثنا ابن وكيع ثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم به.

قلت: وهذا سند ضعيف؛ مسلسل بالعلل:

الأولى: الإرسال.

الثانية: المغيرة؛ ثقة متقن؛ إلا أنه كان يدلس، ولا سيما عن إبراهيم؛ كما في "التقريب"(2/ 270).

الثالثة: سفيان بن وكيع شيخ الطبري؛ قال الحافظ في "التقريب"(1/ 312):

"كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه؛ فأدخل عليه ما ليس من حديثه؛ فنصح؛ فلم يقبل؛ فسقط حديثه".

(3)

أخرجه سنيد في "تفسيره" -ومن طريقه الطبري في "جامع البيان"(12348): 10/ 519 - : ثني حجاج عن ابن جريج عن مجاهد به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ فيه علل:

الأولى: الإرسال.

الثانية: ابن جريج لم يسمع من مجاهد.

الثالثه: سنيد صاحب "التفسير"؛ ضعيف؛ ضعفه أبو حاتم، والنسائي، وابن حجر وغيرهم.

والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 142) وزاد نسبته لأبي الشيخ.

(4)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 143) ونسبه لأبي الشيخ.

(5)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 142) ونسبه لابن المنذر والطبري وأبي الشيخ.

وهو عند الطبري في جامع البيان (12348): 10/ 519، من طريق سنيد صاحب "التفسير" ثني حجاج عن ابن جريج عن عكرمة به.

قلنا: وسنده ضعيف أيضاً؛ فيه ثلاث علل:

الأولى: الإرسال.

الثانية: ابن جريج لم يسمع من عكرمة.

الثالثة: سنيد صاحب "التفسير" ضعيف.

ص: 415

وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال:"كانوا عشرة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من رغب عن سنتي فليس مني» ونزلت هذه الآية"(1). [ضعيف جدا]

وعن الحسن العرني؛ قال: "كان علي في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات؛ فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} "(2). [ضعيف]

وعن السدي: " {يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين}، " وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! فإنّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك، وأن يأكل بالنهار، وحرَّم بعضهم النوم، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممَّن حرم النساءَ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، وكان يقال لها: الحولاء، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالُك، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا تمتشِطين ولا تطيَّبين؟ فقالت: وكيف أتطيَّب وأمتشط، وما وقع عليّ زوجي، ولا رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله، الحولاءُ، سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلَّى للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال: يا رسول الله إني صائم! قال: أفطر! فأفطر، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيَّبت. فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء، والطعامَ، والنومَ؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني! فنزلت:{يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} ، يقول لعثمان: لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم، فقال:{لا يؤاخذكم الله باللَّغو في أيمانكم ولكن يُؤَاخذكم بما عقّدتم الأيمان} " (3). [ضعيف جدا]

والثالث: عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ قال: "قال أبي: ضاف عبد الله بن رواحة ضيف، فانقلب ابن رواحة ولم يتعش، فقال لأهله: ما عشيته؟ فقالت: كان الطعام قليلاً فانتظرت

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 577، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، وذكر أبي بكر وعمر في هذا الحديث غريب جدا ..

(2)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 143) ونسبه لابن مردويه.

(3)

أخرجه الطبري (12345): ص 10/ 517 - 518: ثني محمد بن الحسين ثنا أحمد بن مفضل ثنا أسباط عن السدي به.

قلنا: وهذا سند ضعيف جداً؛ فيه علل:

الأولى: الإعضال، فلم يصح أن السدي روى عن واحد من الصحابة.

الثانية: أسباط بن نصر؛ صدوق، كثير الخطأ، يغرب.

الثالثة: محمد بن الحسين لم نجد له ترجمة.

وهذا المتن أصله محفوظ بشواهده المرسلة والموصولة.

ص: 416

أن تأتي، قال: فحبست ضيفي من أجلي؛ فطعامك عليّ حرام إن ذقته، فقالت: هي وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه، وقال الضيف: هو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه، فلما رأى ذلك، قال ابن رواحة: قربي طعامك، كلوا بسم الله، وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أحسنت"؛ فنزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، وقرأ حتى بلغ:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وإذا قلت: والله لا أذوقه؛ فذلك العقد" (1). [ضعيف جداً]

والظاهر - والله أعلم - أن القول الأول هو سبب نزول الآية وإن كان الصحيح فيه الإرسال، لأمور ثلاثة:

أحدها: التصريح بالسببية.

الثاني: مطابقة سياق الحديث للفظ الآية، إذ أن قوله:"فحرمت عليَّ اللحم"، يوافق قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} .

الثالث: الاحتجاج به عند جمهور المفسرين.

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 87]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(2).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(3).

قال سعيد بن جبير: "قوله: {آمنوا بالله}، يعني: بتوحيد الله"(4).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(5).

قوله تعالى: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، أي:" لا تحرِّموا طيبات أحلَّها الله لكم من المطاعم والمشارب ونكاح النساء، فتضيقوا ما وسَّع الله عليكم"(6).

قال السعدي: أي: " من المطاعم والمشارب، فإنها نعم أنعم الله بها عليكم، فاحمدوه إذ أحلها لكم، واشكروه ولا تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها، أو اعتقاد تحريمها، فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب، وكفر النعمة، واعتقاد الحلال الطيب حراما خبيثا"(7).

قال البيضاوي": {طيبات ما أحل الله لكم}، أي: ما طاب ولذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك"(8).

قال أبو السعود: " أي: لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا"(9).

قال الزمخشري: " {طيبات ما أحل الله لكم}، ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى لا تحرموا لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا (10) "(11).

(1) أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12349): ص 10/ 519 - 520، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6692): ص 4/ 1187 من طريق ابن وهب عنه به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف عبد الرحمن.

(2)

التفسير الميسر: 106.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6104): ص 4/ 1090.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(6)

التفسير الميسر: 122.

(7)

تفسير السعدي: 242.

(8)

تفسير البيضاوي: 2/ 141.

(9)

تفسير ابي السعود: 3/ 73.

(10)

في الصحاح «قشف» بالكسر: قشفا، إذا لوحته الشمس أو الفقر فتغير. والمتقشف: الذي يتبلغ بالقوت وبالمرقع ..

(11)

الكشاف: 1/ 670 - 671.

ص: 417

قال عبد الله بن المبارك: "الحلال ما أخذته من وجهه والطيب ما غذا ونما فأما الجوامد والطين والتراب، وما لا يغذي فمتروك إلا على جهة للتداوي"(1).

قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، أي:" ولا تتجاوزوا حدود ما حرَّم الله"(2).

قال السمرقندي: " يقول: يعني: لا تحرموا حلاله"(3).

قال الزمخشري: أي: " ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم. أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهى عن تحريمها دخولا أوليا لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك وكلوا مما رزقكم الله أى من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقا حلالا حال مما رزقكم ا"(4).

قال البيضاوي: أي: " الاعتداء عما حد الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراما، ويجوز أن يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما"(5).

قال المراغي: " والتحريم والتحليل تشريع وهو من حقوق الله فمن انتحله لنفسه كان مدعيا الربوبية أو كالمدعى لها"(6).

وفي قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]، خمسة أقوال:

أحدها: لا تجبوا أنفسكم (7)، أراد ما هَمَّ به عثمان بن مظعون من جبِّ نفسه. قاله السدي (8)، واختاره الفراء (9).

والثاني: لا تأتوا ما نهى الله عنه، قاله الحسن (10).

والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين من ترك النساء، وإدامة الصيام، والقيام، قاله عكرمة (11).

والرابع: لا تحرموا الحلال، قاله مقاتل (12).

والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرمة، ذكره الماوردي (13).

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، أي:"إن الله لايحب المتجاوزين الحد"(14).

قال السعدي: أي: " بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك"(15).

قال السمعاني: " والاعتداء: هو مجاوزة ماله إلى ما ليس له"(16).

(1) تفسير الثعلبي: 4/ 102.

(2)

التفسير الميسر: 122.

(3)

بحر العلوم: 1/ 414.

(4)

الكشاف: 1/ 671.

(5)

تفسير البيضاوي: 2/ 141.

(6)

تفسير المراغي: 7/ 12.

(7)

وزاد الواحدي، وابن الجوزي نسبته الى ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم. انظر: التفسير البسيط: 7/ 499 - 500، وزاد المسير: 1/ 578.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12352): ص 10/ 521، و (12345): 10/ 517 - 518.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 318.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12354): ص 10/ 521، وتفسير ابن أبي حاتم (6696): ص 4/ 1188، وتفسير زاد المسير: 1/ 578.

(11)

أخرجه الطبري (12353): ص 10/ 521، و (12348): 10/ 519.

(12)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 499.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 59.

(14)

انظر: صفوة التفاسير: 325.

(15)

تفسير السعدي: 242.

(16)

تفسير السمعاني: 2/ 60.

ص: 418

قال السمرقندي: " يقال: إن محرم ما أحل الله كمحل ما حرم ال"(1).

قال الواحدي: " واعلم أن شريعة نبيه عليه السلام غير ذلك، وأن الطيبات لا ينبغي أن تجتنب، وسمى الخصاء اعتداء فقال: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي لا تجبوا أنفسكم"(2).

وروي عن عائشة- رضي الله عنها -قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل"(3).

وروي أن الحسن: " كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السبخي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله فلا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: يا هذا أتحب لباب البر مع سمن البقر؟ هل يعيبه مسلم"(4).

وجاء رجل إلى الحسن فقال: "إن لي جار لا يأكل الفالوذ، قال: ولم؟ قال: يقول: لا يروي شكره. قال الحسن: ويشرب الماء البارد؟ قال: نعم، قال: جارك جاهل إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ"(5).

الفوائد:

1 -

حرمة تحريم ما أباح الله، كحرمة تحليل ما حرم الله عز وجل.

قال الجصاص: " وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها"(6).

وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج (7).

وروي أنه: " كان يأكل الرطب مع الخربز. يعني: البطيخ (8) "

روي نافع عن ابن عمر-رضي الله عنهما: " انه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا"(9).

(1) بحر العلوم: 1/ 414.

(2)

التفسير البسيط: 7/ 499 - 500، وانظر: الاقوال في "تفسير الطبري" 7/ 10 - 11، "الوسيط" 2/ 219، البغوي 3/ 90، "زاد المسير" 2/ 412، "الدر المنثور" 2/ 544 - 548.

(3)

أخرجه البخاري في الأشربة، باب الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة: 10/ 62، والبغوي في شرح السنة: 11/ 308، وتفسيره: 3/ 90.

(4)

تفسير الثعلبي: 4/ 102.

(5)

تفسير الثعلبي: 4/ 102.

(6)

أحكام القرآن: 4/ 110 - 111.

(7)

صحيح البخاري (5039).

(8)

رواه أحمد (3/ 142 ، 143) وأبو بكر الشافعي في " الفوائد "(105/ 2)

والضياء في " المختارة "(86/ 2) عن جرير بن حازم عن حميد عن أنس #

مرفوعا ..

(9)

مصنف ابن أبي شيبة " (5/ 148)، وسنده صحيح كما قال الحافظ في " الفتح " (9/ 648).

الحيوان الذي يتغذى على النجاسات، يسمى عند الفقهاء بـ " الجلَّالة ".

والْجَلالَة هِيَ الَّتِي تَأْكُل الجِلَّة، والجلة: البَعر. ينظر: " غريب الحديث " للقاسم بن سلام (1/ 78)، و " غريب الحديث " لابن قتيبة (1/ 276).

وقال أبو داود رحمه الله: " الْجَلَّالَةُ الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ " انتهى من " السنن "(3719).

وقال الإمام أحمد رحمه الله: " الْجَلَّالَةُ: مَا أَكَلَتِ الْعَذِرَةَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ" انتهى من " مسائل الإمام أحمد " رواية أبي داود (ص/ـ 345).

فالجلالة: اسم يشمل أي حيوان يتغذى على النجاسات، سواء كان من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج، أو الإوز، أو غيرها من الحيوانات المأكولة.

قال النووي رحمه الله: " وَتَكون الْجَلالَة: بَعِيرًا، وبقرةً، وشَاةً، ودجاجةً، وإوزة، وَغَيرهَا " انتهى من " تحرير ألفاظ التنبيه "(ص/170).

الحيوان الذي يتغذى على النجاسات له أحوال:

الأولى: أن يكون تغذيه عليها قليلا، وأغلب طعامه من الطيبات، فهذا لا يشمله حكم الجلالة.

قال الخطابي رحمه الله: " فأما إذا رعت الكلأ، واعتلفت الحَبَّ، وكانت تنال مع ذلك شيئاً من الجِلَّة، فليست بجلالة، وإنما هي كالدجاج ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها، وغالب غذائه وعلفه من غيرها: فلا يكره أكله " انتهى من " معالم السنن "(4/ 244).

الثانية: أن يكون أكثر طعامه من النجاسات، ويظهر تأثير ذلك على الحيوان في نتن لحمه ورائحته، فهذا يشمله النهي، فلا يجوز أكل لحمه وبيضه، ولا شرب لبنه، ولا ركوبه.

قال الكاساني رحمه الله: " إنَّمَا تَكُونُ جَلَّالَةً إذَا تَغَيَّرَتْ وَوُجِدَ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنَةٌ، فَهِيَ الْجَلَّالَةُ حِينَئِذٍ، لَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا " انتهى من " بدائع الصنائع "(5/ 40).

الثالثة: أن يكون أكثر طعامه من النجاسات، ولكن لا يظهر تأثير ذلك على الحيوان في لحمه ورائحته، فهل يعد جلالة أم لا؟

مذهب الحنابلة: أنه يعد جلالة؛ لأن الجلالة عندهم هي الحيوان الذي أكثر طعامه من النجاسات، سواء ظهر أثر ذلك على لحم الحيوان ورائحته أم لا.

قال ابن قدامة رحمه الله: " فَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ، حُرُمَ لَحْمُهَا وَلَبَنُهَا، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا الطَّاهِرَ، لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهَا وَلَا لَبَنُهَا " انتهى من " المغني "(9/ 413).

وأما الحنفية والشافعية: فلم يعدوها من الجلالة؛ لأن شرط الجلالة أن يظهر تأثير أكلها للنجاسات في لحمها ورائحتها.

قال السرخسي رحمه الله: " وَتَفْسِيرُ الْجَلَّالَةِ: الَّتِي تَعْتَادُ أَكْلَ الْجِيَفِ .. فَيَتَغَيَّر لَحْمُهَا، وَيَكُونُ لَحْمُهَا مُنْتِنًا فَحَرُمَ الْأَكْلُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ

وَأَمَّا مَا يَخْلِطُ فَيَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَغَيْرَ الْجِيَفِ عَلَى وَجْهٍ لا يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ مِنْ لَحْمِهِ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ " انتهى من " المبسوط " (11/ 255).

وقال النووي رحمه الله: " لَا اعْتِبَارَ بِالْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِالرَّائِحَةِ وَالنَّتْنِ، فَإِنْ وُجِدَ فِي عَرَقِهَا وَغَيْرِهِ رِيحُ النَّجَاسَةِ فَجَلَّالَةٌ، وَإِلَّا فَلَا " انتهى من " المجموع شرح المهذب "(9/ 28).

ومما يقوي هذا القول: أن النجاسة التي تستحيل [أي: تتحول إلى مادة أخرى] لا حكم لها، وإنما يكون لها اعتبار إذا ظهر أثرها، إذ أن النباتات والمزروعات التي تتغذى على النجاسات لا حرج فيها؛ لأنها قد طَهُرت باستحالتها إلى غذاءٍ طيب تغذَّت به الشجرة إلا أن يظهر أثر النجاسة في الحب والثمر، وكلا الأمرين من باب واحد.

والجلالة لا يحل أكل لحمها حتى تزول منها آثار النتن والخبث، وذلك بحبسها، وعلفها طعاماً طيباً طاهراً.

قال ابن قدامة رحمه الله: " وَتَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِحَبْسِهَا اتِّفَاقًا " انتهى من " المغني "(9/ 414).

هل أكل لحم الجلالة محرم أم مكروه؟

مذهب الحنابلة: تحريم أكل لحمها وبيضها وشرب لبنها، وكراهة ركوبها. ينظر:" الإنصاف "(10/ 356)، " شرح منتهى الإرادات "(3/ 411).

ومذهب الحنفية والشافعية ورواية عن أحمد: كراهة الأكل والشرب والركوب. ينظر: " بدائع الصنائع "(5/ 40)، " مغني المحتاج "(4/ 304).

قال الخطابي رحمه الله: " كُرِهَ أكلُ لحومها وألبانها تنزهاً وتنظفاً، وذلك أنها إذا اغتذت بها وُجِدَ نتنُ رائحتها في لحومها " انتهى من " معالم السنن "(4/ 244).

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، وَبِهِ جَزَمَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ عَنِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَفَّالُ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَأَلْحَقُوا بِلَبَنِهَا وَلَحْمِهَا: بَيْضَهَا " انتهى من " فتح الباري "(9/ 648).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " فالنهي فيها عن الركوب للتنزيه، وأما عن الأكل فهو إما كراهة تنزيه وإما كراهة تحريم على خلاف بين العلماء في ذلك " انتهى من " شرح رياض الصالحين "(6/ 435).

والحاصل: أن الجلَّالة هي الحيوان الذي يتغذى على النجاسات، ويظهر أثر النجاسة عليه، فلا يجوز في هذه الحال أكل لحمه ولا بيضه ولا شرب لبنه.

ص: 419

وقال ابن عباس: " كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف ومخيلة"(1).

وعن أبي حنيفة، قال:"بلغني عن عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبي هريرة، وأنس بن مالك وحسين بن علي، وابن الزبير، وشريح رضي الله عنهم: أنهم كانوا يلبسون الخز"(2).

(1) صحيح البخاري (5783)، كتاب اللباس باب قول الله تعالى:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} .

(2)

حديث موقوف، الآثار لأبي يوسف (993)، باب في لبس الحرير والذهب.

الخز: ثياب تنسج من صوف وحرير.

ص: 420

ويدل على نحو دلالة الآية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32](1).

قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32].

فقال عقيب ذكره لما خلق من الفواكه: {مَتَاعًا لَكُمْ}

2 -

النهي عن العدوان، يعني الاعتداء في حق الله وفي حق العباد، والإشارة غلى أن تحريم ما احل الله من باب العدوان، لقوله: {ولا تحرموا

ولا تعتدوا}.

وقال أهل العلم أن تحريم الحلال أشد من تحليل الحرام، لأن تحريم الحلال تضييق على عباد الله بدون علم، وتحليل الحرام إن قدر أنه حرام بناءا على الأصل، لأن الأصل في الأشياء الحل، إلا الشرائع فالاصل فيها الحظر (2).

3 -

منّة الله تعالى على عباده بما احل لهم، لقوله:{طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ، ولو شاء الله عز وجل لحرم علينا طيبات أحلت لنا، كما حرم ذلك على بني إسرائيل، إذ قال: " {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]، أي: بسبب ظلمهم وعصيانهم حرم الله عليهم الطيبات.

قال الشيخ ابن عثيمين: "وتحريم الطيبات الشرعي بسبب الظلم مثله التحريم القدري بسبب الظلم، فإن الإنسان قد يحرم الطيبات تحريما قدريا لمعصيته، مثل أن يكون رجل إذا أكل اللحم، تأثر ومرض، هذا يجب عليه أن يجتنب أكل اللحم وهذا تحريم قدري، إنسان مثلا مريض بمرض السكر، إذا أكل الحلو ازداد عليه السكر وآلمه، فيجب عليه أن يجتنب السكر، هذا تحريم قدري، فلا تظن أن التحريم بسبب المعاصي هو التحريم الشرعي فقط، ومن التحريم القدري أن يمنع الله نبات الأرض بسبب المعاصي كما قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41](3).

4 -

إثبات المحبة لله عز وجل، لقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ، لأن نفي محبة المعتدين يدل على ثبوت أصل المحبة، ولو كان لايحب مطلقا لم يكن لنفي محبته للمعتدين فائدة، وفيه رد على منكري محبة الله عز وجل.

ويدر القول بان الإنسان اذا شعر بان الله يحبه يفرح ويزداد في حبه للطاعات وكراهة المعاصي، لأنه يعلم أن ربه عز وجل يحبه من فوق السماوات، وأما من تأول المحبة بالثواب، فنقول: إن الله يثيب أي واحد من العباد ممن يستحق الثواب، فلا تحرموا لذة محبة الله ولا تنكروها.

القرآن

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)} [المائدة: 88]

التفسير:

وتمتعوا -أيها المؤمنون- بالحلال الطيب مما أعطاكم الله ومنحكم إياه، واتقوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه; فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراقبته.

قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88]، أي:" وتمتعوا -أيها المؤمنون- بالحلال الطيب مما أعطاكم الله ومنحكم إياه"(4).

(1) أحكام القرآن: 4/ 110 - 111.

(2)

انظر: تفسير سورة المائدة لابن عثيمين: 2/ 302.

(3)

تفسير سورة المائدة لابن عثيمين: 2/ 303.

(4)

التفسير الميسر: 122.

ص: 421

قال الجصاص: " أخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله افتراء عليه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز"(1).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88]، أي:" واتقوا الله بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه; فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراقبته"(2).

قال محمد بن إسحاق: {واتقوا الله} ، أي: أطيعوا الله" (3).

قال ابن عثيمين: "أي: فللإيمانكم يلزمكم التقوى"(4).

قال السمرقندي: " يعني: إن كنتم مصدقين به، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه"(5).

قال مقاتل: " ولا تحرموا ما أحل الله لكم، {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}، يقول: الذي أنتم به مصدقون"(6).

قال الزمخشري: " {واتقوا الله}، تأكيد للتوصية بما أمر به، وزاده تأكيدا بقوله: {الذي أنتم به مؤمنون}، لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر وعما نهى عنه"(7).

قال الصابوني: " هذا استدعاء إِلى التقوى بألطف الوجوه كأنه يقول: لا تضيّعوا إِيمانكم بالتقصير في طاعة الله عز وجل فتكون عليكم الحسرة العظمى فإِن الإِيمان بالله تعالى يوجب المبالغة في تقوى الله"(8).

الفوائد:

1 -

في قولِه تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} ، أمْرُ الإنسانِ بالأكْلِ ممَّا رزَقَ اللهُ، وضدُّه عدمُ الأكْل، وعدمُ الأكلِ ممَّا رزَق اللهُ ثلاثةُ أقسام (9):

الأوَّل: أن يَترُك الأكلَ مع خوفِ الهلاك إذا لم يأكُلْ، فهنا تركُ الأكْلِ حرامٌ؛ لأنَّه يجبُ على الإنسانِ أن يُنقِذَ نفْسَه.

الثاني: إذا كان ليس به ضرورةٌ للأكْلِ لكن يحتاجُ إلى الأكْلِ لتقويةِ البَدنِ، فهنا الأكلُ مُستحَبٌّ؛ لأنَّه لو ترَكَه لم يَهلِك، لكنَّه في حاجةٍ، نقول له: لا تمنعْ نفْسَك.

الثالث: أن يَترُكَ الأكلَ تنزُّهًا، فهذا يُنهَى عنه، ويُقال: كُلْ ممَّا أباحَ اللهُ لك

2 -

أن الإيمان بالله عز وجل مستلزم لتقواه، لقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة: 88]، ومن قال أنني مؤمن ولم يتق، فهو ناقص الإيمان.

القرآن

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)} [المائدة: 89]

التفسير:

لا يعاقبكم الله -أيها المسلمون- فيما لا تقصدون عَقْدَه من الأيمان، مثل قول بعضكم: لا والله، وبلى والله، ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم، فإذا لم تَفُوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما

(1) أحكام القرآن: 3/ 31.

(2)

التفسير الميسر: 122.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6700): ص 4/ 1189.

(4)

تفسير سورة المائدة لابن عثيمين: 307.

(5)

بحر العلوم: 1/ 414.

(6)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 500.

(7)

الكشاف: 1/ 672.

(8)

صفوة التفاسير: 335.

(9)

انظر: تفسير ابن عثيمين، سورة المائدة: 2/ 305.

ص: 422

تقدِّمونه مما شرعه الله لكم كفارة من إطعام عشرة محتاجين لا يملكون ما يكفيهم ويسد حاجتهم، لكل مسكين نصف صاع من أوسط طعام أهل البلد، أو كسوتهم، لكل مسكين ما يكفي في الكسوة عُرفًا، أو إعتاق مملوك من الرق، فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هذه الأمور الثلاثة، فمن لم يجد شيئًا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام. تلك مكفرات عدم الوفاء بأيمانكم، واحفظوا -أيها المسلمون- أيمانكم: باجتناب الحلف، أو الوفاء إن حلفتم، أو الكفارة إذا لم تفوا بها. وكما بيَّن الله لكم حكم الأيمان والتحلل منها يُبيِّن لكم أحكام دينه; لتشكروا له على هدايته إياكم إلى الطريق المستقيم.

في سبب نزول الآية وجوه:

أحدها: عن عائشة-رضي الله تعالى عنها-؛ قالت في قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ؛ نزلت في قوله: لا والله، بلى والله" (1).

والثاني: قال عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما: "لما نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم؛ قالوا: يا رسول الله! كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله -تعالى ذكره-: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2). [ضعيف جداً]

والثالث: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: "كان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة، [وفي رواية: فضل]: وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه شدة؛ فأنزل الله -تعالى-: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قال: ليس بأرفعه ولا بأدناه"(3). [صحيح]

والرابع: قال سعيد بن جبير: " كان أهل المدينة يفضلون الحر على العبد، والكبير على الصغير، ويقولون: الصغير على قدره، والكبير على قدره؛ فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}؛ فأمروا بأوسط من ذلك ليس بأرفعه "(4). [ضعيف جداً]

(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(11/ رقم 6663).

(2)

خرجه الطبري في "جامع البيان"(12356): ص 10/ 523 من طريق العوفي عنه.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ مسلسل بالعوفيين.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 142، 143) ونسبه لابن مردويه، وأعاده في (3/ 149، 150) ونسبه للطبري.

(3)

أخرجه ابن ماجه (1/ 682، 683 رقم 2113)، والطبري في "جامع البيان" (12440): ص 10/ 542 - 543، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ رقم 6722)، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 153) -ومن طريقه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(10/ 172 رقم 169) -، والضياء -من طريق أخرى- (10/ 171 رقم 168) من طريق سفيان بن عيينة عن سليمان بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه به.

قال البوصيري في "مصباح الزجاجة"(ص 749): "هذا إسناد موقوف، صحيح الإسناد".

وصححه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح سنن ابن ماجه"(رقم 1717).

(4)

أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12436)، و (12437): ص 10/ 541 - 542، بسندين عنه:

الأول (12436): ص 10/ 542: ثنا الحارث بن أبي أسامة ثنا عبد العزيز بن أبان ثنا قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عنه به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ فيه علتان:

الأولى: عبد العزيز هذا؛ متروك الحديث، وكذبه ابن معين وغيره؛ كما في "التقريب"(1/ 508).

الثانية: قيس بن الربيع؛ صدوق، تغيّر لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 153) ونسبه لعبد بن حميد وأبي الشيخ.

فيحتمل أن عبد العزيز توبع من قبل عبد بن حميد، ويحتمل أن عبد بن حميد رواه من طريق غيره، فلو قدرنا أن عبد بن حميد تابع عبد العزيز فيبقى علة الحديث قيس بن الربيع وهو من شيوخ عبد بن حميد وإلا؛ فله إسناد آخر، والله أعلم.

الثاني (12437): ص 10/ 541 - 542: ثنا ابن حميد ثنا حكام بن سلم عن سليمان العبسي عنه به.

قلنا: وسنده ضعيف جداً؛ فابن حميد حافظ ضعيف، بل إنه اتهم، وسليمان هذا لم نجد له ترجمة، ولعله وقع تصحيف في اسمه؛ فإن النسخة التي بين أيدينا -طبع دار المعرفة- كثيرة التصحيف والتحريف.

وكلا الطريقين لا تقويان بعضهما البعض؛ نظراً للضعف الشديد فيهما.

ص: 423

قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89]، أي:" لا يعاقبكم الله -أيها المسلمون- فيما لا تقصدون عَقْدَه من الأيمان"(1).

قال الطبري: " يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم"(2).

قال السعدي: " أي: في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو، وهي الأيمان التي حلف بها المقسم من غير نية ولا قصد، أو عقدها يظن صدق نفسه، فبان بخلاف ذلك"(3).

قال الزمخشري: " اللغو في اليمين: الساقط الذي لا يتعلق به حكم"(4).

قال الزجاج: " «اللغو»: في كلام العرب ما اطرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمى ما ليس معتدا به - وإن كان موجودا – لغوا"(5)، وأنشد قول المثقب العبدي (6):

أَو مائَة يُجعل أولادُها

لَغْواً وعُرْضُ الْمِائَة الجَلْمَدُ

قال الجصاص: " يعني: نوقا لا تعتد بأولادها، فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له"(7).

جاء في حلية الفقهاء: " فكل يمين لم يعقد عليها الحالف بقلبه، وكل كلام لم يعقد عليه فهو لغو"(8).

قال السمعاني: "اللغو: هو المطرح الذي لا يعبأ به، وقوله: {لا يؤاخذكم} يعني: في القيامة. وسائر العلماء على أن لا كفارة في يمين اللغو؛ لظاهر القرآن"(9).

قال الحسن: " هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلفتَ عليه على علمٍ"(10).

قال الشعبي: " اللغو ليس فيه كفارة ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، قال: ما عُقِدت فيه يمينه، فعليه الكفارة"(11).

قال أبو مالك: " الأيمان ثلاثٌ: يمين تكفّر، ويمين لا تُكَفَّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها. فأما اليمين التي تكفَّر، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا

(1) التفسير الميسر: 122.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 523.

(3)

تفسير السعدي: 242.

(4)

الكشاف: 1/ 672.

(5)

معاني القرآن: 2/ 201.

(6)

البيت له في: اللسان، مادة"عرض": ص 7/ 18، وتاج العروس"عرض": ص 18/ 401،

وبلا نسبة في جمهرة اللغة: ص 3/ 1320، والصحاح"عرض": ص 3/ 1090.

(7)

احكام القرآن: 4/ 111.

(8)

حلية الفقهاء، ابن فارس:205.

(9)

تفسير السمعاني: 2/ 60.

(10)

أخرجه الطبري (12360): ص 10/ 525 - 526.

(11)

أخرجه الطبري (12361): ص 10/ 526.

ص: 424

يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهو اللغو" (1).

عن عطاء قال: "قالت عائشة: لغوُ اليمين، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه"(2).

وعن عائشة ايضا: ": أيمانُ الكفارة، كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره: ليفعلن، ليتركنّ، فذلك عقد الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} "(3).

قال الحسن (4)، وإبراهيم (5)، ويحيى بن سعيد (6)، علي بن أبي طلحة (7)، وقتادة (8)، والسدي (9):" ليس في لغو اليمين كفّارة".

قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، أي:" ولكن يعاقبكم فيما قصدتم عقده بقلوبكم"(10).

قال مجاهد: " بما تعمدتم"(11).

قال الحسن: "يقول: ما تعمَّدت فيه المأثَم، فعليك فيه الكفارة"(12).

قال عطاء بن أبي مسلم: "أما ما عقدتم الأيمان، فيقال: ما عزمتم على وفائه"(13). قال ابن أبي حاتم: " يعني: أن لا تحنثوا"(14).

وقال عطاء: "هو أن يضمر الأمر، ثم يحلف بالله لا إله إلا هو، فيعقد عليه اليمين"(15).

قال الكلبي: "هو أن يحلف على اليمين، وهو يعلم أنه فيها كاذب"(16).

قال الواحدي: " وهو أن يقصد الأمر فيحلف بالله ويعقد عليه اليمين بالقلب متعمِّداً"(17).

قال الطبري: أي: "ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبكم"(18).

قال الزجاج: " أعلم الله عز وجل أن اليمين التي يؤاخذ بها العبد وتجب في بعضها الكفارة ما جرى على عقد"(19).

قال السعدي: " أي: بما عزمتم عليه، وعقدت عليه قلوبكم"(20).

قال الزمخشري: أي: " بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية"(21).

قال السمعاني: " عقد اليمين: هو القصد بالقلب، والذكر باللسان"(22).

(1) أخرجه الطبري (12362): ص 10/ 526.

(2)

أخرجه الطبري (12363): ص 10/ 526.

(3)

أخرجه الطبري (12365): ص 10/ 526 - 527.

(4)

أخرجه الطبري (12368): ص 10/ 527.

(5)

أخرجه الطبري (12364): ص 10/ 526.

(6)

أخرجه الطبري (12366): ص 10/ 527.

(7)

أخرجه الطبري (12366): ص 10/ 527.

(8)

أخرجه الطبري (12367): ص 10/ 527.

(9)

أخرجه الطبري (12369): ص 10/ 527.

(10)

التفسير الميسر: 122.

(11)

أخرجه الطبري (12357): ص 10/ 525.

(12)

أخرجه الطبري (12359): ص 10/ 525.

(13)

أخرجه ابن ابي حاتم (6713): ص 4/ 1191.

(14)

تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1191.

(15)

حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: 7/ 502، ولم اقف عليه ..

(16)

حكاه عنه الواحدي في التفسير البسيط: 7/ 502.

(17)

الوجيز: 333.

(18)

تفسير الطبري: 10/ 525.

(19)

معاني القرآن: 2/ 201 - 202.

(20)

تفسير السعدي: 242.

(21)

الكشاف: 1/ 672.

(22)

تفسير السمعاني: 2/ 60.

ص: 425

قال الزمخشري: أي: " بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية"(1).

وروى أن الحسن رضى الله عنه سئل عن لغو اليمين، والمسبية ذات الزوج، فوثب الفرزدق، وقال: أما سمعت ما قلت: (2):

ولسْتَ بمأخُوذٍ بلَغْوٍ تَقُولُه

إذا لم تَعَمَّد عاقِداتِ العَزَائمِ

وما قلت (3):

وذات حَليلٍ أنكحْتنا رِماحُنا

حلالاً، لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق

فتبسم الحسن ولم يردّ علىيه ما قال، وفي رواية: فقال الحسن: ما أذكاك لولا حنثك! ، وفي رواية: قال: أصبت، فقال الفرزدق: كنت أراني أشعر منك، فإذا أنا أفقه منك أيضا! (4)

وفي عقد الأيمان قولان (5):

أحدهما: أن يكون على فعل مستقبل، ولا يكون على خبر ماض، والفعل المستقبل نوعان: نفي وإثبات، فالنفي أن يقول والله لا فعلت كذا، والإِثبات أن يقول: والله لأَفْعَلَنَّ كذا.

وأما الخبر الماضي فهو أن يقول: والله ما فعلت، وقد فعل، أو يقول: والله لقد فعلت كذا، وما فعل.

قال الماوردي: "فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه"(6).

وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان (7):

أحدهما: أنها لا تنعقد بالخبر الماضي، قاله أبو حنيفة وأهل العراق.

والقول الثاني: أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماض يتعلق الحنث بهما، قاله الشافعي، واهل الحجاز.

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: {بما عقدتم} بغير ألف مشددة القاف، وكذلك روى حفص عن عاصم.

وقرأ عاصم فى رواية أبى بكر وحمزة والكسائى: {بما عقدتم} خفيفة بغير ألف.

وقرأ ابن عامر: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم} بألف (8).

قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، أي:" فإذا لم تَفُوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله بما تقدِّمونه مما شرعه الله لكم كفارة من إطعام عشرة محتاجين لا يملكون ما يكفيهم ويسد حاجتهم"(9).

قال سعيد بن جبير: " يعني: اليمين العمد الكذب. إطعام عشرة مساكين"(10).

قال السعدي: " أي: كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم {إطعام عشرة مساكين} "(11).

قال الزجاج: " أي: فكفارة المؤاخذة فيه إذا حنث أن يطعم عشرة مساكين إن كانوا ذكورا أو إناثا وذكورا أجزأه ذلك، ولكن وقع لفظ التذكير لأنه المغلب في الكلام"(12).

(1) الكشاف: 1/ 672.

(2)

البيت للفرزدق في "ديوانه" 2/ 307، وانظره في "طبقات فحول الشعراء" 2/ 336، "الدر المصون" 2/ 430، "والأغاني" 19/ 14، "المفردات" ص 52، "وضح البرهان" للغزنوي 1/ 207.

(3)

البيت في ديوانه: 2/ 38، والأغاني: 21/ 304، وأنساب الأشراف: 12/ 103 ديوانه: 398.

(4)

انظر: التفسير البسيط للواحدي: 4/ 196، والكشاف: 1/ 672 - 673، وتفسير القرطبي: 3/ 96، وتفسير البحر المحيط: 2/ 444، وتاريخ دمشق: 74/ 60، ومحاضرات الادباء ومحاورات الشعراء والبلغاء: 2/ 133.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 60.

(6)

النكت والعيون: 2/ 60.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 60.

(8)

انظر: السبعة في القراءات: 247.

(9)

التفسير الميسر: 122.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6713): ص 4/ 1191.

(11)

تفسير السعدي: 242.

(12)

معاني القرآن: 2/ 202.

ص: 426

قال الزمخشري: " والكفارة: الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أى تسترها"(1).

وفي قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، وجهان:

أحدهما: أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان، قالته عائشة (2)، والحسن (3)، وأبو مالك (4)، والشعبي (5)، وقتادة (6)، وإبراهيم (7)، ويحيى بن سعيد (8)، علي بن أبي طلحة (9).

والثاني: أنها كفارة الحنث فيما عقدة منها، وهذا يشبه أن يكون قول ابن عباس (10)، وسعيد بن جبير (11)، والضحاك (12)، وإبراهيم (13).

قال الطبري: " والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون الهاء في قوله:{فكفارته} ، عائدة على ما التي في قوله:{بما عقدتم الأيمان} ، لما قدَّمنا فيما مضى قبل أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها، غيرُ جائز أن يقال لمن قد أوخذ: لا يؤاخذه الله باللغو، وفي قوله تعالى:{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} ، دليلٌ واضح أنه لا يكون مؤاخذًا بوجه من الوجوه، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه.

فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} ، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه، على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها، وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها" (14).

قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، أي:" لكل مسكين نصف صاع من أوسط طعام أهل البلد"(15).

قال الزمخشري: أي: " من أقصده، لأن منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يقتر"(16).

قال الواحدي: " لأنَّ هذا القدر وسط في الشِّبع، وقيل: من خير ما تطعمون أهليكم كالحنطة والتمر"(17).

قال عطاء: "أوسطه، أعدله"(18)، وروي عن ابن عباس (19)، وعكرمة (20)، وسعيد بن جبير (21)، نحو ذلك.

(1) الكشاف: 1/ 673.

(2)

أخرجه الطبري (12363): ، و (12365): ص 10/ 526 - 527.

(3)

أخرجه الطبري (12360): ص 10/ 525 - 526.

(4)

أخرجه الطبري (12362): ص 10/ 526.

(5)

أخرجه الطبري (12361): ص 10/ 526.

(6)

أخرجه الطبري (12367): ص 10/ 527.

(7)

أخرجه الطبري (12364): ص 10/ 526.

(8)

أخرجه الطبري (12366): ص 10/ 527.

(9)

أخرجه الطبري (12366): ص 10/ 527.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12370): 10/ 528.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12371) - (12374): 10/ 528 - 529.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12376): 10/ 529.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12375): 10/ 529.

(14)

تفسير الطبري: 10/ 530.

(15)

التفسير الميسر: 122.

(16)

الكشاف: 1/ 673.

(17)

الوجيز: 333.

(18)

أخرجه الطبري (12377): 10/ 531.

(19)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1192، ذكره دون إسناد.

(20)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1192، ذكره دون إسناد.

(21)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6717): ص 4/ 1192.

ص: 427

وروي عن عطاء: " {من أوسط}، قال: من أمثل"(1).

وفي قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، قولان:

أحدهما: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر (2)، والحسن (3)، وابن سيرين (4).

وسماه الزجاج: " أوسطه في الشبع، [بأن] لا يكون المأكول يفرط في أكله فيؤكل منه فوق القصد وقدر الحاجة، ولا يكون دون المعنى عن الجوع"(5).

والثاني: من أَوسطه في القدر، قاله علي (6)، وعمر (7)، وابن عباس (8)، وسعيد بن جبير (9)، ومجاهد (10)، وإبراهيم (11).

ثم اختلفوا في القدر على ستة أقاويل:

أحدها: أنه مُدٌّ واحد، واختلفوا في أجناس الطعام، على قولين:

القول الأول: أنه مدّ واحد من سائر الأجناس. قاله ابن عمر (12)، وزيد بن ثابت (13)، وابن المسيب (14)، والحسن (15)، وعطاء (16)، وابن زيد (17)، والقاسم (18)، وسالم (19)، وهو قول الشافعي (20).

والقول الثاني: أنه مدٌّ من حنطة لكل مسكين. وهذا قول ابن عباس (21)، وابن عمر (22)، وابن زيد (23).

والثاني: أنه مدّان، ثم اختلفوا في الأجناس، على أقوال:

فقال عمر (24)، وابن عمر (25)، وسعيد بن جبير (26):"لكل مسكين مُدَّين من حنطة "(27).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم: ص 4/ 1192. [الخبر غير مرقم]

(2)

انظر: تفسير الطبري (12380): ص 10/ 532، وتفسير ابن ابي حاتم (6721): ص 4/ 1193.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12388): ص 10/ 533.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12387): ص 10/ 533.

(5)

معاني القرىن: 2/ 202.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12398): ص 10/ 535.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12396)، و (12397): ص 10/ 535.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12430)، و (12431): ص 10/ 541.

(9)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6723): ص 4/ 1193.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12405): ص 10/ 536.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12399): ص 10/ 535.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12417): ص 10/ 539.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12414): ص 10/ 538.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12426): ص 10/ 540.

(15)

انظر: تفسير الطبري (12423): 10/ 539.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12424): ص 10/ 540.

(17)

انظر: تفسير الطبري (12425): ص 10/ 540.

(18)

انظر: تفسير الطبري (12420): 10/ 539.

(19)

انظر: تفسير الطبري (12420): 10/ 539.

(20)

انظر: النكت والعيون: 2/ 61.

(21)

أخرجه الطبري (12415): ص 10/ 538.

(22)

أخرجه الطبري (12418): ص 10/ 539.

(23)

انظر: تفسير الطبري (12425): ص 10/ 549.

(24)

انظر: تفسير الطبري (12396): ص 10/ 534 - 535.

(25)

انظر: تفسير الطبري (12418): ص 10/ 539.

(26)

انظر: تفسير الطبري (12400): ص 10/ 535.

(27)

انظر: تفسير الطبري (12396): ص 10/ 534 - 535.

ص: 428

وقال ابن عباس: "مدين من بر"(1).

وقال الحسن: " مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين"(2).

وفي رواية أخرى عن الحسن: أنه" البرُّ والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومدّ من برّ"(3).

وقال الشعبي: " مَكُّوكين، مكوكًا لطعامه، ومكوكًا لإدامه "(4).

وقال مجاهد: " مدَّان من طعام لكل مسكين"(5).

والثالث: أنه نصف صاع من سائر الأجناس، قاله علي (6)، وعمر (7)، وميمون بن مِهْران (8)، وأبو مالك (9)، الضحاك (10)، والحكم (11)، وإبراهيم (12)، وأبو قلابة (13)، مُقَاتِل بن حَيَّان (14)، وهو مذهب أبي حنيفة (15).

والرابع: أنه غداء وعشاء، قاله علي في رواية الحارث عنه (16)، وهو قول محمد بن كعب القرظي (17)، والحسن البصري –في قوله الآخر (18).

والخامس: أنه ما جرت به عادة المكفر فى عياله، إن كان يشبعهم أشبع المساكين، وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك، قاله ابن عباس (19)، وسعيد بن جبير (20)، وعمار (21)، والضحاك (22)،

والسادس: أنه أحد الأمرين من غداء أو عشاء، قاله بعض البصريين (23).

قال الطبري: " وأولى الأقوال في تأويل قوله: من أوسط ما تطعمون أهليكم عندنا، قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة، وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلِّها بذلك وردت. وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعًا بين ستين مسكينًا، لكل مسكين ربُعْ صاع.، ولا يُعْرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات، أمر بإطعام خبز وإدام، ولا بغداء وعشاء، فإذْ كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلُها سبيلَ ما تولَّى

(1) انظر: تفسير الطبري (12403): ص 10/ 535.

(2)

أخرجه الطبري (12407): ص 10/ 537.

(3)

أخرجه الطبري (12423): ص 10/ 539.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12402): ص 10/ 536. والمكوك، مكيال قديم معروف، لأهل العراق، ويراد به المد. وانظر تفسيره في لسان العرب (مكك).

(5)

انظر: تفسير الطبري (12405): ص 10/ 536.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12398): ص 10/ 535.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12397): ص 10/ 535.

(8)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 174.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12410): 10/ 538.

(10)

أخرجه الطبري (12413): ص 10/ 538.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12411): 10/ 538.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12412): 10/ 538.

(13)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1191، ذكره دون إسناد، وانظر: تفسير ابن كثير: 3/ 174.

(14)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم: 4/ 1191، ذكره دون إسناد، وانظر: تفسير ابن كثير: 3/ 174.

(15)

انظر: النكت والعيون: 2/ 61.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12427): 10/ 540.

(17)

انظر: تفسير الطبري (12428): 10/ 540.

(18)

انظر: تفسير الطبري (12429): 10/ 540.

(19)

انظر: تفسير الطبري (12430) - (12432): 10/ 541.

(20)

انظر: تفسير الطبري (12434): 10/ 541.

(21)

انظر: تفسير الطبري (12433): 10/ 541.

(22)

انظر: تفسير الطبري (12438): 10/ 542.

(23)

انظر: النكت والعيون: 2/ 61.

ص: 429

الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفِّرها من الطعام، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل، دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك" (1).

وقرأ سعيد بن جبير: «مِن وَسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلَيكُمْ» (2).

وقرأ جعفر بن محمد: «أهاليكم» ، بسكون الياء، والأهالى: اسم جمع لأهل: كاللئالي في جمع ليلة، والأراضى في جمع أرض (3).

قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]، أي:" أو كسوتهم، لكل مسكين ما يكفي في الكسوة عُرفًا"(4).

قال السعدي: " أي: كسوة عشرة مساكين، والكسوة هي التي تجزئ في الصلاة"(5).

قال الطبري: " يقول: إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر"(6).

قال الزجاج: " والكسوة أن يكسوهم نحو الإزار والعمامة أو ما أشبه ذلك، لأن به قوام الحياة وإلا فالإعتاق أو الكسوة أفضل"(7).

قال الواحدي: " وهو أقلُّ ما يقع عليه اسم الكسوة من إزارٍ ورداءٍ وقميصٍ"(8).

قال الزمخشري: " والكسوة: ثوب يغطى العورة"(9).

وفي قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]، ستة اقاويل:

أحدها: كسوة ثوب واحد، قاله: ابن عباس (10)، والحسن (11)، وأبو مالك (12)، ومجاهد (13)، وإبراهيم (14)، وطاووس (15)، وعطاء (16)، وأبو جعفر (17)، والشافعي (18).

والثاني: كسوة ثوبين، قاله أبو موسى الأشعري (19)، وابن المسيب (20)، والحسن (21)، والضحاك (22)، وابن سيرين (23).

والثالث: كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء، قاله إبراهيم (24).

والرابع: كسوة إزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر (25).

والخامس: أنه يجزئ عمامة في كفارة اليمين. وهذا قول الحكم (26)، والحسن –في إحدى الروايات- (27).

والسادس: أنه يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان (28)، والمعنى: كسوة ما تجزىء فيه الصلاة، وهذا قول مجاهد (29)، وبه قال بعض البصريين (30).

قال السمعاني: " والصحيح: أن الواجب لكل مسكين ما يصلح به الكسوة في العرف"(31).

وقال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن، قولُ من قال: عنى بقوله: أو كسوتهم، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوبًا فصاعدًا لأن ما دون الثوب، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه، بالنقل المستفيض.، والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك"(32).

وقرئ: «كسوتهم» ، بضم الكاف (33).

قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89]، أي:" أو إعتاق مملوك من الرق"(34).

قال الطبري: يعني: " أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها"(35).

قال الواحدي: " يعني: مؤمنة، والمُكفِّر في اليمين مُخيَّر بين هذه الثَّلاث"(36).

قال السعدي: " أي: عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع، فمتى فعل واحدا من هذه الثلاثة فقد انحلت يمينه"(37).

قال الزجاج: " فخير الحالف أحد هذه الثلاثة، وأفضلها عند الله أكثرها نفعا، وأحسنها موقعا من المساكين، أو من المعتق، فإن كان الناس في جدب لا يقدرون على المأكول إلا بما هو أشد تكلفا من الكسوة أو الإعتاق، فالإطعام أفضل"(38).

وفي كلام العرب الفك: العتق، قال الفرزدق (39):

أَبنِي غُدَانَةَ، إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ

فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ

(1) تفسير الطبري: 10/ 543 - 542.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 61.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 673.

(4)

التفسير الميسر: 122.

(5)

تفسير السعدي: 242.

(6)

تفسير الطبري: 10/ 545.

(7)

معاني القرىن: 2/ 202.

(8)

الوجيز: 333.

(9)

الكشاف: 1/ 673.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12451): ص 10/ 546.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12443): ص 10/ 545.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12453): ص 10/ 547.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12441): ص 10/ 545.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12449): ص 10/ 546.

(15)

انظر: تفسير الطبري (12448): ص 10/ 545.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12447): ص 10/ 546.

(17)

انظر: تفسير الطبري (12447): ص 10/ 546.

(18)

انظر: النكت والعيون: 2/ 61.

(19)

انظر: تفسير الطبري (12464)، و (12465): ص 10/ 548.

(20)

انظر: تفسير الطبري (12456)، و (12457): ص 10/ 547.

(21)

انظر: تفسير الطبري (12459): ص 10/ 548.

(22)

انظر: تفسير الطبري (12467): ص 10/ 548.

(23)

انظر: تفسير الطبري (12458): ص 10/ 547.

(24)

انظر: تفسير الطبري (12470) - (12476): ص 10/ 549 - 550.

(25)

انظر: تفسير الطبري (12477): ص 10/ 550.

(26)

انظر: تفسير الطبري (12481): ص 10/ 551.

(27)

انظر: تفسير الطبري (12479): ص 10/ 550 - 551.

(28)

التبان -بضم التاء وتشديد الباء-: سراويل صغير مقدار شبر، يستر العورة المغلظة فقط، يكون للملاحين.

(29)

انظر: تفسير الطبري (12478): ص 10/ 550.

(30)

انظر: النكت والعيون: 2/ 62.

(31)

تفسير السمعاني: 2/ 61.

(32)

تفسير الطبري: 10/ 551.

(33)

انظر: الكشاف: 1/ 673.

(34)

التفسير الميسر: 122.

(35)

تفسير الطبري: 10/ 552.

(36)

الوجيز: 333.

(37)

تفسير السعدي: 242.

(38)

معاني القرىن: 2/ 202.

(39)

ديوانه 726، النقائض: 275، وطبقات فحول الشعراء: 424، من قصيدته في هجاء جرير.

وبنو غدانة هم: بنو غدانة بن يربوع، أخو كليب بن يربوع، جد جرير. وعطية بن جعال بن قطن بن مالك بن غدانة بن يربوع، وكان عطية من سادة بني غدانة، وكان صديقًا للفرزدق وخليلا له. فلما بلغ عطية هذا الشعر قال: جزى الله خليلي عني خيرًا! ! ما أسرع ما رجع خليلي في هبته! ! ، لأنه هجاهم، وهو يزعم أنه وهب أعراضهم لصاحبه، يقول بعده:

فَوَهَبْتُكُمْ لأَحَقِّكُمْ بِقَدِيمُكُمْ

قِدْمًا، وَأَفْعَلِهِ لِكُلِّ نَوَالِ

لَوْلا عَطِيَّةُ لاجْتَدَعْتُ أُنُوفَكُمْ

مِنْ بَيْنِ أَلأَمِ آنُفٍ وَسِبَالِ

إِنِّي كَذَاكَ، إِذَا هَجَوْتُ قَبِيلَةً

جَدَّعْتُهُمْ بِعَوَارِمِ الأمْثَالِ.

ص: 430

يعني بقوله: حرّرتكم، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار (1).

وقيل: تحرير رقبة، والمحرَّر ذو الرقبة، لأن العربَ كان من شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره، كما يقال: قبضَ فلان يده عن فلان، إذا أمسك يده عن نواله وبسط فيه لسانه، إذا قال فيه سوءًا فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره:{أو تحرير رقبة} ، أضيف التحرير إلى الرقبة، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها، وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد، بما وصفنا، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه (2).

وإن قال قائل: "أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه؟

قيل: بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، والعمَى والخرس، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به" (3).

قال إبراهيم: "من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نَسَمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد"(4).

وعن إبراهيم أيضا: "أنه كان لا يرى عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات"(5).

عن الحسن قال: "كان يكره عتق المخَبَّل في شيء من الكفارات"(6).

وقال عطاء: " لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح"(7).

وعن عطاء أيضا: "يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة"(8).

وقال إبراهيم: ": ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ"(9).

وقال سليمان: " إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة"(10).

قال الطبري: " والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إن الله تعالى عمَّ بذكر الرقبة كل رقبة، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته، فقد أدّى ما كُلِّف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر التنزيل"(11).

وفي استحقاق أَثمانها قولان:

(1) انظر: تفسير الطبري: 10/ 552.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 552 - 553.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 553.

(4)

أخرجه الطبري (12482): 10/ 554.

(5)

أخرجه الطبري (12484): 10/ 554.

(6)

أخرجه الطبري (12483): 10/ 554.

(7)

أخرجه الطبري (12485): 10/ 554.

(8)

أخرجه الطبري (12486): 10/ 554.

(9)

أخرجه الطبري (12487): 10/ 554.

(10)

أخرجه الطبري (12488): 10/ 555.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 555.

ص: 431

أحدهما: أنه مستحق ولا تجزىء الكفارة، قاله الشافعي (1).

والثاني: أنه غير مستحق، قاله أبو حنيفة (2).

عن مسروق، قال:"جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال: إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة المائدة: 87]. قال فقال معقل: إنما سألتك أنْ أتيتُ على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله: ائت النساء ونَمْ، وأعتق رقبة، فإنك موسر"(3).

قال الطبري: " ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإنّ ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر"(4).

قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، أي:" فمن لم يجد شيئًا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام"(5).

قال الزجاج: " أي: من كان لا يقدر على شيء مما حذد في الكفارة، فعليه صيام ثلاثة أيام"(6).

قال الواحدي: " يعني: لم يفضل من قوته وقوت عياله يومه وليلته ما يطعم عشرة مساكين {ف} عليه {صيام ثلاثة أيام} "(7).

قال الطبري: أي: "فمن لم يجد، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فصيام ثلاثة أيام، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام"(8).

قال الماوردي: " فجعل الله الصوم بدلاً من المال عند العجز عنه، وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإِطعام، أو بالكسوة، أو بالعتق"(9).

واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل:

أحدها: إذا لم يجد قوته وقوت من يقوت صام، قاله الشافعي (10).

والثاني: إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام، قاله سعيد بن جبير (11)، وقتادة (12).

والثالث: إذا لم يجد درهمين، قاله الحسن (13).

والرابع: إذا لم يجد مائتي درهم صام، قاله أبو حنيفة (14).

والخامس: إذا لم يجد فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف فيه لمعاشه صام، وهذا قول بعض متاخري المتفقهة (15).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 62.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 62.

(3)

أخرجه الطبري (12439): ص 10/ 555 - 556، وانظر:(12490): ص 10/ 556.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 556 - 557.

(5)

التفسير الميسر: 122.

(6)

معاني القرىن: 2/ 202.

(7)

الوجيز: 333.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 557.

(9)

النكت والعيون: 2/ 62.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12491): ص 10/ 557.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12492)، و (12495): ص 10/ 558.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12493): ص 10/ 558.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12494): ص 10/ 558.

(14)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 558، والنكت والعيون: 2/ 63.

(15)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 558، والنكت والعيون: 2/ 63.

ص: 432

قال الطبري: " والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يوَمه وليلته، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق ماله بين غرمائه: أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله"(1).

وفي تتابع صيامه قولان:

أحدهما: يلزمه، وهذا قول ابن عباس (2)، ومجاهد (3)، وإبراهيم (4)، وسفيان (5)، وقتادة (6)، وبه قال مالك (7)، والأوزاعي (8)، وهو احد قولي الشافعي (9).

قال أبو العالية، والربيع بن انس:"وكان أبي بن كعب يقرأ: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» "(10).

عن ابن عباس قال: "لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله، نحن بالخيار؟ قال: "أنت بالخيار، إن شئت أعتقت، وإن شئت كسوت، وإن شئت أطعمت، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات" (11).

قال ابن كثير: " وهذا حديث غريب جدًا"(12).

وعن مجاهد وإبراهيم، وعامر، وأبو إسحاق السبيعي، والأعمش، قالوا: " في قراءة عبد الله: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» (13).

قال ابن كثير: " وهذه إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترًا، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا، أو تفسيرًا من الصحابي، وهو في حكم المرفوع"(14).

والثاني: إن صامها متفرقة جاز، قاله مالك (15)، والشافعي في أحد قوليه (16).

قال السمعاني: " ظاهرة: أنه يجوز متفرقا، وهو الأصح"(17).

والصواب –والله أعلم- أن يقال: "إن الله تعالى ذكره أوجب على من لزمته كفّارة يمين، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرّها بصيام ثلاثة أيام، ولم

(1) تفسير الطبري: 10/ 559.

(2)

انظر: تفسير البري (12508): ص 10/ 561.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12496): ص 10/ 559.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12501)، و (12502): ص 10/ 560.

(5)

انظر: تفسير البري (12506): ص 10/ 561.

(6)

انظر: تفسير البري (12507): ص 10/ 561.

(7)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 61.

(8)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 61.

(9)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 61.

(10)

أخرجه الطبري (12497)، (12498): ص 10/ 559 - 560.

(11)

اخرجه ابن مردوية كما في تفسير ابن كثير: 3/ 177، وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/ 155) ولم يعزه لغير ابن مردويه. وفي إسناده إسماعيل بن يحيى هو ابن عبيد الله كان يضع الحديث، قال ابن عدي: عامة ما يرويه بواطيل، ثم الإسناد معضل، فإن بينه وبين ابن عباس قرن من الزمان تقريبًا.

(12)

.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12499) - (12505): ص 10/ 560 - 561.

(14)

تفسير ابن كثير: 3/ 177.

(15)

انظر: تفسير البري (12509): ص 10/ 561.

(16)

انظر: النكت والعيون: 2/ 63، وتفسير ابن كثير: 3/ 177

(17)

تفسير السمعاني: 2/ 61.

ص: 433

يشرطْ في ذلك متتابعة. فكيفما صامهنَّ المكفِّر مفرَّقة ومتتابعة، أجزأه. لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتَى بصومهنّ أجزأ" (1).

قال الطبري: " فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله، غيرَ أني أختار للصائم في كفَّارة اليمين أن يُتَابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرِّق. لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته، وهم في غير ذلك مختلفون. ففعل ما لا يُخْتَلف في جوازه، أحبُّ إليَّ، وإن كان الآخر جائزًا"(2).

قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، أي:" تلك مكفرات عدم الوفاء بأيمانكم"(3).

قال السعدي: أي: "تكفرها وتمحوها وتمنع من الإثم"(4).

قال الطبري: أي: " هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم، من إطعام العشرة المساكين، أو كسوتهم، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئًا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم "(5).

قال الزجاج: " أي: ذلك الذي يغطي على آثامكم، يقال كفرت الشيء إذا غطيته، ومنه قوله عز وجل: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]، والكفار الذين يغطون الزرع ويصلحونه، والكافر إنما سمي كافرا، لأنه ستر بكفره الإيمان"(6).

قال الماوردي: " فإن قيل: فلِمَ لَمْ يذكر مع الكفارة التوبة؟

قيل: لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم، وترك العزم على المعاودة" (7).

قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]، أي:" واحفظوا -أيها المسلمون- أيمانكم: باجتناب الحلف، أو الوفاء إن حلفتم، أو الكفارة إذا لم تفوا بها"(8).

قال سعيد بن جبير: " يعني: لا تتعمدوا الأيمان الكاذبة"(9).

قال الواحدي: يعني: "فلا تحلفوا واحفظوها عن الحنث"(10).

قال الطبري: أي: " واحفظوا، أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تُضِيعُوا الكفارة فيها بما وصفته لكم"(11).

قال السعدي: أي: " عن الحلف بالله كاذبا، وعن كثرة الأيمان، واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها، إلا إذا كان الحنث خيرا، فتمام الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينه عرضة لذلك الخير"(12).

قال الزمخشري: أي: " فبروا فيها ولا تحنثوا، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية، لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله. وقيل: احفظوها بأن تكفروها. وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها، ولا تنسوها تهاونا بها "(13).

(1) تفسير الطبري: 10/ 561 - 562.

(2)

تفسير الطبري: 10/ 562.

(3)

التفسير الميسر: 122.

(4)

تفسير السعدي: 242.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 562.

(6)

معاني القرىن: 2/ 202.

(7)

النكت والعيون: 2/ 63.

(8)

التفسير الميسر: 122.

(9)

أخرجه ابن أبي حاتم (6738): ص 4/ 1195.

(10)

الوجيز: 333.

(11)

تفسير الطبري: 10/ 562.

(12)

تفسير السعدي: 242.

(13)

الكشاف: 1/ 673.

ص: 434

قال السمعاني: " ظاهره للنهي عن الحنث، وقيل: أراد به حفظ اليمين لا أن يحلف، والأول أصح"(1).

قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [المائدة: 89]، أي:" وكما بيَّن الله لكم حكم الأيمان والتحلل منها يُبيِّن لكم أحكام دينه"(2).

قال سعيد بن جبير: "يعني: ما ذكر من الكفارة"(3).

قال ابن كثير: " أي: يوضحها وينشرها"(4).

قال الطبري: أي: " كذلك يبين الله لكم جميع آياته، يعني: أعلام دينه فيوضِّحها لكم لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله: لم أعلم حكم الله في ذلك! "(5).

قال الزمخشري: أي: " مثل ذلك البيان يبين الله لكم آياته أعلام شريعته وأحكامه"(6).

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89]، أي:" لتشكروا له على هدايته إياكم إلى الطريق المستقيم"(7).

قال الطبري: أي: " لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم"(8).

قال الزمخشري: أي: "لعلكم تشكرون نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه"(9).

قال السعدي: "حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فعلى العباد شكر الله تعالى على ما من به عليهم، من معرفة الأحكام الشرعية وتبيينها"(10).

قال محمد بن إسحاق: " {لعلكم تشكرون}، أي: فاتقون فإنه شكر نعمتي"(11).

قال سعيد بن جبير: قوله: " {لعلكم}، يعني: لكي"(12).

الفوائد:

1 -

حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه.

2 -

بيان كفارة اليمين بالتفصيل.

3 -

كراهة الإكثار من الحلف. وحرمة الحلف بغير الله تعالى مطلقاً.

4 -

استحباب حنث من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه، وتكفيره على ذلك أما إذا حلف أن يترك واجباً أو يأتي محرماً فإن حنثه واجب وعيه الكفارة.

5 -

الأيمان ثلاثة: لغو: يمين لا كفارة لها إذ لا إثم فيها، الغموس: وهي أن يحلف متعمداً الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المكفَّرة: وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.

وذكر أهل العلم أن اليمين على ثلاثة أوجه:

أحدها: اليمين المنعقدة: وهي اليمين التي يقصدها الحالف ويصمم عليها، وتكون على أمر مستقبل أن يفعله أو لا يفعله. وحكمها: وجوب الكفارة فيها عند الحنث.

قال ابن قدامة رحمه الله: " ومن حلف أن يفعل شيئا ، فلم يفعله ، أو لا يفعل شيئا ، ففعله ، فعليه الكفارة " لا خلاف في هذا عند فقهاء الأمصار، قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين ، هي التي على المستقبل من الأفعال" (13).

(1) تفسير السمعاني: 2/ 61.

(2)

التفسير الميسر: 122.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6740): ص 4/ 1195.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 177.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 563.

(6)

مالكشاف: 674.

(7)

التفسير الميسر: 122.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 563.

(9)

مالكشاف: 674.

(10)

تفسير السعدي: 242.

(11)

أخرجه ابن أبي حاتم (6741): ص 4/ 1196.

(12)

أخرجه ابن أبي حاتم (6740): ص 4/ 1195.

(13)

المغني: 9/ 390.

ص: 435

الثاني: اليمين اللغو: وهي الحلف من غير قصد اليمين، وهذه لا كفارة فيها؛ لقول الله تعالى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225].

قالت عائشة رضي الله عنها: أنزلت هذه الآية {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} ، في قول الرجل لا والله وبلى والله" (1).

