المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في قوله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء} - الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: ‌فصل في قوله تعالى:{إنما يخشى الله من عباده العلماء}

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

قال شيخنا وسيدنا الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام، مفتي الأنام، وحيد عصره، وفريد دهره:

أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي نفع الله به.

‌فصل في قوله تعالى:

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

دلت هذه الآية عَلَى إثبات الخشية للعلماء بالاتفاق، وعلى نفيها عن غيرهم عَلَى أصح القولين، وعلى نفي العِلْم عن غير أهل الخشية أيضاً.

أما الأول: فلا ريب فيه، فإن صيغة "إِنَّمَا" تقتضي تأكد ثبوت المذكور بالاتفاق؛ لأنّ خصوصية "إنَّ" إفادة التأكيد، وأما "ما" فالجمهور عَلَى أنها "كأن"، ثم قال جمهور النحاة هي الزائدة التي تدخل عَلَى:{إن، وأن، وليت، ولعلَّ، وكأن} فتكفها عن العمل؛ لأنّ الأصل في الحروف العاملة أن تكون مختصة، فَإِذَا اختصت بالاسم أو الفعل، ولم تكن كالجزء منه عملت فيه، و"إن وأخواتها" مختصة بالاسم، فتعمل فيه، فإذا دخلت عليها "ما" أزالت اختصاصها فصارت تدخل عَلَى الجفلة الاسمية والفعلية فبطل عملها، وإنَّما عملت "ما" النافية عَلَى اللغة التي نزل بها القرآن، وهي لغة أهل الحجاز استحسانًا لمشابهتها لـ "ليس" وذهب بعض الكوفيين، وابن درستويه إِلَى أن "ما" مع هذه الحروف اسم مبهم لمنزلة ضمير الشأن في التفخيم والإبهام وفي أن الجملة بعده مفسرة له ومخبر بها عنه.

وذهبت طائفة من الأصوليين وأهل البيان إِلَى أن "ما" هذه نافية واستدلوا بذلك عَلَى إفادتها الحصر، وأن "إنَّ" أفادت الإثبات في المذكور و"ما" أفادت النفي فيما عداه، وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة باللسان، فإن "إنَّ" إِنَّمَا تفيد توكيد الكلام إثباتًا كان أو نفيًا، لا تفيد الإثبات، و"ما"، زائدة

ص: 771

كافة، لا ناقية، وهي الداخلة عَلَى سائر أخوات "إن":"لكن، وكأن، وليت، ولعل" وليست في دخولها عَلَى هذه الحروف نافية بالاتفاق، فكذلك الداخلة على "إن" و"أن".

وقد نُسِبَ القول بأنها نافية إِلَى أبي علي الفارسي لقوله في كتاب "الشيرازيات": إن العرب عاملوا "إِنَّمَا" معاملة النفي، و"إلَاّ" في فصل الضمير كقوله:"وإنَّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي". وهذا لا يدل علي أن "ما" نافية، عَلَى ما لا يخفى، وإنَّما مراده أنهم أجروا "إِنَّمَا" مجرى النفي، و"إلا" في هذا الحكم لما فيها من معنى النفي، ولم يصرح بأن النفي مستفاد من "ما" وحدها. وقيل: إنه لا يمتنع أن تكون "ما" في هذه الآية بمعني: الَّذِي، والعلماء: خبر، والعائد: مستتر في يخشى وأطلقت "ما" عَلَى جماعة العقلاء، كما في قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وأما دلالة الآية علي الثاني وهو نفي الخشية عن غير العُلَمَاء، فمن صيغة "إِنَّمَا" إما عَلَى قول الجمهور، وإن "ما" هي الكافة، فنقول: إذا دخلت "ما" الكافة عَلَى "إنَّ" أفادت الحصر، هذا هو الصحيح. وقد حكاه بعض العُلَمَاء عن جمهور الناس، وهو قول أصحابنا كالقاضي، وابن عقيل، والحلواني، والشيخ موفق الدين، وفخر الدين إسماعيل بن علي -صاحب ابن المني- وهو قول أكثر الشافعية، كأبي حامد، وأبي الطيب، والغزالي، والهراسي، وقول طائفة من الحنفية كالجرجاني، وكثير من المتكلمين كالقاضي أبي بكر وغيره وكثير من النحاة وغيرهم، بل قد حكاه أبو علي، كما ذكره الرازي عن النحاة جملة، ولكن اختلفوا في دلالتها عَلَى النفي، هل هو بطريق المنطوق، أو بطريق المفهوم؟ فَقَالَ كثير من أصحابنا كالقاضي في أحد قوليه، وصاحب ابن المني، والشيخ موفق الدين: إن دلالتها عَلَى النفي بالمنطوق كالاستثناء سواء، وهو قوله أبي حامد، وأبي الطيب من الشافعية، والجرجاني من الحنفية، وذهبت طائفة من أصحابنا كالقاضي في قوله الآخر، وابن عقيل، والحلواني إِلَى أن دلالتها عَلَى النفي بطريق المفهوم، وهو قول كثير من الحنفية والمتكلمين واختلفوا

