المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ موضوع الكتاب - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - مقدمة ٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ موضوع الكتاب

* خامسًا:‌

‌ موضوع الكتاب

ومنهج المصنِّف فيه:

أ- أما موضوعه فيكفينا في الدَّلالة عليه عنوانه؛ إذ هو «رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيقُ معنى التوحيد والشرك بالله» .

ولم يُحْوِجْنا المؤلِّف إلى تتبُّع سطور كتابه للتَّهَدِّي إلى موضوع رسالة العبادة، بل صرّح به في عدّة مناسبات، في الكتاب نفسه، وفي غيره من كتبه، ولا يسعنا إلا أن ننقل شيئًا من ذلك، فمنها:

قوله في رسالة العبادة

(1)

: «واعلم أنَّ موضوع هذه الرسالة هو البحث عن حقيقة التوحيد، ووزنُه بهذه الكلمة الطيبة [يعني: لا إله إلا الله] التي جعلها الشرع عَلَمًا له ليتضح شأن الأمور المختلف فيها، أمنافية هي للتوحيد أم لا؟ والغالب أن الجاهل بمعنى لا إله إلا الله يكون جاهلًا بحقيقة التوحيد، ومَن كان كذلك يُخْشَى عليه أن يكون مشركًا وهو لا يشعر، أو أن يَعْرِضَ له الشرك فيقبله وهو لا يدري، أو أن يرمي غيره من المسلمين بالشرك بغير بيِّنة، وكلا الأمرين خطر شديد» .

وقوله في رسالة الشفاعة

(2)

: «قد جمعتُ رسالة مطوَّلة في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعمّ من أن تكون لله عز وجل أو لغيره، فوجدتُ عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدَّدْ الشفاعة وما يتعلَّق بها» .

(1)

ص 22 من نسخة (أ).

(2)

ضمن مجموع رسائل العقيدة، ص 301.

ص: 13

وقوله في خطبة نخب الفوائد من الأصول والقواعد: «جمعتُ رسالة في تحقيق معنى العبادة ومعنى الإله لينكشف بذلك معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) ويتضح ما يكون تأليهًا وعبادةً لغير الله تعالى وشركًا به ممَّا ليس كذلك، وحاولتُ استيفاء النظر في ذلك»

(1)

.

هذا موضوع الكتاب الإجمالي، ومحوره الذي يدور عليه.

وأرى ألَّا أترك موضوعات الكتاب التفصيليَّة التي تناولها بالشرح والبيان دون إعطاء القارئ نُبذًا دالَّة عليها، كاشفة حجابها، فأقول ملخِّصًا

(2)

:

* بدأ المؤلِّف رسالته ببيان الباعث له على الكتابة في هذا الموضوع، ثم عقد بابًا عنونه بـ «تحتُّم العلم بمعنى لا إله إلا الله، وفيه شرائط الاعتداد بقولها» بيَّن فيه أهمَّ شروط لا إله إلا الله، ومن أعظم تلك الشروط: شرط العلم بمعناها؛ إذْ مَنْ لا يعرف معناها لا يُؤْمَنُ عليه أنْ يقع فيما يَنْقُضُها. وأن يكون قولها على سبيل الاعتراف والتصديق والتسليم والرضا.

وأهمُّ تلك الشروط على الإطلاق: شرطُ التزام الشاهد مدَّة حياته أن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا؛ لأن الشهادة إعلان بقبول ما أرسل اللهُ به رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم مِن تصديق أخباره والانقياد للأمر والنهي، وأوَّل ذلك الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الشرك أسوة بما أُرسلت به سائر الرسل، قال تعالى لنبيه:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64].

(1)

صفحة ملحقة برسالة البسملة والفاتحة.

(2)

ومن أراد التوثُّق من صفحات ما سأسرده فليستعن بفهرس الموضوعات.

ص: 14

* ثم عقد الشيخ بابًا ثانيًا عنونه بـ «باب في أنَّ الشرك هلاك الأبد حتمًا وأنَّ تكفير المسلم كفر» بيَّن فيه أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بهذا الأمر لأنه أصل الدِّين، وأورد الآيات والأحاديثَ المتعلِّقة بهاتين المسألتين: مسألة خطورة الشرك، وقضية رمي المسلم بالشرك من غير بيِّنة، وأوضحُ دليل من السنة على المسألة الأخيرة قولُه صلى الله عليه وسلم:«مَن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدُهما» ، وعَقد له البخاري بابًا سماه: باب بيان حال إيمان مَنْ قال لأخيه المسلم: يا كافر.

* ثُمَّ عقد المؤلف بابًا ثالثًا في أصول ينبغي تقديمها:

الأصل الأول: حجج الحق شريفة عزيزة كريمة، بيَّن فيه أن الله خلق الخلق لعبادته، وخلقهم قابلين للكمال، ومكَّنهم من العمل؛ لكنهم لا ينالون الجنة والدرجات العالية إلا بمقاساة عناء ومشقة، وهو الابتلاء، ومِنْ لازم الابتلاء الاختلافُ، ومن لازم الاختلاف استحقاقُ بعضهم الجنة وبعضهم النار. وطلبُ حجج الحق من جملة العبادة، ولا بد أن يكون دون منالها عناء ومشقَّة.

الأصل الثاني: الحجج والشبهات.

بيَّن فيه أنَّ الحجج العلمية تَعْتَوِرُها بواعث على الخيانة فيها، وموانع من الخيانة فيها، وأساس ذلك الهوى الذي يتفاوت قوَّة وضعفًا، والتشبُّث بالشبهات الكثيرة. ويعارضها المانع الدنيوي؛ وهو الخوف من الفضيحة بين الناس إذا عاند الشخص وردَّ الحجج بالشبهات الساقطة.

الأصل الثالث: إصابة الحق فيما يمكن اشتباهه.

ص: 15

وهي تتوقف على ثلاثة أمور:

- التوفيق للحق.

- الإخلاص الخالي من الهوى.

- بذل الوسع في تعرُّف الهوى وتطهير النفس منه، ولزوم التقوى، مع طلب العلم الضروري في العقائد والأحكام من أهله الراسخين فيه.

* ثم دَلَف إلى فصل في حكم الجهل والغلط بناه على قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وردَّ على الذين فسَّروا لفظ الرسول في الآية بالعقل، وبيَّن أنَّ الله ناط التكليف باجتماع ثلاثة أمور:

- بلوغ الحلم.

- مع سلامة العقل.

- مع بلوغ الدعوة.

ثم أوضح أنَّ شريعة إبراهيم وإسماعيل ــ عليهما السلام ــ بلغت مشركي العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحافظوا عليها أمدًا طويلًا حتى بدَّلها عَمرو بن لُحَيٍّ، بعد رَفْع عيسى عليه السلام بنحو مائتي سنة، فالحجَّة قائمة عليهم في الجملة.

ثم قسم الناس إلى ثلاث طبقات:

- مَنْ لم يبلغه خبر دعوةٍ أصلًا.

- مَنْ بلغه الخبر.

- مَنْ أسلم.

