المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

على حذف مضاف أي ذوي صف. قوله: «وَقَدْ أفْلَحَ» قال الزمخشري: - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٣

[ابن عادل]

فهرس الكتاب

الفصل: على حذف مضاف أي ذوي صف. قوله: «وَقَدْ أفْلَحَ» قال الزمخشري:

على حذف مضاف أي ذوي صف.

قوله: «وَقَدْ أفْلَحَ» قال الزمخشري: اعتراض بمعنى: وقد فاز من غلب.

يعني بالاعتراض: أنه جيء بهذه الجملة (أجنبية من كلامهم ومقولتهم، لأن من جملة قولهم:

{قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} [طه:‌

‌ 65]

، وهذه الجملة) أعني: قوله: «وَقَدْْ أَفْلَحَ» من كلام الله تعالى، فهي اعتراض بهذا الاعتبار. وفيه نظر. لأن الظاهر أنها من (مقولاتهم قالوا هذا تحريضاً لقومهم على القتال وحينئذ فلا اعتراض.

قوله

: {قَالُواْ

ياموسى

إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} الآية: وهنا حذف والتقدير: فحضروا الموضع قالوا السحرة يا موسى.

قوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} فيه أوجه:

أحدها أنه منصوب بإضمار فعل تقديره: اختر أحد الأمرين. كذا قدره الزمخشري.

قال أبو حيان: هذا تفسير معنى لا تفسير إعراب، وتفسير الإعراب إما أن تختار الإلقاء.

والثاني: أنه مرفوع على خبر ميتدأ محذوف تقديره: الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا. كذا قدره الزمخشري.

الثالث: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: إلقاؤك أول، ويدل عليه قوله:{وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى} ، واختار أبو حيان، وقال: فتحسن

ص: 306

المقابلة من حيث المعنى، وإن لم تحسن المقابلة من حيث التركيب اللفظي. قال: وفي تقدير الزمخشري الأمر إلقاؤك فيه. وتقدم نظير هذا في الأعراف.

فصل

معنى الكلام: إما أن تلقي ما معك قَبْلنا (وإما أنْ نلقي ما معنا قبلك) وهذا التخيير مع تقديمه في الذكر حسن أدب منهم وتواضع، فلا جرم رزقهم الله الإيمان ببركته، ثم إن موسى عليه السلام قابل أدبهم بأدب فقال:«بَلْ أَلْقُوا» .

فإن قيل: كيف يجوز أن يقول موسى «بَلْ أَلْقُوا» فيأمرهم بما هو سحر وكفر لأنهم إذا قصدوا بذلك تكذيب موسى عليه السلام كان كفراً؟

فالجواب من وجوه:

الأول: لا نسلم أن نفس الإلقاء كفر، لأنهم إذا ألقوا وكان غرضهم أن يظهروا، الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة موسى عليه السلام (كان ذلك الإلقاء إيماناً إنما الكفر هو القصد إلى تكذيب مويى عليه السلام، وهو عليه السلام إنما أمر بالإلقاء لا بالقصد إلى التكذيب فزال السؤال.

والثاني: ذلك الأمر كان مشروطاً، والتقدير: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين، كقوله تعالى:{فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23](أي: إن كنتم قادرين) .

الثالث: أنه لما تعيَّن ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار ذلك جائزاً، وهذا

ص: 307

كالمحق إذا علم في أن قلب واحد شبهة ، وأنه لو لم يطالبه وتقريرها بأقصى ما يقدر عليه لبقيت تلك الشبهة في قلبه ويخرج بسببها عن الدين، فإن للمحق أن يطالبه بتقريرها على أقصى الوجوهن ويكون غرضه من ذلك أن يجيب عنها، ويزيل أثرها عن قلبه، فمطالبته بذكر الشبهة لهذا الغرض جائز فكذا ههنا.

الرابع: أن لا يكون ذلك أمراً بل معناه: إنكم إن أردتم فعله فلا مانع منه حسًّا لكي ينكشف الحق.

الخامس: أن موسى عليه السلام لا شك أنه كان كارهاً لذلك ولا شك أنه نهاكم عن ذلك بقوله: {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61] وإن كان كذلك استحال أن يأمرهم بذلك، لأن الجمع بين كونه ناهياً آمراً بالفعل الواحد محال، فعلمنا أن أمره غير محمول على ظاهره، وحينئذ يزول الإشكال.

فإن قيل: لم قدمهم في الألقاء على نفسه مع أن تقديم إسماع الشبهة على إسماع الحجة غير جائز، فكذا تقديم إرائة الشبهة على إرائة الحجة يجب أن لا يجوز، لاحتمال أنه ربما أدرك الشبهة ثم لا يتفرغ لإدراك الحجة بعده، فيبقى حينئذ في الكفر والضلال، وليس لأحد أن يقول: إن ذلك كان بسبب أنهم لما قدموه على أنفسهم فهو عليه السلام قابل ذلك بأن قدمهم، لأن أمثال ذلك إنما يحسن فيما يرجع إلى حظ النفس فأما ما يرجع إلى الدليل والشبهة فغير جائز.

فالجواب أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزة مرةً واحدةً فما كان به حاجة إلى إظهارها مرة أخرى، والقوم إنما جاءوا لمعارضته، فقال عليه السلام لو أظهرت المعجزة أولاًلكنت كالسبب في إقدامهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهولا يجوز، ولكنني أفوض المر إليهم باختيارهم على إظهار السحر وقصد إبطال المعجزة وهو لا يجوز، ولكنني أفوض الأمر باختيارهم يظهرون ذلك السحر، ثم أظهر أنا ذلك المعجز الذي يبطل سحرهم، فيكون هذا التقديم سبباً لدفع الشبهة فكان أولى.

ص: 308

قوله: «فَإِذَا حِبَالُهُمْ» هذه الفاء عاطفة على (جملة محذوفة دل عليها السياق، والتقدير: فَألْقُوا فَإذَا، وإذا هي التي للمفاجأة وفيها ثلاثة أقوال تقدمت:

أحدها: أنها باقية على ظرفية الزمان.

الثاني: أنها ظرف مكان.

الثالث: أنها حرف.

قال الزمخشري: والتحقيق فيها أنها الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها، وجملة تضاف إليها، خصت في بعض المواضع بأن يكون الناصب لها فعلاً مخصوصاً، وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير، فتقدير قوله:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ} ففَجأ موسى وقتَ تخييل سَعْي حِبَالهم وعصيّهم، وهذا تمثيل، والمعنى: على مفاجأته حبالهم وعصيّهم مخيِّلةً إليه السعي.

قال أبو حيان: قوله: إنها زمانية قول مرجوح، وهو مذهب الرياشي.

وقوله: الطالبة ناصباً لها صحيح. وقوله: وجملة تضاف إليها ليس صحيحاً عند

ص: 309

بعض أصحابنا، لأنها إما أن تكون معمولة لخبر المبتدأ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة، لأنها إما أن تكون بعض الجملة أو معمولة لبعضها، فلا يمكن الإضافة.

وقوله: خصت في بعض المواضع إلى آخره. قد بيَّنا الناصبَ لها. وقوله: والجملة بعدها ابتدائية لا غير هذا الحصر ليس بصحيح، بل جوَّز الأخفش على أن الجملة الفعلية المقترنة بقد تقع بعدها نحو خرجت فإذا قد ضرب زيد عمراً وبنى على ذلك مسألة الاشتغال نحو: خرجتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمرو، برفع زيد ونصبه على الاشتغال.

وقوله: والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيَّلةً إليه السعي، فهذا عكس ما قدر بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيِّهم إياه. فإذا قلت: خرجت فإذا السبع، فالمعنى: أنه فاجأني وهجم ظهوره.

انتهى.

قال شهاب الدين: وما ردَّ به غير لازم له، لأنه ردَّ عليه بقول بعض النحاة، وهو يلزم ذلك القول حتى يرد به عليه لا سيما إذا كان المشهور غيره ومقصوده تفسير المعنى. وقال أبو البقاء: الفاء جواب ما حذف وتقديره: فألقوا فإذا، ف «إذا» في هذا ظرف مكان العامل فيه «ألْقُوا» . وفي هذا نظر.، لأن «أَلْقُوا» هذا المقدر لا يطلب جواباً حتى يقول: الفاء جوابه، بل كان ينبغي أن يقول: الفاء عاطفة هذه الجملة الفجائية على جمبة أخرى مقدرة، وقوله: ظرف مكان هذا مذهب المبرد، وظاهر قول سيبويه أيضاً وإن كان المشهور بقاؤها على الزمان وقوله: إن العامل فيها «فَألْقُوا» لا يجوز لأن الفاء تمنع من ذلك. هذا كلام أبي حيان. ثم قال بعده: ولأن «إذا» هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حبالهم وعصيهم إن لم يجعلها هي في موضع الحال، وهذا نظير: خرجت فإن الأسد رابضٌ ورابضاً، وإذا رفعت رابضاً كانت إذا معمولة له والتقدير: فبالحضرة الأسد رابض، أو في المكان، وإذا نصبت كات «إذا» خبراً، ولذلك

ص: 310

يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً نحو خرجت فإذا الأسد.

قوله: «يُخَيَّل إلَيْهِ» قرأ العامة «يُخَيَّل» بضم الياء الأولى وفتح الثانية مبنيًّا للمفعول، و «أنَّهَا تَسْعَى» مرفىع بالفعل قبله لقيامه مقام الفاعل تقديره: يُخَيَّل إليه سعيُهَا.

وجوز أبو البقاء فيه وجهين:

أحدهما: (أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير الجِبضاِ والعِصِيّ وإنما ذكَّر ولم يقل «تُخَيَّلُ» بالتاء من فوق، لأن تأنيث الحبال غير حقيقي.

الثاني: أن القائم مقام الفاعل ضمير يعود على الملقي، فلذلك ذكر. وعلى الوجهين: ففي قوله: «أنَّهَا تَسْعَى» وجهان أحدهما) : أنه بدل اشتمال من ذلك الضمير المستتر أيضاً، والمعنى: يُخَيَّل إليه هي أنها ذات سعي. ولا حاجة إلى هذا، وأيضاً فقد نصوا على أن المصدر المؤول لا يقع موقع الحال، لو قلت: جاء زيد أن رَكَض، تريد ركضاً بمعنى ذا ركض لم يجز.

وقرأ ابن ذكوان: «تُخَيَّلُ» بالتاء من فوق، وفيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الفعل مسند لضمير الجِبَال والعِصِيّ، أي: تُخَيَّل الحبال (والعصي، و)«أنَّهَا تَسْعَى» بدل اشتمال من ذلك الضمير.