ص: 772

أيضًا: هل دلالتها عَلَى النفي بطريق النص أو الظاهر؟

فقالت طائفة: "إِنَّمَا" تدل عَلَى الحصر ظاهرًا، ويحتمل التأكيد، وهذا الَّذِي حكاه الآمدي عن القاضي أبي بكر، والغزالي والهراسي، وغيرهم من الفقهاء، وهو يشبه قول من يقول: إن دلالتها بطريق المفهوم، فإن أكثر دلالات المفهوم بطريق الظاهر لا النص، وظاهر كلام كثير من أصحابنا وغيرهم أن دلالتها عَلَى النفي والإثبات كلاهما بطريق النص لأنهم جعلوا "إِنَّمَا" كالمستثنى والمستثنى منه سواء، وعندهم أن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات لها لا محتملاً.

وأما من قال: إن الاستثناء ليس لإثبات النقيض بل لدفع الحكم، إما مطلقًا، أو في الاستثناء من الإثبات وحده، كما يذكر عن الحنفية، وجعلوه من باب المفهوم الَّذِي ينفونه، فهو يقول ذلك في "إِنَّمَا" بطريق الأولى، فظهر بهذا أن المخالف في إفادتها الحصر، هو من القائلين بأن دلالتها عَلَى النفي بالمفهوم وهم قسمان:

أحداهما: من لا يرى كون المفهوم حجة بالكلية كالحنفية، ومن وافقهم من المتكلمين.

والثاني: من يراه حجة في الجملة، ولكن ينفيه هاهنا؛ لقيام الدليل عنده عَلَى أنَّه لا مفهوم لها، واختاره بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم، وبيان ذلك:

أن "إِنَّمَا" مركبة من "إنَّ" المؤكدة، و"ما" الذائدة الكافة، فيستفاد التوكيد من إن والذائد لا معنى له، نعم أكثر ما يقال إنه يفيد تقوية التوكيد كما فى الباء الذائدة ونحوها، فأما أن يحدث معنى آخر فلا، وقد تقدم بيان بطلان قول من ادعى أن "ما" نافية، وأن النفي فيما عدا المذكور مستفاد منها.

وأيضًا: فورودها لغير الحصر كثير جدًّا كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ

ص: 773

يَتَوَكَّلُونَ} (1).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الربا في النسيئة"(2).

وقوله: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون"(3).

وغير ذلك من المنصوص، ويقال: إِنَّمَا العالم زيد، ومثل هذا لو أريد به الحصر، لكان لغزًا وقد يقال: إن أغلب مواردها لا تكون فيه للحصر، فإن قوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] لا تفيد الحصر مطلقًا فإنَّه سبحانه وتعالى له أسماء وصفات كثيرة غير توحده بالإلهية، وكذلك قوله:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108]، فإنَّه لم يحصر الوحي إِلَيْهِ، في هذا وحده، وكذلك قوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]، ومثل هذا كثير جدًّا، وما يبين عدم إفادتها للحصر قوله صلى الله عليه وسلم:

"مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَي مثله الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(4).