ص: 16

ثم فصَّل ما يلزم كلَّ طبقة من الجِدِّ في طلب الحقِّ وتحرِّيه، وترك التقصير.

ثم أتى بأمثلة وشواهد تثبت العذر بالجهل والغلط، وجَمَعَ بين النصوص التي يُظنُّ تعارضُها في ذلك.

ومما أورده في الأعذار حديث الرجل الذي أوصى أولاده بحرقه إذا مات، وحديث المقداد إذ منعه الرسول صلى الله عليه وسلم مِن قتْل مَن قال: أسلمت لله؛ فيُحتج به للدخول في الإسلام بكلِّ ما يدلُّ على الدخول فيه، من قولٍ أو فعلٍ ما يتنزَّل منزلة النطق بالشهادتين. وقد حكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإسلام بني جَذيمة الذين لم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا.

وحَكَمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإسلام الرجل الذي قتله أسامة بعد ما قال: لا إله إلا الله؛ لأن الظاهر من قوله: لا إله إلا الله، أنه أراد بها الدخول في الإسلام.

* ثم تحدَّث الشيخ عن المنتسبين إلى الإسلام وقَصَرَ الكلام على من يكفِّره بعضُ قرَّاء كتابه، أو يتردَّدون فيه، بسبب الشرك، فبيَّن الشيخ أنَّ كلَّ مكلَّف من هؤلاء لا بدَّ أن يكون قد ثبت له حكم الإسلام، إما بدخول الشخص في الإسلام مع كون آبائه كفارًا، أو حُكِم له بالإسلام تبعًا لأبويه، أو لأحدهما، فإن كان القارئ يُسلِّم بصحة إسلام التابع فلا كلام، وإن كان يقول: آباؤه متلبِّسون بالشرك وإن ادَّعوا الإسلام، فالجواب أنَّ أوَّل جَدٍّ تلبَّس بالمحْدَثات إمَّا أن يكون هو الذي دخل في الإسلام، وإمَّا أن يكون ابنَ رجل مسلم لم يتلبَّس بها. وعلى كلا الحالين قد ثبت لهذا الجدِّ حكم الإسلام اتِّفاقا، ومن ثبت له حكم الإسلام فالأصل بقاؤه عليه، ولا يخرج عنه إلا بحجة واضحة، وأنت لا تعلم قيام الحجة على ذلك الجدِّ الذي

ص: 17

تلبَّس بتلك المحدثات، فبقي على إسلامه، فتبعه ابنه في الإسلام، فيبقى له حكم الإسلام، إلى آخر نقاشه القويِّ المفحم

(1)

.

ثم أفاض في أحوال الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، وفصَّل أحكامهم بما ينبغي مطالعته.

* وبعد فراغه من هذا الفصل شرع في الكلام على الباب الرابع الذي عقده لبيان أمور يستند إليها بعض الناس، ويستدلُّون بها على إثبات هذه الأمور المحدثة في العقيدة، وهي غير صالحة للاستناد إليها.

ومنها: التقليد، وقد بيَّن الشيخ عدم كفايته في بناء أصول الاعتقاد عليه، بدلالة الأدلَّة التي اشترطت العلم بمعنى لا إله إلا الله، كقوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وحديث سؤال القبر الذي فيه:«وأما المنافق والكافر ــ وفي بعض الروايات: المرتاب ــ فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول كما يقول الناس، وأما المؤمن فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت» ولا يخفى أيُّ الرجلين المقلِّد.

والمعنى الدقيق للتقليد هو العمل بقول مَن ليس قولُه إحدى الحجج بلا حجَّة

(2)

.

ولم يقصد الشيخ مِن منع التقليد إيجاب النظر على طريقة المتكلمين، بل يرى النظر على طريقة السلف، وهو أمر متيسِّر لكل أحد، حتى العامَّة.

(1)

انظر ص 157 - 163.

(2)

تيسير التحرير 4/ 241.

ص: 18

وعلى طالب الحق إذا اختلف عليه العلماء أن ينصب نفسه منصب القاضي، فيسمع قول كل واحد منهم وحجَّته، ثم يقضي بالقسط.

وأكثر العلماء المنتسبين إلى المذاهب لم ينصبوا أنفسهم منصب القضاة، بل نصبوا أنفسهم منصب المحامين، فلا يسمع من أحد منهم إلا كما يسمع القاضي من المحامي.

قال الشيخ: إذا كان الأمر كما علمت في تقليد العلماء، فما بالك بتقليد المنسوبين إلى الخير والصلاح بدون أن يكونوا أئمة في العلم؟

والحامل للناس على تقليد مَن يُنسب إلى الخير والصلاح اعتقادُ العصمة فيهم، وسببُ اعتقادهم العصمة فيهم اعتقادُ الولاية فيهم، والباعثُ على اعتقاد الولاية فيهم ظهورُ الخوارق على أيديهم، ثم برهن الشيخ على أن ظهور الخوارق لا يدلُّ على ولاية مَن ظهرت على يده. وأكثر ما يُنقل من تلك الخوارق اخترعها مريدوهم زاعمين أنَّ ذلك يُقرِّبهم إلى الله وإليهم.

ثمَّ ذكر أقسام الخوارق وأنَّ منها معجزة للأنبياء، وكرامة للأولياء، ومنها إهانة للدَّجَّالين، واستدراج لبعض الدَّجَّالين كالدَّجَّال الأعور ليمتاز المؤمن عن علمٍ ومعرفةٍ مِن غيره.

وذكر الشيخ من الخوارق الشعبذة، وقوَّة نفسيَّة تُكتَسبُ بالرياضة التي أساسها الجوع والسَّهَر والخلوة وجمع الفكر، وما يُسمَّى بالكشف، وهو لا يعدو أن يكون نوعًا من الرؤيا في أحسن أحواله.

* وأما الأمر الثاني الذي يستند إليه كثير من أهل زماننا في الاعتقاد هو أنهم يحتجُّون بآيات من كتاب الله تعالى، ويفسِّرونها برأيهم بما لم يُنْقل عن السلف ولا تساعده اللغة العربية ولا البلاغة القرآنية، وهكذا يصنعون

ص: 19

بالأحاديث الثابتة، فينبغي للمسلمين ألَّا يغترُّوا بأحد يحتجُّ بالكتاب والسنة على الأمور المشتبهة.

* والأمر الثالث الذي يستند إليه كثير من الناس هو الاحتجاج بالأحاديث الموضوعة والضعيفة، وكذلك بالآثار المكذوبة عن السلف، أو التي لم تصحَّ.

ويحتجُّ بعضهم بالضعيف مع اعترافهم بضعفه قائلين بأن فضائل الأعمال يُتسامح فيها، مُغْفِلين أنَّ الفضائل إنما تُتَلقَّى من الشارع فإثباتها بالحديث الضعيف اختراع عبادة، وشرعٌ في الدين لما لم يأذن به الله.

* وذكر المؤلِّف من الأمور التي يستند إليها بعض الناس في باب العقائد: مجرَّد العقل والقياس، مع أنَّ للعقل حدًّا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًّا ينتهي إليه، وللعقل أغلاط دقيقة وخفيَّة أشدّ من أغلاط الحواسِّ الأخرى.