ص: 311

الثاني: كذلك إلا «أنَّهَا تَسْعَى» حال، أي: ذات سَعْي كما تقدم تقريره قبل ذلك.

الثالث: أن الفعل مسند لقوله: «أنَّهَا تَسْعَى» كقراءة العامة في أحد الأوجه وإنما أنَّثَ الفعل لاكتساب المرفوع التأنيث بالإضافة، إذ التقدير: تُخَيَّلُ إلَيْهِ سَعْيُهَا، فهو كقوله:

3674 -

شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

( «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا» ) .

وقرأ أبو السمال: «تَخَيَّلُ» بفتح التاء والياء مبنياً للفاعل، والأصل: تَتَخَيَّلُ، فحذف إحدى التاءين نحو «تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ» ، و «أَنَّهَا تَسْعَى» بدل اشتمال أيضاً من ذلك الضمير.

وجوَّز ابن عطية أيضاً أنه مفعول من أجله. ونقل ابن جبارة الهذلي: قراءة أبي السمال: «تُخَيِّل» بضم التاء من فوق وكسر الياء، فالفعل مسند لضمير الحبال، و «أنَّهَا تَسْعَى» مفعول، أي: تُخَيَّل الحبال سعيها.

ص: 312

ونسب ابن عطية هذه القراءة للحسن وعيسى الثقفي.

وقرأ أبو حيوة: «نُخَيِّل» بنون العظمة، و «أنَّهَا تَسْعَى» مفعول به أيضاً على هذه القراءة.

وقرأ الحسن والثقفي «عُصيِّهم» بضم العين حيث وقع، وهو الأصل، وإنما كسرت العين إتباعاً (للصاد، وكسرت الصاد إتباعاً) للياء نحو دَلْو ودِلِيّ، وقوس وقِسّيِ، والأصل: عُصُوو، بواوين فأًُعِلَّ كما ترى بقلب الواوين ياءين استثقالاً لهما، فكسرت الصاد لتصح الياء، وكسرت العين إتباعاً.

ونقل صاحب اللوامح: أنَّ قراءة الحسن «عُصِيُهُمْ» بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع، وهو أيضاً جمع كالعامة إلا أنه على فُعْل، والأول على فُعُول كفُلُوس.

والجملة من «تَخَيَّل» يحتمل أن تكون في محل رفع خبراً لهي على أن «إذا» الفجائية فضلة. وأن تكون في محل نصب على الحال على أن «إذا» الفجائية هي الخبر والضمير في «إِلَيْهِ» الظاهر عوده على موسى. وقيل يعود على (فِرْعَون)(ويدل للأول) قوله تعالى: {} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى.

وفيه إضمار أي: فألقوا فإذا حبالُهُم وعِصِيُّهم، جمع حبل وعصا.

فصل

قال ابن عباس: أَلْقَوا حِبَالَهُمْ وَعِصيَّهُم وأخذوا أعين الناس فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيَّات وكانت أخذت مَيْلاً من كل جانب، وأنها تسعى فخاف،

ص: 313

و {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً} وأوجَسَ: أضمر في نفسه خوفاً. (وقيل: وجد في نفسه خيفة) .

فإن قيل: كيف استشعر الخوف وقد عرض عليه المعجزات الباهرة كالعصا واليد، فجعل العصا حيَّة عظيمة، ثم إنه تعالى أعادها لما كانت، ثم أعطاه الاقتراحات الثمانية، وذكر ما أعطاه قبل ذلك من المنن وقال له بعد ذلك كله:{إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] ، فمع هذه المقدمات الكثيرة كيف وقع الخوف في قلبه؟

فالجواب من وجوه: أحدها: قال الحسن: «إن ذلك الخوف إنما كان لطبع البشرية من ضعف القلب وإن كان قد علم موسى أنهم لا يصلون إليه وأن الله ناصره.

والثاني: قال مقاتل: خاف على القوم أن يلتبس عليهم الأمر فيشكوا في أمره، فيظنون أنهم قد ساووا موسى عليه السلام ويؤكده قوله تعالى:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} .

الثالث: خاف حيث بدأوا وتأخر إلقاؤه أن ينصرف بعض القوم قبل مشاهدة ما يلقيه، فيدوموا على اعتقاد باطل.

الرابع: لعلَّه عليه السلام كان مأموراً بأن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخر نزول الوحي في ذلك الجمع بقي في الخجل.

الخامس: لعل عليه السلام خاف من أنه لو أبطل سحرهم، فلعلَّ فرعون قد أعد أقواماً آخرين فيحتاج مرة أخرى إلى إبطال سحرهم وهلم جرَّا، فلا يظهر له مقطع وحينئذ لا يتم الأمر ولا يحصل المقصود.

فصل

اختلفوا في عدد السحرة، فقال الكلبي: كانوا اثنين وسبعين ساحراً، اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، أكرههم فرعون على ذلك مع كل واحد منهم عصا وحبل.

ص: 314

وقال ابن جريج: تسعمائة، ثلاثمائة من الفرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية. وقال وهب: خمسة عشر ألفاً. وقال السدي: بضعة وثلاثون ألفاً.

وقال القاسم بن سلام: سبعون ألفاً. وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال. ثم إنه تعالى أزال ذلك الخوف بقوله: {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} أي الغالب: يعني: لك الغلبة والظفر، وذلك يدل على أن خوفه كان لأمر يرجع إلى أنَّ أمره لا يظهر للقوم، فآمنه الله بقوله:{إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} ، وفيه أنوع من المبالغة: أحدها: ذكر كلمة التأكيد وهي (إنَّ) . وثانيها تكرير الضمير. وثالثها: لام التعريف. ورابعها: لفظ العلو، وهو الغلبة الظاهرة.

قوله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} وها هنا سؤال، وهو أنه لم لم يقل وألق عصاك؟

والجواب: جاز أن يكون تصغيراً لهما، أي: لا تبالِ بكثرة حِبالِهِمْ وعِصِيهم، وألق العُوَيد الفرد الصغير الجرم الذي بيمينك، فإنَّه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها.

وجاز أن يكون تعظيماً لها أي لا تُخيفك هذه الأجرام الكثيرة فإن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عندها، فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. قوله:«تَلْقَفْ» أي: تَلْقَمْ وتبتلع «مَا صَنَعُوا» بسرعة.

قرأ العامة بفتح اللام وتشديد القاف وجزم الفاء على جواب الأمر، وقد تقدم أن حفصاً يقرأ «تَلْقَفْ» بسكون اللام وتخفيف القاف، وقرأ ابن ذكوان هنا «

ص: 315

تَلَقَّفُ» بالرفع إما على الحال، وإما على الاستئناف، وأنّث الفعل في «تَلْقَفْ» حملاً على معنى «ما» لأن معناها العصا، ولو ذكَّر ذهاباً إلى لفظها لجاز ولم يقرأ به.

وقال أبو البقاء: إنه يجوز أن يكون فاعل «تَلْقَفْ» ضمير موسى فعلى هذا يجوز أن يكون «تَلْقَفْ» في قراء الرفع حالاً من موسى، وفيه بُعْد. و ( «صَنَعُوا» ههنا: اختلفوا وزّوَرُوا) والعرب تقول في الكذب: هو كلام مصنوع. قوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} العامة على رفع «كَيْد» على أنه خبر «إنَّ» و «مَا» موصولة، و «صَنَعُوا» صلتها، والعائد محذوف، والموصول هو الاسم، والتقدير: إنَّ الذي صنعوه كَيْدَ سَاحِرٍ.

ويجوز أن تكون «مَا» مصدرية فلا حاجة إلى العائد، والإعراب بحاله والتقدير:(إنَّ صُنْعَهُمْ) كيدُ ساحر.

(وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن عليّ «كَيْدَ» بالنصب على أنه مفعول به و «مَا» مزيدة مهيئة. وقرأ الأخوان: «كَيْدَ سِحْرٍ» على أن) المعنى: كَيْدُ ذُوِي

ص: 316

سِحْرٍ، (أو جعلوا نفس السحر مبالغةً وتبييناً للكيد، أي حيلةَ سحر، لأنه يكون سحراً وغير سحر) كما تميز سائر الأعداد بما يفسره نحو مائة درهم، وألف دينار، ومثله علم فقهٍ وعلمُ نحوٍ. وقال أبو البقاء:«كَيْدُ سَاحِرٍ» إضافة المصدر إلى الفاعل، و «كَيْدُ سِحْرٍ» إضافة الجنس من النوع. والباقون:( «سَاحِرٍ» ) .

وأفرد ساحِراً وإن كان المراد به جماعة، قال الزمخشري: لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد (فلو جمع لَخُيِّلَ أنَّ المقصود هو العدد) . وقرئ «سَاحِرَاً» بالنصب على أن «مَا» كافة. ثم قال: {وَلَا يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} من الأرض. قال ابن عباس: لا يسعد حيث كان. وقيل معناه: حيث احتال.

قوله: {فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً} لما ألْقَى ما في يمينه، وصار حيَّةً، وتلقف ما صنعوا، وظهر الأمر، خروا عند ذلك سجداً، لأنهم كانوا في أعلى طبقات السحر، فلما رأوا ما فعل موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر ألبتّة، روي أن رئيسهم قال: كُنَّا نغلِبُ الناسَ بالسحر، وكانت (الآلات) تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً فأيْنَ ما ألقيناه؟ فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم، وبظهوره على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله فلا جرم تابوا وآمنوا وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود. قال الأخفش: إنهم في سرعة ما سجدوا كأنهم خروا. قال الزمخشري: ما أعجب أمرهم قد

ص: 317

ألقوا حبالهم للكفر والحجود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة، والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة: لما خروا سُجَّداً أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة.

قال القاضي: هذا بعيد، لأنهم لو أراهم عياناً لصاروا ملجئين، وذلك لا يليق به قولهم:{إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا} [طه: 73] .

وأجيب: أنه لما جاز لإبراهيم مع قطعه بكونه مغفوراً له أن يقول: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء: 82] فلم لا يجوز في حق السحرة؟

قوله: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} احتج التعليمية بهذه الآية وقالوا: إنَّهم آمَنُوا بالله الذي عرفوه من قِبَل هارون وموسى، وفي الآية فائدتان:

الفائدة الأولى: أنَّ فرعون ادَّعى الربوبية في قوله: «أَنَا رَبُّكُمْ» . والإلهية في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] فلو قالوا: آمَنَّا بربِّ العالمين، لكان فرعون يقول: إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، ويدل عليه تقديمهم ذكر هارون على مُوسى، لأن فرعون كان يدعي ربوبية موسى (بناء على أنه ربَّاه)، وقال:{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] فالقوم لما احترزوا على إيهامات (فرعون قدموا ذكر هارون على موسى قطعاً لهذا الخيال.