فلو كانت "إِنَّمَا" للحصر لبطلت أن تكون سائر آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته سوى القرآن آيات له تدل عَلَى {معرفة} وهذا باطل قطعًا، فدل عَلَى أن:"إِنَّمَا" لا تفيد الحصر في مثل هذا الكلام، وشبهه.

والصواب: أنا تدل عَلَى الحصر.

ودلالتها عليه معلومة بالاضطرار من لغة العرب، كما يعلم من لغتهم بالاضطرار معاني حروف الشرط، والاستفهام، والنفي، والنهي، وغير ذلك، ولهذا تتوارد "إِنَّمَا" وحروف النفي، والاستفهام في قوله تعالى:{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5)، فإنَّه كقوله: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ

(1) الأنفال: 2.

(2)

أخرجه مسلم (1595) من حديث أسامة بن زيد، وكذا البخاري (2178 - 2179) بلفظ:"لا ربا إلا في النسيئة".

(3)

أخرجه مسلم (1080)، وعند البخاري (1907) بلفظ:"الشهر تسع وعشرون".

(4)

أخرجه البخاري (4981، 7274)، ومسلم (152، 239).

(5)

التحريم: 7.

ص: 774

تَعْمَلُونَ} (1)، وقوله:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2). {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (3). {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (4) فإنَّه كقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} (5) وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (6)، ونحو ذلك، ولهذا كانت كلها واردة في سياق نفي الشرك، وإبطال إلهية ما سوى الله سبحانه.

وأما أنها مركبة من "إن" و"ما" الكافة، فمسلَّم، ولكن قولهم: أن "ما" الكافة أكثر ما تفيد قوة التوكيد، لا تفيد معنى زائدًا، يجاب عنه من وجوه: أحدها: أن "ما" الكافة قد تثبت معنًى زائدًا، وقد ذكر ابن مالك أنها إذا دخلت عَلَى الباء أحدثت معنى التقليل كقول الشاعر:

ولئن صرت لا تحير جوابًا

لبما قد تُرى وأنت خطيب

قال: وكذلك تحدث في "الكاف" معنى التعليل، في نحوه قوله تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (7).

ولكن قد نُوزِعُ في ذلك وادعيَ أن الباء والكاف للسببية، وأن الكاف بمجردها تفيد التعليل.

والثاني: أن يقال: لا ريب أن "إنَّ" تفيد توكيد الكلام، و"ما" الزائدة تقوي هذا التوكيد، وتثبت معنى الكلام، فتفيد ثبوت ذلك المعنى المذكور في اللفظ خاصة ثبوتًا لا يشاركه فيه غيره، واختصاصه به، وهذا من نوع التوكيد والثبوت ليس معنًى آخر مغايرًا له، وهو الحصر المدعى فبوته بدخول "ما" فلم يخرج عن إفادة قوة معنى التوكيد، وليس ذلك بمنكر إذ المستنكر ثبوت معنى آخر بدخول الحرف الزائد من غير جنس ما يفيده الحرف الأول.

الوجه الثالث: أن "إنَّ" المكفوفة بـ "ما" استعملت في الحصر، فصارت حقيقة عرفية فيه، واللفظ يصير له بالاستعمال معنى غير ما كان يقتضيه أصل الوضع، وهكذا يقال في الاستثناء، فإنَّه وإن كان في الأصل

(1) الصَّافات: 39.

(2)

الأنبياء: 108.

(3)

النساء: 171.

(4)

طه: 98.

(5)

آل عمران: 62.

(6)

الأعراف: 59

(7)

البقرة: 198.