قال ابن قدامة رحمه الله: "قال الخرقي: «ومن حلف على شيء يظنه كما حلف ، فلم يكن ، فلا كفارة عليه ; لأنه من لغو اليمين»، أكثر أهل العلم على أن هذه اليمين لا كفارة فيها. قاله ابن المنذر. يروى هذا عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي مالك ، وزرارة بن أوفى ، والحسن ، والنخعي ، ومالك ، وأبي حنيفة ، والثوري، وممن قال: هذا لغو اليمين. مجاهد ، وسليمان بن يسار ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو حنيفة وأصحابه، وأكثر أهل العلم على أن لغو اليمين لا كفارة فيه. وقال ابن عبد البر: أجمع المسلمون على هذا، لقول الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}. وهذه منه ، ولأنه غير مقصود للمخالفة ، فأشبه ما لو حنث ناسيا"(2).

الثالث: أن يحلف على شيء ماض وهو كاذب وهي من كبائر الذنوب، ولا كفارة فيها عند جمهور العلماء؛ لأنها أعظم من أن تكفّر.

إذا عُلم هذا، فما حلفته من الأيمان المنعقدة، وحنثت فيه، فيلزمك فيه الكفارة، وإذا نسيت عدد هذه الأيمان، فاجتهد وأخرج من الكفارات ما يغلب على ظنك أنك تبرأ به.

وما كان من هذه الأيمان معقودا على فعلٍ واحد، أو ترك شيءٍ واحد، ففيها كفارة واحدة، وذلك مثل أن تحلف ألا تكلم فلانا، فتحنث، ولا تكفّر، ثم تعود فتحلف ألا تكلمه، وتحنث، فلا يلزمك إلا كفارة واحدة. بخلاف ما لو حلفت ألا تكلمه، ثم حلفت أن لا تأكل طعامه مثلا، فيلزمك حينئذ كفارتان.

فيمكن القول: بأن الأيمان التي حلفتها على شيء تفعله أو لا تفعله في المستقبل وحنثت فيها يجب عليك فيها الكفارة، والأيمان التي حلفتها على شيء في الماضي أنك فعلته أو لم تفعله وأنت كاذب في ذلك لا كفارة عليها، وعليك التوبة إلى الله، والله تعالى يتوب على من تاب.

6 -

تمامُ عدلِ الله عز وجل في إيجابِ الأوسَطِ؛ لِقَوْلِه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، فالواجب على الإنسانِ هو الوَسَط؛ فالزكاةُ مثلًا على صاحِب الغَنَم الواجبُ الوَسَط، والزكاة في الثِّمار الواجبُ الوَسَطُ، فإنَّه لو أوْجَب الأكملَ والأعلى، لكان في هذا ضرَرٌ على المعطِي، ولو أوجَبَ الأدْنى لكان فيه ضررٌ على المُعطَى، أي: المدفوع إليه، فالوسطُ ليس فيه حَيفٌ لا على مَن يجِبُ عليه، ولا عَلى مَن يجبُ له، وهذا لا شكَّ أنَّه من العدالةِ.

7 -

وجوبُ الإنفاقِ على الأهلِ؛ لِقَوْلِه: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ، يعني: كأنَّ هذا أمرٌ مُقرَّر؛ أنَّ الرجل يُطعِم أهلَه، وهذا لا شكَّ فيه؛ أنَّه يجب على الرجلِ أن يُنفقَ على أهلِه؛ قال الله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

8 -

يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ، أنَّ الكِسْوةَ مُطلقةٌ، فما سُمِّي كِسْوةً حصَل به الإجزاءُ، وهذا يختلفُ باختلافِ الأحوالِ والأزمانِ والأماكنِ والأُمم.

9 -

قولُه تعالى: {إِذَا حَلَفْتُمْ} ، فيه دقيقةٌ، وهي التنبيهُ على أنَّ تقديمَ الكفَّارةِ قبلَ اليمينِ لا يجوزُ، وأمَّا بعدَ اليمينِ وقبل الحِنث فإنَّه يجوزُ.

10 -

أنَّ تقديرَ العباداتِ كمِّيةً ونوعًا وكيفيَّةً موكولٌ إلى الشَّرْعِ؛ لِقَوْلِه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} ؛ ولذلك لا يَتقابَلُ أو لا يَتساوى إطعامُ عَشَرةِ مَساكينَ مع صِيام ثلاثةِ أيَّام، فكفَّارة الظِّهارِ الواجبُ فيها صيامُ شَهرينِ متتابعينِ، فإنْ لم يجد فإطعامُ سِتِّينَ مِسكينًا، فجاءَ إطعامُ كلِّ فقيرٍ يُقابل صيامَ يومٍ، لكن هنا يختلفُ الوضع، ولعلَّ السبب- والله أعلمُ - أنَّه في كَفَّارة الظِّهار الإطعامُ بدلٌ عن

(1) رواه البخاري (4613).

(2)

المغني: 9/ 393.

ص: 436

الصيامِ، فمن لم يستطعِ الصيامَ أطعَمَ، وإذا كان بدلًا عن الصِّيام، فالحُكم أنَّ صومَ كلِّ يوم يُطعِمُ عنه مِسكينًا، كما في العاجِزِ عن الصِّيام عجزًا لا يُرجَى زَوالُه، فإنَّه يُطعِمُ عن كلِّ يومٍ مسكينًا، أمَّا في كفَّارةِ اليمينِ وفِديةِ الأذى، فليس الأمرُ كذلك؛ لأنَّ الأمرَ فيهما على التخييرِ، فكلٌّ من خِصال الكفَّارة نوع ٌمستقلٌّ بنفْسِه.

11 -

أنَّ الله سبحانه وتعالى بَيَّنَ لعبادِه من آياته كلَّ ما يحتاجون إليه؛ لِقَوْلِه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} .

12 -

وممَّا يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، محبَّةُ الله تعالى للشُّكرِ؛ حيث بَيَّنَ الآياتِ لعِبادِه من أجْل أنْ يَشكُروه.

12 -

تعليل أحكامِ اللهِ عز وجل، وأنَّها مقرونةٌ بالحِكمة؛ لأنَّ قَوْلَه:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} للتعليلِ، والتعليلُ يُفيد الحِكمةَ؛ فجميعُ أفعالِ اللهِ وأحكامِ اللهِ كلُّها لحِكمةٍ، لكنْ منها ما يُعلَم، ومنها ما لا يُعلَم.

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، إنما الخمر: وهي كل مسكر يغطي العقل، والميسر: وهو القمار، وذلك يشمل المراهنات ونحوها، مما فيه عوض من الجانبين، وصدٌّ عن ذكر الله، والأنصاب: وهي الحجارة التي كان المشركون يذبحون عندها تعظيمًا لها، وما ينصب للعبادة تقربًا إليه، والأزلام: وهي القِداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء، أو الإحجام عنه، إن ذلك كله إثمٌ مِن تزيين الشيطان، فابتعدوا عن هذه الآثام، لعلكم تفوزون بالجنة.

في سبب النزول الآيات (90 - 93)، أقوال:

أحدها: عن سعد بن أبي وقاص: "أنه نزلت فيه آيات من القرآن؛ قال: حَلَفَت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زَعَمْت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجَهْد، فقام ابن لها يقال له: عُمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد؛ فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8]، وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، قال: وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة، فإذا فيها سيف فأخذته، فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلت: نفلني هذا السيف؛ فأنا من قد علمت حاله، فقال: "رده من حيث أخذته"، فانطلقت، حتى إذا أردت أن ألقيه في القَبَض لامتني نفسي، فرجعت إليه، فقلت: أعطنيه، قال: فشد لي صوته: "رده من حيث أخذته"، قال: فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1]، قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني، فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت، قال: فأبى، قلت: فالنصف؟ قال: فأبى، قلت: فالثلث؟ قال: فسكت، فكان بعد الثلث جائزاً، قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمراً، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش -والحش: البستان- فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزقّ من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرون عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيى الرأس فضربني به فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته؛ فأنزل الله عز وجل فيّ -يعني: نفسه- شأن الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} "(1). [صحيح]

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 1877، 1878 رقم 1748) وغيره.

ص: 437

وفي السياق نفسه قال سالم بن عبد الله: "إن أول ما حرمت الخمر أن سعد بن أبي وقاص وأصحاباً له شربوا؛ فاقتتلوا، فكسروا أنف سعد؛ فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} "(1). [ضعيف]

والثاني: قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بَعضُهُم ببعض، فلما صَحَوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: قد فعل بي هذا أخي، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما فعل بي هذا، فوقعت في قلوبهم الضغائن؛ فأنزل الله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}؛ فقال ناس: هي رجس، وهي في بطن فلان قتل يوم بدر، وفلان قتل يوم أُحد؛ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} "(2). [حسن]

الثالث: أحدها: قال أبو هريرة: " حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما؛ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرم علينا إنما قال: فيهما إثم كبير، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب خلط في قراءته؛ فأنزل الله فيها آية أغلظ منها:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق؛ ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} ؛ فقالوا: انتهينا ربنا. فقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً ومن عمل الشيطان؛ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا

(1) أخرجه الطبري في "جامع البيان"(12521): ص 10/ 570، والواحدي في "الوسيط" (2/ 222) من طريق ابن وهب أنبأني عمرو بن الحارث: أن الزهري أخبره: أن سالم بن عبد الله حدثه به.

قلنا: وسنده صحيح رجاله ثقات؛ لكنه مرسل.

(2)

أخرجه النسائي في "تفسيره"(1/ 447، 448 رقم 171)، والطبري في جامع البيان (12522): ص 571، والطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 44، 45 رقم 12459) -ومن طريقه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(10/ 341، 342 رقم 370) -، والحاكم (4/ 141، 142)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(8/ 285، 286) من طريقين عن ربيعة بن كلثوم بن جبر عن أبيه عن سعيد بن جبير عنه به.

قلنا: وهذا إسناد حسن؛ رجاله رجال الصحيح، فربيعة بن كلثوم وثقه ابن معين والعجلي وابن شاهين، وقال أحمد: صالح. وضعفه النسائي مرة، وقال مرة أخرى: ليس به بأس، ولخصه الحافظ بقوله: صدوق يهم.

انظر: "الجرح والتعديل"(3/ 477، 478 رقم 2145)، و"الثقات" للعجلي (رقم 434)، و"التهذيب"(3/ 263)، و"التقريب"(1/ 248).

وكلثوم بن جبر؛ وثقه أحمد وابن معين والعجلي وابن حبان وابن شاهين، وقال النسائي: ليس بالقوي، ولخصه الحافظ بقوله:"صدوق يخطئ".

انظر: "الجرح والتعديل"(7/ 164 رقم 926)، و"الثقات" للعجلي (رقم 1184)، و"التهذيب"(8/ 442)، و"التقريب"(2/ 136).

وسكت عنه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله:"صحيح على شرط مسلم".

وقد نقل السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 158) تصحيحه عن الحاكم.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 18): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".

وسكت عنه الحافظ في "فتح الباري"(8/ 279).

وزاد نسبته في "الدر المنثور" لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.

ص: 438

طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ} إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم"(1). [ضعيف]

الرابع: قال ابن عمر: "نزل في الخمر ثلاث آيات؛ فأول شيء نزل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}؛ فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله! دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}؛ فقيل: حرمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله! لا نشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم، ثم نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرمت الخمر"، قال: وقدمت لرجل راوية من الشام -أو رواياً- فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ولا أعلم عثمان إلا معهم، فانتهوا إلى الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خل عنا نشقها"، فقال: يا رسول الله! أفلا نبيعها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لعن الخمر، ولعن غارسها، ولعن شاربها، ولعن عاصرها، ولعن موكلها، ولعن مديرها، ولعن ساقيها، ولعن حاملها، ولعن آكل ثمنها، ولعن بائعها" (2). [منكر]

الخامس: عن جابر بن عبد الله: "اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أُحد، فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم؛ فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} "(3). [صحيح]

(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(2/ 351): ثنا سريج بن النعمان: ثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: أبو وهب مولى أبي هريرة؛ مجهول لا يعرف؛ كما في "تعجيل المنفعة"(ص 521).

الثانية: أبو معشر؛ نجيح السندي؛ ضعيف أسن واختلط؛ كما في "التقريب"(2/ 298).

وقال الحافظ ابن حجر في "الكافي الشاف"(رقم 478): "إسناده ضعيف؛ فإنه من رواية أبي معشر؛ عن أبي وهب، وأبو معشر ضعيف".

ونقله عنه المناوي في "الفتح السماوي"(2/ 586).

وقال العلامة الشيخ أحمد شاكر في "تحقيق المسند"(6/ 254 رقم 8605):

"إسناده ضعيف؛ لضعف أبي معشر نجيح، ولجهالة أبي وهب مولى أبي هريرة".

وقد قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(2/ 95): "انفرد به أحمد".

* ملاحظة: تصحف اسم شيخ الإِمام أحمد في كل من "تعجيل المنفعة"، و"تفسير القرآن العظيم" -طبع دار المعرفة-، و"تخريج أحاديث تفسير الكشاف" للزيلعي من سريج إلى شريح؛ فليحرر.

(2)

أخرجه الطيالسي في "المسند"(رقم 1957) -ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان"(5/ 4، 5 رقم 5570)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(2/ 389 رقم 2046) -، وابن جرير في "جامع البيان" (4143): ص 4/ 331، من طريق محمد بن أبي حميد عن أبي توبة المصري عن ابن عمر به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: جهالة أبي توبة المصري.

قلنا: هو مجهول، وقد ذكره الحافظ في "اللسان"(7/ 23)، وقال:"أبو توبة المصري عن ابن عمر رضي الله عنهما روى عنه محمد بن أبي حميد، قال ابن عساكر: "لم أجد له ذكراً في شيء من الكتب"، قلت: وفي حديثه عن ابن عمر رضي الله عنهما في لعن شارب الخمر زيادة منكرة قال فيه: "ولعن غارسها". اهـ.

الثانية: محمد بن أبي حميد ضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي وأبو زرعة والترمذي وغيرهم.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 157، 158) وزاد نسبته لابن مردويه.

(3)

أخرجه البزار في "مسنده"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم"(2/ 98، 99): ثنا أحمد بن عبدة ثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابراً (فذكره).

قال البزار: "وهذا إسناد صحيح".

قال ابن كثير: "وهو كما قال، وفي سياقه غرابة".

وسكت عليه الحافظ في "الفتح"(8/ 279) مشيراً إلى تقويته.

قلنا: وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وأصله في البخاري (6/ 31 رقم 2815، 7/ رقم 4044، 8/ 277 رقم 4618) بلفظ: صبح أناس غداة أُحد الخمر، فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء وذلك قبل تحريمها.

ص: 439

السادس: عن البراء بن عازب؛ قال: "مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريمها؛ قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} "(1). [صحح لغيره]

السادس: قال عبد الله بن مسعود: "لما نزل تحريم الخمر، قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقيل لي: إنك منهم" (2). [ضعيف]

ةفي السياق نفسه قال مجاهد: "نزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} فيمن قتل ببدر وأحد مع محمد صلى الله عليه وسلم –"(3). [ضعيف]

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 90]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(4).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(5).

قال سعيد بن جبير: "قوله: {آمنوا بالله}، يعني: بتوحيد الله"(6).

(1) أخرجه الطيالسي في "مسنده"(ص 715)، وعبد بن حميد في "تفسيره"؛ كما في "الدر المنثور"(3/ 172) -وعنه الترمذي (5/ 254 رقم 3050) -، والطبري في "جامع البيان"(7/ 25)، والترمذي (5/ 254، 255 رقم 3051)، وأبو يعلى في "المسند"(3/ 265، 266 رقم 1719، 1720)، وابن حبان في "صحيحه"(رقم 1740 - موارد)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(4/ 1201 رقم 6775)، والواحدي في "أسباب النزول"(ص 140، 141) من طريق إسرائيل وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء به.

قلنا: وهذا سند ظاهره الصحة، لكن قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: أسمعته من البراء؟ قال: لا. ذكره أبو يعلى عقب روايته للحديث.

قلنا: وهذا نص صريح -وهو من الأدلة الكثيرة- أن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس، وقد اعترف أنه لم يسمع هذا الحديث من البراء؛ لكن يشهد له حديث ابن عباس وابن مسعود السابقين ويرتقي إلى درجة الصحيح.

وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان.

وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(3/ 172) وزاد نسبته لابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه.

(2)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 77، 78 رقم 10011)، والبزار في "البحر الزخار"(4/ 325 رقم 1513)، والحاكم (4/ 143، 144) جميعهم من طريق سليمان بن قرم عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود به.

قلنا: وسنده ضعيف؛ فيه سليمان بن قرم؛ سيئ الحفظ، يتشيع؛ كما في "التقريب"(1/ 329).

قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! ! .

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 18): "في "الصحيح" بعضه، ورجاله ثقات".

وهو وهم منهم جميعاً رحمهم الله.

وقد أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 1910 رقم 2459) -مختصرًا- بلفظ: "لما نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيل لي: أنت منهم".

(3)

أخرجه ابن جرير في "جامع البيان"(12530): ص 10/ 580، بسند صحيح إلى ابن جريج عن مجاهد به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ فيه علتان:

الأولى: الإرسال.

الثانية: ابن جريج لم يسمع من مجاهد.

(4)

التفسير الميسر: 122.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6104): ص 4/ 1090.

ص: 440

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(1).

قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90]، أي:" إنما الخمر: وهي كل مسكر يغطي العقل"(2).

و«الخمر» : " كل ما أسكر على وجه اللذة، والطرب"(3).

قال الطبري: و" {الخمر} كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه"(4).

قال الشوكاني: " وسمي خمرا لأنه يخمر العقل أي يغطيه ويستره"(5).

قال الصابوني: " {الخمر} المسكر من الأشربة سميت خمرا لأنها تستر العقل وتغطيه، وقولهم: خمرت الغناء أي غطيته"(6).

أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال:"قام عمر على. فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: الا وان الخمر نزل تحريمها يوم نزل، من خمس: من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير والخمر: ما خامر العقل، ثلاثا"(7).

وقال سعيد بن المسيب: "إنما سميت الخمر، لأنها صفا صفوها وسفل كدرها"(8).

وقد ذكر ابن القيم: بأن "في تسمية الخمر خمرا، ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها سميت خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه.

والثاني: لأنها تخمر العقل أي تستره.

والثالث: لأنها تخمر أي تغطي.

ذكر هذه الاقوال محمد بن القاسم " (9).

قوله تعالى: {وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90]، أي:" والميسر: وهو القمار"(10).

و{الْمَيْسِرُ} : من قولهم: يسَرَ لي هذا الأمر، إذا وجب لي، فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا، و «الياسر» الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك، ثم قيل للمقامر، : ياسرٌ ويَسَر، كما قال الشاعر (11):

فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ

يُقَلِّبُ، بَعْدَ مَا اخْتُلِعَ، القِدَاحَا

وكما قال النابغة (12):

أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ القِدَاح بوَفْرِهِ

أَسِفٌ تآكَلَهُ الصِّدِيقُ مُخَلَّعُ (13).

يعني: بالـ «ياسر» : المقامر.

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(2)

التفسير الميسر: 122.

(3)

تفسير ابن عثيمين: 3/ 67.

(4)

تفسير الطبري: 4/ 320.

(5)

فتح القدير: 1/ 221.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 125.

(7)

تفسير ابن أبي حاتم (2047): ص 2/ 389.

(8)

تفسير ابن أبي حاتم (2049): ص 2/ 390.

(9)

زاد المسير: 1/ 239.

(10)

التفسير الميسر: 122.

(11)

ديوانه: 17، من قصيدة يذكر فيها فتوح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، سلف منها بيتان في 2:157. واقرأ التعليق هناك رقم: 2. ولمعت الرايات: خفقت. وقوله: " يوجه الأرض " يعني جيش عمر، أي يقشر وجهها من شدة وطئه وكثرته وسرعة سيره، يشبهه بالسيل. يقال:" وجه المطر الأرض "، قشر وجهها وأثر فيه. وقوله:" يستاق الشجر "، يقول: جيشه كالسيل المنفجر المتدافع يقشر الأرض، ويختلع شجرها، ويسوقه.

(12)

لم أعرف قائله. والغبين والمغبون: الخاسر. واختلع (بالبناء للمجهول): أي قمر ماله وخسره، فاختلع منه، أي انتزع. والمخالع المقامر، والمخلوع: المقمور ماله. يقول: إنه بات ليلته حزينًا كاسفًا مطرقًا، إطراق المقامر الذي خسر كل شيء، فأخذ يقلب في كفيه قداحه مطرقًا متحسرا على ما أصابه ونكبه.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 4/ 321 - 322، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 26.

ص: 441

وقيل للقمار: «ميسر» ؛ وهو كل كسب عن طريق المخاطرة، والمغالبة؛ وضابطه: أن يكون فيه بين غانم، وغارم (1).

قال الراغب: «الميسر» : آلة اليسر، أي الضرب بالقداح ويقال للضارب به ياسر، وسمي الجاذر، وذلك الجذور ياسراً تشبيهاً به، وأصله من اليسر، وهو ضد العسر، وسمي الغنى يسراً، وسمي ذلك يسراً لاعتقادهم أنه غني للفقراء" (2).

قال القرطبي: {وَالْمَيْسِرُ} : "قمار العرب بالأزلام"(3)

قال الصابوني: " {الميسر}: القمار وأصله من اليسر لأنه كسب من غير كد ولا تعب، وقيل من اليسار، لأنه سبب الغنى"(4).

وقد تعددت أقوال أهل التفسير في معنى: {الْمَيْسِرُ} [البقرة: 219]، على وجوه:

أحدها: أنه القمار. قاله ابن عمر (5)، ومجاهد (6)، وروي عن عبد الله بن مسعود (7)، وابن عباس (8)، وسعيد بن جبير (9)، والحسن (10)، وعطاء (11)، وطاوس (12)، ومحمد بن سيرين (13)، وقتادة (14)، والضحاك (15)، وكحول (16)، والسدي (17)، ومقاتل (18).

والثاني: أنه الشطرنج. قاله علي (19).

الثالث: أنه بيع اللحم بالشاة والشاتين (20).

الرابع: أن كل ما لهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر. وهذا قول القاسم بن محمد (21).

الخامس: أنه الضرب بالقداح على الأموال والثمار. قاله الأعرج (22).

السادس: أنه الضرب بالكعاب (23).

أخرج ابن أبي حاتم بسنده عن عن يزيد بن شريح، ان النبي- صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاث من الميسر: الصغير بالحمام، والقمار، والضرب بالكعاب"(24).

قال القرطبي: "وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء"(25).

(1) انظر: تفسير الطبري: 4/ 321 - 322، وتفسير ابن عثيمين: 3/ 26.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني: 1/ 450.

(3)

تفسير القرطبي: 3/ 52.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 389.

(5)

تفسير الطبري (4127): ص 4/ 324 - 325، وتفسير ابن أبي حاتم (2050): ص 2/ 390.

(6)

تفسير الطبري (4107): ص 4/ 322.

(7)

تفسير الطبري (4108): ص 4/ 322.

(8)

تفسير الطبري (4121): ص 4/ 324.

(9)

تفسير الطبري (4124): ص 4/ 324.

(10)

تفسير الطبري (4115): ص 4/ 323.

(11)

تفسير الطبري (4116): ص 4/ 323.

(12)

تفسير الطبري (4116): ص 4/ 323.

(13)

تفسير الطبري (4111): ص 4/ 323.

(14)

تفسير الطبري (4120): ص 4/ 324.

(15)

تفسير الطبري (4125): ص 4/ 324.

(16)

تفسير الطبري (4129): ص 4/ 325.

(17)

تفسير الطبري (4122): ص 4/ 324.

(18)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 2/ 390.

(19)

تفسير ابن أبي حاتم (2054): ص 2/ 391.

(20)

تفسير ابن أبي حاتم (2055): ص 2/ 391.

(21)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2056): ص 2/ 391.

(22)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (2057): ص 2/ 391.

(23)

تفسير ابن أبي حاتم (2058): ص 2/ 391.

(24)

تفسير ابن أبي حاتم (2058): ص 2/ 391.

(25)

تفسير القرطبي: 3/ 53.

ص: 442

قوله تعالى: {وَالْأَنْصَابُ} [المائدة: 90]، أي:" والأنصاب: وهي الحجارة التي كان المشركون يذبحون عندها تعظيمًا لها، وما ينصب للعبادة تقربًا إليه"(1).

قوله تعالى: {وَالْأَزْلَامُ} [المائدة: 90]، أي:" والأزلام: وهي القِداح التي يستقسم بها الكفار قبل الإقدام على الشيء، أو الإحجام عنه"(2).

قوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، أي:" إن ذلك كله إثمٌ مِن تزيين الشيطان"(3).

قال سعيد بن جبير: " يعني: إنما يعني ما ذكر من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام"(4)، " إثم"(5)، " من عمل الشيطان يعني من تزيين الشيطان"(6).

قال ابن عباس: " يقول: سَخَطٌ"(7).

قال ابن زيد: " الرجس، الشرُّ"(8).

قال الزجاج: " الرجس في اللغة: اسم لكل ما استقذر من عمل، فبالغ الله في ذم هذه

الأشياء، وسماها رجسا، وأعلم أن الشيطان يسول ذلك لبني آدم، يقال رجس الرجل يرجس، ورجس يرجس، إذا عمل عملا قبيحا، والرجس بفتح الراء شدة الصوت، فكان الرجس العمل الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح، ويقال: سحاب ورعد رجاس، إذا كان شديد الصوت.

قال الشاعر (9):

وكل رجاس يسوق الرجسا

وأما الرجز، بالزاي فالعذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب" (10).

قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، أي:" فابتعدوا عن هذه الآثام"(11).

قال ابن كثير: " الضمير عائد على الرجس، أي اتركوه"(12).

قال الواحدي: " أي: كونوا جانبًا منه، والهاء عائدة على الرجس، والرجس واقع على الخمر وما ذكر بعدها، وقد قرن الله تعالى تحريم الخمر بتحريم عبادة الأوثان تغليظًا وإبلاغًا في النهي عن شربها ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدمن الخمر كعابد الوثن" (13) "(14).

قال ابن عمر: " ثم نزلت يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت الخمر"(15).

(1) التفسير الميسر: 122.

(2)

التفسير الميسر: 122.

(3)

التفسير الميسر: 122.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6759): ص 4/ 1199.

(5)

حكاه عنه ابن كثير: 3/ 179.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6761): ص 4/ 1199.

(7)

أخرجه الطبري (12510): ص 10/ 565.

(8)

أخرجه الطبري (12511): ص 10/ 565.

(9)

هذا الرجز منسوب للعجاج كما في حاشية "معاني الزجاج" 2/ 204، "تهذيب اللغة" 2/ 1367 (رجس).

(10)

معاني القرآن: 2/ 203 - 204.

(11)

التفسير الميسر: 122.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 179.

(13)

أخرجه البخاري في تاريخه 1/ 129، 3/ 515، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 12، وصححه الألبانى. انظر:"صحيح الجامع الصغير" 5/ 205 برقم 5737.

(14)

التفسير البسيط: 7/ 510.

(15)

أخرجه ابن ابي حاتم (6762): ص 4/ 1199.

ص: 443

قال سعيد بن جبير: " فهذا تحريمهن كما قال الله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَان} (1)، يعني: عبادة الأصنام فحرم الخمر كما حرم عبادة الأصنام"(2).

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]، أي:"لعلكم تفوزون بالجنة"(3).

قال سعيد بن جبير: "يعني: لكي تفلحون"(4).

قال محمد بن كعب القرظي: " يقول: لعلكم غدا إذا لقيتموني"(5).

قال محمد بن إسحاق: " أي: لعلكم أن تنجوا مما حذركم الله به من عذابه وتدركون ما وعدكم فيه من ثوابه"(6).

قال ابن كثير: " وهذا ترغيب "(7).

الفوائد:

1 -

بَدْؤُه تعالى الكلامَ بهذا الوَصْفِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو} ، ايدلُّ على أنَّ العملَ به تَصديقًا أو امتثالًا من مقتضياتِ الإيمانِ، كذلك أيضًا: يدلُّ على أنَّ مخالفتَه، أو الشكَّ فيه، أو تكذيبَه منافٍ للإيمانِ؛ إمَّا لأصلِه أو لكمالِه، وثالثًا: أنَّ في هذا إغراءً للمخاطَب، كأنَّه يقول: إنْ كنتَ مؤمنًا فاستمعْ وامتثِلْ.

2 -

يَكفي أنْ يعلمَ المؤمنُ أنَّ شيئًا ما مِن عملِ الشَّيطانِ؛ لينْفِرَ منه حسُّه، وتَشمئزَّ منه نفْسُه، ويَبعُدَ عنه من خوفٍ ويتَّقيَه! فالشيطانُ عدوُّ الإنسانِ القديمُ؛ لذا قال تعالى:{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، فتَعاطي هذه المحرَّماتِ بتسويلٍ من الشيطان، فكأنَّ الذي عمِلَها وتعاطاها هو الشَّيطانُ، وفي ذلِك تنفيرٌ لمتعاطيها بأنَّه مَن عَمِلَ عَمَلَ الشيطانِ، فهو شيطانٌ، وذلك ممَّا تأباه النُّفوسُ، ولم يكتفِ بذلك ذمًّا لهذا العَمَل، بل وفي هذه اللَّحظة يَصدُر النَّهيُ مصحوبًا كذلك بالإطماعِ في الفَلاح، وهي لمسةٌ أخرى من لمساتِ الإيحاءِ النفسيِّ العميقِ، فقال:{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

3 -

قَوْلُه تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، فيه بيانُ أنَّه لا مَعصيةَ أعظمُ وأقبحُ من معصيةٍ تُدنِّس صاحبَها، وتجعلُه من أهل الخُبثِ، وتُوقِعُه في أعمالِ الشَّيطانِ وشِباكه، فينقادُ له كما تنقادُ البهيمةُ الذليلةُ لراعيها، وتَحولُ بين العبدِ وبين فلاحِه، وتُوقِعُ العداوةَ والبغضاءَ بين المؤمنين، وتصدُّ عن ذِكر اللهِ وعن الصَّلاة؟ فهل فوقَ هذه المفاسدِ شيءٌ أكبرُ منها؟ !

4 -

رحمةُ اللهِ تبارك وتعالى بعِبادِه الَّذين خَلَقَهم لعِبادتِه؛ حيثُ حذَّرهم مِن كلِّ ما فيه ضَررٌ؛ لِقَوْلِه: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

(1)[الحج: 30].

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6763): ص 4/ 1199.

(3)

التفسير الميسر: 122.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6764): ص 4/ 1200.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6765): ص 4/ 1200.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6766): ص 4/ 1200.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 179.

ص: 444

القرآن

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]

التفسير:

إنما يريد الشيطان بتزيين الآثام لكم أن يُلقِي بينكم ما يوجد العداوة والبغضاء، بسبب شرب الخمر ولعب الميسر، ويصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة بغياب العقل في شرب الخمر، والاشتغال باللهو في لعب الميسر، فانتهوا عن ذلك.

قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91]، أي:" إنما يريد الشيطان بتزيين الآثام لكم أن يُلقِي بينكم ما يوجد العداوة والبغضاء، بسبب شرب الخمر ولعب الميسر"(1).

قال القرطبي: "وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء"(2).

قال الطبري: أي: " إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام"(3).

قال الواحدي: " وذلك لما يحصل بين أهلها من العداوة والمقابح والإِقدام على ما يمنع منه العقل"(4).

قال السمعاني: " أما وقوع العداوة في الخمر: أن شاربيه إذا سكروا عربدوا، وتشاجروا"(5).

قال سعيد بن جبير: " يعني: حين شج الأنصاري رأس سعد بن أبي وقاص"(6).

(1) التفسير الميسر: 123.

(2)

تفسير القرطبي: 3/ 53.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 565.

(4)

الوجيز: 334.

(5)

تفسير السمعاني: 2/ 62.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6768): ص 4/ 1200.

ص: 445

قال سعد: "صنع لنا رجل من الأنصار طعاما فأكلناه وشربنا الخمر وذلك قبل أن تحرم الخمر، فأنشبنا نتفاخر فأنتشينا فتفاخرنا، فقلنا: نحن أفضل منكم وقالت الأنصار: نحن أفضل منكم فأخذ رجل من الأنصار لحى فضرب به أنف سعد فشجه. فنزلت: {إنما الخمر والميسر} الآية"(1).

وأما العداوة في الميسر، قال قتادة:" ان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه"(2).

وقال ابن عباس: " نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا، حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض، فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، فأنزل الله: {إنما الخمر والميسر} إلى قوله: {فهل أنتم منتهون}! "(3).

قال الجصاص: " فأخبر الله تعالى أنه إنما نهى عن هذه الأمور لنفي الاختلاف والعداوة ولما في ارتكابها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فمن تأدب بأدب الله وانتهى إلى أوامره وانزجر بزواجره حاز صلاح الدين والدنيا"(4).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6767): ص 4/ 1200.

(2)

أخرجه الطبري (12524): ص 10/ 573.

(3)

أخرجه الطبري (12522): ص 10/ 571.

(4)

أحكام القرآن: 4/ 128.

ص: 446

قال ابن عطية: " أعلم تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر، وما كان يغري عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال والأهل، حتى ربما بقي المقمور حزينا فقيرا فتحدث من ذلك ضغائن وعداوة، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (1)، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو، والبغضاء تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية"(2).

قال السعدي: " أخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها، فمنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريص على بثها، خصوصا الخمر والميسر، ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء، فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل، وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء"(3).

(1) الحديث: " لحديث: (لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا "، أخرجه البخاري في الصحيح (6064 و 6066 و 6076)، وفي الأدب المفرد (408)، ومسلم (2559 و 2563 و 2564)، وأبو داود الطيالسي (2091)، وأحمد (2 277 و 469) و (3 165 و 209)، والترمذي (1935)، وأبو يعلى (3612)، والقضاعي في مسنده (939)، والطبراني في الصغير (280)، والبيهقي في السنن الكبرى (11276 و 14550 و 16906).

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 234.

(3)

تفسير السعدي: 243.

ص: 447

قال المراغي: " أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس حتى الأصدقاء منهم، فلأن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يمنع من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس، كما يستولى عليه حب الفخر الكاذب، ويسرع إليه الغضب بالباطل، وكثيرا ما يجتمع الشرب على مائدة الشراب فيثير السكر كثيرا من ألوان البغضاء بينهم، وقد ينشأ القتل والضرب والسلب والفسق والفجور وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وخيانة الحكومات والأوطان، وأما الميسر فهو مثار العداوة والبغضاء بين المتقامرين، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين، وكثيرا ما يفرط المقامر فى حقوق الوالدين والزوج والأولاد حتى يوشك أن يمقته كل أحد.

والميسر مع ما فيه من التوسعة على المحتاجين، فيه إجحاف بأرباب الأموال، لأن من صار مغلوبا فى القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه رجاء أن يغلب فيه مرة أخرى، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شىء من المال، ولا شك أنه بعد ذلك سيصير فقيرا مسكينا، ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا له غالبين" (1).

قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91]، أي:" ويصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة بغياب العقل في شرب الخمر والاشتغال باللهو في لعب الميسر"(2).

قال مقاتل: " يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله- عز وجل وإذا سكرتم لم تصلوا"(3).

قال السمرقندي: " يعني: عن طاعة الله، وعن الصلاة لأنهم منعوا عن الصلاة إذا كانوا سكارى. ولأنه إذا سكر لا يعقل الطاعة وأداء الصلاة"(4).

قال الواحدي: "لأنَّ مَن اشتغل بهما منعاه عن ذكر الله والصَّلاة"(5).

(1) تفسير المراغي: 7/ 23 - 24.

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 501.

(4)

بحر العلوم: 1/ 416.

(5)

الوجيز: 334.

ص: 448

قال الطبري: " يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم، {وعن الصلاة}، التي فرضها عليكم ربكم"(1).

قال ابن عطية: أي: "وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغلهم عنها بشهوات، فالخمر والميسر والقمار كله من أعظم آلاته في ذلك"(2).

قال الزمخشري: " قوله {وعن الصلاة}، اختصاص للصلاة من بين الذكر، كأنه قيل: وعن الصلاة خصوصا"(3).

قال السعدي: ومن مفاسدها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو" (4).

قال المراغي: " وأما صد الخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة (وهما مفسدتهما الدينية) فذلك أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء (وهما مفسدتهما الاجتماعية) لأن كل سكرة من سكرات الخمر، وكل مرة من لعب القمار تصد السكران واللاعب وتصرفه عن ذكر الله الذي هو روح الدين، وعن الصلاة وهى عماد الدين، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته، ويثنى عليه بأسمائه وصفاته، أو يقيم الصلاة التي هى ذكر الله، ولو ذكر السكران ربه وحاول الصلاة لم تصح له، وكذلك المقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة، فلا يتوجه همه إلى ذكر الله ولا يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها.

(1) تفسير الطبري: 10/ 565.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 234.

(3)

الكشاف: 1/ 675.

(4)

تفسير السعدي: 243.

ص: 449

وقد دلت المشاهدة على أن القمار أكثر الأعمال التي تشغل القلب وتصرفه عن كل ما سواه، بل يحدث الحريق فى دار المقامر أو تحل المصايب بالأهل والولد ويستغاث به فلا يغيث بل يمضى فى لعبه، والنوادر فى ذلك كثيرة إلى أن المقامر إذا تذكر الصلاة وترك اللعب لأجلها فإنه لا يؤدى منها إلا الحركات بدون أدنى تدبر أو خشوع، لكنه على كل حال يفضل السكران إذ أنه لا يكاد يضبط أفعال الصلاة.

واللعب بالشطرنج أو بالنرد إذا كان على مال دخل فى الميسر وكان حراما، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه إلا إذا تحقق كونه رجسا من عمل الشيطان موقعا فى العداوة والبغضاء صادا عن ذكر الله وعن الصلاة بأن كان من المكثرين اللعب أو ممن يداومون عليه، والشافعي كرهه لما فيه من إضاعة الوقت بلا فائدة" (1).

قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]، أي:" فانتهوا عن ذلك"(2).

قال السمرقندي: " يعني: انتهوا عن شربها"(3).

قال الواحدي: استفهامٌ بمعنى الأمر، قالوا: انتهينا" (4).

قال الزجاج: " ومعنى {فهل أنتم منتهون}، التحضيض على الانتهاء والتفديد على ترك الانتهاء"(5).

قال سعيد: " فهذا وعيد التحريم، قالوا: قد انتهينا يا ربنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان عنده شيء فلا يبعها ولا يشربها"(6).

قال مقاتل: " - فهذا وعيد بعد النهي والتحريم، قالوا انتهينا يا ربنا"(7).

قال الطبري: " يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟ "(8).

(1) تفسير المراغي: 7/ 24 - 25.

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

بحر العلوم: 1/ 416.

(4)

الوجيز: 334.

(5)

معاني القرآن: 1/ 292.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (6770): ص 4/ 1201.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 501.

(8)

تفسير الطبري: 10/ 566.

ص: 450

قال ابن كثير: " وهذا تهديد وترهيب"(1).

قال ابن عطية: " وعيد في ضمن التوقيف زائد على معنى: انتهوا"(2).

قال الراغب: " وقوله: {فهل أنتم منتهون}، نهاية الردع والزجر"(3).

قال المراغي: " هذا أمر بالانتهاء جاء بأسلوب الاستفهام وكان ذلك غاية فى البلاغة، فكأنه قيل: قد تلى عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع كل هذا منتهون؟ أو أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا"(4).

عن عن عمرو بن شرحبيل قال: "قال عمر بن الخطاب: اللهم بين لنا في الخمر، فنزلت: {فيها إثم كبير ومنافع للناس}، فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فنزلت: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}، حتى بلغ- {فهل أنتم منتهون}، قال عمر: انتهينا، إنها تذهب المال وتذهب العقل"(5).

عن ابن بريدة، عن أبيه قال:"بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا]، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نزل تحريم الخمر: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصابُ والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان}، إلى آخر الآيتين، {فهل أنتم منتهون}، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: {فهل أنتم منتهون}؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا! "(6).

قال القرطبي: " فكل لهو دعا قليله إلى كثير، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر، وأوجب أن يكون حراما مثله.

(1) حكاه عنه ابن كثير: 3/ 179.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 234.

(3)

تفسير الراغب الأصفهاني: 5/ 438.

(4)

تفسير المراغي: 7/ 25.

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (6769): ص 4/ 1200.

(6)

أخرجه الطبري (12523): ص 10/ 572.

ص: 451

فإن قيل: إن شرب الخمر يورث السكر فلا يقدر معه على الصلاة وليس في اللعب بالنرد والشطرنج هذا المعنى.

قيل له: قد جمع الله تعالى بين الخمر والميسر في التحريم، ووصفهما جميعا بأنهما يوقعان العداوة والبغضاء بين الناس. ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، ومعلوم أن الخمر إن أسكرت فالميسر لا يسكر، ثم لم يكن عند الله افتراقهما في ذلك يمنع من التسوية بينهما في التحريم لأجل ما اشتركا فيه من المعاني.

وأيضا فإن قليل الخمر لا يسكر كما أن اللعب بالنرد والشطرنج لا يسكر ثم كان حراما مثل الكثير، فلا ينكر أن يكون اللعب بالنرد والشطرنج حراما مثل الخمر وإن كان لا يسكر.

وأيضا فإن ابتداء اللعب يورث الغفلة، فتقوم تلك الغفلة المستولية على القلب مكان السكر، فإن كانت الخمر إنما حرمت لأنها تسكر فتصد بالإسكار عن الصلاة، فليحرم اللعب بالنرد والشطرنج لأنه يغفل ويلهي فيصد بذلك عن الصلاة" (1).

قال السعدي: فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحول بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؟ فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟ ، ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله:{فهل أنتم منتهون} لأن العاقل -إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد- انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتج إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ" (2).

الفوائد:

1 -

فضيلةُ الصَّلاةِ لتَخصيصِها بالذِّكر مِن بين ذِكرِ اللهِ عز وجل؛ لِقَوْلِه: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} ْ، وهذا يدلُّ على شَرَفِها وفَضلِها على غيرِها.

(1) تفسير القرطبي: 6/ 291.

(2)

تفسير السعدي: 243.

ص: 452

2 -

أنَّ كَلَّ ما صدَّ عن ذِكرِ الله فهو مِن أوامرِ الشَّيطانِ؛ لِقَوْلِه: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} ، وذِكرُ الله تبارك وتعالى يكونُ بالقلبِ واللِّسان والجوارحِ، فكلُّ ما صدَّك عن ذِكرِ اللهِ من هذه الأشياءِ، فهو من أوامِر الشيطانِ وإراداتِه.

3 -

أنَّ كلَّ ما وقَع في قلبك مِن التثاقُل عن الصَّلاة، فاعلمْ أنَّه من الشَّيطانِ، ومرادِ الشيطان؛ لِقَوْلِه:{وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} .

4 -

إثباتُ الإرادةِ للشَّيطانِ؛ لِقَوْلِه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} ، والله تعالى يقول:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34]، وقد جادَلَ ربَّه عن إرادةٍ.

5 -

لَمَّا كانتِ العداوةُ قد تزولُ أسبابُها، ذكَر ما يَنشَأُ عنها ممَّا إذا استحكَم تعسَّر، أو تَعذَّر زوالُه، فقال:{وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} ، أي: في تعاطيهما؛ لأنَّ الخَمْرَ تُزيل العَقْلَ، فيزول المانعُ من إظهارِ الكامِنِ من الضَّغائن والمحاسَدة، فربَّما أدَّى ذلك إلى حروبٍ طويلةٍ، وأمورٍ مَهولة، والميسِرُ يُذهِبُ المالَ، فيُوجِبُ ذلك الحقدَ على مَن سَلَبه مالَه، ونغَّص عليه أحوالَه.

ص: 453

6 -

في قولِه تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} ، اقتصرتِ الآيةُ على تبيينِ مفاسِدِ شُرْبِ الخمرِ وتعاطي الميسِر، دون تَبْيينِ ما في عِبادَةِ الأنصابِ والاستقسامِ بالأزلامِ من الفَسادِ؛ وذلك لأنَّ إقلاعَ المسلمينَ عنهما قد تَقرَّر قَبلَ هذه الآيةِ مِن حِين الدُّخولِ في الإسلامِ؛ لأنَّهما من مآثِر عَقائدِ الشِّركِ، ولأنَّه ليس في النُّفوسِ ما يُدافِعُ الوازعَ الشرعيَّ عنهما بخِلافِ الخَمْر والميسِرِ؛ فإنَّ ما فيهما من اللَّذَّات التي تُزجِي بالنُّفوسِ إلى تَعاطيهما قد يُدافِع الوزاعَ الشرعيَّ؛ فلذلك أكَّد النهيَ عنهما أشدَّ ممَّا أكَّد النهيَ عن الأنصابِ والأزلامِ.

7 -

في قولِه تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، الحضُّ على ترْكِ هذه الخبائثِ، والإقلاعِ عنها؛ لأنَّ العاقِلَ إذا نظَر إلى بعضِ تِلك المفاسدِ انزجَر عنها وكفَّتْ نفْسُه، ولم يَحتَجْ إلى وعْظٍ كثيرٍ، ولا زجرٍ بليغٍ 34).

8 -

وفي الآية النهى عن التفرق وبين عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع والأمة بأسرها، قال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا-ويشير إلى صدره- يحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله"(1).

(1) أخرجه البخاري / كتاب الأدب / باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر ومسلم / كتاب البر والصلة/ باب تحريم التحاسد والتباغض.

ص: 454

ويقول عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"(1).

وقال عليه الصلاة والسلام لأبي أيوب رضي الله عنه: "ألا أدلك على تجارة؟ " قال: بلى يا رسول الله. قال: "تسعى في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا"(2).

وفي مقابلة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالتحاب والتآلف ومحبة الخير والتعاون على البر والتقوى وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنمية في مقابلة ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم وذلك لما في التفرق والبغضاء من المفاسد العظيمة فالتفرق هو قرة عين شياطين الجن والإنس، لأن شياطين الإنس والجن لا يودون من، أهل الإسلام أن يجتمعوا على شيء فهم يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام والاتجاه إلى الله عز وجل.

9 -

وقد أكد الله تحريم الخمر والميسر في هذه الآية والتي قبلها بوجوه من التأكيد:

أحدها: أنه سماهما رجسا، والرجس كلمة تدل على منتهى ما يكون من القبح والخبث، ومن ثم

قال صلى الله عليه وسلم: «الخمر أم الخبائث» (3)، ذما لها وتقريرا لإثم شاربها.

والثاني: أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هى من أعمال الوثنية وخرافات الشرك، وقد روى ابن ماجه عن أبى هريرة قوله صلى الله عليه وسلم:«مدمن الخمر كعابد وثن» (4).

(1).أخرجه البخاري /كتاب الأدب/ باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، ومسلم /كتاب البر والصلة / باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم.

(2)

أخرجه البخاري / كتاب الإكراه / باب يمين الرجل لصاحبه: إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه، ومسلم/ كتاب البر والصلة/ باب تحريم الظلم.

(3)

رواه النسائي في كتاب الأشربة باب 44.

(4)

أخرجه البخاري في تاريخه 1/ 129، 3/ 515، والبيهقي في "شعب الإيمان" 5/ 12، وصححه الألبانى. انظر:"صحيح الجامع الصغير" 5/ 205 برقم 5737.

ص: 455

والثالث: أنه جعلهما من عمل الشيطان، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وسخط الرحمن.

والرابع: أنه جعل اجتنابهما سبيلا للفلاح والفوز بالنجاة.

والخامس: أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء، وهما من أقبح المفاسد الدنيوية التي تولد كثيرا من المعاصي فى الأموال والأعراض والأنفس.

والسادس: أنهما جعلا صادين عن ذكر الله وعن الصلاة، وهما روح الدين وعماده وزاده وعتاده.

9 -

بيان أضرار الخمر، والميسر:

أولا: أضرار الخمر:

فأما ضرر الخمر في العقل فهو مسلم عند الناس، وليس ضرره فيه خاصا بما يكون من فساد التصور والإدراك عند السكر; بل السكر يضعف القوة العاقلة، وكثيرا ما ينتهي بالجنون، ولأحد أطباء ألمانيا كلمة اشتهرت كالأمثال وهي "اقفلوا لي نصف الحانات أضمن لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والبيمارستانات والملاجئ - التكايا – والسجون"(1).

وقد قال الأطباء: إن المسكر لا يتحول إلى دم كما تتحول سائر الأغذية بعد الهضم، بل يبقى على حاله، فيزاحم الدم في مجاريه فتسرع حركة الدم، وتختل موازنة الجسم، وتتعطل وظائف الأعضاء أو تضعف، وتخرج عن وضعها الطبيعي المعتدل.

- فمن تأثيره في اللسان إضعاف حاسة الذوق، وفي الحلق الالتهاب، وفي المعدة ترشيح العصارة الفاعلة في الهضم حتى يغلظ نسيجها وتضعف حركتها، وقد يحدث فيها احتقانا والتهابا، وفي الأمعاء التقرح، وفي الكبد تمديده وتوليد الشحم الذي يضعف عمله، وكل هذا يتعلق بما يسمونه الجهاز الهضمي.

- ومن تأثيره في الدم أنه بممازجته له يعوق دورته وقد يوقفها أحيانا فيموت السكور فجأة، ويضعف مرونة الشرايين فتتمدد وتغلظ حتى تنسد أحيانا فيفسد الدم، ولو في بعض الأعضاء، فتكون الغنغرينا التي تقضي بقطع العضو الذي تظهر فيه لئلا يسري الفساد إلى الجسد كله فيكون هالكا، وتصلب الشرايين يسرع الشيخوخة والهرم.

(1) انظر: تفسير المنار: 2/ 260.

ص: 456

- ومن تأثيره في جهاز التنفس إضعاف مرونة الحنجرة، وتهييج شعب التنفس،

وأهون ضرر ذلك بحة الصوت والسعال، وأعظمها تدرن الرئة; أي: السل الفاتك بالشبان والقاطع لجميع لذات الإنسان.

- وأما تأثيره في المجموع العصبي فهو الذي يولد الجنون ويهلك النسل، فولد السكور لا يكون نجيبا، وولد ولده يكون شرا من ولده وأضعف بدنا وعقلا، وقد يؤدي تسلسل هذا الضعف إلى انقطاع النسل ألبتة، ولا سيما إذا جرى الأبناء على طريق الآباء كما هو الغالب.

- ومن مضرات الخمر في التعامل وقوع النزاع والخصام بين السكارى بعضهم مع بعض، وبينهم وبين من يعاشرهم ويعاملهم، تثير ذلك أدنى بادرة من أحدهم، فيوغلون فيه حتى يكون عداوة وبغضاء. وهذه العلة في التحريم من أكبر العلل في نظر الدين; ولذلك ورد بها النص في سورة المائدة:{إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [5: 91].

- ومنها إفشاء السر، وهو ضرر يتولد منه مضرات كثيرة، ولا سيما إذا كان السر يتعلق بالحكومة وسياسة الدولة ومصالحها العسكرية، وعليها يعتمد الجواسيس.

- ومنها الخسة والمهانة في أعين الناس; فإن السكران يكون في هيئته وكلامه وحركاته بحيث يضحك منه ويستخف به كل من يراه، حتى الصبيان; لأنه يكون أقل منهم عقلا، وأبعد عن التوازن في حركاته وأعماله، والضبط في أفكاره وأقواله، وينقلون عن السكارى من النوادر الغريبة ما يكفي في ردع من له شرف وعقل عن الخمر، فيراجع ذلك في كتب الأدب والمحاضرة، ومما ذكر عن المحدثين: أن ابن أبي الدنيا مر بسكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا، وعرض بعضهم شرب الخمر على أحد فصحاء المجانين فقال له المجنون: أنت تشرب لتكون مثلي، فأنا أشرب لأكون مثل من؟

ص: 457

- ومنها أن جريمة السكر تغري بجميع الجرائم التي تعرض للسكران وتجرئ عليها، ولا سيما الزنا والقتل، وبلغني أن جميع الذين يختلفون إلى مواخير الزنا لا يذهبون إليها إلا وهم سكارى; لأن غير السكران تنفر نفسه من هذه القاذورات المبتذلة مهما تكن خسيسة; ولذلك سميت الخمر أم الخبائث كما ورد في الحديث، فهذه إشارة إلى مضراتها في النفس من حيث الأخلاق والآداب.

- ومن مضراتها المالية أنها تستهلك المال وتفني الثروة كما قال عنترة (1):

فإذا شَرِبْتُ فإنّني مُسْتَهلِكٌ

مالي وعِرضِي وافِرٌ لَمْ يُكَلَمِ

ولم تكن الخمر مذهبة للثروة في زمن من الأزمنة كزماننا هذا، ولا في مكان كهذه البلاد; فإن أنواع الخمر كثرت فيها، ومنها ما هو غالي الثمن جدا، ثم إن المتجرين بها كثيرا ما يقرنون بينها وبين القيادة إلى الزنا، وفي مصر القاهرة بيوت للفسق تجمع بين الخمر والنساء والراقصات والمغنيات، يدخلها الرجال زرافات وأفذاذا، ويتبارون ثم في النفقة حتى ليخسر الرجل في ليلته المئين والألوف. وإن الخمار الرومي الفقير ليفتح في إحدى القرى والمزارع من هذه البلاد حانة صغيرة فلا تزال تتسع بما تبتلع من ثروة الأهالي وغلات أرضهم حتى تبتلع القرية كلها، فتكون أموالها وغلاتها وقطنها وتجارتها في يد صاحب الحانة.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: "وقد عم البلاء بالخمر هذا القطر بما لأهله من الاستعداد للتقليد حتى قيل: إن ما يصرف في مصر على الخمر يعدل ما يصرف في فرنسا كلها"(2).

- ومن مضرات الخمر في الدين من حيث روحه ووجهة العبد إلى الله تعالى أن السكران لا تتأتى منه عبادة من العبادات ولا سيما الصلاة التي هي عماد الدين; ولذلك قال تعالى في آية المائدة بعد ما تقدم آنفا: {ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} .

(1) في معلقته المشهورة، انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: 243، وشرح القصائد العشر للتبريزي:198.

(2)

تفسير المنلاار: 2/ 261.

ص: 458

فهذا شيء من البيان لكون ضرر الخمر كبيرا، وقد يشتبه بعض المبتلين بشرب الخمر في بعض تلك المضرات الصحية، أو يتوهمون أنه يسهل عليهم التوقي منها، وهيهات هيهات لما يتوهمون; فإن المزاج الذي يتحمل سم الخمر - الذي يسمى الكحول أو الغول - زمنا طويلا بحيث يغتر الناس بحسن صحة صاحبه قليل في الناس، ولكن هؤلاء المبتلين يقيسون على النادر ويجهلون الأصل الغالب، وهو أنه لا يكاد يسلم مدمن السكر من ضرره في جسمه أو عقله ومداركه أو ولده وذريته، بل تجتمع كلها في الغالب. وأما المضرات المعنوية فيقل في معتادي السكر من يحفل بها، على أن منهم من يرى أنه يسهل عليه تجنبها.

ثانيا: أضرار الميسر:

وأما كون أضرار الميسر:

ص: 459

- فقد جاء فيه ما جاء في الخمر من كونه يورث العداوة والبغضاء، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا ظاهر في ميسر العرب، وفي جميع أنواع القمار المعروفة في عصرنا إلا ما يسمونه "اليانصيب" فإنه على كونه ميسرا لا شك فيه لا يظهر جميع مفاسده في بعض أنواعه (1).

(1) ميسر اليانصيب: هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار - جنيه - مثلا تجعل جزءا كبيرا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلا يقسم بينهم بطريقة الميسر وتأخذ هي الباقي; ذلك بأن تطبع أوراقا صغيرة كأنواط المصارف المالية (بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارا واحدا مثلا يطبع عليها، وتجعل العشرة آلآلاف التي تعطي ربحا لمشتري هذه الأوراق مائة سهم أو نصيب تعرف بالأرقام العددية وتسمى النمر - جمع نمرة - ويطبع على الورقة المشتراة عددها وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها، وتجعل باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه السحب، ذلك بأنهم يتخذون قطعا صغيرة من المعدن ينقش في كل واحدة منها عدد من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحدة إلى مائة ألف إذا كان المبيع من الأوراق مائة ألف، ويضعونها في وعاء من المعدن كروي الشكل كخريطة الأزلام (القداح) التي بيناها آنفا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر، فإذا كان يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولا سمي النمرة الأولى مهما يكن عددها، وهي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند العرب، وما خرج منها ثانيا سمي النمرة الثانية، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي الأول، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده وكان الباقي خاسرا.

وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون عند السحب

وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه، ولا يعملون له عملا آخر فيشغلهم عن الصلاة أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة، ولا يعرف الخاسر منهم فردا أو أفرادا أكلوا ماله فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب وقمار الموائد ونحوه، وكثيرا ما يجعل (اليانصيب) لمصلحة عامة كإنشاء المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات الحربية، والحكومات التي تحرم القمار تبيح (اليانصيب) الخاص بالأعمال الخيرية العامة أو الدولية. ولكن فيه مضار القمار الأخرى، وأظهرها أنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل; أي: بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، هذا محرم بنص القرآن كما تقدم في محله، وقد يقال: إن المال الذي يبنى به مستشفى لمعالجة المرضى أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء أو ملجأ لتربية اللقطاء لا يظهر فيه معنى أكل أموال الناس بالباطل إلا في آخذي ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية المال من جمعية أو حكومة، وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن الصلاة. [انظر: تفسير المنار: 2/ 263 - 264].

ص: 460

- ومن مضرات الميسر: إفساد التربية بتعويد النفس الكسل وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية، وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران (1).

- ومنها - وهو أشهرها - تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز، وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها عليها في ليلة واحدة فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك (2).

القرآن

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} [المائدة: 92]

التفسير:

وامتثلوا -أيها المسلمون- طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما تفعلون وتتركون، واتقوا الله وراقبوه في ذلك، فإن أعرضتم عن الامتثال فعملتم ما نهيتم عنه، فاعلموا أنما على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين.

قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، أي:" وامتثلوا -أيها المسلمون- طاعة الله وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما تفعلون وتتركون"(3).

قال سعيد بن جبير: " يعني: في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام"(4).

قال البيضاوي: أي: " فيما أمرا به"(5).

قال السمعاني: " لما حرم الخمر، وأمر بالاجتناب عنها؛ ندبهم إلى طاعة الله والرسول، والتوقي"(6).

قال ابن عطية: " وكرر {أطيعوا}، في ذكر الرسول تأكيدا "(7).

(1) انظر: تفسير المنار: 2/ 263.

(2)

انظر: تفسير المنار: 2/ 260 - -264.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6771): ص 4/ 1201.

(5)

تفسير البيضاوي: 2/ 142.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 64.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 234.

ص: 461

قال القرطبي: " قوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} تأكيد للتحريم، وتشديد في الوعيد، وامتثال للأمر، وكف عن المنهي عنه، وحسن عطف {وأطيعوا الله}، لما كان في الكلام المتقدم معنى: انتهوا، وكرر {وأطيعوا}، في ذكر الرسول تأكيدا"(1).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " أي أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما، كما تجتنبون الأنصاب والأزلام أو أشد اجتنابا في كل شيء، أطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزله الله عليكم، ومنه قوله: " كل مسكر خمر وكل خمر حرام" (2) "(3).

قوله تعالى: {وَاحْذَرُوا} [المائدة: 92]، أي:" واتقوا الله وراقبوه في ذلك"(4).

قال الواحدي، والبغوي: أي: " المحارم والمناهي"(5).

قال البيضاوي: أي: " واحذروا ما نهيا عنه أو مخالفتهما"(6).

قال أبو السعود: " أي: مخالفتهما في ذلك فيدخل فيه مخالفة أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا"(7).

قال الزمخشري: اي: " وكونوا حذرين خاشين، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة. ويجوز أن يراد: واحذروا ما عليكم في الخمر والميسر، أو في ترك طاعة الله والرسول"(8).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 293.

(2)

أخرجه أبو داود 3679 والترمذي 1861 والنسائي (8/ 296 و 297) وأحمد في «الأشربة» 26 وابن حبان 5366 والطحاوي (4/ 216) والدارقطني (4/ 248) والبيهقي (8/ 288) والبغوي 3013 من طرق عن حماد بن زيد.

(3)

تفسير المنار: 7/ 55.

(4)

التفسير الميسر: 123.

(5)

انظر: الوجيز للواحدي: 335، وتفسير البغوي: 3/ 94.

(6)

تفسير البيضاوي: 2/ 142.

(7)

تفسير أبي السعود: 3/ 76.

(8)

الكشاف: 1/ 676.

ص: 462

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " أي احذروا عصيانهما أو ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، فإنه حرام عليكم إلا ما يضركم في دنياكم وآخرتكم، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النور: 63] "(1).

قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [المائدة: 92]، أي:" فإن أعرضتم عن الامتثال فعملتم ما نهيتم عنه"(2).

قال الواحدي: أي: "عن الطَّاعة"(3).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " أي فإن توليتم وأعرضتم عن الطاعة"(4).

قال سعيد بن جبير: " يعني: أعرضتم عن طاعتها"(5).

قال أبو السعود: " أي: أعرضتم عن الامتثال بما أمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاحتراز عن مخالفتهما"(6).

قال القرطبي: " حذر في مخالفة الأمر، وتوعد من تولى بعذاب الآخرة، فقال: {فإن توليتم}، أي: خالفتم"(7).

قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، أي:" فاعلموا أنما على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين"(8).

قال الواحدي: أي: " فليس عليه إلَاّ البلاغ فإن أطعتم وإلَاّ استحققتم العقاب"(9).

قال الزمخشري: اي: " فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول، لأن الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم"(10).

(1) تفسير المنار: 7/ 55.

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

الوجيز: 335.

(4)

تفسير المنار: 7/ 55.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6771): ص 4/ 1201.

(6)

تفسير أبي السعود: 3/ 76.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 293.

(8)

التفسير الميسر: 123.

(9)

الوجيز: 335.

(10)

الكشاف: 1/ 676.

ص: 463

قال البيضاوي: أي: " أي فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول صلى الله عليه وسلم بتوليكم، فإنما عليه البلاغ وقد أدى، وإنما ضررتم به أنفسكم"(1).

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " فاعلموا أنما على رسولنا أن يبين لكم ديننا وشرعنا، وقد بلغه وأبانه وقرن حكمه بأحكامه وعلينا نحن الحساب والعقاب وسترونه في إبانه، كما قال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، وإنما الحساب لأجل الجزاء"(2).

قال ابن عطية: أي: " ثم حذر تعالى من مخالفة الأمر وتوعد من تولى بعذاب الآخرة، أي: إنما على الرسول أن يبلغ وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع"(3).

قال سعيد بن جبير: " {رسولنا}، يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم"(4)، " {البلاغ المبين}، يعني: أن يبين تحريم ذلك. في صفة أعمال المؤمنين وما أعد لهم في أموالهم"(5).).

عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر حرام، وإن ختما على الله أن لا يشربه عبد في الدنيا إلا سقاه الله تعالى يوم القيامة من طينة الخبال، هل تدرون ما طينة الخبال؟ " قال: "عرق أهل النار"(6).

(1) تفسير البيضاوي: 2/ 142.

(2)

تفسير المنار: 7/ 55.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 234.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6773): ص 4/ 1201.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6774): ص 4/ 1201.

(6)

أخرجه البغوي في شرح السنة: 11/ 356، ومعالم التنزيل: 3/ 95، وفيه عبد الملك بن قدامة، وهو ضعيف، ويشهد له عدة أحاديث صحيحة عن جابر بن عبد الله وغيره منها حديث جابر عند مسلم، برقم (2002) في الأشربة وحديث ابن عمر عند مسلم برقم (2003).

ص: 464

وعن عبد الله بن عمر أيضا قال: "أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها"(1).

قال أبو السعود: في قوله: {فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} ، "وقد فعل ذلك بكما لا مزيد عليه وخرج عن عهدة الرسالة أي خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقي بعذ ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه فلا يساعده المقام إذ لا يتوهم منهم ادعاء أنهم بتوليهم يضرونه صلى الله عليه وسلم حتى يرد عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم"(2).

الفوائد:

1 -

في قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} ، َ بيانُ أنَّ طاعةَ الله وطاعةَ رسولِه واحدةٌ، فمَن أطاعَ الله فقدْ أطاعَ الرسولَ، ومَن أطاع الرسولَ فقد أطاع اللهَ، وذلك شاملٌ للقِيامِ بما أمَر اللهُ به ورسولُه من الأعمال والأقوالِ، الظاهرةِ والباطِنة، الواجبةِ والمستحبَّةِ، المتعلِّقة بحقوقِ اللهِ وحقوقِ خَلْقِه، والانتهاءِ عمَّا نهى الله ورسولُه عنه كذلك.

(1) خرجه مسلم في الأشربة، باب عقوبة من شرب الخمر إذ 1 لم يتب منها

برقم (2003): 3/ 1588، والبغوي في شرح السنة: 11/ 355، ومعالم التنزيل: 3/ 95.

(2)

تفسير أبي السعود: 3/ 76.

