المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة طه (مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية، وعدد كلماتها ألف - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٣

[ابن عادل]

فهرس الكتاب

الفصل: سورة طه (مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية، وعدد كلماتها ألف

سورة طه

(مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية، وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا)

ص: 164

عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت‌

‌ طه

والطواسين (من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة ") . (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَتِ الرَّحِيمِ) . قوله تعالى: «طَهَ» قرأ أبو عرمو بفتح الطاء وكسر الهاء، وكسرهما جميعاً حمزة والكسائي وأبو بكر والباقون بفتحهما. قال الزجاج: وتقرأ «طَهْ» بفتح الطاء وسكون الهاء، وكلها لغات. قال الزجاج: من فتح

ص: 164

الطاء والهاء، فأن ما قبل الألف مفتوح. ومن كسر الطاء والهاء أمال إلى الكسر، لأن الحرف مقصور، والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسر.

فصل

قد تقدم الكلام في الحروف المقطعة أول الكتاب، وفي هذه، وفي هنا قولان، الصحيح أنها من ذلك.

وقيل: إنه مفيد. فقال الثعلبي: «طَا» شجرة طوبى «والهاء» الهاوية. فكأنه أقسم بالجنة والنار. وقال سعيد بن جبير: هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي. وقيل: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة.

وقيل: (الطاء) تسعة في الحساب، و (الهاء) خمسة يكون أربعة عشر، ومعناه يا أيها البدر، وقيل غير ذلك.

فصل

قيل: كعنى (طَهَ) يا رَجُل، وهو مرويّ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير، وقتادة، وعكرمة، والكلبي، ثم قال سعيد بن جبير: بالنبطية، وقال قتادة: بالسريانية، (وقال عكرمة) : بالحبشية، وقال الكلبي: بلغة عك، وقيل: عُكْلٌ، وهي لغة يمانية.

وقال الكلبي: إنك لو قلت في عَك، يا رَجُل لم تجب حتى تقول: طَهَ.

وقال الطَّبَري: طَهَ في عك بمعنى يا رجل، وأنشد قولَ شاعرهم:

3637 -

دَعَوْتُ بِطَهَ في القِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ

فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوَائِلَا

ص: 165

وقول الآخر:

3638 -

إنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلائِقِكُمْ

لَا قَدَّسَ اللهُ أرْوَاحَ المَلَاعِينِ

قال الزمخشري: وأثر الصنعة ظاهر في البيت المستشهد به.

وقال السُّدِّي: معناه يا فلان. وقال الزمخشري أيضاً: ولعل عكَّا تصرفوا في «يَا هَذَا» كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء، فقالوا في (يَا هَذَا) : طَا هَذَا، واختصروا (هذا)(فاقْتَصَرُوا عَلَى هَا) .

فكأنَّه قيل في الآية الكريمة: يَا هَذَا، وفيه بُعْدٌ كبير. واعترض عليه بعضهم فقال: لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طَاهَا.

قال أبُو حيَّان: ثم تخرص وحرز على عَكَّ ما لم يقله نحوي، وهو أنهم يقلبون «ياء» التي للنداء (طاء)، ويحذفون اسم الإشارة ويقتصرون منه على (ها) التي للتنبيه وقيل:(طَهَ) أصله: طأها بهمزة، (طَأْ) أمر، من وطئ يطأ، و (ها) ضمير مفعول يعوج على الرض، ثم أبدل الهمزة لسكونها ألفاً ولم يحذفها في الأمر نظراً إلى أصلها، أي: طأ الأرض بقدميْكَ، وقد جاء في الحديث:«أنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاه» وقرأ الحسن، وعكرمة، وأبو حنيفة، وورش في اختياره «

ص: 166

طه» بإسقاط الألف بعد الطاء، و (هاء) ساكنة وفيها وجهان:

أحدهما: أن الأصل (طأ) بالهمزة، أمراً أيضاً من وَطِئ يَطَأ، ثم أبدلت الهمزة هاء كإبدالهم لها في: هرقت، وهرحت، وهنرت، والأصل: أرقت، وأرحت، وأنرت.

والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً، كأنه أخذه من وطئ يطأ بالبدل كقوله:

3639 -

...

...

...

... .......

... . . لَا هَنَاكِ المَرْتَعُ

ثم حذف الألف حملاً للأمر على المجزوم، وتناسباً لأصل الهمز ثم ألحق هاء السكت، وأجرى الوصل مجرى الوقف وقد تقدم في أول يونس الكلام على إمالة «طا» و «ها» . قوله:«أنْزَلْنَا» هذه قراءة العامة.

وقرأ طلحة: «مَا نُزِّلَ» مبنياً للمفعول «القُرْآن» رفع لقيامه مقام فاعله.

وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة إن جعلت «طَهَ» تعديداً لأسماء الحروف. ويجوز أن تكون خبراً ل (طَهَ) إن جعلتها اسماً للسورة، ويكون القرآن ظاهراً واقعاً موقع المضمر؛ لأنَّ (طه) قرآن أيضاً، ويجوز أن تكون (جواب قسم) إنْ جعلت (طَهَ) مقسماً به. وقد تقدَّم تفصيل ذلك.

ص: 167

فصل

قال الكلبي: لمَّا أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم َ الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان بين قدميه في الصلاة لطول قيامه، وكان يصلي الليل كله، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يخفف على نفسه فقال:{مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} [طه: 2] .

وقيل: لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا: إنَّك لتشقى حين تركت دين آبائك أي: لتتعنَّى وتَتْعَب وما أنزل عليك القرآن يا محمد لشقائك، فنزلت:«مَا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى» . وأصلُ الشقاء في اللغة العناء.

وقيل المعنى: إنَّك لَا ترم على كفر قومك كقوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» وقوله {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 106]، أي: إنك لا تؤاخذ بذنبهم.

وقيل: إنَّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وكان عليه السلام في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء، فكأنه تعالى قال: لا تظن أنَّك تبقى أبداً على هذه الحالة، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقيًّا فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرماً.

قوله: «إِلَاّ تَذْكِرَةً» في نصبه أوجه:

أحدها: أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه فعل الإنزال، وكذلك «لِتَشْقَى» علة له أيضاً، ووجب مجيئ الأول مع اللام، لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاته شريطة الانتصاب على الفمعولية.

والثاني: جاز قطع اللام عنه ونصبه، لاستجماعه الشرائط هذا كلام

ص: 168

الزمخشري، ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن تقول: «مَا أنْزَلْنَا أنْ تَشْقَى» ، كقوله:«أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم» قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه» ، وأما النصبةُ في «تَذْكِرَةً» فهي كالتي في ضربت زيداً، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها.

قال شهاب الدين: قد منع أبو البقاء أن يكون «تَذْكِرَةً» ، مفعولاً له ل «أنْزَلْنَا» المذكورة لأنها قد تعدت إلى مفعول له وهو «لِتَشْقَى» فلا تتعدى إلى آخر من جنسه.

وهذا المنع ليس بشيء، لأنه يجوز أن يعلل الفعل بعلتين فأكثر، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يقتضي العامل من هذه الفضلات إلا شيئاً واحداً إلا بالبدلية أو العطف.

الثاني: أن تكون «تَذْكِرَةٌ» بدلاً من محل «لِتَشْقَى» وهو رأي الزجاج، وتبعه ابن عطية، واستبعده أبو جعفر، ورده الفارسي، بأن التذكرة ليست بشقاء وهو

ص: 169

رد واضح. وقد أوضح الزمخشري هذا فقال: فإن قلت هل يجوز أن تكون «تَذْكِرَةً» بدلاً من محل «لِتَشْقَى» ؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي (إلَاّ) إلا بمعنى (لكن) .

قال أبو حيان: يعني باختلاف الجنسين أن نصبه «تَذْكِرَةُ» نصبة صحيحة ليست بعارضة، والنصبة التي تكون في «لِتَشْقَى» بعد نزع الخافض نصبة عارضة، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه.

قال شهاب الدين: ليس مراد الزمخشري باختلاف الجنسين إلا ما نقل عن الفارسي رداً على الزجاج، وأي أثر لاختلاف النصبتين في ذلك.

الثالث: أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع أي: لَكِنْ أَنْزَلْنَا تَذْكِرَةً.

الرابع: أنه مصدر مؤكد لفاعل مقدر، أي: لكن ذكرنا، أو تذكرتَه أنت تذكرةً.

وقيل التقدير: مَا أنْزَلْنَا عَلَيكَ القرآن لتحملَ متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة، كما يقال:(مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الكلامَ لِتَتَأَذَّى إِلَاّ ليَعْتَبِر بكَ غَيْركَ) .

الخامس: أنه مصدر في موضع الحال، أي إلا مُذَكِّراً.

السادس: أنه بدل من القرآن، ويكون القرآن هو التذكرة. قاله الحوفي.

السابع: أنه مفعول له أيضاً، ولكن العامل فيه «لِتَشْقَى» ، ويكون المعنى كما قال

ص: 170

الزمخشري: إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآنَ لِتتحمَّلَ متاعب التبليغ، ومقاومة العتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم، وغير ذلك من أنواع المشاق، وتكاليف النبوة وما أنزلنا هذا الْمُتْعِب الشاق إلَاّ ليكون تَذْكِرَةً. وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون تَذْكِرَةً حالاً ومفعولاً له. انتهى.

فإن قيل: من أين أخذت أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أن العامل فيه «لِتَشْقَى» ، وما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال؟

فالجواب: أن هذا الوجه قد تقدَّم له في قوله: وكل واحد من «لِتَشْقَى» ، و «تَذْكِرَةً» علة للفعل، وأيضاً فإن تفسيره للمعنى المذكور منصَبٌّ على تسلط «لِتَشْقَى» على «تَذْكِرَةً» إلا أنَّ أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل «لِتَشْقَى» في «تَذْكِرَةً» ، فقال: ولا يصح أن يعمل فيها «لِتَشْقَى» لفساد المعنى وجوابه: ما تقدَّم.

(ولا غرو في تسمية التعب شقاءً)، قال الزمخشري: والشقاء يجيء في معنى التعب، ومنه المثل: أتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ، وأشْقَى من رائضِ مُهْرٍ.

و «لِمَنْ يَخْشَى» متصل ب «تَذْكِرَةًُ» وزيدت اللام في المفعول، تقوية للعامل لكونه فعلاً. ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «تَذْكِرة» .

ص: 171

وخصَّ مَنْ يَخْشَى بالتذكر، لأنهم المنتفعون بها، كقوله:«هُدًى لِلْمُتَّقين» .

قوله: «تَنْزِيلاً» في نصبه أوجه:

أحدها: أن يكون بدلاً من «تَذْكِرَةً» إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً، لأن الشيء لا يعلِّلُ بنفسه، لأنه يصير التقدير: مَا أنْزَلْنَا القرآنَ إِلَاّ لِلتَّنْزِيل.

الثاني: أن ينتصب ب «نزل» مضمراً.

الثالث: أن ينتصب ب «أنْزَلْنَا» ، لأن معنى ما أنْزَلْنَا إلَاّ تذكرة: أنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً.

الرابع: أن ينتصب على المدح والاختصاص.

الخامس: أن ينتصب ب «يَخْشَى» مفعولاً به، أي أنزلناه للتذكرة لِمَنْ يَخْشَى تنزيلَ الله، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن. قال أبو حيان: والأحسن ما قدَّمناه أولاً من أنَّه منصوب ب «نَزَل» مضمرةً، وما ذكره الزمخشري من نصبه على غيره فمتكلف: أما الأول ففيه جعل «تَذْكِرَةً» و «تَنْزِيلاً» حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس. وأيضاً فمدلول «تَذْكِرَةً» ليس مدلولاً «تَنْزِيلاً» ، ولا «تَنْزِيلاً» بعض «تّذْكِرَةً» فإن كان بدلاً فيكون بدلَ

ص: 172

اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة، وغيرها. وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنْزَلناهُ تَذْكِرَةً، فليس كذلك، لأن معنى الحصر يفوت في قوله: «أنزلناه تذكرةً. وأما نصبه على المدح فبعيد.

وأمَّا نصبه على» يَخشَى «ففي غاية البُعد، لأن» يَخْشَى «رأس آية وفاصلة فلا يناسب أن يكون» تَنْزِيلاً «منصوباً ب» يَخْشَى «، وقوله: وهو معنى حسن وإعراب بيِّن عجمة وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة. قال شهاب الدين: ويكفيه رد الشيء الواضح من غير دليل ونسبة هذا الرجل إلى عدم الفصاحة ووجود العجمة.

قوله:» مِمَّنْ خَلَقَ «. يجوز في (مِنْ) أن يتعلق ب» تَنْزِيلاً «، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل» تَنْزِيلاً «.

وفي» خَلَقَ « (التفات) من تكلُّم في قوله:» مَا أنْزَلْنَا «إلى الغيبة وجوز الزمخشري أن يكون» مَا أنْزَلْنَا «حكاية لكلام جبريل عليه السلام وبعض الملائكة فلا التفات على هذا.

قوله:» العُلَى «جمع عُلْيَا، نحو دُنْيَا ودُنًى، ونظيره في الصحيح كُبْرَى وَكُبَر،

ص: 173

وفُضْلَى وفُضَل، يقال سماء عُلْيَا وسموات عُلَى.

ومعنى الآية: «تَنْزِيلاً مَمَّنْ خَلَقَ» أي: (مِنَ الله الذي خلق الأرضَ والسَّمَواتِ العُلَى) يعني العالية الرفيعة.

وفائدة وصف السَّوات بالعُلَى: الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها (وبعد مرتقاها) .

قوله: «الرَّحْمنُ» العامة على رفعه، وفيه أوجه:

أحدها: أنه بدل من الضمير المستكن في «خَلَقَ» ذكره ابن عطية، ورده أبو حيان بأن البدل يحل محل المبدل منه، ولو حل محله لم يجز لخلو الجملة الموصولة بها من رابط يربطها.

الثاني: أن يرتفع على الابتداء مشاراً إلى «مَنْ خَلَقَ» والجملة بعده خبر. وقرأ جناح بن حُبَيش: «الرَّحْمنِ» مجروراً، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه بدل من الموصول. لا يقال: إنه يؤدي إلى البدل بالمشتق وهو قليل، لأن (الرحمن) يجري مجرى الجوامد لكثرة إيلائه العوامل.

ص: 174

والثاني: أن يكون صفة للموصول أيضاً.

قال أبو حيان: ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص ك «مَنْ» و «مَا» لا يوصف منها إلَاّ الذي وحده، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون صفة. قال ذلك كالراد على الزمخشري.

والجملة في قوله: «عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى» خَبَر لقوله «الرَّحْمنُ» على القول: بأنه مبتدأ، أو خبر مبتدأ مضمر، إن قيل: إنه مرفوع على خبر مبتدأ مضمر، وكذلك في قراءة مَنْ جرَّه. وفاعل «اسْتَوَى» ضمير يعود على «الرَّحْمنُ» .

وقيل: بل فاعله «مَا» الموصولة بعده، أي: استوى الذي له ما في السموات قال أبو البقاء: وقال بعضُ الغلاةِ: «مَا» فاعل «اسْتَوَى» ، وهذا بعيد، ثم هو غير نافع له في التأويل، إذ يبقى قوله:«الرَّحْمنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوَى» كلاماً تامّاً ومنه هرب.

قال شهابُ الدين: هذا يُروى عن ابن عبَّاس، وأنَّه كان يقفُ على لفظ «العَرْشِ» ثم يبتدئ ب «اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ» ، وهذا لا يصح عنه.

قوله: الثَّرَى: هو التراب النَّدِي، ولامه ياء بدليل تثنيته على ثَرَيَيْن وقولهم: ثَرِيَتْ الرضُ تَثْرَى ثَرًى. والثَّرَى في انقطاع المودة، قال جرير:

3640 -

فَلَا تَنْبِشُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى

فَإنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي

ص: 175

والثَّراء بِالمَد: كثرة المال، قال:

3641 -

أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى

إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ

وَما أَحسن قولَ ابن دُرَيد في قصيدته التي جمع فيها بن الممدود والمقصور باختلاف معنى.

فصل

قال المفسرون: معنى «لَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ» لما شرح ملكه بقوله: «الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى» ، والملك لا ينتظم إلا بالقدوة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم.

أما القدرة فهي هذه الآية، والمعنى: أنه تعالى مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من مَلَكٍ ونَجْم وغيرهما، ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات، ومالك لما بينهما من الهواء، ومالك لما تحت الثرى. قال الضحاك:

ص: 176

يعني ما روى الثرى من شيء.

وقال ابن عباس: إن الأَرضينَ على ظهر النون، والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش، والبحر على صخرة خضراء اخضرت السموات منها. وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان «فَتَطُنْ فِي صَخْرَةٍ» ، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، و «مَا تَحْتَ الثَّرَى» لا يعلمه إلا الله تعالى. وذلك الثور فاتح فاه، فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوف الثور فإذا وقعت في جوفه يبست.

وأما العلم فقوله: «وَإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ الشِّرَّ وَأَخْفَى» قال الحسن السر: ما أسر الرجل إلى غيره، وأخفى من ذلك ما أسر في نفسه. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: السر ما تسر في نفسك، وأخفى من السر: ما يلقيه الله في قلبك من بعد، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسَك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم اليوم ولا تعلم ما تسر إذا، والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غدا.

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: السِّرُّ ما أٍر ابن آدم في نفسه، وأخفى: ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه.

وقل مجاهد: السِّرُّ العمل الذي يُسِرُّ من الناس وأخفى: الوسوسة وقيل: السِّرُّ هو العزيمة (وأخفى: ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه. وقال زيد بن أسلم: «يَعْلَمُ السِّرَّ» وأخْفَى «أي: يعلم أسرار العباد، وأخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد.

قوله:» وَأخْفَى «جوزوا فيه وجهين:

أحدهما: أنه أفعل تفضيل، أي: وأخفى من السر.

ص: 177

والثاني: أنه فعل ماض، أي: وأخفى عن عباده غيبه كقوله:» وَلَا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً «.

قوله:» اللهُ لَا إلهَ إِلَاّ هُوَ «الجلالة إما مبتدأ والجملة المنفية خبرها، وإما خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الله. والحسنى تأنيثُ الحسنِ، وقد تقدم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.

ولما ذكر صفاته وحَّدَ نَفْسَه فقال:» اللهُ لَا إلهَ إلَاّ هوَ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى «.

فصل

قالوا: كلمة» لا «ههنا دخلت على الماهية، فانتفت الماهية، وإذا انتفت الماهية تنتفي كل أفرادها. وإنما» اللهُ «اسم علم للذات المعينة، إذ لو كان كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد.

وقالوا:» لَا «استحقت عمل» إِنَّ «لمشابهتها لها من وجهين:

الأول: ملازمة الأسماء.

والآخر: تناقضهما. فإن أحدهما لتأكيد الثبوت، والآخر لتأكيد النفي، ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم، وإذا كان كذلك، فنقول: لمَّا قالوا: إنَّ زيداً ذاهبٌ كان يجب أن يقولوا: (لا رجلاً ذاهب) إلَاّ أنهم بنوا «لا» مع ما دخل عليه من الاسم مفرداً واحداً فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توقيفاً

ص: 178

بين الدليل الموجب للإعراب، والدليل الموجب للبناء. وخبره محذوف تقديره: لَا إِله في الوجود، ولا حول ولا قوةَ لنا، وهذا يدل على أن الوجود زائدة على الماهية. فإن قيل: تصور الثبوت مقدم على تصور السلب، فإنَّ السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره، فكيف قدم هنا السلب على الثبوت؟

فالجواب: لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه.

فصل

ينبغي لأهل لَا إله إلَاّ الله أنْ يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إلهَ إلا الله: التصديق، والتعظيم والحلاوة والحرية، فمن ليس له التصديق فهو منافق، ومَن

ص: 179

ليس له التعظيم فهو مبتدع، ومَن ليس له الحلاوة فهو من مراء ومَنْ ليس له الحرية فهو فاجر.

فصل

(قال بعضهم) قوله تعالى: «ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» أنَّه لا إله إلَاّ الله. «إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ» لا إله إلَاّ الله «وَتَواصُّوْا بالحَقِّ» لا إله إلَاّ الله. «قُلْ إنَّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ» بلا إله إلَاّ الله. «وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئولُون» عن قول لا إله إلَاّ الله. «بَلْ جَاءَ بالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِين» هو لا إله إلَاّ الله. «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ فشي الحَيَاةِ الدُّنْيَا» هو لَا إله إلَاّ الله. «وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمينَ» عن قول: لا إله إلَاّ الله.

فصل

قال عليه السلام: «أفضل الذكر لَا إله إلَاّ الله، وأفضل الدعاء أستغفر الله» ، ثمّ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«فاعْلَم أنَّه لا إلهُ إلَاّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ» وقال عليه السلام: «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ مَلَكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول: أشهد أن لا إله إلَاّ الله مادًّا بها صوته لا يقطعها، ولا يتنفس

ص: 180

فيها، ولا يتمها، فإذَا أتمَّها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله تعالى» .

وعن أنس قال عليه السلام: «ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني، وأشفع إليه ويشفعني، حتى قلت: يا رب فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي، لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله»

وقال سفيان الثوري: سألت جعفر بن محمد عن «حم عسق» فقال: الحاء حُكمه، والميم ملكه، والعين عظمته، والسين سناؤُه والقاف قدرتُه، يقول الله عز وجل: بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي ولا قدرتي لا أعذب بالنار من قال: لَا إله إلَاّ الله محمد رسول الله.

وعن ابن عرم قال عليه السلام: «من قال في الشوق: لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ لهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيي ويُميتُ وَهُوَ حيٌّ لا يَمُوتُ بيدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قدِير، كَتَبَ الله لهُ أَلفَ حَسَنةٍ ومَحَا عَنْهُ ألفَ سيئةٍ وبَنَى لَهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ»

وروي عن موسى بن عمران عليه السلام قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال: قل: لا إله إلَاّ الله، قال: كل عبادك يقول: لا إله إلَاّ الله. فقال: قل: لا إله إلَاّ الله. قال: إنما أردت شيئاً تخصني به. قال يا موسى: لو أن السموات السبع ومن فوقهن في كفة ولا إله إلَاّ الله في كفة لماتْ بهِنَّ لَا إله إلَاّ الله.