ص: 775

للإخراج من الحكم لكن صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه، وهذا يشبه بقل اللفظ عن المعنى الخاص إِلَى العام، إذا صار حقيقة عرفية فيه. كقولهم "لا أشرب له شربة ماء" ونحو ذلك، وكنقل الأمثال السائرة ونحوها مما ليس هذا موضع بسطه.

وهذا الجواب ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم، وهو يقتضي أن دلالة "إِنَّمَا" عَلَى الحصر إِنَّمَا هو بطريق العرف والاستعمال، لا بأصل وضع اللغة، وهو قول حكاه غيره في المسألة.

وأما قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الربا في النسيئة". وقوله: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون".

وقولهم: "إِنَّمَا العالم زيد" ونحو ذلك. فيقال:

معلوم من كلام العرب أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر وغيرها تارةً لانتفاء ذاته، وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره تارةً لانحصار جميع الجنس فيه، وتارةً لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثم إنهم تارة يعيدون النفي إِلَى المسمى، وتارةً إِلَى الاسم، وإن كان ثابتًا في اللغة إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيًا عنه ثابتًا لغيره كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (2).

فنفى عنهم مسمى الشيء مع أنه في الأصل شامل لكل موجود من حقٍ وباطلٍ، لما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يئول إِلَى الباطل الَّذِي هو العدم فيصير بمنزلة المعدوم، بل قد يكون أولى بالعدم من المعدوم المستمر عدمه؛ لأنّه قد يكون فيه ضرر، فمن قال الكذب فلم يقل شيئًا، ومن لم يعمل ما ينفعه بل ما يضره فلم يعمل شيئًا، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار فَقَالَ:"ليسوا بشيء"(3).

ويقول أهل الحديث عن بعض الرواة المجروحين أو الأحاديث الواهية:

(1) الأنفال: 2.

(2)

المائدة: 68.

(3)

أخرجه البخاري (6213، 5762، 7561)، ومسلم (122، 123، 2228) من حديث عائشة وعندهما: "الكهان" بدلاً من "الكفار".

ص: 776

ليس بشيء، إذا لم يكن مما ينتفع به في الرواية لظهور كذبه عمدًا أو خطأ.

ويقال أيضاً لمن خرج عن موجب الإنسانية في الأخلاق ونحوها: هذا ليس بآدمي ولا إنسان، وما فيه إنسانية، ومنه قول النسوة عن يوسف صلى الله عليه وسلم:{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وكذلك قول الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا» (2).

وكذلك قال: «مَا تَعدُّونَ الْمُفْلِس فِيكُمْ؟ قَالُوا: الَّذِي لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا دِينَار. قَالَ: لَيسَ ذَلِكَ بِالْمُفْلِس، وَلَكِنَّ الْمُفْلِسَ مَنْ يُأْتَى يَوْم الْقِيَامَة بِحَسَنَاتٍ أَمْثَال الجِبَال، وَيَجِيءُ قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، وَأَخَذَ مَالَ هَذَا، فَيَأْخُذُ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَة، أُخِذَ مِنْ سَيئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (3).

وقال: «مَا تَعدُّونَ الرَّقُوبُ فِيكُمْ؟ قالوا: الرَّقُوبُ من لا يولد له. قال: الرقوب من لم يقدم من ولده شيئًا» (4).

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيد الَّذِى يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"(5).

وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرْضِ، وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"(6). وأمثال ذلك.

(1) الحج: 46.

(2)

أخرجه البخاري (1476، 4539)، ومسلم (102، 1039) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة.

(4)

أخرجه مسلم (2608) من حديث ابن مسعود.

(5)

أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (107، 2609) من حديث أبي هريرة.

(6)

أخرجه البخاري (6446)، ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة.