الفائدة الثالثة: هي أنهم لما شاهدوا) ما خصهما الله تعالى به من المعجزات

ص: 318

العظيمة والدرجات الشريفة قالوا: {رَبِّ هَارُونَ وموسى} .

(فصل)

ص: 319

قوله: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} اعلم أن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أنْ يصير ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله وبرسوله ففي الحال ألقى هذه الشبهة في النبي، وهي مشتملة على التنفير من وجهين:

الأول: أن الاعتماد على أول خاطر لا يجوز بل لا بد فيه من البحث، والمناظرة، والاستعانة بخواطر الغير، فلمَّا لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال «آمَنْتُمْ لَهُ» دَلَّ ذلك على أن إيمانكم ليس عن بصيرة بل لسبب آخر.

والثاني: قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} يعني: أنكم تلامذته في السحر، فاصطلحتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه. ثم بعد إيراد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان، وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم، فقال:{فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ} .

قوله: «لأُقَطِّعَنَّ» تقدم نحوه، و «مِنْ خِلَافٍ» حال أي مختلفة و «مِنْ» لابتداء الغاية، وتقدم تحرير هذا، وما قرئ به وقوله:«فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» يحتمل أن يكون

ص: 319

حقيقة، ففي التفسير أنه نَقَّر جذوع النخل حتى جوَّفَها ووضعَهُم فيها فماتوا جوعاً وعطشاً وأن يكون مجازاً، وله وجهان:

أحدهما: أنه وضع (في) مكان (عَلَى)، والأصل: على جذوع النخل، كقول الآخر:

3675 -

بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ

يُحْذَى نِعَالَ السَّبْتِ لَيْسَ (بتَوْأَمِ)

والثاني: أنه شبه تمكنهم بتمكن مَنْ حواء الجذع واشتمل عليه، شبه تمكن المصلوب في الجِذْعِ بتمكُّن الشيء الموعَى في وعائه، فلذلك قيل «فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» . ومِنْ تَعدِّي (صَلَبَ) ب (فِي) قوله:

3676 -

وَقَدْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ نَخْلَةٍ

فَلَا عَطَسَتْ شَيْبَانُ إلَاّ بِأَجْدَعَا

قوله: «أيُّنَا أَشَدُّ» مبتدأ وخبر، وهذه الجملة سادة مسد المفعولين إنْ كانت (علم) على بابها، ومسد واحد إنْ كانت عِرفَانِيَّة. وبجوز على جعلها عِرْفَانِية أن

ص: 320

تكون «أيْنَا» موصولة بمعنى (الذي) وينبت لأنها قد أضيفت وحذف صدر صلتها و «أَشَدُّ» خبر مبتدأ محذوف، والجملة من ذلك المبتدأ وهذا الخبر صلة ل «أَيّ» ، و «أَيُّ» وما في خبرها في محل نصب مفعولاً به كقوله تعالى:{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] في أحد وجهيه كما تقدم. و «أَشَدُّ عذاباً» أي: أَنَّا عَلى إيمانُكم بهِ أو رَبّ موسى على تلاك الإيمان به، «وَأَبْقَى» أي: أَدْوَمْ.

فإن قيل: إنَّ فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حيَّة عظيمة، وذكر أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون، وآلَ الأمرُ إلى أنْ استغاثَ بموسى من شر ذلك الثعبان، فمع قرب عهده بذلك، وعجزه عن دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة، ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزئ بموسى، ويقول:«أيّنا أَشَدُّ عذاباً» ؟

فالجواب: يجوز أن يقال: إنَّه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنَّه كان يظهر الجلادة والوقاحة تمشيةٌ لِنَامُوسِهِ، وترويجاً لأمره.

ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أنَّ العاجز قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ويدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذابَ الله أشدُّ من عذاب البشر، ثم إنه أنكر ذلك.

وأيضاً: فقد كان عالماً بكذبه في قوله: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} لأنه علم أنْ موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعرف من سحرته ويعرف أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصَّلَ ذلك العلم، ثم إنه مع ذلك قال هذا الكلام، فثبت أن سبيله في ذلك ما ذكرناه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا في النهار سحرة، وفي آخره شهداء.

ص: 321

الدلالات. لمَّا هددهم فرعون أجابوه بما يدل على حصول اليقين التام والبصيرة الكاملة في أصول الدين، فقالوا:«لَنْ نُؤْثِرَكَ» ، وهذا يدل على أن فرعون طلب منهم الرجوع عن الإيمان وإلَاّ فَعَل بهم وما وعدهم، (فأجابوه بقولهم) :«لَنْ نُؤْثِرَكَ» ، وبيَّنوا العلة، وهي أنَّ الذي جاءهم ببينِّات وأدلة، والذي يذكره فرعون محض الدنيا.

وقيل: كان استدلالهم أنهم قالوا: لو كان هذا سحراً فأين حبالُنا وعصيُّنا.

قوله: «والَّذِي فَطَرَنَا» فيه وجهان:

أحدهما: أن الواوَ عاطفة عطفت (هذا الموصول) على «مَا جَاءَنَا» أي: لن نؤثرك على الذي جاءَنا وَلَا عَلَى الذي فَطَرَنَا، أي على طاعة الذي فطرنا وعلى عبادته، وإنما أخروا ذكر الباري تعالى لأنَّه من باب الترقي من الأدْنَى إلى الأعلى.

والثاني: أنَّه واو قسم، والموصول مقسم به، وجواب القسم محذوف، أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك على الحق، ولا يجوز أن يكونَ الجواب «لَنْ نُؤَثِرًكَ» عند من يجوز تقديم الجواب، لأنه لا يجاب القسم ب «لَنْ» إلا في شذوذ من الكلام.

قوله: {فَطَرَنَا فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} يجوز في «مَا» وجهان:

أظهرهما: أنها موصولة بمعنى الذي، و «أَنْتَ قَاضٍ» صلتها والعائد محذوف، أي

ص: 322

قاضية، وجاز حذفه وإن كان مخفوضاً، لأنه منصوب المحل، أي فاقضِ الذي أنت قاضيه.

والثاني: أنها مصدرية ظرفية، والتقدير: فاقْضِ أمرَك مدة ما أنتَ قاضٍ.

ذكر ذلك أبو البقاء. ومنع بعضهم جعلّها مصدرية، قال: لأنَّ «مَا» المصدرية لا توصل بالجمل الاسمية. وهذا المنع ليس مجمعاً عليه بل جوَّز ذلك جماعة كثيرة، ونقل ابن مالك أن ذلك إذا دلَّت (ما) على الظرفية وأنشد:

3677 -

وَاصِلْ خَلِيلَكَ مَا التَّوَاصُلُ مُمْكِنٌ

فَلَانْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ

ويقل إن كانت غيره ظرفية وأنشد:

3678 -

أَحْلَامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ

كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مَنَ الكَلَبِ

ص: 323

قوله: {إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} يجوز في «ما» هذه وجهان:

أحدهما: أن تكون المهيئة لدخول «إنْ» على الفعل، و «الحَيَاةِ الدُّنْيَا» ظرف ل «تَقْضِي» ، ومفعوله محذوف، أي: يقضي غرضك وأمرك. ويجوز أن تكون الحياة مفعولاً به على الاتساع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به كقولك صُمْتُ يومَ الجمعة، ويدل لذلك قراءة أبي حَيْوَة:«تُقْضَى هَذِهِ الحَيَاة» ببناء الفعل للمفعول، ورفع «الحَيَاةُ» لقيامها مقام الفاعل، وذلك أنه اتسع فيه فقام مقام الفاعل فرفع.

والثاني: أنْ تكون «مَا» مصدرية هي اسم «إنَّ» ، والخبر الظرف والتقدير: إنَّ قَضَاءَك في هذه الحياة الدنيا، يعني: إن لَكَ الدنيا فقط، ولنا الآخرة.

وقال أبو البقاء: فإنْ كانَ قد قُرِئَ بالرفع فهو خبر «إن» يعني لو قرئ برفع «الحَيَاةُ» لكان خبراً ل «إنَّ» ، ويكون اسمها حينئذ «مَا» وهي موصولة بمعنى الذي، وعائدُها محذوف تقديره: إن الذي تقضيه هذه الحياة الدنيا لا غيرها.

قوله: «وَمَا أَكْرَهْتَنَا» يجوز في «مَا» هذه وجهان:

أحدهما: أنها موصولة بمعنى «الَّذِي» ، وفي محلها احتمالان:

أحدهما: أنَّها منصوبة المحل نسقاً على «خَطَايَانَا» أي ليغفرَ لنا أيضاً الذي أكرهتنا. والاحتمال الثاني: أنَّها مرفوعة المحل على الابتداء، والخبر محذوف

ص: 324

تقديره: والذي أكرهتَنا عليه من السحر محطوط عنا، أو لا يؤاخذ به (ونحوه)

والوجه الثاني: أنَّها نافية، قال أبو البقاء: وفي الكلام تقديم تقديره: ليغفر لنا خَطَايَانَا من السحر ولم تكرهنا عليه. وهذا بعيد عن المعنى، والظاهر هو الأول. و «مِنَ السِّحْرِ» يجوز أن يكون حالاً من الهاء في «عَلَيْه» أو من الموصول. ويجوز ان تكون لبيان الجنس.

فصل

قال المفسِّرون: لَمَّا علم السحرة أنهم متى أصرُّوا على الإيمان أوقع بهم فرعون ما أوعدهم به فقالوا: «اقْضِ مَا أْنْتَ قَاضٍ» لا على وجه الأمر، لكن أظهروا أنَّ ذلك الوعيد لا يزيلهم عن إيمانهم البتة، ثم بيَّنُوا ما لأجله يسهل عليهم احتمال ذلك، فقالوا:{إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ} أي قضاؤك وحكمك أن يكون في هذه الحياة (الدنيا) . وهي نافية تزول عن قريب، ومطلوبنا سعادة الآخرة، وهي باقية. والعقل يقتضي تحمل الضَّرَر الفاني للتوصل إلى السعادة الباقية. ثم قالوا:{إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} ، ولمَّا كان أقرب خطاياهم عهداً ما أظهروه من السحر قالوا:{وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} ، وفي ذلك الإكراه وجوه:

الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّ ملوك ذلك الزمان كانوا يأخذون بعض رعيتهم ويكلفونهم تعلم السحر، فإذا شاخ أحدهم بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقتٍ مَنْ يُحسنه، فقالوا ذلك أي: كُنَّا في التعلم الأول والتعليم ثانياً تكرهُنَا، وهو قول الحسن. وقال مقاتل: كانت السَّحَرةُ اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل كان فرعون أكرههم على تعليم السحر. وقال عبد العزيز بن أبان: قالت السحرة لفرعون أَرِنَا مُوسَى إذا نام، فأراهم نائماً، فوجدوه

ص: 325

تحرسه عصان، فقالوا لفرعون: إن هذا ليس بسحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعارضوه.