فصل

قيل: إنَّ الله تعالى أربعة آلاف اسم لا يعلمها إلا الله والأنبياء أما الألف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها، فثلثمائة في التوراة، وثلثمائة في الإنجيل، وثلثمائة في الزبور ومائة في القرآنه تسعة وتسعون ظاهرة وواحد مكنون فمن أحصاها دخل الجنة.

ص: 181

واعلم أن الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناءً ومدحاً، كقوله: جاعل، وفالق، وصانع. فإذا قيل:«فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً» صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قُرِنَ بغيره أبلغ نحو قولنا: حيّ، فإذا قيل: الحَيُّ القَيُّومُ، أو الحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ. كان أبلغ. وأيضاً بديع. فإذن قلت: بَديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ازداد المدح.

ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده، كقولنا: دَلِيلٌ، وكَاشِفٌ، فإذا قيل: يا دليلَ المتحيرين، يا كاشفَ الضُرِّ والبلوى جاز.

ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً ومقروناً كقولنا: الرَّحيم الكريمُ (ومن الأسماء ما يكون تقارنُها أحسنَ كقولك: الأول الآخر، المبدئ المعيد، الظاهر الباطن، العزيز الحكيم) .

ص: 182

قوله تعالى: {وَهَلْ أتَاكَ حَديثُ مُوسَى: إذْ رَأَى نَاراً}

الآية: لما عظم حال القرآن، وحال الرسول عليه السلام بما كلَّفه أتبع ذلك بما يقوي قلبَ رسوله من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ، كقوله تعالى:{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] . وبدأ بموسى لأن فتنته كانت أعظم «ليتسلَّى قلبُ الرسول عليه السلام بذلك، ويصبر على تحمل المكاره. قوله:» وَهَلْ أتَاكَ «يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى فقال:» وَهَلْ أتَاكَ «أي لم يأتك إلى الآن) وقد أتاك الآن فتنبه له، وهذا قول الكلبي. ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال: أليس قد أتاك، وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس، وهذا وإن كان

ص: 182

على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله على لكن المقصود منه تقرير الخبر في قلبه، وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك: هَلْ بلغكَ عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمي إليه، ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قِبَل موسى لا من قِبَل الله (تعالى) .

قوله:» إذْ رَأَى «يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينتصب ب (اذكر) مقدراً قاله أبو البقاء. أو بمحذوف بعده، أي إذا رأى ناراً كان كيت وكيت كما قاله الزمخشري. و» هَلْ «على بابها من كونها استفهام تقرير. وقيل: بمعنى قد. وقيل: بمعنى النفي. وقرأ» لإِهْلِهُ امْكُثُوا «بضم الهاء حمزة، وقد تقدم أنه الأصل وهو لغة الحجاز.

وقاله أبو البقاء: إن الضم (للإتباع) .

قوله:» آنَسْتُ «أي أبصرت، والإيناس: الإبصار والتبيُّن ومنه إنسان العين، لأنه يبصر به الأشياء، والإنس لظهورهم كما قيل: الجن لاستتارهم. وقيل: هو الوجدان. وقيل: هو الإحساس فهو أعم من الإبصار. وأنشدوا للحارث بن حلزة:

ص: 183

3642 -

آنَسْتُ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُن

نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ

والقَبَس: الجَذْوَةُ من النار، وهي الشعلة في رأس عود أو قصبة ونحوها وهو فعلٌ بمعنى مفعول كالقَبَض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنفوض. ويقال: إن فعل وأَفْعَل يقالان في المعنيين فيقال: قَبَسْتُه ناراً وعِلماً وأَقْبَستُهُ أيضاً (ناراً وعلماً) وقوله:» مِنْهَا «يجوز أن يتعلق (ب» آتِيكُمْ «أو) بمحذوف على أنه حال من» قَبَس «وأما بعضهم ألف» هُدًى «وقفاً، والجيد أن لا تُمال، لأن الأشهر أنها بدل من التنوين.

فصل

قال المفسرون: استأذن موسى شعيباً في الرجوع من مَدْيَنَ إلى مصر لزيارة

ص: 184

والدته وأخته، فأذن له، فخرج بأهله، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام.

فولدت امرأته في ليلة شاتية، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، فقدح زنده فلم يورِهِ، فبينما هو في مزاولة ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور.

قال السُّدي: فظن أنها نارٌ من نيران الرعاة.

وقال آخرون: إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك. وقال بعضهم: الذي رآه لم يكن ناراً (بل تخيله ناراً) والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء. قيل: النار أربعة أقسام:

نارٌ تأكل ولا تشرب، وهي نار الدنيا. ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى:{جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً} [يس: 80] .

ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة. ونارٌ لا تأكل ولا تشرب، وهي نار موسى عليه السلام.

وقيل أيضاً: النار أربعة: أحدها: نارٌ لها نور بلا حرقة، وهي نار موسى عليه السلام.

ونارٌ لها حرقة بلا نور، وهي نار جهنم. ونارٌ لها حرقة ونور، وهي نار الدنيا. ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار. فلما أبصر النار «قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا» يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة وولدها والخادم.

ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً، أي: أقيموا في مكانكم. «إنِّي آنَسْتُ نَاراً» . أي أبصرتُ ناراً، والإيناس: الإبصار وقيل: إبصار ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس - وكان منتفياً - حقيقة لهم أتى بكلمة «إنِّي» ليوطن أنفسهم. ولما كان

ص: 185

الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع، فقال:«لَعَلِّي» ولم يقطع فيقول: إنِّي آتيكُمْ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به، والنكتة فيه أن قوماً قالوا: كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو محال، لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز فلم يقل: إِنِّي آتِيكُمْ، بل قال «لَعَلِّي آتِيكُمْ» . والقَبَسُ: النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما. «أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى» أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر، فكأنه قال: أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة.

ومعنى الاستعلاء على النار « (أنَّ أهلَ النارِ) يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا مشرفين عليها، فكأنه قال: أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي.» فَلَمَّا أتَاهَا «أي النار، قال ابن عباس: رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتّقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغير خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار.

قال ابن مسعود: كانت الشجرة سمرة خضراء.

وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت من العَوْسَج.

وقال وهب: كانت من العُلِّيْق. وقيل: كانت من العِنَّاب.

قال أكثر المفسرين: إنَّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان نورَ الربِّ (تبارك

ص: 186

وَتَعالى) ذُكِرَ بلفظ النار، لأن موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دَنَا مِنْهَا سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً.

قال وهب: ظن موسى أنها نار أوقدت، فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده، فتأخر عنها وهابَها، ثم لم تزل تطعمه، ويطمع فيها، ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها، فإذا خضرتها ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك وضع يديه على عينيه، فنودي يا موسى.

قال القاضي: الذي يروى من أن الزند ما كان يروى فجائز، وما رُوِي من أن النار كانت تتأخر عنه، فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممنوع إلَاّ أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء، لأن قوله:«وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى» دليل على أنه إنما أوحي إليه في هذه الحالة، وجعله نبيًّا. وعلى هذا يبعدُ ما ذكروه من تأخر النار عنه وبيَّنَ فسادَ ذلك، قوله تعالى:«فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ» ولو كانت تتأخر عنه حالاً بعد حالٍ لَمَا صحَّ ذلك، ولَمَا بقي لفاء التعقيب.

قوله: «نودي: القائم مقام الفاعل ضمير موسى.

وقيل: ضميرُ المصدر، أي نُودِي النداء، وهو ضعيف. ومنعُوا أنْ يكون القائم مقامه الجملة من» يا مُوسَى «، لأن الجملَةَ لا تكونُ فاعلاً.

ص: 187

قوله: «إِنِّي» قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح على تقدير الباء أي: بأِنِّي، لأن النداء يوصل بها. تقول: ناديتُه بكذا، وأنشد الفارسيُّ قول الشاعر:

3643 -

نَادَيْتُ باسْمِ رَبيعَةَ بنِ مُكْدَّمٍ

إنَّ المُنَوَّه باسْمِهِ المَوْثُوقُ

وجوز ابن عطية أن تكون بمعنى: لأجل، وليس بظاهر. والباقون بالكسر إمَّا على إضمار القول عند الكوفيين. وقوله:«أَنَّا» يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبر والجملة خبر (إنَّ) ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب. ويجوز أن يكون (فصلاً) .

ص: 188

فصل

قال المفسرون: لمَّا نُودِي يَا مُوسَى أجاب سريعاً ما يدري من دعاه، فقال: إنِّي أسمع صوتك ولا أرَى مكانَك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقَكَ، وَعَكَ، وأمَامَكَ، وخلفَكَ، وأقربُ إليكَ منْ نفسِك. فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا الله عز وجل فأيقن به. «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» روى ابن مسعود مرفوعاً في قوله:«اخْلَعْ نَعْلَيْكَ» قيل: كانَتَا من جلد حمار ميت. ويروى غير مدبوغ.

وقال عكرمة ومجاهد: ليباشر بقَدَمَيْه تراب الأرض المقدسة، فيناله بركتها، لأنه قُدِّسَتْ مرتين، فخلعهما وأَلقاهُما من وراء الوادي.

قيل: إنه عرف أن المنادي هو الله تعالى، لأنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن الخُضْرة ما كانت تطفئ تلك النار، وتلك النار ما كانت تنضر بتلك الخُضْرة، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.

قوله: «طُوَى» قرأ الكوفيون وابنُ عامر «طُوًى» بضم الطاء والتنوين.

وقرأ الباقون: بضمها من غير تنوين.

وقرأ الأعمش والحسن وأبو حيوة وابن محيصن بكسر الطاء منوناً، وأبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون.

فمن ضمَّ ونوَّنَ فإنه صرف: لأنَّه أوَّله بالمكان. ومن منعه فيحتمل أوجهاً:

أحدها: أنه منعه للتأنيث باعتبار والعلمية.

ص: 189

الثاني: أنَّه منعه للعدل إلى فُعَل، وإن لم يعرف اللفظ المعدول عنه وجعله كُعَمر وزُفَر.

الثالث: أنه اسم أعجميٌّ فمَنْعُهُ للعلمية والعجمة. ومن كَسَر ولم يُنوّن فباعتبار البقعة أيضاً. فإن كان اسماً فهو نظير عِنَب، وإن كان صفة فهو نظير عِدَى وسِوَى. ومن نَوَّنه فباعتبار المكان.

وعن الحسن البصري: أنه بمعنى الثناء بالكسر والقصر، والثناء المتكرر مرتين فيكون معنى هذه القراءة: أنه طهر مرتين، فيكن مصدراً منصوباً بلفظ (المقدس) ، لأنه بمعناه، كأنه قيل: المقدس مرتين من التقديس.

وقرأ عيسى بن عمر والضَّحَّاك «طَاوِيْ اذْهِب» . وطُوَى: إما بدل من

ص: 190

الوادي أو عطف بيان له. أو مرفوع على إضمار مبتدأ، أو منصوب على إضمار أعْنِي.

فصل

استدلت المعتزلة بقوله: «اخْلَعْ نَعْلَيْكَ» على أن كلام الله تعالى ليس بقديم، إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى: اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى، ومعلوم أن ذلك سفه، فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا يزيد افعل، ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين يعد ذلك جنوناً وسفهاُ.

فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى؟ وأجيب عن ذلك بوجهين:

الأول: أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً.

الثاني: أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء، كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة، فكذا ههنا، وهذا كلام فيه غموض وبحث دقيق.

فصل

قال بعضهم: في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل، والصحيح عدم الكراهة، لأنا عللنا الأمر بخلع النعلين لتعظيم الوادي، وتعظيم كلام الله تعالى كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة.

وإن عللناه بأن النعليْن كانتا من جلد حمار ميِّت، فجائز أن يكون محظوراً لبس جلد الحمار الميت، وإن كان مدبوغاً، فإنْ كان ذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام:«أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ طَهُرَ» «وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم َ - في نعليْه ثم خلعهما في الصلاة،

ص: 191

فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: خلعتَ فخلعنا قال:» فإنَّ جِبريلَ عليه السلام أخبرَنِي أنَّ فيهِمَا قذراً «فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم َ الصلاة في النعل، وأنكر على الخالعين خلعها، وأخبرهم أنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر.

فصل

قال عكرمة وابن زيد: طُوَى: اسم للوادي.

قال الضَّحاك: طُوَى: واد مستدير عميق الطويّ في استدارته.

وقيل: طُوَى معناه مرتين نحو ثنى. أي: قدِّس الوادي مرتين أي: نُودِيَ موسَى نِدَاءَيْن يقال: ناديته طُوًى أي: مثنى. وقيل: طُوى أي؛ طيًّا. قال ابن عباس: إنه مرَّ بذلك الوادي ليلاً فطواه، فكان المعنى بالوادي الذي طويته طيًّا أي: قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه، ومن ذهب إلى هذا قال: طُوًى مصدر أخرج عن لفظه كأنه قال: طويتُه أطوِي طُوًى كما يقال: هدى يهدي هُدًى.

ص: 192

قوله تعالى: «وَأنَا اخْتَرْتُكَ» أي للرسالة والكلام.

قرأ حمزة «وَ» أنَّا اخْتَرْنَاكَ «بفتح الهمزة فضمير المتكلم المعظم نفسه.

وقرأ السلمي والأعمش وابن هرمز كذلك إلا أنهم كسروا الهمزة.

والباقون:» وَأنَا اخْتَرْتُكَ «بضمير المتكلم وحده. وقرئ» أَنِّي اخْتَرْتُكَ «بفتح الهمزة.

ص: 192

فأما قراءة حمزة فعطف على قوله» أنِّي رَبُّكَ أَنَا رَبُّكَ «وذلك أنه يفتح الهمزة هناك ففعل ذلك لما عطف غيرها عليها. وجوز أبو البقاء أن يكون الفتح على تقدير: وَلأنّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ، فعلقه باسْتَمِعْ. والأول أولى.

ومن كسرها فلأنه يقرأ» إنِّي أنَا رَبُّكَ «بالكسر. وقراءة أُبي كقراءة حمزة بالنسبة للعطف. ومفعول» اخْتَرْتُكَ «الثاني محذوف، أي اخترتك من قومك.

قوله:» لِمَا يُوحَى «الظاهر تعلقه ب» اسْتَمِع «ويجوز أن تكونَ اللام مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى» رَدِفَ لَكُمْ «وجوَّز الزمخشري وغيره أن تكون المسألة من باب التنازع بين» اخْتَرْتُكَ «وبين» اسْتَمِعْ «كأنه قيل:» اخْتَرْتُكَ لِمَا يُوحَى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى «. قال الزمخشري: فعلق اللام باسْتَمِعْ أو باخْتَرْتُكَ وقد رد أبو حيان هذا بأن قال: ولا يجوز التعليق باخْتَرْتُكَ لأنه من باب الإعمال فكان يجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون: فاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى، فدل على أنه من باب إعمال الثاني.

قال شهاب الدين: والزمخشري عنى التعليق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يَعْنِهِ.

(و» ما «) يجوز أن تكون مصدرية وبمعنى الذي، أي فاسْتَمِعْ للوحي أو للذي يوحى) .

فصل

هذهالآية تدل على النبوة لا تحصل بالاستحقاق، لأن قوله:» وَأَنَا اخْتَرْتُكَ «يدل

ص: 193

على أن ذلك المنصب العالي إنما حَصَل لأنه تعالى اختاره له ابتداء لا أنه يستحقه على الله تعالى.

وقوله:» فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى «أي: إليك فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه قال: لَقَدْ جَاءَك أمْرٌ فتأهَّبْ له، واجعَلْ كلَّ عقلك وخاطرِك مصروفاً إليه.

ثم قال:» إنَّنِي أَنَا لَا إلَه إلَا أَنَأ فَأعْبُدْنِي «ولا تعبد غيري، وهذا يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع: لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع.

وأيضاً فالفاء في قوله:» فَاعْبُدْنِي «تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهِيَّتِهِ.

فصل

احتجُّوا بهذه الآية على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة من وجهين:

الأولك أنه تعالى بعد أن أمره بالتوحيد أمره بالعبادة، ولم يذكر كيفية العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان.

الثاني: أنه قال:» أَقِم الصَّلَاةَ لِذِكْرِي «ولم يبين كيفية الصلاة.

قال القاضي: لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة إلى تعبُّدَ الله تعالى - بها شُعَيْباً عليه السلام وغيره من الأنبياء، فتوجه الخطاب إلى ذلك، ويحتمل أنه تعالى بيَّن له في الحال، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فه إلا هذا القول.

وأجيب عن الأول: بأنه لا يتوجه في قوله تعالى: «فَاعْبُدْنِي» وأيضاً فحَمْلُ مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم، لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام، فلو حملنا قوله:«وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي» على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت فائدة زائدة. وقوله: لعلَّ

ص: 194

اللهَ بيَّنه في ذلك الموضع، وإن لم يحكه في القرآن قلنا: لا شك أن البيان (أكثر فائدة) من المجمل، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية.

قوله: «لِذِكْرِي» يجوز أن يكون المصدرُ مضافاً لفاعله، أي: لأنِّي ذكرتُها في الكتب، أو لأني أذكرك. (ويجوز أن يكون مضافاً لمفعوله، أي: لأنْ تَذْكُرْنِي) وقل: معناه ذكر الصَّلاة بعد نسيانها، لقوله عليه السلام:«مَنْ أقَامَ عَنْ صَلَاةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» .

قال الزمخشري: وكان حق العبارة لِذِكْرِهَا ثم قال: ومَنْ يَتمحّل له أن يقول إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله أو على حذف مضاف أي لِذِكِر صلاتي، أو لأن الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة وقرأ أبو رجاء والسلمي «لِلْذِكْرَى» بلام التعريف وألف التأنيث. وبعضهم:«لِذِكْرِي» منكَّرة وبعضهم: «لِلْذِّكْرِ» بالتعريف والتذكير.

فصل

ذكرُوا في قوله تعالى: «لِذِكْرِي» وجوهاً:

أحدها: لِذِكْرِي بمعنى لِتَذْكُرَنِي، فإنَّ ذِكْرِي أنْ أُعْبَدَ ويُصَلَّى لِي.

والثاني: لتَذْكُرني منها لاشتمال الصلاة على الأذكار؛ وعن مجاهد.

ص: 195

وثالثها: لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها.

ورابعها: لأن أَذْكُرَك بالمدح والثناء.

وخامسها: لِذِكْرِي خاصة لا يشوبه ذكرُ غيري.

وسادسها: لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين، كقوله:{لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] .

وسابعها: لأوقات ذِكْرِي، وهي مواقيت الصلاة، لقوله:{إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] .

وثامنها: أقِم الصَّلاة حين تذكرها أي: إنَّكَ إذَا نسيتَ صلاةً فاقْضها إذا ذكرتَها، قال عليه السلام:«مَنْ نَسِيَ صَلَاةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ولَا كَفَّارَةَ لهَا إلَاّ ذلِك» ثم قرأ «أقِم الصَّلَاةَ (لِذِكْرِي) . قال الخطَّابي هذا الحديث يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يكفرها غير قضائها.

والآخر: أنه لا يلزمه فغي نسيانها غرامة، ولا كفارة، كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر، وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً فدية من دم أو طعام إنما يصلّي ما ترك فقط.

فإن قيل: حق العبادة أن يقول: صَلِّ الصَّلاةَ لذكرِها، كما قال عليه السلام:«إذَا ذَكَرَهَا»

فالجواب: قوله: «لِذِكْرِي» معناه: للذِّكْر الحاصل بِخَلْقِي. أو بتقدير حذف مضاف أي: لذكر صلاتي.

(فصل)

لو فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء، فلو ترك الترتيب في

ص: 196

قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله، ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة، فإن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز، وأن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فاتت صلاة الوقت فيجب البداءة بصلاة الوقت لئلا تفوت الأخرى. ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمّها ثم قضى الفائتة. ويستحبّ أن يعيد صلاة الوقت بعدها، ولا يجب. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم الجمعة حتى قال: ولو تذكر في صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت، فيقضي الفائتى، ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيِّقاً فلا يبطل، واستدل بالآية والخبر والقياس والأثر. أما الآية فقوله تعالى:{أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس، فالمعنى: أَقِم الصَّلَاةَ عِنْدَ تَذْكرها، وذلك يقتضي وجوب الترتيب. وأما الخبر فقوله عليه السلام:«مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها» والفاء للتعقيب. وروي في الصحيحين «أنَّ عُمَرَ بن الخطاب جاء إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم َ - يومَ الخندق فجعَلَ يَسُبُّ كفارَ قريش ويقول: والله يا رسول الله ما صلَّيْتُ العصرَ حتَّى كادت الشَّمْسُ تغربَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» وَأنَا والله ما صلَّيْتُهَا بعد «قال: فنزل إلى بُطْحَان فَصلى العصرَ (بَعْدَ ما غَرَبَت الشمسُ) ثم صلى بعدها المغرب» والاستدلال به من وجهين:

أحدهما: أنه قال: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» وقد صلى الفوائت على الولاء فيجب علينا اتباعه.

ص: 197

والثاني: أن فعلَ النبي صلى الله عليه وسلم َ - إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة، وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله:«أَقِيمُوا الصَّلاةَ» ولهذا قالوا: إن الفوائت إذا كانت قليلة يجب مراعاة الترتيب فيها، فإذا كثرت سقط الترتيب للمشقة. وأما الأثر: فرُوِي عن ابن عمر أنه قال: «مَنْ فاتَهُ صلاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلا في صَلاةِ الإمام فليمض في صلاته، فإذَا قَضَى صلاتَه مع الإمَام يُصَلِّي ما فاته، ثم ليعُد التي صلاها مع الإمام» وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ.

وأما القياس: فإنهما صلاتا فرض جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة، فأشبهتا صلاتي عرفةٍ والمزدلفة، فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما، وجي أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك.