ص: 777

فهذا كله نفي لحقيقة الاسم من جهة المعنى الَّذِي يجب اعتباره، فإن اسم الرقوب والمفلس والغني والشديد ونحو ذلك، إِنَّمَا تعارفه الناس فيمن عدم ماله وولده، أو حصل له مالٌ أو قوةٌ في بدنه، والنفوس تجزع من الأولين وترغب في الآخرين، فيعتقد أنَّه هو المستحق لهذا الاسم دون غيره فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن حقيقة ذلك المعنى ثابتة لغير هذا المتوهم، {

وجه

المقدر بذلك لغير} (1)، فإن من عدم المال والولد يوم القيامة حيث يضر عدمه أحق باسم المفلس والرقوب ممن يعدمهما حيث قد لا يتضرر بذلك ضررًا معتبرًا.

وكذلك وجود غنى النفس وقُوَّتِهَا، أحق بالمدح والطلب من قوة البدن وغنى المال.

وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الربا في النسيئة""ولا ربا إلا في النسيئة"(2).

فإن الربا العام الشامل للجنسين والجنس الواحد المتفقة صفاته إِنَّمَا يكون في النسيئة، وأما ربا الفضل فلا يكون إلا في الجنس الواحد، ولا يفعله أحد إلا إذا اختلفت الصفات كالمضروب بالتبر، والجيد الرديء، فأما مع استواء الصفات فلا يبيع أحدٌ درهمًا بدرهمين وأيضًا فربا الفضل إِنَّمَا حرم؛ لأنّه ذريعة إِلَى ربا النساء، كما في "المسند" (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، إني أخاف عليكم الرماء، وهو الربا".

فالربا المقصود بالقصد الأول هو ربا النسيئة، فَإِذَا باع مائة بمائة وعشرين مع اتفاق الصفات، ظهر أن الزيادة قابلت الأجل الَّذِي لا منفعة فيه، وإنَّما دخل فيه للحاجة، ولهذا لا يضمن الآجال باليد ولا بالإتلاف، فلو بقيت العين في يده أو المال في ذمته مدة، لم يضمن الأجل بخلاف زيادة الصفة فإنها مضمونة في الإتلاف والغصب، وفي المبيع إذا قابلت غير الجنس.

(1) ما بين المعقوفتين غير واضح بالأصل.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

(2/ 109) وذكر الهيثمي في المجمع (4/ 113) وقال: وفيه أبو جناب، وهو ثقة ولكنه مدلس.

ص: 778

فلهذا قيل: "إِنَّمَا الربا في النسيئة" و"لا ربا إلا في النسيئة"، فإن المستحق لاسم الربا في الحقيقة هو ربا النسيئة، وكذلك نفي الأسماء الشرعية لانتفاء بعض واجباتها، كقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إِلَى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (1).

فهؤلاء هم المستحقون لهذا الاسم عَلَى الحقيقة الواجبة، دون من أخلَّ بشيء من واجبات الإيمان، ولهذا ينفي الإيمان والإسلام عمن انتفى عنه بعض واجباتهما كقوله:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(2) الحديث.

وقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(3).

وقوله: "المؤمن من أمِنَهُ الناس عَلَى دمائهم وأموالهم"(4) و"المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله"(5) ومثل هذا كثير.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون" وقوله: "الشهر تسع وعشرون" فإن هذا هو عدد الشهر اللازم الدائم، واليوم الزائد عَلَى ذلك جائز يكون في بعض المشهور، ولا يكون في بعضها بخلاف التسعة والعشرين، فإنَّه يجب عددها واعتبارها بكل حال.

وهذا كما يقال: "الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" فهذا هو الَّذِي لابد منه، وما زاد عَلَى ذلك. فقد يجب عَلَى

(1) الأنفال: 2.

(2)

أخرجه البخاري (2475، 5578، 6772، 6810)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (6782، 6809) من حديث ابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري (6484)، ومسلم (40) مختصراً من حديث عبد الله بن عمرو.