ص: 465

2 -

أنَّ تولِّيَ الناسِ عمَّا يدعو إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يضرُّه، ولا يُلامُ عليه؛ لِقَوْلِه:{فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ؛ لأنَّه إذا كان ليس عليه إلَّا البلاغُ، فإنَّه لن يضرَّه تولِّيهم ولا يُلام عليه، ويتفرَّع على ذلك: أنَّ الداعيةَ إلى الله في وقتِنا وفيما قبْلَه لا يضرُّه ألَّا يَقبلَ الناسُ منه؛ لأنَّه أدَّى الواجبَ، ويَنبغي أن يُفَرِّحَ نفْسَه بأنَّه أدَّى الواجِبَ، وألَّا يحزنَ بعدم قبولِهم دعوتَه؛ لأنَّ الله تعالى قال للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، لكن ربَّما نقول: يحزنُ لعدمِ قَبولِ الشَّريعة، لا لعدمِ قبولِهم منه، والفرقُ بين هذا وهذا واضحٌ.

3 -

وجوبُ الرُّجوعِ إلى قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِقَوْلِه: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} ، وأنَّه عليه الصلاة والسلام قام بالواجِب، فعلينا- نحن- أن نقومَ بالواجِبِ.

4 -

يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يَستطيعُ أنْ يَهدِيَ أحدًا؛ لأنَّه بلَّغَ البلاغَ المبينَ، ومع ذلك حصَلتِ المخالفةُ والتولِّي.

ص: 466

5 -

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " لم يؤكد تحريم شيء في القرآن مثل هذا التأكيد لا قريبا منه، وحكمته شدة افتتان الناس بشرب الخمر، وكذا الميسر، وتأولهم كل ما يمكن تطرق الاحتمال إليه من أحكام الأديان التي تخالف أهواءهم، كما أولت اليهود أحكام التوراة في تحريم أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، وكما استحل بعض فساق المسلمين شرب بعض الخمور بتسميتها بغير اسمها، إذ قالوا هذا نبيذ لا يسكر إلا الكثير منه، وقد أحل ما دون القدر المسكر منه فلان وفلان يقولون ذلك فيما هو خمر لا حظ لهم من شربه إلا السكر.

بل تجرأ بعض غلاة الفساق على القول بأن هذه الآيات لا تدل على تحريم الخمر، لأن الله قال:(فاجتنبوه) ولم يقل: حرمته فاتركوه، وقال:{فهل أنتم منتهون} ، ولم يقل: فانتهوا عنه، وقال بعضهم: سألنا هل أنتم منتهون؟ فقلنا: لا، ثم سكت وسكتنا ويصدق على هؤلاء قوله تعالى:{اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [الأعراف: 51]، ويمكن أن يقال: إن هذا الغلو قلما يصدر عمن كان صحيح الإيمان فما قاله تعالى أبلغ من تحريمه مما قالوا.

أما المؤمنون فقد قالوا انتهينا ربنا وقال بعضهم: انتهينا أكدوا الاستجابة والطاعة كما أكد عليهم التحريم، وكان فيهم المدمنون للخمر من عهد الجاهلية حتى شق عليهم تحريمها، فكان أشد من جميع التكاليف الشرعية" (1).

القرآن

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)} [المائدة: 93]

التفسير:

(1) تفسير المنار: 7/ 55 - 56.

ص: 467

ليس على المؤمنين الذين شربوا الخمر قبل تحريمها إثم في ذلك، إذا تركوها واتقوا سخط الله وآمنوا به، وقدَّموا الأعمال الصالحة التي تدل على إيمانهم ورغبتهم في رضوان الله تعالى عنهم، ثم ازدادوا بذلك مراقبة لله عز وجل وإيمانا به، حتى أصبحوا مِن يقينهم يعبدونه، وكأنهم يرونه. وإن الله تعالى يحب الذين بلغوا درجة الإحسان حتى أصبح إيمانهم بالغيب كالمشاهدة.

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، أي:" ليس على المؤمنين الذين شربوا الخمر قبل تحريمها إثم في ذلك"(1).

قال السمرقندي: أي: " يعني: شربوا قبل تحريمها، إذا ما اتقوا الشرك، {وآمنوا}، يعني: صدقوا بوحدانية الله تعالى، والقرآن وعملوا الصالحات"(2).

قال الزمخشري: " يعنى: أن المؤمنين لا جناح عليهم في أى شيء طعموه من المباحات"(3).

عن علي بن ابي طلحة: قال ابن عباس: " يعني: قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين، وقال مرة أخرى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم"(4).

وفي رواية اخرى عن ابن عباس: " يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم"(5).

وعن مجاهد: في قول الله تعالى: " {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدرٍ وأحُد"(6).

(1) التفسير الميسر: 123.

(2)

بحر العلوم: 1/ 417.

(3)

الكشاف: 1/ 676.

(4)

أخرجه الطبري (12533): ص 10/ 581.

(5)

أخرجه الطبري (12534): ص 10/ 581.

(6)

أخرجه الطبري (12535): ص 10/ 582.

ص: 468

قال الضحاك: " هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية"(1).

قال الوليد: "سمعت شيخا من شيوخنا ممن قد سمع العلم يقول في تفسير هذه الآية: {وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، من الخمر قبل تحريمها"(2).

قال ابن عطية: " وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى، ونزلت: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143]، ولما كان أمر القبلة خطيرا ومعلما من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها، و «الجناح» الإثم والحرج، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي، و {طعموا}، معناه: ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب، وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق"(3).

وأصل لفظة"طعموا" في الأكل، يقال: طعم الطعام وشرب الشراب، لكن قد تجوز في ذلك فيقال: لم أطعم خبزا ولا ماء ولا نوما، قال بشر بن أبي حازم (4):

نعاما بوجرة (5) صفر الخدو

د لا تطعم النوم إلا صياما

(1) أخرجه الطبري (12536): ص 10/ 582.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6781): ص 4/ 1202.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 234.

(4)

البيت له في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد: 2/ 38، وبلا نسبة في تفسير القرطبي: 6/ 296، والدر المصون: 1/ 391.

(5)

وجرة: موضع بين مكة والبصرة، يقول الشاعر: هي صائمة منه لا تطعمه، وروى في اللسان (لا تطعم الماء) وقال: وذلك لان النعام لا ترد الماء ولا تطعمه. وقبله:

فأما بنو عامر بالنار

غداة لقونا فكانوا نعاما.

ص: 469

وقد تقدم القول في سورة البقرة {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249](1).

قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93]، أي:" إذا تركوها واتقوا سخط الله وآمنوا به، وقدَّموا الأعمال الصالحة التي تدل على إيمانهم ورغبتهم في رضوان الله تعالى عنهم"(2).

قال ابن عباس: " يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين"(3).

قال الطبري: " يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله، واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم"(4).

قال الإمام الشافعي: " {إذا ما اتقوا}: لم يقربوا ما حرم عليهم"(5).

قال البغوي: أي: " الخمر والميسر بعد تحريمهما، وقيل: إذ ما اتقوا الشرك، {وآمنوا} وصدقوا"(6).

قال الزمخشري: " رفع الجناح عن المؤمنين في أى شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها إذا ما اتقوا ما حرم عليهم منها وآمنوا، وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه"(7).

قال الوليد: "سمعت شيخا من شيوخنا ممن قد سمع العلم يقول: {إذا ما اتقوا} أن يعودوا في شربها، {وآمنوا} بتحريمها في هذه الآية"(8).

قال عمر بن الخطاب: " إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك"(9).

(1) انظر: تفسير القرطبي: 6/ 296.

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

أخرجه الطبري (12534): ص 10/ 581.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 576.

(5)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 772.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 96.

(7)

الكشاف: 1/ 676.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6781): ص 4/ 1202.

(9)

أخرجه ابن ابي حاتم (6777): ص 4/ 1202.

ص: 470

قال البراء: " لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنزلت: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، الآية"(1).

قال عبدالله بن مسعود: " لما نزلت: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات}، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل أنت منهم"(2).

قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93]، أي:" ثم ازدادوا بذلك مراقبة لله عز وجل وإيمانا به"(3).

قال الطبري: " يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا"(4).

قال السمرقندي: أي: "ثم اتقوا المعاصي، {وآمنوا}، يعني: صدقوا بعد تحريمها "(5).

قال الزمخشري: أي: " ثم ثبتوا على التقوى والإيمان"(6).

قال البغوي: أي: " {ثم اتقوا} ما حرم الله عليهم أكله وشربه، وقيل: داوموا على ذلك التقوى، {وآمنوا} ازدادوا إيمانا"(7).

قال الوليد: "سمعت شيخا من شيوخنا ممن قد سمع العلم يقول: {ثم اتقوا وآمنوا}، برسوله، اتقوا المعاصي"(8).

قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]، أي:" حتى أصبحوا مِن يقينهم يعبدونه، وكأنهم يرونه"(9).

قال الزمخشري: أي: " ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، أو أحسنوا إلى الناس: واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات"(10).

قال البغوي: أي: " ثم اتقوا المعاصي كلها وأحسنوا، وقيل: أي: اتقوا بالإحسان، وكل محسن متق"(11).

(1) أخرجه الطبري (12528): ص 10/ 579.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6776): ص 4/ 1201 - 1202.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 576.

(5)

بحر العلوم: 1/ 417.

(6)

الكشاف: 1/ 676.

(7)

تفسير البغوي: 3/ 96.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6781): ص 4/ 1202.

(9)

التفسير الميسر: 123.

(10)

الكشاف: 1/ 676.

(11)

تفسير البغوي: 3/ 96.

ص: 471

عن علي بن ابي طلحة: قال ابن عباس: " {إذا ما اتقوا وأحسنوا}، بعد ما حُرِّم، وهو قوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}، [سورة البقرة: 275] "(1).

قال الوليد: "سمعت شيخا من شيوخنا ممن قد سمع العلم يقول في تفسير هذه الآية: {ثم اتقوا وأحسنوا}، في أداء الزكاة"(2).

قال الطبري: " يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك"الإحسان"، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه"(3).

وذكروا في قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]، أربعة اقوال (4):

الأول: أنه ليس في ذكر التقوى تكرار، والمعنى: اتقوا شربها، وآمنوا بتحريمها. والمعنى الثاني دام اتقاؤهم وإيمانهم، والثالث على معنى الإحسان إلى الاتقاء.

والثاني: اتقوا قبل التحريم في غيرها من المحرمات، ثم اتقوا بعد تحريمها شربها، ثم اتقوا فيما بقي من أعمالهم، وأحسنوا العمل.

والثالث- اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله، والمعنى الثاني: ثم اتقوا الكبائر، وازدادوا إيمانا، ومعنى الثالث: ثم اتقوا الصغائر وأحسنوا أي تنفلوا.

والرابع: : أن الاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل، والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير، والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال. وهذا قول الطبري (5).

(1) أخرجه الطبري (12533): ص 10/ 581.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6782): ص 4/ 1203.

(3)

تفسير الطبري: 10/ 576.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 297.

(5)

تفسيرالطبري: 10/ 577.

ص: 472

قال ابن عطية: " والتكرار في قوله: {اتقوا}، يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال: قوم: الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك، وهو الإحسان، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن، والثانية للحال، والثالثة للاستقبال، وقال قوم: الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع، والثاني في الكبائر، والثالث في الصغائر"(1).

ثم قال ابن عطية: " وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى، بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه"(2).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93]، أي:" وإن الله تعالى يحب الذين بلغوا درجة الإحسان حتى أصبح إيمانهم بالغيب كالمشاهدة"(3).

قال السمرقندي: أي: " في أفعالهم"(4).

قال الطبري: " يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها"(5).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 234 - 235.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 234 - 235.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

بحر العلوم: 1/ 417.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 576.

ص: 473

عن قتادة: " قوله: "{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} ، إلى قوله:{والله يحب المحسنين} ، لما أنزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في"سورة المائدة"، بعد"سورة الأحزاب"، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنزل الله تعالى ذكره:{ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} ، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك" (1).

روى عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال:"شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يومئذ معاوية بن أبي سفيان، وقالوا هي لنا حلال وتأولوا قوله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، فكتب في ذلك إلى عمر فكتب إليه عمر: أن ابعثهم إلي، قبل أن يفسدوا من قبلك. فلما قدموا على عمر، جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ما ترون؟ فقالوا: إنهم قد افتروا على الله كذبا، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به، فاضرب أعناقهم، وعلي ساكت فقال: يا علي ما ترى؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا فاضربهم ثمانين جلدة، وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم، فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين جلدة وأرسلهم"(2).

(1) أخرجه الطبري (12532): ص 10/ 580 - 581.

(2)

بحر العلوم: 1/ 417، وتنبيه الغافلين (366): ص 113.

ص: 474

وقد "تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمر، وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال: أبو هريرة، فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء، فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه، فقدم، فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد، قال: بل شهيد: قال: قد أديت شهادتك، فصمت الجارود ثم غدا على عمر، فقال أقم على قدامة كتاب الله، فقال له عمر: ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد، قال الجارود: إني أنشدك الله، قال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني، فقال أبو هريرة: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله، فأقامت الشهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني، قال عمر لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية، فقال له عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، ثم حده عمر وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضا، فأصبح يوما وقد عزم على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: لا نرى ذلك ما دام وجعا، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إلي من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبا له، فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال:

ص: 475

عجلوا علي بقدامة، فقد أتاني آت في النوم فقال: سالم قدامة فإنه أخوك، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره" (1).

قال أيوب ابن أبي تميمة: "لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره"(2).

قال ابن العربي: "فهذا يدلك على تأويل الآية، وما ذكر فيه عن ابن عباس في حديث الدارقطني وعمر في حديث البرقاني، وهو صحيح. وبسطه أنه لو كان من شرب الخمر واتقى الله في غيره لا يحد على الخمر ما حد أحد، فكان هذا من أفسد تأويل، وقد خفي على قدامة، وعرفه من وفقه الله له كعمر وابن عباس، والله أعلم، [قال الشاعر] (3):

وإن حراما لا أرى الدهر باكيا

على شجوه إلا بكيت على عمر" (4)

الفوائد:

1 -

ثناءٌ من الله، وحَمْدٌ لأحوال مَن يتَّصِفون بهذه الصِّفات: الإيمانِ والتقوى والإحسان، وهذا مدعاةٌ لتحرِّيها والاتصافِ بها.

2 -

ويستفاد منه الآية: القيودُ الشَّديدة في نفْيِ الإثمِ عمَّن أكَل أو شَرِب في مأكولِه ومَشروبِه، والتقوى ذُكرتْ في الآيةِ ثلاثَ مرَّات، والإيمانُ مرَّتين، والإحسانُ مرَّة، قيودٌ شديدة عظيمة؛ فينبغي الحَذَر من أنْ يكون في المطعومِ إثمٌ.

(1) انظر: احكام القرىن لابن العربي: 2/ 169، والمحرر الوجيز: 2/ 234 - 235، وانظر: تفسير القرطبي: 6/ 297 - 299.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 299.

(3)

انظر: أحكام القرآن لان العربي: 1/ 169، وتفسير القرطبي: 6/ 299

والبيت لعبد الرحمن بن جمانة المحاربي كما في اللسان"حرم": ص 12/ 127، وتاج العروس"حرم": ص 31/ 463، وفيهما:"على عمرو"، وبلا نسبة في شمس العلوم ودواء كلام العرب الكلوم: 3/ 1400.

(4)

أحكام القرآن: 2/ 169، وانظر: تفسير القرطبي: 6/ 299.

ص: 476

3 -

ومنها: أنَّ مَن أكَلَ حلالًا بكسْبٍ حرامٍ فعليه الإثمُ؛ لأنَّه لم يتَّقِ اللهَ في كسْبِه، ولا بدَّ أن يتَّقيَ اللهَ عز وجل، وإذا كان الشيءُ المحرَّمُ مُعَيَّنًا فيكون الآكِلُ كالكاسِب، مثل: أنْ أعرفَ أنَّ هذه الشَّاةَ التي ذبَحَها إكرامًا لي قد سرقَها من فلانٍ، فهذه حرامٌ عليَّ أنْ آكُلَها.

4 -

يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا فضيلةُ الإحسانِ إلى الخَلْق والإحسانِ في عِبادةِ الخالِق؛ فالإحسانُ إلى الخَلْق أن تبذُلَ جاهَك، تبذل مالَك، تبذل خِدمتك، تبذل منفعتَك البدنيَّة، والإحسانُ في عبادة الخالِقِ فسَّره أعلمُ الناسِ بمعناه، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:" أنْ تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُن تراه فإنَّه يَراك"(1).

قال القرطبي: قوله: " {ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} دليل على أن المتقي المحسن أفضل من المتقي المؤمن الذي عمل الصالحات، فضله بأجر الإحسان"(2).

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)} [المائدة: 94]

التفسير:

يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، ليبلونكم الله بشيء من الصيد يقترب منكم على غير المعتاد حيث تستطيعون أَخْذَ صغاره بغير سلاح وأخذ كباره بالسلاح; ليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين يخافون ربهم بالغيب، ليقينهم بكمال علمه بهم، وذلك بإمساكهم عن الصيد، وهم محرمون. فمن تجاوز حَدَّه بعد هذا البيان فأقدم على الصيد -وهو مُحْرِم- فإنه يستحق العذاب الشديد.

(1).أخرجه البخاري (50)، ومسلم (10) عن ابي هريرة، وأخرجه مسلم (8) من حديث عمر.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 297.

ص: 477

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 94]، أي:" يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(1).

قال سعيد بن جبير: "قوله: {آمنوا بالله}، يعني: بتوحيد الله"(2).

قال ابن عثيمين: "إن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(3).

قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94]، أي:" ليختبرنكم الله ببعض الصيد "(4).

قال مقاتل: " يعني: ببعض الصيد فخص صيد البر خاصة، ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا"(5).

قال الزجاج: " معنى: {ليبلونكم}: ليختبرن طاعتكم من معصيتكم"(6).

قال سعيد بن جبير: " {ليبلونكم الله}، يعني: ليبتلينكم، يعني: المؤمنين"(7).

قال الطبري: وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع" (8).

قال السعدي: " أي: بشيء غير كثير، فتكون محنة يسيرة، تخفيفا منه تعالى ولطفا، وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به {تناله أيديكم ورماحكم} أي: تتمكنون من صيده، ليتم بذلك الابتلاء، لا غير مقدور عليه بيد ولا رمح، فلا يبقى للابتلاء فائدة"(9).

(1) التفسير الميسر: 123.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6104): ص 4/ 1090.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(4)

تفسير الطبري: 10/ 582.

(5)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 503.

(6)

معاني القرآن: 2/ 206.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6783): ص 4/ 1203

(8)

تفسير الطبري: 10/ 582.

(9)

تفسير السعدي: 243.

ص: 478

قال مُقَاتِل بن حَيَّان: " أنزلت في عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد يغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله، وهم محرمون"(1). وذكر الكلبي نحو ذلك (2).

وقوله تعالى: {مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94]، يحتمل وجهين:

أحدهما: أن {مِّنَ} ، للتبعيض في هذا الموضع، لأن الحكم متعلق بصيد البَرِّ دون البحر، وبصيد الحرم والإِحرام دون الحل والإِحلال.

والثاني: أن {مِّنَ} ، في هذا الموضع داخلة لبيان الجنس، نحو قوله تعالى:{اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ} [الحج: 30]. قاله الزجاج (3).

قال الزمخشري: " فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير في قوله: {بشيء من الصيد} ؟

قلت: قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشد منه " (4).

قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، أي:"يسهل عليكم أخذ بعضه بأيديكم وبعضه برماحكم"(5).

قال ابن عباس: " هو الضعيف من الصيد وصغيره يبتلي الله به من عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا تناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه"(6).

قال الطبري: يعني: " إما باليد، كالبيض والفراخ، وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم"(7).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6789): ص 4، 1204، وانظر: تفسير ابن كثير: 3/ 190.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 66.

(3)

انظر: معاني القرآن: 2/ 206.

(4)

الكشاف: 1/ 677.

(5)

تفسير المراغي: 7/ 31.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6784): ص 4/ 1203

(7)

تفسير الطبري: 10/ 583.

ص: 479

قال الشوكاني: " كان الصيد أحد معايش العرب فابتلاهم الله بتحريمه مع الإحرام وفي الحرم، كما ابتلى بني إسرائيل أن لا يعتدوا في السبت، وكان نزول الآية في عام الحديبية، أحرم بعضهم وبعضهم لم يحرم، فكان إذا عرض صيد اختلفت فيه أحوالهم"(1).

قال المراغي: " ووجه الابتلاء فى ذلك أن الصيد طعام لذيذ تشتد الحاجة إليه فى الأسفار الطويلة كالسفر إلى الجهات النائية، إلى أن سهولة تناوله تغرى به، إذ ترك مالاينال إلا بمشقة لا يدل على التقوى والخوف من الله كما يدل عليه ترك ما ينال بسهولة"(2).

وفي قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94]، قولان:

أحدهما: ما تناله أيدينا: البيض، ورماحنا: الصيد، قال مجاهد (3)، ومقاتل (4)، واختاره الطبري (5).

والثاني: ما تناله أيدينا: الصغار، ورماحنا: الكبار، قاله ابن عباس (6).

قال الزجاج: " ومعنى قوله: {تناله أيديكم ورماحكم}، الذي تناله الأيدي نحو بيض النعام وفراخه وما كان صغيرا ينهض من مجثمه من غير النعام وسائر ما يفوق اليد بحركته من سائر الوحش، فحرم جميع صيد البر الجراد وكل ما يصطاد فحرام صيده ما داموا حرما. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما اصطيد في الحرم حرام، كانوا محرمين أو غير محرمين"(7).

(1) فتح القدير: 2/ 88.

(2)

تفسير المراغي: 7/ 31.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12537) - (12541): ص 10/ 583 - 584.

(4)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 503.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 10/ 583.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12542): ص 10/ 584.

(7)

معاني القرآن: 2/ 206.

ص: 480

وقال ابن عطية: " والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر، لأنها عظم المتصرف في الاصطياد، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا"(1).

وقرأ إبراهيم: "يناله"، بالياء (2).

قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، أي:" ليعلم الله علمًا ظاهرًا للخلق الذين يخافون ربهم بالغيب"(3).

قال ابن عطية: " معناه: ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل"(4).

قال الطبري: أي: " ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه"(5).

قال الزمخشري: أي: " ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقى الصيد، ممن لا يخافه فيقدم عليه"(6).

قال المراغي: يعني: " إنه تعالى يريد أن يعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يعلم الشيء وإن كان هو عالما به، تربية لكم وتزكية لنفوسكم وتطهيرا لها"(7).

وفي قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، أربعة تأويلات (8):

أحدها: أن معنى ليعلم الله: ليرى، فعبر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه، قاله الكلبي (9).

والثاني: ليعلم أولياؤه من يخافه بالغيب.

والثالث: لتعلموا أن الله يعلم من يخافه بالغيب.

(1) المحرر الوجيز: 2/ 236.

(2)

انظر: الكشاف: 1/ 677.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 236.

(5)

تفسير الطبري: 10/ 585.

(6)

الكشاف: 1/ 677.

(7)

تفسير المراغي: 7/ 31.

(8)

انظر النكت والعيون: 2/ 66.

(9)

انظر النكت والعيون: 2/ 66.

ص: 481

والرابع: معناه لتخافوا الله بالغيب، والعلم مجاز، وقوله:{بِالْغَيْبِ} ، يعني: بالسر كما تخافونه في العلانية.

قال ابن كثير: " يعني: أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] "(1).

قال ابن عطية: " والظاهر أن المعنى: {بالغيب}، من الناس، أي: في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، وقد خفي له لو صاد"(2).

قال السعدي: " ثم ذكر الحكمة في ذلك الابتلاء، فقال: {ليعلم الله} علما ظاهرا للخلق يترتب عليه الثواب والعقاب {من يخافه بالغيب} فيكف عما نهى الله عنه مع قدرته عليه وتمكنه، فيثيبه الثواب الجزيل، ممن لا يخافه بالغيب، فلا يرتدع عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه"(3).

وقرأ الزهري: «ليعلم الله» ، بضم الياء وكسر اللام، أي: ليعلم عباده (4).

قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94]، أي:" فمن تجاوز حَدَّه بعد هذا البيان فأقدم على الصيد -وهو مُحْرِم- فإنه يستحق العذاب الشديد"(5).

قال السدي: "يعني بعد هذا"(6).

قال ابن كثير: يعني: "بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: لمخالفته أمر الله وشرعه"(7).

قال الزمخشري: أي: " فصاد بعد ذلك الابتلاء، فالوعيد لاحق به"(8).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 504.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 236.

(3)

تفسير السعدي: 243.

(4)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 236.

(5)

التفسير الميسر: 123.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6790): ص 4/ 1204.

(7)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 504. [كلامه شرح لكلام السدي].

(8)

الكشاف: 1/ 677.

ص: 482

قال الطبري: أي: " فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله، فله عذابٌ، من الله، مؤلم موجع"(1).

قال المراغي: أي: " فمن اعتدى بأخذ شىء من ذلك الصيد بعد ذلك البيان الذي أخبركم الله تعالى به قبل حصوله، فله عذاب شديد فى الآخرة، إذ هو لم يبال باختبار الله له، بل انتهك حرمة نواهيه، وأبان أنه لا يخافه بالغيب، بل يخاف لوم المؤمنين وتعذيرهم إذا هو أخذ شيئا من الصيد بمرأى منهم ومسمع كما هو دأب المنافقين الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليل"(2).

قال السعدي: " {فمن اعتدى} منكم {بعد ذلك} البيان، الذي قطع الحجج، وأوضح السبيل. {فله عذاب أليم} أي: مؤلم موجع، لا يقدر على وصفه إلا الله، لأنه لا عذر لذلك المعتدي، والاعتبار بمن يخافه بالغيب، وعدم حضور الناس عنده. وأما إظهار مخافة الله عند الناس، فقد يكون ذلك لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك"(3).

قال مقاتل: " يقول: فمن أخذ الصيد عمدا بعد النهي، فقتل الصيد وهو محرم: {فله عذاب أليم}، يعني: ضربا وجيعا ويسلب ثيابه ويغرم الجزاء، وحكم ذلك إلى الإمام"(4).

عن قيس بن سعيد: " أن ابن عباس كان يقول: {عذاب أليم}، أن يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه"(5).

وعن مجاهد: " {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}، قال: هي موجبة"(6).

قال ابن عطية: " والعذاب الأليم، هو عذاب الآخرة

الفوائد:

(1) تفسير الطبري: 10/ 585.

(2)

تفسير المراغي: 7/ 31.

(3)

تفسير السعدي: 243.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 504.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6791): ص 4/ 1204.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6792): ص 4/ 1204.

ص: 483

1 -

ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم.

2 -

بيان امتحان الله تبارك وتعالى لعباده بتيسير أسباب المعصية لهم ليعلم من يخافه بالغيب ومن لايخافه إلا في العلانية.

3 -

أن الصيد في حال الإحرام محرم، لقوله:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} .

4 -

أن من كان جاهلا فإنه لا إثم عليه إذا فعل المعصية، لقوله:{بعد ذلك} .

5 -

إثبات علم الله تبارك وتعالى، لقوله:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} ، وعلمه محيط بكل شي.

6 -

الثناء على من يخاف الله بالغيب.

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)} [المائدة: 95]

التفسير:

ص: 484

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تقتلوا صيد البر، وأنتم محرمون بحج أو عمرة، أو كنتم داخل الحرم ومَن قتل أيَّ نوعٍ من صيد البرِّ متعمدًا فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم، بعد أن يُقَدِّره اثنان عدلان، وأن يهديه لفقراء الحرم، أو أن يشتري بقيمة مثله طعامًا يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام، فَرَضَ الله عليه هذا الجزاء; ليلقى بإيجاب الجزاء المذكور عاقبة فِعْله. والذين وقعوا في شيء من ذلك قبل التحريم فإن الله تعالى قد عفا عنهم، ومَن عاد إلى المخالفة متعمدًا بعد التحريم، فإنه مُعَرَّض لانتقام الله منه. والله تعالى عزيز قويٌّ منيع في سلطانه، ومِن عزته أنه ينتقم ممن عصاه إذا أراد، لا يمنعه من ذلك مانع.

سبب النزول:

قال مقاتل: " وذلك أن أبا بشر واسمه: عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما في عام الحديبية بعمرة، فقتل حمار وحش، فنزلت فيه: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ

} " (1).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 95]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(2).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(3).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(4).

قال خيثمة: "ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(5).

(1).تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 504

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196، و (5025): ص 3/ 902

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(5)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

ص: 485

قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، أي:" لا تقتلوا صيد البر، وأنتم محرمون بحج أو عمرة، أو كنتم داخل الحرم"(1).

قال الطبري: أي: " لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة"(2).

قال ابن كثير: " وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام، ونهي عن تعاطيه فيه. وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره، فأما غير المأكول من حيوانات البر، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها. والجمهور على تحريم قتلها أيضًا، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة أم المؤمنين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمس فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم الغُراب والحدأة، والعَقْرب، والفأرة، والكلب العَقُور» (3) " (4).

وفي قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، ثلاثة أقوال:

أحدها: يعني الإِحرام بحج أو عمرة، قاله الأكثرون (5).

والثاني: يعني بالحرم الداخل إلى الحرم، يقال أحرم إذا دخل في الحرم، وأَتْهَمَ إذا دخل تهامة، وأَنْجَدَ إذا دخل نجد، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم. قاله بعض البصريين (6).

والثالث: أن اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل الحرم، وحكم قتل الصيد فيهما على سواء بظاهر الآية، قاله علي بن أبي هريرة (7).

(1) التفسير الميسر: 123.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 7.

(3)

صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 190.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 66.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 66.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 66، وتفسير العز بن عبد السلام: 2/ 176.

ص: 486

قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]، أي:" ومَن قتل أيَّ نوعٍ من صيد البرِّ متعمدًا"(1).

قال الطبري: هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا" (2).

قال النسفي: " أى: ذاكرا لا حرامه أو عالما أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه فإن قتله ناسيا لإحرامه أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطئ وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ لأن مورده الآية فيمن تعمد"(3).

وفي قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]، وجهان:

أحدهما: متعمداً لقتله، ناسياً لإحرامه، قاله مجاهد (4)، والحسن (5)، وإبراهيم (6)، وابن جريج (7)، وابن زيد (8)، واختاره الزجاج (9).

والثاني: متعمداً لقتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس (10)، وسعيد بن جبير (11)، وعطاء (12)، والزهري (13)، وطاوس (14).

(1) التفسير الميسر: 123.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 7.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 475.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12544): ص 11/ 8.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12553): ص 11/ 9.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12554): ص 11/ 9 - 10.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12552): ص 11/ 9.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12557): ص 11/ 10.

(9)

انظر: معاني القرآن: 1/ 207.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12562): ص 11/ 11.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12563): ص 11/ 11.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12559): ص 11/ 11.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12561): ص 11/ 11.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12565): ص 11/ 11.

ص: 487

والراجح-والله أعلم- هو القول الثاني، لأن الله تعالى "لم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا، وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة، ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.

فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا" (1).

واختلفوا في الخاطىء في قتله الناسي لإِحرامه على قولين (2):

أحدهما: لا جزاء عليه، قاله داود.

الثاني: عليه الجزاء، قاله مالك، والشافعي، وأبو حنيفة.

قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، أي:" فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم"(3).

قال الماوردي: " يريد أن مثل الصيد من النعم"(4).

قال ابن الجوزي: " المعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول"(5).

قال ابن قتيبة: "النعم: الإبل، وقد يكون البقر والغنم، والأغلب عليها الإبل"(6).

وقال الزجاج: النعم في اللغة هي الإبل والبقر والغنم، وإن انفردت الإبل منها قيل لها نعم وإن انفردت الغنم والبقر لم تسم نعما، فكان عليه بحذاء حمار الوحش وبقرة الوحش بدنة، وعليه بحذاء الظباء من الغنم شاة" (7).

(1) تفسير الطبري: 11/ 12.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 67.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

النكت والعيون: 2/ 67.

(5)

زاد المسير: 1/ 585.

(6)

نقلا عن: زاد المسير: 1/ 585.

(7)

معاني القرآن: 2/ 207.

ص: 488

واختلف أهل العلم في صفة «الجزاء» ، وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم، وفي ذلك قولان (1):

أحدهما: أن يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم، ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم، ثم يهديه إلى الكعبة، وهو قول إبراهيم (2)، وبه قال أبو حنيفة (3).

والثاني: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم، فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة، وهذا قول عمر بن الخطاب (4)، وابن عباس (5)، ومجاهد (6)، وعطاء (7)، والضحاك (8)، السدي (9)، والحسن بن مسلم (10). وبه قال الشافعي (11).

قال الإمام الطبري: " وأولى القولين في تأويل الآية، ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم، كما قال الله تعالى ذكره: "فجزاء مثل ما قتل من النعم". وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى: "من النعم"، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء"(12).

قال قبيصة بن جابر: "أصبت ظبيًا وأنا محرم، فأتيت عمر فسألته عن ذلك، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! قال: فجاء عبد الرحمن، فحكما شاة"(13).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 67.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12583): ص 11/ 20.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 67.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12573): ص 11/ 16.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12569) - (1272): ص 11/ 15 - 16.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12568): ص 11/ 15.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12567): ص 11/ 15.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12580): ص 11/ 18.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12566): ص 11/ 14 - 15.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12582): ص 11/ 19.

(11)

انظر: النكت والعيون: 2/ 67.

(12)

تفسير الطبري: 11/ 20.

(13)

أخرجه الطبري (12577): ص 11/ 17.

ص: 489

وقال إبراهيم النخعي: " ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته"(1)، وهو قول جماعة من الكوفيين (2).

وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر:«فجزاء مثل» مضافة وبخفض «مثل» . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:«فجزاء» منون «مثل» مرفوع (3).

قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، أي:" بعد أن يُقَدِّره اثنان عدلان"(4).

قال الزجاج: " أي: من أهل ملتكم، فعلى قاتل الصيد أن يسأل فقيهين عدلين عن جزاء

ما قتل" (5).

قال الطبري: " يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل"(6).

قال ابن الجوزي: " وإنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين"(7).

قال السمعاني: " وفيه دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام"(8).

عن بكر بن عبد الله المزني قال: "كان رجلان من الأعراب محرِمين، فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فقال له عمر: وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك، اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه! ! فسمعها عمر، فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: {يحكم به ذوا عدل منكم}، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا"(9).

(1) أخرجه الطبري (12583): 11/ 20.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 29.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 247 - 248، وتفسير الطبري: 11/ 13، وزاد المسير: 1/ 585.

(4)

التفسير الميسر: 123.

(5)

معاني القرآن: 2/ 207.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 22.

(7)

زاد المسير: 1/ 586.

(8)

تفسير السمعاني: 2/ 67.

(9)

أخرجه الطبري (12585): ص 11/ 23.

ص: 490

قال قتادة: " ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا، فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان، فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني، وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر، ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان"(1).

عن عمرو بن حبشي قال: "سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره: {يحكم به ذوا عدل منكم} "(2).

قال شريح: " لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا، وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب"(3).

قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، أي:" وأن يهديه لفقراء الحرم"(4).

قال الطبري: " أي: يُهْدَي فيبلغ الكعبة"(5).

قال مقاتل: " هديا بالغ الكعبة يعني: بالهدي: البدن"(6)، قوله" {بالغ الكعبة}: محلها مكة" (7).

قال ابن عمر: " إنما الهدي ذوات الجود (8).

قال السعدي: " أي: يذبح في الحرم"(9).

قال الماوردي: " يلزم إيصاله إلى الكعبة، وعنى بالكعبة جميع الحرم، لأنها في الحرم"(10).

قال ابن كثير: " أي: واصلا إلى الكعبة، والمراد وصوله إلى الحرم، بأن يذبح هناك، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة"(11).

قال السمعاني: " قوله: {بالغ الكعبة} يقتضي أن يكون إعطاء الهدي في الحرم، يفرق على مساكين الحرم، وهو الواجب"(12).

(1) أخرجه الطبري (12590): ص 11/ 25.

(2)

أخرجه الطبري (12598): ص 11/ 28.

(3)

أخرجه الطبري (12591): ص 11/ 25.

(4)

التفسير الميسر: 123.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 22.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6809): ص 4/ 1207.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6810): ص 4/ 1208.

(8)

أخرجه ابن ابي حاتم (6808): ص 4/ 1208.

(9)

تفسير السعدي: 243.

(10)

النكت والعيون: 2/ 67.

(11)

تفسير ابن كثير: 3/ 194.

(12)

تفسير السمعاني: 2/ 67.

ص: 491

واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الحرم ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين (1):

أحدهما: لا يجوز قاله: أبو حنيفة.

الثاني: يجوز، قاله الشافعي.

قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، أي:" أو أن يشتري بقيمة مثله طعامًا يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع"(2).

قال السعدي: " أي: كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين، أي: يجعل مقابلة المثل من النعم، طعام يطعم المساكين"(3).

وفي قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95]، قولان:

أحدهما: أنه يُقَوِّم المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً، قاله عطاء (4)، والشافعي (5).

الثاني: يقوِّم الصيد ويشتري بالغنيمة طعاماً، قاله قتادة (6)، وأبو حنيفة (7).

قال السعدي: " قال كثير من العلماء: يقوم الجزاء، فيشترى بقيمته طعام، فيطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره"(8).

قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أو كفارة منونا طعام رفعا. وقرأ نافع، وابن عامر:«أو كفارة» رفعا غير منون «طعام مساكين» على الاضافة (9).

قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، أي:" أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام"(10).

قال السعدي: " أي: يصوم عن إطعام كل مسكين يوما"(11).

قال البيضاوي: أي: " أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما"(12).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 67.

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

تفسير السعدي: 243.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12618): ص 11/ 36.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12619): ص 11/ 36 - 37.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(8)

تفسير السعدي: 243.

(9)

انظر: السبعة في القراءات: 248.

(10)

التفسير الميسر: 123.

(11)

تفسير السعدي: 243.

(12)

تفسير البيضاوي: 2/ 144.

ص: 492

وفي قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، ثلاثة اقوال:

أحدها: أنه يصوم عن كل مد يوماً، قاله عطاء (1)، والشافعي (2).

والثاني: يصوم عن كل مد ثلاثة أيام، قاله سعيد بن جبير.

والثالث: يصوم عن كل صاع يومين، قاله قتادة (3).

واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة، هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين:

أحدهما: أنه على التخيير بين إخراج النظير بأي الثلاثة شاء، قاله عطاء (4)، والضحاك (5)، وعكرمة (6)، وهو أحد قولي ابن عباس (7)، ومجاهد (8)، ومذهب الشافعي (9).

قال الزجاج: " يجوز أن تكون {أو} - وهو الأجود في اللغة – للتخيير"(10).

والثاني: على الترتيب، إن لم يجد المثل فالإطعام، فإن لم يجد الطعام فالصيام، قاله ابن عباس (11)، ومجاهد (12)، وعطاء -في أحد قوليه- (13)، وعامر (14)، وإبراهيم (15)، والسدي (16).

قال ابن الجوزي: " وبالأول قال جمهور الفقهاء"(17).

(1) انظر: تفسير الطبري (12618): ص 11/ 36.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12619): ص 11/ 36 - 37.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12610): ص 11/ 33، و (12614): ص 11/ 35.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12615): ص 11/ 35.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12612): ص 11/ 35.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12617): ص 11/ 35.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12614): ص 11/ 35.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(10)

معاني القرىن: 2/ 207.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12600): ص 11/ 31.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12603): ص 11/ 32.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12603): ص 11/ 32.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12603): ص 11/ 32.

(15)

انظر: تفسير الطبري (12604): ص 11/ 32.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12607): ص 11/ 33.

(17)

زاد المسير: 1/ 587.

ص: 493

قال الطبري: " وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: {أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا} أن يكون تخييرًا، وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه، وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه، كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه، وقد كان له حلالا قبل حال إحرامه، [عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد، ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، مخيَّر في تكفيره، فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين"(1).

وقرأ أبو رزين، والضحاك، وقتادة، والجحدري، وطلحة:«أو عدل ذلك» ، بكسر العين (2).

قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]، أي:" فَرَضَ الله عليه هذا الجزاء; ليلقى بإيجاب الجزاء المذكور عاقبة فِعْله"(3).

قال السدي: " أما {وبال أمره}: فعقوبة أمره"(4).

قال ابن الجوزي: " أي: جزاء ذنبه"(5).

قال البيضاوي: أي: " ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى"(6).

(1) تفسير الطبري: 11/ 37 - 38.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 587.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6816): ص 4/ 1209.

(5)

زاد المسير: 1/ 587.

(6)

تفسير البيضاوي: 2/ 144.

ص: 494

الوبال: ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل، وماء وبيل، إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، قال عز وجل:{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16]، أي ثقتيلا شديدا، والوبيل خشبة القصار ومن هذا قيل لها وبيل (1)، قال طرفة ابن العبد (2):

فمرّتْ كَهاةٌ ذاتُ خَيْفٍ جُلالةٌ

عقِيلَةُ شَيْخٍ كالوبِيل يَلَنْدَدِ

قال القرطبي: " الذوق هنا مستعار كقوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} [الدخان: 49]. وقال {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} [النحل: 112]، وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة. ومنه الحديث «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا» (3)، الحديث، والوبال سوء العاقبة. والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله. وطعام وبيل إذا كان ثقيل"(4).

قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة: 95]، أي:" والذين وقعوا في شيء من ذلك قبل التحريم فإن الله تعالى قد عفا عنهم"(5).

قال أبو ذر (6)، وسعيد بن جبير (7) وعطاء (8):"ما كان في الجاهلية".

قال الماوردي: " يعني: قبل نزول التحريم"(9).

قال البيضاوي: أي: " من قتل الصيد محرما في الجاهلية أو قبل التحريم، أو في هذه المرة"(10).

قال الزمخشري: أي: "من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه، وقيل: عما سلف لكم في الجاهلية منه، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرما"(11).

(1) انظر: معاني القرآن للزجاج: 2/ 209 - 210 ..

(2)

ديوانه: 28.

(3)

أخرجه مسلم في الإيمان، حديث (56).

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 317.

(5)

التفسير الميسر: 123.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6817): ص 4/ 1209.

(7)

انظر: فسير الطبري (12649): ص 11/ 50.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12640): ص 11/ 49.

(9)

النكت والعيون: 2/ 68.

(10)

تفسير البيضاوي: 2/ 144.

(11)

الكشاف: 1/ 679.

ص: 495

قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، أي:" ومَن عاد إلى المخالفة متعمدًا بعد التحريم، فإنه مُعَرَّض لانتقام الله منه"(1).

قال الزجاج: اي: " ومن عاد مستحلا للصيد بعد أن حرمه الله منه فينتقم الله منه أي فيعذبه الله، وجائز أن يكون: من عاد مستخفا بأمر الله فجزاؤه العذاب كجزاء قاتل النفس"(2).

قال ابن كثير: " أي: ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه"(3).

قال الزمخشري: أي: " ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم بعد، فينتقم منه في الآخرة"(4).

قال ابن الجوزي: " «الانتقام»: المبالغة في العقوبة"(5).

وفي قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95]، قولان (6):

أحدهما: يعني ومن عاد بعد التحريم، فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً، وعقوبة المعصية آجلاً.

والثاني: ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله، فينتقم الله منه.

وعلى هذا التأويل قولان:

أحدهما: فينتقم الله منه بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء، قاله ابن عباس (7)، والحسن (8)، وسعيد بن جبير (9)، وشريح (10)، وإبراهيم (11)، وداود (12).

والثاني: بالجزاء مع العقوبة، قاله الشافعي (13)، والجمهور (14).

(1) التفسير الميسر: 123.

(2)

معاني القرآن: 2/ 209.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 195.

(4)

الكشاف: 1/ 679 - 680.

(5)

زاد المسير: 1/ 587.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12651): ص 11/ 51.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12664): ص 11/ 53.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12658): ص 11/ 51.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12652): ص 11/ 51.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12654): ص 11/ 51.

(12)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(13)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

(14)

انظر: النكت والعيون: 2/ 68.

ص: 496

وروي عن زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم، فتجُوِّز له عنه. ثم عاد، فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته، فذلك قوله:{ومن عاد فينتقم الله منه} ، قال: في الإسلام" (1).

قال الطبري: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا، قولُ من قال: معناه: ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه، فينتقم الله منه، وعليه مع ذلك الكفارة، لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثلُ ما قتل من النعم} "، أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة، بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد، ولم يقل:{ولا كفارة عليه في الدنيا} " (2).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]، أي:" والله تعالى عزيز قويٌّ منيع في سلطانه، ومِن عزته أنه ينتقم ممن عصاه إذا أراد، لا يمنعه من ذلك مانع"(3).

قال القرطبي: " {عزيز}، أي: منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده. {ذو انتقام} ممن عصاه إن شاء"(4).

قال النسفي: " {والله عزيز} بإلزام الأحكام {ذو انتقام} لمن جاوز حدود الإسلام"(5).

قال الطبري: أي: " والله منيعٌ في سلطانه، لا يقهره قاهرٌ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه، ولا من عقوبة من أراد عقوبته، مانع. لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، له العزة المَنَعة، وأما قوله: {ذو انتقام}، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه"(6).

عن أبي العالية: {والله عزيز} ، يقول: عزيز في نقمته إذا انتقم" (7).

(1) أخرجه الطبري (12666): ص 11/ 54.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 54.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

تفسير الطبري: 6/ 317.

(5)

تفسير النسفي: 1/ 477.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 57.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (6824): ص 4/ 1210.

ص: 497

عن محمد بن إسحاق: " {والله عزيز ذو انتقام}، قال: عزيز ذو بطش"(1)، " {ذو انتقام}: ذوا انتقام ممن آذاه" (2).

وفي رواية أخرى عن محمد بن إسحاق: " أي: أن الله منتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته بما جاءه منه فيها"(3).

قال السعدي: " وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطئ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة، فإنه يضمنها على أي حال كان، إذا كان إتلافه بغير حق، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام، وهذا للمتعمد. وأما المخطئ فليس عليه عقوبة، إنما عليه الجزاء، [هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله. وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية. والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم"(4).

الفوائد:

1 -

تحريم الصيد على المحرم، وأن قتله مناف لكمال الإيمان، لأنه تعالى خاطب بهذا النهي المؤمنين، وعليه فإن اجتناب قتل الصيد من مقتضيات الإيمان.

2 -

بيان جزاء من صاد وهو محرم وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم.

3 -

وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه.

4 -

وأنه لابد من العدالة في الحكمينـ لقوله: {ذوا عدل منكم} .

5 -

أن جزاء الصيد لابد أن يصل إلى الحرم، لقوله:{هديا بالغ الكعبة} .

6 -

أن الفداء كفارة للذنب وستر له في الدنيا وفي الآخرة، لقوله:{او كفارة طعام مساكين} .

7 -

إثبات العفو، لله وسعة عفو الله سبحانه وتعالى، لقوله:{عفا الله عما سلف} .

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (6825): ص 4/ 1210.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (6826): ص 4/ 1210.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6826): ص 4/ 1210.

(4)

تفسير السعدي: 243.

ص: 498

قال الشيخ ابن عثيمين: "العفو: هو عدم المؤاخذة على الذنب، والاكثر أن العفو في ترك الواجب والمغفرة في فعل المحرم"(1).

8 -

أن من فعل محظورا قبل العلم بالشرع فإنه لا إثم عليه ولا كفارة ولا جزاء.

9 اثبات الاسم الكريم «العزيز» لله عز وجل:

قال الشيخ ابن عثيمين: "و «العزيز»: "الغالب الذي لايغلبه أحد، والعزيز: بمعنى: الذي يمتنع عليه النقص باي وجه من الوجوه، والعزيز ذو العزة التي تكسب من اتصف بها قدرة وسلطانا وغير ذلك" (2).

القرآن

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)} [المائدة: 96]

التفسير:

أحل الله لكم -أيها المسلمون- في حال إحرامكم صيد البحر، وهو ما يصاد منه حيًّا، وطعامه: وهو الميت منه; من أجل انتفاعكم به مقيمين أو مسافرين، وحرم عليكم صيد البَرِّ ما دمتم محرمين بحج أو عمرة. واخشوا الله ونفذوا جميع أوامِره، واجتنبوا جميع نواهيه; حتى تظفَروا بعظيم ثوابه، وتَسْلموا من أليم عقابه عندما تحشرون للحساب والجزاء.

حكى الكلبي: "أن هذه الآية نزلت في بني مدلج، وكانوا ينزلون بأسياف البحر، سألوا عما نضب عنه الماء من السمك، فنزلت هذه الآية فيهم"(3).

قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، أي:" أحل الله لكم -أيها المسلمون- في حال إحرامكم صيد البحر، وهو ما يصاد منه حيًّا"(4).

قال الماوردي: " يعني: صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل"(5).

(1) تفسير سورة المائدة لابن عثيمين: 2/ 409.

(2)

تفسير سورة المائدة لابن عثيمين: 2/ 410.

(3)

النكت والعيون: 2/ 69.

(4)

التفسير الميسر: 124.

(5)

النكت والعيون: 2/ 69.

ص: 499

قال الطبري: أي: " أحل لكم، أيها المؤمنون، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم، وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله"(1).

قال السمرقندي: " يعني: في الإحرام وغير الإحرام"(2).

قال الواحدي: أي: " ما أُصيب من داخله وهذا الإِحلالُ عامٌّ لكلِّ أحد مُحرِماً كان أو مُحِلا"(3).

قال ابن عباس: "خطب أبو بكر الناس فقال: {أحل لكم صيد البحر}، قال: فصيده ما أخذ"(4).

قال عمر بن الخطاب: " صيده، ما صيد منه"(5). وروي عن ابن عباس مثله (6).

قال ابن عطية: " هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضا يراد به الصيد، وأضيف إلى «البحر» لما كان منه بسبب، والبحر الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير بحر"(7).

قال الزمخشري: " {صيد البحر}، مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل، والمعنى: أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وعند ابن أبى ليلى: أحل لكم صيد حيوان البحر"(8).

قال الإمام الشافعي: " والبحر اسم جامع، فكل ما كثر ماؤه واتسع قيل هذا بحر، فإن قال قائل: فالبحر المعروف: البحر هو المالح، قيل: نعم، ويدخل فيه العذب، وذلك معروف عند العرب"(9).

قال الراغب: " البحر: يتناول كلا مالحا كان أو عذبا، في جدول كان أو في نهر، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَات} [فاطر: 12] "(10).

(1) تفسير الطبري: 11/ 61.

(2)

بحر العلوم: 1/ 419.

(3)

الوجيز: 336.

(4)

اخرجه الطبري (12668): ص 11/ 57.

(5)

اخرجه الطبري (12667): ص 11/ 57.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12669): ص 11/ 57.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 241.

(8)

الكشاف: 1/ 680.

(9)

تفسير الإمام الشافعي: 2/ 789.

(10)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 452.

ص: 500

واختلف أهل العلم في حكم الحيوانات البرمائية (1) على قولين (2):

أحدهما: أن كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر، لذلك إنْ قتله المحرم وَدَاه، وهذا قول مالك (3)، وأبو مجلز (4)، وابن أبي ليلى (5)، وعطاء (6)، وسعيد بن جبير (7)، وغيرهم (8).

والثاني: ان صيد البحر هو مبني على أكثر عيش الحيوان، وأن صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر. وهذا قول عطاء بن ابي رباح.

سئل عطاء: " ابن الماء، أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده"(9). وفي رواية أخرى: " أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ، فهو منه"(10).

قال ابن عطية: "والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب (11).

وفي حكم أكل ميتة السمك قولان (12):

(1) وهي التي تعيش في البر والماء معاً، كالضفدع والسلحفاة والسرطان، والحية والتمساح وكلب الماء ونحوها.

(2)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 242 - 243.

(3)

انظ {: المحرر الوجيز: 2/ 243.

(4)

انظر: الطبري: (12773): ص 11/ 87، ومصنف ابن أبي شيبة: 4/ 124، وتفسير ابن ابي حاتم (6849): ص 4/ 1213،

(5)

انظ {: المحرر الوجيز: 2/ 243.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12774): ص 11/ 87.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12776): 11/ 87 - 88.

(8)

انظر: زاد المسير: 1/ 587، والمحرر الوجيز: 2/ 242 - 243، وتفسير القرطبي: 7/ 213.

(9)

أخرجه الطبري (12778): ص 11/ 88. وعبدالرزاق (8422)،

(10)

اخرجه الطبري (12779): ص 11/ 88.

(11)

المحرر الوجيز: 2/ 243.

(12)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 200 - 101.

ص: 501

أحدهما: أنه حلال مع اختلاف أنواعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال» (1).

قال مالك والشافعي وابن ابي ليلى والأوزاعي، والثوري في رواية الأشجعي: يؤكل ما في البحر كله من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتا طافيا وغير طاف، وليس شيء من ذلك يحتاج إلى ذكاة، واحتج مالك ومن معه بقوله-صلى الله عليه وسلم-في البحر:«هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (2)(3).

(1) أخرجه الشافعي في ترتيب المسند: 2/ 173، وابن ماجه في الأطعمة، باب الكبد والطحال، برقم (3314): 2/ 1102، والدارقطني في الصيد والذبائح: 4/ 271 - 272، والإمام أحمد: 2/ 97 عن ابن عمر مرفوعا. ورواه البيهقي موقوفا وقال: هذا إسناد صحيح، وهو في معنى المسند، السنن: 1/ 254. وعزاه الزيلعي أيضا لعبد بن حميد وابن حبان في الضعفاء، وأعله بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته من رفع الموقوفات وإسناد المراسيل، فاستحق الترك. انظر: نصب الراية: 4/ 201 - 202. وعزاه أيضا ابن حجر لابن مردويه في التفسير عن أبي سعيد مرفوعا، وقال: ذكره الدارقطني في العلل

والرواية الموقوفة التي صححها أبو حاتم وغيره هي في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي: أحل لنا، وحرم علينا كذا، مثل قوله: أمرنا بكذا، ونهينا عن كذا، فيحصل الاستدلال بهذه الرواية، لأنها في معنى المرفوع". تلخيص الحبير: 1/ 26. وأخرجه أيضا البغوي في شرح السنة: 11/ 244.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 22، وأحمد (7233)، وأبو داود (83)، وابن ماجة (386)، والترمذي (69)، والنسائي في المجتبى 1/ 50، و 176 من حديث أبي هريرة، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد (15012)، وابن ماجة (388)، من حديث جابر ..

(3)

انظر: تفسير القرطبي: 7/ 210 - 21— [تحقيق التركي].

ص: 502

قال القرطبي: "واصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر عن الحوت الذي يقال له «العنبر» وهو من أثبت الاحاديث، خرّجه الصحيحان، وفيه:«فلما قدما المدينة اتينا رسول-صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، فارسلنا إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم منه، فأكله» (1)(2).

وأسند عن ابي بكر (3)، وأبي أيوب (4)، أنهما قال بحلال السمكة الطافية لمن أراد أكلها.

وأسند عن جبلة بن عطية: أن اصحاب ابي طلحة اصابوا سمكة طافية، فسالوا عنها ابا طلحة، فقال اهدوها لي (5).

وقال عمر بن الخطاب: "الحوت ذكيّ والجراد ذكي كله"(6).

والثاني: انه لايؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك. وهذا قول أبي حنيفة (7). وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه، وكره الحسن بن حيّ أكل الطافي من السمك (8).

وروي عن علي-رضي الله عنه أنه كرهه (9).

(1) صحيح البخاري (4361)، وصحيح المسلم (1035)، وهو عند احمد (14336).

(2)

تفسير القرطبي: 7/ 211 [تحقيق التركي].

(3)

انظر: سنن الدارقطني (4721)، ومصنف عبدالرزاق (4645)، بلفظ:"السمكة الطافية حلال لمن أراد اكلها"، وذكره البخاري في الفتح: 9/ 614، بلفظ: الطافي حلال".

(4)

انظر: سنن الدارقطني (4729)، بلفظ:"أنه ركب البحر في رهط من اصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء، فسألوه عنها، فقال: اطيبة هي لم تغيّر؟ قالوا نعم، قال فكلوا وارفعوا نصيبي منها، وكان صائما".

وأخرجه ابن ابي شيبة: 5/ 380، مختصرا.

(5)

سنن الدارقطني (4730).

(6)

سنن الدارقطني (4726)، ومصنف ابن ابي شيبة: 5/ 379.

(7)

انظر: التمهيد 16/ 223، وزاد المسير: 1/ 587، وتفسير القرطبي: 7/ 210 [تحقيق التركي].

(8)

انظر: التمهيد: 2/ 223، وتفسير القرطبي: 7/ 210.

(9)

انظر: التمهيد 16/ 225، والجِرّي: ضرب من السمك، اللسان، مادة"جرا"، وانظر: الفتح: 9/ 615.

ص: 503

ولم يختلف عن جابر انه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة} [المائدة: 3]، وبما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبدالله عن النبي-صلى الله عليه وسلم:«كلوا ما حسر عنه البحر وما القاه، وما وجدتموه ميتا او طافيا فوق الماء فلا تأكلوه» (1)(2).

واختلف أهل العلم في حكم اكل الحيوانات البرمائية نظرا لتنازع أدلة التحليل والتحريم، على ثلاثة أقوال:

أحدها: لا يحل أكلها؛ لأنها من الخبائث، وللسمية في الحية، ولأن «النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع» (3) ولو حل أكله، لم ينه عن قتله. وهذا قول الحنفية والشافعية (4).

ولا خلاف عند الشافعي في عدم جواز أكل الضفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لايؤكل، كالخنزير والكلب وغير ذلك، والصحيح أكل ذلك كله، لأنه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لايؤكل، ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين، وكل ما له ناب، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن اكل "كل ذي ناب"(5)(6).

وقال أبو حنيفة، والثوري:"لا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك"(7).

(1) سنن ابي داود (3815)، وسنن الدارقطني (4712)، واللفظ له.

(2)

انظر: تفسير القرطبي: 7/ 210 [تحقيق التركي].

(3)

أخرجه أبو داود وأحمد وإسحاق بن راهويه وأبو داود الطيالسي والحاكم عن عبد الرحمن بن عثمان التميمي، انظر: نصب الراية: 201/ 4.

(4)

انظر: اللباب شرح الكتاب: 230/ 3، تكملة الفتح: 62/ 8 ومابعدها، مغني المحتاج: 298/ 4، المهذب: 250/ 1.

(5)

أخرجه احمد (17738)، و (البخاري (5780)، ومسلم (1932)، من حديث ابي ثعلبة الخشي، واخرجه احمد (2192)، ومسلم (1934) من حديث ابن عباس، وانظر: المجموع: 9/ 12، و 29 - 31.

(6)

انظر: تفسير القرطبي: 7/ 213.

(7)

التمهيد 16/ 223، وزاد المسير: 1/ 587، وتفسير القرطبي: 7/ 210 [تحقيق التركي].

ص: 504

وروي عن علي-رضي الله عنه أنه كره أكل السمك الجريّ من وجه لايثبت (1).

قال القرطبي: وروي عنه أكل ذلك، وهو أصح" (2).

والثاني: أنه يباح أكل الضفادع والحشرات والسرطانات والسلحفاة، إذ لم يرد نص في تحريمها. وتحريم الخبائث: هو ما نص عليه الشرع، فلا يحرم ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص. وهذا قول المالكية (3).

والثالث: أن كل ما يعيش في البر من دواب البحر، لا يحل بغير ذكاة كطير الماء، والسلحفاة، وكلب الماء، إلا مالا دم فيه كالسرطان، فإنه يباح في بغير ذكاة؛ لأنه حيوان بحري يعيش في البر، وليس له دم سائل، فلاحاجة إلى ذبحه، خلافاً لما له دم، لا يباح بغير ذبح. وهذا قول الحنابلة (4).

وعلى هذا فمذهب الحنابلة قريب من مذهب المالكية في وجوب ذكاة هذا النوع من الحيوانات وإلحاقها بالبرية، والأصح أن السرطان لا يحل إلا بالذكاة (5).

ولا يباح أكل الضفدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي ـ نهى عن قتله، وجاء في النهي عن قتله، إذ جاء في الحديث:" أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا"(6).

فيدل ذلك على تحريمه.

(1) انظر: التمهيد 16/ 225، والجِرّي: ضرب من السمك، اللسان، مادة"جرا"، وانظر: الفتح: 9/ 615.

(2)

تفسير القرطبي: 7/ 210، وانظر: الخبر في التمهيد: 16/ 225، وخبر علي-رضي الله عنه عند عبدالرزاق (8663)، وأخرجه أيضا ابن ابي شيبة: 5/ 379، والبيهقي: 9/ 254.

(3)

انظر: بداية المجتهد: 656/ 1، القوانين الفقهية: ص 172.

(4)

انظر: المغني: 606/ 8 ومابعدها، كشاف القناع: 202/ 6.

(5)

كما في شرح المقنع لابن مفلح الحنبلي: 214/ 9.

(6)

رواه أبو داود (3871)، وصححه الألباني.

ص: 505

كما لا يباح أكل التمساح، وقد رجح جماعة من علمائنا المعاصرين حل أكل التمساح، منهم علماء اللجنة الدائمة للإفتاء (1)، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (2).

ونقل عن الشيخ ابن عثيمين ما قد يُفهم منه أنه يبيح أكل الضفدع والتمساح (3)، وعند استقراء فتاويه، تبيّن بأن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله يرى أن أكل التمساح حلال، وأن أكل الضفدع حرام، وأن التمساح داخل في عموم آية المائدة، وأن الضفدع جاء النهي عن قتله صحيحاً في السنَّة.

قال ابن العربي: "الصحيح في الحيوان الذي يكون في البرّ والبحر منعه، لأنه تعارض فيه دليلان، دليل تحليل ودليل تحريم، فيغلّب دليل التحريم احتياطا"(4).

وكل ما فيه ضرر فلا يجوز أكله ولو كان بحرياً، عليه إن ثبت في شيء أن أكله سام، أو مضر لآكله، فهنا يحرم أكله، لأجل ما فيه من الضرر، لا لأن جنسه محرم في ذاته، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]، {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (5).

قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]، أي:"وما يُطعم من صيده كالسمك وغيره منفعةً وقوتاً لكم وزاداً للمسافرين يتزودونه في أسفارهم "(6).

(1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة: 22/ 185.

(2)

انظر: فتاوى اللجنة الدائمة: 23/ 34.

(3)

انظر: فتاوى إسلامية: 3/ 388، والشرح الممتع: 15/ 34، 35، ونور على الدرب: شريط: 129، و 137، وجه: أ، وشريط: لقاءات الباب المفتوح: 112 / الوجه: ب، وشرح بلوغ المرام، كتاب الأطعمة، شريط رقم 2.

(4)

احكام القرآن: 2/ 684.

(5)

انظر: المغني 11/ 83، حاشية الروض 7/ 430، تفسير ابن كثير 3/ 197.

(6)

صفوة التفاسير: 1/ 337.

ص: 506

قال الطبري: أي: " منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به، {وللسيارة}، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض، ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا"(1).

قال ابن كثير: " أي: منفعة وقُوتًا لكم أيها المخاطبون {وَلِلسَّيَّارَةِ} وهو جمع سيَّار"(2).

قال السمرقندي: " يعني: للمقيمين والمسافرين. وهي السمكة المالحة"(3).

قال الواحدي: أي: " {وطعامة}: وهو ما نضب عنه الماء ولم يُصَد، منفعة للمقيم والمسافر، يبيعون ويزودون منه"(4).

قال الثعلبي: " {وللسيارة}، يعني: المارة"(5).

قال الزمخشري: " {وطعامه}، وما يطعم من صيده، والمعنى: وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبى حنيفة، وعند ابن أبى ليلى جميع ما يصاد منه، {مَتَاعًا لَكُمْ}، يعنى: تمتيعا لتنائكم (6) يأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزودونه قديدا، كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام، و {متاعا لكم} مفعول له مختص بالطعام، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، "(7).

قال ابن عطية: " قوله: {لكم}، يريد حاضري البحر ومدنه، و {للسيارة}، المسافرين"(8).

قال ابن عباس: ": {طعامه}، ما وجد على الساحل ميتًا"(9)، " قوله:{متاعا لكم} : الذي يتزود المسافر" (10).

(1) تفسير الطبري: 11/ 71.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 198.

(3)

بحر العلوم: 1/ 419.

(4)

الوجيز: 336.

(5)

تفسير الثعلبي: 4/ 111.

(6)

. قوله «تمتيعا لتنائكم يأكلونه» أى للمتوطنين منكم. يقال: تنأ بالبلد توطئه، فهو تانئ، وهم تناه. أفاده الصحاح.

(7)

الكشاف: 1/ 680. [بتصرف]

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 241.

(9)

أخرجه الطبري (12693): ص 11/ 62.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6841): ص 4/ 1212.

ص: 507

قال عكرمة: " {متاعًا لكم وللسيارة}، لمن كان بحضرة البحر، {وللسيارة}، السَّفْر"(1).