واحتج الشافعي رحمه الله بما روى أبو قتادة: «أنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلَاةِ الفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم َ أَنْ يقُودُوا رَوَاحِلَهُم ثُمَّ صَلَاّهَا» ولو كان وقت التذكير معيناً للصلاة لما جاز ذلك، فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه، لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع، وإذا ثبت هذا فنقول: إيجاب قضاء الفوائت، وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين، فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء، ولأنه لو كان الترتيب واجباً في الفوائت لما سقط بالنسيان، ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيْم، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال (والعصر بعد الزوال) فإنه يعيدهما جميعاً، ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما

ص: 198

كان شرطاً فيهما، فها هنا أيضاً لو كلن الترتيب شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان.

ص: 199

قوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} .

(لمَّا خاطب موسى عليه السلام بقوله: «فَاعْبُدْنِي وَأَقِم الصَّلَاةَ لِذِكْرِي» أتبعُه بقوله: «إنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَها» ، وما أليق هذا بتأويل من تأوّل قوله:«لِذِكْرِي» أي لأذكرك بالإثابة والكرامة فقال عقيب ذلك «إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة، ثم قال:«أَكَادُ أُخْفِيَهَا» . العامة على ضم الهمزة من «أَخْفِيَها» .

وفيها تأويلات:

أحدها: أن الهمزة في «أُخْفِيهَا» للسلب والإزالة، أي: أزيل خفاءها نحو: أَعْجَمْتُ الكتابَ أي: أزلت عجمتَه، وأشكيتُه أي أزلت شكواه، ثم في ذلك معينان:

أحدهما: أن الخفاءَ بمعنى (الستر) ، ومتى أزال سترها فقد أظهرها، والمعنى: أنها لتحقّق وقوعها وقربها أكاد أظهرها لولا ما تقتضيه الحكمة من التأخير.

والثاني: أن الخفاءَ هو الظهور كما سيأتي، والمعنى: أزيل ظهورها، وإذا أزال ظهورها فقد استترت، والمعنى: أن لشدّة إبهامها أكادُ أخفيهَا فلا أظهرها ألبتة وإن كان لا بد من إظهارها، ولذلك يوجد في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ:«أَكَادُ أُخْفِيَهَا من نفسي فكيف أظهركم عليها» وهو على عادة العرب في المبالغة في الإخفاء، قال الشاعر:

3644 -

أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا

مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الخَبَرِ

ص: 199

وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه؟ قال القاضي: هذا بعيد، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار، وذلك مستحيل عليه تعالى، لأن كلَّ معلومٍ له، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل. ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير، بمعنى لو صح مني إخفاؤه عن نفس أخفيته عني، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه.

والتأويل الثاني: أن (كَادَ) زائدة قاله ابن جبير، وأنشد غيره شاهداً عليه قول زيد الخيل:

3645 -

سَريعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلَاحَهُ

فَمَا إنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ

وقول الآخر:

3646 -

وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي

وَأَنْ لَا أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ

ولا حجة في شيء منه.

ص: 200

والتأويل الثالث: أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة، قاله الأخفش وجماعة، وهو قول إبِي مسلم، فهو كقوله:«كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ» ومن أمثالهم المتداولة «لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ.

أي: لا أُريد أَنْ أفعله، وهذا) لا ينفع فيما قصدوه.

التأويل الرابع: أنَّ خبرها محذوف، تقديره: أكادُ آتِي بها لقُرْبِها، وأنشدوا قول ضابئ البرجمي:

3647 -

هَمسْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ وَلَيْتَنِي

تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلَائِلُهُ

أي: وكدت أفعل. فالوقف على» أَكَادُ «والابتداء ب» أُخْفِيَها «، واستحسنه أبو جعفر.

ص: 201

وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً: فقال: إنَّ (كادَ) نفيه إثبات وإثباته نفي، قال تعالى:» وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون «، أي: ففعلوا ذلك، فقوله:» أكَادَ أُخْفِيَها «يقتضي أنه ما أخفاها.

وذلك باطل لوجهين:

أحدهما: لقوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34]

الثاني: إنَّ قوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. ثم أجاب بوجوه: الأول: أنَّ «كَادَ» موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات، فقوله:«أَكَادُ أُخْفِيها» معناه: قرب الأمر فيه من الإخفاء. وأمَّا أنَّه هل حصل ذلك أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار.

الثاني: أنَّ «كَادَ» من الله: وجب، فمعنى قوله: أَكَادُ أُخْفِيَها «أي: أنا أُخْفِيها عن الخلق، كقوله:{عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء: 51] أي هو قريبٌ قاله الحسن. وذكر باقي التأويلات المتقدمة.

وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد:» أَخْفِيَها «بفتح الهمزة

ص: 202

والمعنى: أظهرها بالتأويل المتقدم، يقال: خَفَيْتُ الشيء: أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى. وحكى عن أبي عبيد أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أظْهَرَ وبمعنى سَتَرَ. وعلى هذا تتخذ (القراءتان) . ومن مجِئ خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرئ القيس:

3648 -

خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا

خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجْلِّبِ

(وقول الآخر:

3649 -

فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لَا نُخْفِهِ

وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ)

قال الزجاج: وهذه القراءة أبْيَنُ، لأن معناها: أكادُ أَظْهِرُها (فيفيد أنه قد أخفاها) . والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت: أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت قرب ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز. قوله:» لِتُجْزَى «هذه لام كي، وليست بمعنى

ص: 203

القسم أي: لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها. وجعلها بعضهم متعلقة ب (آتِيَةٌ) ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن» أكَادُ أُخْفِيِهَا «معترضة بين المتعلق والمتعلق به، أما إذا جعلتها صفة (آتِيَةٌ) فلا يتم على مذهب البصريين، لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز.

وقال أبو البقاء: وقيل: ب (آتِيَةٌ) ، ولذلك وقف بعضهم على ذلك وقفة يسيرة إيذاناً بانفصالها عن (أخفيها) .

قوله:» بِمَا تَسْعَى «متعلق ب» لِتُجْزَى «. و» مَا «يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية، ولا بد من مضاف، أي: لِتُجْزَى بعقاب سعيها، أو: بعقاب ما سعته.

فصل

لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، وهو المعنيُّ بقوله:

{أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] .

واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل، لأن (الباءَ) للإلصاق، فقوله:«بِمَا تَسْعَى» يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، لأن الآية صريحة في إثبات

ص: 204

سعي العبد، ولو كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة «.

قوله:» فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَاّ يُؤْمِنُ بِهَا «من لا يؤمن هو المنهي صورة، والمراد غيره، فهو من باب: لا أريَنَّك هَهُنَا. وقيل: إن صدَّ الكافرِين عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. والضميران في» عَنْهَا «و» بِهَا «للسَّاعة قاله ابن عباس: وذلك أنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة. وقيل: للصلاة.

وقال أبو مسلم: الضمير في (عَنْهَا) للصَّلاة، وفي (بِهَا) للسَّاعة، قال: وهذا جائز في اللغة، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه.

وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة (ههنا) .

قوله:» فَتَرْدَى «يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار» أَنْ) وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: فَأَنْتَ تَرْدَى.

وقرأ يحيى: «تَرْدَى» بكسر التاء، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال: رَدِيَ يَرْدَى رَدّى، قال دُرَيْد (بن الصمة) :

ص: 205

3650 -

تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِسَاً

فَقُلْتُ أَعْبُدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي

فصل

الخطابُ في قوله: «فَلَا يَصُدَّنَّكَ» يحتمل أن يكون مع موسى، وأن يكون مع محمد عليهما السلام. والأقرب أنه مع موسى عليه السلام، لأنَّ جميع الكلام خطاب له. وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج: إنَّه ليس بمراد وإنما أريد به غيره، وذلك لأنه ظن أن النبيَّ عليه السلام لما لم يجز عليه مع النُّبَوَّة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك، وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كانَ مكلَّفاً بأنْ لا يقبلَ الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به، (ويكون المراد) هو وغيره. ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله:«فَلا يَصُدنَّكَ عَنْهَا» النهي عن الميل إليهم ومقاربتهم.

فصل

المقصودُ نَهْيُ موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث، ولكن الظاهر اللفظ يقتضي نهيَ منْ لم يؤمن عن صدِّ موسَى عليه السلام وفيه وجهان:

أحدهما: أن صدَّ الكافر عن التصديق بها سببٌ للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. (ذلك أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرَّجُل في الدِّين، فذكر المسبب ليدل حمله على السبب) كقولهم: لَا أضرَيَنَّكَ هَهُنَا.

المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فهكذا ههنا، كأنه قيل: لا تكن رخواً بل كن في الدين شهيداً.

ص: 206

فصل

دلَّت الآية على وجوب تعلم علم الأصول، لأن قوله:«فَلَا يَصُدَّنَّكَ» يرجع معناه إلى صلابته في الدين، وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه عن المحق، فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل يكون هو متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانِهِ.

(فصل)

قوله: «فَلَا يَصُدَّنَّكَ» يدل على أن العبادَ هُمُ الذين يصدون، ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصَّاد دونهم، فدل ذلك على بطلان القول بالجبر. وأجيب بالمعارضة بمسألة العلم (والداعي) . ثم قال تعالى:«واتَّبَعَ هَوَاهُ» والمعنى أن منكر البعث إنَّما أنكره اتباعاً للهوى لا للدليل، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، لأن المقلّد متبعٌ للهوى (لا للحجة) ثم قال:«فَتَرْدَى» أي: فتهلك.

ص: 207

قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب} الآية. (مَا) مبتدأة استفهامية و «تِلْكَ) خبره، و» بِيَمِينِكَ «متعلق بمحذوف، لأنه حال كقوله:» وَهَذَا بَعْلِي شَيْخَاً «، والعامل

ص: 207

في الحال المقدرة معنى الإشارةَ وجوَّز الزمخشري أن تكون (تِلْكَ) موصولة بمعنى (التي) و (بِيَمِينِكَ) صلتها. ولم يذكر ابنُ عطية غيره. وهذا ليس مذهب البصريين أنهم لم يجعلوا (من أسماء) الإشارة موصولاً (إذَا) بشروط تقدمت. وأما الكوفيون فيجيزون ذلك جميعها، ومنه هذه الآية عندهم أي: وَمَا التي بيمينك وأنشدوا:

3651 -

نَجَوْتَ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ

أي والذي تحملين.

وقال الفراء معناه: وَمَا هذِهِ التي فِي يمينِكَ.

فصل

السؤال إنما يكون لطلب العلم، وهو على الله تعالى محال. فما فائدة قوله:» وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ «؟

ص: 208

والجواب فيه فوائد، الأولَى: حكمةُ هذا السؤال تنبيهُهُ وتَوْقيفُه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية عَلِمَ أنها معجزةٌ عظيمةٌ، وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره: هَلْ تَعْرِف هَذَا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه.

الثانية: أن يقرِّرُ عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافُها.

الثالثة: أنه تعالى لمَّا أراه الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسْمَعَهُ كلام نفسه، ثم أورد عليه التكليف الشاق، وذكر له المعاد، وختم ذلك بالتهديد العظيم، فتحيَّر موسى عليه السلام ودُهِشَ، (فقيل له:» وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ «، وتكلم معه بكلام البشر إزالةٌ لتلك الدهشة والحيرة) .

فصل هذا خطاب من الله مع موسى بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد عليه السلام فيلزم أن يكون موسى أفضَل من محمد عليهما السلام.

فالجوابُ: أنَّه تعالى كما خاطبَ موسَى فقد خاطب محمداً في قوله:» فَأَوْحَى إلَى عِبْدِهِ مَا أَوْحَى «إلا أن الفرق أنَّ الذي ذكره مع محمد كان سراً لم يستأهل له أحداً من الخلق. وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمةُ محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام:» المُصَلَّى يُنَاجَي رَبَّهُ «والرَّبُ يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله: {سَلَامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} قوله:» هِيَ عَصَايَ «هِيَ يعودُ على المستفهم عنه.

ص: 209

وقرأ العامة» عَصَايَ «بفتح الياء. والجَعْفَرِيّ وابنُ أبي إسحاق» عَصِيَّ «بالقلب والإدغام. وقد تقدَّم توجيه ذلك أوّل البقرة، ولِمَنْ تنسب هذه اللغة والشعر المروي في ذلك.

وروي عن أبي عمرو ابن أبي إسحاق أيضاً (والحسن» عِصَاي «بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وعن أبي إسحاق) » عِصَايْ «بسكونها وصلاً وقد فعل ذلك نافع مثل ذلك في» مَحْيَايَ «فجمع بين ساكنين وصلاً، وقد تقدم الكلام هناك.

قوله: «أَتَوَكَّأُ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً ل «هِيَ» ويجوز أنْ يكونَ حالاً إمَّا مِنْ «عَصَايَ» وإمَّا مِنْ «الياء» وفيه بُعدٌ، لأن مجيء الحال من المضاف إليه قليل، وله مع ذلك شروط ليس فيه شيء منها هنا.

ص: 210

ويجوز أن تكون مستأنفة. وجوَّز أبو البقاء نقلاً عن غيره: أن يكون «عَصَايَ» منصوبة بفعل مقدر، و «أَتَوَكَّأُ» هو الخبر. ولا ينبغي أن يقال ذلك.

والتَّوكّؤُ: التحامُلُ على الشيء، وهو بمعنى الاتِّكاء، وقد تقدم تفسيره في يوسف فهما من مادة واحدة، وذكر هنا، لاختلاف وزنيها.

والهَشُّ بالمعجمية: الخَبْطُ، يقال: هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّهُ أي: خبطته ليسقط، والمعنى: أَخْبِطُ بِهَا وَاَضْرِبُ أغصانَ الشجر ليسقط ورقُهَا على غنمي لتأكله وأما هَشَّ يَهِشُّ - بكسر العين في المضارع، فبمعنى البشاشة وقد قرأ النخعي بذلك، فقيل:

ص: 211

هو بمعنى: أَهُشُّ - بالضم - والمفعول محذوف في القراءتين أي: أهُشُّ الورقَ أو الشجرَ وقيل: هو في هذه القراءة من هَشَّ هشاشةً إذا مال. وقرأ وقرأ الحسن وعكرمة: «وأَهُسُّ» بضم الهاء والسين المهملة وهو السُّوْقُ، ومنه الهَسُّ (والهَسَّاسُ) وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه، ولكنه ضمَّن معنى ما يتعدى بعلى وهو أقوم (وَأَهْوَنُ) .

ونقل ابن خالوية عن النخعي أنه قرأ «وأُهِسُّ» بضم الهمزة وكسر الهاء من (أَهَسَّ) رباعياً بالمهملة. ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة، فيكون عنه قراءتان ونقل صاحب اللوائحِ عن مجاهد وعكرمة «وأهُشُ» بضم الهاء وتخفيف الشين، قال ولا أعرف لها وجهاً إلا أن يكون قد استثقل التضعيف مع تفشي الشين فخفف، وهي بمعنى قراءة العامة.

وقرأ بعضهم: «غَنَمِي» (بسكون النون)، وقرئ «عَلَيَّ» بتشديد الياء والمْآرِبُ: جمع مَأْرُبَة، وهي الحاجة وكذلك الإرْبَة أيضاً. وفي (راء) المَأرُبَة الحركات الثلاث.

ص: 212

وإنما قال: «مَآرِب» في معنى جماعة، فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى، ولم يقل أخر لرؤوس الآي (و «أُخْرَى» ) كقوله:«الأسْمَاءُ الحُسْنَى» وقد تقدَّم قريباً.

قال أبو البقاء: ولو قال: أخر لكان على اللفظ. يعني أُخَر كقوله: «فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر» بضم الهمزة وفتح الخاء واللفظ لفظ الجمع. ونقل الأهوازيّ عن شيبة والزهري: مَارِبُ «قال: بغير همز كذا أطلق والمراد بغير همز محقق بل مسهل بَيْنَ بَيْن وإلا فالحذف بالكلية شاذ.

فصل

قيل: كما قال:» هِيَ عَصَايَ «فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الآخر، لأنه كان يجب المكالمة مع ربه تعالى، فجعل ذلك كوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض.

»

ص: 213

أتَوكَّأُ عَلَيْهَا «التوَكُّؤْ والاتِّكَاءُ واحد كالتوقي والاتقاء، أي أعتمد عليها إذا عييت، أو وقفت على رأس القطيع» وأهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي «أي: أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على الغنم (فتأكله) .

«وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرَى» أي حوائج ومنافع، وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب، فيسمع كلام الله مرة أخرى، ويطول أمر المكالمة بسبب (ذلك) .

قال وهب: كانت ذا شعبتين (ومحجن، فإذا طلبَ ثمرَ الشجرة جناه بالمحجن، فإذا حاول كسره لواه بالشعبتين) . فإذا سارَ وضعهَا على عاتقه يعلق عليها أداته من القوس والكنانة والثياب، وإذا كان في البرية ركزها وألقى عليها كساء فكان ظلاً.

وقيل: كانَ فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطولُ طولَ البئر، وتصير شعبتاها دلواً، ويصيران شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت يابسة ويركزها فينبع الماء، وإذا رفعها نضب، وكان تقيه الهوام قال مقاتل: كان اسمها نبعة.

وروي عن ابن عبَّاس: أنها كانت تماشيه وتحدثه.

قال الله تعالى: «ألْقِهَا يَا مُوسَى» أي انبذها.

قال وهب ظن موسى أنه يقول أرفُضْهَا «فَألْقَاهَا» على وجه الأرض ثم ينظر إليها «فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى» صفراء أعظم ما تكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف

ص: 214

كعرف الفرَس، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً، صارت شدقين لها والمِحجن عنقاً يهتز، وعيناها متقدان كالنار، وتمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها، ويسمع لأسنانها (صريف عظيم) .

وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كُنْ فيكون.

فصل

والحكمة في قلب العصا حيَّةً في ذلك الوقت من وجوه:

أحدها: لتكون معجزةً لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه، لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء. والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا انه لم يكن معجزاً، لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن، فقلب العصا حيَّةً ليكون دليلاً قاهِراً على الممعجزة.

الثاني: أنه تعالى عرضَها عليه ليشاهدوها أولاً، فإذا شاهدها عند فرعون لا يخافها.

وثالثها: أنه كان راعياً فقيراً ثم نُصِّب للمِنْصبِ العظيمِ فلعله بقي يتعجب من ذلك، فقلب العصا حيَّةً تنبيًّا على أني لما قدرت على ذلك، فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين.

فإنْ قيل: كيف قال ههنا «حَيَّة» وفي موضع آخر «جَان» وهو الحية الخفية الصغيرة، وقال في موضع «ثُعْبَانٌ» وهو أكبر ما يكون من الحيات؟

فالجواب: أن الحيَّة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما

ص: 215

الجَانَّ فقيل: عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حيَّةً على قدر العصا ثم تورمت وتزايدت وانتفخت حتى صارت ثعباناً.

وقيل: كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10، القصص: 31] .

(و «تسعى» ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة ل «حَيَّةً» فلما عاين موسى ذلك «وَلَّى مُدْبِراً» ، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي:«خُذْهَا فَلَا تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا» (وهيبتها)«الأُولَى» أي نردها عصا كما كانت. قوله: «سِيرَتَهَا» في نصبها أوجه:

أحدها: أن تكون منصوبةً على الظرف، أي في سيرتها أي: طريقتها.

الثاني: أن تكونَ منصوبة على البدل من «ها» «سَنُعِيدُهَا» بدل اشتمال لأن السيرة الصفة، أي سنعيدها صفتها وشكلها.

الثالث: أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها.

قال الزمخشري: ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه، فيتعدى لمفعولين، ومنه بيت زهير:

3652 -

وَعَادَكَ أَنْ تُلَاقِيهَا عَدَاءُ

ص: 216

وهذا هو (معنى قول من قال: إنه على إسقاط (إلى) و) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة (في) إلا فيما (شذ. والسيرَةُ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة، قال خالد الهذلي:

3653 -

فَلَا تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا

فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا

وجوَّز أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر، أي: يسير سيرتها الأولى، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال؛ أي: سَنُعيدُهات سائرةً سيرتَهَا.

فإن قيل: لمَّا نوديَ يا موسَى، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا خاف؟ فالجواب من وجوه:

ص: 217

أحدها: أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط، وهذا معلوم بدلائل العقول. قال أبو القاسم الأنصاري: وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة.

وثانيها: خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها.

وثالثها: أن مجرد قوله «وَلَا تَخَفْ» لا يدل على حصول الخوف كقوله: {وَلَا تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1، 48] لا يدل على وجود تلك الطاعة، لكن قوله:{فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً} [النمل: 10، القصص: 31] يدل عليه.

فصل

قال المفسرون: كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان. فلما قال له: «خُذْهَا» لف طرف المَدْرَعَةِ على يده، فأمره الله أن يكشف يده، فكشف. وقيل: إن مَلَكاً قال: أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً؟ فقال: لا ولكني ضعيف، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ، فكشف يده، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ. واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر، ففيها توالي معجزات المآرب التي تقدمت.

قوله

: {واضمم

يَدَكَ إلى جناحكواضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} لا بد هنا من حذف والتقدير: واضمم يَدَك تنضم

ص: 218

وأخرجها تخرج، فحذف من الأول والثاني وأبقى مقابلهما ليدلان على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا، لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج. وقوله:«بَيْضَاءَ» حال من فاعل تخرج.

قوله: «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «تَخْرُج» وأن يكون متعلقاً ب «بَيْضَاءَ» لما فيها من معنى الفعل حو ابيضت من غير سوء. (ويجوز) أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في «بَيْضَاء» .

وقوله:: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «يسمى عند أهل البيان الاحتراس، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم مَنْ يتوهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البَرَص والبَهَق فأتى بقوله:» مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «نفياً لذلك.

قوله:» آيَةً «فيها أوجه:

أحدها: أن يكون حالاً، أعني أنها بدل من ب» بَيْضَاءَ «الواقعة حالاً.

الثاني: أنها حالٌ من الضمير في» بَيْضَاء «.

الثالث: أنها حالٌ من (الضمير في) الجار والمجرور.