وقال الحسن: إن السحرةَ جَرُوا من المدائن ليعارضوا موسى فأحْضَرُوا بالحشر وكانوا مكرهين في الحضور لقوله: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 36، 37]

وقال عمرو بن عبيد: دعوة السلطان إكراه. وهذا ضعيف، لأن دعوة السلطان إذا لم يكن معها خوف لم تكن إكراهاً. ثم قالوا:{والله خَيْرٌ وأبقى} قال محمد بن إسحاق: خَيْرٌ منكَ ثواباً، وأبقَى عقاباً لمن عصاه.

وقال محمد بن كعب: خيرٌ منكَ إن أطيع وأبْقَى عذاباً منك إن عُصِي.

(وهذا جواب لقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} ) .

ص: 326

قوله: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} قيل: هذا ابتداء كلام من الله تعالى وقيل: من تمام قول السحرة ختموا كلامهم بشرح أحوال المجرمين وأحوال المؤمنين في عرصة القيامة. والهاء في «إنَّه» ضمير الشأن، والجملة الشرطية خبرها، و «مُجْرِماً» حال من فاعل «يأت» . وقوله:«لَا يَمُوتُ» يجوز أن يكون حالاً من الهاء في «لَهُ» وأن يكون حالاً

ص: 326

من جهنم، لأنَّ في الجملة ضمير كل منهما. والمراد بالمجرم المشرك الذي مات على الشرك {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح «وَلَا يَحْيَى» حياة ينتفع بها. فَإنْ قيلَ: الجسم الحيُّ لا بد وأن يبقى حيَّاً أو ميتاً فخلوه عن الوصفين محال. فالجواب: أنَّ المعنى يكون في جهنم بأسوأ حال لا يموت موتة مريحة ولا يَحْيَى حياة (ممتعة) .

وقال بعضهم: إن لنا حالاً ثالثة، وهي كحالة المذبوح قبل أنْ يهدى فلا هو حَيٌّ، أنه قد ذبح ذبحاً لا يبقى الحياة معه، ولا هو ميت، لأن الروح لم تفارقه بعد فهي حالة ثانية.

فصل

استدلت المعتزلة بهذه الآية في القطع على وعيد أصحاب الكبائر: قالوا: صاحب الكبيرة مجرم، وكل مجرم فإنَّ له جَهَنَّم لقوله:{مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} وكلمةُ (مَنْ) في معرض الشرط تفيد العموم بدليل أنه يجوز استثناء كل واحد منها، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل.

وأجيبت بأنه لا نَسَلَّم أن صاحب الكبيرة مجرم، لأنه تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن لقوله:{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً} ، وقال:{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29]، وأيضاً: فإنه لا يليق بصاحب الكبيرة أن يقال في حقّه، فَإنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَكُونُ بهذا الوصف، وفي الخبر الصحيح «يَخْرُجُ من النَّار مَنْ كانَ في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» . قال ابنُ الخطيب: وهذه اعتراضات ضعيفة أما قوله:

ص: 327

إنَّ الله تعالى جعل المجرم في مقابلة المؤمن فمسلم لكن هذا إنما ينفع لو ثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن، ومذهب المعتزلة أنه ليس بمؤمن، فهذا المعترض كأنه بنى هذا الاعتراض على مذهب نفسه وذلك ساقط. وقوله ثانياً: إنه لا يليق بصاحب الكبيرة (أن يقال في حقه) : إِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى. قلنا: لا نسلم فإنَّ عذاب جهنَّم في غاية الشدة قال تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وأما الحديث فقالوا: القرآن بخبر الواحد، ويمكن أن يقال: ثبت في أصول الفقه أنه يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد، وللخصم أن يجيب بأن ذلك يفيد الظن فيجوز الرجوع إليه في العمليات، وهذه المسألة ليست من العمليات بل من الاعتقادات، فلا يجوز الرجوع إليها ههنا.

واعترض آخر فقال: أجمعنا على أن هذه المسألة مشروطة بنفي التوبة وبأن لا يكون عقابه محبطاً بثواب طاعته، والقدر المشترك بين الصورتين هو أن لا يوجد ما يحبط ذلك العقاب، لكن عندنا العفو مُحْبِطٌ للعقاب، وعندنا أنَّ المجرم الذي لا يوجد في حقه العفو لا بد وأن يدخل جهنم.

قال ابن الخطيب: وهذا الاعتراض أيضاً ضعيف. أمَّا شَرْطُ نفي التوبة فلا حاجة إليه، لأنه قال:{مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} ، لأن المجرم اسم ذم، فلا يجوز إطلاقه على صاحب الصغيرة، بل الاعتراض الصحيح أن يقول: عموم هذا الوعيد معارض بما جاء بعده من عموم الوعد، وهو قوله تعالى:{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} ، وكلامنا فيمن أتى بالإيمان (والأعمال الصالحة) ثم أتى بعد ذلك ببعض الكبائر.

فإن قيل: عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة. قلنا: لِمَ لا يجوز

ص: 328

أنْ يقال: ثواب الإيمان يدفع عقابَ المعصية؟ فإن قالوا: فلو كان كذلك لوجب أن لا يجوز إقامة الحد عليه. قلنا: أما اللعن فغير جائز عندنا، وأما إقامة الحد فقد يكون على سبيل المحنة كما في حق التائب، وقد يكون على سبيل التنكيل. قالت المعتزلة: قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] فالله تعالى نصَّ على أنَّه يجب عليه إقامة الحد على سبيل التنكيل، وكل من كان كذلك استحال أن يكون مستحقاً للمدح والتعظيم، وإذَا لم يبق ذلك لم يبق الثواب على قولنا: إن عذاب الكبيرة أولى بإزالة ثواب الطاعة المتقدمة من الطاعات بدفع عقاب الكبيرة الطارئة. فقد انتهى كلامهم في مسألة الوعيد.

قلنا: حاصل الكلام يرجع إلى أنَّ هذا النص الدال على إقامة الحد عليه على سبيل التنكيل معارضاً للنصوص الدالة على كونه مستحقاً للثواب، فلم كان ترجيح أحدهما على الآخر أولى من العكس، وذلك أن المؤمن كما ينقسم إلى السَّارق وإلى غير السَّارق، فالسَّارق ينقسم إلى المؤمن وغير المؤمن، فلم يكن لأحدهما مزية على الآخر في العموم والخصوص، وإذا تعارضا تساقطا. ثم نقول: لا نُسَلمُ أنَّ كلمة «مَنْ» في إفادة العموم قطيعة بل ظنية (ومسألتنا قطعيَّة) فلا يجوز التعويل على ما ذكرتموه.

فصل

تمسك المجَسَّمة بقوله: «مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ» فقالوا: الجسم إنما يأتي ربع لو كان الربّ في المكان.

وجوابه أنَّ الله تعالى جعل إتيانهم موضع الوعد إتْيَاناً إلى الله مجازاً

ص: 329

كقول إبراهيم عليه السلام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] .

قوله: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً} .

قرأ أبو عمرو ساكنة الهاء، ويختلسها أبو جعفر وقالون ويعقوب والآخرون بالإشباع. «مُؤْمِناً» مات على الإيمان «قَدَ عَمِل» أي وقد عمل الصالحات، واعلم أن قوله:{قَدْ عَمِلَ الصالحات} يقتضي أن يكون آتياً بكل الصالحات وذلك بالاتفاق غير معتبر ولا ممكن، فينبغي أن يحمل ذلك على أداء الواجبات ثم ذكر أنَّ مَنْ أتى بالإيمان والأعمال الصالحة كانت لهم الدرجات العلا، ثم فسر الدرجات العلا فقال:{جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وفي الآية تنبيه على حصول العفو لأصحاب الكبائر، لأنه تعالى جعل الدرجات العلا من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات التي هي غير عالية ولا بد وأن تكون لغيرهم، وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان.

والعلا: جميع العليا، والعليا تأنيث الأعلى.

قوله: «جَنَّاتُ» بدل من الدَّرَجَاتُ «أو بيان، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون التقدير: هِي جَنَّاتُ، لأن» خَالِدِينَ «على هذا التقدير لا يكون في الكلام ما يعمل في الثاني، وعلى الأول يكون في الحال الاستقرار، أو معنى الإشارة.

قوله: {وذلك جَزَآءُ مَن تزكى} قال ابن عباس: يريد من قال: لا إله إلا الله ومعنى» تَزَكَّى «تطهَّر من الذنوب، قال عليه السلام» إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَتَرَوْنَهُمْ مِنْ تَحْتِهِمْ كَمَا تَرَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّي فِي أُفقِ السَّمِاء، وإنَّ أبَا بَكْر وَعُمَر مَنْهُم «واعلم أنَّه ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم، ولم يثبت في الأخبار.

ص: 330

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} الآية. وفي هذه الآية دلالة على أنَّ موسى عليه السلام في تلك (الحال كثرة مستجيبوه) فأراد الله تعالى تمييزهم من طائفة فرعون، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً، والسُّرَى سَيْرُ الليل، والإسراء مثله والحكمة في السُّرَى بهم: لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم أو ليكون ذلك عائقاً لفرعون عن طلبه ومتبعيه أو ليكون إذا تقارب العسكران لا يرى عسكرُ موسى عسكرَ فرعون فلا يهابونهم.

قوله: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً} في نصب «طريقاً» وجهان:

أحدهما: أنَّه مفعولٌ به، وذلك في سبيل المجاز، وهو أنَّ الطريقَ متسبِّبٌ عن ضرب البحر، إذ المعنى: اضرب البحرَ لينفلق لهم فيصير طريقاً فبهذا يصح نسبة الضرب إلى الطريق. وقيل: ضرب هنا بمعنى جعل، أي: اجعَلْ لهم طريقاً وأشرعه فيه.