وعن الحسن: " {وللسيارة}، قال: هم المحرمون"(2).

اخرج ابن ابي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: " {وللسيارة} قال: الظهر"" (3).

قال ابن أبي حاتم: "قال أبي وقال غيره: التتمير"(4).

وقال مجاهد: {وطعامه متاعا لكم} : أهل القرَى، {وللسيارة}: أهل الأمصَار" (5)، "والحيتانُ للناس كلهم" (6).

قال ابن عطية: " كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار"(7).

قال الطبري: "وهذا لا وجه له مفهوم، إلا أن يكون أراد بقوله: هم أهل الأمصار، هم المسافرون من أهل الأمصار، فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما «السيارة»، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم"(8).

وفي معنى قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]، ثلاثة أقوال:

أحدها: ما نبذه البحر ميتا، قاله أبو بكر (9)، وعمر (10)، وابن عباس (11)، وابن عمر (12)، وأبو أيوب (13)، وقتادة (14).

(1) أخرجه الطبري (12731): ص 11/ 71.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6845): ص 4/ 1212.

(3)

تفسير ابن ابي حاتم (6845): ص 4/ 1212.

(4)

تفسير ابن ابي حاتم (6845): ص 4/ 1212.

(5)

أخرجه الطبري (12738): ص 11/ 73.

(6)

أخرجه الطبري (12739): ص 11/ 73.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 241.

(8)

تفسير الطبري: 11/ 73.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12686): ص 11/ 61.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12687): ص 11/ 61.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12688): ص 11/ 62.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12700): ص 11/ 64.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12705): ص 11/ 65.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12704): ص 11/ 65.

ص: 508

والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيب (1)، وسعيد بن جبير (2)، وجابر بن زيد (3)، والسدي (4)، وعن ابن عباس (5)، ومجاهد (6)، وقتادة (7)، وعكرمة (8) كالقولين.

واختلفت الرواية عن النخعي. فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه جمع بينهما، فقال: طعامه المليح (9)، وما لفظه (10).

والثالث: أنه ما نبت بمائة من زروع البر، وإنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه ينبت بمائه، حكاه الزجاج (11).

قال الإمام الطبري: " وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا، قولُ من قال: {طعامه}، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد، فقال: {أحل لكم صيد البحر}، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه، فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه"(12).

وقد روي عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم}، قال: {طعامه}، ما لفظه ميتًا فهو طعامه"(13).

وقرئ: «وطعمه» (14).

(1) انظر: تفسير الطبري (12724): ص 11/ 68.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12711): ص 11/ 66.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12725): ص 11/ 68.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12723): ص 11/ 68.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12707): ص 11/ 65.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12719): ص 11/ 67.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12717): ص 11/ 67.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12710): ص 11/ 66.

(9)

في «اللسان» الملح والمليح: خلاف العذب من الماء.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12718): ص 11/ 67.

(11)

انظر: معاني القرآن: 2/ 209.

(12)

تفسير الطبري: 11/ 69.

(13)

أخرجه الطبري (12729): ص 11/ 70. قال الطبري: " وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة".

(14)

انظر: الكشاف: 1/ 680.

ص: 509

قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96]، أي:" وحرم عليكم صيد البَرِّ ما دمتم محرمين بحج أو عمرة"(1).

قال الطبري: " وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر، ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم"(2).

قال السمرقندي: " يعني: ما دمتم محرمين فلا تأخذوا الصيود"(3).

واختلف أهل العلم اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد على أربعة اقوال:

أحدها: أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد. وهذا قول علي بن ابي طالب (4)، وابن عباس (5)، وابن عمر-في أحد قوليه- (6)، وبه قال إسحاق (7)، والثوري (8).

واحتجوا بما روي عن الصعب بن جَثَّامة: "أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا، فردّه فقال: إنا حُرُم"(9).

وبما روي عن عائشة: "أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فردّها"(10).

والثاني: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله. وهذا قول عثمان (11)، وبه قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد (12).

(1) التفسير الميسر: 124.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 74.

(3)

بحر العلوم: 1/ 442019.

(4)

انظر: تفسير الكبري (12740): ص 11/ 74.

(5)

انظر: تفسير الكبري (12748): ص 11/ 77.

(6)

انظر: تفسير الكبري (12750): ص 11/ 78.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 321 - 322، وانظر: المغني: 5/ 135 - 136 [بتصرف].

(8)

تفسير القرطبي: 6/ 321 - 322، وانظر: المغني: 5/ 135 - 136 [بتصرف].

(9)

حديث الصعب بن جثامة، رواه مسلم في صحيحه من طرق 8: 103 - 106، والسنن الكبرى للبيهقي 5: 191، 194.

(10)

حديث عائشة رواه أحمد في المسند 6: 40.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12755): ص 11/ 80 - 81، و (12764): ص 11/ 83.

(12)

تفسير القرطبي: 6/ 321 - 322، وانظر: المغني: 5/ 135 - 136 [بتصرف].

ص: 510

واحتجوا بحديث جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "صيد البرّ لكم حلال، مالم تصيدوه او يُصدْ لكم "(1).

والثالث: أن أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أم لا، وهذا قول عمر بن الخطاب (2)، والزبير بن العوّام (3)، وأبي هريرة (4)، وابن عمر (5)، وسعيد بن جبير (6)، ومجاهد (7)، وعطاء (8)، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه (9).

واحتجوا بحديث البهزي عن النبي-صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العير، أنه أمر ابابكر فقسّمه في الرفاق، من حديث مالك وغيره (10).

وكذلك احتجوا بحديث أبي قتادة عن النبي-صلى الله عليه وسلم، وفيه «إنما هي طعمة اطعمكموها الله» (11).

والرابع: أن المراد حرام اصطياده، وفأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني. وهذا قول أبو سلمة (12).

(1) انظر: سنن الترمذي (846)، والمجتبى: 5/ 187، وسنن الدراقطني (2744)، وهو عند احمد (14894)، وأبي داود (1851)،

وخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 190، فانظر ما قاله فيه، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 333 وقال: أخرجه أحمد والحاكم وصححه.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12754): ص 11/ 79، و (12758): ص 11/ 80

(3)

انظر: تفسير الطبري (12765): ص 11/ 83.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12754): ص 11/ 79.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12758): ص 11/ 80.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12769): ص 11/ 84.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12769): ص 11/ 84.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12770): ص 11/ 81 - 84.

(9)

تفسير القرطبي: 6/ 321 - 322، وانظر: المغني: 5/ 135 - 136 [بتصرف].

(10)

انظر: حديث البهزي في الموطأ: 1/ 351، والمجتبى: 5/ 183.

(11)

اخرجه أحمد (22567)، والبخاري (2914)، ومسلم (1196):(57).

(12)

انظر: تفسير الطبري (12771): ص 11/ 84 - 85.

ص: 511

قا الإمام الطبري: " والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء، فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه، إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال، فيحلّ له حينئذ أكله، للثابت عن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عبد الرحمن بن عثمان قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأهدي لنا طائرٌ، فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم» "(1).

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96]، أي:" أي خافوا الله الذي تبعثون إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم"(2).

قال الواحدي: أي: " خافوا الله الذي إليه تبعثون"(3).

قال السمرقندي: " {واتقوا الله}، فلا تأخذوه في إحرامكم، {الذي إليه تحشرون}، فيجزيكم بأعمالكم"(4).

الفوائد:

1 -

حل صيد البحر للمحلين والمحرومين.

2 -

أن جميع حيوان البحر حلال، لقوله:{صيد البحر} ، لأن الإضافة تقتضي العموم.

3 -

أن جميع ما في البحر مما يطعم من سمك وأشجار وغيرها حلال، لعموم قوله:{وطعامه} .

4 -

بيان الحكمة في حل صيد البحر دون البر، لأن الأول تناوله سهل، ولايلهو الإنسان كما يلهو به في صيد البر، ثم هو صيد خفي في باطن المياه فلا يكون كالصيد الظاهر على سطح الأرض.

5 -

الإشارة غلى جاز إدخار لحم البحر لقوله: {وللسيارة} ، يعني السائرين في السفر.

6 -

تحريم صيد البر على المحرمين.

7 -

وجوب تقوى الله والحذر من مخالفته فيما فرضه من هذه الأحكام، والتحذير من عقوبة اليوم الآخر.

(1) تفسير الطبري: 11/ 85، ورقم الخبر (12772): ص 11/ 85.

(2)

صفوة التفاسير: 337.

(3)

الوجيز: 336.

(4)

بحر العلوم: 1/ 442019.

ص: 512

8 -

إثبات اليوم الآخر الذي يكون به الحشر إلى الله عز وجل، لقوله:{الذي غليه تحشرون} .

القرآن

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} [المائدة: 97]

التفسير:

امتنَّ الله على عباده بأن جعل الكعبة البيت الحرام صلاحًا لدينهم، وأمنًا لحياتهم; وذلك حيث آمنوا بالله ورسوله وأقاموا فرائضه، وحرَّم العدوان والقتال في الأشهر الحرم -وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب- فلا يعتدي فيها أحد على أحد، وحرَّم تعالى الاعتداء على ما يُهدَى إلى الحرم من بهيمة الأنعام، وحرَّم كذلك الاعتداء على القلائد، وهي ما قُلِّد إشعارًا بأنه بقصد به النسك; ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض، ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض، وأن الله بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية.

قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، أي:"جعل الله الكعبة المشرّفة وهي البيت المحرّم صلاحاً ومعاشاً للناس لقيام أمر دينهم ودنياهم"(1).

قال الطبري: أي: " صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم"(2).

قال الواحدي: " يعني: البيت الذي حرَّم أن يصاد عنده ويختلى للحجِّ وقضاء النُّسك"(3).

وفي تسميتها كعبة قولان:

(1) صفوة التفاسير: 339.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 89.

(3)

الوجيز: 336.

ص: 513

أحدهما: سميت بذلك لتربيعها، قاله مجاهد (1)، وعكرمة (2)، واختاره الطبري (3)، والقرطبي (4).

والثاني: سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم: قد كعب ثدي المرأة إذا علا ونتأ، وهو قول الجمهور (5).

و«الكعبة» : الحرم كله، وسماها الله حراما، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها، أو يختلى خلاها، أو يعضد شجرها (6).

وفي قوله تعالى: {قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، جوه من التأويل:

أحدها: قياما للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (7).

والثاني: قياما لأمر من توجه إليها، رواه العوفي عن ابن عباس (8).

عن قتادة قوله: " {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد}، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس"(9).

وقال ابن ششهاب: ": فجعل الله ذلك قياما للناس يأمنون به في ذلك كله في الجاهلية الأولى لا يخاف بعضهم بعضا حين يلقونهم عند البيت وفي الحرم أو في الشهر الحرام."(10).

والثالث: قياما لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حجت واستقبلت، قاله الحسن (11).

(1) انظر: تفسير الطبري (12780): ص 11/ 90.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12781): ص 11/ 90.

(3)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 89.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 324.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 70، وزاد المسير: 1/ 588، وتفسير العز بن عبدالسلام: 1/ 414 وغيرها.

(6)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 91، والنكت والعيون: 2/ 70.

(7)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6854): ص 4/ 1214.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12787): ص 11/ 92.

(9)

أخرجه الطبري (12790): ص 11/ 93.

(10)

أخرجه ابن ابي حاتم (6858): ص 4/ 1214.

(11)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6857): ص 4/ 1214.

ص: 514

وفي المعنى نفسه قال ابن زيد: " كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ"(1).

والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله حميد الأرقط (2).

والخامس: قياما للناس، أي: مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج (3).

والسادس: قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض المفسرين (4).

والسابع: يعني: صلاحاً لهم، قاله سعيد بن جبير (5).

قال الطبري: " وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن «القوام» للشيء، هو الذي به صلاحه، كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية، وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم"(6).

قال الزمخشري: " {قياما للناس}، انتعاشا لهم في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضا إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم، وأنواع منافعهم"(7).

(1) اخرجه الطبري (12791): ص 11/ 93.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 90، ومجاز القرآن: 1/ 177.

(3)

انظر: معاني القرآن: 2/ 210.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 70، وزاد المسير: 1/ 589.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12783): ص 11/ 91.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 92 - 93.

(7)

الكشاف: 1/ 681.

ص: 515

قال الشيخ محمد رشيد رضا: " المختار أن جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس هو جعل تكويني تشريعي معا، وهو عام شامل لما تقوم به وتتحقق مصالح دينهم ودنياهم، وشامل لزمن الجاهلية وعهد الإسلام، لكن له في كل من العهدين صورة خاصة به ففي عهد الجاهلية كان التكويني أظهر والتشريعي أخفى، لأنهم على إضاعتهم لشريعة إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم إلا قليلا من مناسك الحج مزجوها بالوثنية والخرافات الوضعية، وكانت آيات الله تعالى التكوينية ظاهرة فيهم كما تقدم بيانه آنفا، وسبق ما في معناه في سورة آل عمران، وأما في عهد الإسلام فالتشريعي أظهر"(1).

وقرأ ابن عامر: «قيما» ، بغير ألف (2).

قال ابن عطية: " قوله تعالى: {للناس}، لفظ عام، وقال بعض المفسرين أراد العرب. ولا وجه لهذا التخصيص"(3).

قوله تعالى: {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 97]، أي:" وجعل الله الشهر الحرام أيضًا قيامًا للناس"(4).

قال القرطبي: " والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأنا قد علمه الله أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهو رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم"(5).

قال الواحدي: " يعني: الأشهر الحرم فذكر بلفظ الجنس"(6).

قال الزمخشري: " {الشهر الحرام}: الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأن لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأنا قد عرفه الله تعالى، وقيل عنى به جنس الأشهر الحرم"(7).

قال البيضاوي: " المراد بالشهر الشهر الذي يؤدي فيه الحج، وهو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه"(8).

(1) تفسير المنار: 7/ 100 - 101.

(2)

انظر: السبعة في القراءات: 248.

(3)

المحرر الوجيز: 2/ 244.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 91.

(5)

تفسير القرطبي: 1/ 478.

(6)

الوجيز: 336.

(7)

الكشاف: 1/ 681.

(8)

تفسير البيضاوي: 2/ 145.

ص: 516

قال المراغي: أي: "وكذلك جعل الشهر الحرام سببا لقيام الناس، لأن العرب كان يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض فى سائر الأشهر حتى إذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم، وكانوا يحصلون فيه من الأقوات ما يكفيهم طول العام، ولو لاه لتفانوا من الجوع والشدة"(1).

قال ابن عطية: " و «الشهر» ، هنا اسم جنس، والمراد: الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر وهو رجب الأصم، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص (2):

وشهر بني أمية والهدايا

إذا سيقت مدرجها الدماء

وسماه النبي عليه السلام: شهر الله (3)، أي شهر آل الله، وكان يقال لأهل الحرم آل الله، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه، وأما الهدي فكان أمانا لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب" (4).

قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ} [المائدة: 97]، أي وكذلك جعل الهدى سببا لقيام الناس" (5).

قال المراغي: أي: " لأن «الهدي» يهدى إلى البيت ويذبح ويفرق لحمه على الفقراء فيكون نسكا للمهدى وقياما لمعيشة الفقراء"(6).

قال مكي: أي: " جعل ذلك أيضاً قياماً للناس"(7).

(1) تفسير المراغي: 7/ 35.

(2)

المفضليات: 163، ومنتهى الطلب: 3/ 384، وشرح اختيارات المفضل: 2/ 805، وفيها:"حبست" بدل: "سيقت"

قال التبريز في شرح الاختيارات: مضرجها، أي: يصيبها الدم كما يضرّج الثوب بالصبغ.

(3)

قطعة من حديث طويل اخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (1008)، من حديث لأنس، و (1147) من حديث أبي سعيد الخدري، وقال إثر كل من الحديثين: هذا حديث موضوع.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 244.

(5)

تفسير المراغي: 7/ 35.

(6)

تفسير المراغي: 7/ 35.

(7)

الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1882 - 1883.

ص: 517

و «الناس» - هنا -: "مَن كان في الجاهلية، كان الرجل لا يخاف إذا دخل في الحرَم ولو لَقِي من قتل أباه أو أخاه، لم يخف الفاعل في الحرَم، وإذا لَقِي الهدي لم يَعرِضْ له القاطع ولا الجائع، وكان الرجل إذا أراد الحج تقلد بقلادة من شعر، وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يعرض له ولا يؤذى حتى يصل إلى أهله، وقيل: «الناس»، هنا: جميع الناس"(1).

في «الهدي» ، قولان:

أحدهما: أنه كل ما أهداه من شيء إلى بيت الله تعالى (2).

والثاني: أنه ما لم يقلّد من النعم، وقد جعل على نفسه، أن يُهديه ويقلده، وهو قول ابن عباس (3).

قوله تعالى: {وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97]، أي:" وكذلك جعل القلائد قياما للناس"(4).

قال المراغي: " إذ أن من قصد البيت فى الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده فى غير الشهر الحرام ومعه هدى وقلده وقلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، لأن الله أوقع فى قلوبهم تعظيم البيت، فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمنا من جميع الآفات والمخاوف"(5).

(1) الهداية إلى بلوغ النهاية: 3/ 1882 - 1883.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 9/ 466.

(3)

انظر: تفسير الطبري (10948): ص 9/ 467.

(4)

تفسير المراغي: 7/ 36.

(5)

تفسير المراغي: 7/ 36.

ص: 518

وقد ذكر بعض الشعراء أن «القلائد» : لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه (1)، قال الشاعر (2):

أَلَمْ تَقْتُلا الْحِرْجَيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَا (3)

يُمِرَّانِ بِالأيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا

قال ابن عباس: " كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ، فيعرفون بذلك"(4).

(1) انظر: تفسير الطبري: 9/ 469 - 470.

(2)

أشعار الهذليين 3: 19، والمعاني الكبير: 1120، واللسان (حرج). و " الحرج " (بكسر الحاء وسكون الراء): الودعة، قالوا: عنى بالحرجين: رجلين أبيضين كالودعة، فإما أن يكون البياض لونهما، وإما أن يكون كنى بذلك عن شرفهما. وقال شارح ديوانه:" ويكون أيضًا الحرجان، رجلين يقال لهما: الحرجان ". و " أمر الحبل يمره ": فتله. و " اللحاء "، قشر الشجر. و " المضفر " الذي جدل ضفائر.

هذا وقد ذكر أبو جعفر أن الشعر في رجلين قتلا رجلين، وروى " ألم تقتلا "، والذي في المراجع " ألم تقتلوا "، وهو الذي يدل عليه سياق الشعر، فإن أوله قبل البيت: ألا أبْلِغَا جُلَّ السَّوَارِي وَجابرًا

وَأَبْلِغْ بَني ذِي السَّهْم عَنِّي وَيَعْمَرَا

وَقُولا لَهُمْ عَنِّي مَقَالَةَ شَاعِرٍ

أَلَمّ بقَوْلٍ، لَمْ يُحَاوِلْ لِيَفْخَرَا

لَعَلَّكُمْ لَمَّا قَتَلْتُمْ ذَكَرْتُمُ

وَلَنْ تَتْرُكُوا أَنْ تَقْتُلُوا، مَنْ تَعَمَّرَا

فالشعر كله بضمير الجمع. وسببه أن جندبًا، أخو البريق بن عياض اللحياني، قتل قيسًا وسالمًا ابني عامر بن عريب الكنانيين، وقتل سالم جندبًا، اختلفا ضربتين.

(3)

رواية أبي جعفر كما شرحها " أعوراكما "، ورواية الديوان " أعورا لكم "، وهي في سياق لمشعر، ورواية اللسان:" أعرضا لكم "، ويروي " عورا لكم " بتشديد الواو. هذا على أن هذه الرواية:" أعور " متعديًا، والذي كتب في اللغة " أعور لك الشيء فهو معور ".

(4)

أخرجه الطبري (12792): ص 11/ 94.

ص: 519

قال الزمخشري: " {والقلائد}، أي: والمقلد منه خصوصا ووهو البدن، لأن الثواب فيه أكثر، وبهاء الحج معه أظهر"(1).

قال ابن عطية: " وأما القلائد فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئا فكان ذلك أمانا له، وكان الأمر في نفوسهم عظيما مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئا خوفا من الله، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم"(2).

قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، أي:" ذلك لتعلموا أن الله يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض، ومن ذلك ما شرعه لحماية خلقه بعضهم من بعض"(3).

قال النسفي: " أي: لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض"(4).

قال ابن عطية: " {ذلك} إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياما، والمعنى فعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم"(5).

قال الزمخشري: " {ذلك} إشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره، لتعلموا أن الله يعلم كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعشكم مما أمركم به وكلفكم، شديد العقاب لمن انتهك محارمه غفور رحيم لمن حافظ عليها"(6).

قال البيضاوي: " {ذلك}، إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليها، دليل حكمة الشارع وكمال علمه"(7).

(1) الكشاف: 1/ 681 - 682.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 244.

(3)

التفسير الميسر: 123.

(4)

تفسير النسفي: 1/ 478.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 244.

(6)

الكشاف: 1/ 682.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 145.

ص: 520

قال المراغي: " الخلاصة- إن ذلك لم يكن إلا لحكمة بالغة صادرة عن علم بخفايا الأمور وغاياتها، فكان دليلا على أنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض من أسباب الرزق ونظام الخلق وغير ذلك، وأنه عليم بكل شىء فلا تخفى عليه خافيه.

وقد عجزت جميع الأمم فى القديم والحديث عن تأمين الناس فى قطر من الأقطار فى زمن معين من كل سنة بحيث لا يقع فيه قتل ولا قتال ولا عدوان" (1).

قال البغوي: " فإن قيل: أي اتصال لهذا الكلام بما قبله؟ قيل: أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياما للناس لأنه يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض"(2).

وذكر الزجاج في قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، وجهان (3):

أحدهما: أن الله لما آمن من الخوف البلد الحرام، والناسق كان يقتل بعضعهم بعضا، وجعل الشهر الحرام يمتنع فيه من القتل، والقوم أهل جاهلية، فدل بذلك أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض إذ جعل في أعظم الأوقات فسادا ما يؤمن به.

(1) تفسير المراغي: 7/ 36.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 104.

(3)

انظر: معاني القرآن: 2/ 210 - 211.

ص: 521

والثاني: أن ذلك مردود على ما أنبأ الله به على لسان نبيه في هذه السورة من قوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41]، فأخبر بنفاقهم الذي كان مستترا عن المسلمين، وما أخبر به أنهم:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41]، فأظهر الله ما كانوا أسروه من قصة الزانيين، ومسألتهم إياه صلى الله عليه وسلم وما شرحناه مما كانوا عليه في ذلك، فأظهر الله جل وعز: نبيه والمؤمنين على جميع ما ستروا عنهم، فالمعنى - والله أعلم - ذلك لتعلموا الغيب الذي أنبأتكم به عن الله، يدلكم على إنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ودليل هذا القول قوله جل وعز:{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99].

قال الزجاج في القول الثاني: "هو عندي أبين"(1).

قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، أي:" وأن الله بكل شيء عليم، فلا تخفى عليه خافية"(2).

قال البيضاوي: "تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد إطلاق"(3).

قال ابن عطية: " وقوله تعالى: {بكل شيء عليم}، عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات، كما قال عز وجل: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} [الأنعام: 59]، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر"(4).

الفوائد:

1 -

بيان عظم الكعبة المشرفة، إذ جعلها الله قياما للناس يقوم بها امور دينهم ودنياهم.

2 -

أن الكعبة حرام، أي: محترمة معظمة، ولهذا كان ما حولها حراما لايقتل صيده ولايقطع شجره.

3 -

تعظيم الاشهر الحرم وأنها قيام للناس، وكذلك تعظيم الهدي ومشروعية القلائد إذ ان فيها إظهارا لشعائر الله عز وجل.

(1) معاني القرآن: 2/ 210.

(2)

التفسير الميسر: 123.

(3)

تفسير البيضاوي: 2/ 145.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 244.

ص: 522

4 -

إثبات الحكمة في أحكام الله عز وجل، لقوله:{ذلك لتعلموا} ، واللام هنا للتعليل، ويتفرغ من ذلك أن كل ما شرعه الله أو فعله فهو لحكمة.

5 -

التحذير من مخالفة الله عز وجل، وجهه إثبات العلم في قوله:{يعلم ما في السماوات وما في الأرض} ، وفيه أيضا إثبات أن السماوات ذات عدد، وهذا العدد في ادلة أخرى أنه سبع سماوات.

6 -

بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه، إذ أمّن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمناً واستقراراً وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام، والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله.

7 -

ومن أسمائه «العليم» ، والْعِلْمُ صفةٌ ذاتيةٌ ثابتةٌ لله عز وجل، ، فهو سبحانه «العليم» المحيط علمه بكل شيء، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء (1).

قال الخطابي: " «العليم»: هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق"(2).

القرآن

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة: 98]

التفسير:

اعلموا -أيها الناس- أن الله جل وعلا شديد العقاب لمن عصاه، وأن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب.

سبب النزول:

وقال مقاتل: " ثم خوفهم ألا يستحلوا الغارة في حجاج اليمامة، يعني: شريحا وأصحابه فقال: {اعلموا أن الله شديد العقاب} إذا عاقب"(3).

قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 98]، أي:" اعلموا -أيها الناس- أن الله جل وعلا شديد العقاب لمن عصاه"(4).

قال الزمخشري: أي: "لمن انتهك محارمه"(5).

قال ابن ابي زمنين: أي: " لمن أراد أن ينتقم منه"(6).

(1) انظر: شرح العقيدة الواسطية، لابن عثيمين: 1/ 188.

(2)

شأن الدعاء: 57.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 507.

(4)

التفسير الميسر: 124.

(5)

الكشاف: 1/ 682.

(6)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 49.

ص: 523

قال السمرقندي: " يعني: إذا عاقب فعقوبته شديدة لمن عصاه"(1).

قال ابن عثيمين: أي: "قوي العقاب إذا عاقب المذنب"(2).

قال الطبري: أي: " اعلموا، أيها الناس، أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخف عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها، وهو يُحْصيها عليكم لمجازيكم بها، شديد عقابُه من عصاه وتمرَّد عليه، على معصيته إياه"(3).

قال القرطبي: " قوله تعالى: {اعلموا أن الله شديد العقاب}، تخويف"(4).

قال علي بن زيد: "تلا مطرف هذه الآية {شديد العقاب}، قال: لو يعلم الناس قدر عقوبة الله ونقمة الله وبأس الله، ونكال الله، لما رقى لهم دمع وما قرت أعينهم بشيء"(5).

قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، أي:" وأن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب"(6).

قال الزمخشري: أي: " لمن حافظ على محارمه"(7).

قال مقاتل: "لمن أطاعه بعد النهي"(8).

قال السمرقندي: أي: " لمن أطاعه"(9).

قال الطبري: أي: " وهو غفور لذنوب من أطاعه وأنابَ إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها، {رحيم} به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها"(10).

قال القرطبي: " قوله تعالى: {وأن الله غفور رحيم}، ترجية"(11).

قال محمد بن إسحاق. وأن الله غفور أي يغفر الذنب. رحيم يرحم العباد على ما فيهم" (12).

(1) بحر العلوم: 1/ 420.

(2)

تفسير سورة المائدة لابن عثيمين: 2/ 426.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 95.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 327.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6867): ص 4/ 1216.

(6)

التفسير الميسر: 124.

(7)

الكشاف: 1/ 682.

(8)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 507.

(9)

بحر العلوم: 1/ 420.

(10)

تفسير الطبري: 11/ 95.

(11)

تفسير القرطبي: 6/ 327.

(12)

أخرجه ابن ابي حاتم (6868): ص 4/ 1216.

ص: 524

قال الراغب: " نبه بذلك أنه تعالى حيث سخر هذه الأمور وبينها دل ذلك أنه فعل ذلك لما أراده من عباده ليثيب المحسن ويعاقب المسىء، وذلك يقتضي أن يعلموا أنه يعاقب قوما ويرحي قوما كيفما تقتضيه حكمته"(1).

الفوائد:

1 -

وجوب العلم عن يقين الله، لقوله:{اعلموا} .

2 -

ان الله تعالى شديد العقاب لمن خالف امره، سواء بفعل ما حرم أو بترك ما اوجب.

3 -

غثبات العقاب: وه مؤاخذة المذنب بما يستحقه من العقوبة.

4 -

ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: «الغفور» ، و «الرحيم» ؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.

فـ «الغفور» : هو الذي تكثر منه المغفرة. وبناء فعول: بناء المبالغة في الكثرة (2).

والفرق بين صيغتي: «الغفار» ، و «الغفور»: أن " «الغفار» (3)، معناه: الستار لذنوب عباده في الدنيا بأن لا يهتكهم ولا يشيدهما عليهم، ويكون معنى «الغفور»: منصرفا إلى مغفرة الذنوب في الآخرة، والتجاوز عن العقوبة فيها"(4).

(1) تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 459.

(2)

انظر: شأن الدعاء: 1/ 65.

(3)

قال الخطابي: " الغفار: هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى. كلما تكررت التوبة في الذنب من العبد تكررت المغفرة. كقوله -سبحانه-: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82].

وأصل الغفر في اللغة: الستر والتغطية، ومنه قيل لجنة الرأس: المغفر، وبه سمي زئبر الثوب غفرا وذلك لأنه يستر سداه؛ فالغفار: الستار لذنوب عباده، والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته. ومعنى الستر في هذا أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم ويقال: إن المغفرة مأخوذة من الغفر: وهو فيما حكاه بعض أهل اللغة نبت يداوى به الجراح، يقال إنه إذا ذر عليها دملها وأبراها". [شأن الدعاء: 1/ 52 - 53، وانظر: اللسان وتاج العروس، مادة"غفر"].

(4)

شأن الدعاء: 1/ 65.

ص: 525

و «الرحيم» : أي: ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء (1).

قال الشيخ ابن عثيمين: " «الرحيم»: أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده"(2).

القرآن

{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)} [المائدة: 99]

التفسير:

يبيِّن الله تعالى أن مهمة رسوله صلى الله عليه وسلم هداية الدلالة والتبليغ، وبيد الله -وحده- هداية التوفيق، وأن ما تنطوي عليه نفوس الناس مما يُسرون أو يعلنون من الهداية أو الضلال يعلمه الله.

سبب النزول:

قال مقاتل: "ثم قال- عز وجل: {ما على الرسول} محمد- صلى الله عليه وسلم {إلا البلاغ} في أمر حجاج اليمامة شريح بن ضبيعة وأصحابه، {والله يعلم ما تبدون}، يعني: ما تعلنون بألسنتكم و {ما تكتمون}، من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم"(3).

قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99]، أي:" أي ليس على الرسول إلا أداء الرسالة وتبليغ الشريعة"(4).

قال السمرقندي: " يعني: أن الرسول ليس عليه طلب سرائرهم، وإنما عليه بتبليغ الرسالة"(5).

قال الطبري: " وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد. يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، أيها الناس، بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا، ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية"(6).

(1) انظر: تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة: 1/ 188، وشرح أسماء الحسنى في ضوء الكتاب والسنة:84.

(2)

تفسير ابن عثيمين الفاتحة والبقرة: 1/ 5.

(3)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 507.

(4)

صفوة التفاسير: 1/ 340.

(5)

بحر العلوم: 1/ 421.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 95.

ص: 526

قال أبو حيان: " لما تقدم الترغيب والترهيب أخبر تعالى أنه كلف رسوله بالتبليغ وهو توصيل الأحكام إلى أمته وهذا فيه تشديد على إيجاب القيام بما أمر به تعالى، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط"(1).

قال ابن عطية: " قوله تعالى: {ما على الرسول إلا البلاغ}، إخبار للمؤمنين فلا يتصور أن يقال هي آية موادعة منسوخة بآيات القتال، بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق. فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه، فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ"(2).

قال الزمخشري: قوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} ، " تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط"(3).

قال القرطبي: " أي: ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ وفي هذا رد على القدرية كما تقدم. وأصله البلاغ البلوغ، وهو الوصول. بلغ يبلغ بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وتبلغ تبلغا، وبالغه مبالغة، وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ. وتبالغ الرجل إذا تعاطى البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية، لأنه يبلغ مقدار الحاجة"(4).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون} [المائدة: 99]، أي:" والله لا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأعمالكم وسيجازيكم عليها"(5).

قال محمد بن إسحاق: {وما تكتمون} ، أي: ما تخفون" (6).

قال السمرقندي: أي: "والله تعالى هو الذي يعلم سرائرهم"(7).

(1) البحر المحيط: 4/ 374.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 244.

(3)

الكشاف: 1/ 682.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 327.

(5)

صفوة التفاسير: 1/ 340.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (6869): ص 4/ 1216.

(7)

بحر العلوم: 1/ 421.

ص: 527

قال ابن عطية: أي: "والله تعالى بعد ذلك يعلم ما ينطوي عليه صدره، وهو المجازي بحسب ذلك ثوابا أو عقابا، والبلاغ مصدر من بلغ يبلغ، والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم"(1).

قال الطبري: " يقول: وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به من المعاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به، لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق به بلسانه، {وما تكتمون}، يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق، يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك، لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس، مما في السموات وما في الأرض، وبيده الثواب والعقابفحقيق أن يُتَّقى، وأن يُطاع فلا يعصى"(2).

قال أبو حيان: " جملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطلع على حال العبد ظاهرا وباطنا فهو مجازيه على ذلك ثوابا أو عقابا، ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى ألزم رسوله التبليغ للشريعة وألزمكم أنتم تبليغها فهو العالم بما تبدون منها وما تكتمونه فيجازيكم على ذلك وكان ذلك خطابا لأمته إذا كان الإبداء والكتم يمكن صدورهما منهم بخلاف الرسول فإنه يستحيل عليه أن يكتم شيئا من شرائع الله تعالى"(3).

قال القرطبي: " {ما تبدون}، أي: تظهرونه، يقال: بدا السر وأبداه صاحبه يبديه. {وما تكتمون}، أي: ما تسرونه وتخفونه في قلوبكم من الكفر والنفاق"(4).

واختلف المفسرون في هذه الآية هل هي محكمة، أم لا؟ على قولين:

(1) المحرر الوجيز: 2/ 244.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 95.

(3)

البحر المحيط: 4/ 375.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 327.

ص: 528

أحدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ، وليس عليه الهدى (1).

والثاني: أنها تتضمن الاقتصار على التبليغ دون الأمر بالقتال ثم نسخت بآية السيف (2).

قال ابن الجوزي: "والأول أصح"(3).

الفوائد:

1 -

وجوب إبلاغ الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن «على» ظاهرة في الوجوب في قوله:{ما على الرسول إلا البلاغ} .

2 -

أنه ليس على النبي-صلى الله عليه وسلم أن يجبر الناس على ان يهتدوا، ويؤيد هذا آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99].

3 -

غثبات رسالة النبي-صلى الله عليه وسلم.

4 -

تحذير المبلغين من المخالفة، لأن إخباره بعلمه بعد أن قال:{ما على الرسول إلا البلاغ} ، فيه التهديد والوعيد على من خالف.

5 -

سعة علم الله وعمومه، لقوله تعالى:{ما تبدون وما تكتمون} ، وهذا عام للأمة كلها.

6 -

الرد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان ليس له إرادة، وهذا مأخوذ من قوله:{ما تبدون وما تكتمون} ، فالإنسان يريد أن يبدي ويريد أن يكتم، وهذا هو غثبات الإرادة للعبد.

القرآن

{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)} [المائدة: 100]

التفسير:

(1) ذكره ابن حزم في ناسخه (337) وابن سلامة في ناسخه ص: 42. وابن الجوزي في نواسخ القرآن: 2/ 414 - 415، وزاد المسير: 2/ 432، ومختصر عمدة الراسخ ورقة (6)، ولم يعرض النحاس والمكي لدعوى النسخ هنا.

(2)

انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 414 - 415، وزاد المسير: 1/ 589.

(3)

نواسخ القرآن: 2/ 415.

ص: 529

قل -أيها الرسول-: لا يستوي الخبيث والطيب من كل شيء، فالكافر لا يساوي المؤمن، والعاصي لا يساوي المطيع، والجاهل لا يساوي العالم، والمبتدع لا يساوي المتبع، والمال الحرام لا يساوي الحلال، ولو أعجبك -أيها الإنسان- كثرة الخبيث وعدد أهله. فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة باجتناب الخبائث، وفعل الطيبات; لتفلحوا بنيل المقصود الأعظم، وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة.

في سبب النزول الآية قولان:

أحدهما: عن جابر؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب، ألا أن الخمر لُعن شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها"، فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله! إني كنت رجلًا كانت هذه تجارتي، فاقتنيت مع بيع الخمر مالًا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة؛ إن الله لا يقبل إلا الطيب"؛ فأنزل الله -تعالى- تصديقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} " (1). [ضعيف]

(1) أخرجه الواحدي في "أسباب النزول": 210، عن الحاكم نا محمد بن القاسم المؤدب قال: ثنا إدريس بن علي الرازي ثنا يحيى بن الضريس ثنا سفيان عن محمد بن سوقة عن ابن المنكدر عن جابر به.

قلنا: وهذا سند ضعيف؛ شيخ الحاكم ما كان بشيء؛ كما قال الدارقطني، وإدريس بن علي الرازي لم نجد له ترجمة بعد طول بحث.

وعزاه السيوطي في اللباب (ص 114) للأصبهاني في الترغيب والواحدي.

ص: 530

والثاني: أنها نزلت في شأن حجاج اليمامة شريح بن ضبيعة حين أراد المسلمون أخذ ماله، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأخبرهم أن أخذ ماله حرام. قاله الكلبي (1)، وذكره السمرقندي (2) والثعلبي (3)، والبغوي (4)، والزمخشري (5)، وغيرهم.

قوله تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100]، أي:" أي قل يا محمد لا يتساوى الخبيث والطيّب"(6).

قال الطبري: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد، والصالح والطالح، والمطيع والعاصي"(7).

قال السمرقندي والثعلبي والبغوي وابن أبي زمنين: يعني: "لا يستوي الحلال والحرام"(8).

وفي «الخبيث» و «الطيب» أربعة:

أحدها: أن " {الخبيث}، هم المشركون و {الطيب}، هم المؤمنون". قاله السدي (9).

والثاني: أن {الخبيث} ، و {الطيب}: الحلال ولاحرام. قاله ابن عباس (10)، والحسن (11).

والثالث: أنهما: المطيع والعاصي (12).

والرابع: وقيل: الرديء والجيد. ذكره الماوردي (13).

(1) انظر: بحر العلوم: 1/ 421.

(2)

انظر: بحر العلوم: 1/ 421.

(3)

انظر: الكشف والبيان: 4/ 113.

(4)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 105.

(5)

انظر: الكشاف: 1/ 683.

(6)

صفوة التفاسير: 340.

(7)

تفسير الطبري: 11/ 96.

(8)

بحر العلوم: 1/ 421، والكشف والبيان: 4/ 113، وتفسير البغوي: 3/ 104، تفسير ابن ابي زمنين: 2/ 49.

(9)

أخرجه الطبري (12793): ص 11/ 97.

(10)

حكاه عن ابن عباس ابن الجوزي في زاد النسير: 1/ 590.

(11)

حكاه عنه القرطبي في تفسيره: 6/ 327.

(12)

انظر: زاد المسير: 1/ 590.

(13)

اظر: النكت والعيون: 2/ 70.

ص: 531

قال القرطبي: وهذا على ضرب المثال، والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميل العاقبة، قال الله تعالى:{والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} [الأعراف: 58]، ونظير هذه الآية قوله تعالى:{أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28] وقوله: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الجاثية: 21]، فالخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا، ولا مكانا ولا ذهابا، فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار وهذا بين. وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة، ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج" (1).

قال الزمخشري: " البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريبا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإن ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازى النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم"(2).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 327 - 328.

(2)

الكشاف: 1/ 682.

ص: 532

قال ابن عطية: " لفظ [الآية] عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها، ف الخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة، والطيب ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا} [الأعراف: 58] والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك، وهكذا هو الخبث في الإنسان، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان فساد نسبه، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد"(1).

قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، أي:" ولو أعجبك -أيها الإنسان- كثرة الخبيث وعدد أهله"(2).

قال الطبري: " ولو كثر أهل المعاصى فعجبت من كثرتهم، لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا، يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصى الله فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم"(3).

قال السمرقندي: " يعني: كثره مال شريح بن ضبيعة"(4).

قال ابن أبي زمنين: يعني: "كثرة الحرام"(5).

قال ابن كثير: " يعني: أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار، كما جاء في الحديث:«ما قَلَّ وكَفَى، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى» (6)

(1) المحرر الوجيز: 3/ 244 - 245.

(2)

التفسير الميسر: 124.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 96.

(4)

بحر العلوم: 1/ 421.

(5)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 49.

(6)

أخرجه أحمد (21721): ص 36/ 52 - 53، وأخرجه مختصرا أبو نعيم في "الحلية" 9/ 60، من طريق خليد العصري، وهو ابن عبد الله، وإسناده حسن.

وأخرجه الطيالسي (979)، وعبد بن حميد (207)، والطبري في مسند ابن عباس من "تهذيب الآثار" 1/ 266 و 267 و 269، وابن حبان (686) و (3329)، والطبراني في "الأوسط"(2912)، وابن السني في "القناعة"(22) و (23) و (24)، والحاكم 2/ 444 - 445، وأبو نعيم في "الحلية" 1/ 226، والقضاعي في "مسند الشهاب"(810)، والبيهقي في "الشعب"(3412)، والبغوي في

"شرح السنة"(4045) من طرق عن قتادة.

وأخرجه أبو الشيخ في "الأمثال"(188) من طريق أحمد بن عبيد. وهو ضعيف.

ص: 533

" (1).

وروي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه"(2).

قال يعقوب بن عبد الرحمن الإسكندراني: "كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يذكر أن الخراج قد انكسر، فكتب إليه عمر، يقول: إن الله يقول: {لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث}، وكتب عمر إلى بعض عماله: إن استطعت أن تكون في العدل والإصلاح والإحسان بقولة من كان قبلك في الظلم والفجور والعدوان فافعل ولا قوة إلا بالله"(3).

ويحتمل الخطاب في قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، وجهان (4):

أحدهما: قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه الخبيث.

والثاني: وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال.

قال ابن الجوزي: " معنى «الإعجاب» هاهنا: السرور بما يتعجب منه"(5).

قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [المائدة: 100]، أي:" فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يا ذوي العقول"(6).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 203.

(2)

رواه ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 201) وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 284) من طريق معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن به، وفي إسناده علي بن يزيد الألهاني وهو متروك ..

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6871): ص 4/ 1216.

(4)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 329 - 330.

(5)

انظر: زاد المسير: 1/ 590.

(6)

صفوة التفاسير: 340.

ص: 534

قال سعيد بن جبير: " {فاتقوا الله}، يعني: المؤمنين يحذرهم"(1)، " {يا أولي الألباب}، يقول: من كان له لب أو عقل"(2).

قال الطبري: أي: " واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم، واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث، فتصيروا منهم، {يا أولي الألباب}، يعني: بذلك أهلَ العقول والحِجَى، الذين عقلوا عن الله آياته، وعرفوا مواقع حججه"(3).

قال ابن كثير: " أي: يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة، وتجنبوا الحرام ودعوه، واقنعوا بالحلال واكتفوا به"(4).

قال السمرقندي: أي: " لا تستحلوا ما حرم الله عليكم، يا ذوي العقول"(5).

قال الزمخشري: أي: " فاتقوا الله وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر"(6).

وقال الثعلبي: أي: " ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين"(7).

قال ابن عطية: " قوله تعالى: {فاتقوا الله يا أولي الألباب} ، تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل، وخص أولي الألباب بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذي لا ينبغي لهم إهمالها مع البهائم وإدراكهم وكأن الإشارة بهذه الألباب إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد (8).

قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]، أي:" لتفلحوا بنيل المقصود الأعظم، وهو رضا الله تعالى والفوز بالجنة"(9).

قال ابن كثير: " أي: في الدنيا والآخرة"(10).

قال السمرقندي: " يعني: تأمنون من عذابه"(11).

(1) اخرجه ابن أبي حاتم (6873): ص 4/ 1217.

(2)

اخرجه ابن أبي حاتم (6874): ص 4/ 1217.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 97.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 203.

(5)

بحر العلوم: 1/ 421.

(6)

الكشاف: 1/ 682.

(7)

تفسير الثعلبي: 4/ 113.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 245.

(9)

التفسير الميسر: 124.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 203.

(11)

بحر العلوم: 1/ 421.

ص: 535

قال الطبري: " يقول: اتقوا الله لتفلحوا، أي: كي تنجحوا في طلبكم ما عنده"(1).

الفوائد:

1 -

انه لايستوي الخبيث والطيب عند الله عز وجل ولا عند أصحاب العقول، وهذا من مراتبهم عند الله وعند ذوي العقول، وأما فيما يعملون من امور الدنيا فإنه قد يكون الخبيث أكثر من الطيب عملا، كما هو المشاهد الآن، فإن الدول الكافرة أقدم من الدول المسلمة فيما يتعلق بأمور الدنيا.

2 -

أن الاعتبار بالكيف وليس بالكم، لقوله:{ولو أعجبك كثرة الخبيث} .

3 -

ومنها ان الإنسان قد يعجب بما ليس محلا للإعجاب، لقوله:{ولو أعجبك كثرة الخبيث} .

4 -

وجوب تقوى الله عز وجل، وأن الذين يخاطبون بالتقوى وبمثل هذه الاحكام العظيمة هم اصحاب العقول.

5 -

ومنها: أن المؤمن خير من المشرك؛ ولو كان في المشرك من الأوصاف ما يعجب؛ لقوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة: 100]؛ فلا تغتر بالكثرة؛ ولا تغتر بالمهارة؛ ولا بالجودة؛ ولا بالفصاحة؛ ولا بغير ذلك؛ ارجع إلى الأوصاف الشرعية المقصودة شرعاً.

6 -

ان التقوى سبب للفلاح، لقوله:{لعلكم تفلحون} .

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]

التفسير:

(1) تفسير الطبري: 11/ 97.

ص: 536

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين لم تؤمروا فيها بشيء، كالسؤال عن الأمور غير الواقعة، أو التي يترتب عليها تشديدات في الشرع، ولو كُلِّفتموها لشقَّتْ عليكم، وإن تسألوا عنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين نزول القرآن عليه تُبيَّن لكم، وقد تُكلَّفونها فتعجزون عنها، تركها الله معافيًا لعباده منها. والله غفور لعباده إذا تابوا، حليم عليهم فلا يعاقبهم وقد أنابوا إليه.

في سبب نزولها ستة أقوال:

أحدها: أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضبا خطيبا، فقال:«سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم» ، فقام رجل من قريش، يقال له: عبد الله بن حذافة كان إذا لاحى (1) يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام عمر فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا حديثو عهد بجاهلية، والله أعلم من أباؤنا، فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن أبي هريرة (2)، وقتادة عن أنس (3). [صحيح]

(1) لاحى: أي خاصم.

(2)

. حديث صحيح. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه الطبري (12802): ص 11/ 103، وفيه قيس بن الربيع، وهو غير قوي، لكن للحديث شواهد كثيرة منها الآتي.

(3)

أخرجه البخاري 4621 و 4362 و 7295 ومسلم 2359 والنسائي في «التفسير» 174 والترمذي 3056 وابن حبان 6429 والبغوي في «التفسير» 839 من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، وطوله بعضهم. انظر «أحكام القرآن» 801.

ص: 537

والثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس، فقال:«إن الله كتب عليكم الحج، فقام عكاشة ابن محصن، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكت عنكم، فإنما هلك من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم» فنزلت هذه الآية، رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة (1). وقيل: إن السائل عن ذلك الأقرع بن حابس. [صحيح]

والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجويرية عن ابن عباس (2). [صحيح]

والرابع: أن قوما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس (3)، وبه قال ابن جبير (4). [ضعيف]

والخامس: أن قوما كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنهوا عن ذل، روي هذا المعنى عن عكرمة (5).

(1) صحيح. أخرجه مسلم 1337 والنسائي 5/ 110 - 111 وأحمد 2/ 508 وابن حبان 3704 و 3705 والبيهقي 4/ 326 والدارقطني 2/ 281 والطبري (12805): ص 11/ 105، وأخرجه الطبري (12804): ص 11/ 105 من طريق عبد الرحيم بن سليمان والدارقطني 2/ 282 عن محمد بن فضيل، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم الهجري- وهو ضعيف- عن أبي عياض عن أبي هريرة ..

(2)

صحيح. أخرجه البخاري 4622 والطبري 12798 والطبراني 12695 والواحدي 418 والبغوي 842 كلهم عن ابن عباس به. وانظر «أحكام القرآن» 802.

(3)

أخرجه الطبري (12811): 11/ 111 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه خصيف الجزري، وهو صدوق لكنه سيء الحفظ كثير الخطأ، وكرره الطبري (12812): ص 11/ 111 - 112 عن عكرمة مرسلا، وهو أصح، والمتقدم عن ابن عباس أصح، وكذا المتقدم عن أنس وأبي هريرة.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12812): ص 11/ 111 - 112.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12811): 11/ 111، وزاد المسير: 1/ 591.

ص: 538

والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن الله تعالى أذن لنا في قتال المشركين، وسؤالهم عن أحب الأعمال إلى الله، ذكره أبو سليمان الدمشقي (1).

والظاهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سئل مسائل كثيرة، فنزلت هذه الآية في ذلك جميعا، والله أعلم.

قال ابن عطية: " والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية"(2).

قال ابن كثير: " وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها"(3).

قال الإمام الطبري: " وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ، كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه، ومسألة سائله إذ قال: " الله فرض عليكم الحج "، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل، لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل.

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 591.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 246.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 206.

ص: 539

وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس، فقولٌ غير بعيد من الصواب، ولكنْ الأخبارُ المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه، وكرهنا القولَ به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسئلة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها، كما كره الله لهم المسألة عن الحج:" أكل عام هو، أم عامًا واحدًا "؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه، فنزلت الآية بالنهي عن المسائل كلِّها، فأخبرَ كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله، وأجل غيره، وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة، لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاحٌ، فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أولى" (1).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 101]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(2).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يا أيها الذين آمنوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(3).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(4).

قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، أي:" لا تسألوا الرسول عن أمور لا حاجة لكم بها إن طهرت لكم ساءتكم"(5).

(1) تفسير الطبري: 11/ 112.

(2)

التفسير الميسر: 1/ 124.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(5)

صفوة التفاسير: 340.

ص: 540

قال ابن عباس: " نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة فـ {أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِين} (1)، فنهاهم الله عن ذلك وقال: {لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}، إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك"(2).

قال الحسن: " فسألوه عن أشياء فوعظهم الله فاتعظوا"(3).

قال البيضاوي: " المعنى: لا تسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن تظهر لكم تغمكم"(4).

قال الزمخشري: " المعنى: لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها"(5).

قال ابن كثير: " تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا {عَنْ أَشْيَاءَ} مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (6) "(7).

وقرأ مجاهد «إن تبد» بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم» بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم» بالياء من أسفل، أي يبده الله لكم (8).

(1)[المائدة: 102].

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (6881): ص 4/ 1218 - 1219.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (6880): ص 4/ 1218.

(4)

تفسير البيضاوي: 2/ 145.

(5)

الكشاف: 1/ 683.

(6)

رواه أبو داود في السنن برقم (4860) والترمذي في السنن برقم (3896) من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 203.

(8)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 246.

ص: 541

قوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]، أي:" وإن تسألوا عنها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين نزول القرآن عليه تُبيَّن لكم"(1).

قال ابن عباس: " ولكن إنتظروا فإذا نزل القرآن فأنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه"(2).

قال السمعاني: " معناه: وإن صبرتم حتى ينزل القرآن؛ وجدتم فيه بيان ما تحتاجون إليه"(3).

قال البيضاوي: أي: "وإن تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم"(4).

قال الزمخشري: أي: " وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحى وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه، تبد لكم، تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها"(5).

قال ابن كثير: " أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: «أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته» (6)، ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها"(7).

(1) التفسير الميسر: 1/ 124.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (6881): ص 4/ 1218 - 1219.

(3)

تفسير السمعاني: 2/ 71.

(4)

تفسير البيضاوي: 2/ 145 - 146.

(5)

الكشاف: 1/ 683 - 684.

(6)

رواه البخاري في صحيحه برقم (7289) ومسلم في صحيحه برقم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 206.

ص: 542

قال القرطبي: قوله {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} "فيه غموض، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ثم قال: {وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم}، فأباحه لهم، فقيل: المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف. قال الجرجاني: الكناية في {عنها} ترجع إلى أشياء أخر، كقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} [المؤمنون: 12] يعني آدم، ثم قال: {ثم جعلناه نطفة} [المؤمنون: 13] أي ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال، فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم، فقد أباح هذا النوع من السؤال: ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يجر ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل: {واللائي يئسن من المحيض} [الطلاق: 4]، فالنهي إذا في شي لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، فأما ما مست الحاجة إليه فلا"(1).

قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101]، أي:" أي عفا الله عن مسائلكم السالفة التي لا ضرورة لها وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية فلا تعودوا إلى مثلها"(2).

قال الزمخشري: أي: " من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها"(3).

قال ابن كثير: " أي: ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها"(4).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 333 - 334.

(2)

صفوة التفاسير: 340.

(3)

الكشاف: 1/ 684.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 207.

ص: 543

قال القرطبي: " أي: عن المسألة التي سلفت منهم. وقيل: عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها. وقيل: العفو بمعنى الترك، أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه ساءكم"(1).

وفي الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تُرِكْتُم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» (2).

وفي الحديث الصحيح أيضًا: " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها"» (3).

قال عطاء: " كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحلّ وحرَّم، فما أحلّ فاستحلُّوه، وما حرَّم فاجتنبوه، وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه. ثم يتلو: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} " (4).

وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني: "إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا"(5).

(1) تفسير القرطبي: 6/ 334.

(2)

) صحيح مسلم برقم (1337).

(3)

رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/ 13) من طريق داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به مرفوعًا.

(4)

أخرجه ابن ابي شيبة: 13/ 442، والطبري (12814): ص 11/ 114.

(5)

خرجه الدارقطني - ج 4/ص 185، (42).

ص: 544

والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير، أي:"لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما. وقيل: ليس فيه تقديم ولا تأخير، بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعودوا لأمثالها. فقوله: {عنها}، أي: عن المسألة، أو عن السؤالات كما ذكرناه"(1).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]، أي:" والله غفور لعباده إذا تابوا، حليم عليهم فلا يعاقبهم وقد أنابوا إليه"(2).

قال الزمخشري: أي: "لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته"(3).

الفوائد:

1 -

كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها.

2 -

أن ما سكت الله عنه فلم يفرضه، ولم يحده، ولم ينه عنه فهو الحلال، لكن هذا في غير العبادات، فالعبادات قد حرم الله عز وجل أن يشرع أحد الناس عبادة لم يأذن بها الله عز وجل.

ولهذا نقول: إن من ابتدع في دين الله ما ليس منه من عقيدة أو قول أو عمل فقد انتهك حرمات الله، ولا يقال هذا مما سكت الله عز وجل عنه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل عليها، وغير ذلك الأصل فيه الإباحة، فما سُكِتَ عنه فهو مباح.

3 -

أنه لا ينبغي البحث عما سكت الله تعالى عنه ورسوله.

وهل هذا النهي في عهد الرسالة، أم إلى الآن؟ في هذا قولان للعلماء:

أحدهما: أن هذا خاص في عهد الرسالة، لأن ذلك عهد نزول الوحي، فقد يسأل الإنسان عن شيء لم يُحرم فيحرم من أجله، أو عن شيء لم يجب فيوجب من أجله، كما سأل الأقرع بن حابس النبي صلى الله عليه وسلم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيكُم الحَجَّ» فقام الأقرع وقال: يا رسول الله أفي كل عام؟

(1) تفسير القرطبي: 6/ 334.

(2)

التفسير الميسر: 1/ 124.

(3)

الكشاف: 1/ 684.

ص: 545

وهذا سؤال في غير محله، اللهم إلا إذا كان الأقرع بن حابس أراد أن يزيل الوهم الذي قد يعلق في أفهام بعض الناس، فالله أعلم بنيته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَو قُلتُ نَعَم لَوَجَبَت وَمَا استَطَعتُم، الحَجَّ مَرَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوع» (1).

من أعظم الناس جرماً من يسأل فيوجب من أجل مسألته عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته، أو لم يوجب.

والثاني: أن النهي باق بعد عهد الرسالة.

والصواب في هذه المسالة أن النهي حتى بعد عهد الرسالة إلا أنه إذا كان المراد بالبحث الاتساع في العلم كما يفعله طلبة العلم، فهذا لا بأس به، لأن طالب العلم ينبغي أن يعرف كل مسألة يحتمل وقوعها حتى يعرف الجواب، وأما إذا لم يكن كذلك فلا يبحث، بل يمشي على ما كان عليه الناس.

فلا نبحث عن مسائل الغيب ونتعمق فيها، ولا نبحث في صفات الله عز وجل عن كيفيتها، لأن هذا من التعمق، ولا نأتي بمعضلات المسائل التي فيها: أرأيت إن كان كذا، ولو كان كذا، ولو كان كذا كما يوجد من بعض طلبة العلم الآن، يوجد أناس يفرضون مسائل ليست واقعة ولن تقع فيما يظهر، ومع ذلك يسألون، وهم ليسوا في مكان البحث، بل يسألون سؤالاً عاماً، فهذا لا ينبغي.

(1) خرجه أبو داود - كتاب: المناسك، باب: فرض الحج، (1721)، الإمام أحمد بن حنبل - ج 1/ص 255، مسند آل العباس عن عبد الله بن عباس، (2304). وابن ماجه - كتاب: المناسك، باب: فرض الحج، (2886). وأخرج مسلم "في معناه" - كتاب: الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، (1337)، (412).

ص: 546

وقد كره الشيخ ابن عثيمين (1) البحث عن اللحوم وعن الأجبان وعما يرد إلى البلاد من بلاد الكفاروذلك كما روي ابن عمر رضي الله عنهما لما سئل ابن عمر عن الجبن الذي يصنعه المجوس فقال: "ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته، ولم أسأل عنه"(2).

ومراد الشيخ ابن عثيمين بكلامه: أن الفعل الصادر ممن هو أهله، جار على أصل الصحة والسلامة؛ فالمسلم: أهل لأن يذبح ذبيحة شرعية، فإذا صدر منه الذبح، حمل على ظاهر الصحة والسلامة، ولم يحتج إلى سؤاله: عن كيفية ذبحه، وهل سمى أو لم يسم، ونحو ذلك، اكتفاء بظاهر الحال، والعلماء يقررون أن ظاهر الحال يرفع أصل التحريم في كثير من الصور.

قال ابن قيم: " وأجمعوا على جواز شراء اللحمان من غير سؤال عن أسباب حلها، اكتفاء بقول الذابح والبائع، حتى لو كان الذابح يهوديّاً أو نصرانيّاً أو فاجراً: اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل "(3).

والظاهر في اللحم الوارد من دول غير إسلامية إذا كان الذين يباشرون ذبحه من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنه يجوز أكله، ولا ينبغي السؤال عن كيفية ذبحه، ولا هل سَمُّوا عليه أم لا؟ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل الشاة التي أهدتها إليه اليهودية في خيبر، وأكل من الطعام الذي دعاه إليه يهودي، وكان فيه إهالة سنخة، وهي الشحم المتغير، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف ذبحوه؟ ولا هل سموا عليه أم لا؟

(1) هذا رأي ابن عثيمين، كما في مجموع فتاوى: 36/ 6، وشرح الحديث الثلاثون من الأربعون النوويه.

(2)

مصنف عبدالرزاق (8785): ص 4/ 539.

(3)

إعلام الموقعين: 2/ 181، وانظر: الأشباه والنظائر: 140.

ص: 547

وفي صحيح البخاري: "أَنَّ قَوْمًا قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا، فَقَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوهُ. قَالَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها راوية الحديث: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ"(1).

قال ابن حجر: "ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين؛ لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية، وبهذا الأخير جزم ابن عبد البر فقال: فيه أن ما ذبحه المسلم يؤكل ويحمل على أنه سمَّى؛ لأن المسلم لا يظن به في كل شيء إلا الخير، حتى يتبين خلاف ذلك "(2).

ففي هذه الأحاديث دليل على أنه لا ينبغي السؤال عن كيفية الواقع إذا كان المباشر له معتبر التصرف، وهذا من حكمة الشرع وتيسيره؛ إذ لو طلب من الناس أن ينقبوا عن الشروط فيما يتلقونه من صحيح التصرف لكان في ذلك من المشقة والحرج النفسي مما يجعل الشريعة شريعة حرج ومشقة.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " يقول السائل: ما حكم أكل اللحوم المجمدة التي تصل إلينا من الخارج، وبصفة خاصة لحم الدجاج؟

(1) فتح الباري (5188): ص 9/ 550.

(2)

فتح الباري: 9/ 550 ..

ص: 548

فأجاب رحمه الله تعالى: " اللحوم التي تأتي من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى: الأصل فيها الحل، كما أن اللحوم التي تأتي من البلاد الإسلامية الأصل فيها الحل أيضاً، وإن كنا لا ندري كيف ذبحوها، ولا ندري هل سموا الله عليها أم لا؛ لأن الأصل في الفعل الواقع من أهله أن يكون واقعاً على السلامة وعلى الصواب حتى يتبين أنه على غير وجه السلامة والصواب. ودليل هذا الأصل ما ثبت في صحيح البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن قوماً قالوا يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم، لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«سموا أنتم وكلوا» (1). قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.

ففي هذا الحديث: دليل على أن الفعل إذا وقع من أهله فإنه لا يلزمنا أن نسأل هل أتى به على الوجه الصحيح أم لا؟

وبناء على هذا الأصل: فإن هذه اللحوم التي تردنا من ذبائح أهل الكتاب: حلال، ولا يلزمنا أن نسأل عنها، ولا أن نبحث.

لكن لو تبين لنا أن هذه اللحوم الواردة بعينها تذبح على غير الوجه الصحيح فإننا لا نأكلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر أما السن فعظم وأما الظفر مدى الحبشة» (2).

ولا ينبغي للإنسان أن يتنطع في دينه فيبحث عن أشياء لا يلزمه البحث عنها، ولكن إذا بان له الفساد، وتيقنه: فإن الواجب عليه اجتنابه.

فإن شك وتردد: هل تذبح على طريق سليم أم لا؟

فإن لدينا أصلين: الأصل الأول: السلامة، والأصل الثاني: الورع؛ فإذا تورع الإنسان منها، وتركها: فلا حرج عليه. وإن أكلها: فلا حرج عليه " (3).

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين الكريمين: «الغفور» ، و «الحليم» ؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.

(1) سبق تخريجه.

(2)

صحيح مسلم (1968): ص 13/ 106.

(3)

نور على الدرب" ابن عثيمين: 20/ 2 [شاملة].

ص: 549

فـ «الغفور» : هو الذي تكثر منه المغفرة. وبناء فعول: بناء المبالغة في الكثرة (1).

و«الحليم» ؛ هو ذو الصفح، والأناة، الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص، ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحلم؛ إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة، والمتأني الذي لا يعجل بالعقوبة.

وقد أنعم بعض الشعراء بيان هذا المعنى في قوله (2):

لا يدرك المجد أقوام وإن كرموا

حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام

ويشتموا فترى الألوان مسفرة

لا صفح ذل ولكن صفح أحلام

ويقال: لم يصف الله -سبحانه- أحدا من خلقه بصفة أعز من الحلم، وذلك حين وصف إسماعيل به. ويقال: إن أحدا لا يستحق اسم الصلاح حتى يكون موصوفا بالحلم، وذلك أن إبراهيم -صلوات الله عليه- دعا ربه فقال:{رب هب لي من الصالحين} [الصافات: 100]، فأجيب بقوله:{فبشرناه بغلام حليم} [الصافات: 101]، فدل على أن الحلم أعلى مآئر الصلاح -والله أعلم (3).

القرآن

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} [المائدة: 102]

التفسير:

إن مثل تلك الأسئلة قد سألها قومٌ مِن قبلكم رسلَهم، فلما أُمِروا بها جحدوها، ولم ينفذوها، فاحذروا أن تكونوا مثلهم.

(1) انظر: شأن الدعاء: 1/ 65.

(2)

البيتان في عيون الأخبار المجلد الأول الجزء 3/ 287، وديوان المعاني 1/ 134، وفي العقد الفريد 2/ 120، وفي البيت الثاني اختلاف في الرواية عما هنا.

والبيت الأول في المصادر السابقة برواية "لن يدرك" وهما في ذيل أمالي القالي ص 41، قال البكري في ذيل اللآلىء ص 22:"البيتان رواهما ثعلب في أماليه، قال: أنشدنا عبد الله بن شبيب قال: أنشدني ابن عائشة لأبي عبيد الله بن زياد الحارثي .... "؛ قلت: لم أجدهما في مجالسه.