والرابع: أنها منصوبة بفعل محذوف، فقدره أبو البقاء: جعلنَاهَا آيَةً، (أو آتيناك) آيةً. وقدره الزمخشري: خُذْ آيَةً، وقدر أيضاً: دونك آية. ورد أبو

ص: 219

حيان هذا، لأن ذلك من باب الإغراء، ولا يجوز إضمار الظروف في الإغراء. قال: لأن العامل حُذِف وناب هذا مكانه، فلا يجوز أن يحذف النائب أيضاً، وأيضاً فإن أحكامها تخالف العامل الصريح، فلا يجوز إضمارها وإن جاز إضمارها وإن جاز إضمار الأفعال.

فصل

يقال لكل ناحيتين، جَنَاحان كجناحي العسكر لطرفيه، وجناحا الإنسان جانباه والصل المستعار منه جناحا الطائر، لأنه يجنحها عند الطيران.

وجناحا الإنسان عَضُدَاه أي: اضمم يدّك إلى إبْطِكَ تخرج بيضاء نيرة مشرقة من غير سوء وعن ابن عباس:» إلى جَنَاحِكَ «أي إلى صدرك.

والأول أولى، لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر، ولأنه قال:» تَخْرُج بَيْضَاءَ «ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله» تَخْرُج «معنى. ومعنى ضم اليد إلى الجناح ما قاله في آية أخرى» وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «، لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان كأنه قد ضم يده إلى حناحه.

والسوءُ: الرداءة والقبح في كل شيء، وكنّى عن البَرَص كما كنّى عن العورة

ص: 220

بالسَّوْأَة، والبرَص أبغضُ شيء إلى العرب، فكان جديراً بأن يُكْنَى عنه بالسُّوء، وكان عليه السلام شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه، وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق، وقيل: مثل الشمس، من غير برص، ثم إذا ردَّها عادت إلى لونها الأول.

«آيَةً أُخْرَى» دلالة على صدقك سوى العصا.

قوله: «لِنُريََكَ» متعلق بما دلَّت عليه «آيَةً» أي: دللنا بها لُنِرِيَكَ، أو ب (جَعَلْنَاهَا)، أو ب (أتَيْنَاكَ) المقدر. وقدره الزمخشري: لِنُرِيَكَ فِعْلَنا ذلك، وجوَّز الحوفي أن يتعلق ب «اضْمُمْ» . وجوَّز غيرُه أن يتعلق (بتَخْرُج) . ولا يجوز أن يتعلق بلفظ آية، لأنها قد وصفت. وقدره الزمخشري أيضاتً: لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآيةَ أيضاً.

قوله: «مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى» .

يجوز أن يتعلق «مِنْ آيَاتِنَا» بمحذوف على أنه حال من «الكُبْرَى» حال كونها من آياتنا، على هاذ مفعولاً ثانياً «لُنِريَكَ» والتقدير:«لُنِريَكَ المُبْرَى» حال كونها من آياتنا، أي: بعض آياتنا ويجوز أن يكون المفعول الثاني نفس «مِنْ آيَاتِنَا» فيتعلق بمحذوف أيضاً، و «الكُبْرَى» على هذه صفة ل «آيَاتِنَا» ووصف الجمع المؤنث غير العاقل وصف الواحد على حد «مَآربَ أُخْرَى» و «الأَسْمَاءُ الحُسْنَى» .

وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي (وأبو البقاء) واختار

ص: 221

أبو حيَّان الثاني قال: لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته كلها هي الكبرى، لأن ما كان بعض الآيات الكُبَر صدق عليه آية الكبرى، لأنها هي المتصفة بأفْعَل التفضيل، وأيضاً إذا جُعِلت «الكبرى» مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً، إذ كان يلزم التثنية، ولا جائز أن يخصَّ أحدهما بالوصف جون الأخرى، لأن التفضيل في كل منهما.

فصل

قال المفسرون: قال: «لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى» ولم يقل: الكُبَر لرؤوس الآي. وقيل: فيه إضمار معناه: لُنِرِيَكَ من آياتنا الآية الكبرى ويدل عليه قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته وهو قول الحسن قال: اليد أعظم في الإعجاز من العصا، فإنه جعل «الكُبْرَى» مفعولاً ثانياً لنريك وجعل ذلك (راجعاً للآية القريبة، وقد) ضُعِّفَ ذلك بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون، (وأما العصا ففيها تغير اللون) وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والإعضاء المختلفة، وابتلاع الشجر والحجر، ثم عاجت عصا بعد ذلك، فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم.

وأما قوله: «لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى» فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام، وأنه غير مختص باليد.

قوله

تعالى

: {اذهب

إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} لما أظهر له الآيات عقبها بأنْ أرمه بالذهاب إلى فرعون، وبيَّن العلة في ذلك، وهو أنه طغى، وإنما خص فرعون بالذكر مع

ص: 222

أنه بُعِثَ موسى إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبًّر، وكان متبوعاً فكان ذكره أولى. ومعنى «طَغَى» جاوز الحد في العصيان والتمرد، فبلِّغْهُ رسالتي وادْعُهُ إلى عبادتي وحذِّرْهُ نِقْمتي.

قال موسى: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» وسّعه للحق.

(قال ابن عباس) : يريد حتى لا أخاف غيرك. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 13] وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفاً شديداً، لشدة شوكته وكثرة جنوده، وكان يضيق صدراً (بما كُلِّفَ) من مقاومة فرعون فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أن أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى، وإذا علم ذلك لم يَخَفْ فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده.

(قوله: «لي) صَدْرِي» متعلق ب «اشْرَحْ» ، قال الزمخشري: فإن قلت: (لي) في قوله: «اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» ما جدواه والأمر مستتب بدونه. قلت: قد أبهم الكلام أولاً فقال: «اشْرَحْ لِي» «وَيَسِّرْ لِي» فعلم أن ثَمَّ مشروحاً وميسراً، ثم بين ورفه الإبهام بذكرهما، فكان ىكد لطلب الشرح لصده، والتيسير لأمره.

ويقال: يَسَّرْتُهُ لكذا، ومنه «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى» ويسرت له كذا، ومنه هذه الآية.

قوله: «وَيَسِّرْ لِي أمْرِي» أي سَهِّل عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال، والأقوال والحركات،

ص: 223

والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له، فهذه الإرادة صفة محدثة، ولا بد لها من فاعل، وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم ففي الحقيقة هو الميسر للأمور.

قوله: «واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي» ، وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره، فلطم فرعون لطمةً، وأخذ بلحيته، فقال فرعون لآسية امرأته: إن هذا عدوِّي وأراد أن يقتلهن فقالت آسية: إنه صبي لا يَعْقِل ولا يميز جَرِّبْه إن شئت، فجاء بطشتين في أحدهما جمر، والآخر جوهر، فوضعهما بين يدي موسى، فأراد أن يأخذ الجوهر، فأخذ جبريل عيله السلام يد موسى فوضعها على النار، فأخذ جمرة فوضعها في فيه، فاحترق لسانه، (وصارت عليه عقدة) .

وقيل: قرَّبا إليه ثمرةً وجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه.

[قالوا] : ولم تحترق اليد، لأنها آلة أخذ العصا.

وقيل: كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته. واختلفوا في أنه لِمَ طلب حل العقدة؟ فقيل: لئلا يقع في خلل في أداء الوحي. وقيل: لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه. وقيل: لإظهار المعجزة كما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً في حقه، فكذا إطلاق لسان موسى عليه السلام معجز في حقه.

فصل

قال الحسن: إن تلك العقدة زالت بالكلية، لقوله تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ

ص: 224

يَا مُوسَى» ، وقيل: هذا ضعيف، لأنه عليه السلام لم يقل: واحْلُلْ العقدة من لساني بل قال: «واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي» ، فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء لقوله حكاية عن فرعون «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِين» مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه بوجهين:

أحدهما: أن المراد بقوله: «وَلَا يَكَادُ يُبِينُ» أي لا يأتي ببيان وحجة.

والثاني: أن (كَادَ) بمعنى قَرُبَ. فلو كَانَ المراد هو البيان اللساني، لكان معناه: أنه لا يقارب البيان، فكان فيه نفي البيان بالكلية، وذلك باطل، لأنه خاطب فرعون وقومه، وكانوا يفهموزن، فكيف يمكن نفي البيان، بل إنما قالوا ذلك تمويهاً ليصرفوا الوجوه عنه. واعلم أن النطق فضيلة عظيمة، ويدل عليه وجوه:

الأول: قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3، 4]، ولهذا قيل للإنسان: هو الحيوان الناطق.

الثاني: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير:

3654 -

لِسَانُ الفَتَى نِصْفَ وَنصْفٌ فؤاده

فَلَمْ يَبْقَ إلَاّ صُورَةُ اللَّّحْمِ وَالدَّمِ

وقالوا: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة. أي لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم.

وقالوا: المَرْءُ بأصغريه أي قلبِه ولسانِه.

وقالوا: «المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» .

ص: 225

الثالث: أن في مناظرة آدم عليه السلام مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: {يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} [البقرة: 33] .

قوله: «مِنْ لِسَانِي» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «عُقْدَة» أي: من عقد لساني، ولم يذكر الزمخشري غيره. ويجوز أن يتعلق بنفس «احلُلْ» ، والأول أولى. قوله:«واجْعَلْ لِي وَزِيراً» يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً مقدِّماً و «وَزِيراً» ويجوز أن يكون متعلقاً بالجعل، و «هَارونَ» بدل من «وَزِيراً» وجوَّز أبو البقاء أن يكون «هَارُونَ» عطف بيان ل «وَزيراَ» . ولم يذكر الزمخشري غيره. ولما حكى أبو حيان هذا لم يعقبه بتنكير، وهو عجب منه فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافق تعريفاً وتنكيراً، وقد عرفت أن وزيراً نكرة، وهارون معرفة.

والزمخشري قد تقدَّم له مثل ذلك في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ، وتقدم الكلام معه هناك، وهو عائد هنا.

ويجوز أن يكون «هارون» منصوباً بفعل محذوف كأنه قال: «أخصُّ من بينهم هارون

ص: 226

من بين أهلي ويجوز أن يكون» وَزيراً «مفعولاً ثانياً و» هارُونَ «هو الأول، وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة. وعلى هذا فقوله:» لِي «يجوز أن يتعلق بنفس الجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» وَزِيراً «مفعولاً أول، و» مِنْ أهْلِي «هو الثاني. وقوله:» لِي «مثل قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] يعنون أنه به يتم المعنى. ذكر ذلك أبو البقاء.

ولما حكاه أبو حيان لم يعقبه بنكير، وهو عجب، لأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية، وأنت لو ابتدأت بوزيرٍ وأخبرت عنه ب (مِنْ أَهْلِي) لم يجز، إذ لا مسوِّغ للابتداء به. و» أَخشي «بدل أو عطف بيان ل» هَارُونَ «.

وقال الزمخشري: وإن جعل عطف بيان آخر جازِ وحَسُن.

قال أبو حيَّان: ويبعُدُ فيه عطفُ البيان، لأن عطف البيانِ الأكثر فيه أن يكون الأول دونه في الشهرة، وهذا بالعكس.

قال شهاب الدين: لم يُرِد الزمخشري أنَّ» أَخِيط عطفُ بيان ل «هَارُونَ» حتى يقول الشيخ: إن الأول وهو «هَاروُنَ» أشهر من الثاني وهو «أخِي» ، إنما عنى الزمخشري أنه عطفٌ بيان أيضاً ل «وزيراً» ، ولذلك قال: آخر، ولا بد

ص: 227

من الإتيان بلفظه ليعرف أنه لم يرد إلا ما ذكرته.

قال: «وَزيراً» وهَارُونَ «مفعولاً قوله:: اجْعَلْ» ، أوْ «لي وَزِيراً: معفولاه، و» هَارونَ «عطفُ بيان للوزير، و» أخِي «في الوجهين بدل من» هَاروُنَ «، وإن جعل عطف بيان آخر جازَ وحَسُنَ فقوله:(آخر) يُعَينُ أن يكون عطفَ بيان لما جُعِل عنه عطف بيان قبل ذلك.

وجوَّز الزمخشري (في» أَخِي «) أن يرتفع بالابتداء، ويكون خبره الجملة من قوله:» اشْدُدْ بِهِ «، وذلك على قراءة الجمهور له بصيغة الدعاء، وعلى هذا فالوقف على» هَارُونَ «. وقرأ ابن عامر» أَشْدُد «للمضارعة، وجزم الفعل جواباً للأمر،» وَأُشْرِكْهُ «بضم الهمزة للمضارعة، وجزم الفعل نسقاً على ما قبله حكاية عن موسى: أنا أفعل ذلك. وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول، وفتح همزة القطع في الثاني على أنهما دعاء من موسى لربه بذلك، وعلى هذه الجملة قد ترك فيها العطف خاصة دون ما تقدمها من جمل الدعاء وقرأ الحسن» أَشْدُدْ «مضارع شدد بالتشديد.

والوزير: قيل: مشتق من الوِزْر، وهو الحبل الذي يحتضن به وهو الملجأ لقوله

ص: 228

تعالى: «كَلَاّ لَا وِزْرَاً» قال:

3655 -

مِنَ السِّبَاعِ الضَّوَارِي دُونَهَا وَزَرٌ

وَالنَّاسُ شَرُّهُمُ مَا دُونَهُ وَزَرُ

كَمْ مَعْشَرٍ سَلِمُوا لَمْ يُؤذِهِمْ سَبْعٌ

وَلَا تَرَى بَشَراً لَمْ يُؤْذِهِم بَشَرُ

وقيل: من المُؤَازَرَةِ، وهي المعاونة، نقله الزمخشري عن الأصمعي قال: وكان القياس أَزيراً يعني بالهمزة، لأن المادة كذلك، قال الزمخشري:(فقلبت) : الهمزة إلى الواو، ووجع قبلها إليها أنَّ فَعِيلاً جاء بمعنى مُفَاعِل مجيئا صالحاً كقولهم: عَشِيرِ، وجَلِيسِ، وخَلِيط وصَدِيق، وخَلِيل، ونَدِيم فلما قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز، ونظر إلى يؤازر وإخوته وإلى المؤازرة. يعني أن وزيراً بمعنى مُؤَازر، ومُؤازر تقلب فيه الهمزة واواً قليلة قياساً، لأنها همزة مفتوحة بعد ضمة فهو نظير مُؤَجَّل ويُؤاخذكم وشبهه، فَحُمِلَ أَزير عليه في القلب، وإنْ لم يكن فيه سبب القلب. والمُؤازرة مأخوذةٌ من إزار الرجل، وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل متعب.

فصل

اعلم أن طلبَ الوزير إما أنه خاف على نفسه العجزَ عن القيام بذلك الأمر فطلب المُعين، أو لآنه رأى أنَّ التعاونَ على الدين والتظاهرَ عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة قربةٌ عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى، ولذلك قال عيسى ابن مريم:{مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] ، وقال لمحمد عليه السلام {يا

ص: 229

أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] وقال عليه السلام: «إنَّ لِي في السَّمَاءِ وَزِيرَيْنِ، وَفِي الأَرْضِ وَزِيرَيْن فاللَّذانَ فِي السَّماءِ جِبْريلُ وميكائيلُ عليهما السلام وّاللَّذانِ في الأرض أبو بكرٍ وَعمَرُ رضي الله عنهما» ) «.

وقال عليه السلام:» إذَا أَرَادَ اللهُ بِمَلِكٍ خيراً قَيَّضَ اللهُ لَُ وَزِيراً صَالِحاً إنْ نَسِيَ ذكَّره، وإنْ نَوَى خَيْراً أعانَه، وإنْ أَرَادَ شَرَّاً كَفَّهُ «وقال أنوشروان: لَا يَسْتَغْنِي أجودُ السيوف عن الصقي، ولا أكرمُ الدوابَّ عن السَّوْط (ولا أعلمُ الملوك عن الوزير) . وأراد موسى عليه السلام أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه، وأن يكون أخاه هارون، والسببُ فيه إما لأن التعاونَ على الدين منفعة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا بأهله، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه.

وكان هارونُ أكبرَ سناً من موسى بأربع سنين، وكان أفصحَ منه لساناً، وأجملَ وأوسمَ أبيض اللون، وكان موسى آدم اللون أقْنَى جَعْداً.

و» اشْدُدْ بِهِ (أزري) قَوِّ) ظَهْري، «وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» في النبوة. والأَزْرُ القوة، وَآزَرَهُ: قَوَّاه. وقال أبو عبيدة: أَزْرِي: ظَهْرِي. وفي كتاب الخليل: الأَزْرُ الظَّهرُ.

ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال: «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراًط قال الكلبي: نُصَلِّي لكَ كثيراً، ونحمدكُ، ونثني عليك.

والتَّسبيحُ: تنزيهُ اللهِ تعالى في ذاته وصفاته عمَّا لا يليق به.» وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً «أي: نصفُك بصفاتِ الجَلالِ والكِبْرِيَاء.

ص: 230

قوله:» كَثِيراً «نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه.

وجوَّز أبو البقاء: أن يكون نعتاً لزمان محذوف، أي: زماناً كثيراً.

قوله:» إنَّك كُنْتَ بِنَا بَصيراً «أي عالِماً بأنَّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهَك ورضاك، أو بصيراً بأنَّ الاستعانةَ بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليه، أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأَعْطِنَا ما هو أصلح لنا.

ص: 231

قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} فُعْل بمعنى مَفْعُول كقولك: خُبْزٌ بمعنى مَخْبُوز وأُكْلٌ بمعنى مَأْكُول، ولا ينقاس و «مَرَّةً» مصدر، و «أُخْرَى» تأنيث آخر بمعنى: غير، وزعم بعضهم أنها بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى، وتخيَّلَ لذلك بأن قال سمَّها أخرَى وهي أولَى، لأنها أخرى في الذكر.

فصل

إن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية، وكان في المعلوم أن قيامه بما كلفه (لا يتم إلا بإجابته إليها، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على إبلاغ ما كلف به) فقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} فنبه بذلك على أمور:

ص: 231

أحدها: كأنه تعالى قال: إني رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال.

وثانيها: إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان، فكيف يليق بكرمي.

وثالثها: إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية، وهي درجة النبوة، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب. ومعنى «مَنَنَّا عَلَيْكَ» أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ «مَرَّةً أُخْرَى» فإن قيل: لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف؟

فالجواب: إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان.

فإن قيل: لم ثال: «مَرَّةٌ أُخْرَى» مع أنه تعالى ذكر «مِنَنَاً» كثيرة؟

فالجواب: لَمْ يُعْنِ ب «مَرَّةٌ أُخْرَى» مرة واحدة من المنن، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير.

قوله: «إذْ أَوْحَيْنَا» العامل في «إذِ مَنَنا» أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك، وأبهَمَ في قوله:«مَا يُوحَى» للتعظيم كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] وهذا وحي إلهام، لأن الأكثرين على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها، ويدل على ذلك قوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] .

ص: 232

والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68]{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 11] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه:

الأول: أنه رؤيا رأتها أم موسى، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت، وقذفه في البحر، وأن الله تعالى يرده إليها.

الثاني: أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.

الثالث: المراد منه خطور البال وغلبته على القلب.

فإن قيل: الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك، وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعونَ، فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانَة عن الثاني؟ فالجواب لعلَّها عرفت بالاستقراء صدقَ رؤياها، فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقع الولد في يد فرعون، أو لعله أوْحَى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشُعَيْب أو غيره، ثم أن ذلك النبي عرفها إمّا مشافهة، أو مراسلة.

واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحجقها الخوف. وأجيب: ذلك الخوف كان من لوازم البشرية، كما أن موسى عليه السلام كان يخاف من فرعون مع أن الله - تعالى - كان أمره بالذهاب إليه مروراً.

الرابع من الأوجه: لعل بعض الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك الخبر، وانتهى ذلك الخبر إلى أمه. أو لعل الله بَعَثَ إليها مَلَكَاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] .

ص: 233

وأما قوله: «مَا يُوحى» معناه: أوحينا إلى أمِّكَ ما يجب أن يُوحى، وإنما وجب ذلك الوحي، لأن الواقعة عظيمة، ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي، فكان الوحي فيها واجباً.

قوله: «أَن اقْذِفِيهِ» يجوز أن تكون «أَنْ» مفسِّرة، لأن الوحي بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشري غيره. وجوز غيره أن تكون مصدرية، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من «مَا يُوحَى» والضمائر في (قوله: «أن) اقْذِفِيه إلى آخِرِهَا عائدة على موسى عليه السلام لأنه المحدِّث عنه.

وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله: {فاقذفيه فِي اليم} للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجَاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم، فإن قلت: المقذُوفُ في البحر هو التابوتُ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر.

قال أبو حيَّان: ولقائلٍ أن يقول: إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على

ص: 234

الأقرب وعلى الأبعد، كان عوده على الأقرب راجحاً، وقد نص النحويون على هذا، فعوده على التابوت في قوله:{فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم} راجح، والجواب: أن أحدهما إذا كان محدِّثاً عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدِّث عنه أرجح، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن جزم في دعواه أن الضمير في قوله تعالى:» فَإنَّه رِجْسٌ «عائد على (خِنْزِير) لا على (لَحْم) ، لكونه أقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه، وغضروفه وعظمه وجلده، فإن المحدِّث عنه هو لحم خنزير لا خنزير.

وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام.

قوله: «فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ» هذا أمر معناه الخبر، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله «يَأْخُذُه» ، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال ولآكدها، قال الزمخشري: لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر، ويتمثل رسمه فقيل:{فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} . و «بالسَّاحِلِ» يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال. أي: ملتبساً بالسَّاحل. وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى (

ص: 235

في) والقذفُ يستعمل بمعنى الإلقاء والوضع، ومنه قوله:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26] واليَمُّ البحر، والمراد به ههنا نيلُ مصرَ (في قول الجميع) واليَمُّ: اسم يقع على النهر والبحر العظيم.

قال الكسائي: والسَّاحِلُ فاعل بمعنى مَفْعُول، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي: يغمره إلى أعره «.

فصل

روي أنها اتخذت تابوتاً.