وقد حكى الله عن طوائف من المشركين استنادهم إلى مجرَّد رأيهم وقياسهم في عبادتهم غير الله زاعمين أنهم بشركهم معظِّمون لله، وأنهم ليسوا بأهلٍ أن يعبدوا لله مباشرة لحقارتهم، ولا بدَّ من واسطة يتوسَّطون بها.

ويحتجُّ بعض الناس بآيات من كتاب الله أو سنة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، ويغفل أو يتغافل عن عدَّة آيات أو سنن أخرى تعارض استدلاله؛ فإنَّ الكتاب والسنَّة كالكلام الواحد.

ومن الناس مَن تغلب عليه العصبيَّة للرأي الذي نشأ عليه، ويستغني بمحبته لذلك الرأي عن أن يتطلَّب له حجَّة، ويمتنع من أن يُصغي إلى الأدلَّة التي يتمسَّك بها مخالفُه.

ص: 20

* وقد خاض في مسألة التوحيد مَنْ لم يكن له علم راسخ بالقواعد، ويقع اللَّوم على مَن صدَّره ونَحَلَه العلمَ والإمامة بغير استحقاق، مع أننا نجد أفرادًا لا يؤتَون من جَهْل بالقواعد وإنما يؤتَون من مخالفتها.

والقواعد هي ما تشتمل عليه علوم الاجتهاد من إتقان اللغة العربية وطول الممارسة لها، ومعرفة أصول الفقه على وجه التحقيق لا التقليد، ومعرفة مصطلح الحديث وطرفٍ صالح من معرفة الرجال ومراتبهم وأحوالهم، وكثرة مطالعة كتب الحديث حتى تكون له مَلَكَة صحيحة في معرفة العِلل والترجيح بين المتعارضات، ومعرفة السيرة النبوية وأحوال العرب قبل الإسلام. وكذلك معرفة العلماء ومراتبهم، وكثرة تدبُّر كتاب الله.

ولْيَكُنْ فهمه مطابقا للقواعد العلميَّة، مع الإخلاص ومجانبة الهوى والتعصب وحبِّ الجاه والشهرة، مع المحافظة على الطاعات والتنزُّه عن المعاصي بقدر الاستطاعة، والإكثار من دعاء الله أن يوفِّقه للحق. ويلتزم باحترام العلماء والصالحين، وإن خالف بعضَهم لدليلٍ فلا يحتقرهم.

* ونبَّه المؤلِّف على قاعدة مهمَّة وهي: وجوب حمل النصوص على ظاهرها، والظاهر قد يترقَّى إلى القطع إذا عَضَدَتْه ظواهر أخرى.

* ومن الناس مَن يتهاون بقضيَّة الفصل بين التوحيد والشرك قائلًا: «إنما الأعمال بالنيات» ، والحديث إنما تعرَّض للفصل بين الأعمال الشرعية التكليفيَّة وبين غيرها، فأما أحكام تلك الأعمال فإنما تؤخذ من الأدلَّة الأخرى، والكافر إذا زعم أنه يتمسَّك بكفره طاعةً لله وتعظيمًا له فإنَّ قصده ذلك لا ينفي عنه اسم الكفر ولا حكمه، بل يغلِّظه عليه ويكون كفرًا على كفر.

ص: 21

ثم ختم هذا الفصلَ بقوله: «وبالجملة فتحقيق ما هو شرك وما ليس بشرك متوقف على تحقيق معنى كلمة التوحيد» . فذكر أنه يظهر من صنيع بعض علماء الكلام أنَّ معنى (إله) هو المعنى الذي يعبِّرون عنه بـ (واجب الوجود). و «الأمم كلها لا تشرك في وجوب الوجود حتَّى الثَّنَوِيَّة، وقد حكى القرآن عن الأمم المشركين ابتداء من قوم نوح وانتهاء بمشركي العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يعترفون بتفرد الله بالخلق والرَّزْق والإحياء والإماتة والتدبير» .

قال المؤلِّف: ومن العجائب أنك تجد في هذا العصر كثيرًا من طلبة العلم ــ إن لم أقل من العلماء ــ يتوهَّمون أن المشركين يعتقدون في الأصنام وغيرها أنها واجبة الوجود قادرة على كلِّ شيء، خالقة، رازقة، مدبِّرة للعالَم.

* وتبيَّن مِن بحث الشيخ وتحقيقه في هذه المسألة أنَّ اتخاذ الشيء إلهًا لا يتوقَّف على اعتقاد كونه واجب الوجود، ولا اعتقاد كونه مستغنيًا عمَّا سواه، ولا كونه مدبِّرًا مستقلًّا، بل ولا غير مستقلٍّ؛ فإنَّ الذين ألَّهوا الأصنام لم يعتقدوا لها شيئًا من التدبير.

قال العزُّ في قوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98]: «وما سوَّوهم به إلَّا في العبادة والمحبة دون أوصاف الكمال ونعوت الجلال» .

* ثمَّ قرَّر المؤلِّف برهان التمانع الذي دلَّت عليه بعض آيات القرآن فقال: «تقرير هذا البرهان أنه لو كان مع الله تعالى أحياء يدبِّرُ كلٌّ منهم الخلق والرزق ونحوهما من الأمور العظمى في العالم تدبيرًا مستقلًّا لاختلفوا،

ص: 22

وإذا اختلفوا فسدت السموات والأرض. كما أن الأمور الصغيرة التي يدبِّرها الناس مستمرة الفساد. ولا ريب أن قدرة الناس لو تتناول نحو إنزال المطر ومنعِه، وإرسال الرياح وحبسها، وتيسير الهواء ورفعه، وتحريك الزلازل ونحو ذلك، لكان الفساد أظهر. ومعلوم بالمشاهدة أن الأمور العظمى لا يتطرَّق إليها الفساد، وما قد يظهر في بعضها مما يُتَوهَّم فسادًا تُعْلَم مصلحته عند التدبُّر، فعلم بذلك أنه ليس في العالم مع الله تعالى أحياء كلٌّ منهم يدبِّر تدبيرًا مستقلًّا .... » إلخ.

* وذكر المؤلِّف أنَّ برهان التمانع يجتثُّ شُبَه المشركين من أصلها، فلا يثبت للروحانيِّين ما يزعمه بعضهم من أنَّ لها تدبيرًا ما، وأنَّ الملائكة والجنَّ وأرواح الموتى كذلك.

* وذكر المؤلِّف بعض الأمور التي قد يفهم منها بعضُ الناس أن الملائكة غيرُ معصومين كقصَّة هاروت وماروت، وأطال في الجواب عن ذلك.

* وعَنْوَن لتفسير الإله بالمعبود، ونقل عن علماء التوحيد قولهم: إن حقيقة معنى الإله: المعبود بحقٍّ، وفسَّره بعضهم بالمستحقِّ للعبادة، ونقل ألفاظ عدد من المفسِّرين معبِّرة عن هذا المعنى، وأن الألوهيَّة هي العبادة وأن الإله هو المعبود الذي لا تنبغي العبودية إلا له، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة.