والثاني: أنه منصوب على الظرف، قال أبو البقاء: التقدير موضع طريق فهو مفعول به على الظاهر، ونظيره قوله: أن اضْرِب بِعَصَاكَ البَحْرَ وهو مثل ضَربْتُ زيداً. وقيل: ضرب هنا بمعنى جَعَل وشَرَع مثل قولهم: ضَرَبْتُ له

ص: 331

بسهم. انتهى. فقوله على الظَّاهر، يعني أنه لولا التأويل لكان ظرفاً. قوله:«يَبَساً» صفة ل «طريقاً» وصف به لِما يؤول إليه، لأنه لم يكن يَبَساً بعد إنَّما مرَّت عليه الصبا فجففته كما روي في التفسير. وقيل: في الأصل مصدر وصف به مبالغة، (أو على حذف مضاف أو جمع يابس كخادم وخَدَم، وصف به الواحد مبالغة) كقوله:

3679 -

...

...

...

...

...

... .......

...

... . . وَمِعًى جِيَاعَا

أي: كجماعة جِياع، وصف به لفرط جوعه.

وقرأ الحسن: «يَبْساً» بالسكون، وهو مصدر أيضاً.

وقيل: المفتوح اسم، (والساكن مصدر) . وقرأ أبو حَيْوة:«يَابِساً» اسم فاعل جعله بمعنى الطريق. ومن قرأ «يَبَساً» بتحريك الباء، فالمعنى: طريقاً ذا يبس. ومن قرأ بتسكين الباء فهو مخفف عن اليبس فالمعنى ما كان فيه وحل ولا نداوة فضلاً عن الماء، وذلك أن الله - تعالى - أيْبَسَ لهم الطريق في البحر.

ص: 332

قوله: «لَا تَخَافُ» العامة على «لَا تَخَافُ» مرفوعاً، وفيه أوجه:

أحدها: أنه مستأنف فلا محل له من الإعراب.

الثاني: أنه في محل نصب على الحال من فاعل «اضْرِب» غير خائف.

والثالث: أنه صفة ل «طريقاً» ، والعائد محذوف، أي: لَا تَخَافُ فيه وحمزة وحده من السبعة: «لَا تَخَفْ» بالجزم، وفيه أوجه:

أحدها: أن يكون نهياً مستأنفاً.

الثاني: أنَّه نهيٌ أيضاً في محل نصب على الحال من فاعل «اضْرِب» ، أو صفة ل «طَريقاً» كما تقدم في قراءة العامة إلا أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول، أي مقولاً لك، أو طريقاً مقولاً فيه: لَا تَخَفْ كقوله:

ص: 333

3680 -

جَاءُوا بِمَذْق هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطّ

الثالث: مجزوم على جواب الأمر، أي: إن تَضْرِبْ طريقاً يبساً لَا تَخَفْ.

قوله: «دَرَكاً» قرأ أبو حَيْوة «دَرْكاً» بسكون الراء. والدَّركُ والدَّرْكُ اسمان من الإدراك، أي: لا يُدْرك فرعونُ وجنودُه وتقدم الكلام عليهما في سورة النساء، وأن الكوفيين قرءوه بالسُّكون كأبي حيوة هنا.

قوله: «وَلَا تَخْشَى» لم يقرأ بإثبات الألف، وكان من حق من قرأ «لَا تَخَفْ» جزماً أن يقرأ «لَا تَخْشَ» بحذفها كذا قال بعضهم وليس بشيء، لأن القراءة سنة، وفيها أوجه:

أحدها: أن تكون حالاً، وفيه إشكال، وهو أنَّ المضارع المنفي بلا كالمثبت في عدم مباشرة الواو له، وتأويله على حذف مبتدأ، أي وأنت لا تخشى، كقوله:

ص: 334

3681 -

نَجَوْتَ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا

والثاني: أنه مستأنف أخبره تعالى أنه لا يحصل له خوف.

والثالث: أنه مجزوم بحذف الحركة تقديراً، كقوله:

3682 -

إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ

وَلَا تَرضَّاهَا وَلَا تَمَلُّقِ

وقوله:

3683 -

كَأَنْ لَمْ تَرَى قَبْلِي أسِيراً يَمَانِيَا

ومنه «فَلَا تَنْسَى» في أحد القولين إجراءً لحرف العلة مجرى الحرف الصحيح، وقد تقدم ذلك في سورة يوسف عند قوله تعالى «مَنْ يَتَّقِي» .

ص: 335

الرابع: أنه مجزوم أيضاً بحذف حرف العلة، وهذه الألف ليست تلك، أعني لام الكلمة، إنما هي ألف إشباع أُتِيَ بها موافقة للفواصل ورؤوس الآي، فهي كالألف في قوله:«الرَّسُولا» و «السَّبِيلا» ، و «الظُّنُونَا» .

وهذه الأوجه إنما يحتاج إليها من قراءة جزم «لَا تَخَفْ» ، وأما من قرأه مرفوعاً فهذا معطوف عليه، أي لا تَخَافُ إدْرَاكَ فرعون ولا تخشى الغرقَ.

قوله: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} قال أبُو مسلم: يزعم رواة اللغة أنَّ «أتْبَعَهُمْ وتَبعَهُمْ» واحد، وذلك جائز ويحتمل أن تكون الباء زائدة، أي أتبَعَهُم فرعونُ جنوده كقوله:«لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي» (أسْرَى بِعَبْدِهِ) .

وقال غيره: في بَاء «بجنوده» أوجه:

أحدهما: أن تكون الباء للحال، وذلك على أن «أَتْبَعَ» متعد لاثنين حذف ثانيهما، والتقدير: فَأتْبَعَهُمْ فرعونُ عقابَه، وقدَّره أبو حيَّان: رُؤَسَاءَه وحشَمَهُ.

قال شهاب الدين: والأول أحسن.

ص: 336

والثاني: أن الباءَ زائدة في المفعول الثاني. والتقدير: فَأتْبَعَهُمْ فِرعون جنوده، كقوله تعالى:{وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] .

3684 -

(

...

...

...

...

...

... . .....

...

لَا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ)

وأتبع قد جئتها متعدياً لاثنين مصرح بهما قال تعالى: وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَاتِهِمْ.

والثالث: أنها معدية على أن «أتْبَعَ» ، قد يتعدى لواحد بمعنى تَبع ويجوز على هذا الوجه أن تكون الباء للحال أيضاً، بل هو الأظهر. وقرأ أبو عمرو في رواية والحسن «فأتْبَعَهُمْ» بالتشديد، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن إلا في قوله:

{فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] قوله: «مَا غَشِيَهُمْ» فاعل «غَشِيَهُمْ» وهذا من باب الاختصار وجوامع الكلم أي: ما يقل لفظها ويكثر معناها، أي فَغَشِيَهُمْ مَا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وقراءة الأعمش «فَغَشَّاهُمْ» مضعَّفاً، وفي الفاعل حينئذ ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه «مَا غَشَاهُمْ» كالقراءة قبله، أي غطَّاهم من اليَمِّ ما غطَّاهُم.

والثاني: هو ضمير الباري تعالى. أي: فَغَشَّاهُم الله.

ص: 337

والثالث: هو ضمير فرعون، لأنه السبب في إهلاكهم.

وعلى هذين الوجهين: ف «مَا غَشَّاهُمْ» في محل نصب مفعولاً ثانياً.

فصل

قيل: أمرَ فرعونُ جنوده أن يَتْبَعُوا موسى وقومه، وكان هو فيهم «فَغَشِيَهُمْ» أصابهم «مِنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ» ، وهو الغرق.

وقيل: «غَشِيَهُمْ» ، علاهم وسترهم {مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} يريد بعض ماء اليم لا كلّه.

وقيل: غَشِيَهُم من اليَمِّ ما غشي قوم موسى فغرقوا هم ونَجَا موسى وقومه.

قوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} أي بما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون، وتهكم به في قوله:{وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29] احتج القاضي بقوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} وقال: لو كان الضلال من خلق الله لما جاز أن يقال: «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ» بل وجب أن يقال: «اللهُ أَضَلَّهُمْ» ، لأن الله ذمَّه بذلك، فكيف يكون خالقاً للكفر، لأنَّ مَنْ ذمَّ غيره بشيء لا بد وأنْ يكون المذموم هو الذي فعله وإلا استحق الذم.

فصل

قال ابن عبَّاس: لمَّا أمر تعالى موسى أن يقطعَ بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحُلِيّ والدواب لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم

ص: 338

ليلاً. وكان يوسف عليه السلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز: احتكمي. فقالت: أكون معك في الجنة. فلما خرجوا تَبِعَهُم فرعون، فلما انتهى موسى إلى البحر، (قال: هنا أُمِرْتُ، فَأوْحَى الله إليه أن اضْرِبْ بِعَصَاكِ البَحْرَ) ، فضربه فانفلق، فقال لهم موسى: ادخلوا فيه قالوا: كيف وهي رطبة؟ فدعا ربّه فهبت عليهم الصبا فجفت. فقالوا: نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينَهُم كوًى حتى يرى بعضُهم بعضاً، ثم دخلوا حتى جازوا، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه: إنَّ موسى قد سَحَر البَحْرَ كما ترى، وكان على فرس حصان فأقبل جبريل عليه السلام (على فرس أنْثَى في ثَلاثَةٍ وثلاثين من الملائكة، فصار جبريل عليه السلام بين يدي فرعون) . فأبصر الحصانُ الفرسَ فاقتحم بفرعون على أثرها، وصاحت الملائكة في الناس الحقُوا حتى إذا دخل آخرهم، وكان أولهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا: يا موسى ادْعُ اللهَ أنْ يخرجهم لنا (حتى ننظر إليهم) ، فلفظهم البحر إلى الساحل وأصابوا من سِلاحِهم.

قال ابن عبَّاس: إنَّ جبريل عليه السلام قال: يا محمد لو رأتني وأنا أدسّ فرعون في الماء والطين مخافة أن يتوب. فهذا معنى {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} قال ابن الخطيب: وفي القصة أبحاث:

الأول: قال بعض المفسرين: إن موسى لما ضربَ البحرَ انفرق اثنا عشر طريقاً يابساً، وبقي الماء قائماً بين الطريقين طالطود العظيم وهو الجبل، فأخذ كلُّ سبط من بني إسرائيل في طريق، وهو معنى قوله تعالى:{فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63]

ص: 339

ومنهم من قال: إنَّما حصل طريق واحد لقوله: {فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً} ويمكن حمله على الجنس.