(4)

أخرجه الترمذي (2627) مختصرًا، والنسائي (5010) مختصرًا، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(5)

أخرجه الترمذى (1621)، وأحمد (6/ 21) من حديث فضالة بن عبيد، وقال الترمذي: حسن صحيح.

ص: 779

الإنسان، وقد يموت قبل التمكن، فلا يكون الإسلام في حقه إلا ما تكلم به.

وحاصل الأمر:

أن الكلام الخبري هو إما إثبات أو نفي، فكما أنهم في الإثبات يثبتون للمسمى اسم الشيء إذا حصل فيه مقصود الاسم، وإن انتفت صورة المسمى فكذلك في النفي، فإن أدوات النفي تدل عَلَى انتفاء الاسم بانتفاء مسماه قد يدل تارةً عَلَى أنَّه لم يوجب صلاة، وتارةً لأنه لم توجد حقيقة مقصودةٌ بالمسمى، وتارةً لأنّه لم تحمل تلك الحقيقة، وتارةً لأنّ ذلك المسمى لا ينبغي أن يكون مقصودًا، بل المقصود غيره، وتارة لأسباب أخر، وهذا حسب ما يقتضيه سياق الكلام، وما اقترن به من القرائن اللفظية، التي تخرجه عن كونه حقيقة عند الجمهور؛ لكون المركب قد صار موضوعًا لذلك المعنى، ومن القرائن الحالية التي تجعله مجازًا عند الجمهور.

وأما إذا أطلق الكلام مجردًا عن القرينتين، فمعناه السلب المطلق، وهو أكثر الكلام، وهذا الجواب ملخص من كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله وأما قوله تعالى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1)، وقوله:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (2)، ونحو ذلك، فالجواب عنه أن يقال: الحصر تارة يكون عامًا كقوله: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (3) ونحو ذلك، وتارة يكون خاصًا بما يدل عليه سياق الكلام، فليس الحصر أن ينفي عن الأول كل ما سوى الثاني مطلقًا، بل قد ينفي عنه ما يتوهم أنَّه ثابت له من ذلك النوع الَّذِي أثبت له في الكلام، فقوله:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فيه نفي تعدد الإلهية في حقه سبحانه، وأنه لا إله غيره، ليس المراد أنَّه لا صفة له سوى وحدانيته الإلهية.

(1) النساء: 171.

(2)

الرعد: 7.

(3)

طه: 98.

ص: 780

وكذلك قوله: {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1)، فإن المراد به أنَّه لم يُوحَ إليَّ في أمر الإلهية إلا التوحيد لا الإشراك.

والعجب أن أبا حيان الأندلسي أنكر عَلَى الزمخشري ادعاء الحصر في هذه الآية لاستلزامه عنده أنَّه لم يوح إِلَيْهِ غير التوحيد.

قال: إن الحصر إِنَّمَا تلقي من جهة "أنما" المفتوحة الهمزة.

قال: ولا يعرف القول بإفادتها الحصر إلا عن الزمخشري وحده، ورد عليه شيخنا أبو محمد بن هاشم بناء عَلَى أن "أن" المفتوحة فرع عن "إن" المكسورة عَلَى الصحيح.

قال: ولهذا صح للزمخشري أن يدعي أنها تفيد الحصر كـ "إِنَّمَا"، انتهى.

وهذا كله لا حاجة إِلَيْهِ في هذه الآية فإن الحصر مستفاد فيها من "إِنَّمَا" المكسورة التي في أول الآية، فلو فرض أن "أنما" المفتوحة لا تفيد الحصر لم ينتف بذلك الحصر في الآية عَلَى ما لا يخفى، وكذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (2) أي: لست ربًا لهم ولا مجازيًا، ولا محاسبًا، وليس عليك أن تجبرهم عَلَى الإيمان، ولا أن تتكلف لهم طلب الآيات التي يقترحونها عليك، إِنَّمَا أنت منذر، فليس عليك إلا الاتباع كما قال:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (3)، وقال:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} (4).