* والقول بوجود إله غير الله تعالى إن كان بمعنى مستحق للعبادة فشركٌ، وإن كان بمعنى معبود بالفعل غير مستحقٍّ فلا، فأمَّا اتِّخاذ إله غير الله تعالى فشرك مطلقًا، وهذا ممَّا لا خلاف فيه بين المسلمين.

ص: 23

* ثمَّ عرَّج على إيضاح معنى العبادة في اللغة والاصطلاح فنقل عن أهل اللغة ما حاصله أربعة تعريفات:

1 -

الطاعة.

2 -

الطاعة التي يُخْضَع معها.

3 -

غاية التَذَلُّل، أو أقصى درجات الخضوع.

4 -

التَألُّه أو الطاعة مع اعتقاد أن المُطاعَ إله.

فناقش هذه التعريفات واحدًا بعد آخر، ثم عقد بابًا في تحقيق معنى كلمة (إله) ومعنى كلمة (العبادة) وما يلحق ذلك، وبيَّن أنَّ هاتين الكلمتين تكرَّرتا في القرآن كثيرًا، وباستقراء مواضعهما وتدبُّر مواقعهما تنجلي حقيقة معناهما.

قال: أمَّا إطلاق كلمة (إله) على الله تبارك وتعالى، و (العبادة) على طاعته، وكلِّ ما يُتقرَّب به إليه، فأمر لا يحتاج إلى بيان.

قال: وأما غير الله فقد حكى الله عن المشركين اتخاذهم بعض المخلوقات آلهة كالأصنام والعجل والهوى والشياطين والأحبار والرهبان والمسيح وأمِّه عليهما السلام والملائكة وأشخاص خياليَّة لا وجود لها.

وأما العبادة فأخبر الله عز وجل أنها وقعت للأصنام والشياطين والشمس والأحبار والرهبان والمسيح وأمِّه عليهما السلام والملائكة وأشخاصٍ متخيَّلةٍ.

فاتَّخذ قوم نوحٍ الأصنام آلهةً وعبدوها، واتَّخذوا جماعةً من الصالحين الذين ماتوا قبلهم آلهةً.

ص: 24

واتَّخذ قوم هودٍ عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً آلهةً وعبدوها.

وعبد قوم صالحٍ مع الله تعالى غيره، واتَّخذ قوم إبراهيم عليه السلام الأصنام آلهةً وعبدوها، وعبدوا الشيطان، وعظَّموا الكواكب.

واتَّخذ أهل مصر في عهد يوسف عليه السلام أشخاصًا متوهَّمةً وعبدوها، وادَّعى فرعون أنه إلهٌ وأطاعه قومه.

واتَّخذ القوم الذين مرَّ بهم قوم موسى أصنامًا وعكفوا عليها، وسمَّاها أصحاب موسى آلهةً، وسألوه أن يجعل لهم إلهًا مثلها، واتَّخذ بعض قوم موسى العجل إلهًا، ثم اتَّخذوا الأحبار آلهةً وعبدوهم.

واتَّخذ النصارى عيسى وأمَّه عليهما السلام إلهين من دون الله وعبدوهما، واتَّخذوا رهبانهم آلهة من دون الله وعبدوهم.

واتَّخذ مشركو العرب الأصنام والملائكة والشياطين وأشخاصًا متخيَّلةً آلهةً وعبدوها.

قال المؤلِّف: فطريق البحث أن ننظر فيما كان هؤلاء القوم يعتقدونه في تلك الأشياء وما كانوا يعظِّمونها به، فإذا تبيَّن لنا ذلك علمنا أنَّ ذلك الاعتقاد والتعظيم هو التأليه والعبادة.

ثم أفاض الشيخ في تفصيل ما كان يفعله هؤلاء الأقوام مع معبوداتهم ، وإلامَ كانت أنبياؤهم تدعوهم، وبَرْهَن على أنهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، مستدلًّا بالآيات القرآنيَّة على وجهٍ رئيسٍ ومثنِّيًا بأحاديث وآثارٍ تدلُّ على ذلك، وأدلُّ دليلٍ على ذلك أنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ

ص: 25

مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87].

وقولُ الرسل لأقوامهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت: 14] ظاهره أنهم كانوا يعبدون الله في الجملة ولكنهم يشركون به. وابتداء الرسل بهذا يدلُّ أن المرسَل إليهم لم يكونوا يجحدون وجود الله عز وجل، بل قولهم:{لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [فصلت: 14] نصٌّ في أنهم كانوا يعترفون بربوبيَّة الله عز وجل وأنه لا ربَّ غيره، ويعترفون بوجود الملائكة عليهم السلام.

وذكر الله عن المشركين أنهم دعوا آلهتهم ونادوها واتَّخذوها أربابًا وشركاء وأندادًا، وذكر أدلَّة ذلك وشرحَها بما يحسن الرجوع إليه.

وأورد على نفسه سؤالًا مضمونه: كيف تسمِّي مَن لا يعبد الله بل يقتصر على عبادة غير الله مشركًا؟ فأجاب بأنه: قد وُجد معبودان من حيث الواقع، أحدهما: معبود ذلك الشخص، والآخر: المعبود بحقٍّ الذي يعبده الملائكة ومَن شاء الله من خلقه، فصحَّ أن يُسمَّى ذلك المعبود بالباطل شريكًا، وأن يُسمَّى عابده مشركًا.

قال: وأما قول المؤمن: (لا إله إله الله وحده لا شريك له) فإنه يريد ــ والله أعلم ــ لا شريك له في الألوهيَّة، أي في المعبوديَّة بحقٍّ.

* وقرَّر الشيخ أنَّ المشركين كانوا يقصدون بعبادتهم الإناثَ الخياليّات التي زعموا أنها بناتُ الله، وأنها هي الملائكة، وأنَّه إذا جاء ذكرُ معبوداتهم غيرَ مُبَيَّن، فالأَولى أن يُفسَّر بها؛ لأنَّ ذلك هو صريح اعتقادهم، فأمَّا الملائكة فإنما عبدوهم على زَعْم أنهم هم الإناث الخياليَّة، ولم يكونوا يقصدون عبادة الشياطين، وأمَّا الأصنام فإنما كانوا يعظِّمونها تعظيمًا لتلك

ص: 26

الإناث على أنها تماثيل لها.

* ثم دلف المؤلف إلى بيان اعتقاد المشركين في الأصنام، وبين أنهم إنما عظموها على أنها تماثيل أو رموز للإناث الوهميات التي هي في زعمهم بنات الله عز وجل، وهي عندهم الملائكة، ثم أورد الآيات التي يستدل بها بعض أهل العلم لتقرير خلاف ما قرَّره المؤلف وأجاب عن استدلالاتهم.

* ثم أطال بوجهٍ خاصٍّ الكلام على قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [غافر: 43 - 44].

* ثم أورد المؤلف على نفسه سؤالين قبل الخروج من بحث الأصنام، أولهما: أنه جاءت آثار كثيرة في شأن اللات تخالف ما قرَّره في اعتقاد المشركين في الأصنام.