الثاني: أن قول بني إسرائيل بعد أن أظهر لهم الطرق وبينها تعنتوا وقالوا نريدُ أنْ يرى بعضُنا بعضاً فهذا كالبعيد، لأن القومَ لما أبْصَروا مجيء فرعون صاروا في نهاية الدهاء فكيف اختار إلقاء نفسه في التهلكة، فإنه كان يعلم من نفسه أن انفلاق البَحْر ليس بأمره، وذكروا عند هذا وجهين:

أحدهما: أنَّ جبريل عليه السلام كان على الرَّمْكَة فتبعه فرس فرعون. ولقائلٍ أن يقول: هذا بعيد، لأنه يبعد أن يكون خوضُ الملك في أمثال هذه المواضع مقدماً على خوض جميع العسكر. وأيضاً فلو كان الأمر على ما قالوا لكان فرعون في ذلك الدخول كالمجبور، وذلك مما يزيده خوفاً، ويحمله عن الإمساك على الدخول. وأيضاً: فأيُّ حاجةٍ لجبريل عليه السلام إلى هذه الحيلة، وقد كان يمكنه أن يأخذه مع فرسه ويرميه في الماء ابتداء؟ بل الأولى أن يقال: إنه أمر مقدمة العسكر بالدخول فدخلوا وما غرقوا فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل أغرقهم الله.

الرابع: أن قولهم عن جبريل إنه كان يدسه في الماء والطين خوفاً من أن يؤمن فبعيد، لأن المنع من الإيمان لا يليق بالملائكة والأنبياء.

الخامس: روي أن موسى عليه السلام كَلَّمَ البحرَ فقال انفلق لي لأعبر، فقال البحر: لا يَمُرُّ عليَّ رجل عاص. وهذا غير ممتنع على أصول أهل السنة، لأن عندهم البنية ليست شرطاً للحياة، وعند المعتزلة أن ذلك على لسان الحال لا على المقال.

ص: 340

قوله تعالى: {يا بني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ} الآية.

قرأ الأخوان «قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ» و «وَاعَدتُكُمْ» و «رَزَقْتُكُمْ» بتاء المتكلم. والباقون: «أنْجَيْنَاكُمْ» و «وَاعَدْنَاكُمْ» و «رَزَقْنَاكُمْ» بنون العظمة واتفقوا على «ونَزَّلْنَا» وتقدم خلاف أبي عمرو في «وَعَدْنَا» في البقرة.

وقرأ حميد «نَجَِّيْنَاكُم» بالتشديد. وقرئ «الأيْمَنِ» بالجر. قال الزمخشري: خفض على الجوار كقولهم: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ.

وجعله أبو حيان: شاذاً ضعيفاً، وخرَّجه على أنَّه نعت «الطُّورِ» .

قال: وصف به لما فيه من اليُمْنِ، أو لكونه على يَمِينِ من يستقبل الجبل و «جَانِبَ» مفعول ثان على حذف مضاف، أي إتيان جانب. ولا يجوز أن يكون المفعول الثاني محذوفاًً، وجَانِبَ «ظرف للوعد، والتقدير: وواعدناكم التوراة في هذا المكان، لأنه ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل بنفسه، وكما لو قيل:

ص: 341

إنه تُوُسِّع في هذا الظرف فجعل مفعولاً به: أي جعل نفس الموعود نحو: سير عليه فرسخَان وبريدان. قوله:» فَيَحِلُّ «قرأ العامة فَيَحِل بكسر الحاء واللام من» يَحْلُلْ «. والكسائي بضمهما.

وابن عيينة وافق العامة في الحاء، والكسائي في اللام. فالعامة من حَلَّ عليه كذا، أي: وَجَبَ، من حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ، أي: وجب قضاؤه، ومنه قوله:{حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} ، ومنه أيضاً:{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} .

وقرأ الكسائي من حَلَّ يَحُلُّ، أي نزل، ومنه {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} والمشهور أن فاعل» يَحِلُّ «في القراءتين هو» غَضَبِي «وقال صاحب اللوامح: إنه مفعول به وأن الفاعل ترك لشهرته والتقدير: فيحل عليكم طُغْيَانِكُمْ غَضَبِي، ودل على ذلك» وَلَا تَطْغَوْا «ولا يجوز أن يسند إلى» غَضِبِي «فيصير في موضع رفع بفعله. ثم قال: وقد يجذف المفعول للدليل عليه وهو العذاب ونحوه قال شهاب الدين:

ص: 342

فعندَه أنَّ حَلَّ متعد بنفسه، لأنه من الإحلال كما صرح هو به، وإذا كان من الإحلال تعدَّى لواحدِ، وذلك المتعدي إليه إما» غَضَبِي « (على أن الفاعل) ضمير عائد على الطغيان كما قدَّره، وإما محذوفٌ والفاعل» غَضَبِي «، وفي عبارته قلق. وقرأ طلحة» لَا يَحِلَّنَّ عَلَيْكُمْ «بلا الناهية للطغيان فيحق عليكم غضبي، وهو من باب لا أَرَينَّكَ هاهنا.

وقرأ زيد بن علي» وَلَا تَطْغُوْا «بضم الغين من طغى يطغو كغَزَا يَغْزُو.

وقوله:» فَيَحِلُّ «يجوز أن يكون مجزوماً عطفاً على» لَا تَطْغَوْا «كذا قل أبو البقاء. وفيه نظر، إذ المعنى ليس على نهي الغضب أن يَحِلَّ بهم.

والثاني: أنه منصوب بإضمار (أَنْ) في جواب النهي، وهو واضح.

فصل

اعلم أن الله تعالى لمَّا أنعم على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكرهم، ولا شك أنَّ إزالة الضرر يجب تقديمه على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله: {أَنجَيْنَاكُمْ

ص: 343

مِّنْ عَدُوِّكُمْ} ، فإن فرعون كان يُنْزِل بهم أنواع الظلم، والإذلال، والأعمال الشاقة. ثم ذكر المنفعة الدينية وهي قوله:{وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} وذلك أنه أنزل عليهم في ذلك الوقت كتاباً فيه بيان دينهم وشريعتهم، أو لأنهم حصل لهم شرف بسبب ذلك.

قال المفسرون: وليس للجبل يمينٌ ولا يسار بل المراد أنَّ طور سيناء عن يمين السالك من مصر إلى الشام. ثم ثلَّث بذكر المنفعة الدنيوية فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أمر إباحة.

ثم زجرهم عن العصيان فقال: {وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ} قال ابن عباس: لا يظلم بعضُكُم بعضاً فيأخذه مِنْ صَاحِبه. وقال مقاتل والضحاك: لا تظلموا فيه أنفسَكُم بأن تُجَاوِزُوا حدّ الإباحَة وقال الكلبي: لا تكفروا النعمة أي لا تستعينوا بنعمتي على مخالفتي ولا تُعْرِضوا عن الشكر، ولا تعدِلوا عن الحلال إلى الحرام والمراد بالطَّيِّبات هاهنا اللذائذ، لأن المن والسَّلوى من لذائذ الأطعمة. وقال الكَلْبي ومقاتل: الطَّيِّبات الحلالً، وذلك لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم يمسه يدي الآدميين. روي أنهم كانوا يُصبِحون فيجدونه بين بيوتهم فيأخذون منه قدر حاجتهم في ذلك اليوم إلى الغد، ومن ادخر لأكثر من ذلك فسد، ومن أخذ منه قليلاً كفاه، أو كثيراً لم يفضل عنه، فيصنعون منه مثل الخبز وهو في غاية البياض والحلاوة، فإن كان آخر النهار غشيهم طيْرُ السَّلوى فينقصون منها بلا كلفة ما يكفيهم لعشائهم، وإذات كان الصيف ظلَّل عليهم الغمام يقيهم حر الشمس. ثم قال:{فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي يجب عليكم غضبي {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى} أي هَلك وقيل: شَقِي. وقيل: وقع في الهاوية: هوى يهوي هوياً إذا سقط من علو إلى سُفْلٍ.

ص: 344

ثم قال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ} .

واعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفَّاراً، وبأن له غفراناً ومغفرةَ، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر. أما كون وصفه غافراً فقوله: وأما كونه غَفُوراً فقوله: {وَرَبُّكَ ا} [الكهف: 58](وأما كونه غفَّاراً فقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ) لِّمَن تَابَ وَآمَنَ} [طه: 82] وأما الغفران فقوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] .

وأما المغفرة فقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ} [الرعد: 6] .

وأما صيغة الماضي فقوله في حق داود: {فَغَفَرْنَا لَهُ} [ص: 25] .

وأما صيغة المستقبل فقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} النساء: [48، 116] وقوله: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} [الزمر: 13] وقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} [الفتح: 2] وأما لفظ الاستغفار فقوله: {استغفروا رَبَّكُمْ} [هود: 3، 52، 90، نوح: 10]

{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} وهاهنا نكتة وهي أنَّ العبد له أسماء ثلاثة: الظالم، والظَّلوم، والظَّلَاّم إذا كثر منه الظلم، ولله في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسماً فكأنه تعالى قال: إن كنتَ ظالماً فأنا غافرٌ، وإن كنت ظلوماً فأنا غَفوٌ، وإن كنت ظلَاّماً فانَا غَفَّارٌ.

قال ابن عباس: «مَنْ تَابَ» عن الشرك «وَآمَنَ» وَحَّدَ الله وصدّقه «وَعَمِلَ صَالِحاً» أدَّى الفرائض «ثُمَّ اعْتَدَى» علم أنَّ ذلك توفيق من الله عز وجل. وقال قتادة وسفيان

ص: 345

الثوري: لزم الإسلام حتى مات عليه. وقال الشعبي ومقاتل والكلبي: علم أنَّ لذلك ثواباً. وقال زيد بن أسلم: تعلَّم العلم لتهتدي كيف يعمل. وقال سعيد بن جبير: أقام على السنة والجماعة.

فصل

قال بعضهم: تجبُ التوبةُ عن الكفر أولاً ثم الإتيان ثانياً، لهذه الآية، فإنه قدم التوبة على الإيمان.

ودلَّت هذه الآية أيضاً على أن العمل الصالح غيرُ داخلٍ في الإيمان، لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان، والمعطوف عليه.

ص: 346

قوله: «وَمَا أعْجَلَكَ» مبتدأ وخبر. و «مَا» استفهامية عن سبب التقدم على قومه.

قال الزمخشري: فإن قلتَ: «مَا أعْجَلَكَ» سؤال عن سبب العجلة، فكان الذي ينطبق عليه من الجواب أن يقال: طلبُ زيادة رضَاكَ، أو الشوق إلى كلامك وتنجز موعدك. وقوله:{هُمْ أولااء على أَثَرِي} كَمَا تَرَى غير منطبق عليه.