ومن هاهنا يظهر الجواب عن قوله: "وإنَّما كان الَّذِي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي" فإنَّه قال: "ما من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما آمن عَلَى مثله

(1) الأنبياء: 108.

(2)

النازعات: 45.

(3)

الرعد: 40.

(4)

الغاشية: 21 - 22.

ص: 781

البشر، وإنَّما كان الَّذِي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا يوم القيامة" (1).

فالكلام إِنَّمَا سيق لبيان آيات الأنبياء العظام، الَّذِي آمن لهم بسببها الخلق الكثير، ومعلوم أن أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم التي آمن عليها أكثر أمته هي الوحي، وهو الَّذِي كان يدعو له الخلق كلهم، ومن أسلم في حياته خوفًا، فأكثرهم دخل الإيمان في قلبه بعد ذلك بسبب سماع الوحي، كمسلمة الفتح وغيرهم.

فالنفي توجه إِلَى أنَّه لم تكن آياته التي أوجبت إسلام الخلق الكثير من جنس ما كان لمن قبله مثل ناقة صالح، وعصا موسى ويده، وإبراء المسيح الأكمة والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك، فإن هذه أعظم آيات الأنبياء قبله، وبها آمن البشر لهم، وأما آيته هو صلى الله عليه وسلم التي آمن البشر عليها في حياته وبعد وفاته فهي الوحي الَّذِي أوحي إِلَيْهِ، وهي التي توجب إيمان البشر إِلَى يوم القيامة، كما قال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2).

ولهذا قيل: إن آيات الأنبياء انقطعت بموتهم وآيته صلى الله عليه وسلم باقية إِلَى يوم القيامة، ومما يبين أن الحصر لم يتتف عن "إِنَّمَا" في شيء من هذه الأنواع التي توهموها:

أن الحصر قد جاء فيها وفي مثلها "بإلا" كما جاء "بإنما" فإنَّه جاء "لا ربا إلا في النسيئة"، كما جاء "إِنَّمَا الربا في النسيئة"، وجاء في القرآن:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (3)، كما جاء فيه:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} (4)، وكذلك قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ

(1) سبق تخريجه.

(2)

الأنعام: 19.

(3)

آل عمران: 144.

(4)

النازعات: 45.

ص: 782

الرُّسُلُ} (1) ومثل ذلك كثير.

فهذا وجه إفادتها الحصر في هذه الآية عَلَى القول المشهور، وهو أن "ما" في قوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (2) هي الكافة، وأما عَلَى قول من جعلها موصولة، فيفيد الحصر من جهة أخرى، وهو أنها إذا كانت موصولة فتقدير الكلام: أن الذين يخشون الله هم العُلَمَاء، وهذا أيضًا يفيد الحصر فإن الموصول يقتضي العموم لتعريفه، إذا كان عامًا لزم أن يكون خبره عاما أيضاً؛ لئلا يكون الخبر أخص من المتبدأ، وهذا النوع من الحصر يسمى حصر المبتدأ في الخبر.

ومتى كان المبتدأ عامًا فلا ريب في إفادته الحصر.

وأما دلالة الآية عَلَى الثالث، وهو نفي العِلْم عن غير أهل الخشية فمن جهة الحصر أيضًا، فإن الحصر المعروف المطرد هو حصر الأول في الثاني، وهو هاهنا حصر الخشية في العُلَمَاء، وأما حصر الثاني في الأول فقد ذكره الشيخ أبو العباس ابن تيمية رحمه الله وأنه قد يكون مرادا أيضاً فيصير الحصر من الطرفين، ويكونان متلازمين، ومثل ذلك كقوله:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (3). {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (4). {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (5).

قال: وكذلك الحصر في الآية، أعني قوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (6)، فيقتضي أن كل من خشي الله فهو عالم، أو يقتضي حال من يخشى الله.

(1) المائدة: 75.

(2)

فاطر: 28.

(3)

يس: 11.

(4)

النازعات: 45.