قال مقاتل: إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً ملحوجاً، ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه، فأخرجوه، وفتحوا رأسَه، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} قال ابن عباس: أَحّبَّه وحبَّبَهُ إلى خَلْقِه.

وقال عكرمة: ما رآه أحد إلا أحبه.

فإن قيل: قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له.

فالجواب: من وجهين:

ص: 236

الأول: كونُه كافراً عدواً لله، وكونه عدواً لموسى عليه السلام، فإنه بحيث أو ظهر له على حاله لقتله.

والثاني: عدواً بحيث يؤول أمره إلى عداوته.

قوله:» مِنِّي «فيه وجهان: قال الزمخشري:» مِنِّي «لا يخلو إما أن يتعلق ب» أَلْقَيْتُ «فيكون المعنى: على أني أحببتك، ومن أحبه الله أحبته القلوب.

وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل» مَحَبَّةٌ «أي: محبة حاصلة وواقعة مِني قد ركزتها أنا في القلوب، وزرعتها فيها، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت:{قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] . روي أنه كان على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه، وهو كقوله - تعالى -:

{سَيَجْعَلُ

لَهُمُ

الرحمن

وُدّاً} [مريم: 96] قال القاضي: هذا الوجه أقرب، لأنه حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب.

فالمراد أول ما ذكر في كيفيته في الخلقة يستحلى ويغتبط به، وكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته. (ويمكن أن يقال) بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار، وهو أن يقال: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةٌ حاصلةٌ مِنِّي وواقعة بتخليقي، وعلى الأول لا حاجة إلى الإضمار.

ص: 237

وأما قوله: إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله. فممنوع، لأن معنى الله هو اتصال النفع إلى عباده، وهذا المعنى كان حاصلاً ي حقه في زمان صباه، وعلم الله أن ذلك يستمر إلى آخر عمره، فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة. قوله:«وَلِتُصْنَع» قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون على البناء للمفعول، ونصب الفعل بإضمار (أنْ) بعد لام (كي)، وفيه وجهان:

أحدهما: أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها.

والتقدير: ليتلطف بك ولتصنع، (أو ليعطف عليك) . وترأم ولتصنع، وتلك العلة المقدرة متعلقة بقوله:«وَأَلْقِيْتُ» أي: ألقيت عليك المحبة (ليعطف عليك ولتصنع، ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المَحَبَّةِ) .

والثاني: أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها، تقديره: ولتصنع على عيني فعلت ذلك، أي: ألقيت عليكَ محبةً مِنِّي، أو كان كيت وكيت.

ومعنى «وَلِتُصْنَعَ» أي لِتُرَبِّى ويُحْسِن إلَيْكَ، وأنا مراعيك، ومراقبك كما يراعى الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. قال الزمخشري.

ومجاز هذا أنَّ مَنْ صنعَ للإنسانِ شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه كما يُحِبُّ، ولا يمكنه أن يخالف غرضه فكذا هنا. وفي كيفية المجاز قولان:

الأول: المراد من العَيْنِ العلم، أي تُرَبَّى على علم مِنِّي، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العَيْن على العلم (لاشتباههما) من هذا الوجه.

ص: 238

الثاني: المراد من العَيْنِ الحراسة، لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما لا يريده، فالعين كأنها سبب الحراسة، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] . ويقال: عَيْنُ الله عليك، إذا دعا له بالحفظ (والحياطة) .

وقرأ الحسن وأبو نهيك: «وَلِتصْنَعَ» بفتح التاء.

(قال ثعلب) : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عينٍ مني.

وقال قريباً منه الزمخشري.

وقال أبو البقاء: أي: لتفعل ما آمرك بمرأى مني. وقرأ أبو جعفر وشيبة «وَلْتُصْنَعْ» بسكون اللام والعين وضم التاء، (وهو أمر معناه: لتُربِّ وليُحْسَن إليك) . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر.

ويحتمل مع كسر اللام أو سكونها حال تسكين العين أن تكون لام كي، وإنما سكنت تشبيهاً بكَتْف وكَبد، والفعل منصوب، والتسكين في العين لأجل

ص: 239

الإدغام لأنه لا يقرأ في الوصل إلا بإدغام فقط.

ص: 240

قوله: «إذ تَمْشِي» (في عامل هذا الظرف أوجه:

أحدها: أنَّ العامل فيه «أَلْقِيَتُ» ، أي: ألقيتُ عليكَ محبَّةٌ منِّي وقت مشي أختِك.

الثاني: أنه منصوب بقوله: «وَلِتُصْنَع» ، أي: لتربَّى ويُحسنَ إليك في هذا الوقت: قال الزمخشري: والعامل في «إذ تَمْشِي» «أَلْقَيْتُ» أو «لِتُصْنَعَ» وقال أبو البقاء: «إذْ تَمْشِي» يجوز أن يتعلق بأحد الفعلين. يعني بالفعلين ما تقدم من «أَلْقِيْتُ» أو «لِتُصْنَعَ» ) . وعلى هذا فيجوز أن تكون المسألة من باب التنازع لأن كلاًّ من هذين العاملين يطلب هذا الظرف من حيث المعنى، ويكون من إعمال الثاني للحذف من الأول، وهذا إنما يتجه كل الاتجاه إذا جعلت «وَلِتُصْنَعَ» معطوفاً على علة محذوفة متعلقة ب «أُلْقِيْتُ» .

أما إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعد ذلك، أو يمتنع لكون الثاني صار من جملة أخرى.

الثالث: أن يكون «إذْ تَمْشِي» بدلاً من «إذْ أَوْحَيْنَا» .

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل: لَقيتُ فَلاناً سَنَةَ كذا، فتقول: وَأَنَا لَقيتهُ إذْ ذاك، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. قال أبو

ص: 240

حيان: وليس كما ذكره، لأن السنة تقبل الاتساع، فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين، فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه، فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقع مشي الأخت، فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة.

قال شهاب الدين: وهذا تحامل منه عليه، فإن زمن اللقاء أيضاً ضيق لا يسع فعليهما، وإنما ذلك مبني على التساهل، إذ المراد أن الزمان مشتملٌ على فعليهما.

وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون بدلاً من (إذ) الأولى: لأنَّ مشيْ أختِه كان مِنَّةً عليه.

يعني أن قوله: «إذْ أَوْحَيْنَا» منصوب بقوله: ( «مَنَنَّ» ) فإذا جُعِلَ «إذْ تَمْشِي» بدلاً منه كان أيضاً ممتناً به عليه.

الرابع: أن يكون العامل فيه مضمراً تقديره: اذكر إذ تَمْشِي، وهو على هذا مفعول به (لفساد المعنى على الظرفية) .

قوله: {إِذْ تمشي أُخْتُكَ} (اسمها مريم) .

يروي أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل، وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها، لأن الله - تعالى - حرَّم عليه المراضع غير أمه

ص: 241

واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته متعرفة خبره، فجاءت إليهم متنكرة فقالت:{هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي على امرأة ترضعه؟ قالوا نعم: فجاءت الأم، فَقَِبِلَ ثديها، فذلك قوله:{فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك.

قوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} . قرأ العامة «تَقَرَّ» بفتح التاء والقاف وقرأت فرقة: «تَقِرَّ» بكسر القاف، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان.

وقرأ جناح بن حبيش «تُقَرَّ» بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول «عَيْنُها» رفعاً لما لم يسم فاعله.

فإن قيل: (لو قال) : كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها، فلما قال أولاً {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} كان قوله «وَلَا تَحزَن» فضلاً، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة.

فالجواب: المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك. قوله:{وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} ، وهذه المنّة الخامسة. قال ابن عباس: هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن (وكزه) حيث استغاثه الإسرائيلي إليه، فحصل له الغم من وجهين:

الأول: من عقاب الدنيا، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى عنه {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] .

والثاني: من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله. فنجاه الله - تعالى - من الغمين، أما من فرعون فوفق له المهاجرة إلى مدين، وأما من عقاب الآخرة (فلأن الله تعالى

ص: 242

غفر له ذلك) . (قال كعب الأحبار: كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة) .

قوله: «فُتُوناً» فيه وجهان:

أحدهما: أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى:{لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر، كقوله تعالى:{وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .

والثاني: أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحُجُوزٍ

ص: 243

وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ وبَدْرَة، أي: فَتناكَ ضروباً من الفتن. عن ابن عباس أنه ولُِدَ في عام يُقْتَل فيه الولدان، وألقته أنه في البحر، وقَتَل البطيَّ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة. ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم، وصار يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير، قال معناه الزمخشري.

وقال غيره: بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها.

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها، أولها أنَّ أمه حملت في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أَخَذُه بحليةٍ فرعونَ حتى همَّ بقتلهِ، ثمو تناولت الجملة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ، وخروجه إلى مدين خائفاً.

فعلى هذا معنى: فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه.

فإن قيل: إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام، فكيف يليق بهذا قوله:«وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ؟

فالجواب من وجهين:

الأول: ما تقدم من أنَّ «فَتَنَّاكَ» بمعنى خلصناك تخليصاً.

والثاني: أن الفتنة تشديد المحنة يقال: فُتِن فلانٌ عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه. قال تعالى: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10]، وقال:{أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]

ص: 244

وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم.

فإن قيل: هل يَصلح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله: «وفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ؟

فالجواب: لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب، وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي.

قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} والتقدير: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم وهي إمَّا عشراً وَثَمان لقوله تعالى: {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] وقال وهب: لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته.

ويرده قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل (وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] الأجل المشروط عيله في تزويجه.

ومَدْيَن: بَلْدَةُ شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر.

قوله: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «جِئْتَ» أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك، كذا قدره أبو البقاء، وهو تفسير معنى، والتفسير الصناعي: ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين، كقول الآخر:

3656 -

نَالَ الخِلَافَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ

كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ

ص: 245

ولا بد من حذف في الكلام، أي: على قدر أمر من الأمور.

وقال محمد بن كعب: جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه وقال مقاتل: كان موعداً (في تقدير الله.

وقال عبد الرحمن بن كيسان: كان على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي) يوحي فيه إلى الأنبياء. وهذا قول أكثر المفسرين، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة.

قوله

: {واصطنعتك

لِنَفْسِي} (أي اخترتُك واصطفيتُك افتعال من الصنع لوحيي ورسالتي. وأبدلت التاء طاء) ، لأجل حرف الاستعلاء.

وهذا مجازٌ عن قرب منزلته، ودنوه من ربه، لأن أحداً لا يصطنع إلا من يختاره.

قال القفال: واصطنعتُكَ أصله من قولهم: اصطنع فلانٌ فلاناً إذا أحسن إليه حتى

ص: 246

يضاف إليه فيقال: هذا صنيعُ فلانٍ وجريحُ فلانٍ. وقوله: «لِنَفْسِي» أي: لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به، وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي، وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك.

وقال الزجاج: اخترُكَ لأمري، وجعلتك القائم بحجتي، والمخاطب بيني وبين خلقي: كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم.

قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا} لما قال: {واصطنعتك لِنَفْسِي} عقبه بذكر ما له اصطنعته، وهو الإبلاغ والأداء، و «الياء» في «بِآيَاتِي» بمعنى (مع) ، لأنهما لو ذهبا إليه بدون آيةٍ معهما لم يلزمه الإيمان، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد.

قال ابن عباس: يعني الآيات التسع التي بعث الله بها موسى. وقيل: إنها العصا واليد، لأنهما اللذان جرى دكرهما في هذا الموضع، ولم يذكر أنه عليه السلام أوتي قبل مجيئه إلى فرعون، لا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين، قال تعالى حكاية عن فرعون {إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 106 - 108] ، وقال:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32] .

فإن قيل: كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين؟

فالجواب من وجوه:

أحدها: أن العصا كانت آيات، انقلابُها حيواناً، ثم إنها كانت في أول الأمر صغيرة، لقوله تعالى:{تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10، القصص: 31] ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى، ثم إنه كان عليه السلام يدخل في يده في فمها قلم تضره وهذه آية أخرى، ثم

ص: 247

كانت تنقلب عصا وهذه آية أخرى، وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشُعَاعَها آية أخرى، ثم زوالهما بعد ذلك آية أخرى، فدل ذلك على أنهما كانتا آيات كثيرة.

وثانيها: هَبْ أن العصا أمرٌ واحدٌ ولكن فيها آيات، لأن انقلابها حيةً يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم، ويدل على نبوة موسى، ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً، فهذه آيات كثيرة، ولذلك قال:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96]

إلى قوله

{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] فهاهنا أولى.

وثالثها: قال بعضهم: أقل الجمع اثنان.

وقيل: معنى قوله: «بِآيَاتِي» أمُدكُّما بآياتي، وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه، والمعنى: فإن آياتي معكما كما يقال: اذهب فإن جندي معك أي: إنِّي أمدك بهم من احتجت.

وقيل: الآيات: العصا، واليد، وحل العقدة من لسانه، وذلك أيضاً معجزة.

قوله: «وَلَا تَنِيَا» يقال: «وَنَى يَنِيَ وَنْيَاً كَوَعَد يَعِدُ وَعْداً، إذا فَتَرَ.

والوَنْيُ الفُتُور، ومنه: امرَأةٌ أَنَاةٌ، وصفوها بفتور القيام كناية عن ضخامتها. قال زهير:

3657 -

مَنَّا الأَنَاةُ وَبَعْضُ القَوْمِ يَحْسَبُنَا

أَنَّا بِطَاءٌ وفي إبْطَائِنَا سِرْعُ

ص: 248

بكسر السين وفتح الراء مصدر (سَرُع) بفتح السين وضم الراء.

تقول: سَرُعَ سِرَعاً كصَغُرَ صِغَراً.

والأصل: ونَاةٌ، فأبدلوا الهمزة من الواو كأحَد وليس بالقياس، وفي الحديث:» إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلْمُ والأَنَاةُ «.

والوَانِي: المقصِّر في أمره، قال الشاعر:

3658 -

فَمَا اَنَا بالوَانِي وَلَا الضَّرْع الغُمْرِ

ووَنَى فعلٌ لازم يتَعَدى وزعم بعضهم أنه يكون من أخوات (زال

ص: 249

وانفك) فيعمل بشرط النفي أو شبهه عمل (كان)، فيقال:» مَا وَنِيَ زيدٌ قائماً، وأنشد ابن مالك شاهداً على ذلك قوله:

3659 -

لَا يَنشي الحُبُّ شِيمَةَ الحُبِّ مَا دَا

مَ فَلَا يَحْسَبَنَّهُ ذَا ارْعِوَاءِ

أي: لا يزال الحُبُّ بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي: بكسرها وهو المحب. ومن منع ذلك يتأول البيت على حذف حرف الجر، لأنَّ هذا الفعل يتعدى تارة ب (عَنْ) وتارة ب (في) يقال: ما ونَيْتُ عن حاجتك، أو: في حاجتك فالتقدير: لا يفتر الحب في شيمة المحب، وفيه مجاز بليغ وقد عدي في الآية الكريمة ب (في) .

قرأ يحيى بن وثَّاب «وَلَا تِنِيَا» بكسر التاء إتباعاً لحركة النون، وسكن الياء في «ذِكْرِي» .

وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو «لِنَفْسِيَ اذْهَبْ» ذِكْرِي اذْهَبَا «و {إِنَّ قَوْمِيَ اتخذوا} و {مِن بَعْدِيَ اسمه} بفتح الياء فيهن وافقهم أبو بكر في {مِن بَعْدِيَ اسمه} .

ص: 250

وقرأ الآخرون بإسكانها.

والمراد بالذكر تبليغ الرسالة. وقيل: لا تفترا عن ذكر الله. (والحكمة فيه) أنَّ مَنْ ذكر جلالَ الله استخف غيره، فلا يخاف أحداً، ويقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في مقصوده، ومن ذكر الله فلا بد وأن يكون ذاكراً إحسانه (وذاكرُ إحسانه) لا يفتر في أداء أوامره.

وقيل: لَا تَنِيَا في ذِكْرِي عند فرعون، وكيفية الذكر أن يذكرا لفرعون وقومه أنَّ الله تعالى لا يرضى منهم الكفر، ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب.

قوله

: {اذهبآ

إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} ذكر المذهوب إليه في قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} وحذفه في الأول في قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42] اختصاراً في الكلام.

وقال القفال: فيه وجهان:

أحدهما: أن قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42] يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد، فقيل مرة أخرى:«اذْهَبَا» ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر.

ص: 251

والثاني: أن قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه: 42] أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون، ثم قوله:{اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} أمر بالذهاب إلى فرعون وحده.

قيل: وهذا فيه بُعْدٌ، بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وهو فرعون، وقد حذف من كل الذهابين ما أثبته في الآخر، وذلك أنه حذف المذهوب إليه من الأول وأثبته في الثاني، وحذف المذهوب به، وهو «بِآيَاتِي» من الثاني وأثبته في الأول.

فإن قيل: قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} خطاب من موسى وهارون، (وهارون عليه السلام لم يكن حاضراً هناك، وكذا في قوله تعالى:{قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] وأجاب القفال بوجوه:

أحدها: أن الكلام كام مع موسى إلا انه كان متبوع هارون، فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون، (وكلام هارون) على سبيل التقدير بالخطاب في تلك الحالة، وإن كان مع موسى عليه السلام وحده، إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقوله: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] روي أن القائل هو عبد الله ابن أُبَيِّ وحده.

وثانيها: يحتمل أن الله تعالى لمَّا قال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] سكت حتى لقي أخاه، ثم إن الله - تعالى - خاطبهما بقوله:{اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} .

وثالثها: حكي في مصحف ابن مسعود «قال رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُُ» أي أنَا وأخي.

ص: 252

قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قرأ أبو معاذ «قَوْلاً لَيْناً» وهو تخفيف من لَيِّن كَمَيْت في ميِّت.

وقوله: «لَعَلَّهُ» فيه أوجه:

أحدها: أن «لَعَلَّ» على بابها للترجي، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون، أي اذهبا على رجائكماوطمعكما في إيمانه أي اذهبا مترجَيْن طامعَيْن، وهذا معنى قول الزمخشري ولا يستفقيم أن يرد ذلك في حق الله تعالى، إذ هو عالم بعواقب الأمور. وعن سيبويه: كل ما ورد في القرآن من (لَعَلَّ، وَعَسَى) فهو من عند الله واجب. يعني أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى.

والثاني: أنَّ «لَعَلَّ» بمعنى (كَيْ) فتفيد العلية، وهذا قول الفراء قال: كما تقول: اعْمَلْ لَعَلَّكَ تأخذُ أجرَكَ، أي: كي تأخذَ.

والثالث: أنها استفهامية، أي: هل يتذكر أو يخشى؟

وهذا قول ساقط، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى كما يستحيل الترجي، فإذا كان لا بد من التأويل فجَعْلُ اللفظ على مدلوله باقياً أولى من إخراجه عنه.

فإن قيل: لِمَ أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ فالجواب من وجهين:

أحدهما: أنه قد ربَّى موسى عليه السلام فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق، وهاذ تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين.

ص: 253

والثاني: أنَّ من عادة الجبابرة إذا غُلِّظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبُّراً.

والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق.

قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي يتعظ ويخاف.

فصل

اختلفوا في ذلك القول اللين، فقال ابن عباس: لا تعنِّفا في قولكما.

وقال السُّدِّي وعكرمة: كَنَّياه، فقولا: يا أبا العباس. وقيل: يا أبا الوليد.

وقال مقاتل: القول الليِّن: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [النازعات: 18 - 19]، وقولهما:{فقولاا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: 47] إلى قوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] .

وقال السدي: القول اللِّين ان موسى اتاه ووعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم، ومُلْكاً لا ينزعُ منه إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعم، والمشرب، والمنكح إلى حين موته، وإذا مات دخل الجنة. فأعجبه ذلك، وكان لا يقطع أمراً دون هامان، وكان غائباً، فلما قَدِم أخبره بالذي دعاه إليه موسى، قال: أردتُ أنْ أقبل مِنْه. فقال له هامان: كنت أرى عقلاً ورأياً، أنت ربٌّ تريد أن تكون مربوباً، وأنت تُعْبَدُ تريدُ أن تَعْبُدَ، فقلبه عن رأيه.

فصل

قال ابن الخطيب: هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله، فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان، وإذا كان عالماً بذلك، فكيف أمر موسى بذلك الرفق، وكيف بالغ

ص: 254

في الأمر بتلطف دعوته إلى الله - تعالى - مع علمه باستحالة حصول ذلك منه؟ ثم هَبْ أن المعتزلة ينازعون في هذا الانتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال، ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأن لا يحصل ذلك الإيمان، وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى عليه السلام إلا استحقاق العذاب، والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً من عَلِمَ قَطعاً أنه يمزق به بطن نفسه، ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه؟ يا أخي: العقولُ قاصرةٌ عن معرفة هذه الأسرار، ولا سبيل فيها إلا التسليم، وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان، ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة «فَقُولَا لَهُ قََوْلاً لَيِّناً وسَأقْسي قلبَه فلا يؤمن» .

ص: 255

قوله: {قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} قد تقدم أن هارون لم يكن حاضراً هناك، فكيف قال:{قَالَا رَبَّنَآ} وتقدم جوابه.

فإن قيل: إن موسى عليه السلام قال: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} [طه: 25] وأجابه (الله تعالى) بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] وهذا يدل أنه شرح صدره، ويسر، وعيّن له ذلك الأمر، فكيف قال بعده:«إنَّنَا نَخَافُ» ، فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر، فالجواب: أن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السَّهو تلك والتحريف، وذلك شيء آخر غير زوال الخوف. فإن قيل: أما علم موسى وهارون عليهما السلام وقد حمَّلهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل.

ص: 255

فالجواب قد أمِنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما من قبل الأداء أو بعده، وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه، وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما في قوله تعالى:{وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] .

فإن قيل: لمَّا تكرر الأمر من الله - تعالى - بالذهاب، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية؟

فالجواب: إن اقتضى الأمر الفور كان كذلك من أقوى الدلائل على المعصية، لا سيما وقد أكثر الله - تعالى - من أنواع التشريف، وتقوية القلب، وإزالة الغم، ولكن الأمر ليس على الفور، فزال السؤال، وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل.