قلت: قد تضمَّن ما واجهه به رب العزة شيئين:

أحدهما: إنكار العجلة في نفسها.

والثاني: السؤال عن سبب التقدم والحامل عليه، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر، وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه فاعتلَّ بأنَّه لم يوجد منِّي إلا تقدمٌ يسير مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به، وليس بيني وبين من سبقته إلا

ص: 346

مسافة قريبة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمتهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} .

وأجاب غيره عن هذا السؤال بأنه عليه السلام ورد عليه من هيبة عتاب الله ما أذهله عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.

فصل

في الآية سؤالات:

الأول: قوله: «وَمَا أعْجَلَكَ» استفهام، وهو على الله تعالى محال.

والجواب: أنه إنكار في صيغة الاستفهام ولا امتناع فيه.

الثاني: أنَّ موسى عليه السلام إما أن يقال: إنَّه كان ممنوعاً عن ذلك التقدم، أو لم يكن ممنوعاً عنه، فإن كان ممنوعاً كان ذلك التقدم معصية فيلزم وقوع المعصية من الأنبياء، وإن لم يَكُنْ ممنوعاً كان ذلك الإنكار غير جائز.

والجواب: لعله عليه السلام ما وجد نصًّا في ذلك إلا أنَّه باجتهاده تقدم فأخطأ في ذلك الاجتهاد فاستوجب العتاب.

الثالث: قوله: «وَعَجِلْتُ» والعجلة مذمومة.

والجواب: أنها ممدوحة في الدين قال الله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] .

الرابع: قوله: «لِتَرْضَى» يدل على أنَّه عليه السلام إنَّما فعل ذلك ليحصل الرِّضا لله تعالى، وذلك باطل من وجهين:

أحدهما: يلزم تجدد صفة الله.

والآخر: أنه - تعالى - قبل حصول ذلك الرضا يجب أن يقال: (إنَّه ما) كان راضياً عن موسى، لأنَّ تحصيل الحاصل محال، ولما لَمْ يكن راضياً عنه وجب أن

ص: 347

يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء.

والجواب المراد تحصيل دوام الرضا كقوله: «ثُمَّ اهْتَدَى» المراد دوام الاهتداء.

الخامس: قوله {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} يدل على أنه ذهب إلى الميعاد قبل الوقت الذي عيَّنه الله له وإلا لم يكن تعجيلاً، ثم ظن أنَّ مخالفة أمر الله سبب لتحصيل رضاه، وذلك لا يليق بأجهل الناس فضلاً عن كليم الله.

والجواب: أن ذلك كان باجتهادٍ وأخطأ فيه.

السادس: قوله: «إلَيْكَ» يقتضي كون الله في الجهة، لأن «إلى» لانتهاء الغاية.

والجواب: اتفقنا على أنَّ الله - تعالى - لم يكن في الجبل، فالمراد إلى مكان وعدك.

فصل

دلت الآية على أنَّه تعالى أمره بحضور الميقات مع قوم مخصوصين فقال المفسرون: هم السَّبعُون الذين اختارهم الله من جملة بني إسرائيل، يذهبون معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسلر بهم موسى، ثم عجَّل موسى من بينهم شوقاً إلى ربه، وخلق السبعين وأمرهم ان يتبعوه إلى الجبل، فقال الله له:{وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى} قال مجيباً لربه {هُمْ أولااء على أَثَرِي} أي: بالقرب منِّي يأتون من بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} لتزداد رِضًى.

قوله: {هُمْ أولااء على أَثَرِي} كقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] و {على أَثَرِي} يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً وقرأ الجمهور:«أولَاءِ» بهمزة مكسورة.

والحسن وابنُ معاذ بياء مكسورة، وإبدال الهمزة ياءً (تخفيفاً) .

ص: 348

وابن وثاب «أُولى» بالقصر دون همزة.

وقرأت طائفة «أولَايَ» بياء مفتوحة، وهي قريبة من الغلط والجمهور «عَلَى أثَرِي» بفتح الهمزة والثاء.

وأبو عمرة في رواية عبد الوارث، وزيد بن علي «إثْرِي» بكسر الهمزة وسكون الثاء وعيسى بضمها وسكون الثاء، وحكاها الكسائي (لغة) .

قوله: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} أي: ابتلينا الذين خَلَّفَتَهُم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، فَأُفْتِنُوا بالعجل غير اثني عشر ألفاً من بعدك انطلاقك إلى الجبل.

فصل

قالت المعتزلة: لا يجوز أن يكون المرادُ أنَّ الله - تعالى - خلقَ فيهم الكفر لوجهين:

الأول: الدلائل العقلية (الدالة على) أنه لا يجوز من الله - تعالى - أن يفعل ذلك.

والثاني: أنَّه قال: «وَأَضَلَّهُمُ السَّامِريّ» .

وأيضاً: فلأن موسى لمَّا طالبَهُم بذكر سبب الفتنة، فقال:{أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [طه: 86] فلو حصل ذلك بخلق الله لكان لهم أن يقولوا السبب فيه أن الله خلقه فِينَا لا ما ذكرت، فكان يبطل كلام موسى عليه السلام. وأيضاً فقوله:{أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [طه: 86] ولو كان ذلك بخلقه لاستحال أن يغضبَ عليهم فيما هو الخالق له، ولما بطل ذلك وجب أن

ص: 349

يكون لقوله: «فَتَنَّا» معنًى آخر، وذلك لأن الفتنة قد تكون بمعنى الامتحان، يقال: فَتَنْتُ الذَّهَبَ بالنار إذا امتحنته بالنار فتميز الجيد من الرديء، فهاهنا شدَّد الله التكليف عليهم، لأن السَّامِرِيَّ، لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة العالم والأجسام على أنَّ له إلهاً بجسم وحينئذ يعرفون أن العجل لا يصلح للإلهية فكان هذا التعبد تشديداً في التكليف، (والتشديد في التكليف) موجود.

قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}

[العنكبوت: 2] .

والجواب: ليس في ظهور صوت من عجلٍ متخذٍ من الذهب شبهة أعظم مما في الشمس والقمر، والدليل الذي ينفي كون الشمس والقمر إلهاً أولى بأن ينفي كون العجل إلهاً، فحينئذ لا يكون حدوث العجل تشديداً في التكليف ولا يصح حمل الآية عليه، فوجب حمله على خلق الضلال فيهم.

وقوله: أضاف الإضلال إلى السَّامري. قلنا: أليس أن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسباب من الظاهر وإن كان الموجد هو الله - تعالى - فكذا هاهنا. وأيضاً قرئ «وَأَضَلَّهُم السَّامِرِيّ» أي: وأشد ضلالهم السامري، وعلى هذا لا يبقى للمعتزلة استدلال، ثم الذي يحسم مادة الشغب مسألة الداعي. وقوله:«وَأَضَلَّهُم السَّامِرِي» العامة على أنه فعلٌ ماض مسند إلى السامري.

وقرأ أبو معاذ «وَأَضَلَّهُم» مرفوعاً بالابتداء، وهو أفعل تفضيل، و «السَّامِرِيُّ» خبره.

ومعنى «أَضَلَّهُمْ» أي: دَعَاهم وصَرفَهُم إلى عبادة العِجْلِ، وأضاف الإضلال إلى السَّامِرِيُّ، لأنهم ضلوا بسببه. قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: كان السامري عِلْجاً من أهل كِرْمان وقع إلى مصر، وكان من قوم يعبدون البقر، والأكثرون

ص: 350

على أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها: السَّامرة. قاله الزجاج.

وقال عطاء عن ابن عباس كان الرجلُ من القبطِ جاراً لموسى وقد آمن رُوِيَ أنهم أقاموا بعد مفارقة موسى عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيَّامِها، وقالوا قد أكملنا العدة، ثم كان أمر العجل بعد ذلك.

فإن قيل: كيف التوفيق بين هذا وبين قوله لموسى عند مقدمه {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} .

فالجواب من وجهين:

الأول: أنه تعالى أخبر عن الفتنة المترقبة بلفظ الموجودة الكائنة على عادته كقوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1]{ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] إلى غير ذلك.

الثاني: أنَّ السامري شرع في تدبير الأمر لما غاب موسى عليه السلام ثم رجع موسى إلى قومه بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة.

ص: 351

قوله: «غَضْبَانَ أَسِفاً» حالان، وقد تقدم في سورة الأعراف قيل: الأسف شدة الغضب، فلا يلزم التكرار، لأنَّ «غَضْبَانَ» يفيد أصل الغضب، و «أَسِفاً» يفيد كماله. وقال الأكثرون: حُزْناً وجَزَعاً، يقال: أسف يأسَف أسَفاً فهو أسِفٌ، إذا

ص: 351

حزن. وقيل: الأسف: المغتاط، وفرق بين الاغتياط والغضب، لأنَّ الله تعالى لا يوصف بالغيظ ويُوصَف من حيث أن الغضب إرادة الإضرار بالمغضوب عليه، والغيط تغيُّرٌ يلحقُ المُغتاط وذلك لا يصح إلى على الأجسام كالضحك والبكاء، ثم إن موسى عليه السلام عاتبهم بعد رجوعه فقال:{ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} قيل: المراد بالوعد الحسن إنزال التوراة. وقيل: الثواب على الطاعات.

وقال مجاهد: العهد. وهو قوله: {وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ} [طه: 81] إلى قوله: {ثُمَّ اهتدى} [طه: 82](ويدل عليه قوله بعد ذلك){أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فكأنه قال أفنسيتم ذلك الذي قال الله لكم: «وَلَا تَطْغوا» وقيل: الوعد الحسن هاهنا يحتمل أن يكون وعداً حسناً في منافع الدين وأن يكون في منافع الدنيا. أما منافع الدين: فهو الوعد بإنزال الكتاب الهادي إلى الشرائع، والوعد بحصول الثواب العظيم في الآخرة. وأما منافع الدنيا فإن الله تعالى قد وعدهم قبل إهلاك فرعون أن يورثهم أرضَهُم (ودِيارَهُم) .

فإن قيل: قوله: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} هذا الكلام إنما يتوجه عليهم لو كانوا معترفين بإلهٍ آخر سوى العجل، وأمَّا لمَّا اعتقدوا أنه لا إله سواه على ما أخبر الله عنهم أنهم قالوا:{هاذآ إلهكم وإله موسى} [طه: 88] كيف يتوجه عليهم هذا الكلام؟

فالجواب: أنهم كانوا معترفين بالإله لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبَّاد الأصنام.