والسؤال الثاني: أن لهم أصناماً مذكَّرة الأسماء كهبل ومناف، فكيف يكون هذا المذكَّر رمزاً للإناث التي هي الملائكة في زعمهم؟ .

ثم أجاب عن السؤالين بعد تقديمه كلام أهل اللغة والتفسير في اللات عن اشتقاقها، وأين كانت، ومن كان يعبدها؟

* ثم ذكر الشيخ أن المشركين كانوا يتمسحون بالأصنام ويعكفون عليها ويضمِّخونها بالطيب ويتقاسمون بالأزلام عندها، ولم يجد الشيخ نصًّا صريحًا في أنهم كانوا يسجدون للأصنام ولا أنهم كانوا يدعونها، ثم أبدى احتمال أنهم كانوا يدعونها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ

ص: 27

فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا

} الآيات [الحج: 73 - 76]، وحقَّق تفسيرها.

* ثم انتقل المؤلف إلى بحث اعتقاد المشركين في الملائكة وذكر أنه يتلخَّص في طمعهم في أن الملائكة يشفعون لمن يعبدهم وأن الشفاعة تنفعهم، ومعلوم أن الملائكة لا يرضون أن يُعبدوا من دون الله، فالمشركون إنما عبدوا الشيطان الذي زيَّن لهم عبادة الملائكة. وأطال المؤلِّف في بيان بطلان اعتقاد المشركين في الملائكة.

قال المؤلِّف: فلم يبق أمام المشركين إلا شبهتان، إحداهما: التشبُّث بالقدر. الثانية: التقليد، وجلَّى الشيخ المقام بإيراد الآيات الدالَّة على إبطال هاتين الشبهتين.

* ثم بيَّن الشيخ كيف كان تأليههم للملائكة، فذكر أن المشركين كانوا يشركون في التلبية في الحج بالإناث الخياليات التي هي الملائكة في زعمهم.

وكانوا يتخذون الأصنام تماثيل أو رموزاً لتلك الإناث، وكانوا يسمون عبد اللات، عبد العزى، عبد مناة، وكانوا يُقْسمون بهذه الأسماء ويذكرونها عند الذبح، وكانوا يجعلون لهم نصيباً من أموالهم يصرفونه في تطييب الأصنام.

* ثم تكلم الشيخ عن اعتقاد المشركين في أهوائهم، وأنهم أطاعوا أهواءهم لما أطاعوا رؤساءهم في شرع الدين. قال الشيخ: وإنما لم يكثر هذا المعنى في القرآن استغناءً بذكر تأليههم للشياطين، فإن تأليه الهوى يلزمه تأليه الشيطان؛ لأنه المتلاعب بالهوى.

ص: 28

* ثم تعرَّض لبيان اعتقاد المشركين في الشياطين وأنهم كانوا يعتقدون أنَّ ما يوحونه إليهم في شرع الدين حقٌّ، ولكن لم يعلموا أنَّ ذلك من وحي الشياطين، بل يظنُّونه من رأيهم واجتهادهم.

وفيما يتعلَّق بأعمالهم ألزمهم الله بأنهم يعبدون الشياطين لكونهم يأخذون دينهم عن غير حجة ولا برهان، بل بمجرَّد التخرُّص والتخمين.

* وبيَّن الشيخ أن العكوف على الصنم هو المكث عنده بهيئة الأدب زاعمين أنَّ ذلك تعظيم لمن جُعل الصنم تمثالاً له، بل يعدُّون ذلك عبادة لله عز وجل؛ لأنه في زعمهم يحب ذلك ويرضاه، ولذلك نرى مشركي الهند يتحرَّون لدعاء الله عز وجل أن يكون عند الأصنام.

* ثم فسر آيات النجم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} .

واختار تفسيرها بقول ابن زيد: جعلوا لله عز وجل بنات، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم وقرأ:{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية، وقرأ:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية، وقال: دعوا لله ولدًا، كما دعت اليهود والنصارى، وقرأ:{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .

* ثم تكلم عن قصة الغرانيق، وبيَّن أن الكلمات التي ألقاها الشيطان لم تكن من القرآن، بل القرآن يبطل هذا لقوله تعالى:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} فبيَّن أن تلك الكلمات ــ إن صحَّت ــ من إلقاء الشيطان، ولكن قد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال كلمات أثنى بها على الملائكة، وقد أثنى الله

ص: 29

تعالى على الملائكة في مواضع كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} .

فالذي يظهر من هذه العبارة أنهم لم يفهموا من تلك الكلمات إلا ما أراده صلى الله عليه وسلم من الثناء على الملائكة ولكنهم زعموا أن ذلك الثناء يدل على جواز اتِّخاذ الملائكة آلهة.

فالعرب إنما كانوا يعظمون هذه الأصنام الثلاثة تعظيمًا لأشخاص معظمين، وليست هذه الأصنام إلا تماثيل أو تذكارات لأولئك الأشخاص كما هو شأن عَبَدَة الأوثان في كلِّ أمة، وبذلك صرَّح المحققون.

والأقرب فيما نحن فيه أن المشركين لما كانوا يعبدون إناثًا غيبيات، قالت الشياطين: ليست هناك إناث غيبيَّات إلَّا منّا، أما الملائكة فليسوا بإناث، فكلما قال المشركون: فلانة بنت الله ــ تعالى الله عما يقولون ــ وعبدوها، عيَّنت الشياطين واحدة من إناثهم كأنها هي تلك الأنثى التي يعبدها المشركون.

ونجد القرآن مملوء بمحاجة المشركين في تأليه الملائكة وقلَّما نجده حاجَّهم في تأليه الجمادات.

* ثم تكلم عن عبادة الشياطين وأوضح أن الأشخاص الغيبية التي عبدها العرب ليست هي الملائكة لأنها إناث والملائكة ليست كذلك، ولأنها بنات الله في زعمهم وليست الملائكة كذلك.

فعبادتهم في الحقيقة إنما هي عبادة للشياطين، أوَّلًا: لما تقدم مرارًا أنهم أطاعوا الشياطين الطاعة التي هي عبادة.

ص: 30

ثانيا: أن الشياطين أنفسهم تصدَّوا لهذه العبادة قائلين: إن هؤلاء يعبدون إناثا غيبيات وليس هناك إناث غيبيات إلا من الشياطين فعرَّضوا إناثهم لتلك العبادة.

* ثم انتقل إلى الكلام على عبادة الهوى وفسره بأن يطيعه ويبني عليه دينه، لا يسمع حجة ولا ينظر دليلاً.

* ثم شرع في تفسير عبادة الأصنام، فذكر أنهم كانوا يعبدون الأصنام على أنها تماثيل للإناث الخياليات، أعني ما زعموه أن لله بنات وأنهن هن الملائكة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

* ثم ذكر أسباب تعظيم المجوس للنار. وعبادةَ بني إسرائيل العجل، هل كانت بدعوى أن الله حل في العجل، أو أن العجل رمز لله؟ وناقش المسألة من جوانب عدَّة.

* ثم دلف إلى الكلام على عبادة الأناسي الأحياء وأرواح الموتى، وبيَّن أنهم كانوا يزعمون أن أولئك الموتى يشفعون لمن يعبدهم، أو أن الله عز وجل يثيب من يعبد أولئك الموتى لما كانوا عليه من الصلاح.