قوله: «أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ» مفعول «يَخَافُ» ، ويقال: فَرَطَ يَفْرُط سبق وتقدم، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وفرس فرط تسبق الخيل، أي: نَخَاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. قاله الزمخشري. ومن ورود الفارط بمعنى المتقدم على الواردة قول الشاعر:

3660 -

وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا

كمَا تَقَدَّم فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ

وفي الحديث: «أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ» أي سابقكم ومتقدمكم.

وقرأ يحيى بن وثاب وابن محيصن وأبو نوفل «يُفْرَط» بضم حرف المضارعة

ص: 256

وفتح الراء على البناء للمفعول، والمعنى: خافَا أن يسبق في العقوبة أي يحمله حامل عليها وعلى المعاجلة بها إما قومه وإما الشيطان وإما حبه الرياسة، وإما ادعاؤه الإلهية.

وقرأ ابن محيصن في رواية الزعفراني: «أن يُفْرِط» بضم المضارعة وكسر الراء من أفرط.

قال الزمخشري: من افرَطَهُ غيره، إذا حمله على العجلة خَافَا ان يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب.

وقال كعب بن زهير:

3661 -

تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عضنْهُ وَأفْرَطَهُ

مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ

أي سبقت هذه البيض لتملاه.

وفاعل يفرط ضمير فرعون، وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أن لا يعدل عنه، وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلام عليهن فقال: فيجوز أن يكون التقدير: أن يَفْرُط علينا منه قولٌ فأضمر القول لدلالة الحال عليه كما تقول: فَرَط منِّي قول، وأن يكون الفاعل ضمير فرعون كما كان في «يَطْغَى» .

فصل

قال ابن عباس: «يَفْرُطَ عَلَيْنَآ» يعجل علينا بالقتل والعقوبة. يقال: فَرَطَ عَلَيْنَا فلان إذا عجل بمكروه، وفَرَط منه أي بدر وسبق {أَوْ أَن يطغى} يجاوز الحد بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك. واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه لأعذار يذكرها فلا بد أن يختم كلامه بما هو الأقوى، كما أن الهُدْهُدَ ختم عذره

ص: 257

بقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24] ، فكذا هاهنا بدأ موسى بقوله {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} ، وختم بقوله {أَوْ أَن يطغى} لما كان طغيانه في حق الله - تعالى - أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون.

قوله: {قَالَ لَا تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان، لأن ذلك هو المفهوم من الكلام، لأنه - تعالى - لم يؤمنهما من الرد، ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة وقوله:«إِنَّنِي مَعَكُمَآ» أي: بالحراسة والحفظ وقوله: «أَسْمَعُ وأرى» قال ابن عباس: اسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما.

وقال القفال: (قوله: أَسْمَعُ وَأَرَى) قال ابن عباس: اسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما.

وقال القفال: (قوله: «أسْمَعُ وَأرَى» يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله {يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} {أَوْ أَن يطغى} بأن لا يسمع منّا «يَفْرُطَ عَلَيْنَآ» بأن يقتلنا، فقال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ} كلامكما فأسخّره للاستماع منكما، «وَأَرَى» أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه واعلم أن مفعول)(أسْمَعُ وَأَرَى) محذوف، فقيل: تقديره: أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما.

وعن ابن عباس: أسمع جوابه لكما (وَأَرَى مَا يُفْعَل بِكُمَا) .

أو يكون من حذف الاقتصار، نحو «يحيي ويُميت» .

ص: 258

قوله: «فَأتِيَاهُ» أعاد التكليف المتقدم فقال: {فأتِيَاهُ فَقُولَا لَهُ} وذلك أنه تعالى قال أولاًَ {اذهب إلى فِرْعَوْنَ} [طه: 24] وثانياً قال: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42]

ص: 258

وقال ثالثاً: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} [طه: 43] . ورابعاً (قال هاهنا «فَأتِيَاهُ» ) .

فإن قيل: إنه تعالى أمرهما بأن يقولا له «قَوْلاً لَيِّناً» ، وهاهنا أمرهما بأن يقولا {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ} وفي هذا تغليظ من وجوه:

الأول: «إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ» ) وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما، وذلك يعظم على الملك المتبوع.

والثاني: قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} فيه إدخال النقص على ملكه، لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال وأيضا: أمرهم بالإرسال يقتضي وجوب الطاعة والانقياد فيصير تحت أمرهم.

والثالث: نهيهم له بقولهم: «وَلَا تُعَذِّبهُمْ» .

والرابع: قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} .

فما الفائدة في القول اللين أولاً والتغليظ ثانياً؟

فالجواب: أن الإنسان إذا أظهر اللجاجة فلا بد له من التغليظ.

فإن قيل: أليس أن الأولى أن يقولا إنا رَسُولَا رَبِّكَ قَدْ جئنَاكَ بآيةٍ فأرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُم، فإن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه؟

فالجواب: بل هذا أولى، لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجز.

قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} قال الزمخشري: هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا بينتهما التي هي مجيء الآية.

فإن قيل: إن الله تعالى أعطاه آيتين، وهما العصا واليد ثم قال: {اذهب أَنتَ

ص: 259

وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه: 42] ، وذلك يدل على ثلاث آيات وقال هاهنا {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} ، وذلك يدل على أنها كانت واحدة (فكيف الجمع) ؟

أجال القفال: بأن معنى الآية هاهنا الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال: جئْنَاك ببيان من عند الله. ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة.

وقال غيره: المراد في هذا الموضوع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال:

قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعينا من الرسالة كقوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 105]، وقوله:{فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 106] وقوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 30] .

وتقدم الجواب عن التثنية والجمع، وأن في العصا واليد آيات.

قوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يحتمل أن يكون تسليماً منهما ولم يؤمرا به، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قال بعضهم: إنَّ (عَلَى) بمعنى (اللام) أي والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى: {لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} [الرعد: 25] أي: عليهم اللعنة، وقال تعالى:{مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] وقال:

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] .

ص: 260

وهذا وعد منهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة والسلام والسلام بمعنى السلامة، كما يقال: رضاع ورضاعة.

وقيل: هذا من كلام الله تعالى كأنه قال: «فَقُولَا إنَّا رَسُولَا رَبِّكَ وَقُولَا لَهُ والسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى» ، وليس المراد منه التحية إنما معناه سَلِم من عذاب الله من أسلم.

قوله: «أرسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائيلَ» خلِّ عنهم وأطلقهم عن أعمالك «وَلَا تُعَذِّبهُم» لا تتعبهم في العمل، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة.

قوله تعالى: {لْعَذَابَ على مَن كَذَّبَ وتولى} هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم، لأن الألف واللام للاستغراق، أو الإفادة (الماهية، وعلى) التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس في «من كذب وتولى) فوجب أن لا تحصل لغير المكذب المتولي.

وظاهر هذه الآية يقتضي بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات، فجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام، ولأن العقاب المتناهي إذا حصل بعد السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يجسن مع حصول ذلك القجر أن يقال: إنه لا عقاب.

وأيضاً فقوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى، إذا فسَّرنا السلام بالسلامة. والعارف بالله قد اتبع الهدى، فوجب أن يكون صاحب السلامة. ومعنى الآية: إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه.

قوله:» أنَّ العَذَابَ «» أنَّ «وما في خبرها في محل رفع لقيامه الفاعل الذي

ص: 261

حذف في» أُوْحِيَ إِلَيْنَا «بنائه للمفعول (خوفاً أن يبدر من فرعون بادرة لمن أوحي لو سمياه فطويا ذكره تعظيماً له واستهانة بالمخاطب) .

ص: 262

قوله: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} وحده بعد مخاطبته لهما معاً إمَّا لأنَّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرُّتَّة التي في لسان موسى، ويعلم فصاحة هارون بدليل قوله:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص: 34] وقوله: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] فأراد استنطاقه دون أخيه.

وإما لأنه حذف المعطوف للعلم به أي: يا موسى وهارون وقاله أبو البقاء وبدأ به. وقد يقال: حَسَّنَ الحذف كون موسى فاصلة، لا يقال: كان يغني في ذلك أن يقدم هارون ويؤخر موسى فيقال: يا هارون وموسى فتحصل مجانسة الفواصل من غير حذف، لأن نداء موسى أهم فهو المبدوء به. واعلم أن في الكلام حذف، لأنه لما قال {فَأْتِيَاهُ فقولاا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [طه: 47] إلى قوله: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] أمر من الله تعالى لموسى بأن يقول لفرعون ذلك الكلام والتقدير: فَذَهبا إلى فرعون فقالا له ذلك فقال مجيباً لهما من رَبُّكما؟

قوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} في هذه الآية وجهان:

أحدهما: أن يكون «كُلُّ شَيْءٍ» مفعول أول و «خَلْقَهُ» مفعولاً ثانياً على معنى أعطى كل شيء شكله وصورتَه التي تطابق المنفعو المنوطة به كما أعطى العين الهيئة

ص: 262

التي تطابق الإبصار، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه، وكذلك اليد والرجل واللسان. قاله مجاهد. أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر زوجين، والناقة والبعير، والرجل والمرأة، ولم يزاوج شيئاً منها غير جنسه، ولا ما هو مخالف لخلقه.

(وقيل: المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ، أي هو الذي ابتدعه) .

وقيل: المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا بالعكس، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً.

الثاني: أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ» مفعولاً ثانياً و «خَلْقَه» هو الأول فقدَّم الثاني عليه، والمعنى: أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون به.

وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق ونصرٌ عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله «خَلَقَهُ» بفتح اللام فعلاً ماضياً، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء. وهذا معنى قول الزمخشري: صفة المضاف يعني «كُلّ» (أو للمضاف إليه يعني «شَيْء» ) ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار للدلالة عليه. أي: أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار) ، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله

ص: 263

تعالى لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه.

فصل

اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه لم يبطش به، ولم يؤذه، فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع، وذلك يدل على فساد التقليد، ويدل أيضاً على قول التعليمية الذين يقولون: نستفيد معرفة الإله من قول الرسول، لأن موسى عليه السلام اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول. ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال (كما فعل الله تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك) .

ودلت الآية على ان المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا، ولقوله تعالى:{ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125]، وقال:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلَامَ الله} [التوبة: 6] .

فصل

قال بعضهم: إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار تكبراً

ص: 264

وتجبراً، لقوله تعالى:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلَاّ رَبُّ السماوات والأرض} [الإسراء: 102] فيمن نصب التاء في «عَلِمْتَ» كان ذلك خطاباً لموسى عليه السلام مع فرعون، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً بذلك، وقوله:{وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه، والعاقل بعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبِّر، ولأن قول موسى عليه السلام {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} يقتضي ذلك، لأن كلمة «الَّذِي» تقتضي وصف المعرفة بجملةٍ معلومةٍ عند المخاطب. وأيضاً فإن مُلْك فرعون لم يتجاوز القبطَ، ولم يبلغ الشام، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31] ، فمع هذا يعتقد أنَّه إله العالم؟

وقال آخرون: إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه.

واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه خالقُ نفسه، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها.

واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة، وبحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له.

فصل

قال هاهنا: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} ، وقال في سورة الشعراء: {وَمَا رَبُّ

ص: 265

العالمين} [23] ، وهو سؤال عن الماهية، فهما سؤالان مختلفان، والواقعة واحدة، والأقرب أن يقال: سؤال «مَنْ» كان مقدماً على سؤال «مَا» ، لأنه كان يقول: أنا اللهُ والرَّبُّ، فقال:«فَمَنْ رَبُّكُما» ، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام، لظهوره وجلائه، عدل إلى طلب الماهية، وهذا ينبه على أنه كان عالماً بالله، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره؛ وشرع في المقام الصعب، لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.

قوله: «قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا» ولم يقل: «فَمَن إلَهُكُمَا» لأنه أثبت نفسه رباً في قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18]، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال: أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر، وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ، فكذا هاهنا لما ادعى موسى عليه السلام ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام، أي: أنا الرَّبُّ الذي ربيتك، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ.

فصل

استدل موسى عليه السلام على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وهو قوله:{رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} ، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد عليه السلام في قوله:{سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1، 2، 3] وقال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلَاّ رَبَّ العالمين

ص: 266

الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 77، 78] .

واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى أن قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] .

واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة:

أحدها: أنَّ الطبيعي يقول: الثقيل هابط، والخفيف صاعد، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء، وأخفها النار ثم الهواء، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر، وهما أيْبَسُ ما في البدن، وهما بمنزلة الأرض، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء، وجعل تحته النفس التي هو بمنزلة الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب، وهي بمنزلة النار، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة.

وثانيها: أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات.

وثالثها: أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم، والمشروب، والملبوس، والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال، واللآلئ من البحار، ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة، ويجمعون بين الأشياء المختلفة، ويستخرجون لذائذ الأطعمة، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها،

ص: 267

وليس هذا مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوان، فأعطى الإنسان إنسانةً، والحمار حمارةً، والبعير ناقةً هداه لها ليدوم التناسل، وهدى الأولاد لثدي الأمهات، بل هذا غيب مختص بالحيوانات، بل هو حاصل في أعضائها، فخلق اليد على تركيب خاص، وأودع فيها قوة الأخذ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص، فخلق اليد على تركيب خاص، وأودع فيه قوة الأخذ، وخلق الرَّجل على تركيب خاص، وأودع فيها قوَّة المشي، وكذا العين، والأذن، وجميع الأعضاء، ثم ربط البعض بالبعض على وجه يحصل من ارتباطها مجموع واحد هو الإنسان.

وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع، لأن اتصاف كلِّ جسمٍ من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة الهادية إما أن يكون واجباً أو جائزاً، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن ذلك التركيب والقوى، فدل على أن ذلك جائز، والجائز لا بد له من مرجِّح، وليس ذلك المرجِّح هو الإنسان، ولا قواه، لأنَّ فعل ذلك يستدعي قدرةً عليه، وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد، والأمران نائيان عن الإنسان، لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل؛ فلا بد وأن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً، لأن الأجسام متساوية في الجسمية، واختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً فيفتقر إلى سبب آخر، والدور والتسلسل محالان، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني، ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فَلِمَ اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية، وبعضها بالحيوانية؟

فثبت أن المؤثر والمدبر قادر، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وصفاته، وإلا لافتقر إلى مدبر آخر، ولزم التسلسل، وهو محال، وإن كان واجب الوجود في قادريته وعالميتهن والواجب لذاته لا يتخصص ببعض

ص: 268

الممكنات دون البعض، فوجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً، وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً، فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى وقررها احتياج العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني، وهو واجب الوجود في ذاته وصفاته عالم بكل المعلومات، قادر على كل المقدورات، وذلك هو الله سبحانه وتعالى.

ص: 269

قوله: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} البال: الفكر، يقال: خطر بباله كذا، ولا يثنى ولا يجمعن وشذ جمعه على بالات، ويقال للحال المكترث بها، وكذلك يقال: ما بَالَيتُ بالة، والأصل بالية كعافية فحذفت لامه تخفيفاً.

فصل

قال المفسرون: البَالُ، الحالُ، أي ما حال القرون الماضية والأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود.

وفي ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوه:

الأول: أنَّ موسى عليه السلام لمَّا قرر أمر المبدأ قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ ظاهراً إلى هذا الحد {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} ما أثبتوه بل تركوه، فكأن موسى عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع بالدلالة القاطعة قَدَح فرعونُ في تلك الدلالة بقوله: إنْ كانَ الأمرُ على ما ذكرت من قوة الدلالة وجب على أهل القرون الماضية أن لا يغفلوا عنها. فعارض الحجة بالتقليد.

ص: 269

الثاني: أنَّ موسى عليه السلام لما هدده بالعذاب في قوله: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] قال فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} فإنها كذبت ولم يعذبوا؟

الثالث: وهو الأظهر، وأن فرعون لما قال:{فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49] فذكر موسى عليه السلام دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه، وفساد طريق فرعون، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام، ويشغله بالحكايات فقال:{فَمَا بَالُ القرون الأولى} فلم يلتفت موسى عليه السلام إلى ذلك الحديث وقال: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ «ولا يتعلق غرضي بأحوالهم، ولا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} ، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم.

فإن قيل: العلمُ الذي عند الرب، كيف يكون في الكتاب؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول، فذكروا في الجواب وجهين:

الأول: معناه: أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول: قوله:» فِي كِتَابٍ «يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أولالأمر لا سيما للكافر، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة؟

الوجه الثاني: أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك:{لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} .

ص: 270

وقيل: إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله، لأنه لم يعلم ذلك فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون والمراد بالكتاب: اللوحُ المحفوظ.

قوله: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} في خبر هذا المبتدأ وجوه:

أحدها: أنَّه «عِندَ رَبِّي» وعلى هذا فقوله: «فِي كِتَابٍ» متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف، أو خبر ثان.

الثاني: أن الخبر قوله: {عِندَ رَبِّي} ، فَعَلى هذا قوله:{فِي كِتَابٍ} معمول للاستقرار الذي تعلق به «في كتاب» كما تقدم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة:{والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقوله:

3662 -

رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ

فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ

ص: 271

وقال بعض النحويين: إنه إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف أو عديله حَسُنَ التقديم عندالأخفش وغيره، وهذا منه، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه، أو يكون حالاً من المضاف إليه، وهو الضمير في «عِلْمُهَا» ولا يجوز أن يكون «فِي كِتَابٍ» متعلقاً ب «عِلْمُهَا» على قولنا: إنَّ «عِنْدَ رَبِّي» الخبر، كما جاز تعلق «عِنْدَ» بِهِ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته.

الثالث: أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة: هذا حلوٌ حامضٌ، قاله أبو البقاء. وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ. والضمير في «عِلْمُهَا» فيه وجهان: أظهرهما: عوده على «القُرُونِ» والثاني: عوده على القيام لدلالة ذكر «القُرُونِ» على ذلك لأنه سأله عن بعث الأمم، والبعث يدل على يوم القيامة.

قوله: {لَاّ يَضِلُّ رَبِّي} في هذه الجملة وجهان:

أحدهما: أنَّها في محل جر صفة ل «كِتَاب» ، والعائد محذوف تقديره: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي، أو لا يضل حفظَه رَبِّي، ف «رَبِّي» ، فاعل «يَضِلُّ» على هذا التقدير.

وقيل: تقديره: لا يَضِلُّ الكتابُ رَبِّي، فيكون في «يَضِلُّ» ضمير يعود على الكتاب، و «رَبِّي» منصوب على التعظيم، وكان الأصل عن ربي، فحذف الرحف اتساعاً.

ص: 272

يقال: ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح.

والثاني: أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب - ساقها الله - تعالى - لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى.

وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة «لا يَضِلُّ» بضم الياء، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ، أي: لا يضيعُه، يقال: أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و «رَبِّي» فاعل على هذا التقدير.

وقيل: تقديره: لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه، أي من علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم. وفرِّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ، فقال: ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف، نقل ذلك الرماني عن العرب.

وقال الفراء: يقال: ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت في مكانه، وَضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتد له كقوله: ضلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ، ولا يقال: أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها.

قوله: «وَلَا يَنْسَى» في فاعل «يَنْسَى» قولان:

ص: 273

أحدهما: أنه عائد على «رَبِّي» أي: ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب.

والثاني: أن الفاعل ضمير عائد على «الكِتَابِ» على سبيل المجاز كما أسند إليه الإحصاء مجازاً في قوله: «إلا أحْصَاهَا» لما كان محلاً للإحصاء.

فصل

قال مجاهد في قوله: {لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى} : إن معنى اللفظين واحد أي: لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه. وفرق الأكثرون بينهما، فقال القفال: لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها، وما عُلِم من ذلك لم ينسه، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات، وقوله:«وَلَا يَنْسَى» دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير.

وقال مقاتل: لا يخطئ ذلك الكتاب رَبِّي، ولا يَنْسَى ما فيه.

(وقال الحسن: لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه. وقال أبو عمرو: وأصل الضلال الغيبوبة، والمعنى: لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء.

وقال ابن جرير: لا يُخطئ في التدبير، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً، وإذا عرفه لا ينساه) . وكلها متقاربة، والتحقيق هو الأول. واعلم أن فرعون لمَّا سال موسى عن الإله فقال:«فَمَنْ رَبُّكُمَا» وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال، أجاب بالصواب بأوجز عبارة، وأحسن معنى، ولما سأله عن القُرون الأولى، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبرمن ذلك، وكلها إلى عالم الغُيوب.

قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ} في هذا الموصول وجهان:

أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أو منصوب بإضمار أمدح، وهو على هذين التقديرين من كلام الله تعالى لا من كلام موسى، وإنما احتجنا إلى ذلك، لأن

ص: 274

قوله: «فَأَخْرَجْنَا بِهِ» وقوله: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} وقوله: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ» إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} لا يتأتى أن يكون من كلام موسى يعني: أنه وصف ربَّه تعالى بذلك، ثم التفت إلى الإخبار عن الله - تعالى - بلفظ التكلم؟

قيل: إنما جعلناه التفاتاً في الوجه الأول، لأت المتكلم واحد بخلاف هذا فإنه لا يتأتى فيه الالفتات المذكور وأخواته من كلام الله.

والثاني: أن «الَّذِي» صفة ل «رَبِّي» ، فيكون في محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم من إعراب «رَبِّي» . وفيه ما تقدم من الإشكال في نظم الكلام من قوله:«فَأخْرَجْنَا» وأخواته من عدم جواز الالتفات، وإن كان قد قال بذلك الزمخشريي والحوفي. وقال ابن عطية: إن كلام موسى تم عند قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وأن قوله: «فَأخْرَجْنَا» إلى آخره من كلام الله تعالى. وفيه وقرأ الكوفيون «

ص: 275

مَهْداً» بفتح الميم وسكون الهاء من غير ألف. والباقون: «مَهَاداً» بكسر الميم وفتح الحاء وألف بعدها. وفيه وجهان:

أحدهما: ثال المفضل: إنَّهما مصدران بمعنى واحد يقال: مَهَّدْتُهُ مَهْدًا ومِهَاداً.