(3)

انظر: شأن الدعاء: 63 - 64.

ص: 550

قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 102]، أي:" إن مثل تلك الأسئلة قد سألها قومٌ مِن قبلكم رسلَهم"(1).

قال الطبري: أي: " قد سأل الآيات قومٌ من قبلكم"(2).

قال ابن كثير: "أي: قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم"(3).

قال ابن عطية: أي: "أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم"(4).

في هؤلاء القوم أربعة أقوال:

أحدها: قوم عيسى سألوه المائدة، ثم كفروا بها، قاله ابن عباس (5).

والثاني: أنهم قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصفا ذهباً، قاله السدي (6).

قال ابن عطية: " وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية، فلما شق لهم القمر كفروا، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت"(7).

والثالث: أنهم قوم صالح سألوا الناقة، ثم عقروها وكفروا به.

قلت: وعلى هذه الاقوال الثلاثة أنهم سألوا الآيات.

والرابع: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرة لأجزأت، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم، قاله ابن زيد (8).

قال ابن الجوزي: " وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إذ لو أراد الله أن يشدد عليهم بالزيادة في الفرض لشدد"(9).

(1) التفسير الميسر: 124.

(2)

تفسيرالطبري: 11/ 115.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 207.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 247.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12817): ص 11/ 116.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12818): ص 11/ 116.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 247.

(8)

انظر: زاد المسير: 1/ 592.

(9)

زاد المسير: 1/ 592.

ص: 551

والخامس: أنهم الذين قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، وهذا عن ابن زيد أيضا (1).

قال ابن الجوزي: "وهو يخرج على من قال: إنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنيا لذلك"(2).

والسادس: أنهم القوم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أبي؟ ونحوه، فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به، قاله بعض المتأخرين (3).

قال ابن العربي: " والصحيح أنه عام في الكل، ولقد كفرت العيسوية بعيسى وبالمائدة، والصالحية بالناقة، والمكية بكل ما شهدت من آية، وعاينت من معجزة مما سألته ومما لم تسأله على كثرتها؛ وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم"(4).

وقرأ عامة الناس: «قد سألها» بفتح السين. وقرأ إبراهيم النخعي: «قد سألها» بكسر السين، والمراد بهذه القراءة الإمالة، وذلك على لغة من قال سلت تسأل، وحكي عن العرب هما يتساولان، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت (5).

قوله تعالى: {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102]، أي:" فلما أُمِروا بها جحدوها، ولم ينفذوها"(6).

قال ابن عطية: أي: " ثم كفروا بها"(7).

قال البغوي: أي: " فأهلكوا"(8).

قال ابن كثير: أي: " أجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي: بسببها، أي: بينت لهم ولم ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد"(9).

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 592.

(2)

زاد المسير: 1/ 592.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 72.

(4)

أحكام القرآن: 2/ 215.

(5)

انظر: المحرر الوجيز: 2/ 246.

(6)

التفسير الميسر: 124.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 247.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 106.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 207.

ص: 552

قال الطبري: فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين، منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتُجَّ بها عليهم، وبرهانًا على صحة ما جُعلت برهانًا على تصحيحه كقوم صالح الذين سألوا الآيةَ، فلما جاءتهم الناقة آيةً عقروها وكالذين سألوا عيسى مائدة تنزل عليهم من السماء، فلما أعطوها كفروا بها، وما أشبه ذلك، فحذَّر الله تعالى المؤمنين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها، فقال لهم: لا تسألوا الآيات، ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فقد سأل الآيات من قبلكم قومٌ، فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين" (1).

قال القرطبي: " أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا: ليست من عند الله، وذلك كسؤال قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة، وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم"(2).

وقال ابن أبي زمنين: " {ثم أصبحوا بها كافرين}، يعني: أهل الكتاب: حدثنا يحيى، وبلغني أنها في قراءة أبي بن كعب: «قد سألها قوم من قبلكم فبينته لهم»، فأصبحوا بها كافرين"(3).

قال الماتريدي: " هذا يدل على أن النهي عن السؤال في الآي لأحد شيئين:

- إما أن سألوا الآيات عنه بعد ما ظهرت وثبتت لهم رسالته، فلما أتى بها كفروا بها؛ ألا ترى أنه قال:{قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} ، وقد كان الأمم السالفة يسألون من الرسل عليهم السلام الآيات بعد ظهورها عندهم.

- ويحتمل: ما ذكرنا من قولهم: أين نحن؟ ومن أبي؟ ومن أنا؟ ونحوه، فلما أن أخبرهم بذلك كفروا به" (4).

(1) تفسيرالطبري: 11/ 115.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 334.

(3)

تفسير ابن أبي زمنين: 2/ 49.

(4)

تفسير الماتريدي: 3/ 632 - 633.

ص: 553

وإن قال قائل: ما ذكرتم من كراهية السؤال والنهي عنه، يعارضه قوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الانبياء: 7]؟

فالجواب، أن هذا الذي أمر الله به عباده هو ما تقرر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبد الله عباده به، ولم يذكره في كتابه" (1).

وقد روي عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته» (2).

قال الخطابي: هذا في مسالة من يسأل عبثاً وتكلفاً فيما لا حاجة به إليه، دون من سأل سؤال حاجة وضرورة كمسألة بني إسرائيل في شأن البقرة. وذلك أن الله سبحانه أمرهم أن يذبحوا بقرة، فلو استعرضوا البقر، فذبحوا منها بقرة لأجزأتهم. كذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير الآية، فما زالوا يسألون ويتعنتون حتى غلظت عليهم وأمروا بذبح البقرة على النعْت الذي ذكره الله في كتابه، فعظمت عليهم المؤنة، ولحقتهم المشقة في طلبها حتى وجدوها فاشتروها بالمال الفادح فذبحوها وما كادوا يفعلون.

وأما ما كان سؤاله استبانة لحكم واجب، واستفادة لعلم قد خفي عليه فإنه لا يدخل في هذا الوعيد، وقد قال الله سبحانه:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7].

وقد يحتج بهذا الحديث من يذهب من أهل الظاهر إلى أن أصل الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة حتى يقوم دليل على الحظر. وإنما وجه الحديث وتأويله ما ذكرناه، والله أعلم" (3).

الفوائد:

1 -

ضرب الامثال بالأمم السابقين حتى نقتنع بانه لا ينبغي لنا ان نسأل، لأن غيرنا سأل وكفر.

(1) تفسير القرطبي: 6/ 334 - 335.

(2)

أخرجه البخاري (7289)، ومسلم (2358)، وهو في "مسند أحمد"(1545)، وسنن ابي داود (4610): ص 7/ 19 - 20، و"صحيح ابن حبان"(110).

(3)

معالم السنن: 2/ 279.

ص: 554

2 -

النهي عن السؤال الذي لا تدعو الحاجة إليه، أما ما دعت الحاجة إليه من أمور الدين والدنيا، قد شرع الله السؤال عنه بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإن شفاء العي السؤال» (1).

3 -

أن الإنسان لاينبغي أن يتعرض لما قد يكون محنة عليه، ولهذا جاء في الحديث النهي عن أن يتعرض الإنسان لشيء لايستطيعه فإن هذا من البلاء والذل، ربما يؤخذ هذا منهجا حسنا في كل شيء.

قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه"(2).

قال ابن الوزير: " ولا شكَّ أن تَطَلُّب علم ما لا يُعْلَمُ، والشَّرَهَ في ذلك وتحكيم بادىء الرأي فيه، وتقديمه على النصوص هو أساس كلِّ فسادٍ"(3).

القرآن

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)} [المائدة: 103]

التفسير:

ما شرع الله للمشركين ما ابتدعوه في بهيمة الأنعام مِن تَرْك الانتفاع ببعضها وجعلها للأصنام، وهي: البَحيرة التي تُقطع أذنها إذا ولدت عددًا من البطون، والسائبة وهي التي تُترك للأصنام، والوصيلة وهي التي تتصل ولادتها بأنثى بعد أنثى، والحامي وهو الذكر من الإبل إذا وُلد من صلبه عدد من الإبل، ولكن الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراء عليه، وأكثر الكافرين لا يميزون الحق من الباطل.

(1) أخرجه أحمد: 4/ 203، وأبو داود (334)، من طريق عبدالله بن لهيعة. [حديث حسن]

(2)

رواه الترمذي (2254)، وابن ماجة (4016)، وأحمد (23491): ص 5/ 405، عن حذيفة-رضي الله عنه.

(3)

العواصم والقواصم: 5/ 339.

ص: 555

قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103]، أي:" ما شرع الله للمشركين ما ابتدعوه في بهيمة الأنعام مِن تَرْك الانتفاع ببعضها وجعلها للأصنام، وهي: البَحيرة التي تُقطع أذنها إذا ولدت عددًا من البطون، والسائبة وهي التي تُترك للأصنام، والوصيلة وهي التي تتصل ولادتها بأنثى بعد أنثى، والحامي وهو الذكر من الإبل إذا وُلد من صلبه عدد من الإبل"(1).

قال الباقلاني: " أي: لم يفعل ذلك"(2).

قال الواحدي، وابن الجوزي:" أي: ما أوجب ذلك، ولا أمر به"(3).

قال الطبري: أي: " ما بحر الله بحيرة، ولا سيَّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حَمَى حاميًا"(4).

قال الزمخشري: " معنى: {ما جعل}، ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك"(5).

قال الإمام الشافعي: " فهذه: الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها فأبطل الله عز وجل شروطهم فيها، وأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال الله عز وجل إياها"(6).

و«البحيرة» : الفعيلة من قول القائل: بَحَرْت أُذن هذه الناقة، إذا شقها، أبحرُها بحرًا، والناقة: مبحورة، ثم تصرف: المفعولة، إلى: فعيلة، فيقال: هي بحيرة، وأما «البَحِرُ» من الإبل، فهو الذي قد أصابه داءٌ من كثرة شرب الماء، يقال منه: بَحِر البعيرُ يبحر بَحَرًا (7)، ومنه قول الشاعر (8):

لأعْلِطَنَّهُ وَسْمًا لا يُفَارَقُهُ

كَمَا يُحَزُّ بِحَمْيِ المِيسَمِ البَحِرُ

(1) التفسير الميسر: 124.

(2)

الانتصار للقرآن: 2/ 667.

(3)

انظر: الوجيز: 338، وزاد المسير: 1/ 592.

(4)

تفسير الطبري: 11/ 116.

(5)

الكشاف: 1/ 685.

(6)

تفسير الإمام الشافعي: 1/ 142.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 121.

(8)

لم اتعرف على قائله، والبيت في تفسير الطبري: 11/ 121.

ص: 556

قال ابن عطية: " أرى أن «البحيرة» ، تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل (1):

فيه من الأخرج المرتاع قرقرة

هدر الزيامي وسط الهجمة البحر

فإنما يريد النوق العظام وإن لم تكن مشققة الآذان" (2).

وفي «البحيرة» أربعة أقوال:

أحدها: فهي الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه، فأكله الرجال دون النساء، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا: هذه بحيرة، قاله ابن عباس (3)، وذكر السدي نحو ذلك (4)، واختاره ابن قتيبة (5).

والثاني: أنها الناقة تلد خمس إناث ليس فيهن ذكر، فيعمدون إلى الخامسة، فيبتكون أذنها، حكاه ابن الجوزي عن عطاء (6).

والثالث: أنها ابنة السائبة، قاله ابن إسحاق (7)، والفراء (8).

قال ابن إسحاق: السائبة الناقة إذا تابعت بين عشر إناث، ليس بينهن ذكر، سيبت فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى، شقت أذنها، ثم خلّي سبيلها مع امها فلم يركب ظهرها، ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السائبة" (9).

والرابع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها، أي: شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، وإذا لقيها لم يركبها، قاله الزجاج (10).

(1) البيت له في البارع في اللغة: 104، وتهذيب اللغة: 5/ 27، ولسان العرب: 4، 43، وتار العروس، "بحر": ص 10/ 115.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 248.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6887): ص 4/ 1220، وتفسير الطبري (12836): ص 11/ 128 - 129.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6888): ص 4/ 1220 - 1221.

(5)

انظر: غريب القرآن: 147.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 592. ولم أقف عليه.

(7)

انظر: سيرة ابن هشام: 2/ 67، وزاد المسير: 1/ 592.

(8)

انظر: معاني القرآن: 1/ 322.

(9)

سيرة ابن هشام: 2/ 67.

(10)

انظر: مهعاني القرآن: 2/ 213.

ص: 557

وأما «السائبة» ، فإنها المسيبة المخلاة وكانت العرب تفعل ذلك ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها على أنفسها تقرباً إلى الله تعالى (1)، قال الشاعر (2):

عقرتم ناقة كانت لربي

وسائبة فقوموا للعقاب

عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلَّمةً آذانُها، فتأخذ الموسى فتجْدَعها، تقول: هذه بحيرة، وتشق آذانها، تقولون: هذه صَرْم؟ قال: نعم! قال: فإن ساعدَ الله أشدّ، وموسَى الله أحدَ! كلّ مالك لك حلالٌ، لا يحرَّم عليك منه شيء " (3).

وكذا كان بعض أهل الإِسلام يعتق عبده سائبة، ولا ينتفع به ولا بولائه، وكان أبو العالية سائبة فلما أُتِي مولاه بميراثه فقال: هو سائبة وأبى أن يأخذه (4).

وأخرجت المسيبة بلفظ السائبة، كما قيل في عيشة راضية يعني مرضية (5).

وفي «السائبة» خمسة أقوال:

أحدها: أنها التي تسيب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهرا، ولا يحلبون لها لبنا، ولا يجزون منها وبرا، ولا يحملون عليها شيئا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (6).

والثاني: أن الرجل كان يسيب من ماله ما شاء، فيأتي به خزنة الآلهة، " فيطعمون ابن السبيل من ألبانه ولحومه إلا النساء، فلا يطعمونهن شيئا منه إلا أن يموت، فيشترك فيه الرجال والنساء"(7)، رواه أبو صالح عن ابن عباس (8).

(1) انظر: تفسير الطبري: 11/ 123.

(2)

لم اتعرف على قائله، والبيت من شواهد الماوردي في النكت والعيون: 2/ 7، وتفسير القرطبي: 6/ 336.

(3)

أخرجه الطبري (12825): ص 11/ 121 - 122.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 73.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 73.

(6)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6892): ص 4/ 1221.

(7)

هذه الزيادة في زاد المسير: 1/ 592.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12836)، و (12838): ص 11/ 128 - 129 ..

ص: 558

وقال الشعبي: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم، فتذهب فتختلطُ بغنم الناس، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال، فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعًا" (1).

والثالث: أنها الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إناث، سيبت، فلم تركب، ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ضيف أو ولدها حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره الفراء (2)، وهو قول ابن إسحاق (3).

والرابع: أنها البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك. قاله ابن قتيبة (4).

قال الزجاج: " كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي هذه سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها وأن لا تجلى عن ماء ولا تمنع من مرعى"(5).

والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيسيب، ولا يستعمل شكرا لنجحها، حكاه الماوردي عن الشافعي (6).

أما «الوصيلة» فأجمعوا على أنها من الغنم (7)، وفيها خمسة أقوال:

أحدها: أنها الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى السابع، فإن كان أنثى، لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكرا، ذبحوه، فأكلوه جميعا، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس (8).

(1) أخرجه الطبري (12834): ص 11/ 128.

(2)

انظر: معاني القرآ، : 1/ 322.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6896): ص 4/ 1222.

(4)

انظر: غريب القرآن: 147.

(5)

معاني القرآن: 2/ 213.

(6)

انظر: زاد المسير: 1/ 592.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 124، والنكت والعيون: 2/ 73

(8)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6899): ص 4/ 1222 - 1223.

ص: 559

وذهب إلى نحوه ابن قتيبة، فقال: : " و «الوصيلة» من الغنم: كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا: فإن كان السابع ذكرا ذبح. فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: قد وصلت أخاها. فلم تذبح لمكانها. وكانت لحومها حراما على النساء. ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء"(1).

والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإبل بالأنثى، ثم تثني بالأنثى، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم، ويدعونها الوصيلة، أي: وصلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن ابن المسيب (2).

والثالث: أنها الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين في كل بطن سميت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك في ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث، وإن كانت ميتة اشتركوا فيها، قاله ابن إسحاق (3).

والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن، عناقين عناقين (4)، فإذا ولدت في سابعها عناقا وجديا، قيل: وصلت أخاها، فجرت مجرى السائبة، قاله الفراء (5).

والخامس: أن الشاة كانت إذا ولدت أنثى، فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج (6).

قال ابن عطية: " قال أكثر الناس: إن «الوصيلة» في الغنم قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسة فإن كان آخرها جذيا ذبحوه لبيت الآلهة وإن كانت عناقا استحيوها وإن كان جذي وعناق استحيوهما وقالوا هذه العناق وصلت أخاها فمنعته من أن يذبح، وعلى أن الوصيلة في الغنم جاءت الروايات عن أكثر الناس"(7).

(1) انظر: غريب القرآن: 147.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12840): ص 11/ 131.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6900): ص 4/ 1223.

(4)

في «اللسان» : العناق: الأنثى من ولد المعز.

(5)

انظر: معاني القرآن: 1/ 322.

(6)

انظر: معاني القرآن: 2/ 213.

(7)

المحرر الوجيز: 2/ 238.

ص: 560

وأما «الحام» فأجمعوا عليه: أنه البعير ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقال حمى ظهره ويخلَّى (1). وفيه ستة أقوال:

أحدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم، ولا يحمل عليه، قاله ابن مسعود (2)، وابن عباس (3)، واختاره أبو عبيدة (4)، والزجاج (5).

والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه، ولا يجزون وبره، ولا يمنعونه ماء، ولا مرعى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (6)، واختاره الفراء (7)، وابن قتيبة (8).

والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إناث من بناته، وبنات بناته، قاله عطاء (9).

والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إناث متواليات، ، قد حمي ظهره، ولا يركب، ولا يعمل عليه، قاله ابن زيد (10).

والخامس: أنه الذي لصلبه عشرة كلها تضرب في الإبل، قاله أبو روق (11).

والسادس: أنه الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين، فيخلى ويقال: قد حمى ظهره، ذكره الماوردي (12).

قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة" (13).

(1) انظر: تفسير الطبري: 11/ 124، والنكت والعيون: 2/ 74.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 593.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6904): ص 4/ 1224.

(4)

انظر: مجاز القرآن: 1/ 179.

(5)

انظر: معاني القرآن: 2/ 213.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12837): ص 11/ 129.

(7)

انظر: معاني القرآن: 1/ 322.

(8)

انظر: غريب القرآن: 148.

(9)

انظر: زاد المسير: 1/ 593.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12843): ص 11/ 132 - 133.

(11)

انظر: زاد المسير: 1/ 593.

(12)

انظر: النكت والعيون: 2/ 74.

(13)

انظر: معاني القرآن: 2/ 213.

ص: 561

قال ابن عطية: " وجملة ما يظهر من هذه الأمور أن الله تعالى قد جعل هذه الأنعام رفقا لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع ويذهبون نعمة الله فيها ويزيلون المصلحة التي للعباد في تلك الإبل، وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف، فإن المالك الذي له أن يهب ويتصدق له أن يصرف المنفعة في أي طريق من البر، ولم يسد الطريق إليها جملة كما فعل بالبحيرة والسائبة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز الأحباس والأوقاف، وقاسوا على البحيرة والسائبة، والفرق بين، ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبسا لا يجتنى ثمرها ولا يزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة، وأما الحبس البين طريقه واستمرار الانتفاع به فليس من هذا، وحسبك بأن النبي عليه السلام قال لعمر بن الخطاب في مال له: اجعله حبسا (1) لا يباع أصله، وحبس أصحاب النبي عليه السلام"(2).

قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]، أي:" ولكن الكفار نسبوا ذلك إلى الله تعالى افتراء عليه"(3).

قال البغوي: أي: " في قولهم: الله أمرنا بها"(4).

قال الطبري: أي: " ولكنكم الذين فعلتم ذلك، أيها الكفرة، فحرَّمتموه افتراء على ربكم"(5).

(1) مسند الشافعي (457): ص 2/ 138، والسنن الكبرى للبيهقي (11904): ص 6/ 268، وشعب الإيمان (3172): ص 5/ 119، ونصه:" عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملك مائة سهم من خيبر إشتراها فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إني أصبت مالا لم أصب مثله قط وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عزوجل فقال: «حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ» ".

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 248.

(3)

التفسير الميسر: 124.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 108.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 116.

ص: 562

قال الواحدي: أي: " يتقوَّلون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام وهم جعلوها مُحرَّمة لا الله"(1).

قال ابن كثير: " أي: ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة، ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم"(2).

قال ابن عباس: " {يفترون}، يكذبون في الدنيا"(3).

قال الزمخشري: أي: "ولكنهم بتحريمهم ما حرموا يفترون على الله الكذب"(4).

قال قتادة: " {يفترون}، أي: يشركون"(5).

قال الشعبي: " أما الذين افتروا، فعقلوا أنهم افتروا"(6).

قال أبو هريرة: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم، رأيتُ عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدف يجرّ قُصْبه في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: عسَى أن يضرّني شبهه، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أوّل من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي" (7).

وعن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قد عرفت أوّلَ من بَحَر البحائر، رجلٌ من مُدْلج كانت له ناقتان، فجدَع آذانهما، وحرّم ألبانهما وظهورَهما، وقال: هاتان لله! ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار يؤذِي أهل النار ريح قُصْبه"(8).

قوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]، أي:" وأكثر الكافرين لا يميزون الحق من الباطل"(9).

(1) الوجيز: 338.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 211.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6910): ص 4/ 1224.

(4)

الكشاف: 1/ 685.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6912): ص 4/ 1225.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6911): ص 4/ 1225.

(7)

أخرجه الطبري (12820): ص 11/ 117 - 118.

(8)

أخرجه الطبري (12821): ص 11/ 118.

(9)

التفسير الميسر: 124.

ص: 563

قال الواحدي: "يعني: أتباع رؤسائهم الذين سنُّوا لهم تحريم هذه الأنعام {لا يعقلون} أنَّ ذلك كذبٌ وافتراءٌ على الله من الرُّؤساء"(1).

قال الزمخشري: أي: " فلا ينسبون التحريم إلى الله حتى يفتروا، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم"(2).

وفي قوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103]، قولان:

أحدهما: وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين حرموا، قاله الشعبي (3).

والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشيطان، قاله قتادة (4).

وفي المعني بهم في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103]، وجهان:

أحدهما: أنهم أهل ملّة واحدة، ولكن «المفترين» ، المتبوعون، و «الذين لا يعقلون» ، الأتباع. وهذا قول الشعبي (5).واختاره ابن عطية، وقال:" وهو الذي تعطيه الآية "(6).

والثاني: أن المعنيّ بـ {الذين كفروا} ، اليهود، وبـ {الذين لا يعقلون} ، أهل الأوثان. وهذا قول محمد بن ابي موسى (7).

قال ابن عطية: " وهذا تفسير من انتزع ألفاظ آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما تأخر أيضا من قوله: {وإذا قيل لهم}، والأول من التأويلين أرجح"(8).

(1) الوجيز: 338.

(2)

الكشاف: 1/ 685.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12846): ص 11/ 135.

(4)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6913): ص 4/ 1225.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12846): ص 11/ 135.

(6)

المحرر الوجيز: 2/ 248.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12845): ص 11/ 135.

(8)

المحرر الوجيز: 2/ 248 - 249.

ص: 564

والراجح-والله أعلم- إن المعنيين بقوله: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} ، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل، وحموا الحوامي، مثل عمرو بن لحي وأشكاله ممن سنّ لأهل الشرك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله دين الحق، وأضافوا إلى الله تعالى ذكره: أنه هو الذي حرّم ما حرّموا، وأحلَّ ما أحلوا، افتراءً على الله الكذب وهم يعلمون، واختلاقًا عليه الإفك وهم يفهمون، فكذبهم الله تعالى ذكره في قيلهم ذلك، وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا.

وأما المعنيون بقوله: {وأكثرهم لا يعقلون} ، فهم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين، فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك لهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون، لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن وأخبروهم أنها من عند الله، كذبةٌ في إخبارهم، أفَكَةٌ، بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقُّون، وفي إخبارهم صادقون (1).

الفوائد:

1 -

أن الاتباع الهوى في التشريع حقيقته افتراء على الله، قال سبحانه:{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ، فهم شرعوا شرعة، وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة، توهما أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق، فزلوا وافتروا على الله الكذب إذ زعموا أن هذا من ذلك وتاهوا في المشروع (2).

2 -

دل الآية على أن العرب كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل، ثم حدث بعد ذلك التغيير وعبادة الأصنام بسبب عمرو بن لحي وغيره.

فعمرو هذا غيّر دين العرب بدعوتهم لعبادة الأصنام، وباستحداث بدع في دين الله تعالى، أحلّ فيها وحرّم بهواه.

(1) تفسير الطبري: 11/ 135 - 136.

(2)

انظر: الاعتصام للشاطبي: 1/ 238.

ص: 565

قال ابن كثير عند قوله تعالى: {ما جعل الله من بحيرة} [المائدة: 103]، بعد أن ساق أحاديث في معناها: "فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم، وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها، والتقرب بها، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها

" (1)، إلى آخر كلامه رحمه الله.

3 -

الرد على أهل الجاهلية لما ابتدعوه في بهيمة الأنعام من شريعة الجاهلية، حيث جعلوا منها:

- البحيرة: وهي التي تشق أذنها ويمنع من ركوبها وحلبها وأكل لحمها.

- والسائبة: وهي التي تترك فلا تمنع من مرعى ولا ماء ولا تركب ولا تحلب ولا يجز وبرها.

- والوصيلة: وهي الناقة أو الشاة إذا أنتجت عددًا معينًا من الولد متواصلًا، ذبحوها للأصنام، وحرموا لحمها على النساء.

- والحام: الجمل الفحل إذا حمى ظهره من أن يركب، كانوا إذا أنتج الفحل عددًا معينًا، قالوا: حمى ظهره فلم يركبوه.

وهذه من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها والله جل وعلا قال في مطلع السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، والله جل وعلا أحل بهيمة الأنعام أن نأكل منها وأن نشرب من ألبانها وأن نركبها بحدود المشروع، إلا ما كان منها ميتة أو دمًا مسفوحًا، كما في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3](2).

4 -

ومنها: أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبها متفاوتة.

(1) تفسيرابن كثير: 3/ 209 - 210.

(2)

انظر: مجموع فتاوى صالح بن فوزان: 1/ 151 - 152.

ص: 566

- فمنها ما هو كفر صراح؛ كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن؛ كقوله تعالى: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} الآية، وقوله تعالى:{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139]، وقوله تعالى:{ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [المائدة: 103].

وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.

- ومنها: ما هو من المعاصي التي ليست بكفر، أو يختلف: هل هي كفر أم لا! كبدعة الخوارج والقدرية (1) والمرجئة (2) ومن أشبههم من الفرق الضالة

(1) القدرية: فرقة ضالة تنفي صفات الله الأزلية كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وأنه ليس لله اسم ولا صفة، وأن الله لا يُرى، وأن كلام الله حادث مخلوق، وأن الله غير خالق لأكساب الناس، وأن الناس هم الذين يقدرون كسبهم، فهم ينكرون القدر فلذلك سمُّو قدرية. وبدعتهم هذه حدثت في آخر عصر الصحابة وكان أكثرهم في الشام والبصرة وفي المدينة أيضاً، وأصل هذه البدعة أحدثها مجوسي من البصرة ثم تلقَّاها عنه معبد الحهني. وقد أنكر الصحابة عليهم ذلك.

يراجع: الفرق بين الفرق ص (93 - 94)، ومجموع الفتاوى (7/ 384 - 386)، وكذلك (13/ 36، 37).

(2)

المرجئة: من الفرق الضَّلَّة التي تقوم: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، والإرجاء هو: التأخير، وسمُّوا مرجئة لتأخيرهم العمل عن النية، أو لتأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، ويقولون: إنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وإنه يكون في القلب واللسان.

يراجع: الفرق بين الفرق (190 - 195)، والملل والنِّحل للشهرستاني ص (139 - 146).

ص: 567

- ومنها ما هو معصية ويتفق على أنها ليست بكفر؛ كبدعة التبتل، والصيام قائما في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.

- ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في إتباع رمضان بست من شوال، وقراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة ـ على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي (1) ـ، وما أشبه ذلك.

فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة، ولا على نسبة واحدة، فلا يصح على هذا أن يقال: إنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط. (2).

5 -

ومن الفوائد، أن «جعل» لاياتي في جميع القرآن بمعنى «خلق» ، كما مرّ في تفسير قوله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} ، بمعنى: ما سمّاها أو ما شرع ذلك، لا يعني: ما خلق الله من بحيرة ولا سائبة، فبطل أن يكون كل «جعل» في القرآن عبارة عن الخلق (3).

قال ابن عطية: " و «جعل» في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى: خلق الله، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى: «صير»، لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى: ما سن ولا شرع، فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد"(4).

وفيه الرد على المعتزلة الذين فسروا «جعل» في القرآن بمعنى «خلق» ، فاستدلوا بها أن القرآن مخلوق، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3].

(1) قال العز بن عبد السلام في "فتاويه"(ص 393 ـ 395، تحقيق محمد جمعة): "ذكر الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم والسلاطين بدعة غير محبوبة، ولا يذكر في الخطبة إلا ما يوافق مقاصدها .. " إلخ ما قال.

(2)

انظر: الاعتصام للشاطبي: 2/ 354 - 355.

(3)

انظر: الرد على الجهمية للإمام أحمد ص 69 - 72، رد الإمام الدارمي على بشر المريسي ص 481 كلاهما ضمن عقائد السلف، وانظر: مجموع الفتاوى 8/ 29، شرح الطحاوية ص 186.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 247.

ص: 568

وهذا استدلال ظاهر الفساد فإن الفعل «جعل» إذا كان بمعنى «خلق» فإنه يتعدى إلى مفعول واحد كقوله - سبحانه: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وإذا كان يتعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91].

قال الشنقيطي: "لفظة «جعل» تأتي في اللغة العربية لأربعة معان؛ ثلاثة منها في القرآن:

الأول: - إتيان جعل بمعنى اعتقد، ومنه قوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] أي: اعتقدوهم إناثاً، ومعلوم أن هذه تنصب المبتدأ والخبر.

الثاني: - جعل بمعنى صير، كقوله:{حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15] وهذه تنصب المبتدأ والخبر أيضا.

الثالث: - جعل بمعنى خلق، كقوله تعالى:{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} [الأنعام: 1] أي: خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور.

الرابع: - وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع، ومنه قوله (1):

وَقَدْ جَعَلْتُ إذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي

ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الْشَّارِبِ الثملِ " (2)

القرآن

(1) البيت لعمرو بن أحمر في ملحق ديوانه ص 181 - 182؛ وخزانة الأدب 9/ 359، 362؛ ولأبي حية النمري في ملحق ديوانه ص 186؛ والحيوان 6/ 483؛ وشرح التصريح 1/ 204؛ وشرح شواهد الإيضاح ص 74؛ والمقاصد النحوية 2/ 173؛ ولابن أحمر أو لأبي حية النمري في الدرر 2/ 133؛ ولأبي حية أو للحكم بن عبدل في شرح شواهد المغني 2/ 911؛ وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 305؛ وشرح التصريح 1/ 206؛ ومغني اللبيب 2/ 579؛ والمقرب 1/ 101.

المعنى: يثقلني: يجهدني ويتعبني. أنهض: أقوم. الثمل: السكران.

(2)

أضواء البيان: 6/ 396.

ص: 569

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} [المائدة: 104]

التفسير:

وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرِّمين ما أحل الله: تعالوا إلى تنزيل الله وإلى رسوله ليتبين لكم الحلال والحرام، قالوا: يكفينا ما ورثناه عن آبائنا من قول وعمل، أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا أي: لا يفهمون حقًّا ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه؟ فكيف يتبعونهم، والحالة هذه؟ فإنه لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.

قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: 104]، أي:" وإذا قيل لهؤلاء الكفار المحرِّمين ما أحل الله: تعالوا إلى تنزيل الله وإلى رسوله ليتبين لكم الحلال والحرام"(1).

قال السمرقندي: أي: " من تحليل ما حرمتم على أنفسكم، وما بين رسوله. ويقال: تعالوا إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله"(2).

قال السمعاني: " يعني: إذا دعوا إلى الكتاب والسنة"(3).

قال البغوي: أي: " في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام"(4).

قال ابن كثير: " أي: إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه"(5).

قال ابن الجوزي: " يعني: إذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرموا على أنفسهم هذه الأنعام: تعالوا إلى ما أنزل الله في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم"(6).

قال ابن عباس: " كانوا إذا دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب بن الأشرف"(7).

(1) التفسير الميسر: 125.

(2)

بحر العلوم: 1/ 423.

(3)

تفسير السمعاني: 2/ 73.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 109.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 211.

(6)

زاد المسير: 1/ 594.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6914): ص 4/ 1225.

ص: 570

قال ابن عطية: " الضمير في قوله: {قيل لهم}، عائد على الكفار المستنين بهذه الأشياء و {تعالوا}، نداء بين، هذا أصله، ثم استعمل حيث البر وحيث ضده، و {إلى ما أنزل الله}، يعني: القرآن الذي فيه التحريم الصحيح"(1).

قال الراغب: " أصل «تعالي» دعا إلى العلو، ثم استعمل في كل مكان علوا كان أو سفلا، وقيل: إن ذلك يقال اعتبارا بالعلو الذي هو المرتبة الرفيعة، فإذا قيل تعالي كأنه قيل اطلب بفعلك هذا علوا وشرفا كقولك لمن دعوته تفضل أي اطلب بذلك الفضل وانعم ونحو ذلك،

ثم كثر وصار كأنه موضوع المجرد، والمعنى: إذا دعوا إلى الكتاب والسنة" (2).

قوله تعالى {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104]، أي:" قالوا: يكفينا ما ورثناه عن آبائنا من قول وعمل"(3).

قال البغوي: أي: " من الدين"(4).

قال السمرقندي: أي: " من الدين والسنة"(5).

قال السمعاني: " يعني: كفانا دين آبائنا"(6).

قال ابن كثير: "أي: قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك"(7).

قال ابن الجوزي: " قالوا: حسبنا أي: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من الدين والمنهاج"(8).

قال ابن عطية: " {حسبنا}، معناه: كفانا"(9).

قال ابن عثيمين: " {آباءنا}: "يشمل الأدنى منهم، والأبعد؛ وجوابهم هذا باطل خطأ" (10).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 249.

(2)

تفسير الراغب الاصفهاني: 5/ 469.

(3)

التفسير الميسر: 125.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 109.

(5)

بحر العلوم: 1/ 423.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 73.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 211.

(8)

زاد المسير: 1/ 594.

(9)

المحرر الوجيز: 2/ 249.

(10)

تفسير ابن عثيمين: 2/ 242.

ص: 571

قال الماتريدي: " كأنها نزلت في مشركي العرب، وكانوا أهل تقليد، لا يؤمنون بالرسل، ولا يقرون بهم، إنما يقلدون آباءهم في عبادة الأوثان والأصنام، فإذا ما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما أنزل الله إليه، أو دعاهم أحد إلى ذلك، قالوا: (حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا)، كقوله: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]، ونحو ذلك، يقلدون آباءهم في ذلك"(1).

قوله تعالى {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، أي:" أيقولون ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا من الدين ولا يهتدون إلى الحق؟ "(2).

قال السمرقندي: " يعني: أيتبعون آباءهم وإن كان آباؤهم جهالا، فنهاهم الله عن التقليد، وأمرهم بالتمسك بالحق وبالحجة"(3).

قال ابن كثير: " أي: لا يفهمون حقًا، ولا يعرفونه، ولا يهتدون إليه، فكيف يتبعونهم والحالة هذه؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم، وأضل سبيلا"(4).

قال ابن الجوزي: أي: لايعلمون" شيئا من الدين ولا يهتدون له، أيتبعونهم في خطئهم"(5).

قال الماتريدي: " أي: تتبعون آباءكم وتقتدون بهم، وإن كنتم تعلمون أن آباءكم لا يعلمون شيئا في أمر الدين ولا يهتدون، وكذلك قوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] تتبعون آباءكم وتقتدون بهم، وإن جنتكم بأهدى مما كان عليه آباؤكم؛ يسفههم في أحلامهم في تقليدهم آباءهم، وإن ظهر عندهم أنهم على ضلال وباطل"(6).

(1) تفسير الماتريدي: 3/ 635.

(2)

انظر: صفوة التفاسير: 341، والتفسير الميسر:125.

(3)

بحر العلوم: 1/ 423.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 211 - 212.

(5)

زاد المسير: 1/ 594.

(6)

تفسير الماتريدي: 3/ 635.

ص: 572

قال الزمخشري: " «الواو» في قوله {أولو كان آباؤهم}: «واو» الحال، قد دخلت عليها همزة الإنكار. وتقديره: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، والمعنى: أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة"(1).

قال ابن عطية: " قوله: {أولو كان آباؤهم}، ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا بهذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإنما التوقيف توبيخ لهم، كأنهم يقولون بعده: نعم ولو كانوا كذلك"(2).

والمراد بـ «العقل» هنا عقل الرشد؛ لا عقل الإدراك؛ فآباؤهم أذكياء، ويدركون ما ينفعهم، وما يضرهم؛ لكن ليس عندهم عقل رشد، وهو حسن تصرف (3).

وإذا قال قائل: إذا كانت للعموم فمعنى ذلك أنهم لا يعقلون شيئاً حتى من أمور الدنيا مع أنهم في أمور الدنيا يحسنون التصرف: فهم يبيعون، ويشترون، ويتحرون الأفضل، والأحسن لهم؟

فيقال: " {لا يعقلون شيئا}، لفظ عام ومعناه الخصوص لأنهم كانوا يعقلون أمر الدنيا، [ومعناه] لا يعقلون شيئا من أمر الدين ولا يهتدون"(4).

الفوائد:

1 -

وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما.

2 -

حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم.

1 -

ومن فوائد الآية: ذم التعصب بغير هدى؛ لقوله تعالى: {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} ؛ مع أن آباءهم لا عقل عندهم، ولا هدى.

2 -

ومنها: أن من تعصب لمذهب مع مخالفة الدليل ففيه شبه من هؤلاء؛ والواجب أن الإنسان إذا قيل له: «تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسولالله» أن يقول: «سمعنا، وأطعنا» .

3 -

ومنها: أنه لا يجب الانقياد إلا لما أنزل الله وإلى الرسول- وهو الكتاب، والسنة.

(1) الكشاف: 1/ 685.

(2)

المحرر الوجيز: 2/ 249.

(3)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 2/ 242.

(4)

تفسير الثعلبي: 2/ 40 - 41.

ص: 573

4 -

ومنها: بيان عناد هؤلاء المستكبرين الذين إذا قيل لهم: {تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} قالوا: {قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} دون أن يقيموا برهاناً على صحته.

5 -

ومنها: أن كل من خالف الحق، وما أنزل الله فليس بعاقل، وليس عنده هدًى؛ لقوله تعالى:{لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} .

6 -

قال علماؤنا: وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وقد تعلق قوم بهذه الآية في ذم التقليد لذم الله تعالى الكفار باتباعهم لآبائهم في الباطل، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية، وهذا في الباطل صحيح، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدين، وعصمة من عصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصر عن درك النظر. واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول، وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح، والتقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة، وعلى هذا فمن قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير نظر في معجزته يكون مقلدا، وأما من نظر فيها فلا يكون مقلدا (1).

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [المائدة: 105]

التفسير:

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه ألزموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله واجتناب معصيته، وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم، فإذا فعلتم ذلك فلا يضركم ضلال مَن ضلَّ إذا لزمتم طريق الاستقامة، وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، إلى الله مرجعكم جميعًا في الآخرة، فيخبركم بأعمالكم، ويجازيكم عليها.

في سبب نزول الآية قولان:

(1) انظر: تفسير القرطبي: 2/ 211.

ص: 574

أحدهما: نقل الواحدي: عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر- وعليهم منذر بن ساوى- يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فليؤدوا الجزية. فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى والصابئين والمجوس، فأقروا بالجزية، وكرهوا الإسلام. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما العرب فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية». فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمت العرب، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية، فقال منافقو العرب: عجبا من محمد، يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب! فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم يعني من ضل من أهل الكتاب} "(1). [ضعيف]

والثاني: قال عمر مولى غفرة: "إنما نزلت هذه الآية: لأن الرجل كان يسلم ويكفر أبوه، ويسلم الرجل ويكفر أخوه، فلما دخل قلوبهم حلاوة الإيمان دعوا آباءهم وإخوانهم. فقالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} "(2).

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 105]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(3).

قال ابن عباس: " ما أنزل الله آية في القرآن، يقول فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، إلا كان على شريفها وأميرها"(4).

(1) أسباب النزول (420): ص 214، إسناده ضعيف لضعف الكلبي.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6925): ص 4/ 1228.

(3)

التفسير الميسر: 125.

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم (1035): ص 1/ 196.

ص: 575

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(1).

قال ابن عثيمين: "إن تصدير الحكم بالنداء دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المنادَى؛ ثم النداء بوصف الإيمان دليل على أن تنفيذ هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ وعلى أن فواته نقص في الإيمان"(2)

قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، أي:" ألزموا أنفسكم بالعمل بطاعة الله واجتناب معصيته، وداوموا على ذلك وإن لم يستجب الناس لكم"(3).

قال الطبري: أي: " فأصلحوها، واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره، وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها"(4).

قال البيضاوي: " أي إحفظوها والزموا إصلاحها"(5).

قال ابن كثير: " يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم"(6).

قال السمرقندي: " معناه: الزموا أنفسكم كما تقول: عليك زيدا، معناه: الزم زيدا. معناه: الزموا أمر أنفسكم"(7).

قال السعدي: " أي: اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم"(8).

قال الصابوني: " أي: احفظوها عن ملابسة المعاصي والإِصرار على الذنوب والزموا إصلاحها"(9).

قال الزمخشري: " كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة، يتمنون دخولهم في الإسلام، فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى"(10).

عن سفيان: " {عليكم أنفسكم}، قال: عليكم أهل دينكم"(11).

(1) أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(2)

انظر: تفسير ابن عثيمين: 1/ 337.

(3)

التفسير الميسر: 125.

(4)

تفسير الطبري: 11/ 138.

(5)

تفسير البيضاوي: 2/ 147.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 212.

(7)

بحر العلوم: 1/ 423.

(8)

تفسير السعدي: 246.

(9)

صفوة التفاسير: 341.

(10)

الكشاف: 1/ 685.

(11)

أخرجه ابن ابي حاتم (6916): ص 4/ 1226.

ص: 576

قال السدي: " يقول: أهل ملتكم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر"(1).

عن الربيع عن صفوان بن محرز قال: "أتاه رجل من أصحاب الأهواء، فذكر له بعض أمره. فقال له صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خص بها أولياءه: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} "(2).

عن أبي أمية الشعباني قال: "أتيت أبا ثعلبة الخشني، فقلت: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: وأية آية؟ قال: قلت: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فقال أبو ثعلبة: أما والله لقد سألت عنها خبيرا: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل امروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أيام الصبر، صبر منهن على مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله"(3).

وقرأ نافع: «عليكم أنفسكم» ، بالرفع (4).

قوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، أي:" أي لا يضركم ضلال من ضلَّ من الناس إذا كنتم مهتدين"(5).

قال السمرقندي: معناه" لا يؤاخذكم بذنوب غيركم"(6).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6917): ص 4/ 1226.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6918): ص 4/ 1226.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6915): ص 4/ 1225، وأخرجه الطبري (12862): ص 11/ 145، وروى نحوه الطحاوى فى مشكل الآثار ج 2 ص 64، وروى نحوه ابن ماجة في السنن ج 2، كتاب الفتن «باب قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» الآية ص 1330، 1331 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

وروى نحوه أيضا الترمذي في سننه، كتاب التفسير (3058): 5/ 241، وقال: هذا حديث حسن غريب.

(4)

انظر: الكشاف: 1/ 686.

(5)

صفوة التفاسير: 341.

(6)

بحر العلوم: 1/ 423.

ص: 577

قال الطبري: " يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فحرمتم حرامه وحللتم حلاله"(1).

قال السعدي: أي: " فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه. ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبد تركهما وإهمالهما، فإنه لا يتم هداه، إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نعم، إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه، فإنه لا يضره ضلال غيره"(2).

قال ابن كثير: أخبرهم انه"من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا"(3).

قال الزمخشري: " لا يضركم الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} [فاطر: 8]، وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم. فهو مخاطب به، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه"(4).

قال ابن عطية: " معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره"(5).

وفي تفسير قوله تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، أقوال:

أحدها: معنى ذلك: أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك.

عن ابن عباس: " قوله: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، يقول: إذا ما أطاعني العبد فيما أمرته من الحلال والحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به"(6).

(1) تفسير الطبري: 11/ 138.

(2)

تفسير السعدي: 246.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 212.

(4)

الكشاف: 1/ 685.

(5)

المحرر الوجيز: 1/ 486.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6927): ص 4/ 1228.

ص: 578

قال ضمرة بن ربيعة: "، تلا الحسن هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها، ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله"(1).

والثاني: معنى ذلك: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "، فاعملوا بطاعة الله " لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم "، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر.

قال سعيد بن المسيب: " إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، لا يضرك من ضل إذا اهتديت"(2).

وقال حذيفة: "يقول: أطيعوا أمري واحفظوا وصيتي"(3).

قال أبو بكر: "تقرءون هذه الآية: {لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، وإن الناس إذا رأوا الظالم قال ابن وكيع فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقابه"(4).

عن السدي قوله: " {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله: {عليكم أنفسكم}، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم"(5).

قال عن قيس بن أبي حازم: " سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ : {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب"(6).

(1) أخرجه الطبري (12868): ص 11/ 148.

(2)

أخرجه الطبري (12869): ص 11/ 148.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6926): ص 4/ 1228.

(4)

أخرجه الطبري (12871): ص 11/ 148.

(5)

أخرجه الطبري (12874): ص 11/ 149.

(6)

أخرجه الطبري (12878): ص 11/ 151.

ص: 579

والرابع: أن معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب وغيرهم من المشركين.

عن سعيد بن جبير في قوله: " {لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب"(1). وفي رواية: "أنزلت في أهل الكتاب"(2).

قال مقاتل بن حيان: " لا يضركم ضلالة من ضل من مجوس أهل هجر وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب من النصارى واليهود"(3).

عن أبي سنان: " {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، قال: من الأمم إذا اهتديتم"(4).

علي بن مدرك عن أبي عامر: " أنه كان فيهم شيء فاحتبس على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما حبسك. قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل} من الكفار {إذا اهتديتم} "(5).

والخامس: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق.

قال ابن زيد في قوله: " {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم}، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم، وفعلت وفعلت، وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل! فقال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم} "(6).

والسادس: أن المراد: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم.

(1) أخرجه الطبري (12879): ص 11/ 152.

(2)

أخرجه الطبري (12880): ص 11/ 152.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6928): ص 4/ 1228.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6921): ص 4/ 1226.

(5)

أخرجه ابن ابي حاتم (6920): ص 4/ 1226 - 1227.

(6)

أخرجه الطبري (12881): ص 11/ 152.

ص: 580

عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود: " قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فكان بين جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر. فقال أخى إلى جنبه: عليك بنفسك فإن الله يقول: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، قال: فسمعها ابن مسعود. فقال: مه لم يجئ تأويل هذه الآية بعد (1). إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي: قد مضى تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه أي: يقع تأولهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنين. ومنه آي: يقع تأويلهن بعد اليوم. ومنه آي: يقع تأويلهن عند الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة وأهواءكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يزق بعضكم بأس بعض، فمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شعيا، وذاق بعضكم بأس بعض فكل امرئ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية"(2).

عن مكحول: "أن رجلا سأله عن قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فقال: إن تأويل هذه الآية لم يجئ، إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ، فعليك لا يضرك حينئذ من ضل إذا اهتديت"(3).

قال سفيان بن عقال: "قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى ذكره يقول: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ»، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم"(4).

(1) علّق عليه الزمخشري في الكشاف: 1/ 686، قائلا:" فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه، وبسط لعذره".

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6922): ص 4/ 1227.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6923): ص 4/ 1227.

(4)

أخرجه الطبري (12851): 11/ 139.

ص: 581

قال أبو زمان: " انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قومٌ من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية: {عليكم أنفسكم}، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم"(1).

قال سوّار بن شبيب: " كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل جليدٌ في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه، وكلهم مجتهد لا يألو، وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل، أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله الحديث، فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} "(2).

وعن قتادة، عن رجل قال:"كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه، فقرأ رجل: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان"(3).

(1) أخرجه الطبري (12852): 11/ 140.

(2)

أخرجه الطبري (12854): ص 11/ 140 - 141.

(3)

أخرجه الطبري (12856): ص 11/ 141 - 142.

ص: 582

قال جبير بن نفير: " كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّي لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها! ! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: " إنك غلام حدَثُ السن، وإنك نزعت بآية لا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت" (1).

قال الحسن: " تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، فقال بعض أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم"(2).

وعن كعب: "في قول الله: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}، قال: إذا هدمت كنيسة مسجد دمشق فجعلوها مسجدا وظهر لبس العصب فحينئذ تأويل هذه الآية"(3).

(1) أخرجه الطبري (12858): ص 11/ 142 - 143.

(2)

أخرجه الطبري (12861): ص 11/ 144 - 145.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6924): ص 4/ 1227.

ص: 583

عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني: " أن أبا الدرداء وكعبا كانا جالسين بالجابية، فأتاهما آت فقال: لقد رأيت اليوم أمرا إن كان لحقا على من رآه أن يغيره، فقال رجل: إن الله يقول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ الآية}، فقال كعب: إن هذا لا يقول شيئا، ذبّ عن محارم الله كما تذب عن عينيك حتى يأتي تأويلها، قال: فانتبه لها أبو الدرداء فقال: متى يأتي تأويلها؟ قال: إذا هدمت كنيسة دمشق وبني مكانها مسجد فذاك من تأويلها، وإذا رأيت الكاسيات العاريات فذلك من تأويلها، وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها فذلك من تأويلها، قال أبو مسهر: وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبد الملك أدخلها في مسجد دمشق فزاد في سعته بها"(1).

قال أبو عبيد: وقد أروني مكانها هناك والناحية التي كانت بها قبل الهدم" (2).

قال عبد القادر بدران في تحقيقه لتهذيب تاريخ دمشق عند سياق هذا الأثر: "أقول: تأويل هذه الآية على هذا الوجه مما لا يحتمله لفظها ولا يدل شيء على تقييدها بهذا الذي قيده بها كعب، وفي الأحاديث الواردة في تأويلها ما ينفي هذا من أصله"(3).

(1) الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام: 1/ 287 - 288، وروي جزءا منه ابن ابي حاتم في تفسيره (6924): ص 4/ 1227. ونصه: "إذا هدمت كنيسة مسجد دمشق فجعلوها مسجدا وظهر لبس العصب فحينئذ تأويل هذه الآية".

(2)

الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام: 1/ 288.

(3)

تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ج 1 ص 200 تحقيق الشيخ عبد القادر بدران.

ص: 584

قال الإمام الطبري: " وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها، وهو:{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} ، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم الله عنه:{لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} ، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله، وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه، والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النزوع عن ذلك، ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك، لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك، وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه، وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى، فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله:{إذا اهتديتم} ، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1).

(1) تفسير الطبري: 11/ 152 - 153.

ص: 585

قال ابن عطية: " وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى رجي القبول أو رجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المرء ضررا يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده"(1).

قال القرطبي: " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعين متى رجي القبول، أو رجي رد الظالم ولو بعنف، ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته، أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا خيف هذا فـ {عليكم أنفسكم} محكم واجب أن يوقف عنده. ولا يشترط في الناهي أن يكون عدلا كما تقدم، وعلى هذا جماعة أهل «2» العلم فاعلمه"(2).

وقرئ: «لا يضركم» ، وفيه وجهان (3):

احدهما: أن يكون خبرا مرفوعا وتنصره قراءة أبى حيوة، «لا يضيركم» .

والثاني: أن يكون جوابا للأمر مجزوما.

قال الزمخشري: "وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. والأصل: لا يضروكم. ويجوز أن يكون نهيا، ولا يضركم، بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره"(4).

قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 105]، أي:" إلى الله مرجعكم جميعًا في الآخرة"(5).

قال النسفي: أي: " رجوعكم"(6).

قال الشوكاني: أي: " يوم القيامة"(7).

قال البغوي: أي: " الضال والمهتدي"(8).

قال السعدي: " أي: مآلكم يوم القيامة، واجتماعكم بين يدي الله تعالى"(9).

قال الآلوسي: أي: " {إِلَى اللَّهِ} لا إلى أحد سواه رجوعكم يوم القيامة {جَمِيعاً} بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم "(10).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 249.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 345.

(3)

انظر: الكشاف: 1/ 686.

(4)

الكشاف: 1/ 686.

(5)

التفسير الميسر: 125.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 481.

(7)

فتح القدير: 2/ 96.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 111.

(9)

تفسير السعدي: 246.

(10)

روح المعاني: 4/ 45.

ص: 586

قال الطبري: أي: "اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه، ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم، وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم"(1).

قوله تعالى: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]، أي:" فيخبركم بأعمالكم، ويجازيكم عليها"(2).

قال النسفي: أي: " ثم يجزيكم على أعمالكم"(3).

قال السعدي: أي: "من خير وشر"(4).

قال الشوكاني: " {فينبئكم بما كنتم تعملون} في الدنيا، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته"(5).

قال الطبري: أي: " وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر، فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه، فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى"(6).

قال أبو حيان: " أي: مرجع المهتدين والضالين، وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول: أنت وزيد تقومان وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة"(7).

قال الآلوسي: أي: " {فَيُنَبِّئُكُمْ} بالثواب والعقاب {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك"(8).

قال البيضاوي: قوله: {إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} ، " وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره"(9).

وللعلماء في حكم هذه الآية قولان:

(1) تفسير الطبري: 11/ 153 - 154.

(2)

التفسير الميسر: 125.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 481.

(4)

تفسير السعدي: 246.

(5)

فتح القدير: 2/ 96.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 154.

(7)

البحر المحيط: 4/ 388.

(8)

روح المعاني: 4/ 45.

(9)

تفسير البيضاوي: 2/ 147.

ص: 587

أحدهما: أنها منسوخة: قال أرباب هذا القول هي تتضمن كف الأيدي عن قتال الضالين فنسخت. ولهم في ناسخها قولان (1):

أحدهما: آية السيف.

والثاني: أن آخرها نسخ أولها.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " فلم نجد في القرآن كله آية واحدة جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه الآية"(2).

قالوا: "وموضع المنسوخ منها إلى قوله: {لا يضركم من ضل}، والناسخ قوله: {إذا اهتديتم} والهدى ها هنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(3).

قال ابن الجوزي: " وهذا الكلام إذا حقق لم يثبت"(4).

والقول الثاني: أنها محكمة (5).

قال الزجاج: معناها: "إنما ألزمكم الله أمر أنفسكم لا يؤاخذكم الله بذنوب غيركم، وليس يوجب لفظ هذه الآية ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأعلم أنه لا يضر المؤمن كفر الكافر، فإذا ترك المؤمن الأمر بالمعروف وهو مستطيع ذلك فهو ضال، وليس بمهتد"(6).

قال ابن الجوزي: وهذا القول هو الصحيح وأنها محكمة. ويدل على إحكامها أربعة أشياء:

أحدها: أن قوله: {عليكم أنفسكم} يقتضي إغراء الإنسان بمصالح نفسه، ويتضمن الإخبار بأنه لا يعاقب بضلال غيره وليس مقتضى ذلك أن لا ينكر على غيره وإنما غاية الأمر أن يكون ذلك مسكوتا عنه فيقف على الدليل.

(1) انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 415 - 416.

(2)

الناسخ والمنسوخ: 1/ 286.

(3)

ذكر ذلك هبة الله في كتابه الناسخ والمنسوخ ص: 42، كما ذكر نحوه ابن العربي في أحكام القرآن 2/ 79 عن بعض العلماء. واللفظ لابن الجوزي في نواسخ القرآن: 2/ 415.

(4)

نواسخ القرآن: 2/ 416.

(5)

أورد ابن الجوزي هذه القضية في مختصر عمدة الراسخ ورقة (6)، ورجح الإحكام. وأما في تفسيره: 2/ 443 فسكت عن الترجيح. أما النحاس فلم يتعرض لها ألبتة. وحكى مكي بن أبي طالب عن الأكثرين أنها محكمة. انظر: الإيضاح ص: 237.

(6)

معاني القرآن: 2/ 214، وذكره عنه ابن الجوزي في نواسخ القرآن: 2/ 416، وزاد المسير 2/ 106.

ص: 588

والثاني: أن الآية تدل على وجوب الأمر بالمعروف. لأن قوله: {عليكم أنفسكم} أمر بإصلاحها وأداء ما عليها، وقد ثبت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار من جملة ما على الإنسان في نفسه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقد دل على ما قلنا قوله:{إذا اهتديتم} وإنما يكون الإنسان مهتديا إذا امتثل أمر الشرع، ومما أمر الشرع به الأمر بالمعروف.

وقد روي عن الحسن: "أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم}، فقال ابن مسعود: ليس هذا بزمانها، قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم"(1).

عن قيس بن أبي حازم قال: "سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ : {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم}، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب"(2).

والثالث: أن الآية قد حملها قوم على أهل الكتاب إذا أدوا الجزية فحينئذ لا يلزمون بغيرها. وهذا قول ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح" (3).

والرابع: أنه لما عابهم في تقليد آبائهم بالآية المتقدمة أعلمهم بهذه الآية أن المكلف إنما يلزمه حكم نفسه وأنه لا يضره ضلال من ضل إذا كان مهتديا حتى يعلموا أنه لا يلزمهم من ضلال آبائهم شيء من الذم والعقاب. أخرج الطبريعن ابن زيد نحو هذا المعنى (4).

(1) انظر: تفسير الطبري (12848): ص 11/ 138.

(2)

أخرجه الطبري (12878): ص 11/ 151، وانظر:(12877): ص 11/ 150 - 151.

(3)

أسباب النزول (420): ص 214، إسناده ضعيف لضعف الكلبي.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12881): ص 11/ 152.

ص: 589

قال ابن الجوزي: "وإذا تلمحت هذه المناسبة بين الآيتين لم يكن الأمر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ها هنا مدخل وهذا أحسن الوجوه في الآية"(1).

قال الإمام الشوكاني: " وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد، وقد قال الله سبحانه: إذا اهتديتم، وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة، على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا مضيقا متحتما، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره ضررا يسوغ له معه الترك"(2).

قال العلّامة محمد الأمين الشنقيطي: " فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل. وقد دلت الآيات كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده، فمن ذلك

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» (3) " (4).

الفوائد:

(1) انظر: نواسخ القرآن: 2/ 416 - 419. [بتصرف]

(2)

فتح القدير: 2/ 96.

(3)

رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168)، والنسائي بأسانيد صحيحة (وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2448).

(4)

أضواء البيان 2/ 169.

ص: 590

1 -

وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح، إذ ان إصلاح النفس والعناية بها من مقتضيات الإيمان.

2 -

ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر.

قالت العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رُجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضرراً يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.

3 -

تقرير مبدأ البعث الآخر، والإيمان بالبعث أحد اركان الإيمان الستة.

4 -

أن الإنسان لايؤاخذ بحديث النفس، لقوله:{بما كنتم تعملون} ، وحديث النفس ليس عملا، ذلك لقوله-صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز عن امتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم"(1).

ولكن إذا ركن الإنسان إلى حديث النفس واطمأن إليه واعتقده فحينئذ يكون قد عمل عملا قلبيا لا جوارحيا.

5 -

إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، لقوله:{فينبئكم بما كنتم تعملون} .

القرآن

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)} [المائدة: 106]

التفسير:

(1) رواه البخاري (2391) / ومسلم (127) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه.

ص: 591

يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه إذا قرب الموت من أحدكم، فلْيُشْهِد على وصيته اثنين أمينين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين عند الحاجة، وعدم وجود غيرهما من المسلمين، تُشهدونهما إن أنتم سافرتم في الأرض فحلَّ بكم الموت، وإن ارتبتم في شهادتهما فقفوهما من بعد الصلاة -أي صلاة المسلمين، وبخاصة صلاة العصر-، فيقسمان بالله قسمًا خالصًا لا يأخذان به عوضًا من الدنيا، ولا يحابيان به ذا قرابة منهما، ولا يكتمان به شهادة لله عندهما، وأنهما إن فَعَلا ذلك فهما من المذنبين.

سبب النزول:

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: " خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي (1) بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدما بتركته، فقدوا جاما (2) من فضة مخوصا (3) من ذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه (4)، فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} [المائدة: 106] "(5).

(1) تميم. . عدي) كانا نصرانيين عندما حدثت القصة المذكورة في الحديث وتميم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأما عدي فلم يسلم.

(2)

جاما: كأسا.

(3)

(مخوصا) منقوشا فيه خطوط دقيقة طويلة كالخوص وهو ورق النخل.

(4)

(أوليائه) من أولياء السهمي والرجلان هما عمرو بن العاص والآخر قيل هو المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنهما.

(5)

أخرجه البخاري (2780)، وأبو داود (3606)، والترمذي في التفسير (3060)، وقال: حسن غريب، وأخرجه الدارقطني: 4/ 166، والطبري (12966): ص 11/ 185، والجصاص في «الأحكام»: 4/ 160، والطبراني: 12/ 71، والواحدي:(421): ص 215، والبيهقي: 10/ 165 كلهم من حديث ابن عباس به، فهو من مسند ابن عباس، وهو مختصر كما ترى.

وزاد السيوطي نسبته في الدر (2/ 342) لابن المنذر والنحاس وأبي الشيخ وابن مردويه.

ص: 592

[صحيح]

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 106]، أي:" يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه"(1).

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعها سمعك؛ فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه"(2).

قال خيثمة: "ما تقرأون في القرآن: {يا أيها الذين آمنوا}، فإنه في التوراة: يا أيها المساكين"(3).

قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: 106]، أي:" إذا شارف أحدكم على الموتِ وظهرت علائمه فينبغي أن يُشهد على وصيته"(4).

قال الطبري: " يقول: ليشهد بينكم وقت الوصية "(5).

قال البغوي: " أي: ليشهد اثنان، لفضه خبر ومعناه أمر، وقيل: معناه: أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان"(6).

قال الزجاج: " معناه: أن الشهادة في وقت الوصية هي للموت ليس أن الموت حاضره

وهو يوصي بما يقول الموصي، صحيحا كان أو غير صحيح: إذا حضرني الموت، أو إذا مت فافعلوا واصنعوا" (7).

قال الزمخشري: " وحضور الموت: مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل"(8).

قال ابن الجوزي: " فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله تعالى: حين الوصية، أي: وقت الوصية"(9).

وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها الشهادة على الوصية التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور.

(1) التفسير الميسر: 125.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (1037): ص 1/ 196، و (5027): ص 3/ 902

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم (5026): ص 3/ 902.

(4)

صفوة التفاسير: 341.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 154.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 111.

(7)

معاني القرآن: 2/ 214.

(8)

الكشاف: 1/ 687.

(9)

زاد المسير: 1/ 596.

ص: 593

والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد، واختاره الطبري (1).

والثالث: أنها شهادة الوصية، أي: حضورها، كقوله تعالى:{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْت} [البقرة: 133]، جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيدا (2).

واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: فيقسمان بالله قالوا: والشاهد لا يلزمه يمين (3).

قوله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، أي يُشهد على الوصية شخصين عدلين من المسلمين أو اثنان من غير المسلمين إن لم تجدوا شاهدين منكم" (4).

قال سعيد بن المسيب: ": ذَوَي عقل"(5).

قال الطبري: " يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين"(6).

قال الزمخشري: " {منكم}، يعني: من أقاربكم، و {من غيركم}، من الأجانب، يعنى: إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وبما هو أصلح وهم له أنصح"(7).

وفي قوله: {مِنْكُمْ} [المائدة: 106]، قولان:

(1) انظر: تفسير الطبري 1/ 157.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(3)

انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(4)

صفوة التفاسير: 341.

(5)

أخرجه الطبري (12882): 11/ 154.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 154.

(7)

الكشاف: 1/ 687.

ص: 594

أحدهما: من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود (1)، وابن عباس (2)، ومجاهد (3)، والحسن (4)، وسعيد بن المسيب (5)، ويحيى بن معمر (6)، وعبيدة (7)، وقتادة (8)، ومقاتل بن حيان (9)، وشريح (10)، والشعبي (11)، والسدي (12)، وابن زيد (13).

والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا، قاله الحسن (14) وعكرمة (15)، والزهري (16)، والسدي (17).

وفيهما قولان (18):

أحدهما: أنهما شاهدان يشهدان على وصية المُوصِي.

والثاني: أنهما وصيان.

والظاهر-والله أعلم- أن الشاهدين من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي، لأن الله عمّ المؤمنين بخطابهم بذلك، وأما صرف ما عمّه الله تعالى إلى الخصوص فيحتاج إلى دليل.

(1) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6931): ص 4/ 1229.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12892): ص 11/ 156.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12891): ص 11/ 156.

(4)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6933): ص 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12883): ص 11/ 155.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12884): ص 11/ 155.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12886) - (12890): ص 11/ 155 - 156.

(8)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6933): ص 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(9)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6933): ص 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(10)

انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(11)

انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(12)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6933): ص 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12893): ص 11/ 156.

(14)

انظر: تفسير الطبري (12932)، و (12934)، و (12938): ص 11/ 166 - 167، والنكت والعيون: 2/ 75، وزاد المسير: 1/ 596.

(15)

انظر: تفسير الطبري (12935) - (12937): ص 11/ 167، والنكت والعيون: 2/ 75، وزاد المسير: 1/ 596.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12933): ص 11/ 166، زاد المسير: 1/ 596.

(17)

انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(18)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 156 - 157، والنكت والعيون: 2/ 75.

ص: 595

وفي قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، ثلاثة اقوال:

أحدها: من غير ملتكم ودينكم، قاله ابن عباس (1)، وعبيدة (2)، وشريح (3)، وسعيد بن المسيب (4)، ومحمد بن سيرين (5)، ويحي بن يعمر (6)، وعكرمة (7)، ومجاهد (8)، وسعيد بن جبير (9)، والشعبي (10)، وإبراهيم النخعي (11)، وقتادة (12)، وأبي مجلز (13)، والسدي (14)، ومقاتل بن حيان (15)، وابن زيد (16).

والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا. قاله الحسن (17)، وعبيدة (18)، وعكرمة (19)، وهو معنى قول الزهري (20).

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6934): ص 4/ 1229.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12915): ص 11/ 163، وتفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد

(3)

انظر: تفسير الطبري (12909): ص 11/ 162.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12859): ص 11/ 160.

(5)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12908): ص 11/ 162.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12922): ص 11/ 164.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12900): ص 11/ 161.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12926): ص 11/ 165.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12902): ص 11/ 161.

(12)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(13)

انظر: تفسير الطبري (12901): ص 11/ 161.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(15)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد.

(16)

انظر: تفسير الطبري (12929): ص 11/ 165.

(17)

انظر: تفسير الطبري (12932)، و (12934)، و (12938): ص 11/ 166 - 167، وتفسير ابن أبي حاتم (6936): ص 4/ 1230.

(18)

انظر: تفسير الطبري (12939): ص 11/ 167

(19)

انظر: تفسير الطبري (12935) - (12937): ص 11/ 167، والنكت والعيون: 2/ 75، وزاد المسير: 1/ 596.

(20)

انظر: تفسير الطبري (12933): ص 11/ 166، زاد المسير: 1/ 596.

ص: 596

والثالث: من أهل الميراث. قاله ابن شهاب (1).

والراجح-والله أعلم- ان المراد أو آخران من غير أهل الإسلام، " وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم، وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين، فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام، فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه"(2).

وفي «أو» قولان:

أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإنما المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس (3)، وزيد بن اسلم (4)، وشريح (5)، ويحيى بن يعمر (6)، وأبو مجلز (7)، سعيد بن المسيب (8)، وسعيد بن جبير (9)، وإبراهيم (10)، والشعبي (11)، والسدي (12).

والثاني: أنها للتخيير، ذكره الطبري عن آخرين (13).

(1) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6935): ص 4/ 1229 - 1230.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 168 - 169.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12946): 11/ 171.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12931): 11/ 166.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12909): 11/ 162.

(6)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 722.

(7)

انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 722.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12942): 11/ 170.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12945): 11/ 171.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12945): 11/ 171.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12926): 11/ 165.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12944): 11/ 171.

(13)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 171 - 172، والنكت والعيون: 2/ 75.

ص: 597

قال الطبري: " ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير، وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر"(1).

قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106]، أي:" إن أنتم سافرتم في الأرض فحلَّ بكم الموت"(2).

قال الطبري: أي: " إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة"(3).

قال البغوي: " أي: سرتم وسافرتم"(4).

قال الزمخشري: " يعنى إن وقع الموت في السفر"(5).

قال ابن الجوزي: " هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إن أنتم ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. {فأصابتكم مصيبة الموت} "(6).

قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]، أي:" توقفونهما من بعد الصلاة"(7).

قال الطبري: "يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة"(8).

قال البغوي: أي: " فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما مالكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن تستوقفونهما بعد صلاة العصر"(9).

قال الزمخشري: أي: " بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس"(10).

وفي هذه «الصلاة» ثلاثة أقوال:

(1) تفسير الطبري: 11/ 171 - 172.

(2)

التفسير الميسر: 125.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 172.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 112.

(5)

الكشاف: 1/ 687.

(6)

زاد المسير: 1/ 596.

(7)

التفسير الميسر: 125.

(8)

تفسير الطبري: 11/ 172.

(9)

تفسير البغوي: 3/ 112.

(10)

الكشاف: 1/ 687.

ص: 598

أحدها: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس (1)، وبه قال شريح (2)، وعبيدة (3)، وابن جبير (4)، وإبراهيم (5)، وقتادة (6)، والشعبي (7).

قال البغوي: " وهذا قول عامة المفسرين، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب"(8).

والثاني: بعد صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. حكاه الزمخشري عن الحسن (9).

والثالث: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس (10). وقال به.

(1) انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 596.

(3)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6940): ص 4/ 1230.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12949): 11/ 174.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12950): 11/ 174.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12951): 11/ 174.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12948): 11/ 174.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 113.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 687.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12954): ص 11/ 175 - 176، والسدي لم يسمع من ابن عباس، وهذا قول منكر، ليس بشيء.

ص: 599

والراجح –والله أعلم- هو القول الاول، " لأن الله تعالى عرَّف «الصلاة» في هذا الموضع بإدخال «الألف واللام» فيها، ولا تدخلهما العرب إلا في معروف، إما في جنس، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك، وكانت «الصلاة» في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات، لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى، لأن لهم صلوات ليست واحدة، فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك، صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلمصحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: {تحبسونهما من بعد الصلاة}، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، وذلك لقربه من غروب الشمس"(1).

وقال الزجاج: كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس" (2).

وقال ابن قتيبة: " وخصّ هذا الوقت، لأنه قبل وجوب الشمس، وأهل الأديان يعظمونه ويذكرون الله فيه، ويتوقّون الحلف الكاذب وقول الزّور، وأهل الكتاب يصلّون لطلوع الشمس وغروبها"(3).

(1) تفسير الطبري: 11/ 176 - 177.

(2)

معاني القرآن: 2/ 216.

(3)

تأويل مشكل القرآن: 219.

ص: 600

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت: لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها، أغنى ذلك عن التقييد، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه: إذا صلى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر. ويجوز أن تكون اللام للجنس، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفا في النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] "(1).

قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106]، أي:" أي يحلفان بالله إن شككتم وارتبتم في شهادتهما"(2).

قال السدي: " فيقسمان بالله أصاحبكم لهذا أوصى وأن هذه لتركته"(3).

قال الطبري: " يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها و «الارتياب»، هو الاتهام "(4).

قال الزجاج: " {إن ارتبتم}، إن وقع في أنفسكم منهم ريب، أي ظننتم بهم ريبة"(5).

قال النسفي: أي: "إن شككتم في أمانتها فحلفوهما"(6).

قال ابن قتيبة: " إن ارتبتم في شهادتهما وشككتم، وخشيتم أن يكونا قد غيّرا، أو بدّلا وكتما وخانا"(7).

قال السمعاني: " يعني: إن وقعت لكم ريبة في قول الحالفين أو الشاهدين يحلفان"(8).

قال البغوي: " أي: يحلفان، {بالله إن ارتبتم} أي: شككتم ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما، أي: في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما"(9).

(1) الكشاف: 1/ 688.

(2)

صفوة التفاسير: 341.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6943): ص 4/ 1231.

(4)

تفسير الطبري: 11/ 172.

(5)

معاني القرآن: 2/ 216.

(6)

تفسير النسفي: 1/ 482.

(7)

تأويل مشكل القرآن: 219.

(8)

تفسير السمعاني: 2/ 76.

(9)

تفسير البغوي: 3/ 113.

ص: 601

قال ابن الجوزي: " أي: فيحلفان إن ارتبتم أي: شككتم ي أولياء الميت. ومعنى الآية: إذا قدم الموصى إليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: {إن ارتبتم} متعلق بتحبسونهما، كأنه قال: إن إرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما، فيحلفان بالله"(1).

قال الزمخشري: " {إن ارتبتم}، اعتراض بين القسم والمقسم عليه. والمعنى: إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما. وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما وعن على رضى الله عنه (2): أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما"(3).

قال ابن شهاب: "كانوا يقولون هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم، فيشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى وغيرهم فيخبرون من غاب عنهم منهم بما حضروا من وصيته، فإن سلموا جازت وصيته، وإن إرتابوا في أن يكون بدلوا قول الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا، وتركوا من لم يوص له الميت بشيء يحلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي صلاة المسلمين: {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا}، الآية"(4).

(1) زاد المسير: 1/ 596 - 597.

(2)

قال المحقق: " فأما تحليف الشاهد. فلم أره. وأما تحليف الراوي فرواه أصحاب السنن الثلاثة: البزار وابن حبان من رواية اسماء بن الحكم الفزاري عن على رضى الله عنه قال «إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته قال: وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- الحديث» قال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وروى بعضهم هذا الحديث موقوفا» أى المتن دون القصة. وقال البزار: أسماء هذا مجهول". [انظر: الكشاف: 1/ 688 - الهامش (1)].

(3)

الكشاف: 1/ 688.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6943): ص 4/ 1231 - 1232.

ص: 602

قوله تعالى: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106]، أي:" أي لا نحلف بالله كاذبين من أجل المال ولو كان من نُقسم له قريباً لنا "(1).

قال أبو العالية: " يقول: لا نأخذ عليه أجرا"(2).

قال مقاتل بن حيان: " لا نشتري بأيماننا ثمنا من الدنيا ولو كان ذا قربى"(3).

عن سعيد بن جبير في قول الله: " {ذا قربى}، يعني: قرابته"(4).

قال الطبري: " يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا"(5).

قال السمعاني: " أي: لا نقول إلا الصدق ولو كان على القريب"(6).

قال البغوي: " أي: لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه أو مال نذهب به أو حق نجحده ولو كان المشهود له ذا قرابة منا"(7).

قال ابن الجوزي: " أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف شهادتنا، عرضا من الدنيا ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، وخص ذا القرابة، لميل القريب إلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحدا، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور"(8).

قال الزمخشري: " يعنى: لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا، أى لا نحلف كاذبين لأجل المال، ولو كان من نقسم له قريبا منا، على معنى: أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] "(9).

(1) صفوة التفاسير: 341.

(2)

أخرجه ابن ابي حاتم (6945): ص 4/ 1232.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (6946): ص 4/ 1232.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6948): ص 4/ 1232.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 173.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 76.

(7)

تفسير البغوي: 3/ 113.

(8)

زاد المسير: 1/ 597.

(9)

الكشاف: 1/ 688.

ص: 603

عن ابن عباس قوله: " {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت}، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا"(1).

وفي قوله تعالى: {لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106]، وجهان:

أحدهما: لا نأخذ عليه رشوة، قاله ابن زيد (2).

والثاني: لا نعتاض عليه بحق (3).

قوله تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106]، أي:" ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها"(4).

قال الزمخشري: " {شهادة الله}، أى: الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها"(5).

قال ابن الجوزي: " إنما أضيفت الشهادة إلى الله، لأمره بإقامتها، ونهيه عن كتمانها"(6).

قال أصبغ بن الفرج: "سمعت عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول في قوله: {ولا نكتم شهادة الله} قال: وإن كان صاحبها بعيدا"(7).

قوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106]، أي:" إنّا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين"(8).

قال الواحدي والبغوي: " أي: إنا إن كتمناها كنا من الآثمين"(9).

قال ابن قتيبة: " فإذا حلفا بهذه اليمين على ما شهدا به، قبلت شهادتهما، وأمضي الأمر على قولهما"(10).

وقرئ: «لملاثمين» بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها، كقوله: عاد لولى (11).

(1) أخرجه الطبري (12947): ص 11/ 173.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12955): ص 11/ 177.

(3)

انظر: النكت والعيون: 2/ 77.

(4)

صفوة التفاسير: 341.

(5)

الكشاف: 1/ 688.

(6)

زاد المسير: 1/ 597.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6950): ص 4/ 1232.

(8)

صفوة التفاسير: 341.

(9)

التفسير البسيط: 7/ 572، وتفسير البغوي: 2/ 113

(10)

تأويل مشكل القرآن: 219.

(11)

انظر: الكشاف: 1/ 688.

ص: 604

واختلف العلماء لأي معنى وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال:

أحدها: لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري (1).

والثاني: لوصية وقعت بخط الميت وفقد ورثته بعض ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس (2).

والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون: كان مال ميتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن (3)، ومجاهد (4).

وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم شهادة» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة» بالتنوين وإسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء، وقرأ الشعبي وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة، ومدها، وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية، وعمرو بن دينار مثله، إلا أنهما نصبا الهاء (5).

قال الطبري: " وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: {ولا نكتم شهادة الله}، بإضافة «الشهادة» إلى اسم «الله»، وخفض اسم «الله»، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة"(6).

وعلى قول القائل بأن المراد بقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]، أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر، فلهم في حكم هذه الآية قولان:

(1) انظر: تفسير الطبري (12954): ص 11/ 175 - 176.

(2)

انظر: زاد المسير: 1/ 597.

(3)

انظر: زاد المسير: 1/ 597.

(4)

انظر: زاد المسير: 1/ 597.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 177 - 178، وزاد المسير: 1/ 597.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 177.

ص: 605

أحدهما: أنها محكمة، وشهادة أهل الكتاب على الوصية خاصة في السفر جائزة عند فقد المسلمين للضرورة، والعمل على هذا باق، وهذا قول عائشة (1)، وأبي موسى الأشعري (2)، وابن عباس (3)، وشريح (4)، عبيدة (5)، وهشام بن هبيرة (6)، ومحمد (7)، وإبراهيم (8)، ومجاهد (9)، ويحي بن يعمر (10)، وابن المسيب (11)، وابن جبير (12)، وابن سيرين (13)، وقتادة (14)،

(1) انظر: الإيضاح، مكي بن ابي طالب:238.

(2)

انظر: انظر: تفسير الطبري (12926): ص 11/ 165، والإيضاح، مكي بن ابي طالب: 238، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (290)، و (291): ص 1/ 157 - 158.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (6934): ص 4/ 1229، والإيضاح، مكي بن ابي طالب: 238، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12909): ص 11/ 162، والإيضاح، مكي بن ابي طالب: 238، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (292): ص 1/ 158.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12915): ص 11/ 163، وتفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (294): ص 1/ 159.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12913): ص 11/ 163.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12928): ص 11/ 165.

(8)

انظر: تفسير الطبري (12902): ص 11/ 161، والإيضاح، مكي بن ابي طالب: 238، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (298): 1/ 160.

(9)

انظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (293): 1/ 159.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12908): ص 11/ 162.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12859): ص 11/ 160، والإيضاح، مكي بن ابي طالب: 238، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (295): ص 1/ 159.ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12900): ص 11/ 161، والإيضاح، مكي بن ابي طالب: 238، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (296): ص 1/ 159، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(13)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229. ذكره دون إسناد، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(14)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 4/ 1229 .. ذكره دون إسناد، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

ص: 606

والشعبي (1)، والثوري (2)، والأوزاعي (3)، وأحمد بن حنبل (4)، والطبري (5).

قال القاسم بن سلام: " فجلّ العلماء وعظمهم من الماضين يتأولونها في أهل الذمة ويرونها محكمة .. ومما يزيد قولهم قوة وتوكيدا تتابع الآثار في سورة المائدة بقلة المنسوخ منها، وأنها من محكم القرآن"(6).

قال ابن قتيبة: " وأكثر العلماء يذهب إلى أن هذا باب من الحكم (محكم) وأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء، لأنها آخر ما نزل"(7).

عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس قالا:"قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها "(8).

وعن جبير بن نفير قال: "حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير هل تقرأ المائدة؟ قلت: نعم: قالت: أما إنها من آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم فيها من حرام فحرموه"(9).

(1) انظر: تفسير الطبري (12926): ص 11/ 165، والناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (297): 1/ 160، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(2)

انظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (300): 1/ 160، نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421. ولم أتمكن من تخريجه.

(3)

انظر: الإيضاح، مكي بن ابي طالب:238.

(4)

انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(5)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 207 - 209.

(6)

الناسخ والمنسوخ: 1/ 155، 160.

(7)

تأويل مشكل القرآن: 221.

(8)

أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى أبى عبيد ج 3 سورة المائدة ص 4، واظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (301): ص 1/ 161.

(9)

رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي فى التلخيص (المستدرك ج 2، كتاب التفسير: المائدة ص 311.

ورواه البيهقي فى السنن الكبرى، كتاب النكاح «باب نكاح حرائر أهل الكتاب» ج 7 ص 172، وانظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (302): ص 1/ 161.

ص: 607

وعن أبي ميسرة قال: "في المائدة ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ"(1).

وعن ابن عون قال: "سألت الحسن: هل نسخ من المائدة شيء؟ فقال: لا"(2).

والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُم} [الطلاق: 2]، وهو قول ابن عباس (3)، وإبراهيم (4)، وزيد بن أسلم (5)، وإليه يميل أبو حنيفة (6)، ومالك (7)، والشافعي (8).

واحتجوا بقول الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وبقوله عز وجل:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ} [البقرة: 282]، قالوا ولا يكون أهل الشرك عدولا أبدا، ولا ممن ترضى شهادته (9).

(1) أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى الفريابي وأبي عبيد وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ ج 3 سورة المائدة ص 4، وانظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (303): ص 1/ 161 - 162.

(2)

أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى عبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر ج 3 سورة المائدة ص 4.

، وانظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام (304): ص 1/ 162.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12985): ص 11/ 207.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12984): ص 11/ 207.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12931): 11/ 165، نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(6)

انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(7)

انظر: الناسخ والمنسوخ للقاسم بن سلام: 1/ 162، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(8)

انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

(9)

انظر: الناسخ والمنسوخ للقسم بن سلام: 1/ 162، ونواسخ القرآن لابن الجوزي: 2/ 421.

ص: 608

أخرج الطبري عن زيد بن أسلم في هذه الآية: " {شهادة بينكم} الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها"(1).

وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: "هي منسوخة، يعني هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}، الآية"(2).

قال ابن الجوزي: "والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال"(3).

قال الواحدي: " فإن قيل: إن أهل الذمة لا يكونون عدولًا ولا تقبل شهادتهم، قيل: هذا من مواضع الضرورات التي يجوز فيها ما لا يجوز في مواضع الاختيارات، وقد أجاز الله تعالى في الضرورة التيمم وقصر الصلاة في السفر والجمع، والإفطار في شهر رمضان، وأكل الميتة في حال الضرورة، ولا ضرورة أعظم من ضرورة تبطل حقوقا وتضيع أمورًا على الميت من زكوات وكفارات أيمان وودائع للناس من ديون وحقوق، متى لم يبينها بطلت، فجاز عند الضرورة الإيصاء إلى أهل الذمة، كما جاز في الأشياء التي وصفناها، وكما يجوز شهادة نساء لا رجل معهن في الحيض، والحبَل، والولادة، والاستهلال"(4).

الفوائد:

ا- مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً، والحث عليها والترغيب فيها.

2 -

وجوب الإشهاد على الوصية.

(1) تفسير الطبري (12931): 11/ 165.

(2)

تفسير الطبري (12985): ص 11/ 207، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (6965): ص 4/ 1235. [وسيأتي].

(3)

زاد المسير: 1/ 596.

(4)

التفسير البسيط: 7/ 573 - 574.

ص: 609

3 -

اشتراط العدالة في الشهادة عند التحمل، والفاسق الأمين الموثوق تقبل شهادتهما، عليه فإن العدالة شرط قدر الإمكان، وإذا لم يكن فإنه تقبل شهادة الفاسق بشرط ان يكون ثقة، وكم من غنسان يكون فاسقا في عبادته لكنه امين في شهادته.

4 -

يجوز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود مسلم.

5 -

مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.

وهذا بناء على أن الآية غير منسوخة وهو قول الأقلية كأحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو الراجح، والآية دلالتها قوية عليه، وأما التخوف من قوله تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} فلا داعي إليه مع وجود ضرورة السفر وانعدام وجود المسلم، كما لا محذور من تحليف الشاهد إذا حامت حوله ريبة أو شك في عدالته لاسيما في ظروف تقل فيها العدالة لفساد أحوال الناس. ولهذا فإنها محكمة والعمل بها جائر. والله أعلم.

6 -

استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين.

7 -

أن الحلف لا يكون إلا بالله، لقوله:{فيقسمان بالله} ، فلو اقسم بغير الله حتى بمن يعظّم عندهم كالمسيح مثلا فإنها لا تقبل ولا يعتد بها.

8 -

أن أقسامهما لا يلزم إلا عند الارتياب في شهادتهما، لقوله:{إن راتبتم} .

9 -

الإشارة ان للقرابة تأثيرا في الميل والعاطفة، لقوله:{ولو كان ذا قربى} ، وهذا شيء فطري معروف.

10 -

أن كتمان الشهادة إثم، لقوله:{إنا إذا لمن الآثمين} .

القرآن

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)} [المائدة: 107]

التفسير:

ص: 610

فإن اطلع أولياء الميت على أن الشاهدين المذكورين قد أثما بالخيانة في الشهادة أو الوصية فليقم مقامهما في الشهادة اثنان من أولياء الميت فيقسمان بالله: لَشهادتنا الصادقة أولى بالقبول من شهادتهما الكاذبة، وما تجاوزنا الحق في شهادتنا، إنا إن اعتدينا وشهدنا بغير الحق لمن الظالمين المتجاوزين حدود الله.

قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]، أي:" فإن اطلع أولياء الميت على أن الشاهدين المذكورين قد أثما بالخيانة في الشهادة أو الوصية"(1).

قال السمعاني: " يعني: فإن اطلع، وأظهر خيانتهما"(2).

قال ابن كثير: " أي: متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما"(3).

قال الطبري: أي: " فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله، على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا، وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا، فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا، أو غيرا وصيته، أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما"(4).

قال الماوردي: " يعني: فإن ظهر على أنهما كَذَبَا وخَانَا، فعبر عن الكذب بالخيانة والإِثم لحدوثه عنهما"(5).

قال قتادة: " أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما"(6).

(1) التفسير الميسر: 125.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 76.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 218.

(4)

تفسير الطبري: 11/ 180.

(5)

النكت والعيون: 2/ 77.

(6)

أخرجه الطبري (12962): ص 11/ 181.

ص: 611

قال ابن عباس: " فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد. فذلك قوله: {فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا}، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا، {فآخران يقومان مقامهما}، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله: إن شهادة الكافرين باطلة، وإنا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء"(1).

قال سعيد بن جبير: " إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب، فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا، ثم استحقوا"(2). وروي عن إبراهيم مثل ذلك (3).

وأصل «العثر» ، الوقوع على الشيء والسقوط عليه، ومن ذلك قولهم: عثرت إصبع فلان بكذا، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس (4):

بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْنَاةٍ إذَا عَثَرَتْ

فَالتَّعْسُ أَدْنَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا

يعني بقوله: «عثرت» ، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه، ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا، كقولهم:"عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ"(5)، بمعنى: وقعت (6).

وفي الذين قوله تعالى: {عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107]، قولان:

أحدهما: أنهما الشاهدان، قاله ابن عباس (7).

(1) أخرجه الطبري (12961): ص 11/ 181.

(2)

أخرجه الطبري (12959): ص 11/ 181.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12960): ص 11/ 181.

(4)

ديوانه: 83، من قصيدته في هوذة بن علي الحنفي.

(5)

هذا مثل. مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 181، الأمثال للميداني 1/ 395، والأمثال لأبي هلال العسكري:142.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 179 - 180.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12961): ص 11/ 181.

ص: 612

والثاني: أنهما الوصيان، قاله سعيد بن جبير (1).

قوله تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة: 107]، أي:" فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين وليكونا من أولى من يستحق الميراث"(2).

قال الطبري: " يقول: يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما"(3).

قال ابن كثير: " فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال"(4).

قال الماوردي: " يعني: من الورثة، {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} في اليمين، حين ظهرت الخيانة"(5).

قال السمعاني: معناه: " إن عثر على خيانة الحالفين؛ يقوم الأوليان من أولياء الميت؛ فيحلفان"(6).

قال السدي: " {على الأوليان}، يقول: من الذين شهد عليها"(7).

وفي قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ} [المائدة: 107]، قولان:

أحدهما: الأوليان بالميت من الورثة، قاله سعيد بن جبير (8)، وابن زيد (9).

والثاني: الأوليان بالشهادة من المسلمين، قاله ابن عباس (10)، وشريح (11)، وقتادة (12).

(1) انظر: تفسير الطبري (12959): ص 11/ 181.

(2)

صفوة التفاسير: 342.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 180.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 218.

(5)

النكت والعيون: 2/ 77.

(6)

تفسير السمعاني: 2/ 76.

(7)

أخرجه ابن أبي حاتم (6957): ص 4/ 1223.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 77.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12978): ص 11/ 203.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12976)، و (12977): ص 11/ 202.

(11)

انظر: تفسير الطبري (12974): ص 11/ 201 - 202.

(12)

انظر: تفسير الطبري (12975): ص 11/ 202.

ص: 613

قال الطبري: " {الأوليان}، معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى، وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى ثم حذف «منهما»، والعرب تفعل ذلك فتقول: فلان أفضل، وهي تريد: أفضل منك، وذلك إذا وضع: «أفعل» موضع الخبر، وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه «الألف واللام»، فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى، فقالوا: هذا الأفضل، وهذا الأشرف، يريدون: هو الأشرف منك"(1).

قال الزمخشري: " ومعنى «الأولية»: التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها"(2).

قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائى: {استحق عليهم الأولين} : {استحق} مضمومة التاء، {الأولين} على التثنية. وقرأ عاصم فى رواية أبى بكر وحمزة:{استحق} برفع التاء، {الأولين} جمعا. وروى حفص عن عاصم:{استحق} بفتح التاء، {الأولين} مثل أبى عمرو على التثنية (3).

وروى نصر بن على عن أبيه عن قرة قال: "سألت ابن كثير فقرأ {استحق} بفتح التاء {الأولين} بالأف على التثنية"(4).

قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107]، أي:" فيقسمان بالله: لَشهادتنا الصادقة أولى بالقبول من شهادتهما الكاذبة"(5).

قال ابن عباس: " يقول: يحلفان بالله ما كان صاحبنا يوصي بهذا أو أنهما لكاذبان، ولشهادتنا أحق من شهادتهما"(6).

قال السدي: " حلفا بالله لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها أحق من شهادتهما بما شهدا"(7).

(1) تفسير الطبري: 11/ 203.

(2)

الكشاف: 1/ 689.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 248.

(4)

السبعة في القراات: 249.

(5)

التفسير الميسر: 125.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (6958): ص 4/ 1223.

(7)

أخرجه ابن ابي حاتم (6959): ص 4/ 1224.

ص: 614

قال مقاتل بن حيان: " يقول: فيحلفان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا وإن الذي نطلب قبل الدارين لحق"(1).

قال ابن كثير: " أي: لقولنا: إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة"(2).

قال الطبري: أي: " فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا، وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها"(3).

قال الواحدي: " وسميت «اليمين» ههنا: شهادة، لأن اليمين كالشهادة على ما يجب عليه أنه كذلك"(4).

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا، وفيه أقوال:

أحدها: إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام، وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله، أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله. وهذا قول ابن عباس (5)، والسدي (6).

والثاني: إذا ارتابت الورثة من الشاهدين، لادعاءهما أن الميت أوصى لهما ببعض المال. وهذا قول يحيى بن معمر (7).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (6960): ص 4/ 1224.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 218.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 203.

(4)

التفسير الوسيط: 2/ 242.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12963): ص 11/ 182.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12964): ص 11/ 182 - 183.

(7)

انظر: تفسير الطبري (12965): ص 11/ 183.

ص: 615

والصواب-والله أعلم- "أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله، ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ، ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما، وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما، فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه، ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة، ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة، فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت، لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها، فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك ولا - إذا لم نجد ذلك كذلك - صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره، فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة، كان واضحًا فسادُه"(1).

قال ابن عباس: " خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء، فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته، فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة، فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: {لشهادتنا أحق من شهادتهما}، وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنزلت: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} "(2).

(1) تفسير الطبري: 11/ 183 - 184.

(2)

أخرجه الطبري (12966): ص 11/ 185. وسبقت الإشارة إليه في سبب نزول الآية رقم (106).

ص: 616

قوله تعالى: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} [المائدة: 107]، أي:" وما تجاوزنا الحق في شهادتنا"(1).

قال ابن كثير: " أي: فيما قلنا من الخيانة "(2).

قال الواحدي: أي: " فيما قلنا من أن شهادتنا أحق من شهادتهما"(3).

قال البغوي: أي: " في أيماننا، وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادتهما"(4).

قال الطبري: " يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا"(5).

قال السمرقندي: أي: " في الشهادة والدعوى"(6).

قال أبو السعود: " أي: ما تجاوزنا فيها الحق أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما"(7).

قوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 107]، أي:" إنا إن اعتدينا وشهدنا بغير الحق لمن الظالمين المتجاوزين حدود الله"(8).

قال ابن كثير: " أي: إن كنا قد كذبنا عليهما"(9).

قال الطبري: " يقول: إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا، فحلفنا مبطلين فيها كاذبين، لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه، ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس"(10).

قال السمرقندي: أي: " إنا إذا اعتدينا فحينئذ لمن الظالمين"(11).

قال أبو السعود: " استئناف مقرر لما قبله أي إنا إن اعتدينا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه"(12).

قال مقاتل بن حيان: " هذا قول الشاهدين أولياء الميت حين اطلع على خيانة الدارين"(13).

(1) التفسير الميسر: 125.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 218.

(3)

التفسير الوسيط: 2/ 242.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 114.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 203.

(6)

بحر العلوم: 1/ 426.

(7)

تفسير أبي السعود: 3/ 91.

(8)

التفسير الميسر: 125.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 218.

(10)

تفسير الطبري: 11/ 203.

(11)

بحر العلوم: 1/ 426.

(12)

تفسير أبي السعود: 3/ 91.

(13)

أخرجه ابن ابي حاتم (6961): ص 4/ 1224.

ص: 617

قال البغوي: " فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله بعد العصر فدفعا الإناء إليهما وإلى أولياء الميت (1)، وكان تميم الداري بعدما أسلم يقول صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره، وإنما انتقل اليمين إلى الأولياء لأن الوصيين ادعيا أنهما ابتاعاه.

والوصي إذا أخذ شيئا من مال الميت وقال: إنه أوصى لي به حلف الوارث، إذا أنكر ذلك، وكذلك لو ادعى رجل سلعة في يد رجل فاعترف ثم ادعى أنه اشتراها من المدعي، حلف المدعي أنه لم يبعها منه.

ويروى عن ابن عباس (2) رضي الله عنهما عن تميم الداري قال: كنا بعنا الإناء بألف درهم فقسمتها أنا وعدي، فلما أسلمت تأثمت فأتيت موالي الميت فأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف عمرو والمطلب فنزعت الخمسمائة من عدي، ورددت أنا الخمسمائة" (3).

الفوائد:

1 -

جواز تنقيب من عليه الحق عن القضية والتدقيق فيها حتى يعثر على حقٍّ فيها؛ لقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا} والعِثار لا يكون إلا بعد التحرِّي.

2 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الشاهدَينِ إذا غيَّرا في الشهادة بزيادة أو نقص أو تبديل فهُما آثمان؛ لقوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} وذلك بكون الشهادة غير صحيحة؛ لأن هذا إثمٌ.

3 -

الإشارة إلى أن الإرث يكون للأَوْلى فالأَوْلى؛ يؤخذ من قوله: {الْأَوْلَيَانِ} وقد جاء الحديث مقرِّرًا ذلك وهو قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"(4).

(1) انظر: تفسير الطبري (12967)، و (12968): ص 11/ 185 - 188.

(2)

سنن الترمذي: 8/ 426 - 431، وتفسير الطبري (12967): ص 11/ 186.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 114.

(4)

متفق عليه؛ أخرجه البخاري (6732) ومسلم (1615/ 2) من حديث ابن عباس.

ص: 618

4 -

أن تُرَدَّ اليمين على المدَّعِي؛ لقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} .

5 -

أن المدَّعَى عليه لا يجزم ببُطلان شهادة الشاهد التي تبيَّن أن فيها شيئًا من الخلل؛ لقوله: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} بهذا اللفظ، ولم يقُل: باطلة. لكن قوله: {أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يستلزم أن تكون مردودة وأن القول قول المدَّعَى عليه

6 -

ومن فوائد هذه الآية: أنه إذا احتيج في الشهادة أو في القَسَم إلى إثباتٍ ونفيٍ فلا بد من ذكر الإثبات والنفي؛ فقولهما -يعني الأَوْليينِ- {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ، فهذا إثبات، {وَمَا اعْتَدَيْنَا} هذا نفيٌ، فإذا احتيج إلى ذلك فلا بد من ذكر النفي والإثبات حتى تكون الشهادة خالصة.

7 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن ردَّ الأَوْليينِ لشهادة الشاهدَينِ أعظمُ اعتداءً من تغيير الشهادة من الشاهدين؛ ووجه ذلك أنه بتغيُّر الشهادة من الشاهدين قال: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} ، وهنا قال:{إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} .

القرآن

{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)} [المائدة: 108]

التفسير:

ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما، أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها خوفًا من عذاب الآخرة، أو خشية من أن ترد اليمين الكاذبة من قِبَل أصحاب الحق بعد حلفهم، فيفتضح الكاذب الذي ردت يمينه في الدنيا وقت ظهور خيانته. وخافوا الله -أيها الناس- وراقبوه أن تحلفوا كذبًا، وأن تقتطعوا بأيمانكم مالا حرامًا، واسمعوا ما توعظون به. والله لا يهدي القوم الفاسقين الخارجين عن طاعته.

ص: 619

قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108]، أي:" ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما، أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها خوفًا من عذاب الآخرة"(1).

قال ابن عباس: " يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها"(2).

قال قتادة: " يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم"(3).

عن مقاتل بن حيان قوله: " {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها}، يعني: الدارين"(4).

قال ابن قتيبة: " أي: هذا الحكم أقرب بهم إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني: أهل الذمة"(5).

قال الطبري: أي: " هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم، ولا يكتموا، ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا"(6).

قال ابن الجوزي: " أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين، أقرب إلى إتيان أهل الذمة بالشهادة على ما كانت، وأقرب"(7).

قال الجصاص: يعني: " أقرب أن لا يكتموا ولا يبدلوا"(8).

قال السمرقندي: " يعني: ذلك أحرى وأجدرأن يقيموا شهادة المدعي مقام شهادة المدعى عليه إذا ظهرت الخيانة، لكي لا يخونا في الشهادة، ويأتيا بالشهادة على وجهها"(9).

قال الثعلبي: " أي: ذلك أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم"(10).

قال البغوي: " أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أجدر وأحرى أن يأتي الوصيان بالشهادة على وجهها وسائر الناس أمثالهم، أي أقرب إلى الإتيان بالشهادة على ما كانت"(11).

(1) التفسير الميسر: 125.

(2)

أخرجه الطبري (12979): ص 11/ 205.

(3)

أخرجه الطبري (12980): ص 11/ 205.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6963): ص 4/ 1234.

(5)

تأويل مشكل القرآن: 321.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 204.

(7)

زاد المسير: 1/ 599.

(8)

أحكام القرآن: 4/ 162.

(9)

بحر العلوم: 1/ 426.

(10)

الكشف والبيان: 4/ 122.

(11)

تفسير البغوي: 3/ 115.

ص: 620

قال ابن عطية: " قوله تعالى: {على وجهها}، معناه: على جهتها القويمة التي لم تبدل ولا حرفت"(1).

قال السدي: " يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما، فيحلفان بالله: "لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين، أنّ صاحبكم لبهذا أوصى، وأنّ هذه لتركته". فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا:"إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما". فإن قال لهما ذلك، فإنّ {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} " (2).

قوله تعالى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108]، أي:" أو خشية من أن ترد اليمين الكاذبة من قِبَل أصحاب الحق بعد حلفهم، فيفتضح الكاذب الذي ردت يمينه في الدنيا وقت ظهور خيانته"(3).

قال قتادة: " وأن يخافوا العَقِب"(4).

قال ابن زيد: " فتبطل أيمانهم، وتؤخذ أيمانُ هؤلاء"(5).

قال ابن قتيبة: " فيحلّفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفضحوا، أو يغرّموا"(6).

قال الجصاص: " يعني: إذا حلفا ما غيرا ولا كتما ثم عثر على شيء من مال الميت عندهما"(7).

قال الثعلبي: أي: "إذا خافوا رد اليمين وإلزامهم الحق"(8).

قال البغوي: " أي: أقرب إلى أن يخافوا رد اليمن بعد يمينهم على المدعي، فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم فيفتضحوا ويغرموا فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا هذا الحكم"(9).

(1) المحرر الوجيز: 2/ 256.

(2)

أخرجه الطبري (12982): ص 11/ 206.

(3)

التفسير الميسر: 125.

(4)

أخرجه الطبري (12980): ص 11/ 205.

(5)

أخرجه الطبري (12981): ص 11/ 205.

(6)

تأويل مشكل القرآن: 321.

(7)

أحكام القرآن: 4/ 162.

(8)

الكشف والبيان: 4/ 122.

(9)

تفسير البغوي: 3/ 115.

ص: 621

قال الطبري: أي: " يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله، أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب، فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم، فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته"(1).

قال السمعاني: " يعني: وإن يخافوا رد اليمين بعد يمينهم على المدعين؛ فلا يحلفوا على الكذب؛ خوفا من أن يرد اليمين عليهم، ويكون يمينهم أولى"(2).

قال السمرقندي: " يعني: إذا خافا أن ترد اليمين إلى غيرهما، امتنعا عن الكذب. وقد احتج بعض الناس بهذه الآية بأن اليمين ترد إلى المدعي، ولا حجة له فيه، لأن رد اليمين حادثة أخرى، وهو ظهور الخيانة منهما. لأن دعوى الثاني دعوى الشرى، ودعوى الأول دعوى الكتمان"(3).

أخرج ابن ابي حاتم عن ابن عباس قوله: " {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}، يعني: أولياء الميت فيستحقون ماله بأيمانهم ثم يوضع ميراثه كما أمر الله وتبطل شهادة الكافرين وهي منسوخة"(4).

وأخرج الطبري عن ابن عباس: " {فإن عُثر على أنهما استحقّا إثمًا}، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا، {فآخران يقومان مقامهما}، يقول: من الأولياء، فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد، فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: {ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم}، وليس على شُهود المسلمين أقسْام، وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين"(5).

(1) تفسير الطبري: 11/ 204.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 77.

(3)

بحر العلوم: 1/ 427.

(4)

تفسير ابن أبي حاتم (6965): ص 4/ 1235.

(5)

أخرجه الطبري (12979): ص 11/ 205.

ص: 622

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 108]، أي:" وخافوا الله -أيها الناس- وراقبوه أن تحلفوا كذبًا، وأن تقتطعوا بأيمانكم مالا حرامًا"(1).

قال البغوي وابن الجوزي: " أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة"(2).

قال السمرقندي: أي: " ولا تخونوا"(3).

قال الطبري: أي: " وخافوا الله، أيها الناس، وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله، وأن تخونوا من اتَّمنكم"(4).

قال ابن عطية: " ثم أمر تعالى بالتقوى التي هي الاعتصام بالله"(5).

قوله تعالى: {وَاسْمَعُوا} [المائدة: 108]، أي:" واسمعوا ما توعظون به"(6).

قال البغوي: أي: "الموعظة"(7).

قال السمرقندي: أي: " ما تؤمرون به"(8).

قال الزمخشري: أي: " سمع إجابة وقبول"(9).

قال البيضاوي: " أي: واسمعوا ما توصون به سمع إجابة"(10).

قال الطبري: " يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به، فاعملوا به، وانتهوا إليه"(11).

قال ابن عطية: أمر: " بالسمع لهذه الأمور المنجية"(12).

قال القرطبي: " أي: اسمعوا ما يقال لكم، قابلين له، متبعين أمر الله فيه"(13).

عن مقاتل بن حيان قوله: " {واتقوا الله واسمعوا}، يعني: القضاة"(14).

قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108]، أي:" والله لا يهدي القوم الفاسقين الخارجين عن طاعته"(15).

(1) التفسير الميسر: 125.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 115، وزاد المسير: 1/ 599.

(3)

بحر العلوم: 1/ 427.

(4)

تفسير الطبري: 11/ 206.

(5)

المحرر الوجيز: 2/ 256.

(6)

التفسير الميسر: 125.

(7)

تفسير البغوي: 3/ 115.

(8)

بحر العلوم: 1/ 427.

(9)

الكشاف: 1/ 689.

(10)

تفسير البيضاي: 2/ 148.

(11)

تفسير الطبري: 11/ 206.

(12)

المحرر الوجيز: 2/ 256.

(13)

تفسير القرطبي: 6/ 360.

(14)

أخرجه ابن ابي حاتم (6967): ص 4/ 1235.

(15)

التفسير الميسر: 125.

ص: 623

قال السمرقندي: " يعني: الخائنين"(1).

قال الطبري: " يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه"(2).

قال البيضاوي: " أي: لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة"(3).

قال ابن عطية: " أخبر أنه لا يهدي «القوم الفاسقين»، من حيث هم فاسقون، وإلا فهو تعالى يهديهم إذا تابوا، ويحتمل أن يكون لفظ «الفاسقين» عاما، والمراد الخصوص فيمن لا يتوب"(4).

قال القرطبي: " فسق يفسق ويفسق: إذا خرج من الطاعة إلى المعصية"(5).

قال ابن زيد: " {والله لا يهدي القومَ الفاسقين}، الكاذبين، يحلفون على الكذب"(6).

قال الطبري: " وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ، إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ، فذلك على معاني «الفسق» كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له"(7).

وفي الصحاح: «الهداية» بمعنى الارشاد والدلالة (8)، ويقال: هديتُهُ الطريقَ والبيتَ هداية، أي عَرَّفتُه به (9).

و«الهداية» : قد يأتي في كلام العرب: بمعنى التوفيق (10)، فمن ذلك قول الشاعر (11):

لا تَحْرِمَنِّي هَدَاكَ الله مَسْألتِي

وَلا أكُونَنْ كمن أوْدَى به السَّفَرُ

(1) بحر العلوم: 1/ 427.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 206.

(3)

تفسير البيضاي: 2/ 148.

(4)

المحرر الوجيز: 2/ 256.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 360.

(6)

أخرجه الطبري (12983): ص 11/ 206.

(7)

تفسير الطبري: 11/ 207.

(8)

الصحاح: مادة: الهُدى: ، ج 6، ص 2533.

(9)

المصباح المنير مادة (شَاءَ) و (هَدَى) 1/ 334.

(10)

انظر: تفسير الطبري: 1/ 167.

(11)

لم أتعرف على قائله، والبيت من شواهد الطبري: 1/ 167، وفي أمالي المرتضى: 1/ 160، من ابيات لودقة الأسدي يقولها لمعن بن زائدة.

ص: 624

يعنى به: وفَّقك الله لقضاء حاجتي. ومنه قول الآخر (1):

ولا تُعْجِلَنِّي هدَاك المليكُ

فإنّ لكلِّ مَقامٍ مَقَالا

فمعلوم أنه إنما أراد: وفقك الله لإصابة الحق في أمري.

ومنه قول الله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، أي:" لا يُوفِّقهم، ولا يشرَحُ للحق والإيمان صدورَهم"(2).

وذكر السمين الحلبي وجوها في معنى «الهداية» (3):

أحدها: الإرشاد.

والثاني: الدلالة.

والثالث: التقدم، ومنه هوادي الخيل لتقدمها قال امرؤ القيس (4):

فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها في صرة لم تزيل

فقوله: الهاديات، أي: أوائل بقر الوحش.

والرابع: التبيين نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17]. أي بيّنا لهم.

والخامس: الإلهام، نحو:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] أي ألهمه لمصالحه.

والسادس: الدعاء كقوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، أي: داع.

والسابع: وقيل هو الميل، ومنه {إنا هدنآ إليك} [الأعراف: 56]، والمعنى: مل بقلوبنا إليك، قال السمين الحلبي:"وهذا غلط، فإن تيك مادة أخرى من هاد يهود"(5).

وقال الحسن بن الفضل: " (الهدى) في القرآن على وجهين:

الوجه الأول: هدى دعاء وبيان كقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقوله:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7]، و {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ} [فصّلت: 17].

(1) نسبه المفضل بن سلمة في الفاخر: 253، وقال:" أول من قال ذلك طرفة بن العبد، في شعر يعتذر فيه إلى عمرو بن هند "، وليس في ديوانه، وانظر أمثال الميداني 2/ 125.

(2)

تفسير الطبري: 1/ 167.

(3)

انظر: الدر المصون: 1/ 63.

(4)

ديوانه: 22، وانظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: 31، إذ الرواية فيه (فالحقنا). وجواحرها، أي: متخلفاتها. لم تزيل: لم تتفرق.

(5)

الدر المصون: 1/ 63.

ص: 625

الوجه الثاني: هدى توفيق وتسديد كقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [النحل: 93]، وقوله:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] " (1).

الفوائد:

1 -

أنه كلما كان الشيء أقرب إلى استنتاج الصواب والحق بالشهادة فهو أَوْلى أن يُتَّبع؛ لقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} ؛ لأن الإنسان إذا فهِم أن من ورائه أُناسًا سيقومون برد شهادته والإقسام على بُطلانها فلا بد أن يتحرَّى الصدق فيما شهد به.

2 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب تقوى الله والسمع والطاعة له؛ لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} ، ومعنى {اسْمَعُوا} هنا: استجيبوا، كما سبق أيضًا في الشرح.

3 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه أخبر بأنه لا يهدي القوم الفاسقين؛ أي: الخارجين عن طاعته، وخبر اللهِ صِدقٌ.

4 -

ومن فوائد الآية: أن إضلال من ضل ليس لمجرد المشيئة؛ بل لوجود العلة التي كانت سبباً في إضلال الله العبد؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

5 -

ومنها: الرد على القدرية الذين قالوا: إن العبد مستقل بعمله. لا علاقة لإرادة الله تعالى به؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

6 -

وتجدر الإشارة بأن الفاسق يشمل الكافر والعاصي، ولكن فسْق الكافر أشد وأفحش.

والفسق نوعان:

أحدهما: - فسق يخرج عن الإسلام، والثاني: - وفسق لا يخرج عن الإسلام

قال ابن عباس رضي الله عنهما: " كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر، ومسرف، وظالم، وفاسق، فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذّنب "(2).

(1) تفسير الثعلبي: 1/ 119.

(2)

انظر: تفسير ابن جرير (1/ 142)، والدرر المنثور للسيوطي (1/ 105).

ص: 626

وقد روي عن ابن عباس وطاووس وعطاء وغير واحد من أهل العلم، قالوا:"كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق "(1).

قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله: " والفسق فسقان: فسق ينقل عن الملة، وفسق لا ينقل عن الملة، فيسمى الكافر فاسقًا، والفاسق من المسلمين فاسقًا"(2).

وها هنا أمر مهمّ لا بد من التنويه به، وهو أن الإيمان لما كان شعباً متعدّدة كما أخبر الصّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث شعب الإيمان (3)، فإن ما يقابله ويضاده كذلك، فالكفر شعب ومراتب، فمنه ما يُخرج من الملّة، ومنه كفر دون كفر، وكذا النفاق، والشرك، والفسق، والظلم، وهذا أصل عظيم تميّز به أهل السنة عن المبتدعة من الوعيدية والمرجئة (4).

القرآن

{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)} [المائدة: 109]

التفسير:

واذكروا -أيها الناس- يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل عليهم السلام، فيسألهم عن جواب أممهم لهم حينما دعوهم إلى التوحيد فيجيبون: لا علم لنا، فنحن لا نعلم ما في صدور الناس، ولا ما أحدثوا بعدنا. إنك أنت عليم بكل شيء مما خفي أو ظهر.

قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109]، أي:" واذكروا -أيها الناس- يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل عليهم السلام"(5).

قال الواحدي: " أَيْ: اذكروا ذلك اليوم"(6).

قال ابن عاشور: أي: " اذكر يوم يجمع الله الرسل"(7).

(1) أخرجه الترمذي في السنن، كتاب الإيمان.

(2)

تعظيم قدر الصلاة (2/ 526).

(3)

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .. » أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ح (9). ومسلم، كتاب الإيمان ح (35).

(4)

انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص (53 - 58).

(5)

التفسير الميسر: 126.

(6)

الوجيز: 341.

(7)

التحرير والتنوير: 7/ 98.

ص: 627

قال القاسمي: " تخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم، بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم، بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم"(1).

قال الزجاج: " ومعنى المسألة من الله تعالى للرسل تكون على جهة التوبيخ للذين

أرسلوا إليهم، كما قال عز وجل:{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9]

فإنما تسأل ليوبخ قاتلوها

أما نصب {يوم} فمحمول على قوله: {واتقوا الله واسمعوا} أي، واتقوا يوم يجمع الله الرسل، كما قال:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] " (2).

وفي الصحيح في حديث الشفاعة: "إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله"(3).

عن أبي أسامة الباهلي: " أن رجلا قال: يا رسول الله كم كان الرسل. قال: ثلاثمائة وخمسة عشر"(4).

قوله تعالى: {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، أي:" فيسألهم: ما الذي أجابتكم به أممكم؟ "(5).

قال الطبري: " يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم، حين دعوتموهم إلى توحيدي، والإقرار بي، والعمل بطاعتي، والانتهاء عن معصيتي؟ "(6).

قال القاسمي: أي: " ما الذي أجابكم من أرسلتم إليهم؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهدة الرسالة، إذا لم يقل: هل بلغتم رسالاتي؟ وفي توجيه السؤال إليهم. والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم بأن يقال: ماذا أجابوا- من الإنباء عن شدة الغضب الإلهي ما لا يخف"(7).

(1) محاسن التأويل: 4/ 289.

(2)

معاني القرآن: 2/ 218.

(3)

أخرجه البخاري في: الأنبياء، 3 - باب قول الله عز وجل: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه، حديث 1579 عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث 327 و 328.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (6969): ص 4/ 1235.

(5)

صفوة التفاسير: 344.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 209 - 210.

(7)

محاسن التأويل: 4/ 289.

ص: 628

قال محمد رشيد رضا: " والمراد من السؤال توبيخ أممهم، وإقامة الحجة على الكافرين منهم، والمعنى أي إجابة أجبتم، أإجابة إيمان وإقرار أم إجابة كفر واستكبار؟ فهو سؤال عن نوع الإجابة لا عن الجواب ماذا كان"(1).

قال أبو السعود: " أي: أي إجابة أجبتم من جهة أممكم: إجابة قبول أو إجابة رد؟ ، وقيل: بأي جواب أجبتم وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدر عنهم وهم شهود إلى الرسل عليهم السلام كسؤال الموءودة بمحضر من الوائد والعدول عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ماذا أجابوا من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة الغيظ والسخط عليهم ما لا يخفي"(2).

قوله تعالى: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109]، أي:" لا علم لنا إِلى جنب علمك"(3).

قال الثعلبي: " أي فيقولون: لا علم لنا"(4).

قال أبو السعود: " وصيغة الماضي في قوله: {قالوا}، للدلالة على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ} [الأعراف: 44]، ونظائرهما، وإنما يقولون ذلك تفويضا للأمر إلى علمه تعالى وإحاطته بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعرضا لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعته"(5).

وفي قوله تعالى: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109]، ستة تاويلات:

(1) تفسير المنار: 7/ 202.

(2)

تفسير أبي السعود: 3/ 93.

(3)

صفوة التفاسير: 344.

(4)

الكشف والبيان: 4/ 122.

(5)

تفسير أبي السعود: 3/ 93.

ص: 629

أحدها: لم يكن ذلك إنكاراً لِمَا علموه، ولكن ذهلوا عن الجواب من هول ذلك اليوم ثم أجابوا بعدما ثابت عقولهم، قاله الحسن (1)، ومجاهد (2)، والسدي (3)، وإسحاق بن خلف (4)، وروي عن ابن عباس نحوه (5)، واختاره الواحدي (6).

قال السمعاني: " فإن قال قائل: كيف يقولون: لا علم لنا، وقد علموا ما أجابوا؟

قيل: إن جهنم تزفر زفرة تذهل بها عقولهم؛ فيقولون من شدة الفزع: لا علم لنا؛ ثم يرد الله - تعالى - عليهم عقولهم، فيخبرون بالجواب" (7).

قال الزجاج: " قال بعضهم: لو كانت عزبت أفهامهم لم يقولوا: {إنك أنت علام الغيوب} "(8).

والثاني: لا علم لنا إلا ما علمتنا، قاله مجاهد –في قوله الآخر- (9).

والثالث: لا علم لنا إلا علمٌ أنت أعلَمُ به منَّا، قاله ابن عباس (10).

والرابع: لا علم لنا بما أجاب به أممنا، لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء، ذكره المارودي عن الحسن أيضاً (11)، وذكر الزجاج عن بعضهم نحوه (12).

(1) انظر: تفسير الطبري (12987): ص 11/ 210.

(2)

انظر: تفسير الطبري (12988): ص 11/ 210.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12986): ص 11/ 210.

(4)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6974): ص 4/ 1236.

(5)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (6970): ص 4/ 1235، وفيه: " {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا:

لا علم لنا}، قال: ثم يرد الله عليهم عقولهم فيكونون هم الذين يسألون. يقول الله: {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} ".

(6)

انظر: الوجيز: 341.

(7)

تفسير السمعاني: 2/ 77.

(8)

معاني القرآن: 2/ 218.

(9)

انظر: تفسير الطبري (12989): ص 11/ 211.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12990): ص 11/ 211.

(11)

انظر: النكت والعيون: 4/ 1236.

(12)

انظر: معاني القرآن: 2/ 218.

ص: 630

والخامس: أن معنى قوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} ، أي: ماذا عملوا بعدكم، {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوْبِ} ، قاله ابن جريج (1).

قال السمعاني: " وقيل: معناه: لا علم بعاقبة أمرهم، وبما أحدثوا من بعد، وأن أمرهم على ماذا ختم، وعلى هذا دل شيئان:

أحدهما: من الآية قوله {إنك أنت علام الغيوب} .

والثاني: ما روى صحيحا عن رسول الله أنه قال: «يسلك بطائفة من أصحابي ذات الشمال - يعني يوم القيامة - فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي، فيقول الله تبارك وتعالى: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول ما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (2)» (3) " (4).

(1) انظر: تفسير الطبري (12991): ص 11/ 211.

(2)

[المائدة: 117].

(3)

أخرجه أحمد (2096): ص 4/ 9 - 10، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه ابن أبي شيبة 11/ 157 و 13/ 247، ومسلم (2860)(58)، والنسائي 4/ 117 من طريق وكيع، بهذا الإسناد، ورواية ابن أبي شيبة مختصرة.

وأخرجه البخاري (2526)، ومسلم (2860)(58)، وابن حبان (7347) من طريق محمد بن جعفر، به.

وأخرجه الطيالسي (2638)، والدارمي (2802)، والبخاري (4625) و (4740)، ومسلم (2860)(58)، والنسائي 4/ 117، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 395 من طرق عن شعبة، به. وقد تقدم مختصرا برقم (1913)، وسيأتي برقم (2281) و (2282) و (2327).

(4)

تفسير السمعاني: 2/ 77 - 78.

ص: 631

قال الطبري: هذا" تأويل لا معنَى له، لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يَحدُث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك، وإذا سئلت عَمَّا عملت الأمم بعدها والأمر كذلك، فإنما يقال لها: ماذا عَرَّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهرُ خَبر الله تعالى ذكره عن مسألته إيّاهم، يدلّ على غير ذلك"(1).

والسادس: يعني: لا علم لنا بما كان في قلوبهم من الإيمان بك وغيره، إنما علمنا بما أظهروه من الإقرار باللسان {إنك أنت علام الغيوب} ، فقيل له: يطالبهم بحقيقة ما في قلوب الأمة؟ فقال: لا، وإنما وقع السؤال بنفسه إياهم عن حقيقة الظاهر الذي لا يظهر إلا بحقيقة الباطن، فأجابوا بالإشارة إلى رد العلم إليه. قاله التستري (2).

والصواب-والله أعلم- هو قول ابن عباس، أي:" لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منّا، لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا: {لا علم لنا إنَّك أنتَ علام الغيوب}، أي: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفيِّ العلوم وجليِّها. فإنما نَفى القومُ أن يكون لهم بما سُئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره لا أنَّهم نَفَوا أن يكونوا علموا ما شاهدُوا. كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنَّهم يُخْبرون بما أجابتهم به الأمم، وأنهم يسْتشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء، فقال تعالى ذكره: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} [سورة البقرة: 143] "(3).

فإن قيل: فلم سألهم عما هو أعلم به منهم؟ فعليه جوابان (4):

أحدهما: أنه إنما سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم.

والثاني: أنه أراد أن يفضحهم بذلك على الأشهاد ليكون ذلك نوعاً من العقوبة لهم.

(1) تفسير الطبري: 11/ 212.

(2)

تفسير التستري: 60.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 211 - 212.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 78.

ص: 632

وقرىء: «علام الغيوب» ، بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى:{أنت} ، أي: إنك أنت المنعوت بنعوت كمالك المعروف بذلك (1).

قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، أي:" إنك أنت عليم بكل شيء مما خفي أو ظهر"(2).

قال أبو السعود: " تعليل لذلك، أي: فتعلم ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمه مما أضمروه في قلوبهم وفيه إظهار للشكاة ورد للأمر إلى علمه تعالى بما لقوا من قبلهم من الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاء إلى ربهم في الانتقام منهم وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة ورد ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرهم وأنت خبير بأن مرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كفرة"(3).

قال محمد رشيد رضا: " يعني أنه ليس بنفي لعلمهم بإطلاق وإنما هو نفي لعلم الإحاطة الذي هو خاص بالخلاق العليم; إذ الرسل كانوا يعلمون ظاهر ما أجيبوا به من مخاطبيهم ولا يعلمون بواطنهم، ولا حال من لم يروه من أممهم، إلا ما يوحيه تعالى إليهم من ذلك، وهو قليل من كثير; ولذلك فقرنوا نفي العلم عنهم بإثبات المبالغة في علم الغيب له تعالى، فإن صيغة " علام " معناها كثير العلم، أي بكثرة المعلومات، وإلا فعلمه واحد محيط بكل شيء إحاطة كاملة. ولا يوصف تعالى بـ «العلامة»، ولعله لما فيه من «تاء» التأنيث، قال تعالى لنوح عليه السلام لما سأل ربه أن ينجي ولده من الطوفان: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]، وقال لخاتم رسله عليه الصلاة والسلام: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُم} [التوبة: 101] "(4).

الفوائد:

(1) انظر: تفسير أبي السعود: 3/ 94.

(2)

التفسير الميسر: 126.

(3)

تفسير أبي السعود: 3/ 94.

(4)

تفسير المنار: 7/ 203.

ص: 633

1 -

شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.

2 -

ومن الفوائد: تمام قدرة الله تبارك وتعالى، وذلك بجمعه الرسل في ذلك الموقف العظيم الذي يختلط فيه الآدميون والوحوش والسباع والإبل وغيرها، فيجمع الله الرسول سبحانه وتعالى بقدرته وإذنه.

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الرسل عليهم الصلاة والسلام، حيث إن الله سبحانه وتعالى يعتني بهم هذا الاعتناء؛ حتى إنه يسألهم يوم القيامة في هذا المشهد العظيم: ماذا أُجيبوا؟ تكريمًا لهم وإظهارًا لإبلاغهم الرسالة.

4 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تأدُّب الرسل عليهم الصلاة والسلام مع الله عز وجل، حيث قالوا:{لَا عِلْمَ لَنَا} هذا وجه.

الوجه الثاني: أنهم عرفوا قدر أنفسهم؛ وأنهم لا يعلمون الغيب.

الوجه الثالث: أنهم علموا أن الأمم بعدهم لا يعلمون عنها شيئًا حسب الاحتمالات التي ذكرناها في وجه قوله: {لَا عِلْمَ لَنَا} .

5 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات علم الغيب لله عز وجل؛ لقول الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذا القول إجماع منهم {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} يعني: لا غيرك، والكهنة يخبرون عن مغيبات المستقبل، لكنهم لهم أناس من الجن يستمعون الوحي، ويسترقونه، ويلقونه إلى الكاهن، ويضيف الكاهن إليه كذبات كثيرة، ويصدق بكلمة واحدة، وهذا لا ينافي القول بأن الله علام الغيوب وحده؛ لأن الله تعالى قال في هؤلاء الذين يسترقون السمع قال:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر 18] فاستثنى الله عز وجل، قال:{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} .

القرآن

ص: 634

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)} [المائدة: 110]

التفسير:

إذ قال الله يوم القيامة: يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب، وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين، وبرأتها مما نُسِب إليها، ومن هذه النعم على عيسى أنه قوَّاه وأعانه بجبريل عليه السلام، يكلم الناس وهو رضيع، ويدعوهم إلى الله وهو كبير بما أوحاه الله إليه من التوحيد، ومنها أن الله تعالى علَّمه الكتابة والخط بدون معلم، ووهبه قوة الفهم والإدراك، وعَلَّمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل عليه هداية للناس، ومن هذه النعم أنه يصوِّر من الطين كهيئة الطير فينفخ في تلك الهيئة، فتكون طيرًا بإذن الله، ومنها أنه يشفي الذي وُلِد أعمى فيبصر، ويشفي الأبرص، فيعود جلده سليمًا بإذن الله، ومنها أنه يدعو الله أن يحييَ الموتى فيقومون من قبورهم أحياء، وذلك كله بإرادة الله تعالى وإذنه، وهي معجزات باهرة تؤيد نبوة عيسى عليه السلام، ثم يذكِّره الله جل وعلا نعمته عليه إذ منع بني إسرائيل حين همُّوا بقتله، وقد جاءهم بالمعجزات الواضحة الدالة على نبوته، فقال الذين كفروا منهم: إنَّ ما جاء به عيسى من البينات سحر ظاهر.

ص: 635

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110]، أي:" إذ قال الله يوم القيامة: يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب، وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين، وبرأتها مما نُسِب إليها"(1).

قال السمعاني: " أمره بشكر النعمة"(2).

قال ابن كثير: " أي: في خلقي إياك من أم بلا ذكر، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء {وَعَلى وَالِدَتِكَ} حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة"(3).

وإنما ذكَّر الله عيسى عليه السلام نعمته عليه على والدته، وإن كان لهما ذاكراً لأمرين (4):

أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامة ومَيّزَه به من علو المنزلة.

والثاني: ليؤكد به حجته ويرد به جاحده.

قال الزمخشري: " وقيل: لما قال الله تعالى لعيسى: {اذكر نعمتي عليك}، كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول: مع كل يوم رزقه، لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات"(5).

قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110]، أي:" أي حين قوّيتك بالروح الطاهرة المقدسة «جبريل» عليه السلام"(6).

قال القرطبي: " {إذ أيدتك}، يعني: قويتك، مأخوذ من الأيد وهو القوة"(7).

قال البغوي: يعني: قويتك، بجبريل عليه السلام فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه" (8).

(1) التفسير الميسر: 126.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 78.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 79، وتفسير القرطبي: 6/ 362

(5)

الكشاف: 1/ 691.

(6)

صفوة التفاسير: 344.

(7)

تفسير القرطبي: 6/ 362.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 116.

ص: 636

قال ابن كثير: {رُوحِ الْقُدُسِ} : "وهو جبريل، عليه السلام، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيرًا، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي"(1).

قال الماوردي: " يعني قويتك، مأخوذ من الأيد وهو القوة، وروح القدس جبريل، والقدس هو الله تعالى تقدست أسماؤه، وتأييده له من وجهين:

أحدهما: تقويته على أمر دينه.

والثاني: معونته على دفع ظلم اليهود والكافرين له" (2).