* ثم تحدث عن تأليه المسيح وأمه، وذكر أن النصارى يؤلِّهون مريم ويعبدونها كما يؤلِّهون عيسى ويعبدونه، وقد عُلم أنهم لم يقولوا في مريم إنها واجبة الوجود ولا قديمة ولا أنها جزء من الله تعالى، ولا أنها تخلق وترزق وتنفع وتضرُّ وتغفرالذنوب، فثبت بذلك أن التأليه والعبادة لا يتوقفان على اعتقاد شيء من هذه الصفات في المعبود وأن اعتقادهم هذه الصفات في عيسى أمر زائد على التأليه والعبادة.

ص: 31

ومن عبادتهم عيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى لزعمهم أنه جزء منه وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا.

ومن تعظيمهم لأمه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها.

* ثم استفاض في الكلام على قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

وحاصل المعنى: أنَّ مَن علم الله منه الأمر بالشرك لم يؤته النبوة، ومَن آتاه النبوة عصمه عن الأمر بالشرك.

* ثم عقد عنوانا في تأليه الأحبار والرهبان وبيَّن أن اتِّخاذهم بعضهم بعضاً أربابا هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله.

* ثم فسَّر عبادة الأحبار والرهبان كيف تكون؟ وبيَّن أنَّ شرع الدين خاصٌّ بالربِّ، فمن ادَّعى أنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرع يكون دينا فقد ادَّعى الربوبية، ومَن قال في شخص إنَّ له حقًّا أن يشرع وأنَّ ما شرعه يكون دينًا فقد اتخذه ربًّا وجعله شريكًا لله عز وجل.

* ثم تناوَل المؤلِّف تفسير عبادة القبور والآثار بإيجاز، مبيِّنًا أنها عُبِدت تعظيمًا للأشخاص التي هي تماثيل لهم.

* وفَسَّر عبادة الجنِّ، وأنها تقع بالاستعاذة بهم والنذر لهم والذبح لأجلهم زعمًا أنَّ مَن قرَّب للجن شيئًا فإنهم ينفعونه ويكفُّون عنه أذيَّته أو يدفعون عنه ضرر بعضهم أو يبيِّنون لهم شيئًا مغيَّبًا بواسطة الكُهَّان.

ص: 32

* وبيَّن الشيخ أن الذين عبدوا الكواكب إنما عبدوها لأنها بمثابة الأجسام للملائكة التي هي أرواح، ومثّل بعضُهم الكواكب بصور معينة تخيّلوها ويعبدون تلك التماثيل.

* وأوضح الشيخ أنَّ قوم هود كانوا يعبدون أشخاصًا لا وجود لها، وكانوا يعتقدون في آلهتهم نوعًا من القدرة على النفع والضر، ولعلَّ ذلك كان على معنى أنَّ آلهتهم يسألون الله أن ينفع أو يضرَّ.

* ثم تحدَّث الشيخ عن ديانة المصريِّين وعبادتهم في عهود إبراهيم ويوسف وموسى عليهم السلام، وفصَّل الشيخ تفصيلًا بديعًا في دعوى فرعون الإلهيّة وحقيقتها، وأنه شرع لقومه أن يعبدوه، وهو يعبد الملائكة.

* ثم تعرَّض الشيخ لبيان تأليه العرب الإناثَ الخياليَّات، وقد وبَّخ الله هؤلاء المشركين على قولهم: إن لله ولدًا، ثم على قولهم: إن ذلك الولد إناث، ثم على قولهم: الملائكة إناث، ثم على قولهم:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} فدلّ أنَّ كلّ أمر من هذه الأمور منكر على حِدَة، وتأليهُ الشيء وعبادته لا يتوقَّف على زَعْمِ أنه واجب الوجود أو أنه الخالق، أو خالق آخر، أو ابن الخالق، أو نحو ذلك.

* ثم فسَّر الشيخ كيف كانت عبادة الملائكة، وبيّن أن عُبَّاد الملائكة ما عدا أتباع أرسطو فريقان: فريق يزعمون أن الملائكة يتصرَّفون باختيارهم، وفريق لا يثبتون للملائكة اختيارًا إلَّا في الشفاعة، ومنهم مشركو العرب.

* ثم عقد عنوانًا سماه: (تفسير عبادة الشيطان)، وذكر لها وجوهًا: أولها: طاعة الشياطين في شرع الدين على نحو ما مرّ في الأحبار والرهبان.

ص: 33

والوجه الثاني: أن الشياطين رأت أنه لا وجود لما يدّعيه المشركون من الإناث الغيبيات بزعم أنهن بنات الله وأنهن الملائكة، فعمدت شيطانة فتسمَّت بالعزّى ولزمت الصنم المجعول للعُزَّى، وقس على ذلك.

* ثم بيّن الشيخُ أنَّ عبادة الهوى: طاعته فيما لا ينبغي أن يُطاع فيه إلا الربّ، وأنها من قبيل عبادة الأحبار والرهبان.

* وبعد شرحه المستفيض لعبادات أصناف المشركين والكفار ابتداء من قوم نوح وانتهاء بقوم عيسى عليهما السلام؛ عقد عنوانا سماه: (تنقيح المناط)

(1)

، وهو بيت القصيد في كتابه، أراد به تحديد ما يدخل في العبادة وما لا يدخل فيها، فقال: «مدار التأليه والعبادة على أمرين:

الأول: الطاعة في شرع الدين، والمراد بالدين: الأقوال والأفعال التي يُطلَب بها النفع الغيبي، والمراد بالنفع الغيبي ما كان على خلاف العادة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة.

والأمر الثاني: الخضوع أو التعظيم على وجه التديُّن .. ».

إلى أن قال: «وتحرير العبارة في تعريف العبادة أن يقال: خضوع اختياري يُطلَب به نفع غيبي، أي من شأنه أن يُطْلَب به نفع غيبي، سواء كان الخاضع طالبًا بالفعل بأن يكون له اعتقاد أو ظنّ واحتمال أن ذلك الخضوع سبب لنفع غيبي، أو يكون في حكم الطالب بأن يكون المعهود في ذلك

(1)

تنقيح المناط: هو الاجتهاد في تحصيل العلَّة التي ربط بها الشارع الحكمَ وإلغاء ما لا يصلح للاعتبار. انظر: شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني 2/ 292، وشرح الكوكب المنير 4/ 131.

ص: 34

الفعل أنه يُطلَب به نفع غيبي، كالسجود للصنم إذا فعله الخاضع عنادًا أو خوفًا من ضرر لا يبلغ به حدَّ الإكراه، أو مداهنةً، أو طمعًا في نفع دنيوي كمن يُجعَل له مال عظيم على أن يسجد لصنم، أو هزلًا ولعبًا».

قال: «وهذا تعريف للعبادة من حيث هي، فإن أريد تعريف عبادة الله عز وجل زِيد: (بسلطان) ، أو أريد تعريف عبادة غير الله زِيد: (بغير سلطان) .. » .