والثاني: أنهما مخلفان، فالمِهَادُ هو الاسم، والمَهْد هو الفعل كالفرش والفراش، فالفَرْش المصدر، والفراش اسم لما يُفْرَش. أو أن مِهَاداً جمع مَهْد نحو فَرْخ وفرَاخ وكَعْب وكِعَاب. ووصف الأرض بالمَهْد إما مبالغة، وإما على حذف مضاف أي ذات مَهْدِ.

قال أبو عبيد: الذي اختاره مِهَاداً وهو اسم والمَهْد الفعل.

وقال غيره: المَهْد الاسم والمِهَادُ الجمع كالفَرْش والفِرَاشِ.

أجاب أبو عبيد: بأن الفَرْشَ والفِرَاشَ فعل.

قوله: «شَتَّى» فَعْلَى، وألفه للتأنيث، وهو جمع الشَّتيت نحو مَرْضَى في جميع مَرِيض، وجَرْحَى في جمع جَرِيح، وقتلى في جمع قتيل.

ص: 276

يقال: شَتَّ الأمرُ يَشِتُّ شَتًّا وَشَتَاتاً فهو شَتٌّ أي تفرق، وشَتَّان اسم فعل ماض بمعنى: افْتَرَقَ، ولذلك لا يكتفي بواحد. وفي «شَتَّى» أوجه:

أحدها: أنَّها منصوبةٌ نعتاً لأزواج، أي أزواجاً متفرقة، بمعنى مختلفة الألوان (والطعوم) .

والثاني: أنَّها منصوبةٌ على الحال من أزواج، وجاز مجيء الحال من النكرة لتخصصها بالصفة، وهي «مِنْ نَبَاتٍ» .

الثالث: أن تنتصب على الحال أيضاً من فاعل الجار، لأنه لما وقع وصفاً وقع ضميراً فاعلاً.

الرابع: أنه في محل جر نعتاً لنبات، قال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة لنبات، ونبات مصدر سمي به النبات كما سمي بالنبت، واستوى فيه الواحد والجمع، يعني: أنها شَتَّى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم ووافقه أبو البقاء أيضاً، والظاهر الأول.

قوله: «كُلُوا» منصوب بقول محذوف، وذلك القول منصوب على الحال من فاعل «أخْرَجْنَا» تقديره: فأخرَجْنَا كَذَا قائلينَ كُلُوا.

وترك مفعول الأكل على حد تركه في قوله تعالى: «وَكُلُوا واشْرَبُوا» «وارْعُوا» (

ص: 277

رعى) يكون لازماً ومتعدياً، يقال: رَعَى دابَّته رعياً فهو راع، ورعى الدابة تَرْعَى رعياً فهي راعية، وَجَاء في الآية متعدياً، و «النُّهَى» فيه قولان: أحدهما أنه جمع نُهْيَة كغُرَف جمع غرفة.

والثاني: أنَّها اسمٌ مفرد، وهو مصدر كالهُدَى والسُّرى، قاله أبو عليّ وقد تقدم أول الكتاب أنهم قالوا لم يأت مصدر على «فُعَلٍ» من المعتل اللام إلا سُرَى وهُدَى وبُكَى، وأن بعضهم زاد لُقَى، وأنشد عليه بيتاً.

وهذا لفظ فيكون خامساً. والنُّهَى: العقل سُمِّي لعقل به، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح.

فصل

لما ذكر موسى عليه السلام الدلالة الأولى، وهي (دِلَالَةٌ عامَّة «تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال:» الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرضَ مِهَاداً «أي جعلها بحيث يتصرف العباد، وغيرهم عليها من النوم، والقُعُود، والقِيَام، والزراعة، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى:{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] .

{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} السَّلْكُ: إدخال الشيء في الشيء، أي: أدْخَلَ فِي الأرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها.

قال ابن عباس: سَهَّل لكم فيها طرقاً. {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} تقدم الكلام فيه في البقرة» فَأخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً «تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره: يقول ربِّي الذي

ص: 278

جعل كذا وكذا» فأخْرَجْنَا «نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة» أزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ «.

وتقدم أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى عليه السلام، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي والحراسة، فأما إخراج لنبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام، فثبت أنه كلام الله تعالى.

وقوله:» أزْوَاجاً «أي أصنافاً سميت بذلك، لأنها مزدوجة مقترنة بعضها ببعض.» شَتَّى «مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم.

» كُلُوا «أمر إباحة.» وَارْعَوْا أنْعَامَكُمْ «تقول العرب: رَعَيْتُ الغنمِ فَرَعَت أي أسِيموا أنْعَامَكُمْ تَرْعَى.» إنَّ في ذَلِكَ «أي فيما أنزلت لكم من هذه النعم» لآيَاتٍ «لعبرة ودلالات.» لأُولِي النُّهَى «لذوي العقول.

(قال الضحَّاك) » لأُولِي النُّهَى «الذي ينتهون عما حرم الله عليهم.

وقال قتادة: لذَوِي الورع.

قوله تعالى:» مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ «الآية، لما ذكر منافع الأرض السماء بيَّن أنَّها غير مخلوقة لذواتها، بل بكونها وسائل إلى منافع الآخرة، فقال:» مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ «أي من الأرض.

فإن قيل: إنَّما خَلَقَنَا من النُّطْفَةِ على ما بَيَّنَ في سائر الآيات.

فالجواب من وجوه:

الأول: أنَّه لمَّا خَلَق أصلنا وهو آدم عليه السلام من تُرابٍ كما قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] حسن إطلاق ذلك علينا.

الثاني: أنَّ تَوَلُّدَ الإنسان إنَّما هو من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدَّان من

ص: 279

الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النباتي، والنبات إنما يحدث من المتزاج الماء والتراب، فصح أنه سبحانه خَلَقَنا مِنْهَا، وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.

الثالث: روى ابن مسعود أن مَلَكَ الأرحام يأتي إلى الرَّحيم حين يكتب أجل المولود ورزقَه، والأرض التي يُدْفَن فيها، وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة، ثم يدخلها في الرحم. ثم قال:{وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي عند الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} عند البعث.

ص: 280

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} الآية. هذه الرؤية بصرية فلما دخلت همزة النقل تعدت بها إلى اثنين أولهما الهاء والثاني «آيَاتِنَا» . والمعنى: أبْصَرْنَاه، والإضافة هنا قائمة مقام التعريف العهدي، أي: الآيات المعروفة كالعصا واليد ونحوهما. وإلا فَلَم يُرِ الله تعالى فرعون جميع آياته.

وجوَّز الزمخشري أن يراد بها الآيات على العموم، بمعنى أن موسى عليه السلام أراه الآية التي بعث بها وعدد عليه الآيات التي جاءت بها الرسل قبله عليهم السلام وهو نبيٌّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به.

قال أبو حيان: وفيه بُعد، لأن الإخبار بالشيء لا يسمَّى رؤية له إلا بمجاز بعيد

ص: 280

وقيل: بل الرؤية هنا قلبية، فالمعنى: أعْلَمْنَاهُ، وأيَّد ذلك أنه لم يُرِه إلا العصا واليد فقط.

ومن جوَّز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، أو إعمال المشترك في معنييه يجيز أن يراد المعنيان جميعاً.

وتأكيد الآيات ب «كُلَّها» يدل على إرادة العموم، لأنهم قالوا: فائدة التوكيد بكلٍّ واخواتها رفع توهم وضع الأخص موضع الأعم فلا يُدَّعى أنه أراد بالآيات آيات مخصوصة، وهذا يتمشى على أن الرؤية قلبية.

ويراد بالآيات ما يدل على وحدانية الله تعالى وصدق المبلِّغ، فأما الآيات الدالة على الوحدانية فقوله:{الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]، وقوله:{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [طه: 53] إلى آخره. وما ذكره في سورة الشعراء: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ} [الشعراء: 23 - 24] الآيات. وأما الآيات الدالة على صدق المبلِّغ فهي الآيات التسع المختصة بموسى عليه السلام، وهي العَصَا، واليَد، وفلقُ البرح، والحجرُ، والجرَادُ، والقملُ، والضَّفَادِع، والدَّم، ونَتْقُ الجَبَلِ. ومعنى «أَرَيْنَاهُ» عرَّفنا صحتها، وأوضحنا له وجه الدلالة فيها. وإنا أضاف نفخَ الروح إلى نفسه فقال:{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] مع أن النفخَ كان من جبريل عليه السلام - ولم يذكر مفعول التكذيب والإباء تعظيماً له، وهو معلوم.

قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} يعني الآيات التسع «فَكَذَّب» بها وزعم أنها سِحْرٌ «وَأبَى» أن يسلم.

فإن قيل: قوله: «كُلَّهَا» يفيد العموم، والله - تعالى - ما أراه جميع

ص: 281

الآيات، لأن من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى عليه السلام وبعده.

فالجواب: لفظ الكُلِّ وإنْ كانَ للعموم لكن قج يستعمل في الخصوص مع القرينة، كما يقال: دَخَلْتُ السوق فاشتريت كلَّ شيء، أو يقال إن موسى عليه السلام أراه آياته، وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء، فكذَّب فرعونُ بالكُلِّ، أو يقالأ: تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل، فحكى الله - تعالى - ذلك على الوجه الذي يلزم.

قال القاضي: الإباء الامتناع، وإنه لا يوصف به إلا من كَذَّبَ بتمكنٍ من الفعل والترك، ولأنه تعالى ذمَّه بأنه كذَّب، وبأنه أبَى، وإن لم يقدر على ما هو فيه لم يصح. وهذا السؤال وجوابه تقدم ذمَّه بأنه كذَّب، وبأنه أبَى، وإن لم يقدر على ما هو فيه لم يصح. وهذا السؤال وجوابه تقدم في سورة البقرة في {إِبْلِيسَ أبى واستكبر} [34] .

قوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} يعني مصر {بِسِحْرِكَ ياموسى} وتركيب هذه الشبهة عجيب، وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون مبغضين له جداً بقوله:{أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} ، لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية، ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] ، ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته عليه السلام وهي أنَّ ما جئتنا به سِحْرٌ لا معجز، ولمَّا علم أنَّ المعجز إنما يتميز عن السحر، لكون المعجز مما يتعذر بمعارضته قال:{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} .

قوله: «فَلَنَأتِيَنََّكَ» جواب قسم محذوف تقديره: والله لنأتينَّكَ. وقوله «بِسِحْرٍ» يجوز أن يتعلق بالإتيان وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل الإتيان أي ملتبسين بسحرٍ.

قوله: «مَوْعِداً» يجوز أن يكون زماناً كقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] ويرجحه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، (والمعنى: عَيَّن لنا وَقْتَ اجتماعنا، ولذبك أجابهم بقوله:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} وضعَّفوا هذا بأنه ينبو عنه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} .

ص: 282

وبقوله: «لَا نُخْلِفُه» . وأجاب عن قوله: «لَا نُخْلِفُهُ» بأن المعنى: لا نخلف الوقت في الإجماع فيه. ويجوز أن يكون مكاناً. والمعنى: بَيِّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت فنأتيه، ويؤيد بقوله:«مَكَاناً سُوًى» . قال فهذا يدل على أنه مكان، وهذا يَنْبُو عنه قوله:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، ويجوز أن يكون مصدراً أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلِفه، ويؤيد هذا قوله:{لَاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ} ، لأن الموعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه، وإلى هذا نحا جماعة مختارين له ويُرَدُّ عليهم بقوله:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} (فإنه لا يطابقه) .

وقال الزمخشري: إن جعلته زماناً نظراً في أن قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} مطابق له، لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفاً، وأن يعضل عليك ناصب مكاناً، (وإن جعلته مكاناً) لقوله:«مَكَاناً سُوى» لزمك أيضاً أن توقع الإخلاف على المكان، وأن لا يطابق قوله:{مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، وقراءة الحسن غير مطابقة له زماناً ومكاناً جميعاً، لأنه قرأ «يَوْمَ الزِّينَةِ» بالنصب، فقي أن يُجْعَل مصدراً يعني الوعد، ويقدِّر مضاف محذوف أي: مكان الوعد، ويجعل الضمير في «تُخْلِفُه» للموعد، و «مكاناً» بدل من المكان المحذوف.

فإن قلت: فكيف طابقه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابقه لفظاً، لأنهم لا بدَّ لهم أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك الزمان، فبذكر الزمان علم المكان

ص: 283

وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى: إنجاز وَعْدِكم يوم الزينة، وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى، ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى: اجْعَلْ بينَنَا وبينَك وَعْداً لا نُخْلِفُه.

وقال أبو البقاء: هو هنا مصدر لقوله: {لَاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ} والجعل هنا بمعنى التصير و «مَوْعِداً» مفعول أول، والظرف هو الثاني، والجملة من قوله:«لَا نُخْلِفُهُ» صفة لموعد، و «نَحْنُ» توكيدٌ مصحِّحٌ للعطف على الضمير المرفوع المستتر في «نُخْلِفُه» و «مكاناً» بدل من المكان المحذوف كما قدره الزمخشري. وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب «مَكَاناً» على المفعول الثاني ل «اجْعَلْ» قال: و «مَوْعِداً» على هذا مكان أيضاً، ولا ينتصب بموعد لأنه مصدر قد وصف.

يعني أنه يصح «نصبه مفعولاً ثانياً، ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق المبتدأ الخبر) في الأصل. وقوله: ولا ينتصب بالمصدر يعني أنه لا يجوز أن يدعي انتصاب» مَكَاناً «بموعد، والمراد بالموعد المصدر، وإن كان جائزاً من جهة المعنى، لأن الصناعة تأباه (وهو وصف المصدر. والمصدر شرط إعماله: عدم وصفه قبل العمل عند الجمهور) .

ص: 284

وهذا الذي منعه الفارسي وأبو البقاء جوزه الزمخشري وبدأ به فقال: فإن قلت: فيم ينتصب» مكاناً «؟ قلت» بالمصدر أو بما يدل عليه المصدر. فإن قلت: كيف يطابقه (فالجواب) : فقلت: أما على قراءة الحسن فظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير: (وَعْدَكم وَعْدَ يوم زينة.

قال أبو حيان: وقوله: إنَّ «مكاناً» ينتصب بالمصدر) ليس بجائز، لأنه قد وصف قبل العمل بقوله:«لَا نُخْلِفُه» ، وهو موصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. قال شهاب الدين: الظروف والمجرورات يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها، وفي المسألة خلاف مشهور. وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك.

وجعل الحوفيُّ انتصاب «مكاناً» على الظرف زانتصابه ب «اجْعَل» فتحصل في نصب «مكاناً» خمسة أوجه:

أحدها: أنه بدلٌ من (مكاناً) المحذوف.

الثاني: أنَّه مفعول ثانٍ للجَعْل.

الثالث: أنّضهُ نُصبَ بإضمار فعل.

الرابع: أنَّه منصوبٌ بنفس المصدر.

الخامس: أنَّه منصوبٌ على الظرف بنفس «اجْعِلْ» .

وقرأ أبو جعفر وشيبة: «لا نُخْلِفْه» بالجزم على جواب الأمر والعامى بالرفع على الصفة لموعدكم كما تقدم.

وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن: «سُوًى» بضم السين منوناً وصلاً.

والباقون: بكسرها. وهما لغتان مثل: عِدًى وعُدًى وطِوًى وطُوًى،

ص: 285

فالكسر والضم على أنها صفة بمعنى مكان عدلٍ إلَاّ أنَّ الصفة على فُعَل كثيرة نحو لُبَد وحُطَم (وقليلة على فِعَل.

ولم ينوِّن الحسن «سُوَى» أجرى الوصل مجرى الوقف ولا جائز أن يكون منع صرفه للعدل وعلى فُعَل كعُمَر، لأن ذلك في الأعلام، وأما فُعَل في الصفات فمصروفة نحو حُطَم، ولُبد) .

وقرأ عيسى بن عمر «سِوَى» بالكسر من غير تنوين وهي كقراءة الحسن في التأويل. (وسوى معناه: عدلاً ونصفة. قال الفارسي: كأنه قال قربهُ منكُم قِرْبَةً منَّا.

قال الأخفش) : «سوى» مقصور إن كسرت سينه أو ضممت، وممدود إن فتحتها، ثلاث لغات، ويكون فيها جميعاً بمعنى غَيْر، وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين، قال الشاعر:

3663 -

وَإنَّ أبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ

سِوًى بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلَانَ والفِزَرْ

ص: 286

قال: وتقول: مررتُ برجل سِواك وسُواك وسَوائِك أي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر. قاله النحاس.

وزعم بعض أهل اللغة والتفسير أنَّ معنى: «مَكَاناً سوًى» مستوٍ من الأرض ولا وعر فيه ولا جبل.

فصل

قال مقاتل وقتادة: مكاناً وعدلاً بيننا وبينك. وعن ابن عباس نصفاً أي: يستوى مسافة الفريقين إليه. وقال مجاهد: منصفاً بيننا. قال الكلبي: مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه.

وقال ابن زيد: مستوٍ لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري.

وقيل: «سِوَى» أي يستوي حالنا في الرضا به.

قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} العامة على رفع «يَوْمُ الزينة» خبراً ل «مَوْعِدِكُمْ» ، فإن جعلت «مَوْعِدُكُم» زماناً لم يحتج إلى حذف مضاف، إذى التقدير: زمانُ الوعدِ يَوْمَ الزينة. (وإنْ جعلتَه مصدراً احتجت إلى حذف مضاف تقديره: وَعْدُكُمْ وَعْدَ يومِ الزينة) .

وقرأ الحسن والعمش وعيسى وعاصم في بعض طرقه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري (وهبيرة)«يَوْمَ» بالنصب، وفيه أوجه:

أحدها: أن يكون خبراً لمَوْعِدُكم أن المراد بالموعد المصدر، أي

ص: 287

وَعْدُكُم كائنٌ في يوم الزِّينَةِ كقولك: القتال يوم كذا والسفر غداً.

الثاني: أن يكون «مَوْعِدُكم» مبتدأ، والمراد به الزمان، و «ضُحى» خبره على نية التعريف فيه، لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه. قاله الزمخشري ولم يبين ما الناصب ل «يَوْمَ الزِّيِنَةِ» ولا يجوز أن يكون منصوباً ب «مَوْعِدُكم» على هذا التقدير، لأن مَفْعِلاً مراداً به الزمان أو المكان لا يعمل وإن كان مشتقاً، فيكون الناصب له فعلاً مقدراً.

وواخذه أبو حسان في قوله: على نية التعريف. قال: لأنه وإن كان ضُحَى ذلك اليوم بعينه فليس على نية التعريف بل هو نكرة، وإن كان من يوم بعينه، لأنه ليس معدولاً عن الألف واللام كسَحَر، ولا هو معف بالإضافة، ولو قلت: جئت يوم الجمعة بَكراً، لم ندع أن بكراً كعرفة وإن كنت تعلم أنه من يوم بعينه.

الثالث: أن يكون «مَوْعِدُكُم» مبتدأ، والمراد به المصدر، و «يَوْمَ الزِّينَةِ» (ظرف له، و «ضُحَى» منصوب على الظرف خبراً للموعد كما أخبر عنه في الوجه الأول ب «يَوْمَ الزِّينَةِ» ) نحو: القتال يوم كذا.

قوله: «وَأنْ يُحْشَرَ النَّاسُ» في محله وجهان:

أحدهما: البحر نسقاً (على الزينة أي: مَوْعِدُكُم يومَ الزّينةِ ويوم أن يُحْشَرَ ويومَ حَشْر النَّاس) .

والثاني: الرفع نسقاً على «يوم» . التقدير: موعدكم يوم كذا وموعدكم أن يُحْشَرَ الناس أي حشرهم.

وقرأ ابن مسعود والجحدري وأو نهيك وعمرو بن فائد «وَأنْ تَحْش الناس» بتاء

ص: 288

الخطاب في «تَحْشرَ» وروي عنهم «يَحشر بياء الغيبة، و» الناسَ «نصب في كلتا القراءتين (على المفعولية) والضمير في القراءتين لفرعون أي وأن تَحْشرَ أنتَ يا فرعونُ (أوْ وأنْ يَحْشُرَ فرعون) .

وجوز بعضهم أن يكون الفاعل ضمير اليوم في قراءة الغيبة، وذلك مجاز لما كان الحشر واقعاً فيه نشب إليه نحو: نهاره صائم، وليله قائم.

و» ضُحَى «نصب على الظرف العامل فيه» يُحْشَر «ويذكر ويؤنث» والضَّحاء «بالمد وفتح الضاد فوق الضحى، لأن الضُّحى ارتفاع النهار والضَّحاءُ بعد ذلك، وهو مذكر لا غير.

فصل

قال مجاهد وقتادة والسدي:» يَوْمُ الزِّينَةِ «كان يوم عيد لهم يتزيَّنُون فيه، ويجتمعون في كل سنة. وقيل: هو يوم النيروز، قاله مقاتل.

وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: يوم عاشوراء.

واختلفوا في القائل {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} فقيل: هو فرعون بيِّن الوقت. قال: القاضي: لأن المطالب بالاجتماع هو فرعون.

والظاهر أنه من كلام موسى لأن جواب لقول فرعون {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} وأيضاً: إن تعيين يوم الزينة يقتضي اطلاع الكل على ما سيقع فيه، فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أن اليد له لا بالمبطل الذي يعرف أنه لس معه إلا التلبيس.

وأيضاً: فقوله:» مَوْعِدُكُمْ «خطاب للجميع، فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إما حمله على التعظيم وذلك لا يليق بحال فرعون معهما، أو على أن أقل الجمع

ص: 289

اثنان وهو غير جائز، أما لو جعلناه من موسى إلى فرعون وقومه استقام الكلام.

وإنما أوعدهم ذلك اليوم، ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه وكبت الكافرين، وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد في المجمع العام ليكثر المحدث بذلك الأمر العجيب في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر. قال القاضي: إنه عين اليوم بقوله» يَوْمَ الزِّينَةِ «، ثم عين من اليوم وقتاً معيناً بقوله:{وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} أي: وقت الضحوة نهاراً جهاراً.