و«الأيد» و «الآد» : القوة، يقال: أَيَّدَه وآيده: إذا قواه، قال امرؤ القيس (3):

فَأَثَّتْ أَعَاليه وآدَتْ أُصولُه

ومال بقُنْيَانٍ من البُسْرِ أحمرا

أي: قويت وإياد كل شيء: ما يَقْوَى به (4)، يقال منه: أيدك الله، أي قواك، قال العجاج (5):

من أن تبدلت بآدي آدا

لم يك ينآد فأمسى انآدا

يعني: بشبابي قوة المشيب، ومنه قول الآخر (6):

إن القداح إذا اجتمعن فرامها

بالكسر ذو جَلَد وبطش أيِّد

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(2)

النكت والعيون: 2/ 79.

(3)

يصف نخيلًا، انظر "ديوانه" ص 60، "لسان العرب" 1/ 189 (مادة أيد). "المعجم المفصل" 3/ 140.

(4)

ينظر "تهذيب اللغة" 1/ 96، "اللسان" 1/ 189، وفيه: وإياد كل شيء: ما يقوى به من جانبيه، وهما إياداه.

(4)

تهذيب اللغة" 1/ 96، "اللسان" 1/ 189.

(5)

زيادة ديوانه: 76، واللسان (آود) (أيد) ومجاز القرآن: 46، وأمالي الزجاجي: 39 في خبر، ورواه:"فإن تبدلت بآدي آدا".

والقعاد: القواعد من النساء، جمع على جمع المذكر، كما قال القطامي:

أبصارهن إلى الشبان مائلة

وقد أراهن عني غير صداد

يعني: غير صواد.

(6)

ينسب البيت - من أبيات - لعبد الملك بن مروان، والصواب أنه لعبد الله بن عبد الأعلى ابن أبي عمرة الشيباني. مولى بني شيبان (تاريخ الطبري 4: 22 / وسمط اللآلئ: 963 ترجمته)

ص: 637

يعني بالأيد: القوي (1).

واختلف أهل التفسير في معنى {ِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87]، على وجوه:

القول الأول: أنه جبريل عليه السلام (2) والقدس: الطهارة، هو قول قتادة (3)، والربيع بن أنس (4)، والسدي (5)، والضحاك (6)، ومحمد ابن كعب القرظي (7)، وعطية العوفي (8)، وإسماعيل بن أبي خالد (9)، وشهر بن حوشب الأشعري (10). واختاره الزجاج (11)، والطبري (12)، والشنقيطي (13)، وغيرهم.

ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك"(14).

(1) انظر: تفسير الطبري: 2/ 319 - 320.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 269 - 270، جامع البيان للطبري: 2/ 320، النكت والعيون للماوردي: 1/ 156، زاد المسير لابن الجوزي: 1/ 112. وذهب إليه: الزجاج في معاني القرآن: 1/ 168، والطبري في جامع البيان: 2/ 321، والماوردي في النكت والعيون: 1/ 156، وابن عطية في المحرر الوجيز: 1/ 287، والرازي في مفاتيح الغيب: 1/ 191، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 2/ 24، وابن كثير في تفسير القرآن العظيم: 1/ 155، والسمين الحلبي في الدر المصون: 1/ 294، وغيرهم.

(3)

انظر: تفسير الطبري (1485): ص 2/ 320

(4)

انظر: تفسير الطبري (1488): ص 2/ 320

(5)

انظر: تفسير الطبري (1486): ص 2/ 320

(6)

انظر: تفسير الطبري (1487): ص 2/ 320

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (884): ص 1/ 168.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 168.

(9)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (883): ص 1/ 168.

(10)

انظر: تفسير الطبري (1489): ص 2/ 320

(11)

انظر: معاني القرآن: للزجاج: 1/ 168.

(12)

انظر: تفسير الطبري: ص 2/ 320

(13)

انظر: أضواء البيان: 2/ 453.

(14)

وكذا عزاه المزي في تحفة الأشراف (12/ 10) للبخاري، وقال الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف":"لم أر هذا الموضع في صحيح البخاري، وقد وصله أحمد والطبراني وصححه الحاكم".

ص: 638

ومنه قول حسان (1):

(1) ديوانه: 1/ 17، 18، و " سيرة ابن هشام " 2/ 421، 424، والسهيلي 2/ 280، وابن سيد الناس 2/ 181، و " تهذيب ابن عساكر " 4/ 130، 131.

ونص الحديث: (حديث مرفوع)"أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الصَّيْدَلانِيُّ، بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ بِأَصْبَهَانَ، قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَتْكُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ، قِرَاءَةً عَلَيْهَا، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِيذَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيْبٍ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: " اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ "، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: اهْجُهُمْ فَهَجَاهُمْ، فَلَمْ يَرْضَ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَ حَسَّانٌ، قَالَ: قَدْ آنَ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، دَلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ فَرْيَ الأَدِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لا تَعْجَلْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا حَتَّى يَخْلُصَ لَكَ نَسَبِي "، فَأَتَاهُ حَسَّانٌ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَلَصَ لِي نَسَبُكَ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنَ الْعَجِينِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانٍ: " إِنَّ رُوحَ الْقُدْسِ لا يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ "، قَالَ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " هَجَاهُمْ حَسَّانٌ فَشَفَى وَاشْتَفَى ". قَالَ حَسَّانٌ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا رَسُولَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي لِعْرِضْ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ ثَكَلْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنَفِي كَدَاءُ تُنَازِعُنِي الأَعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ عَلَى أَكْتَافِهَا الأَسَلُ الظِّمَاءُ تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فَإِنْ أَعَرَضْتُمُ عَنَّا اعْتَمَرْنَا وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَإِلا فَاصْبِرُوا لِضِرَابِ يَوْمٌ يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا يَقُولُ الْحَقَّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ يَسَّرْتُ جُنْدًا هُمُ الأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ تَلاقِي مِنْ مَعَدٍّ كُلَّ يَوْمٍ سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِنَحْوِهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، بِإِسْنَادِهِ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: يُبَارِينَ الأَعِنَّةَ".

ص: 639

وجبريل رسول الله ينادي

وروح القدس ليس به خفاء

وعن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرًا من اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الروح. فقال: "أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟ " قالوا: نعم" (1).

وفي صحيح ابن حبان أظنه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن روح القدس نفخ في روعي: إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب"(2).

واختلفوا في سبب تسمية «جبريل» عليه السلام، بـ «روح القدس» ، على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه سُمِّيَ رُوحاً، لأَنَّه بمنزلة الأرواح للأبدان، يحيي بما يأتي به من البينات من الله عز وجل (3)، كما قال عز وجل:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]، أي:"كان كافرًا فهديناه"(4).

والثاني: أنه سمي روحاً، لأن الغالب على جسمه الروحانية، لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وإنما يختص به جبريل تشريفاً (5).

والثالث: أنه سمي روحاً، لأنه كان بتكوين الله تعالى له روحاً من عنده من غير ولادة.

القول الثاني: أن المراد بروح القدس: الإنجيل، كما قال في القرآن:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وسمي به، لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله (6). وهذا قول ابن زيد (7).

(1) أخرجه الطبري في تفسيره (1489): ص 2/ 320، من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.

(2)

ورواه البغوي في شرح السنة (14/ 304) من طريق أبي عبيد عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي، عمن أخبره، عن ابن مسعود به مرفوعًا.

(3)

انظر: النكت والعيون: 1/ 156.

(4)

التفسير البسيط: 3/ 130.

(5)

انظر: النكت والعيون: 1/ 156.

(6)

زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1/ 86).

(7)

انظر: تفسير الطبري: (1490): ص 2/ 321، وزاد المسير لابن الجوزي: 1/ 113، وغيرهما،

ص: 640

والقول الثالث: أن روح القدس: اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يُحيِي به الموتى (1)، قاله: ابن عباس في رواية الضحاك عنه (2)، وروي نحوه عن سعيد بن جبير (3).

والقول الرابع: أن روح القدس عيسى-عليه السلام، وإنما كان ذلك تأييداً له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة (4).

وقالوا " وسمى روحَه قُدُسًا؛ لأنه لم تتضمنه أصلاب الفحولة، ولم تشتمل عليه أرحام الطوامث"(5).

والقول الأول أظهر، وهو قول الجمهور، لأن التسمية فيه أظهر مما عداه (6)، ولأن التأييد به على الحقيقة، ولأن الله-جل ثناؤه-أخبر أنه أيد عسى به في قوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة: 110] وهي تدل من جهتين على أن «روح القدس» غير الإنجيل:

الأولى: قوله-عز وجل: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [المائدة: 110] ونزول الإنجيل على عيسى كان في مرحلة الرجولة لا المهد.

(1) انظر: تفسير للطبري: 2/ 321، وتفسير ابن أبي حاتم: 1/ 270 - 271، وغيرهما.

(2)

انظر: تفسير الطبري (1491): ص 2/ 421، وابن أبي حاتم (886): ص 1/ 169.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 169.

(4)

انظر: الكشاف للزمخشري: 1/ 294، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 190.

(5)

التفسير البسيط: 3/ 131، وتفسير الثعلبي: 1/ 232.

(6)

انظر: تفسير الرازي: 2/ 163.

ص: 641

والثانية: أنه لو كان المراد به الإنجيل لكان ذكر الإنجيل مرة أخرى لا معنى له، "وذلك خلف من الكلام والله-تعالى ذكره-يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة"(1)، لكن قد يقال: إن الكلام في معرض الامتنان فإعادة ذكر الإنجيل مرة أخرى لا تخلو من فائدة؛ لأنه في الأول امتنان بالتأييد وفي الثاني امتنان بالتعليم وهما شيئان مختلفان لكن الجهة الأولى لا جواب عنها. وكونه اسم الله الأعظم الذي كان عيسى يحي به الموتى يحتاج إلى نقل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما كون المراد روح عيسى-عليه السلام-فوجه تأييد عيسى به متكلف. والله أعلم.

وفي معنى {القُدُس} [المائدة: 110]، ثلاثة أقوال:

أحدها: هو الله تعالى، ولذلك سُمِّي عيسى عليه السلام روح القدس، لأن الله تعالى كوَّنه من غير أب، وهذا قول الحسن (2)، والربيع (3)، وجعفر (4)، وابن زيد (5).

والثاني: أن القدس: المطهر، قاله ابن عباس (6)، كأنه دل به على التطهر من الذنوب، قال العَجّاج (7):

قد عَلِمَ القُدُّوس رَبُّ القُدْس (8)

والثالث: أن القدس البركة، وهو قول السدي (9).

(1) تفسير الطبري: 2/ 322.

(2)

انظر: النكت والعيون: 1/ 156.

(3)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (887): ص 1/ 169.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1493): ص 2/ 322.

(5)

انظر: تفسير الطبري (1494): ص 2/ 323.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (889): ص 1/ 169.

(7)

انظر: التفسير البسيط: 3/ 131، واللسان" 6/ 3550 (مادة: قدس)، وفيه:(مولى) بدل (رب). وبعده:

إن أبا العباس أولى نفس

بمعدن الملك القديم الكِرسِ

(8)

انظر: النكت والعيون: 1/ 156.

(9)

انظر: تفسير الطبري (1492): ص 2/ 322، وتفسير ابن أبي حاتم (888): ص 1/ 169.

ص: 642

قال الواحدي: " وتأييد عيسى بجبريل عليهما السلام هو أنه كان قرينه، يسير معه حيثما سار، وأيضًا فإنه صَعِد به إلى السماء، ودليل هذا التأويل: قوله عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، يعني: جبريل"(1).

قوله تعالى: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة: 110]، أي:" وإذ تكلّم الناس في المهد صبيّاً وفي الكهولة نبيا"(2).

قال الطبري: " هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد، وكهلا كبيرًا"(3).

قال ابن كثير: " أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن "تكلم" تدعو؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب"(4).

قوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110]، أي:"واذكر نعمتي عليك حين علمتك الكتابة والحكمة وهي العلم النافع مع التوراة والإِنجيل"(5).

قال ابن كثير: " أي: الخط والفهم، {وَالتَّوْرَاةَ}: وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك "(6).

وفي قوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} [المائدة: 110]، قولان:

أحدهما: يريد الخط. قاله الطبري (7)، والبغوي (8)، والزمخشري (9).

والثاني: يريد الكتب فعبر عنها بالكتاب إرادة للجنس.

وفي «الحكمة» قولان:

أحدهما: أنها العلم بما في تلك الكتب.

قال البغوي: " يعني: العلم والفهم"(10).

(1) التفسير البسيط: 3/ 130.

(2)

صفوة التفاسير: 344.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 214 - 215.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(5)

صفوة التفاسير: 344 - 345.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 215.

(8)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 116.

(9)

انظر: الكشاف: 1/ 691.

(10)

تفسير البغوي: 3/ 116.

ص: 643

قال الطبري: " هي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك، وهو الإنجيل "(1).

والثاني: أنها جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه. ذكره الماوردي (2).

قال الزمخشري: " {الحكمة}: الكلام المحكم الصواب"(3).

وقوله تعالى: {وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110]، قال الماوردي:" يريد تلاوتهما وتأويلهم"(4).

قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، أي:" واذكر أيضاً حين كنت تصوّر الطين كصورة الطير بتيسيري وأمري"(5).

قال الطبري: " يعني: بقوله {تخلق}: تعمل وتصلح، من الطين كهيئة الطير {بإذني}، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به"(6).

قال البغوي: " {وإذ تخلق} تجعل وتصور، {من الطين كهيئة الطير} كصورة الطير"(7).

قال ابن كثير: " أي: تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك "(8).

قال الزمخشري: " أى: أقدر لكم شيئا مثل صورة الطير"(9).

قال مقاتل: " فخلق الخفاش بإذن الله لأنه أشد الخلق إنما هو لحم وشيء يطير بغير ريش فطار بإذن الله"(10).

قال ابن جريج: "قوله: {أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير}، قال: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم. قال ففعل"(11).

(1) تفسير الطبري: 11/ 215.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 79 - 80.

(3)

الكشاف: 1/ 691.

(4)

النكت والعيون: 2/ 80.

(5)

صفوة التفاسير: 345.

(6)

تفسير الطبري: 11/ 215.

(7)

تفسير البغوي: 3/ 116.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(9)

الكشاف: 1/ 364.

(10)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 276.

(11)

أخرجه الطبري (7087): ص 6/ 426.

ص: 644

قال ابن إسحاق: "إنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك! قال: نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: " كن طائرًا بإذن الله "، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلّمهم فأفشوه في الناس. وترعرع، فهمَّت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيرِّ لها، ثم خرجت به هاربة"(1).

وعن ابن إسحاق أيضا: " ثم جعل الله على يديه يعني: عيسى أمورا تدل به على قدرته في بعثه، بعث من يريد أن يبعث بعد الموت، وخلقه ما يشاء أن يخلق من شيء، يرى أو لا يرى فجعله ينفخ في الطين فيكون طيرا بإذن الله"(2).

قوله تعالى: {فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، أي:" أي فتنفخ في تلك الصورة والهيئة فتصبح طيراً بأمر الله ومشيئته"(3).

قال الطبري: " يقول: فتنفخ في الهيئة، قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني"(4).

قال ابن كثير: " أي: فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه"(5).

قال البغوي: " {فتكون طيرا} حيا يطير"(6).

قال الزمخشري: " {بإذني}، بتسهيلى"(7).

وفي المُتَوَلِّي لنفخها وجهان (8):

أحدهما: أنه المسيح ينفخ الروح في الجسم الذي صوره من الطين كصورة الطير.

والثاني: أنه جبريل –عليه السلام.

قال الزمخشري: " وقيل: لم يخلق غير الخفاش"(9).

(1) أخرجه الطبري (7086): ص 6/ 425 - 426.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم (3541): ص 2/ 655.

(3)

صفوة التفاسير: 345.

(4)

تفسير الطبري: 11/ 215.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 116.

(7)

الكشاف: 1/ 691.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 79 - 80.

(9)

الكشاف: 1/ 364.

ص: 645

قوله تعالى: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، أي:" وتشفي الأعمى الذي لايبصر والأبرص الذي استعصى شفاؤه بأمري ومشيئتي"(1).

قال البغوي: أي: " وتصحح"(2).

قال الطبري: " يقول: وتشفي {الأكمهَ} ، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر، {والأبرص بإذني} (3).

قال مقاتل: {الْأَكْمَهَ} : " الذي ولدته أمه أعمى الذي لم ير النور قط فيرد الله بصره (4).

قال الثعلبي: " {الأبرص}، الذي به وضح، وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان الغالب على زمن عيسى الطبّ فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك داعيا لا دواء له"(5).

وقد اختلف أهل التفسير في معنى {الأكمه} على أقوال:

أحدها: أنه الذي يُبصر بالنهار، ولايبصر بالليل. قاله مجاهد (6).

والثاني: أنه الأعمى الذي ولدته أمه كذلك ولم يبصر ضوءا قط. قاله ابن عباس (7)، وقتادة (8)، ومقاتل بن سليمان (9)، وأبو عبيدة (10)، والزجاج (11).

ورجّحه ابن كثير، وقال:" وهو أشبه؛ لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي"(12).

(1) صفوة التفاسير: 345.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 116.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 215.

(4)

تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 277.

(5)

تفسير الثعلبي: 3/ 71.

(6)

انظر: تفسير مجاهد: 252، وتفسير الطبري (7088): ص 6/ 428.

(7)

انظر: تفسير الطبري (7092): ص 6/ 429.

(8)

انظر: تفسير الطبري (7090): ص 6/ 428.

(9)

انظر: تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 277.

(10)

تفسير ابن المنذر (493): ص 1/ 185.

(11)

معاني القرآن: 1/ 414.

(12)

تفسير ابن كثير: 2/ 44.

ص: 646

والثالث: أنه الأعمى على الإطلاق. وهذا قول الحسن (1)، والسدي (2)، وكذلك روي عن ابن عباس-في أحد قوليه- (3)، وقتادة-في أحد قوليه- (4)، وعكرمة- في أحد قوليه- (5).

والرابع: أنه الأعمش. قاله عكرمة (6).

والراجح –والله أعلم- هو القول الثاني، أي: الذي يولد أعمى، وعليه الجمهور، كما يقول ابن حجر في فتح الباري؛ لأن إبراء الذي يولد أعمى هو الذي فيه المعجزة، أما من يصيب عينيه مرض عارض، فهذا قد يعالجه الطب البشري (7).

والمشهور في كلام العرب، أن الأكمه، هو الأعمى، قال سويد بن أبي كاهل (8):

كَمَّهَتْ عَيْنَيْهِ حَتَّى ابْيَضّتَا

فَهْوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نزعْ

ومنه قول رؤبة (9):

هَرَّجْتُ فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الأكْمَهِ

فِي غَائِلاتِ الحَائِرِ المُتَهْتِهِ

قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، أي:" تحيي الموتى بأمري ومشيئتي"(10).

قال البغوي: أي: " من قبورهم أحياء"(11).

قال ابن كثير: " أي: تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته، وإرادته ومشيئته"(12).

قال الزمخشري: أي: "تخرجهم من القبور وتبعثهم. قيل: أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية"(13).

(1) انظر: تفسير الطبري (7096): ص 6/ 429.

(2)

انظر: تفسير الطبري (7093): ص 6/ 429.

(3)

انظر: تفسير الطبري (70964): ص 6/ 429.

(4)

انظر: تفسير الطبري (7095): ص 6/ 429.

(5)

انظر: تفسير ابن المنذر (495): ص 1/ 210.

(6)

انظر: تفسير الطبري (7097): ص 6/ 429.

(7)

انظر: فتح الباري: 6/ 472.

(8)

انظر: المفضليات: 405، اللسان (كمه).

(9)

ديوانه: 166، واللسان (كمه)(هرج)(تهته)، ومجاز القرآن 1/ 93، وسيرة ابن هشام 2/ 230.

(10)

صفوة التفاسير: 345.

(11)

تفسير البغوي: 3/ 116.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 223.

(13)

الكشاف: 1/ 691.

ص: 647

قال مقاتل: " ففعل ذلك وهم ينظرون وكان صنيعه هذا آية من الله- عز وجل بأنه نبي ورسول إلى بني إسرائيل، فأحيا سام بن نوح بن ملك من الموت بإذن الله، فقالوا له: إن هذا سحر فأرنا آية نعلم أنك صادق"(1).

روي عن عبدالصمد بن معفل، أنه سمع وهب بن منبه، قال:"لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله"(2).

قال الزمخشري: " وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده. وكرر «بإذن الله» دفعا لوهم من توهم فيه اللاهوتية"(3).

قال الكلبي: "كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بـ: يا حى يا قيوم"(4).

وعن أبي الهذيل قال: "كان عيسى ابن مريم، عليه السلام، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين، يقرأ في الأولى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [سورة الملك]، وفي الثانية: {الم. تَنزيلُ الْكِتَابِ} [سورة السجدة]. فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه، ثم دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر: يا حي، يا قيوم، يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، يا نور السموات والأرض، وما بينهما ورب العرش العظيم، يا رب"(5).

قال ابن كثير: "وهذا أثر عجيب جدًا"(6).

(1) تفسير مقاتل بن سليمان: 1/ 277.

(2)

أخرجه الطبري (7098): ص 6/ 431 - 432.

(3)

الكشاف: 1/ 365.

(4)

تفسير الثعلبي: 3/ 73.

(5)

تفسير ابن كثير: 3/ 224 - 225.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 224.

ص: 648

قال الثعلبي: " قيل: أحيا أربعة أنفس: عازر، وكان صدّيقا فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة. فقال عيسى: اللهم ربّ السموات السّبع والأرضين السّبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأخبرهم أنّي أحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر. قال: فقام عازر وودكه تقطر، فخرج من قبره وبقي وولد له.

وابن العجوز مرّ به ميّتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله عيسى عليه السلام فجلس على سريره ونزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له.

والبنت العاقر، قيل له: أتحييها وقد ماتت أمس؟ فدعا الله فعاشت فبقيت وولد لها.

وسام بن نوح دعا عيسى عليه السلام باسم الله الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه. فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا ولكني دعوتك باسم الله الأعظم. قال: ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزّمان. وكان سام قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب" (1)، "فكلمه؛ ومات من ساعته، وأما الثلاثة الذين أحياهم عاشوا، وولد لهم" (2).

وهذه الأخبار بصرف النظر عن إمكان وقوع ما ورد فيها، فإنها لا تعدو أن تكون من الإسرائيليات، التي وإن لم يكن عندنا ما ينفيها، فليس عندنا ما يصدقها من خبر صحيح عن الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم. والاكتفاء بإجمال القرآن في مثل هذه المواطن، أولى من السير وراء تفصيلات أخبار، الله أعلم بصحتها ووقوعها.

(1) تفسير الثعلبي: 3/ 72 - 73.

(2)

تفسير السمعاني: 1/ 321.

ص: 649

قال ابن كثير: " قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تناسب أهل زمانه، فكان الغالب على زمان موسى، عليه السلام، السحر وتعظيم السحرة. فبعثه الله بمعجزة بَهَرَت الأبصار وحيرت كل سحار، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا للإسلام، وصاروا من الأبرار. وأما عيسى، عليه السلام، فبُعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله في زمن الفصحاء والبلغاء ونحارير الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله، عز وجل، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدًا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا لأن كلام الرب لا يشبهه كلام الخلق أبدًا"(1).

قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 110]، أي:" واذكر حين منعتُ اليهود من قتلك لّما همّوا وعزموا على الفتك بك حين جئتهم بالحجج والمعجزات"(2).

قال البغوي: أي: "منعت وصرفت، اليهود، {عنك} حين هموا بقتلك، {إذ جئتهم بالبينات} يعني: الدلالات والمعجزات"(3).

قال القرطبي: " {كففت} معناه دفعت وصرفت {بني إسرائيل عنك}، حين هموا بقتلك، {إذ جئتهم بالبينات} أي: الدلالات والمعجزات، وهي المذكورة في الآية"(4).

(1) تفسير ابن كثير: 2/ 45.

(2)

صفوة التفاسير: 345.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 116.

(4)

تفسير القرطبي: 6/ 363.

ص: 650

قال الطبري: أي: " واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، وقد هموا بقتلك إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، وحقيقة ما أرسلتك به إليهم"(1).

قال ابن كثير: " أي: واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم"(2).

قوله تعالى: {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110]، أي:" فقال الذين جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك ما هذه الخوارق إِلا سحرٌ ظاهر واضح"(3).

قال البغوي: "يعني: ما جاءهم به من البينات"(4).

قال القرطبي: " يعني: الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك. {إن هذا}، أي: المعجزات، {إلا سحر مبين} "(5).

قال ابن كثير: " فكذبوك واتهموك بأنك ساحر، وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إليَّ، وطهرتك من دنسهم، وكفيتك شرهم. وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة. وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم"(6).

وقرئ: «ساحر مبين» ، يعني: يعني به عيسى، يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق (7).

الفوائد:

1 -

تذكير هذه الأمة بما جرى للأمم السابقة قبلها لأنبيائهم ومَن أُرسل إليهم.

(1) تفسير الطبري: 11/ 216.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 224.

(3)

صفوة التفاسير: 345.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 116.

(5)

تفسير القرطبي: 6/ 363.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 224.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 216.

ص: 651

2 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: بيان تذكير الله سبحانه وتعالى عباده بنعمه عليهم، وهذا جاء في القرآن في غير موضع، مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب 9] أحيانًا يكون عامًّا كهذه الآية، وأحيانًا يكون خاصًّا مثل قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف 86] وما أشبه ذلك، وإنما يُذكّر الله العباد بالنعمة من أجل وجوب شكرها؛ لأن وجوب شكر المنعم ثابت سمعًا وعقلًا، أما السمع ففي القرآن مملوء: اشكروا، اشكروني، اشكروا الله، وما أشبه ذلك، وأما عقلًا فلأنه ليس من المروءة أن تقابل النعمة بالإساءة والكفر، فشكر المنعم إذن واجب سمعًا وعقلًا، وفائدة التذكير بالنعم هو القيام بالشكر.

ص: 652

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: جواز نسبة الإنسان إلى أمه إذا لم يكن له أب؛ لقوله: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} ، وهل يمكن أن يكون للإنسان أم بلا أب؟ الجواب: نعم، وذلك فيما إذا نفى الزوج الولد عن نفسه فإنه ينتفي عنه بالشروط التي ذكرها الفقهاء رحمهم الله، وكذلك ولد الزنا إذا لم يستلحقه الزاني فإنه له أم، وليس له أب، فإن استلحقه الزاني فالمسألة فيها خلاف معروف، وجمهور العلماء على أنه لا يلحقه بعموم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» (1)، لكن لو قال قائل: إذا كانت نسبته إلى أمه توجب التساؤلات، وأن ينكسر قلبه، وأن يُساء إلى أمه، فهل يُعدل عن هذا؟

الجواب: نعم، يُعدل عن هذا؛ لأن نسبته إلى أمه إذا لم يكن له أب على سبيل الإباحة والجواز، فإذا كان يستلزم ما يؤذي صاحبه فإنه يُعدل عنه إلى نسبته إلى آخر، إلى مَن؟ نقول: ننسبه إلى اسم يصح لكل إنسان، مثل: عبد الله، عبد الرحمن، عبد الكريم، عبد اللطيف، وما أشبه ذلك، فعلى هذا نقول: الأصل فيمن ليس له أب أن يُنسب إلى أمه، فإن خُشي من ذلك مضرة أو إيذاء نُسب إلى مَن يصح أن ينطبق على كل أحد. * من فوائد الآية الكريمة: أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب عليهم الشكر كما يجب على مَن أُرسل إليهم؛ لأن الله أمر عيسى أن يذكر نعمته عليه وعلى أمه، ونقول: نعم، يجب وهم -أي الأنبياء- أشد الناس قيامًا بشكر النعمة، فقد «كان إمامهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقوم في الليل حتى تتورّم قدماه وتتفطّر، فيقال: يا رسول الله، أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ » (2).

(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457/ 36) من حديث عائشة.

(2)

متفق عليه؛ أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819/ 79) من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 653

4 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن نعمة الله على الوالدين نعمة على الولد؛ لقوله: {عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} ، ولا شك أنها نعمة على الولد كما هي نعمة على الوالد، والنعمة على الولد نعمة على الوالد؟ من باب المساواة أو الأولى؟ من باب الأوْلى؛ لأن الولد بضعة من أبيه كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فاطمة رضي الله عنها «إِنَّهَا بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» (1)، فنعمة الله على الولد في الحقيقة نعمة من الله على الوالد.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى يؤيد البشر بالملائكة؛ لقوله: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} .

6 -

ومن فوائدها: هذه المزيّة لجبريل عليه السلام؛ أنه يؤيد الأنبياء والرسل.

7 -

ومن فوائد هذه الآية: اللقب الفاضل لجبريل {بِرُوحِ الْقُدُسِ} فإن القدس بمعنى الطهارة والنزاهة من كل عيب، فهو أي جبريل عليه السلام ذو مِرَّة؛ أي: ذو هيئة حسنة، وهو قوي كما قال عز وجل:{ذِي قُوَّةٍ} [التكوير 20]، وله مكانة عند الله عز وجل كما قال تعالى:{عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} ، واليهود يبغضون جبريل ويقولون: إنه ينزل بالعذاب، ولكنه ينزل بالعذاب على من يستحقه.

8 -

ومن فوائد الآية الكريمة: هذه الآية العظيمة التي أعطاها الله تعالى عيسى؛ وهي أنه يكلم الناس في المهد وكهلًا على السواء؛ أي أنه يتكلم بكلام رصين بليغ عجيب مع أنه في المهد.

(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5230)، ومسلم (2449/ 93) من حديث المسور بن مخرمة.

ص: 654

9 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التنصيص على النعمة بالعلم والشرف والحكمة، وأنها أخص من مطلق النعمة؛ لأن مطلق النعمة سبق {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} ، لكن العلم خصه فقال:{وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} ، وعلى هذا فيجب على طالب العلم أن يشكر الله تعالى على نعمته عليه حيث خصَّه بالعلم الذي حرمه كثيرًا من الناس، وإذا منّ الله عليه مع العلم بالعبادة والدعوة إلى الله صار نعمة فوق نعمة، فكم من أناس ضلّوا عن سواء السبيل؛ قال الله عز وجل:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام 116]، والإنسان إذا شعر بنعمة الله عليه بالعلم والعبادة والدعوة فإنه يزداد فرحًا وسرورًا ومثابرة وصبرًا على ما هو عليه من طلب العلم، وازدياد العبادة، وقوة الدعوة إلى الله عز وجل.

10 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التنصيص على الحكمة؛ وهي معرفة أسرار الشريعة وغاياتها وثمراتها، فإن معرفة ذلك لا شك أنها تزيد الإيمان، وأنها تزيد الإنسان بصيرة في شرائع الله. وإنها -أي الشرائع- من لدن حكيم عليم، ولهذا نقول: لا يمكن أن يوجد في صريح المعقول ما يخالف صحيح المنقول، فإن وجدت ما ينافيه فاعلم أن الأمر لا يخلو من أحد أمرين ولا بد: إما أن عقلك ليس بصريح؛ يعني فيه شبهات أوجبت اختفاء الحق عليه، أو شهوات انطمس بها، نسأل الله العافية. وإما أن يكون النص غير صحيح، يكون حديثًا ضعيفًا أو مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما أشبه ذلك، أما أن يكون عقل صريح سالم من الشبهات والشهوات ونقل صحيح، فلا يمكن أن يتناقض أبدًا.

11 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن التوراة والإنجيل كتابان من عند الله عز وجل، وسبق أن قلنا: إن عطفهما على الكتاب من باب عطف الخاص على العام إذا لم نقل إن المراد بالكتاب الكتابة.

ص: 655

12 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان قدرة الله تبارك وتعالى على إحياء الموتى، وعلى إدخال الروح في الجماد؛ من قوله {{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} .

13 -

ومن فوائدها: إطلاق لفظ الخلق على ما صنعه المخلوق، مثلًا لو صنعت بابًا تقول: خلقت بابًا، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون 14] وقوله في الحديث الصحيح: «يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» (1)،

فإن قال قائل: إذا أثبتّ صفة الخلق للمخلوق فأيّ فرق بين خلق الخالق وخلق المخلوق؟

فالجواب: الفرق عظيم جدًّا؛ خلق الخالق إيجاد من عدم على ما يريد الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران 6]، خلق المخلوق تحويل مخلوق الله إلى صفة أخرى، وإلا فالأصل منين؟ من الله عز وجل؛ هل يمكن لأحد أن يجعل من الحجر ذهبًا؟ لا يمكن، لكن يمكن أن يجعل من الذهب حليًّا، وأن يجعل منه على شكل حيوان كما جعلت بنو إسرائيل الحلي الذي أخذوه من آل فرعون، جعلوه عجلًا، فافترق الخلق المنسوب للخالق والخلق المنسوب للمخلوق، خلق المخلوق يعني تحويل الشيء من شيء إلى آخر لا ذاته ولكن صفاته، وأما خلق الخالق فهو إيجاد من عدم، وهذا لا يستطيع أحد أن يفعله.

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل جعل لعيسى آية تُعجز علماء الفن الذي اشتهر في حياته، فقد قيل: إن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام اشتهر في وقته الطب، وترقّى ترقيًا عظيمًا، فجاء عيسى بآيات لا يستطيع الأطباء أن يقوموا بها، كما أن السحر في عهد موسى كان منتشرًا؛ فجاء موسى بآيات تبطل سحرهم، وكما أن البلاغة في العرب منتشرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فجاء الله تعالى بكتاب أعجزهم.

(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2105)، ومسلم (2107/ 96) من حديث عائشة.

ص: 656

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه سبحانه وتعالى يختار من الآيات أشدها إعجازًا، فإنه لم يمنّ على عيسى بأن يخلق أرنبًا أو قطًّا أو ما أشبه ذلك، بل طائرًا؛ لأن الطيران في الجو أبلغ من المشي على الأرض فاختار الله له أن يخلق طائرًا يعني على صورة الطير.

14 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن النفخ له تأثير في الأجساد إذا أراد الله عز وجل أن يُؤثِّر؛ لأنه نفخ في الطير الذي صنعه فصار طائرًا كما في القراءة الأخرى، لما نفخ فيه صار حيوانًا من الطيور، ثم طار لتحقق أنه دخلته الروح، ومن ثم جاءت القراءة على المريض عن طريق النفث، والنفث -كما نعلم جميعًا- يتضمن نفخًا وريقًا، وهذا مؤثّر بإذن الله عز وجل، ولهذا لو أن القارئ صار يقرأ ويأخذ بأصبعه من ريقه ويبل به مكان الألم، أو يبل به المريض فلا أظنه ينفع، لا بد من نفخ مع ريق.

15 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: ما أعطاه الله تعالى عيسى من الآيات في إبراء الأكمه، وهو الذي خلق بلا عين ولا بصر، وهذه دليل على قدرة الله، والظاهر -والله أعلم- أنه يبرئه في الحال، ما يحتاج إلى علاج، وإلى انتظار، الظاهر أنه يبرئه في الحال كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عين أبي قتادة رضي الله عنه حين جُرحت في أُحد، وبَرزت على خده، العين بَرزت على الخد، فأُتي به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخذ العين وردها في مكانها، وعادت كما كانت في الحال (1)، سبحان الله العظيم! هذه القدرة ما يبلغها الأطباء، الظاهر أن إِبْرَاءه الأكمه والأبرص الظاهر أنه يكون في الحال بدون معالجة وتردد.

(1) أخرجه أبو يعلى (1549) من حديث قتادة بن النعمان.

ص: 657

16 -

ومن فوائد الآية الكريمة: هذه الآية العظيمة لعيسى أنه يخرج الموتى من القبور؛ لقوله {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} ، وهذه لا يقدر عليها أحد، أما هل يبقى الميت إذا خرج أو لا يبقى؟ هذا ليس لنا فيه كلام، ولا ينبغي أن نتكلم فيه، لماذا؟ لأن الآية حصرت بإخراجه من قبره، أما هل يبقى ويعيش مع الناس أو يموت بعد أن خرج وبرز للناس، ثم يُدفن؟ فهذا ليس لنا في معرفته مصلحة وليس لنا أن نسأل عنه؛ لأن الآية حاصلة بدونه.

17 -

أن في هذه الجمل الأربع: الطير، إبراء الأكمه، إبراء الأبرص، إحياء الموتى، الدليل على أنه لا يمكن لأي بشر مهما أوتي أن يحصل له مراده إلا بإذن الله عز وجل؛ لأن كل جملة أو كل كلمة قيدها الله تعالى بإذنه لئلا يدعي مدعٍ أن الخلق لهم استقلال في أفعالهم، فيكون في هذه الفائدة يكون لها فرع؛ وهو: الرد على القدرية، الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله ليس لله فيه إرادة، الإنسان يأكل ويشرب، ويدخل ويخرج، ويتحرك ويسكن بإرادة تامة ليس لله فيها تعلق، وهذا يعني إثبات خالق مع الله عز وجل، أو إثبات موجب للحوادث مع الله عز وجل؛ ولهذا سُميّت القدرية مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس يقولون: إن الحوادث الكونية لها خالقان: ظلمة، ونور، وهؤلاء يقولون: الحوادث في الكون لها موجدان، كل واحد مستقل عن الآخر: أفعال العباد يستقل بها العباد حتى إن بعضهم يقول: إن الله لا يعلم من أفعال العباد إلا ما وقع، وأما ما لم يقع فلا يعلمه الله عز وجل، فوصفوا الله تبارك وتعالى بالجهل فيما هو في ملكه تبارك وتعالى.

18 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات إذن الله، وليُعلم أن الإذن المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: إذن كوني قدري: مثاله هذه الآية {بِإِذْنِي} .

ص: 658

والثاني: إذن شرعي تعبدي، مثاله قول الله تبارك وتعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى 21] ما لم يأذن به الله شرعًا.

19 -

ومن فوائد الآية: تشجيع الداعي إلى الله عز وجل الذي يأتي بالآيات البينات فإنه عُرضة للإيذاء؛ لقوله: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} ، فكل إنسان يدعو إلى الله ويأتي بالبراهين والأدلة لا بد أن يُسلَّط عليه من يُسلَّط، ولكن الله تعالى بقوته وقدرته يَصرف عنه {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} .

20 -

ومن فوائد الآية الكريمة: تمرد بني إسرائيل الذين كفروا، حيث ادّعوا أن هذا سحر، بل حصروا {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ} ، يعني: ولا يمكن أن يكون حقًّا.

21 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين يتبين لهم الحق، ويعلمون أنه حق؛ لأن مثل هذا القول:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} إنما يَصدر من أهل الكفر، أما المؤمن فيؤمن بالآيات، ويرى أنها حق ويزيد إيمانه بها.

ص: 659

22 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من الرسل جاء بالآيات البينات؛ يعني الواضحات التي لا تُشكل على أحد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه:«مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلّا أَعْطَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤْمِنُ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ» (1)، ولولا هذا لكان الناس معذورين ألَّا يُصدقوا؛ يعني لولا الآيات مع الرسل عليهم الصلاة والسلام لكان الناس لهم عذر ألَّا يصدقوا، وعليه يكون قوله تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء 165] يكون مقيدًا بأنهم أوتوا بآيات يؤمن على مثلها البشر، وآيات الأنبياء أنواع كثيرة يجمعها أنها معنوية وحسية، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله فصلًا قيما جدًّا جدًّا في آخر كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ذكر فيه آيات النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إن آياته نوعان: حسية ومعنوية، والحسية آفاقية وأرضية، وضّح توضيحًا كاملًا، وأن من أعظم آياته، بل أعظم آيات هذا القرآن، الذي كان آية في وقته، وفيما بعد إلى يوم القيامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:«وَإِنَّمَا الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ» ، أو كلمة نحوها «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (2)؛ لأن القرآن بقي، وآيات الأنبياء انتهت بحياتهم فقط ما لبث أقوامهم أن حرّفوا الكتب من بعدهم.

القرآن

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)} [المائدة: 111]

التفسير:

(1) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4981) ومسلم (152/ 239) عن أبي هريرة.

(2)

متفق عليه؛ أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152/ 239) من حديث أبي هريرة

ص: 660

واذكر -يا عيسى- نعمتي عليك، إذ ألهمتُ، وألقيتُ في قلوب جماعة من خلصائك أن يصدقوا بوحدانية الله تعالى ونبوتك، فقالوا: صدَّقنا يا ربنا، واشهد بأننا خاضعون لك منقادون لأمرك.

قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111]، أي: " واذكر -يا عيسى- نعمتي عليك، إذ ألهمتُ، وألقيتُ في قلوب جماعة من خلصائك أن يصدقوا بوحدانية الله تعالى ونبوتك (1).

قال ابن كثير: {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} " أي: بالله وبرسول الله، وهذا أيضًا من الامتنان عليه، عليه السلام، بأن جعل له أصحابًا وأنصارًا"(2).

وفي وحيه إلى الحواريين وجوه:

أحدها: معناه: قذفت في قلوبهم، وهذا قول السدي (3).

والثاني معناه: أَلْهَمْتُهُم أن يؤمنوا بي، ويصدقوا أنك رسولي، كما قال تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. حكاه الطبري (4) وابن كثير (5) عن آخرين، واختاره السمعاني (6).

والثالث: ألهمتهم وقذفت في قلوبهم. ذكره البغوي (7).

والرابع: يعني ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم أن يؤمنوا بي وبك. ذكره الماوردي (8).

والخامس: المراد: وإذ أوحيت إليهم بواسطتك، فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله، واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك، فقالوا:{آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} . قاله ابن كثير (9).

(1) التفسير الميسر: 126.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 224.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12992): ص 11/ 217 - 218.

(4)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 218.

(5)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 224.

(6)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 78.

(7)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 116.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 81.

(9)

انظر: تفسير ابن كثير: 3/ 224.

ص: 661

والسادس: معناه: الأمر، أي: ألقيت في قلوبهم وألهمتهم وأمرتهم، وهذا قول أبي عبيدة (1)، وذكره السمعاني (2)، ومنه قول العجاج (3):

الحَمْدُ لِلِه الَّذِي اسْتَقَّلتِ

بِإِذْنِه السَّماءُ، وَاطْمأَنَّتِ

بِإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتِ

أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ

أي: أمرها بالقرار.

وفي التذكير بهذه النعمة قولان (4):

أحدهما: أنها نعمة على الحواريين أن آمنوا، فذكر الله تعالى به عيسى لأنهم أنصاره.

الثاني: أنها نعمة على عيسى، لأنه جعل له أنصاراً من الحواريين قد آمنوا به.

والحواريون: "هم خواص عيسى عليه السلام الذين استخلفهم من جملة الناس"(5).

قال ابن كثير: " الْحَوَارِيُّونَ: هم أتباع عيسى عليه السلام"(6).

قال الماوردي: "وأصل الحواري: الحَوَر وهو شدة البياض، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه، والحَوَر نقاء بياض العين "(7).

واخْتُلِف في تسميتهم بالحواريين على أقوال:

أحدها: انهم سُمُّوا بذلك لبياض ثيابهم، وهذا قول ابن عباس (8)، وسعيد بن جبير (9)، ومسلم البطين (10).

(1) انظر: مجاز القرآن: 1/ 182، وتفسير البغوي: 3/ 117.

(2)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 78.

(3)

ديوانه": 266: تح د. عزة حسن، و"لسان العرب"، و"النكت والعيون" 6/ 320، و"الكشف والبيان" 13/ 135 أ، و"زاد المسير" 8/ 93، و"التفسير الكبير" 32/ 60، و"المحرر الوجيز" 5/ 511، و"البحر المحيط" 8/ 501، و"فتح الباري" 8/ 727، و"الدر المصون" 6/ 555.

ومعنى بيت الأرجوزة المذكور: أن أوحى إليها أن استقري فاستقرت. "ديوانه": ص 266 ..

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 81.

(5)

النكت والعيون: 2/ 81.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(7)

النكت والعيون: 1/ 396.

(8)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3568): ص 2/ 659.

(9)

انظر: تفسير الطبري (7124): ص 6/ 445.

(10)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3568): ص 2/ 659.

ص: 662

والثاني: أنهم كانوا قَصَّارين يبيضون الثياب، وهذا قول ابن أبي نجيح (1)، والضحاك (2) في -أحد قوليه-.

والثالث: أنهم خاصة الأنبياء وصفوتهم، سموا بذلك لنقاء قلوبهم، وهذا قول قتادة (3) -في أحد قوليه-، والضحاك (4)، ورجّحه الزجاج (5).

والرابع: ان الحواري: الناصر. قاله سفيان بن عيينة (6).

والخامس: أن الحواري: الوزير. قاله قتادة (7).

قال الطبري: " وأشبه الأقوال في معنى "الحواريين"، قولُ من قال: " سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين" (8).

قال ابن كثير: "والصحيح أن الحواري الناصر، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نَدبَ الناس يوم الأحزاب، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدَبَ الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَاريًا وَحَوَارِيي الزُّبَيْرُ» (9) "(10).

قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا} [المائدة: 111]، أي: " فقالوا: صدَّقنا يا ربنا (11).

قوله تعالى: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، أي: " واشهد بأننا خاضعون لك منقادون لأمرك (12).

قال ابن كثير: " أي: ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا"(13).

وقوله تعالى: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111]، يحتمل وجهين (14):

(1) انظر: تفسير الطبري (7125): ص 6/ 446.

(2)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3569): ص 2/ 659.

(3)

انظر: تفسير الطبري (7126): ص 6/ 446.

(4)

انظر: تفسير الطبري (7127): ص 6/ 446.

(5)

انظر: معاني القرآن: 1/ 416.

(6)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3571): ص 2/ 660.

(7)

انظر: تفسير ابن أبي حاتم (3573): ص 2/ 660.

(8)

تفسير الطبري: 6/ 446.

(9)

تفسير ابن كثير: 2/ 46.

(10)

صحيح البخاري برقم (3719) وصحيح مسلم برقم (2415) من حديث جابر رضي الله عنه.

(11)

التفسير الميسر: 126.

(12)

التفسير الميسر: 126.

(13)

تفسير ابن كثير: 3/ 224.

(14)

انظر: النكت والعيون: 2/ 81.

ص: 663

أحدهما: أنهم أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلامهم بالله تعالى وبه.

والثاني: أنهم أشهدوا الله تعالى بذلك على أنفسهم.

الفوائد:

1 -

إثبات وحي الله عز وجل؛ لقوله: {إِذْ أَوْحَيْتُ} ، ووحي الله ينقسم إلى قسمين: وحي شرع ووحي إلهام، فالأول يتعلق بالشرع، والثاني يتعلق بالكون.

2 -

ومن فوائد هذه الآية: أن عيسى عليه السلام له حواريون، يعني: أصحاب ذوو صفاء في مودتهم. اذكر آخر سورة الصف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف 14] وكما في الحديث «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ، وَإِنَّ حَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ» (1)، هذه منقبة لا شك للزبير، لكن أبو بكر رضي الله عنه، قال:«لَوْ كُنْتُ متخذا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْر» (2).

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإيمان بالله لا يتم إلا بالإيمان برسله؛ لقوله: {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} ، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الإيمان هو «الإِيمَانُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» (3)، هذه الأركان لا بد منها في الإيمان، فمن نقص منها واحدًا لم يكن مؤمنًا.

4 -

ومن فوائد هذه الآية: استجابة الحواريين لما أوحي إليهم به، حيث قالوا: آمنا.

(1) متفق عليه؛ البخاري (7261) ومسلم (2415/ 48) من حديث جابر بن عبد الله.

(2)

أخرجه البخاري (3656) من حديث ابن عباس.

(3)

أخرجه مسلم (8/ 1) من حديث عمر بن الخطاب.

ص: 664

5 -

ومن فوائد الآية: جواز حذف المعلوم، لقوله:{قَالُوا آمَنَّا} ولم يقل: بك وبرسولك؛ لأن هذا معلوم، فالمطلَق يُحمَل على المقيَّد إذا كان معلومًا، فإذا عقد الإنسان عقدًا وذكر عند الإيجاب شروطًا، فقال الآخر: قبلتُ، أو قبلتُ البيع مثلًا، قال: بعتك هذا البيت على أن أسكن فيه سنة، فقال: قبلتُ البيع، فيثبت الشرط؛ لأن قول البيع يعني بهذا الشرط وإن لم يذكَر لكنه معلوم من السياق.

6 -

ومن فوائد هذه الآية: جواز استثبات الشيء بالإشهاد عليه؛ لقوله: {اشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} ، وفي الدعاء المأثور:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَمْسَيْتُ أُشْهِدُكَ، وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ، وَمَلَائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ، وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ» (1)، هذا من أذكار المساء والصباح، على خلاف في ثبوت الحديث.

ص: 665

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإيمان هو الإسلام؛ لقوله: {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة 111]، ولم يقولوا: مؤمنون، قالوا: مسلمون، فدل هذا على أن الإيمان هو الإسلام، وقد ذهب إلى هذا جماعة من أهل العلم وقالوا: لا فرق بين الإسلام والإيمان، واستدلوا بمثل هذه الآية، واستدلوا أيضًا بقول الله تبارك وتعالى:{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات 35، 36]، ولكن هذا القول على إطلاقه فيه نظر، والصواب أن الإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر مع الإيمان صار له معنى آخر، ويدل لهذا التفصيل قول الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات 14] يعني لم يدخل لكن قريبًا يدخل؛ لأن (لما) تفيد النفي مع قرب المنفي، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، فنخرج هذه الآية: أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام، فيكون الإيمان بالقلوب والإسلام في الجوارح، يعني أنهم آمنوا وانقادوا انقيادًا تامًّا لأوامر الله ورسوله.

القرآن

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)} [المائدة: 112]

التفسير:

واذكر إذ قال الحواريون: يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء؟ فكان جوابه أن أمرهم بأن يتقوا عذاب الله تعالى، إن كانوا مؤمنين حقَّ الإيمان.

ص: 666

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112]، أي:" واذكر إذ قال الحواريون: يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء؟ "(1).

قال ابن كثير: " هذه قصة المائدة، وإليها تنسب السورة فيقال:«سورة المائدة» ، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى، عليه السلام، لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة.

وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة ليست مذكورة في الإنجيل، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين، فالله أعلم" (2).

وقرأ الكسائي وحده: «هل تَّستطيع ربَّك» بالتاء والإِدغام، و «ربك» بالنصب (3)، وفيها وجهان:

أحدهما: معناه هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله، قاله الزجاج (4).

والثاني: هل تستطيع أن تسأل ربك، قاله سعيد بن جبير (5)، وعائشة (6).

وقرأ الباقون: {هل يستطيع ربك} ، بالياء والإِظهار (7)، وفي ذلك التأويل ثلاثة أوجه:

أحدها: هل يقدر ربك، فكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله تعالى (8).

والثاني: معناه: هل يفعل ربك، قاله الحسن (9)، لأنهم سموا بالحواريين بعد إيمانهم.

والثالث: معناه: هل يستجيب لك ربك ويطيعك، {أَن يُنَزِّلَ عَلَينَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ} قاله السدي (10).

(1) التفسير الميسر: 126.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 249.

(4)

انظر: معاني القرآن: 2/ 220.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12994): ص 11/ 219.

(6)

انظر: تفسير الطبري (12993): ص 11/ 219.

(7)

انظر: السبعة في القراءات: 249.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 82.

(9)

انظر: النكت والعيون: 2/ 82.

(10)

انظر: تفسير الطبري (12996): ص 11/ 222.

ص: 667

قال ابن كثير: " و «المائدة» هي: الخوان عليه طعام، ذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها، ويتقوون بها على العبادة"(1).

قال قطرب: "والمائدة لا تكون مائدة حتى يكون عليها طعام، فإن لم يكن قيل: خِوان"(2).

وفي تسميتها «مائدة» وجهان (3):

أحدهما: لأنها تميد ما عليها أي تعطي، قال رؤبة (4):

نُهْدِي رُؤُوسَ المتْرَفينَ الأنْدَادْ

إلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ

أي: المستعطي.

والثاني: لحركتها بما عليها من قولهم: مَادَ الشيء إذا مال وتحرك، اختاره الزجاج (5)، ومنه قول الشاعر (6):

لعلك باك إن تغنت حمامة

يميد غصن من الأيك مائل

قوله تعالى: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]، أي:" اتقوا الله في أمثال هذه الأسئلة إن كنتم مصدقين بكمال قدرته تعالى"(7).

قال البغوي: " أي: لا تشكوا في قدرته"(8).

قال ابن كثير: " أي: فأجابهم المسيح، عليه السلام، قائلا لهم: اتقوا الله، ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنة لكم، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين "(9).

قال السماني: " نهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان، وقيل: أراد به أي: اكتفوا بطعام الأرض عن طعام السماء"(10).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(2)

النكت والعيون: 2/ 82.

(3)

انظر: معاني القرآن للزجاج: 2/ 220، والنكت والعيون: 2/ 82.

(4)

ديوانه: 40، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 183، وتفسير الطبري: 11/ 223، وواللسان "ميد".

(5)

انظر: معاني القرآن: 2/ 220.

(6)

البيت من شواهد المارودي في النكت والعيون: 2/ 82، والقرطبي في تفسيره: 6/ 367.

(7)

صفوة التفاسير: 345.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 117.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(10)

تفسير السمعاني: 2/ 80.

ص: 668

وفي قوله تعالى: {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112]، وجهان (1):

أحدهما: يعني: اتقوا معاصي الله إن كنتم مؤمنين به، وإنما أمرهم بذلك لأنه أولى من سؤالهم.

والثاني: يعني: اتقوا الله فى سؤال الأنبياء إما طلباً لِعَنَتِهِم وإما استزادة للآيات منهم، إن كنتم مؤمنين بهم ومصدقين لهم لأن ما قامت به دلائل صدقهم يغنيكم عن استزادة الآيات منهم.

قال الطبري: المعنى: " قال عيسى للحواريّين القائلين له: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} راقبوا الله، أيها القوم، وخافوه أن يَنزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا، فإن الله لا يعجزه شيء أراده، وفي شكّكم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء، كفرٌ به، فاتقوا الله أن يُنزل بكم نقمته، إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء}؟ "(2).

قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف قالوا هل يستطيع ربك بعد إيمانهم وإخلاصهم؟

قلت: ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص، وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله:{إذ قال} فإذن إن دعواهم كانت باطلة، وإنهم كانوا شاكين، وقوله:{هل يستطيع ربك} كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه: اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها إن كنتم مؤمنين إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة" (3).

قال ابن عباس: " فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة، حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم"(4).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 83.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 223.

(3)

الكشاف: 1/ 692 - 693.

(4)

أخرجه الطبري (12995): ص 11/ 222.

ص: 669

قال السدي: " فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها"(1).

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية: أن الحواريين مع كونهم خلصًا عندهم شيء من الجفاء؛ لقولهم: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} .

فإن قال قائل: لعل شريعتهم تبيح لهم أن ينادوا نبيهم باسمه، بخلاف هذه الشريعة فقد قال الله تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور 63]؟ قلنا: وليكن ذلك، لكن هل من الأدب أن يخاطبوا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام باسمه، مع أنهم يريدون أن يدعوا الله لهم لحصول هذه المائدة، أو الأليق ما داموا يريدون أن يسأل الله أن ينادوه بوصف النبوة والرسالة؛ لأنه أنسب وأقرب إلى إجابة دعوتهم؟ الجواب: الثاني لا شك، على كل حال هذا الخطاب لا شك أن فيه شيئًا من الجفاء.

2 -

في قول عيسى لهم {اتقوا الله} دال على أنهم قالوا الباطل.

3 -

فضيلة التقوى، والتقوى: في اصطلاح الشرع هو: "اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه"(2)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"التقي مُلْجَم والمتقي فوق المؤمن والطائع"(3).

القرآن

{قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)} [المائدة: 113]

التفسير:

قال الحواريون: نريد أن نأكل من المائدة وتسكن قلوبنا لرؤيتها، ونعلم يقينا صدقك في نبوتك، وأن نكون من الشاهدين على هذه الآية أن الله أنزلها حجة له علينا في توحيده وقدرته على ما يشاء، وحجة لك على صدقك في نبوتك.

قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113]، أي:" قال الحواريون: نريد أن نأكل من المائدة"(4).

(1) أخرجه الطبري (12996): ص 11/ 222.

(2)

تفسير ابن عثيمين: 1/ 28.

(3)

الفوائد: 65 - 66.

(4)

التفسير الميسر: 126.

ص: 670

قال الطبري: أي: " إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة، فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء"(1).

قال ابن كثير: " أي: نحن محتاجون إلى الأكل منها "(2).

قال السمعاني: " يعني: أكل تبرك لا أكل حاجة"(3).

قال البغوي: " أي: إنما سألنا لأنا نريد، {أن نأكل منها} أكل تبرك لا أكل حاجة فنستيقن"(4).

وذكر القرطبي: في قولهم: {نَأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113]، وجهين (5):

أحدهما- أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها، وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة، إذ كانوا زمنى أو عميانا، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء، فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: قل لهم: {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له: {نريد أن نأكل منها} الآية.

الثاني: {نأكل منها} ، لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها.

قال الماوردي: "وهذا أشبه، لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال "(6).

وفي قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113]، وجهان (7):

أحدهما: أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها.

والثاني: أنهم أرادوه تبركاً بها لا لحاجة دعتهم إليها، وهذا أشبه لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال.

(1) تفسير الطبري: 11/ 224.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(3)

تفسير السمعاني: 2/ 80.

(4)

تفسير البغوي: 3/ 117.

(5)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 366.

(6)

.

(7)

انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

ص: 671

قوله تعالى: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة: 113]، أي:" وتسكن قلوبنا لرؤيتها"(1).

قال البغوي: أي: "وتسكن"(2).

قال الطبري: " يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد "(3).

قال ابن كثير: " أي: إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السماء"(4).

قال السمعاني: " أي: يزداد إيمانها، وهو مثل قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] "(5).

وفي قوله تعالى: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة: 113]، وجوه (6):

أحدها: تطمئن إلى أن الله تعالى قد بعثك إلينا نبياً.

والثاني: تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لك أعواناً.

والثالث: تطمئن إلى أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا.

والرابع: تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا. حكاه القرطبي عن المهدوي (7).

والخامس: نستيقن قدرته وتطمئن تسكن قلوبنا. قاله الثعلبي (8).

قوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113]، أي:" ونعلم يقينا صدقك في نبوتك"(9).

قال الثعلبي: أي: " بأنك رسول الله"(10).

قال الطبري: " يقول: ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث"(11).

قال ابن كثير: " أي: ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك "(12).

قال السمعاني: " أي: نزداد إيمانا بصدقك"(13).

قال البغوي: أي: " بأنك رسول الله، أي: نزداد إيمانا ويقينا"(14).

(1) التفسير الميسر: 126.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 118.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 224.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(5)

تفسير السمعاني: 2/ 80.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

(7)

انظر: تفسير القرطبي: 6/ 366.

(8)

انظر: الكشف والبيان: 4/ 125.

(9)

التفسير الميسر: 126.

(10)

الكشف والبيان: 4/ 125.

(11)

تفسير الطبري: 11/ 224.

(12)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(13)

تفسير السمعاني: 2/ 80.

(14)

تفسير البغوي: 3/ 118.

ص: 672

وفي قوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113]، ثلاثة اوجه (1):

أحدها: في أنك نبي إلينا.

والثاني: صدقتنا في أننا أعوان لك.

والثالث: أن الله قد أجابنا إلى ما سألنا.

وفي قوله تعالى: : {وَنَعْلَمَ} [المائدة: 113]، وجهان (2):

أحدهما: أنه علم مستحدث لهم بهذه الآية بعد أن لم يكن، وهذا قول من زعم أن السؤال كان قبل استحكام المعرفة.

والثاني: أنهم استزادوا بذلك علماً إلى علمهم ويقيناً إلى يقينهم، وهذا قول من زعم أن السؤال كان بعد التصديق والمعرفة.

قوله تعالى: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 113]، أي:" وأن نكون من الشاهدين على هذه الآية أن الله أنزلها حجة له علينا في توحيده وقدرته على ما يشاء، وحجة لك على صدقك في نبوتك"(3).

قال الثعلبي: " {من الشاهدين} لله بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة والرسالة"(4).

قال الطبري: " يقول: ونكون على المائدة {من الشاهدين}، يقول: ممن يشهد أن الله أنزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك "(5).

قال ابن كثير: " أي: ونشهد أنها آية من عند الله، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به"(6).

قال البغوي: أي: " لله بالوحدانية والقدرة، ولك بالنبوة والرسالة، وقيل: ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم"(7).

وقوله تعالى: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 113]، يحتمل وجهين (8):

أحدهما: من الشاهدين لك عند الله بأنك قد أديت ما بعثك به إلينا.

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

(3)

التفسير الميسر: 126.

(4)

الكشف والبيان: 4/ 125.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 224.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(7)

تفسير البغوي: 3/ 118.

(8)

انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

ص: 673

والثاني: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدناه من الآيات الدالة على أنك نبي إليهم وإلينا.

الفوائد:

1 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الحواريين يريدون من الآيات ما يملأ بطونهم، إذ بدؤوا بالأكل {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أول ما بدؤوا، فيشبه قول اليهود لما قيل لهم:{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [النساء 154] فدخلوا على أستاههم، على أدبارهم، يقولون: حِنْطَة، أُمروا أن يقولوا: حِطّة، يعني: احطط عنا ذنوبنا، لكن قالوا: لا، نبغي شيئًا ثانيًا وهو ملء البطن، حنطة، هؤلاء يشبه هذا، والأصل واحد فكلهم من بني إسرائيل، فلا عجب أن يكون سؤالهم متقاربًا.

2 -

أن قولهم: {ونعلم أن قد صدقتنا} دال على شكهم وارتيابهم.

3 -

ومن فوائد هذه الآية: أن وقوع الشيء يعطي يقينًا أكثر من الخبر به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» (1)، ولهذا أمثلة، منها قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة 260] نأخذ هذا من قوله: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} .

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: أن آيات الأنبياء يزداد بها تصديقهم؛ لقوله: {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} ، أي أخبرتنا بالصدق.

5 -

ومنها: ثبوت الخبر بالتواتر وكثرة المخبرين؛ لقولهم: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} ، ويمكن أن يُستدل بهذا أيضًا على أن الصحابة رضي الله عنهم قولهم حق وحجة؛ لأنهم شاهدوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشاهدوا آياته، وأيقنوا بها أكثر من غيرهم، وفهموها أكثر من غيرهم.

القرآن

(1) أخرجه أحمد (2447) من حديث ابن عباس.

ص: 674

{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)} [المائدة: 114]

التفسير:

أجاب عيسى بن مريم طلب الحواريين فدعا ربه جل وعلا قائلا: ربنا أنزل علينا مائدة طعام من السماء، نتخذ يوم نزولها عيدًا لنا، نعظمه نحن ومَن بعدنا، وتكون المائدة علامة وحجة منك -يا ألله- على وحدانيتك وعلى صدق نبوتي، وامنحنا من عطائك الجزيل، وأنت خير الرازقين.

قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]، أي:" أجاب عيسى بن مريم طلب الحواريين فدعا ربه جل وعلا قائلا: ربنا أنزل علينا مائدة طعام من السماء"(1).

قال الطبري: " وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنزل عليهم من السماء "(2).

قال أبو السعود: " لما رأى عليه السلام أن لهم غرضا صحيحا في ذلك وأنهم لا يقلعون عنه أزمع على استدعائها واستنزالها وأراد أن يلزمهم الحجة بكمالها روي أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره، ثم قال {اللهم ربنا} ناداه سبحانه وتعالى مرتين مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات ومرة بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء، {مائدة من السماء}، أي كائنة من السماء نازلة منها"(3).

وفي سؤال عيسى-عليه السلام، أن ينزل عليهم المائدة، وجهان (4):

أحدهما: أنه تفضل عليهم بالسؤال، وهذا قول من زعم أن السؤال بعد استحكام المعرفة.

(1) التفسير الميسر: 127.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 224.

(3)

تفسير أبي السعود: 3/ 98.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

ص: 675

والثاني: أنه رغبة منه إلى الله تعالى في إظهار صدقه لهم، وهذا قول من زعم أن السؤال قبل استحكام المعرفة.

قال أبو بكر: واختلفوا في معنى «اللهم» على قولين:

أحدهما: فقال أبو زكرياء يحيى بن زياد الفراء، وأبو العباس أحمد بن يحيى: معنى «اللهم» : يا الله أمنا بمغفرتك، فتركت العرب الهمزة: فاتصلت الميم بالهاء: وصارا كالحرف الواحد، واكتفي به من «يا» ، فأسقطت (1).

والدليل على صحة قول الفراء وأبي العباس إدخال العرب «يا» على «اللهم» (2)، قال الفراء أنشدني الكسائي (3):

وما عليك أن تقولي كلما

سبحت أو هللت يا اللهم

أردد علينا شيخنا مسلما

فإننا من خيره لن نعْدَما

وأنشد قطرب (4):

إني إذا ما معظم ألما

أقول يا اللهم يا اللهما

فلأن ضرورة الشعر جوزته (5).