(5)

السجدة: 15 - 16.

(6)

فاطر: 28.

ص: 783

وبيان الحصر الَّذِي ذكره الشيخ رحمه الله في هذه الآيات أن قوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (1) فيه الحصر من الطرفين، فإنَّه اقتضى أن إنذاره مختص بمن اتبع الذكر، وخشي الرحمن بالغيب، فإن هذا هو المختص بقبول الإنذار والانتفاع به، فلذلك نفي الإنذار عن غيره، والقرآن مملوء بأن الإنذار إِنَّمَا هو للقائل له خاصة، ويتقضي أنَّه لا يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب إلا من أنذره، أي: من قِبَل إنذاره، وانتفع به، فإن اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب مختصة بمن قبل الإنذار، كما يختص قبول الإنذار والانتفاع به بأهل الخشية واتباع الذكر.

وكذلك قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (2).

وقوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} (3).

فإن انحصار الإنذار في أهل الخشية والإنذار، كانحصار أهل الخشية في أهل الإنذار والذين خروا سجدًا في أهل الإيمان، ونحو ذلك، فكذلك قوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4).

وقد فسرها السَّلف بذلك أيضاً كما سنذكره إن شاء الله تعالى ونذكر شواهده.

وهاهنا نكتة حسنة:

وهي أن قول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4) قد علم أنَّه يقتضي ثبوت الخشية للعلماء، لكن هل يقتضي ثبوتها لجنس العُلَمَاء، كما يقال: إِنَّمَا يحج المسلمون أو لا يحج إلا مسلم، فيقتضي ثبوت الجح لجنس المسلمين لا لكل فرد منهم؟

ويقتضي ثبوت الخشية لكل واحد من العُلَمَاء؟

هذا الثاني هو الصحيح، وتقريره من جهتين:

(1) يس: 11.

(2)

النازعات: 45.

(3)

السجدة: 15.

(4)

فاطر: 28.

ص: 784

الجهة الأولى: أن الحصر هاهنا من الطرفين، حصر الأول في الثاني، وحصر الثاني في الأول، كما تقدم بيانه، فحصر الخشية في العُلَمَاء يفيد أن كل ما خشي الله فهو عالم، وإن لم يفد بمجرده أن كل عالم فهو يخشى الله، ويفيد أن من لا يخشى فليس بعالم، وحصرُ العُلَمَاء في أهل الخشية يفيد أن كل عالمٍ خاشٍ، فاجتمع من مجموع الحصرين ثبوت الخشية لكل فرد من أفراد العُلَمَاء.

والجهة الثانية: أن المحصور هل هو مقتضي للمحصور فيه، أو هو شرط له؟

قال الشيخ أبو العباس رحمه الله: وفي هذه الآية وأمثالها هو مقتضى، فهو عام فإن العِلْم بما أنذرت به الرسل يوجب الخوف.

ومراده بالمقتضى العلة المقتضية، وهي التي يتوقف تأثيرها عَلَى وجود شروط وانتفاء موانع، كأسباب الوعد والوعيد ونحوهما، فإنها مقتضيات وهي عامة.

ومراده بالشرط ما يتوقف تأثير السبب عليه، بعد وجود السبب، وهو الَّذِي من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط كالإسلام بالنسبة إِلَى الحج.

والمانع بخلاف الشرط: وهو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود.

وهذا الفرق بين السبب والشرط، وعدم المانع، إِنَّمَا يتم عَلَى قول من يُجَوِّزُ تخصيص العلة، وأما من لا يسمي علة إلا ما استلزم الحكم ولزم من وجوده وجوده عَلَى كل حال، فهؤلاء عندهم الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء العلة.

والمقصود هنا: أن العِلْم إذا كان سببًا مقتضيًا للخشية كان ثبوت الخشية تمامًا لجميع أفراد العُلَمَاء، لا تتخلف إلا لوجود مانع ونحوه.

ص: 785