* ثم فسَّر الإله بالمعبود، فمَن عبد شيئًا فقد اتخذه إلهًا وإن لم يزعم أنه مستحق للعبادة، ومَن زعم أنه مستحق للعبادة فقد عبده بهذا الزعم، وهكذا من أثبت لشيء تدبيرًا مستقلًّا بالخلق والرزق ونحوهما، فإنَّ هذا التدبير هو مناط استحقاق العبادة، وكذا مَن أثبت لشيء أنه يشفع بلا إذن وأنَّ شفاعته لا تردُّ ألبتة؛ لأنَّ ذلك في معنى التدبير المستقلّ.

والحاصل أن الخضوع لغير الله عز وجل طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ إن كان بسلطانٍ من الله عز وجل فذلك عبادة لله عز وجل، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وإن كان بغير سلطان من الله عز وجل فذلك عبادة لغير الله عز وجل.

ثم استطرد في ذكر ما يؤيِّد به كلامه من كلام أهل العلم.

* ثم عقد فصلًا في القيام الذي هو في حقيقته قريب من السجود في المعنى، وبيّن ما يجوز منه وما لا يجوز، وقَرَّر أن القيام إلى الشخص القادم لاستقباله والترحيب به ليس مثلَ القيام له الذي هو تعظيم له بنفس القيام، وهو يشبه القيام لله عز وجل في الصلاة.

* ثم عقد فصلًا طويلًا في الدعاء، وذكر أنه ألجأه إلى الإطالة ما رآه من اضطراب المفسرين وغيرهم في تفسير الدعاء وتوجيه كونه شركًا.

ص: 35

وقد اتَّفق أهل اللغة على أنَّ أصل الدعاء بمعنى النداء، وذكر آيات كثيرة تفيد أنَّ الدعاء فيها بمعنى السؤال والاستعانة، ولاسيَّما في الآيات التي فيها ذكرُ الاستجابة.

* ثم وضع عنوانًا في أحكام الطلب، ومتى يكون دعاء؟ وبيَّن فيه أنَّ دعاء الحيّ الحاضر ما لا يقدر عليه ودعاء الأموات والغائبين مطلقًا شرك بالله.

* وتعرَّض لبيان مسألة التوسُّل، والأحاديث الواردة فيها.

* وأجاب عن الأحاديث والآثار التي يستدلُّ بها مَن يدَّعي سماع الموتى لمن خاطبهم، وقال: مَن قاس الأموات على الأحياء فهو كمَن قاس الملائكة على البشر. ولو كانت أرواح الموتى تتصرَّف بهواها لفسد الكون، بل ولهاجت الفتن بين الأرواح.

قال: ولو لم يكن في اجتناب ما قيل إنه شرك إلا سدُّ باب الاختلاف بين الأمَّة في هذا الأمر لكان من أعظم القربات عند الله عز وجل.

* ثم عقد فصلًا في الشبهات وردِّها، تضمَّن بيان شُبه عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد الأشخاص الأحياء، والنصارى في عبادتهم الصليب، وشبهة للنصارى واليهود في شأن الأحبار والرهبان، وشُبه عَبَدَة الملائكة، ثم أجاب الشيخ على هذه الشُّبَه بكلام قويٍّ متين.

* ثم عقد فصلًا في السلطان الفاصل بين ما هو عبادة لله وما هو عبادة لغيره.

قال: الفرق بين عبادة الله تعالى وعبادة غيره هو السلطان، فكلُّ عبادة

ص: 36

كان عند صاحبها سلطان بها من الله تعالى فهي عبادة لله عز وجل، وكلُّ عبادة ليست كذلك فهي عبادة لغير الله تعالى، والسلطان هو الحجة، وقد تكون الحجة يقينيَّة وقد تكون ظنيَّة، وفصَّل في أنواع الأدلَّة.

ثمَّ ذكر أنَّ القطع بـ «لا إله إلا الله» يستدعي القطع بثلاثة أمور:

الأول: أنه لا مدبِّر في الكون استقلالًا إلَّا الله عز وجل.

الأمر الثاني: القطع بأنه لا مستحقَّ للعبادة إلَّا الله عز وجل.

الأمر الثالث: العلم بحقيقة العبادة.

* ثمَّ بيّن أن التديُّن بشيء لا دليل عليه، أو عليه دليل باطل، شركٌ. ولا يُستثنى من ذلك المبتدعُ الذي قامت عليه الحجة فأصرّ على التديُّن بها. ونقلَ نقلًا طويلًا عن الشاطبي يوضِّح فيه مقتضى فعل المبتدع وما يلزم من كلامه من لوازم خطيرة. ثم نقل نقلًا آخر طويلًا عن الصارم المسلول، بيَّن فيه حكم مَنْ يكذب على النبيِّ صلى الله عليه وسلم .

ثم قال: «والحاصل أنَّ السلطان هو الحجة التي يُحتجُّ بها في فروع الفقه. وينبغي للمقلِّد أن يحتاط في مواضع الاختلاف.

والقرآن يقسم الكفر إلى ضربين: الكذب على الله، والتكذيب بآياته.

والتكذيب قد يكون باللفظ فقط، كمن يقول: إنَّ الله لم يفرض صلاة الظهر، وهو نفسه يصلِّيها، وقد يكون بالفعل فقط كمن ألقى مصحفًا في قاذورة، وقد يكون بالاعتقاد فقط كأن يعتقد أنَّ الله لم يفرض الظهر، وقد يكون بالثلاثة معًا، أو باثنين منها معًا».

ص: 37

* ثم عقد فصلًا تحدَّث فيه عن أحوال مَن يُعذر بالجهل أو الخطأ أو التأويل، والآيات والأحاديث الدَّالَّة على ذلك، وذكر أنَّ مدار العذر على الجهل يكون مع عدم التقصير في النظر.

وقال: «مَن رضي بالإسلام دينًا ولو إجمالًا فالأصل فيه أنَّه معذور في خطئه وغلطه، ومَن لم يرض بالإسلام دينًا فالأصل فيه أنَّه غير معذور، ولا يخرج أحدُهما عن أصله إلا ببيان واضح.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يحكم فيمن أسلم أنه على إسلامه، وإن ظهر منه خلاف ذلك، ما لم يتضح أمره».

* ثم عقد بابًا في ذكر أمور ورد في الشريعة أنها شرك وأشكل تطبيقها على الشرك، وبدأ بتمهيد أوضح فيه أنَّ كون الشيء سببًا أو علامة قد يكون تديُّنًا، وهو ما يرجع إلى اعتقاد بأمر غيبي، وقد لا يكون تديُّنًا وهو ما يرجع إلى أصل عاديٍّ مبنيٍّ على الحسّ والمشاهدة، وقد يُتردَّد في بعض الظنون: أمن الضرب الأول هو، أم من الثاني؟

* ثم تحدَّث عن الطِّيَرة، وأورد الأحاديث التي تفيد أنها شرك، ثم علَّل ذلك بأنها تديُّن بما لم يشرعه الله؛ لأن المتطيِّر يظنُّ أن الطائر سبب أو علامة، وهذا الظنُّ لا يُعرف له توجيه من الأصول العاديَّة المبنيَّة على الحسّ والمشاهدة، فيكون من قسم التديّن. وجعل الشارع ضابط حصول الظن هو العمل به. قال معاوية بن الحكم:«ومنَّا رجال يتطيَّرون» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدَّنّهم» . ثم ذكر تفريعات وتفصيلات في العلاقة بين التطير والتفاؤل.