والثاني: وقال الخليل بن أحمد وعمرو بن عثمان سيبويه: «اللهم» ، معناه: يا الله. قالا: فجعلت العرب الميم بدلا من «يا» (6).

قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، أي:" نتخذ يوم نزولها عيدًا لنا، نعظمه نحن ومَن بعدنا"(7).

(1) انظر: معاني القرآن 1/ 203.

(2)

انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 52.

(3)

البيت بلا عزو في معاني القرآن للفراء: 1/ 203 والخزانة: 1/ 358.وروايته: اللهما".

(4)

نوادر أبي زيد 165، الإنصاف 341، الخزانة 1/ 358. ونسب في المقاصد 4/ 216 إلى أبي خراش الهذلي ولم أجده في ديوان الهذليين.

(5)

انظر: النكت والعيون: 2/ 84.

(6)

الكتاب 1/ 310. وانظر: تهذيب اللغة: 6/ 426، والزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 52

(7)

التفسير الميسر: 127.

ص: 676

قال السعدي: " أي: يكون وقت نزولها عيدا وموسما، يتذكر به هذه الآية العظيمة، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات وتكرر السنين، كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة، وفضله وإحسانه عليهم"(1).

قال السمعاني: " العيد: المراد به: يوم السرور لهم"(2).

وفي قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114]، ثلاثة تاويلات:

أحدها: نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا قاله قتادة (3)، والسدي (4)، وابن جريج (5).

وقيل: إن المائدة أنزلت عليهم في يوم الأحد غداة وعشية، ولذلك جعلوا الأحد عيداً.

قال سفيان: " {تكون لنا عيدًا}، قالوا: نصلي فيه. نزلت مرتين"(6).

والثاني: معناه: عائدة من الله تعالى علينا، وبرهاناً لنا ولمن بعدنا. ذكره الطبري عن آخرين (7).

قال الثعلبي: " أي عائدا من علينا وحجة وبرهانا والعيد اسم لما أعتد به وعاد إليك من كل شيء ومنه قيل: أيام الفطر والأضحى عيد لأنهما يعودان كل سنة، ويقال: لطيف الخيال عيد، قال الشاعر (8):

يا عيد مالك من شوق وإيراق

ومرَّ طيف من الأهوال طَراَّق" (9).

فإنه أراد الخيال الذي يعتاده.

والثالث: يعني نأكل منها جميعاً، أولنا وآخرنا، قاله ابن عباس (10).

(1) تفسير السعدي: 249.

(2)

تفسير السمعاني: 2/ 80.

(3)

انظر: تفسير الطبري (12998): ص 11/ 225.

(4)

انظر: تفسير الطبري (12997): ص 11/ 225.

(5)

انظر: تفسير الطبري (12999): ص 11/ 225.

(6)

أخرجه الطبري (13000): ص 11/ 225.

(7)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 225.

(8)

البيت لتأبط شرا، انظر: تهذيب اللغة، مادة"عاد": ص 3/ 2270 - 2271. يصف فيه الثور الوحشي.

(9)

الكشف والبيان: 4/ 125.

(10)

انظر: تفسير الطبري (13001): ص 11/ 225.

ص: 677

قال الطبري: " وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال: معناه: تكون لنا عيدًا، نعبد ربنا في اليوم الذي تنزل فيه، ونصلي له فيه، كما يعبد الناس في أعيادهم، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في «العيد» ، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال: معناه: عائدة من الله علينا، وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل.

وأما قوله: {لأولنا وآخرنا} ، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال: تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا، للعلة التي ذكرناها في قوله:{تكون لنا عيدًا} ، لأن ذلك هو الأغلب من معناه" (1).

وقرأ عبد الله والأعمش: «تكن لنا» ، بالجزم على جواب الدعاء (2).

قوله تعالى: {وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة: 114]، أي:" وتكون المائدة علامة وحجة منك -يا ألله- على وحدانيتك وعلى صدق نبوتي"(3).

قال ابن كثير: " أي: دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك "(4).

قوله تعالى: {وَارْزُقْنَا} [المائدة: 114]، أي:" وامنحنا من عطائك الجزيل"(5).

قال ابن كثير: " أي: من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب"(6).

قال السعدي: " أي: اجعلها لنا رزقا، فسأل عيسى عليه السلام نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين، مصلحة الدين بأن تكون آية باقية، ومصلحة الدنيا، وهي أن تكون رزقا"(7).

قوله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114]، أي:" فإِنك خير من يعطي ويرزق"(8).

الفوائد:

(1) تفسير الطبري: 11/ 226.

(2)

انظر: تفسير الثعلبي: 4/ 125.

(3)

التفسير الميسر: 127.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(5)

التفسير الميسر: 127.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(7)

تفسير السعدي: 249.

(8)

صفوة التفاسير: 346.

ص: 678

1 -

أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يستطيعون أن يأتوا بكل ما يُطلَب منهم، وأنهم كغيرهم مفتقرون إلى الله يسألونه ويلجئون إليه.

2 -

ومن فوائد هذه الآية: أنه ينبغي للإنسان في حال الدعاء أن يذكر هذين المعنيين: الألوهية والربوبية؛ لقوله: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا} ؛ لأن هذا نوع من التوسل، يتوسل الإنسان بألوهية الله عز وجل وربوبيته.

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن عيسى عليه الصلاة والسلام أجاب الحواريين على وجه الأمانة التامة؛ لأنه قال: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} كما قالوا هم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} .

4 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هذه المائدة تكون عيدًا للنصارى، كلما جاء زمنها فهو عيد لهم. فإذا قال قائل: هل هذا يقتضي أن نقول: كلما مر وقت المناسبات فإننا نجعله عيداً؟ فالجواب: لا؛ لأن هذه الأشياء ليس فيها قياس، وهي كانت عيدًا بطلب من؟ بطلب نبيهم، بطلب نبيهم عليه الصلاة والسلام.

5 -

مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكراً لله تعالى وفي الإسلام عيدان: الأضحى والفطر.

6 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن ما جاء على خلاف المعهود، وكان خارقًا للعادة فهو آية؛ لقوله:{وَآيَةً مِنْكَ} ، ووجه هذا أنه لم يعهد أن المائدة تنزل من السماء عِيانًا يشاهدها الناس، فيكون نزولها -ولا سيما أنه بطلب بعد اقتراح- يكون نزولها آية ودليلًا على صدق من تكلم بالرسالة.

7 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن عيسى بن مريم مفتقِر إلى الله تعالى؛ إلى عطائه، وينبني على هذه الفائدة بطلان دعوى النصارى أنه إله.

8 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تبارك وتعالى خير الرازقين، وهذا فرد من قاعدة عامة وهي قول الله تعالى: : {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل 60] فكل وصف كمال فلله منه الأعلى.

ص: 679

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إطلاق الرزق على غير الله عز وجل، بمعنى أنه يصح أن نصف غير الله بأنه رازق؛ لأن الرزق بمعنى العطاء، ولكن الرزق الأكمل والأوفى هو رزق الله تبارك وتعالى.

10 -

أن من محاسن هذا الدعاء أنه أخر ذكر الفائدة المادية للمائدة عن ذكر فائدتها الدينية الروحية، بعكس ما فعله الحواريون، إذ قدموا الأكل على غيره من الفوائد الأخرى.

القرآن

{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)} [المائدة: 115]

التفسير:

قال الله تعالى: إني منزل مائدة الطعام عليكم، فمن يجحد منكم وحدانيتي ونبوة عيسى عليه السلام بعد نزول المائدة فإني أعذبه عذابًا شديدًا، لا أعذبه أحدًا من العالمين.

قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة: 115]، أي:" قال الله تعالى: إني منزل مائدة الطعام عليكم"(1).

واختلفوا في نزول المائدة على ثلاثة أقاويل.

أحدها: أنه مثل ضربه الله تعالى لخلقه، ينهاهم به عن مسألة الآيات لأنبيائه، قاله مجاهد (2).

والثاني: أنهم سألوا ووعدهم بالإِجابة، فلما قال لهم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَاّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ} ، استعفوا منها فلم تنزل عليهم، قاله الحسن (3)، وهو مري عن مجاهد ايضا (4).

(1) التفسير الميسر: 127.

(2)

انظر: تفسير الطبري (13019): ص 11/ 230 - 231.

(3)

انظر: تفسير الطبري (13020): ص 11/ 231.

(4)

انظر: تفسير الطبري (13022): ص 11/ 231.

ص: 680

قال ابن كثير: " وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم. ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير (1) "(2).

والثالث: أنهم سألوا فأجابهم، ولم يستعفوا، لأنه ما حكى الاستعفاء عنهم، ثم أنزلها عليهم، لأنه قد وعدهم، ولا يجوز أن يخلف وعده.

ومن قال بهذا اختلفوا في الذي كان عليها حين نزلت على أقوال:

أحدها: أنه كان عليها ثمار الجنة، قاله قتادة (3).

والثاني: أنه كان عيها خبز ولحم، قاله عمار بن ياسر (4).

وروي عمار بن ياسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزلت المائدة خبزًا ولحمًا، وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادّخروا ورفعوا، فمسخوا قردة وخنازير"(5).

والثالث: أنه كان عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: " لعلها لا تنزل غدًا! "، فرفعت. قاله إسحاق بن عبد الله (6).

والرابع: كان عليها سمكة فيها طعم كل الطعام، قاله عطاء، وعطية (7).

والخامس: أنه كان خبزا وسمكا. قاله ابن عباس (8)، وأبو عبدالرحمن السلمي (9).

(1) انظر: تفسير الطبري: 11/ 231 - 232. وسوف يأتي.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 231.

(3)

انظر: تفسير الطبري (13015): ص 11/ 229 - 230.

(4)

انظر: تفسير الطبري (1311) 11/ 228.

(5)

أخرجه الطبري (13012): ص 11/ 228 - 229.

(6)

انظر: تفسير الطبري (1310) 11/ 228.

(7)

انظر: تفسير الطبري (13004) 11/ 227.

(8)

انظر: تفسير الطبري (13006) 11/ 227.

(9)

انظر: تفسير الطبري (13003) 11/ 227.

ص: 681

والسادس: كان عليها كل طعام إلا اللحم، قاله ميسرة (1)، وزادان (2).

والسابع: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات. قاله مهب بن منبه (3).

والثامن: أنه الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا. قاله مجاهد (4)، وهو مريو عن ابن عباس في رواية عكرمة (5).

والتاسع: رغيفان وحوتان، أكلو منها أربعين يوماً في سفرة، وكانوا ومن معهم نحو خمسة آلاف، قاله جويبر. وأُمِرُوا أن يأكلوا منها ولا يخونوا ولا يدخروا، فخانوا وادخروا فَرُفِعَتْ (6).

قال الطبري: " والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه، وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه.

وبعدُ، فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف، وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك:{إني منزلها عليكم} ، وغير جائز أن يقول تعالى ذكره:{إني منزلها عليكم} ، ثم لا ينزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر، ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول:{إني منزلها عليكم} ، ثم لا ينزلها عليهم، جاز أن يقول:{فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} ، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه، فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك" (7).

(1) انظر: تفسير الطبري (13016): ص 11/ 230.

(2)

انظر: تفسير الطبري (13018): ص 11/ 230.

(3)

انظر: تفسير الطبري (13007) 11/ 227.

(4)

انظر: تفسير الطبري (13008) 11/ 227.

(5)

انظر: تفسير الطبري (13013): ص 11/ 229.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 85.

(7)

تفسير الطبري: 11/ 231 - 232.

ص: 682

قال ابن كثير: " وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة. ويقال إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود، عليهما السلام، فالله أعلم"(1).

قال البغوي: " والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنها نزلت، لقوله تعالى: {إني منزلها عليكم}، ولا خلف في خبره، لتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين"(2).

قرأ نافع وعاصم وابن عامر: {إني منزلها} مشددة، " لأنها نزلت مرات، والتفعيل يدل على التكرير مرة بعد أخرى"(3).

وقرأ الباقون {منزلها} خفيفة (4).

قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة: 115]، أي:" فمن يجحد منكم وحدانيتي ونبوة عيسى عليه السلام"(5).

قال السدي: " بعد ما جاءته المائدة"(6).

قال ابن كثير: " أي: فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها "(7).

قال البغوي: " أي: بعد نزول المائدة"(8).

قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]، أي:" فإني أعذبه عذابًا شديدًا، لا أعذبه أحدًا من العالمين"(9).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 231.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 119.

(3)

تفسير البغوي: 3/ 118.

(4)

انظر: السبعة في القراءات: 250.

(5)

التفسير الميسر: 127.

(6)

أخرجه ابن أبي حاتم (7043): ص 4/ 1251.

(7)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(8)

تفسير البغوي: 3/ 118.

(9)

التفسير الميسر: 127.

ص: 683

قال السدي: " يقول: أعذبه عذابا لا يعذب به أحد من العالمين غير أهل المائدة"(1).

قال ابن كثير: " أي: من عالمي زمانكم، كقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وكقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] "(2).

قال السمعاني: " أي: جنس عذاب لم أعذب به أحدا"(3).

قال السعدي: " لأنه شاهد الآية الباهرة وكفر عنادا وظلما، فاستحق العذاب الأليم والعقاب الشديد"(4).

وقوله تعالى: {مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]، يحتمل وجهين:

أحدهما: يعني من عالمي زمانهم. وهذا قول أبو العالية (5)، وقتادة (6)، ومجاهد (7)، وابن زيد (8).

قال أبو العالية: " فإن لكل زمان عالما"(9).

والثاني: من سائر العالمين كلهم. ذكره الماوردي (10).

قال الزمخشري: العالمين: أي: " الجم الغفير من الناس"(11).

وفيهم قولان:

أحدهما: هو أن يمسخهم قردة، قاله عمار بن ياسر (12)، وسلمان الخير (13).

عن سلمان الخير: " فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات"(14).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (7047): ص 4/ 1252.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 225.

(3)

تفسير السمعاني: 2/ 80.

(4)

تفسير السعدي: 249.

(5)

أخرجه الطبري (869): ص 2/ 24.

(6)

أخرجه الطبري (868): ص 2/ 24.

(7)

أخرجه الطبري (870): ص 2/ 24.

(8)

أخرجه الطبري (872): ص 2/ 24.

(9)

أخرجه الطبري (869): ص 2/ 24.

(10)

انظر: النكت والعيون: 1/ 86.

(11)

الكشاف: 1/ 135.

(12)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (7046): ص 4/ 1252.

(13)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (7044): ص 4/ 1251.

(14)

انظر: تفسير ابن ابي حاتم (7044): ص 4/ 1251.

ص: 684

والثاني: أنه جنس من العذاب لا يعذب به غيرهم لأنهم كفروا بعد أن رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم، فكانوا أعظم كفراً فصاروا أعظم عذاباً (1).

قال عبدالله بن عمر: "إن أشدّ الناس عذابًا ثلاثة: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون"(2).

(1) انظر: النكت والعيون: 2/ 86.

(2)

أخرجه الطبري (12023): ص 11/ 233.

ص: 685

أخرج ابن ابي حاتم عن سلمان الخير؛ أنه قال: "لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة، كره ذلك جدا وقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية، فابتلوا بها حتى كان بَوَارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها، فلذلك قالوا:{نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} الآية.

فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها، قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود، وجبة من شعر، وعباءة من شعر، ثم توضأ واغتسل، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعًا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله فقال:{اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} فأنزل الله عليهم سُفْرَة حمراء بين غمامتين: غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا للشروط التي أتخذها الله عليهم - فيها: أنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين - وهو يدعو الله من مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة، إلهي لا تجعلها عذابًا، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شَكَّارين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبًا وجزاء، إلهي اجعلها سلامة وعافية، ولا تجعلها فتنة ومثلة.

ص: 686

فما زال يدعو حتى استقرت السُّفْرة بين يدي عيسى، والحواريين وأصحابه حوله، يَجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخَرَّ عيسى والحواريون لله سجدًا شكرًا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا أورثهم كمدًا وغمًا، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى. والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليها منديل مغطى. قال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة، وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاء عند ربه؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر باسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا. فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك، وأحقنا بالكشف عنها. فقام عيسى، عليه السلام، واستأنف وضوءًا جديدًا، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا. ثم انصرف فجلس إلى السفرة وتناول المنديل، وقال:"باسم الله خير الرازقين"، وكشف عن السفرة، فإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، وعلى الآخر ثمرات، وعلى الآخر خمس رمانات.

ص: 687

فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون: وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصِّدِّيقة. فقال عيسى، عليه السلام: ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية القاهرة، فقال له: كن. فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يُمدكم منه ويَزدكم، فإنه بديع قادر شاكر.

فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن تُرينا آية في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى، عليه السلام، على السمكة، فقال: يا سمكة، عودي بإذن الله حية كما كنت. فأحياها الله بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية، تَلَمَّظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلما رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة، عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.

ص: 688

فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها، ثم نحن بعد فقال عيسى: معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها، خافوا أن يكون نزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، فيكون مَهْنَؤُها لكم، وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله، واختموه بحمد الله، ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء، لم ينتقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، وبرئ كل زَمِنٍ أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صِحَاحًا حتى خرجوا من الدنيا.

وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة، سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات، قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا: الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضًا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب، تنزل يومًا ولا تنزل يومًا. فلبثوا في ذلك أربعين يومًا، تنزل عليهم غِبًّا عند ارتفاع الضُحَى فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم. بإذن الله إلى جو السماء، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.

ص: 689

قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى، عليه السلام، أن اجعل رزقي المائدة لليتامى والفقراء والزَّمنَى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس، وغَمطُوا ذلك، حتى شَكُّوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة، ونزولها من السماء أحق، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير؟ فقال عيسى، عليه السلام: هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقًا، وأراكم فيها الآيات والعبَر كذَّبْتم بها، وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.

وأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين. قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات" (1).

قال ابن كثير: "هذا أثر غريب جدًا. قَطَّعَه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم:{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية" (2).

الفوائد:

1 -

أن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.

(1) كما في تفسير ابن كثير: 3/ 228 - 230.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 230.

ص: 690

2 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: خطر طلب الآيات من الأمم، وأنه إذا جاءت الآيات المطلوبة فقد عرضوا أنفسهم للهلاك، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أنه متى طلبت الأمة آية معينة وحصلت لهم حق عليهم العذاب.

فإن قال قائل: هذه القاعدة تنتقض بما تواتر عن انشقاق القمر؛ أن قريشًا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر (1)؟

فالجواب عن هذا: أن قريشًا لم يطلبوا آية معينة، وإنما طلبوا آية فقط، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي عينها، أراهم انشقاق القمر.

(1) عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك قال: "وتفعلون؟ " قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال:" بل باب التوبة والرحمة". [المسند (1/ 242) والمستدرك (1/ 53) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/ 152) من طريق سفيان به، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 196): "رجاله رجال الصحيح"].

ص: 691

3 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أن العذاب له أعلى وله أدنى؛ لقوله: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} ، فهذا دليل على أن العذاب يتفاوت من شخص لآخر، وتفاوت العذاب أسبابه كثيرة؛ منها: قلة الداعي إلى الذنب، فإن قلة الداعي إلى الذنب توجب شدة العقوبة عليه، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» وهم «أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ بِضَاعَتَهُ؛ لَا يَبِيعُ إِلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِيَمِينِهِ» (1).

الشاهد الأول والثاني: أشيمط وزانٍ، يعني رجلًا شمطه الشيب، وهذا يدل على ضعف قوته في طلب النكاح. وصغّره بقوله «أُشَيْمِطٌ» تحقيرًا له، إذن زنا الشيخ أعظم عقوبة من زنا الشاب؛ لأن الداعي في الشيخ أقل.

«عَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» ، عائل يعني: فقير، مستكبر، الفقير يجب أن يعرف نفسه وقدره فكيف يستكبر، الاستكبار من الغني أهون بلا شك ومتوقَّع؛ كما قال عز وجل:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق 6، 7] أي استغنى عن غيره، وهذا عائل فيستكبر! فلذلك اشتدت عقوبته، فكلما قوي السبب في طلب المعصية صارت العقوبة عليها أهون، وكلما ضعف الطلب صارت العقوبة عليها أشد، هنا بين الله عز وجل أنه لا يعذبه أحدا من العالمين.

4 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن كفر من رأوا الآيات ليس ككفر من لم يروها، لأن من رأى الآيات فقد رآها علم اليقين، بل عين اليقين، ومن نقلت إليه فقد علمها علم اليقين، أي: بواسطة.

القرآن

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6111) والأوسط (5577) من حديث سلمان الفارسي.

ص: 692

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} [المائدة: 116]

التفسير:

واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ فأجاب عيسى -منزِّهًا الله تعالى-: ما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق. إن كنتُ قلتُ هذا فقد علمتَه; لأنه لا يخفى عليك شيء، تعلم ما تضمره نفسي، ولا أعلم أنا ما في نفسك. إنك أنت عالمٌ بكل شيء مما خفي أو ظهر.

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، أي:" واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ "(1).

قال الطبري: أي: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي معبودين تعبدونهما من دون الله"(2).

قال ابن كثير: " هذا أيضًا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد"(3).

قال السعدي: " وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة"(4).

(1) التفسير الميسر: 127.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 238.

(3)

تفسير ابن كثير: 3/ 232.

(4)

تفسير السعدي: 249.

ص: 693

اختلف أهل التأويل في معنى هذا السؤال وليس باستفهام وإن خرج مخرج الاستفهام على ثلاثة اقوال (1):

أحدها: أنه تعالى سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادعى ذلك عليه، ليكون إنكاره بعد السؤال أبلغ فى التكذيب وأشد فى التوبيخ والتقريع.

والثاني: أنه قصد بهذا السؤال تعريفه أن قومه وبدّلوا دينهم بعده، وادعوا عليه ما لم يقله.

والثالث: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه، كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: أفعلته، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه. أفاده الطبري (2).

فإن قيل: "فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً، فكيف قال تعالى فيهم ذلك؟

قيل: لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضي بمثابة من ولدته، فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له" (3).

وفي زمان هذا السؤال قولان:

أحدهما: أن الله تعالى قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا، قاله السدي (4).

والثاني: أن الله تعالى يقول له ذلك يوم القيامة، قاله ابن جريج (5)، وقتادة (6)، وميسرة (7).

قال الماوردي: "والثاني أصح القولين"(8).

قال السمعاني: " والصحيح أنه يكون في القيامة، والقيامة وإن لم تكن بعد، ولكنها في علم الله، فلما كانت كائنة لا محالة فهي كالكائنة؛ فصح قوله: {وإذ قال الله} "(9).

(1) انظر: تفسير الطبري: 11/ 236 - 237، والنكت والعيون: 2/ 87.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 237.

(3)

النكت والعيون: 2/ 87.

(4)

انظر: تفسير الطبري (13028): ص 11/ 234.

(5)

انظر: تفسير الطبري (13029): ص 11/ 234.

(6)

انظر: تفسير الطبري (13031): ص 11/ 234.

(7)

انظر: تفسير الطبري (13030): ص 11/ 234.

(8)

النكت والعيون: 2/ 87.

(9)

تفسير السمعاني: 2/ 80. ذكر السمعاني: انه قد يأتي "إذ" بمعنى "إذا"، واستشهد بقول الشاعر:

لم يجزه به الإله إذ جزا

جنات عدن في السموات العلا

يعني: إذا جزى.

وقال الماوردي معلقا على البيت السابق: " فأقام الماضي مقام المستقبل وهذا جائز في اللغة كما قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] "[انظر: النكت والعيون: 2/ 87، وتفسير السمعاني: 2/ 82، والبيت بلا نسبة عندهم، ولم أتعرف على قائل البيت فيما عندي من المصادر].

ومنه قول أبي النجم:

ثم جزاء الله عنا إذ جزى .... جنات عدن في العلالي العلي

يعني: إذا جزى. انظر: ديوانه: 210.

ومنه قول الأسود بن جعفر الأزدي:

فالآن إذ هازلتهن فإنما

يقلن ألا لم يذهب الشيخ مذهبا

يعني: إذا هازلتهن. انظر: [تفسير الطبري: 9/ 135، وتفسير القرطبي: 7/ 301، تحقيق التركي، وذكره أبوبكر الأنباري في الأضداد: 119 دون نسبة].

ص: 694

قال ابن كثير: " والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم: أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة"(1).

ورجّح قال الإمام الطبري قول السدي، واحتج على ذلك بمعنيين (2):

إحداهما: أن {إذْ} إنما تصاحب في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضيَ من الفعل، وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم، وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر.

والثاني: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.

قال ابن كثير: " وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي، ليدل على الوقوع والثبوت"(3).

قال السمعاني: " قال قائل: هم لم يتخذوا أمه إليها؛ فما معنى قوله: {اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} ؟ قيل: إنه - جل وعز - لما أراد ذكر عيسى مع أمه، قال: إلهين، وهذا كما يقال عند ذكر أبي بكر وعمر معا: عمران، وقالوا: هذا سنة عمرين، ويقال للشمس والقمر: قمران، قال الفرزدق (4):

[أخَذْنا بآفاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ]

لنَا قَمَرَاهَا والنُّجُومُ الطَّوَالِعُ

يعني: الشمس والقمر، وقيل: إن عيسى كان بعضا لمريم، فلما اتخذوه إلها؛ فكأنهم اتخذوا أمه إلها؛ فقال:{إلهين من دون الله} " (5).

(1) تفسير ابن كثير: 2/ 232.

(2)

انظر: تفسير الطبري: 11/ 236.

(3)

تفسير ابن كثير: 2/ 232.

(4)

ديوانه طبعة الصاوي 519.

(5)

تفسير السمعاني: 2/ 82.

ص: 695

وروي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يُدْعَى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه، فيقِر بها، فيقولُ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} الآية [المائدة: 110] ثم يقول: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون: نعم، هو أمرنا بذلك، قال: فيطول شعر عيسى، عليه السلام، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده. فيجاثيهم بين يدي الله، عز وجل، مقدار ألف عام، حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار"(1).

قال ابن كثير: "وهذا حديث غريب عزيز"(2).

وفتح أبو عمر وابن عامر وعاصم في رواية حفص: {وأمي إلهين} (3).

قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116]، أي:" أنزهك عما لا يليق بك يا رب فما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق"(4).

قال الزمخشري: أي: " سبحانك من أن يكون لك شريك ما يكون لي ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله"(5).

قال السعدي: " يقول: {سبحانك} عن هذا الكلام القبيح، وعما لا يليق بك، ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنه ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون، وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون"(6).

(1) تاريخ دمشق (19/ 128 القسم المخطوط) والمختصر لابن منظور (29/ 54).

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 233.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 250.

(4)

التفسير الميسر: 127، وصفوة التفاسير:346.

(5)

الكشاف: 1/ 694.

(6)

تفسير السعدي: 249.

ص: 696

قال ابن كثير: " هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل "(1).

قال الطبري: أي: " تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به ما يكون لي أن أقول ما ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك، وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ "(2).

قال الماوردي: " أي: أدعي لنفسي ما ليس من شأنها، يعني أنني مربوب ولست برب، وعابد ولست بمعبود وبدأ بالتسبيح قبل الجواب لأمرين: أحدهما: تنزيهاً له عما أضيف إليه. الثاني: خضوعاً لعزته وخوفاً من سطوته"(3).

قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116]، أي:" إن كنتُ قلتُ هذا فقد علمتَه; لأنه لا يخفى عليك شيء"(4).

قال الطبري: " يقول: إنك لا يخفى عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به"(5).

قال ابن كثير: " أي: إن كان صَدَرَ مني هذا فقد علمته يا رب"(6).

قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]، أي:" تعلم ما تضمره نفسي، ولا أعلم أنا ما في نفسك"(7).

قال الطبري: " يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي، فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: {اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}، كنت قد علمته، لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه، لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه"(8).

قال ابن كثير: أي: "فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته"(9).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 233.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 237.

(3)

النكت والعيون: 2/ 87.

(4)

التفسير الميسر: 127.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 237.

(6)

تفسير ابن كثير: 3/ 233.

(7)

التفسير الميسر: 127.

(8)

تفسير الطبري: 11/ 238.

(9)

تفسير ابن كثير: 3/ 233.

ص: 697

قال الزمخشري: " {في نفسي}، أي: في قلبي: والمعنى: تعلم معلومى ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه، فقيل في نفسك لقوله في نفسي"(1).

قال السعدي: " وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة"(2).

وفي قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وجوه:

أحدها: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، حكاه البغوي عن ابن عباس (3).

والثاني: تعلم سري ولا أعلم سرك (4).

والثالث: تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة. قاله أبو روق (5).

والرابع: أن النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته، يقول: تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، وما عندي علمه. وهذا قول الزجاج (6).

قال الزجاج: " فإنما هو راجع إلى الفائدة في المعلوم والتوكيد أن الغيب لا يعلمه إلا

الله جل ثناؤه" (7).

قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116]، أي:" إنك أنت عالمٌ بكل شيء مما خفي أو ظهر"(8).

قال البغوي: أي: " ما كان وما يكون"(9).

قال الطبري: " يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك"(10).

(1) الكشاف: 1/ 694.

(2)

تفسير السعدي: 249.

(3)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 122.

(4)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 122.

(5)

انظر: تفسير البغوي: 3/ 122.

(6)

انظر: معاني القرآن: 2/ 223.

(7)

معاني القرآن: 2/ 223.

(8)

التفسير الميسر: 127.

(9)

تفسير البغوي: 3/ 122.

(10)

تفسير الطبري: 11/ 238.

ص: 698

قال الزمخشري: قوله: " {إنك أنت علام الغيوب}، تقرير للجملتين معا، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهى إليه علم أحد"(1).

وفي الفرق بين «العالم» و «العلام» ، وجهان (2):

أحدهما: أن العلام الذي تقدم علمه، والعالم الذي حدث علمه.

والثاني: أن العلام الذي يعلم ما كان وما يكون، والعالم الذي يعلم ما كان ولا يعلم ما يكون.

الفوائد:

1 -

توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.

2 -

براءة عيسى عليه السلام مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب.

3 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: توبيخ الذين اتخذوا عيسى إلهًا وأمه؛ لقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} ؛ لأنه سبق أن المراد من هذا الاستفهام هو توبيخ الذين اتخذوا عيسى وأمه إلهين.

4 -

ومن فوائد الآية الكريمة: بُعد الرسل عليهم الصلاة والسلام عن الشرك، لقوله:{سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ، وهذا أمر مسلم؛ لأن أصل بعثة الرسل من أجل تحقيق التوحيد.

5 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تنزيه الله تبارك وتعالى أن يكون له شريك؛ لقوله: {سُبْحَانَكَ} ؛ أي: تنزيهًا لك عن كل ما لا يليق بك، والمقام الآن باتخاذ شريك، فيكون معناه تنزيه الله عن كل شريك.

6 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: اعتراف عيسى عليه الصلاة والسلام بما لا يستحق؛ لقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} وهكذا إخوانه من الرسل، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لما قال له رجل: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ. قال له: أَجَعَلْتَنِي وَاللهَ عَدْلًا؟ بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ» (3)، فكل الرسل يعرفون قدر أنفسهم، فلا يمكن أن يقروا ما لا يستحقونه.

(1) الكشاف: 1/ 694.

(2)

انظر: النكت والعيون: 2/ 88.

(3)

أخرجه أحمد (1839) من حديث ابن عباس.

ص: 699

7 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الألوهية حق خاص لله؛ لقوله: {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} ، وإذا كان الرسل، بل خلاصة الرسل، ليس لهم في الألوهية، فمن دونهم من باب أولى، فلا أحد يستحق أن يكون إلهًا، ولا أحد يستحق أن نعبده من دون الله عز وجل.

8 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يصدر من الإنسان من قول؛ لقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} .

9 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تأدب الرسل عليهم الصلاة والسلام مع ربهم جل وعلا؛ لقوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} ، وإذا كنت علمته فإنه صادر عن علم من عندك يا رب، وعن قضاء وقدر، ولا يخفى عليك.

10 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إطلاق النفس على الذات، بل إن بعض العلماء يقول: إن إطلاق الذات على النفس غلط، وإن أصل ذات بمعنى صاحبة، فلا تقال إلا مضافة، كما قال عز وجل:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج 1] أي صاحبة البروج، وإن إطلاق الذات على النفس من الكلمات المحدثة، وقد صرح بهذا شيخ الإسلام رحمه الله وقال: إنها ليست من كلام العرب العرباء -أي إطلاق الذات على النفس- وإنما يعبر عن الذات بالنفس، يعني بمعنى أن ذات الرجل هي نفسه، ولكن الاصطلاح شيء آخر واللغة العربية الفصحى شيء آخر.

11 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات علم الله بما في نفس الإنسان؛ لقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} وهذا كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق 16]، فالله عز وجل يعلم ما في قلبك، احذر أن يكون في قلبك ما يخالف أمر الله عز وجل.

ص: 700

12 -

ومن هنا نأخذ فائدة ثانية وهي: وجوب الخشوع في الصلاة؛ لأنك إذا غفلت وفكرت في غير ما يتعلق بالصلاة فقد أعرضت عن الله عز وجل، هكذا قرره بعض أهل العلم، ولكن في مسألة وجوب الخشوع في الصلاة فيها نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أنه «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَلَّى الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ، فَإِذَا انْتَهَتِ الْإِقَامَةُ جَاءَ إِلَى الْمُصَلِّي وَجَعَلَ يُحَدِّثُهُ حَتَّى يَقُولَ: اذْكُرْ كَذَا فِي يَوْمِ كَذَا، فَلَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا» (1).

القرآن

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة: 117]

التفسير:

قال عيسى عليه السلام: يا ربِّ ما قلتُ لهم إلا ما أوحيته إليَّ، وأمرتني بتبليغه من إفرادك بالتوحيد والعبادة، وكنتُ على ما يفعلونه -وأنا بين أظهرهم- شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، فلما وفيتني أجلي على الأرض، ورفعتني إلى السماء حيًّا، كنت أنت المطَّلِع على سرائرهم، وأنت على كل شيء شهيد، لا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء.

قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117]، أي:" قال عيسى عليه السلام: يا ربِّ ما قلتُ لهم إلا ما أوحيته إليَّ، وأمرتني بتبليغه من إفرادك بالتوحيد والعبادة"(2).

قال ابن عباس: " سيدي وسيدكم"(3).

(1) متفق عليه؛ البخاري (3285) ومسلم (389/ 83) من حديث أبي هريرة.

(2)

التفسير الميسر: 127.

(3)

أخرجه ابن ابي حاتم (7055): ص 4/ 1254.

ص: 701

قال الطبري: " يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم: {اعبدوا الله ربي وربكم} "(1).

قال ابن كثير: "أي: ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي: هذا هو الذي قلت لهم"(2).

قال السعدي: أي: "فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك، ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي"(3).

قال الماوردي: " لم يذكر عيسى ذلك على وجه الإِخبار به لأن الله عالم به، ويحتمل وجهين: أحدهما: تكذيباً لمن اتخذ إلهاً معبوداً. والثاني: الشهادة بذلك على أمته فيما أمرهم به من عبادة ربه"(4).

قوله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117]، أي:" وكنتُ على ما يفعلونه -وأنا بين أظهرهم- شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم"(5).

قال البغوي: {ما دمت} ، أي:"أقمت"(6).

قال الطبري: " يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم "(7).

قال ابن كثير: " أي: كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم"(8).

قال السعدي: أي: " أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به"(9).

قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]، أي:" فلما وفيتني أجلي على الأرض، ورفعتني إلى السماء حيًّا، كنت أنت المطَّلِع على سرائرهم"(10).

(1) تفسير الطبري: 11/ 238.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 233.

(3)

تفسير السعدي: 249.

(4)

النكت والعيون: 2/ 89.

(5)

التفسير الميسر: 127.

(6)

تفسير البغوي: 3/ 122.

(7)

تفسير الطبري: 11/ 238.

(8)

تفسير ابن كثير: 3/ 233.

(9)

تفسير السعدي: 249.

(10)

التفسير الميسر: 127.

ص: 702

قال السعدي: أي: " أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم"(1).

قال البغوي: أي: فلما" قبضتني ورفعتني إليك، {كنت انت} الحفيظ عليهم، تحفظ أعمالهم"(2).

قال الطبري: " يقول: فلما قبضتني إليك، كنت أنت الحفيظ عليهم دوني، لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم. وفي هذا تبيانُ أن الله تعالى ذكره إنما عرّفه أفعالَ القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} "(3).

قال السدي (4) وابن جريج (5): " أما {الرقيب}، فهو الحفيظ".

عن ميسرة قال: "قال الله تعالى ذكره: {يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}؟ قال: فأُرعدت مفاصله، وخشى أن يكون قد قالها، فقال: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} "(6).

قال طاوس: ": احتج عيسى، والله وقّفه"(7).

قوله تعالى: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، أي:" وأنت المطّلع على كل شيء لا يخفى عليك شيء"(8).

قال الطبري: " يقول: وأنت تشهد على كل شيء، لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيتُ وشهدت"(9).

قال السعدي: أي: " علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر"(10).

(1) تفسير السعدي: 249.

(2)

تفسير البغوي: 3/ 122.

(3)

تفسير الطبري: 11/ 239.

(4)

أخرجه الطبري (13032): ص 11/ 239. واللفظ له.

(5)

أخرجه الطبري (13033): ص 11/ 239.

(6)

أخرجه الطبري (13036): ص 11/ 240.

(7)

أخرجه الطبري (13034): ص 11/ 240.

(8)

صفوة التفاسير: 346.

(9)

تفسير الطبري: 11/ 339.

(10)

تفسير السعدي: 249.

ص: 703

عن ابن عباس قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة، فقال: يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله، عز وجل، حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده، وإن أول الخلائق يُكْسى إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم"(1).

الفوائد:

1 -

أن الرسل عليهم الصلاة والسلام مكلَّفون بالرسالة أمرًا من الله؛ لقوله: {مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} ، وهذا له شواهد في القرآن كثيرة، مثل قول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].

2 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حُسْن أدب الرسل مع الله عز وجل؛ حيث قال: {إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} ؛ وجه ذلك: أنه يُشعِر بأن عيسى رسولٌ مأمور مكلَّف بالأمر.

3 -

ومن فوائدها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام أُمِر أن يبلِّغ الناس بأنه عبد والله تعالى رب؛ لقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} والرب مقابله العبد. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا حق لعيسى في الألوهية ولا الربوبية؛ لقوله: {رَبِّي} ، ومَنْ ليس له ربوبية ليس له ألوهية.

(1) مسند الطيالسي برقم (2638) وصحيح البخاري برقم (4625) ورواه مسلم في صحيحه برقم (3023).

ص: 704

فإن قال قائل: أليس يُحْيِي الموتى ويُبْرِئ الأكْمَه والأبرص؟ فالجواب: بلى ولكن بإذن الله.

4 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الرسل عليهم الصلاة والسلام شهداء على أمتهم ما داموا فيهم؛ لقوله: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ، ومع ذلك هم شهداء على ما يَرَوْن أو يسمعون، وليسوا شهداء على غائبٍ بعيد لا يرونه ولا يسمعونه؛ لأن الرسل لا يعلمون الغيب.

5 -

ومن فوائد هذه الآية: أن عيسى عليه الصلاة والسلام قد تَوفَّاه الله؛ لقوله: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} ، وقد جاء في ذلك آيات منها قوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران 55] إلى آخره، فأثبت أنه متوفيه.

6 -

إحاطة علم الله تبارك وتعالى ورقابته؛ لقوله: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} .

7 -

إثبات أن الله تعالى شهيد على كل شيء؛ لقوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، وهذا يستلزم فائدة أخرى وهي: أنه يجب على العبد كمال مراقبة الله تبارك وتعالى؛ حيث لا يفقده عند أمره ولا يجده عند نهيه؛ لأن الله رقيب عليك، فلا بد أن تتحاشى هذه الرقابة، وألَّا يفقدَك الله تعالى حيث أمرك ولا يجدَك على ما نهاك.

القرآن

{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118]

التفسير:

إنك يا ألله إن تعذبهم فإنهم عبادك -وأنت أعلم بأحوالهم-، تفعل بهم ما تشاء بعدلك، وإن تغفر برحمتك لمن أتى منهم بأسباب المغفرة، فإنك أنت العزيز الذي لا يغالَبُ، الحكيم في تدبيره وأمره.

قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، أي:" إنك يا ألله إن تعذبهم فإنهم عبادك -وأنت أعلم بأحوالهم-، تفعل بهم ما تشاء بعدلك"(1).

(1) التفسير الميسر: 127.

ص: 705

قال السدي: " يقول: إن تعذبهم تميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك"(1).

قال الطبري: " إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها {فإنهم عبادك}، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به"(2).

قال ابن كثير: " ومعنى قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الآية: التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات"(3).

وقوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]، يحتمل وجهين (4):

أحدهما: أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده.

والثاني: أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه.

قوله تعالى: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، أي:" وإن تغفر برحمتك لمن أتى منهم بأسباب المغفرة، فإنك أنت العزيز الذي لا يغالَبُ، الحكيم في تدبيره وأمره"(5).

قال السدي: " {وإن تغفر لهم}، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم. هذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا"(6).

قال الطبري: أي: " بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم {فإنك أنت العزيز} في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه، {الحكيم}، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب "(7).

(1) أخرجه ابن ابي حاتم (7060): ص 4/ 1255.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 240.

(3)

تفسير ابن كثير: 2/ 232.

(4)

انظر: النكت والعيون: 2/ 89.

(5)

التفسير الميسر: 127.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (7062): ص 4/ 1255.

(7)

تفسير الطبري: 11/ 240 - 241.

ص: 706

قال السدي: " {وإن تغفر لهم}، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام، {فإنك أنت العزيز الحكيم}، وهذا قول عيسى في الدنيا"(1).

قال ابن كثير: " وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله، وعلى رسوله، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها"(2).

ذكر السمعاني والبغوي في الآية وجوه (3):

أحدها: فإن قال قائل: كيف طلب المغفرة لهم، وهم كفار؟

قيل: إن معنى قوله: {وإن تغفر لهم} ، يعني: بعد الإيمان، وهذا إنما يستقيم على قول السدي؛ لأن الإيمان لا ينفع في القيامة، والصحيح آخر القولين، قال بعضهم: هذا في فريقين منهم فقوله: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} يعني: من كفر منهم {وإن تغفر لهم} يعني: من آمن منهم. وقال أهل المعاني من أرباب النحو: ليس هذا على وجه طلب المغفرة، وإنما هذا على تسليم الأمر إليه، وتفويضه إلى مراده؛ ألا تراه يقول:" فإنك أنت العزيز الحكيم " ولو كان على وجه طلب المغفرة لقال: " فإنك أنت الغفور الرحيم ".

وأما السؤال الثاني: وكيف قال: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} ، وهذا لا يليق بسؤال المغفرة؟

(1) أخرجه الطبري (1037): ص 11/ 241.

(2)

تفسير ابن كثير: 3/ 234.

(3)

انظر: تفسير السمعاني: 2/ 83، وتفسير البغوي: 3/ 123.

ص: 707

قيل: اعلم أن في مصحف ابن مسعود: {وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم} وكان ابن شنبوذ يقرأ كذلك زمانا ببغداد؛ فمنع عنه، وفيه قصة، وقيل: فيه تقديم وتأخير، وتقدير الآية: إن تغفر لهم فإنهم عبادك، وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم. وقيل: معناه: إن تغفر لهم لا ينقص من عزك شيء، ولا يخرج من حكمك شيء، ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته الكفار، لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره.

قال الزمخشري: " فإن قلت: المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال: {وإن تغفر لهم} ؟

قلت: ما قال إنك تغفر لهم، ولكنه بنى الكلام على: إن غفرت، فقال: إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول. بل متى كان الجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن" (1).

عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال: إني سألت ربي، عز وجل، الشفاعة لأمتي، فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا"(2).

(1) الكشاف: 1/ 697.

(2)

المسند (5/ 149).

ص: 708

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم: تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني} [إبراهيم: 36] الآية، وقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي»، وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟ » فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوءك"(1).

وعن حذيفة بن اليمان قال: "غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فلم يخرج، حتى ظننا أن لن يخرج، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نَفْسه قد قبضت فيها، فلما رفع رأسه قال: "إن ربي، عز وجل، استشارني في أمتي: ماذا أفعل بهم؟ فقلت: ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك. فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال: لا أخزيك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفًا، مع كل ألف سبعون ألفا، ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليّ فقال: ادع تُجب، وسل تُعْطَ". فقلت لرسوله: أومعطي ربي سؤلي؟ قال: ما أرسلني إليك إلا ليعطيك، ولقد أعطاني ربي ولا فخر، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمشي حيًا صحيحًا، وأعطاني ألا تجوع أمتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة، وطيّب لي ولأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيرًا مما شُدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج" (2).

(1) أخرجه مسلم (346): ص 1/ 191، والنسائي في الكبرى (11205): 10/ 140، وغيرهما.

(2)

المسند (5/ 393) وقال الهيثمي في المجمع (2/ 287): "فيه ابن لهيعة وفيه كلام".

ص: 709

الفوائد:

1 -

أن هذه الآية ثناء على الله -تعالى- بحكمته وعدله، وكمال علمه.

2 -

أن تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية.

3 -

أن عيسى عليه السلام -وهو أحد أولو العزم من الرسل- يفوض الأمر إلى الله؛ حيث قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ} ، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ، وهكذا يجب علينا نحن أن نفوض الأمر إلى الله عز وجل فيما يفعله ولا نعترض عليه، فالله يقول:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لكمال حكمته، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} لأنهم عابدون لله عز.

4 -

تسليم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وتفويض الأمر إلى الله عز وجل؛ لأن هذا من عيسى عليه الصلاة والسلام وهو أحد الأنبياء أولي العزم.

5 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إطلاق العبودية على مَنِ استحق التعذيب، والعبودية نوعان: خاصة، وعامة، والخاصة نوعان: أخص، وأعم؛ العامة: هي عبودية القدر؛ يعني عبودية التكوين، هذه عامَّة لكل أحد؛ قال الله عز وجل:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]، ولا يشذ عن هذه العبودية أحد، ولا يمكن أن يعارض هذه العبودية أحد، كل الخلق، لا يستطيع أكفر عباد الله أن يمنع قدر الله عز وجل فيه، وهذه عامة للمسلم والكافر، والبَّر والفاجر.

والثاني خاصة: وهي العبودية للشرع؛ العبودية لشريعة الله أن يتذلل الإنسان لشريعة الله عز وجل، وهذه خاصَّة بمن؟ بمن أسلم وجه لله، فيَخْرج منها الكافر؛ فليس بعبد لله بهذا المعنى.

ص: 710

6 -

أن لله تبارك وتعالى أن يعذب ويرحم، وإن شئت فقل: أن يعذب ويغفر؛ لتطابق الآية، ولكن هل هذا على ظاهره أو نقول: أن يُعذِّب من يستحق التعذيب؟ لأن الله تعالى لا يُعَذِّب أحدًا لا يستحق التعذيب كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112].

7 -

ومن فوائد الآية الكريمة: حكمة الله عز وجل في جَعْل الخلق ينقسمون إلى قسمين: معذب، ومغفور له، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن 2]، ولولا هذا الانقسام ما ظهر فضل الإيمان، ولا شُرِعَ الجهاد ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا أرسلت الرسل، لكن حكمة الله اقتضت أن يكون الناس قسمين.

8 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات المغفرة -أي مغفرة الله عز وجل لمن شاء من عباده؛ لقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ، وقد مر عليكم معنى المغفرة وهي: ستر الذنب والتجاوز عنه، نأخذ هذا من اشتقاق هذه الكلمة؛ فإنها مشتقة من المِغْفَر وهو الذي يُتَّقَى به السهام، يجعل على الرأس، فهو ساتر وواقٍ.

9 -

ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين الكريمين: العزيز والحكيم، وإثبات ما تضمناه من صفة، وهي العزة والحكم والحكمة.

فـ «العزيز» : هو المنيع الذي لا يغلب. والعز في كلام العرب على ثلاثة أوجه.

أحدها: بمعنى الغلبة، ومنه قولهم: من عز بز، أي: من غلب سلب، يقال منه: عز يعز -بضم العين- من يعز. ومنه قول الله سبحانه: {وعزني في الخطاب} [ص: 23].

والثاني: بمعنى الشدة والقوة. يقال منه: عز يعز -بفتح العين- من "يعز"، كقول الهذلي -يصف العقاب- (1):

(1) ديوان الهذليين القسم الثاني ص 110، وشرح أشعارهم للسكري ص 1089 آخر قصيدة لأبي كبير الهذلي، أبياتها 23 بيتا، مطلعها:

أزهير هل عن شيبة من مصرف

أم لا خلود لباذل متكلف

وفي مقاييس اللغة 2/ 182 وتهذيب الأزهري 7/ 147 برواية: فتخاء، بدل، سوداء، وفي اللسان والقاموس وشرحه (عزز). وفي الديوان، يريد: أن منسرها حديد دقيق كأنه مخصف. والروثة: طرف الأنف، وفراشها: عشها.

والبيت استشهد به الزجاج في تفسير الأسماء ص 34 على معنى "العزيز" ..

ص: 711

حتى انتهيت إلى فراش عزيزة

سوداء روثة أنفها كالمخصف

جعلها عزيزة، لأنها من أقوى جوارح الطير.

والوجة الثالث: أن يكون بمعنى نفاسة القدر. يقال منه: عز الشيء يعز -بكسر العين- من يعز، فيتأول معنى العزيز على هذا، أنه الذي لا يعادله شيء، وأنه لا مثل له، ولا نظير" (1).

و«الحكيم» : " {آلر، تلك آيات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] وقال في موضع آخر: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1].

فدل على أن المراد بـ «الحكيم» هنا، الذي أحكمت آياته، صرف عن مفعل إلى فعيل، ومعنى الإحكام لخلق الأشياء، إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها (2).

القرآن

{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)} [المائدة: 119]

التفسير:

قال الله تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة: هذا يوم الجزاء الذي ينفع الموحدين توحيدهم ربهم، وانقيادهم لشرعه، وصدقهم في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبدًا، رضي الله عنهم فقبل حسناتهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من جزيل ثوابه. ذلك الجزاء والرضا منه عليهم هو الفوز العظيم.

قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]، أي:" قال الله تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة: هذا يوم الجزاء الذي ينفع الموحدين توحيدهم ربهم، وانقيادهم لشرعه، وصدقهم في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم"(3).

قال ابن عباس: " يقول: هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم"(4).

قال الكلبي: " ينفع المؤمنين إيمانهم"(5).

(1) شأن الدعاء: 1/ 47 - 48.

(2)

انظر: شأن الدعاء، للخطابي: 73 - 74.

(3)

التفسير الميسر: 127.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (7063): ص 4/ 1256.

(5)

تفسير البغوي: 3/ 124.

ص: 712

قال السدي: " هذا فصل من كلام عيسى، وهذا يوم القيامة"(1).

يعني: " أن قوله: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}، إلى قوله: {فإنك أنت العزيز الحكيم}، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه، وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة"(2).

قال البيضاوي: " المعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع"(3).

قال ابن كثير: " يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين، الكاذبين على الله وعلى رسوله، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه، عز وجل، فعند ذلك يقول تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} "(4).

قال الماوردي: " وإنما نفعهم الصدق في ذلك اليوم لوقوع الجزاء فيه وإن كان في كلِّ الأيام نافعاً"(5).

وفي هذا «الصدق» ، قولان (6):

أحدهما: أن صدقهم الذي كان منهم في الدنيا نفعهم في الآخرة جُوزُوا عليه من الثواب.

فعلى هذا المراد بهذا الصدق وجهان محتملان:

أحدهما: أنه صدقهم في عهودهم.

والثاني: أنه تصديقهم لرسل الله وكتبه.

والقول الثاني: أنه صدق يكون منهم في الآخرة ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله.

فعلى هذا في المراد بهذا الصدق وجهان محتملان:

أحدهما: أنه صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ.

والثاني: صدقهم فيما شهدوا به على أنفسهم عن أعمالهم، ويكون وجه النفع فيه أن يكفوا المؤاخذة بتركهم كتم الشهادة، فيغفر لهم بإقرارهم لأنبيائهم وعلى أنفسهم.

(1) أخرجه الطبري (1039): ص 11/ 241.

(2)

تفسير الطبري: 11/ 242.

(3)

تفسير البيضاوي: 2/ 152.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 235.

(5)

النكت والعيون: 2/ 90.

(6)

انظر: النكت والعيون: 2/ 90.

ص: 713

قال السعدي: " والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط المستقيم والهدي القويم، فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق، إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر"(1).

قال الزمخشري: " فإن قلت: ما معنى قوله {ينفع الصادقين صدقهم} ؟ إن أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟

قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم" (2).

قرأ نافع وحده: {هذا يوم ينفع} نصبا، وقرأ الباقون:{هذا يوم ينفع} رفعا (3).

قوله تعالى: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 119]، أي:" لهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار"(4).

قال أبو مالك: " يعني: المساكن تجري أسفلها أنهارها"(5).

قال عبدالله: " أنهار الجنة تفجر من جبل مسك"(6).

قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [المائدة: 119]، أي:" ماكثين فيها أبدًا"(7).

قال سعيد بن جبير: " يعني: لا يموتون"(8).

عن ابن عباس: {خالدين فيها أبدا} : لا انقطاع له" (9).

قال ابن كثير: ": ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون"(10).

قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، أي:" رضي الله عنهم فقبل حسناتهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من جزيل ثوابه"(11).

(1) تفسير السعدي: 249.

(2)

الكشاف: 1/ 697.

(3)

انظر: السبعة في القراءات: 250.

(4)

التفسير الميسر: 127.

(5)

اخرجه ابن ابي حاتم (7067): ص 4/ 1256.

(6)

اخرجه ابن ابي حاتم (7066): ص 4/ 1256.

(7)

التفسير الميسر: 127.

(8)

اخرجه ابن ابي حاتم (7068): ص 4/ 1256.

(9)

اخرجه ابن ابي حاتم (7069): ص 4/ 1256.

(10)

تفسير ابن كثير: 3/ 235.

(11)

التفسير الميسر: 127.

ص: 714

قال الطبري: أي: " رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه، ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه"(1).

قال النسفي: " {رضي الله عنهم} بالسعي المشكور، {ورضوا عنه} بالجزاء الموفور"(2).

قال القرطبي: " ثم بين تعالى ثوابهم وأنه راض عنهم رضا لا يغضب بعده أبدا، {ورضوا عنه}، أي: عن الجزاء الذي أثابهم به"(3).

عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم تجلى لهم الرب تبارك وتعالى فيقول: سلوني، سلوني أعطكم قال: فيسألونه الرضى. فيقول: رضاي أحلكم داري وأنا لكم كرامتي فاسألونى أعطكم، فيسألونه الرضى قال: فيشهدهم أنه قد رضي عنهم"(4).

قوله تعالى: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119]، أي:" ذلك الجزاء والرضا منه عليهم هو الفوز العظيم"(5).

قال سعيد بن جبير: " يعني: ذلك الثواب الفوز العظيم"(6).

قال النسفي: " لأنه باق بخلاف الفوز في الدنيا فهو غير باق"(7).

(1) تفسير الطبري: 11/ 245.

(2)

تفسير النسفي: 1/ 488.

(3)

تفسير القرطبي: 6/ 380 - 381.

(4)

أخرجه ابن ابي حاتم (7070): ص 4/ 1257، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/ 150): حدثنا عبد الرحمن المحاربي، فذكره من حديث طويل، وعثمان بن عمير أبو اليقظان الكوفي قال الذهبي: ضعفوه - أي الأئمة - فقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أبو أحمد الزبيدي: كان يؤمن بالرجعة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أحمد والدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي:"رديء المذهب، يؤمن بالرجعة، على أن الثقات قد رووا عنه مع ضعفه". ميزان الاعتدال (3/ 50).

(5)

التفسير الميسر: 127.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (7071): ص 4/ 1257.

(7)

تفسير النسفي: 1/ 488.

ص: 715

قال ابن كثير: " أي: هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه، كما قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]، وكما قال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] "(1).

قال القرطبي: " أي الظفر {العظيم}، أي: الذي عظم خيره وكثر، وارتفعت منزلة صاحبه وشرف"(2).

الفوائد:

1 -

فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث:"عليكم بالصدق 3 فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً"(3).

2 -

ومن فوائدها: الحث على الصدق والترغيب فيه؛ لأن ذكر كونه نافعًا في ذلك الوقت الحرج يدل على الترغيب فيه والحث عليه، وقد حث عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله:«عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا» (4).

(1) تفسير ابن كثير: 3/ 236.

(2)

تفسير القرطبي: 6/ 381.

(3)

أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.

(4)

متفق عليه؛ البخاري (6094)، ومسلم (2607/ 105) واللفظ له، من حديث عبد الله بن مسعود.

ص: 716

والصدِّيقيَّة أعلى مراتب البشر بعد النبوة، ويكفيك اقتناعًا بفائدته وثمرته ما حصل للثلاثة الذين خُلِّفُوا؛ أي خُلِّفَ أمرُهم ولم يُقْضَ فيه بشيء حتى جاء الوحي، وهم: كعب بن مالك، هلال بن أمية، مرارة بن الربيع، هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك، ولما رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها جاء المعذِّرون يعتذرون إلى الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر الله عنهم قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقال:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94]، {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96].

أما الثلاثة فصدقوا وأخبروا بالصدق، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم آيات تُتْلَى في الصلاة وخارج الصلاة، ويُثاب على قراءتها، وحثَّ على أن نكون مثلهم؛ فقال بعد ذكر الآيات:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

3 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الثواب بالجنة؛ لقوله: {لَهُمْ جَنَّاتٌ} ، وهذا أمر معتقد عند جميع الطوائف المسلمة.

4 -

ومن فوائد الآية: أن هذا الثواب يختص به الصادقون، لأن تقديم الخبر في قوله: : {لَهُمْ جَنَّاتٌ} أفاد الحصر.

5 -

ومن فوائد الآية الكريمة: وصف الجنات بأن الأنهار المطردة تجري من تحت الأشجار والقصور، وما أجمله من منظر وما ألذَّه من مَخْبَر، اللهم اجعلنا منهم.

6 -

ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن أهل الجنة مخلَّدون فيها أبدًا؛ لقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، وهل هي موجودة الآن.

ص: 717

7 -

في السماوات؛ قال الله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] والإعداد يكون مهيَّأ لأهله، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخلها حين عُرِجَ به ورأى فيها ما رأى (1)، ومَثُلَت له حين قام يصلي صلاة الكسوف (2) هي والنار.

8 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات رضا الله عز وجل؛ لقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، والرضا صفة فعلية؛ لأنها تتعلق بمشيئته، وكل صفة تتعلق بالمشيئة فهي فعلية.

9 -

رضا أهل الصدق عن الله عز وجل، وهذا فيه شيء من الإشكال؛ هل للإنسان أن يرضى عن الله أو لا يرضى، أو الواجب الرضا بقضاء الله مطلقًا؟ الثاني، الواجب رضا الإنسان عن ربه مطلقًا لا بد أن يقول: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولًا، فهل نقول: إن هذا من باب المشاكلة في اللفظ؛ لما قال: {رضي الله عنهم} قال: {وَرَضُوا عَنْهُ} ، أو نقول: إن الرضا هنا ليس المراد مقابل الغضب؛ لأنه إذا ثبت الرضا ثبت الرضا، إذا لم يثبت فضده الكراهة والسخط والغضب، أو عدم الرضا بدون كراهة ولا سخط ولا غضب؟ فلا يلزم من هذا أن نقول: إن الإنسان له الخيار بين أن يرضى بقضاء الله وقدره وألَّا يرضى، بل نقول: إن الواجب أن يرضى الإنسان بقضاء الله وقدره؛ لأن هذا من تمام الرضا بالله ربًّا، لكن رضاهم عنه إما من باب مقابلة اللفظ بمثله، وإلَّا أن المراد برضاهم أنهم فرحوا بذلك واستبشروا به، ولم يبغوا عنه حِوَلًا، كما قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف 107، 108].

(1) متفق عليه؛ البخاري (349)، ومسلم (163/ 263) من حديث أبي ذر.

(2)

متفق عليه؛ البخاري (540)، ومسلم (2359/ 136) من حديث أنس بن مالك.

ص: 718

10 -

أن أن الفوز حقيقة ليس بالربح، بربح الدينار والدرهم، وإنما الربح العظيم أو الفوز العظيم هو فوز الإنسان بجنات النعيم -أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الفائزين بها- ولهذا قال:{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .

القرآن

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)} [المائدة: 120]

التفسير:

لله وحده لا شريك له ملك السموات والأرض وما فيهن، وهو -سبحانه- على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.

قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]، أي:" لله وحده لا شريك له ملك السموات والأرض وما فيهن"(1).

قال السعدي: " لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي"(2).

قال النسفي: " عظم نفسه عما قالت النصارى أن معه إلها آخر"(3).

قال ابن كثير: " أي: هو الخالق للأشياء، المالك لها، المتصرف فيها القادر عليها، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته، فلا نظير له ولا وزير، ولا عديل، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة، فلا إله غيره ولا رب سواه"(4).

قال الطبري: " يقول: له سلطان السموات والأرض، {وما فيهن}، دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم، ودون أمه، ودون جميع من في السموات ومن في الأرض، فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهن، وعيسى وأمُّه من بعض ذلك بالحلول والانتقال، يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال، أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن. ينبِّههم وجميعَ خلقه على موضع حجته عليهم، ليدَّبروه ويعتبروه فيعقلوا عنه"(5).

قال الزمخشري: " فإن قلت: في السموات والأرض العقلاء وغيرهم، فهلا غلب العقلاء، فقيل: ومن فيهن؟

(1) التفسير الميسر: 127.

(2)

تفسير السعدي: 249.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 488.

(4)

تفسير ابن كثير: 3/ 236.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 245.

ص: 719

قلت: «ما» يتناول الأجناس كلها تناولا عاما. ألا تراك تقول إذا رأيت شبحا من بعيد: ما هو؟ قبل أن تعرف أعاقل هو أم غيره، فكان أولى بإرادة العموم" (1).

قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]، أي:" وهو -سبحانه- على كل شيء قدير لا يعجزه شيء"(2).

قال النسفي: أي: " من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء"(3).

قال السعدي: " فلا يعجزه شيء، بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته، ومسخرة بأمره"(4).

قال الطبري: أي: " الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن، قادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم، لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده، لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة"(5).

قال محمد بن إسحاق: " {إن الله على كل شيء} ما أراد بعباده من نقمة أو عفو فهو {قدير} "(6).

قال البيضاوي: هذه الآية" تنبيه على كذب النصارى وفساد دعواهم في المسيح وأمه، وإنما لم يقل: {ومن فيهن} تغليبا للعقلاء، وقال: {وما فيهن}، اتباعا لهم غير أولي العقل إعلاما بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية والنزول عن رتبة العبودية، وإهانة لهم وتنبيها على المجانسة المنافية للألوهية، ولأن ما يطلق متناولا للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم"(7).

قال ابن وَهْب: "سمعت حُيَيّ بن عبد الله يحدث، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عَمْرو قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة"(8).

الفوائد:

(1) الكشاف: 1/ 697.

(2)

التفسير الميسر: 127.

(3)

تفسير النسفي: 1/ 488.

(4)

تفسير السعدي: 249.

(5)

تفسير الطبري: 11/ 246.

(6)

أخرجه ابن ابي حاتم (7072): ص 4/ 1257.

(7)

تفسير البيضاوي: 2/ 152.

(8)

رواه الترمذي في السنن برقم (3063) عن قتيبة، عن عبد الله بن وهب به، وقال:"هذا حديث حسن غريب".

ص: 720

1 -

من فوائد هذه الآية الكريمة: عموم ملك الله للسماوات والأرض، يؤخذ من الإضافة {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، والمفرد المضاف يفيد العموم، واسمع إلى قول الله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [النحل 18] فإن {نِعْمَةَ} مفرد، ولا يحتاج إلى عدد لو أخذنا بظاهره لقلنا: النعمة واحدة، لكن لما كان المفرد المضاف يفيد العموم صح أن يقول:{لَا تُحْصُوهَا} .

2 -

أن سؤال غير الله شيئاً ضرب من الباطل والشرك، لأن غير الله لا يملك شيئاً، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟

3 -

أن السماوات جمع عدد، وقد بين الله تعالى في كتابه أنها سبع سماوات، فقال تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86] إذن فالسماوات سبع، وهي طباق كما قال الله تعالى عن نوح:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15] أي: متطابقة بعضها فوق بعض.

4 -

عموم قدرة الله عز وجل على كل شيء؛ لقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

نسأله أن يوفقنا لمرضاته ويجعلنا من الفائزين بجناته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

انتهى المجلد الثامن من التفسير بفضل من الله وإحسان، ويليه المجلد التاسع بإذن الله تعالى وبدايته تفسير الآية (1) من سورة «الأنعام» .

ص: 721