ص: 290

قوله: {فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} التَّولِّي: قد يكون إعراضاً وقد يكون انصرافاً، والظاهر أنه هنا بمعنى الانصراف، وهو مفارقة موسى عن الحق «فَجَمَعَ كَيْدَهُ» مكره، وقومه، وحيله، وسحرتهن وآلاته «ثُمَّ أتَى» الموضع بما جمعه.

قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا.

وقيل: كانوا أربعمائة. وقال كعب: اثني عشر ألفاً. وقيل: أكثر من ذلك. ثم ضربت لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليها، وكان طول القبة سبعون ذراعاً. فقال لهم موسى عند ذلك يعني للسحرة الذين جمعهم فرعون {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} أي: لا تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق، وأنه سحر، وأنكم متمكنون من معارضتي، فَيُسْحِتَكم الله بعذاب أي: فيهلككم، قاله مقاتل والكلبي.

وقال قتادة: فيستأصلكم {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} .

ص: 290

الخيبة: الحرمان والخسران.

قوله: «وَيْلَكُمْ» قال الزجاج: يجوز في انتصاب «وَيْلَكُمْ» أن يكون المعنى ألزمهم الله وَيْلاً إن افتروا على الله، ويجوز على النداء كقوله:{ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} [هود: 72]{قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] .

قوله: «فَيُسْحِتَكُمْ» قرأ الأخوان وحفص عن (عاصم «فَيُسْحِتَكُم» بضم الياء وكسر الحاء. والباقون بفتحهما.

فقراءة الأخوين من أسْحَتَ رباعياً وهي لغة نجد وتميم.

قال) الفرزدق التميمي:

3664 -

وعَضَّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ

مَنَ المَالِ إلَاّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلِّفُ

وقراءة الباقين من سحته ثلاثياً وهي لغة الحجاز، وأصل هذه المادة لدلالة على الاستقصاء والنفاد، ومنه سحت الحالق الشعر الذي استقصاه، فلم يترك منه شيئاً، ويستعمل في الإهلاك والإذهاب، ونصبه بإضمار أن في جواب النهي.

ولمَّا أنشد الزمخخشري قول الفرزدق:

...

...

...

...

... .......

... . . (إلَاّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ)

قال بعد ذلك: في بيت لم تزل الرُّكَبُ تصطك في تسوية إعرابه.

ص: 291

قال شهاب الدين: يعني: أن هذا البيتَ صعبُ الإعراب، وإذ قد ذكر ذلك فلنذكر ما ورد في هذا البيت من الروايات، وما قاله الناس في ذلك على حسب ما يليق بهذا الموضوع، فأقول وبالله الحول: روي هذا البيت بثلاث روايات كل واحدة لا تخلو من ضرورة. الأولى: (لَمْ يَدَع) بفتح الياء والدال، ونصب مُسْحَت وفي هذه خمسة أوجه:

الأول: أن معنى (لَمْ يَدْعُ مِنَ المَالِ مُسْحَتاً) لم يبق إلا مُسْحَتٌ، فلما كان هذا في قوة الفاعل عطف عليه قوله:(أو مُجَلَّفُ)(بالرفع)، وبهذا البيت استشهد الزمخشري على قراءة أبَيّ والأعمش {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} [البقرة: 249] (برفع قليل) وقد تقدم.

الثاني: أنه مرفوع بفعل مقدر دل عليه (لَمْ يَدَع) والتقدير: أو بقي مُجَلَّف.

الثالث: أن (مُجَلَّف) مبتدأ وخبره مضمر، تقديره: أو مُجَلَّفٌ كذلك وهو تخريج الفراء.

ص: 292

الرابع: أنه معطوف على الضمير المستتر في «مُسْحَتاً» وكان من حق هذا أن يفصل بينهما بتأكيد ما إلا أنَّ القائل بذلك وهو الكسائي لا يشترط، وأيضاً «فهو جائز (في الضرورة) عند الكل.

الخامس: أن يكون (مُجَلَّفُ) مصدراً بزنة اسم المفعول، كقوله تعالى:{كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] أي تجليف وتمزيق، وعلى هذا فهو نسق على» عَضُّ زَمَانٍ «إذ التقدير: رَمَتْ بِنَا هُمُومُ المُنَى وعَضَّ زَمَانٍ أو تجليفٍ فهو فاعل لعطفه على الفاعل، وهو قول الفارسي، وهو أحسنها.

الرواية الثانية: فتح الياء وكسر الدال ورفع مُسْحَت، وتخريجها واضح، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق، فيرتفع» مُسْحَت، وتخريجها واضح، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق، فيرتفع «مُسْحَتٌ» بالفاعلية، ويرفع (مُجَلَّفٌ) بالعطف عليه ولا بد حينئذ من ضمير محذوف تقديره: من أجله أو بسببه ليرتبط الكلام.

ص: 293

الرواية الثالثة: (يُدَع) بضم الياء وفتح الدال على ما يسمَّ فاعله و (مُسْحضتٌ) بالرفع لقيامه مقام الفاعل و (مُجَلَّف) عطف عليه، وكان من حق الواو أن لا تحذف بل تثبت، لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، وإنما حذفت حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل.

وفي البيت كلام أطول من هذا تركته اختصاراً، وهذا لبُّه، وقد ذكرته في البقرة، وفسرت معناه ولغته، وصلته بما قبله فعليك بالالتفات إليه.

قوله: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي: تفاوَضُوا وتشاوَرُوا واستقروا على شيء واحد.

وقال مقاتل: اختلفوا فيما بينهم.

قال محمد بن إسحاق ووهب: لما قال لهم موسى {لَا تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً} قال بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر.

قال بعض المفسرين إن فرعون وقومه دخلوا مع السحرة وحدهم، أي تناظروا وتشاوروا في أمر موسى سرًّا من فرعون.

قال الكلبي: قالوا سرًّا إن غَلَبَنَا موسى اتبعناه. وهو قول ابن عباس.

قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى} أي المناجاة يكون مصدراً واسماً، أي: أسروا النحوى من فرعون.

قال ابن عباس: إنَّ نجواهُم إن غلبنا موسى اتبعناه.

وقال قتادة: إنْ كانَ ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء وإن كان من السماء فله أمر.

وقال السدي: نجواهم هو قولهم: {قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} [طه: 63] .

ص: 294

قوله: «إنْ هَذَانِ» اختلف القراء في هذه الآية فقرأ بن كثير وحده: «إنْ

ص: 294

هَذَانِ» بتخفيف «إنْ» والألف وتشديد النون. وحفص كذلك إلا أنه خفف نون «هذانِ» وقرأ أبو عمر «إنَّ» بالتشديد «هَذَيْنِ» بالياء وتخفيف النون. والباقون كذلك إلا أنهم قرءوا «هذانِ» بالألف.

فأما القراءة الأولى، وهي قراءة ابن كثير وحفص فأوضح القراءات معنًى ولفظاً وخطاً، وذلك أنهما جعلا (إن) المخففة من الثقيلة فأهملت، ولما أهملت كما هو الأفصح من وجهها خيف التباسها بالنافية فجيء باللام فارقةً في الخبر، ف «هَذَانِ» مبتدأ، و «لَسَاحِرَانِ» خبره، ووافقت خط المصحف، فإن الرسم «هَذَانِ» مبتدأ، و «لَسَاحِرَانِ» خبره، ووافقت خط المصحف، فإن الرسم «هَذَانِ» دون ألف ولا ياء (وسيأتي بيان ذلك) .

وأما تشديد نون «هَذَانِّ» فعلى ما تقدم في سورة النساء متقناً، وأما الكوفيون فيزعمون أنَّ «أنْ» نافية (بمعنى (ما)) واللام (إلآ) وهو خلاف مشهور، وقد وافق تخريجهم هنا قراءة بعضهم {مَا هَذَانِ إلَاّ ساَحِرَانِ} .

وأما قراءة أبي عمرو فواضحة من حيث الإعراب والمعنى، أما الإعراب ف «هَذَيْنِ» اسم «إنَّ» وعلامة نصبه الياء، و «لَسَاحِرَانِ» خبرها، ودخلت اللام توكيداً، وأما من حيث المعنى فإنهم أثبتوا لهما السحر بطريق تأكيدي من طرفيه، ولكنهم استشكلوها

ص: 295

من حيث خط المصحف، وذلك أنه رسم «هَذَانِ» بدون ألف ولا ياء، فَأتيانه بالياء زيادة على خط المصحف.

قال أبو إسحاق: لا أجيز قراءة أبي عمرو لأنها خلاف المصحف.

وقال أبو عبيد: رأيتها في الإمام مصحف عثمان «هَذَانِ» ليس فيها ألف وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها.

قال شهاب الدين: وهذا لا ينبغي أن يرد به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياء خارجة عن القياس، وقد نَصُّوا على أنه لا يجوز القراءة بها، فليكن هذا منها أعين: مما خرج عن القياس، فإن قلت ما نقلته عن أبي عبيد مشترك الإلزام بين أبي عمرو وغيره، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادة الياء يعترض عليهم بزيادة الألف، فإن الألف ثابتة في قراءتهم ساقطة من خط المصحف.

فالجواب ما تقدم من قول أبي عبيد أنه رآهم يسقطون الألف من رفع الاثنين فإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء، وذهب جماعة منهم عائشة رضي الله عنها وأبو عمرو إلى هذا مما لَحَن فيه الكاتب وأفهم بالصواب يعنون أنه كان من حقه أن يكتبه بالياء فلم يفعل، فلم يقرأه الناس إلا بالياء على الصواب.

وأما قراءة الباقين ففيها أوجه:

أحدها: أنَّ «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هَذَانِ» مبتدأ، و «لَسَاحِرَانِ» خبره، وكن ورود «إنَّ» بمعنى نَعَم قوله:

3665 -

بَكَرَ العَوَاذِلُ في المَشي

بِ يَلُمْنَنِي وَألُومُهُنَّهْ

وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا

كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ

ص: 296

أي فقلت: نعم، والهاء للسكت، وقال رجل لابن الزبير: لعن الله ناقةً حَمَلَتْنِي إليك. إنَّ صاحِبَها. أي نَعَم ولعَنَ صاحبَها.

وهذا رأي المبرد وعلي بن سليمان.

وهو مردود من وجهين:

أحدهما: عدم ثبوت «إنَّ» بمعنى «نَعَمْ» وما أوردوه يؤول، أما البيت فإن الهاء اسمها، والخبر محذوف لفهم المعنى تقديره: إنَّه كذلك، وأما قول ابن الزبير فذاك من حذف المعطوف عليه وإبقاء المعطوف، وحذف خبر «إنَّ» للدلالة عليه تقديره: إنها وصاحبها ملعونان وفيه تكلف لا يخفى.

والثاني: دخول اللام على خبر المبتدأ دون المؤكد بأنَّ المكسورة، لأن مثله لا يقع إلا ضرورة، كقوله:

3666 -

أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ

تَرْضَى مِنَ اللَّحْمِ بِعَظْمِ الرَّقَبَهْ

وقد يجاب عنه بأنَّ «لَسَاحِرَانِ» يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف دخلت عليه هذه اللام تقديره لَهُمَا ساحران، وقد فعل ذلك الزجاج كما سيأتي حكايته عنه.

الثاني: أنَّ اسمها ضمير القصة وهو «ها» التي قبل «ذَان» ِ، وليست ب «ها» التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة، والتقدير: إنها القصة ذَانِ لسَاحِرَانِ.

ص: 297

وقد ردوا هذا من وجهين:

أحدهما: من جهة الخط (وهو أنه) لو كان كذلك لكان ينبغي أن يكتب إنها، فيصلوا الضمير بالحرف قبله كقوله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكتبهم إياها مفصولة من «إنَّ» متصلة باسم الإشارة يمنع كونها ضميراً وهو أوضح.

الثاني: أنه يؤدي إلى دخول لام الابتداء في الخبر غير المنسوخ وقد يجاب عنه بما تقدم.

الثالث: أن اسمها ضمير الشأن محذوف والجملة من المبتدأ والخبر بعده في محل رفع خبر لأن التقدير: إنه أي: الأمر والشأن. وقد ضعف هذا بوجهين:

أحدهما: حذف اسم «إنَّ» وهو غير جائز إلا في شعرٍ بشرط أن لا تباشر «إنَّ» فعلاً، كقوله:

3667 -

إنَّ مَنْ يَدْخُل الكَنِيسَةَ يَوْماً

يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءا

والثاني: دخول اللام في الخبر، وقد أجاب الزجاج بأنها داخلة على مبتدأ محذوف تقديره: لَهُمَا سَاحِرَانِ، وهذا قد استحسنه شيخه المبرد أعني جوابه بذلك.

ص: 298

الرابع: أنَّ «هَذَانِ» اسمها و «لَسَاحِرَانِ» خبرها.

وقد رد هذا بأنه كان ينبغي أن يكون «هَذَيْنِ» بالياء كقراءة أبي عمرو، وقد أجيب عن ذلك بأنه على لغة بني الحرث وبني الصَّخم وبني العنبر وزبيد وعذرة وسراة وخثعم وكِنَانَة، وحكى هذه اللغة الأئمة الكبار كأبي الخطاب وأبي زيد الأنصاري (والكسائي) .

قال أبو زيد: سمعت من العرب من ينقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفاً، يجعلون المثنى كالمقصور، فيثبتون ألفاً في جميع أحواله، ويقدرون إعرابه بالحركات، وأنشدوا قوله:

3668 -

فَأَطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجَاعِ وَلَوْ يَرَى

مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا

أي لنابيْه.

وقوله:

3669 -

إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا

قَدْ بَلَغَا في المَجْدِ غَايَتَاهَا

أي غايتيها.

ص: 299

قال الفراء: وحكى بعض بني أسد قال: هذا خطُّ يدَا خطُّ أخي أعرفه وقال قطرب: هؤلاء يقولون: رأيتُ رجلَانِ، واشتريت ثوبَانِ قال: وقال رجل من بني ضبة جاهليّ:

3671 -

(أعْرِفُ مِنْهَا الأنْفَ وَالعَيْنَانَا

وَمَنْخِرَيْنِ أَشْبَهَا ظَبْيَانَا)

وقال آخر:

3671 -

كَأنَّ صَرِيفَ نَابَاهُ إذَا مَا

أَمَرَّهُمَا قَدِيمَ الخَطْبَانِ

(الخطبان: ذكر الصِّرْدَان) .

وروى ابن جني عن قطرب:

3672 -

هِيَّاكَ أنْ تَبْكِي بِشَعْشَعَانِ

خَبِّ الفُؤَادِ مَائِلِ اليَدَانِ

قال الفراء: وذلك - وإن كان قليلاً - أقيس. لأن ما قبل حرف التثنية مفتوح فينبغي أن يكون ما بعده ألفاً لانفتاح ما قبلها وذكر قطرب أنهم يفعلون ذلك فراراً إلى الألف التي هي أخف حروف المد ويقولون: كسرتُ يداه، وركبتُ علاه، يعني يديه وعليه، وقال شاعرهم:

ص: 300

3673 -

تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أذْنَاهُ ضَرْبَةً

دَعَتْهُ إلى هَابِي التُّرَابِ عَقِيم

إلى غير ذلك من الشواهد.

واستدل لقراءة أبي عمرو بأنها قراءة عثمان وعائشة وابن الزبير وسعيد بن جبير، روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى:{إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} وعن قوله: {والصابئون والنصارى} (في المائدة: 69)، وعن قوله:{لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ} [النساء: 162] إلى قوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} [النساء: 162]، فقالت: يا ابن أخي هذا خطأ من الكاتب. وروي عن عثمان أنه نظر في المصحف، فقال: أرى فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها.

ص: 301

وعن ابن عمرو أنه قال: إنِّي لأَسْتَحي أن أقرأ {أنْ هذان لَسَاحِرَانِ} .

وقرأ ابن مسعود: «وَأسَرُّوا النَّجْوَى أنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ» بفتح «أن» وإسقاط اللام على أنها وما في خبرها بدل من «النَّجْوَى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه أبو حيان ولم ينكره، وفيه نظر، لأن الاعتراض بالجملة القولية مفسرة للنجوى في قراءة العامة. وكذا قاله الزمخشري أولاً فكيف يصح أن يجعل {أنْ هذان لَسَاحِرَانِ} بدلاً من النجوى؟

وقرأ حفص عن عاصم بتخخفيف النونين.

وعن الأخفش: {إنْ هذان لَسَاحِرَانِ} خفيفة بمعنى ثقيلة وهي لغة لقوم يرفعون بها ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التني تكون في معنى (ما) .

وروي عن ابن أبي كعب {ما هذان إلَاّ لَسَاحِرَانِ} ، وروي عنه أيضاً {إنْ هذان إلَاّ لَسَاحِرَانِ} ، وعن الخليل بمثل ذلك.

وعنة أُبَيِّ أيضاً: {إنْ ذَانِ لَسَاحِرَانِ} .

فصل

قال المحققون: هذه القراءات لا يجوز صحيحها، لأنها منقولة بطريق الآحاد، والقرآن يجب أن يكون منقولاً بالتواتر، ولو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق

ص: 302

الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندنا كل القرآن، لأنه لما جاز في هذه القراءات أنها من القرآن مع كونها ما نقلت بالتواتر، ولو جوزنا إثبات زيادة في القرآن بطريق الآحاد لما أمكننا القطع بأن هذا الذي هو عندا كل القرآن، لأنه لما اجاز في هذه القراءات أنها من القرآن مع كونها ما نقلت بالتواتر جاز في غيرها ذلك.

فثبت أن تجويز كون هذه القراءات من القرآت يطرق جواز الزيادة والنقصان والتغيير في القرآن، وذلك يُخرج القرآن عن كونه حجة، ولما كان ذلك باطلاً فكذلك ما قرئ.

واما الطعن في القراءة المشهورة فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن، وذلك يُفضِي إلى القدح في التواتر، وإلى القدح في كل القرآن، وهو باطل، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضاً بخبر الواحد المنقول عن بعض الصحابة.

وأيضاً: فإن المسلمين أجمعوا على أنَّ ما بين الدفتين كرمُ الله، وكلام الله لا يجوز أن يكون لحناً وغلطاً ولذلك ذكر النحويون وجه تصحيح القراءة المشهورة كما تقدم.

فصل

اعلم أنه تعالى لما ذكر ما أسروه من النجوى حكى عنهم ما أظهروه بما يدل على التنفير عن متابعة موسى، وهو أمور:

أحدها: قولهم «إنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ» وهذا طعن منهم في معجزات موسى ومبالغة في التنفير عنه، لأن كل طبع سليم ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر لأنَّ الإنسان يعلم أن السِّحْر لا بقاء له، فإذا اعتقدوا فيه السحر قالوا: كيف نتبعه، وهو لا بقاء له ولا لدينه؟

وثانيها: قوله: {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} وهذا نهاية التنفير، لأن مفارقة الوطن والمنشأ شديدة على القلب. وهذا كقول فرعون: تُرِيدُ أنْ تُخْرِجَنَا مِنْ أرْضِنَا يا مُوسَى، فكأنَّ السحرة تلقفوا هذه الشبهة من فرعون ثم أعادوها.

ص: 303

وثالثها: قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} ، وهذا أيضاً له تأثير شديد في القلب، فإن العدو إذا استولى على جميع المناصب والأشياء التي يرغب فيها كذلك يكون في نهاية المشقة على القلب. قال ابن عباس: يَعْني براءة قومِكم وأشْرَافِهم يقال: هؤلاء طريقة قومهم أي: أشْرَافُهُمْ.

والمُثْلَى تأنيثُ الأمْثَلِ (وهو الأفضل. وسمي بالأفضل بالأمثل)، لأن الأمثل هو الأشبه بالحق وقيل: الأَمْثَلُ: الأوضح الأظهر وحدث الشعبي عن عليٍّ قال: يصرفان وجوه الناس إليهما.

وقال قتادة: «طَرِيقَتُكُمْ المثْلَى» يومئذ بنو إسرائيل، كانوا أكثر القوم عدداً (وأموالاً) ، فقال عدو الله يريد أن يذهبا بهم لأنفسهم.

وقيل: بطريقتكم أي بسنتكم ودينكم الذي أنتم عليه. والمُثْلَى: نعت الطريقة، تقول العرب: فلان على الطريقة المُثْلَى يعني على الهدى المستقيم.

وقيل: الطريقة المُثْلى الجاه والمنصب والرياسة.

قوله: «بِطَرِيقَتِكُمْ» الياء مُعَدِّية كالهمزة، والمعنى بأهل طريقتكم. قال الزجاج: هذا من باب حذف المضاف. وإذا كانت الطريقة عبارة عن العادة فلا حذف.

ص: 304

قوله: «فَأجْمِعُوا» قرأ أبو عمرو «فاجْمَعوا» بوصف الألف وفتح الميم. والباقون: بقطعها مفتوحة وكسر الميم، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة يونس.

ص: 304

و «كَيْدَكُم» مفعول به، وقيل: هو على إسقاط الخافض أي: على كَيْدِكم وليس بشيء. فأما قراءة أبي عمرو في من الجمع أي لا تدعوا شيئاً من كَيْدِكُمْ إلا جئتم به بدليل قوله: «فَجَمَعَ كَيْدَهُ» .

ومعنى القراءة الباقين قيل: معناه الجمع أيضاً تقول العرب: أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد.

والصحيح أن معناه العزم والإحكام قال الفراء: الإجماع الإحكام والعزيمة على الشيء. أي أجمعُوا كُلكم على كيده مجتمعين له ولا تختلفوا فيختل أمركم.

{ثُمَّ ائتوا صَفّاً} أي: جميعاً، قاله مقاتل والكلبي.

وقيل: أي: مُصْطَفِّين مجتمعين، ليكون أنظم لأمركم وأشد لهيبتكم.

وقال أبو عبيدة، والزجاج: الصَّف موضع الجمع، ويسمى المصلى صفاً، أي: ائتوا المكانَ الموعودَ الذي تجتمعون فيه ليعيدكم.

قوله: «صَفًّا» يجوز أن يكون حالاً من فاعل «ائْتُوا» أي ائْتُوا مصطفين أي ذوي صَفٍّ فهو مصدر في الأصل.

وقيل: هو مفعول به أي: ائْتُوا قوماً صفًّا، وفيه التسمية بالمصدر. أو هو

ص: 305