ص: 38

* ثم عقد مبحثًا في الرقى، أورد فيه أحاديث يدل بعضها أن مِن الرقى ما هو شرك، وفي بعضٍ آخر منها الإذن بالرقى.

قال: «وتفسير ذلك أنَّ الرُّقى على ثلاثة أضرب:

الضرب الأول: الرقية بكتاب الله تعالى وذكره ودعائه اللَّذَين أُذن في مثلهما، فهذا حق وإيمان، ولكن الأولى بالمؤمن ألَّا يسأل غيره أن يرقيَه، كما تقدَّم إيضاحه في الدعاء.

الضرب الثاني: ما كان فيه تعظيم لغير الله عز وجل، فهذا إن كان مما أنزل الله تعالى به سلطانًا فهو كالأوَّل، وإلَّا فهو شرك

الضرب الثالث: ما كان من الرقى كلمات عربية ليس فيها تعظيم ولا مدح، فإن كان يرى أو يجوِّز أنَّ لتلك الكلمات أثرًا يستند إلى غيبيٍّ كالروحانيين والجنِّ والكواكب ونحوها، فحكمه كالقسم الثاني، والله أعلم. وإن كان لا يجوِّز ذلك

فالحكم في هذا مشتبه

والذي أختاره الآن المنعُ من هذا، والله أعلم».

* ثم انتقل من ذلك إلى عقد عنوان في التمائم، وبيّن أن التميمة خرزة مخصوصة، وهي ممنوع منها مطلقًا. وقيل: بل كلُّ ما يُعلَّق رجاء للنفع. وأورد آثارًا عن السلف أنهم كانوا يكرهون التمائم كلَّها من القرآن وغير القرآن، وفصَّل آخرون في تعليق ما يُكتب من القرآن والدعاء، فقالوا: إن عُلِّق قبل البلاء فهو تميمة منهيٌّ عنها، وإن عُلِّق بعد البلاء فلا حرج فيه، ونقل عن عائشة ما يدلُّ على ذلك.

ومال المؤلف إلى هذا التفصيل بشرط ألّا يكتب إلا ما ثبت من الشرع

ص: 39

التبرك به من القرآن والدعاء الخالي عما لم يأذن به الله تعالى، وبشرط ألّا يتحرَّى شيئًا لا سلطان من الله تعالى على تحرِّيه مِن مكان أو زمان أو هيئة مخصوصة، فإذا تحرَّى شيئًا لم يجئ به سلطان من الله كانت المعاذة في معنى الخرزة.

قال: «وعامَّة كتب العزائم والتعاويذ على خلاف الشريعة، وفي كثير منها الكفر البواح والشرك الصُّراح» .

* ثم عقد فصلًا في التِّوَلة والسحر، أورد فيه حديث ابن مسعودٍ الذي فيه أن التِّوَلة شركٌ، وهي ما يحبِّب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره.

فإن تحبَّبت المرأة إلى زوجها بما لم تجر به العادة، بل بما هو مستندٌ إلى قوَّةٍ غيبيَّةٍ ففيه تفصيلٌ؛ فإن جاء سلطانٌ من الله بالإذن فيه فذاك، وإلا فهو من التِّوَلة. وإنما جاء السلطان بالإذن في الدعاء المجرَّد عن البدع والخرافات وفي كلِّ ما هو طاعةٌ لله عز وجل كالصلاة والصيام والصدقة. وكلُّ ما لم يجئ به سلطانٌ فهو من التِّوَلة، وهي شركٌ؛ لأنها تتضمَّن خضوعًا يطلب به نفعٌ غيبيٌّ لم يُنزل الله به سلطانًا، وتتضمَّن طاعةً للشيطان والمعزِّمين والعجائز ونحوهم فيما يطلب به نفعٌ غيبيٌّ ولم ينزل الله تعالى به سلطانًا. ونقل عن ابن حجرٍ الهيتميِّ أنَّ السحر إن اشتمل على عبادة مخلوقٍ أو اعتقاد أنَّ له تأثيرًا بذاته أو تنقيص نبيِّ أو ملَكٍ، أو اعتقد الساحر إباحة السحر بجميع أنواعه، كان كفرًا وردَّةً. ثم عرَّج ابن حجرٍ على بيان مذاهب الأئمَّة في السحر والسحرة. ثم فصَّل المؤلِّف مضامين ما نقله عن ابن حجرٍ وناقشه في بعضه. ثم عقد مبحثًا مطوَّلًا في حكم السحر وتعليمه وتعلُّمه وتوابع ذلك.

ص: 40

ثم انتقل إلى المسألة الأخيرة في هذا الباب الكبير، وهي مسألة القَسَم بغير الله، وأورد الأحاديث الناهية عن الحلف بغير الله وكفارة مَن حلف بغير الله.

ومال الشيخ إلى التشديد في هذه المسألة، وأنَّ مَن حلف بغير الله غيرَ جاهلٍ ولا ذاهلٍ أنَّه يخرج من الملَّة، وذكر أنه يؤخذ من تبويب البخاريِّ لهذه المسألة واحتجاجه بحديث عمر «مَن حلف بغير الله فقد أشرك» أنه يرى هذا الرأي.

* ثم عقد عنوانًا في حقيقة القَسَم وأنَّ أصل المقصود منه التوكيد اتِّفاقًا، ولذلك سمِّي يمينًا أخذًا من اليمين بمعنى القوَّة، ويمكن أن يكون من اليد اليمين لما جرت به العادة من الصَّفْق باليمين عند المحالفة.

* وبيَّن المؤلِّف أن التوكيد في الحلف يستفاد من اعتقاد الحالف ومخاطَبيه في المقسَم به أنه ذو قدرةٍ غيبيَّةٍ، فمعنى الحلف به جَعْلُه كفيلًا وشاهدًا على الحالف بألَّا يُخْلِف ولا يَكْذب.

وإنما يثق المحلوف له باليمين لأنه يعلم أن الحالف يُجِلُّ المحلوف به ويخاف سطوته الغيبيَّة، فيبعُد أن يجعله كفيلًا ثم لا يفي له أو شهيدًا على الكذب، وعلى فرض أن الحالف يجترئ على ذلك فالمحلوف به يعاقبه ويوفي المحلوف له حقَّه من عنده.

* ثم وجَّه المؤلف لفظ: (وأبيه) أو (وأبيك) الوارد في بعض الأحاديث، ورجَّح أنه مقحمٌ، قال: وكأن الباعث على الإقحام أنَّ واو القسم لا تدخل على الضمير، فتُوُصِّل إليه بإقحام لفظ الأب، وباعثٌ آخر معنويٌّ، وهو تبعيد إيهام التعظيم، فإنه يتوهَّم تعظيم المخاطَبين لأنهم مسلمون،

ص: 41