قوله: «وَعْداً حَسَناً» يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً، والمفعول محذوف

ص: 352

تقديره: وعدكم بالكتاب والهداية، أو يترك المفعول الثاني ليعم. ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود فيكون هو المفعول الثاني.

قوله: {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد} أيْ أقصيْتُم ذلك العهد. وقيل: أفَطَالَ عليكم مدة مفارقتي إياكم. وطول العهد يحتمل أموراً:

أحدها: أفطال عليكم العهد بنعم الله من إنْجَائكُم من فرعون، وغير ذلك من النعم المذكورة في أول سورة البقرة كقوله تعالى:{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] .

وثانيها: روي أنَّهم عرفوا أنَّ الأجل أربعون ليلةً فجعلوا كلَّ يوم بإزاء ليلة وردُّوه إلى عشرين. قال القاضي: هذا ركيك لأن ذلك لا يكاد يشتبهه على أحد.

وثالثها: أنَّ موسى عليه السلام وعدهُم ثلاثين ليلةً فلما زاده الله فيها عشرة أخرى طال العهد.

قوله: {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ} هذا لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنَّ احداً لا يريد ذلك، ولكن المعضية (لما كانت) توجب ذلك، ومريد السبب مريد للمسبب، أي أرَدْتُّمْ أن تفعلوا فعلاً يوجب عليكم الغضب من ربكم.

{فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} ، وهذا يدل على موعد كان فيه عليه السلام مع القوم،

ص: 353

فقيل: المراد ما وعدوه من اللحاق والمجيء على أثره. وقيل: ما وعدوه من الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور و «مَوْعدي» مصدر يجوز أن يكون مضافاً لفاعله بمعنى أوَجدْتُمُونِي أَخْلَفْتُكُم ما وعْدتُّكُمْْ. وأن يكون مضافاً لمفعوله بمعنى: أنهم وعدوه أن يتمسكوا بدينه وسنته.

قوله: «بِمَلْكِنَا» قرأ الأخوان بضم الميم، ونافع وعاصم بفتحها والباقون بكسرها. فقيل: لغات بمعنى واحد كالنَّقْضِ والنُّقضِ والنِّقْضِ، فهي مصادر، ومعناها القدرة والتسلط. وفرق الفارسي وغيره بينهما، فقال: المضموم معناه: لم يكن مُلْكٌ فتُخْلِفُ موعدك بسلطانه، وإنما فعلناه بنظر واجتهاد، فالمعنى على أن ليس له ملك كقول ذي الرُّمة:

3685 -

لَا يُشْتَكَى سَقْطَةٌ مِنْهَا وَقَدْ رَقَصَتْ

بِهَا المَفَاوِزُ حَتَّى ظَهْرُهَا حَدِبُ

أي لا يقع منها سَقْطَة فَتَشْتَكِي.

وفتح الميم مصدر من مَلَكَ أمره، والمعنى: ما فعلناه بأنَّا ملكنا الصواب، بل غلبتنا أنفسنا. وكسر الميم كَثُر فيما تحوزه اليد وتحويهن ولكنه يستعمل في الأمور اليت يرمها الإنسان، ومعناها كمعنى التي قبلها.

والمصدر في هذين الوجهين مضاف لفاعله، والمفعول محذوف أي: بِمَلْكِنَا

ص: 354

الصوابَ. قوله: «حُمِّلْنَا» قرأ نافع وابن كثير وحفص بضم الحاء وكسر الميم المشددة وأبو جعفر كذلك إلا أنه خفف الميم. (والباقون بفتحها خفيفة الميم) . فالقراءة الأولى والثانية نسبوا فيهما الفعل إلى غيرهم.

وفي الثالثة نسبوه إلى أنفسهم و «أَوْزَاراً» مفعول ثان غير القراءة الثالثة. و «مِنْ زِينَةِ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «حُمِّلْنَا» ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «أَوْزَاراً» .

وقوله: «فَكَذَلِكَ» نعت لمصدر أو حال من ضميره عند سيبويه أي: وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «أوْزَاراً» .

وقوله: «فَكَذَلِكَ» نعت لمصدر أو حال من ضميره عند سيبويه أي: إلقاء مثل إلقَائِنَا.

فصل

اختلفوا في القائل {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} على وجهين:

فقيل: القائل هم الذين لم يعبدُوا العجلَ كأنهم قالوا: ما أخلَفْنَا موعدَك بأمرٍ كُنَّا نملكه، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه، كقوله تعالى:{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50]{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72] وإن كان القائل بذلك آباءهم، فكأنهم قالوا: الشبهة قويت على عبدة العجل، فلم نقدر على منعهم عنه ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم، لأنَّا خفنا أن نصير سبباً لوقوع الفرقة، وزيادة الفتنة.

وقيل: هذا قول عبدة العِجل، والمعنى أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا، وفاعل

ص: 355

السبب فاعل المسبب، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة، فإنه كان لمالكنا لنا.

فإن قيل: كيف يُعْقَل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجلٍ يُعْرَف فسادُها بالضرورة، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك الدين بسبب رجوع موسى عليه السلام وحده إليهم؟

فالجواب: هذا غير ممتنع في حق البُلْهِ من الناس.

ثم إنَّ القوم فروا من العذر الحامل لهم على ذلك الفعل فقالوا {ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم} فمن قرأ بالتخفيف فالمعنى حملْنَا في أنفسنا ما كنا استعرضناه من القوم. ومن قرأ بالتشديد فقيل: إن موسى عليه السلام أمرهم باستعاره الحُلِيّ والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك. والمراد بالأوزار حُليّ قوم فرعون.

وقيل: جعلنا كالضامن لها أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله.

وقيل: إنَّ الله تعالى حَمَّلَهُم ذلك، أي: ألزمهم حكم المغنم.

قيل: أخذوها على وجه العارية ولم يردوها حين خرجوا من مصر استعاروها لعيدهم.

وقيل: إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذَ البحر حُليَّهم فأخذوها وكانت غنيمة، ولم تكن الغنيمة حلالاً لهم في ذلك الزمان، فسماها الله أوْزَاراً لذلك، لأنه يجب عليهم حفظها من غير فائدة فكانت أوزاراً.

وقيل: سميت أوزاراً لكثرتها وثقلها، والأوزار: الأثقال. وقيل المراد بالأوزار الآثام، والمعنى حُمِّلْنَا آثاماً، روي أن هارون - عليه - قال إنها نجسة فتطهروا منها، وقال السَّامِريّ إنَّ موسى احتبس عقوبة بالحُلِيّ. فيجوز أن

ص: 356

يكونوا أرادوا هذا القول، وقد يقول الإنسان للشيء الذي يلزمه رده هذا كله إثمٌ وذنبٌ.

وقيل: إنَّ ذلك الحِليّ كان للقبط يتزينون به في مجامع لهم يجري فيها الكفر، فلذلك وصف بكونها أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي.

وقوله: «فَقَذَفْنَاهَا» أي فَطَرَحْنَاهَا في الحفيرة، وذلك أن هارون قال لهم: إنَّ تلكَ غنيمةٌ لا تَحِلٌُّ فاحفروا، فحفروا حفيرة، ثم ألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه، ففعلوا.

وقيل: قَذَفُوها في موضعٍ أمرهم السامريُّ بذلك.

وقيل: في موضعٍ جمع فيه النار، ثم قالوا: وكذلك ألقى السامري ما معه من الحُلِيّ فيها.

ص: 357

قوله: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ} .

قال ابن عباس: أوقد هارون ناراً وقال: اقذفوا ما معكم فيها فألقوا فيها، ثم ألقى السامريُّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل عليه السلام.

قال قتادة: كان ذلك الجسد حيًّا أم لا؟

فقيل: لا لأنه لا يجوز إظهار خرق العادة على يد الضال بل السامري صوًّر صورة على شكل العجل، وجعل فيها منافذ وتخاريق بحيث تدخل فيها الرياح، فيخرج صوت يشبه صوت العِجْل.

وقيل: إنَّه صار حياً، وخار كما يخور العِجْل، لقوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ

ص: 357

الرسول} [طه: 96] ، ولو لم يصر حيًّا لما بقي لهذا الكلام فائدة، ولأنه تعالى سماه عجلاً، والعِجْل حقيقة هو الحيوان، وسماه جسَداً وهو إنما يتناول الحي.

وأثبت له الخوار.

وأما ظهور خارق العادة على يد الضال فجائز، لأنه لا يحصل الالتباس وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع.

وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون عليه السلام مرَّ بالسَّامريَّ وهو يصنع العجل، فقال ما تصنع؟ فقال أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي فقال: اللهم أعطه ما سأل، فلما مضى هارون، قال السامريُّ اللهم إني اسألك أن تجعل له خواراً.

وفي رواية: فألقى التراب في فم العجل، وقال: كُنْ عِجْلاً يخور، فكان كذلك يدعوه هارون وعلى هذا التقدير يكون ذلك معجزاً للنبي.

قوله: {فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى} وهاهنا إشكال وهو أن القوم إن كانوا في الجهالة بحيث اعتقدوا أن ذلك العجل المعمول في تلك الساعة هو الخالق للسموات والأرض فهم مجانين، وليسوا مكلفين، ولأن هذا محال على مثل ذلك الجمع العظيم، وإن لم يعتقدوا ذلك، فكيف قالوا:{هاذآ إلهكم وإله موسى} ؟

وجوابه لعلهم كانوا من الحلولية: فجوزوا حلول الإله وحلول صفة من صفاته في ذلك الجسم، وإن كان ذلك أيضاً في غاية البعد، لأن ظهور الخوارق لا يناسب الإلهية، ولكن لعل القوم في نهاية البلادة.

قوله: «فَنَسِيَ» قرأ العامة بكسر السين. وقرأ الأعمش بسكون السين، وهي لغة فصيحة والضمير في «نَسِيَ» يجوز أن يعود على السَّامِريّ «، وعلى هذا قيل: إنه من كلام

ص: 358

الله تعالى، كأنه أخبر عن السامري أنه نَسِيَ الاستدلال على حدوث الأجسام، وإنَّ الإلَه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء، ثم إنه تعالى بيَّن المعنى الذي يجب الاستدلال به وهو قوله:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي: لم يخطر ببالهم أن من لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر لا يكون إلهاً، ولا يكون للإله تعلق بالحالية (والمحلية) .

ويجوز أن يعود على» مُوسَى «وعلى هذا قيل: هذا قول السامري، والكعنى أن هذا إلهكم وإله موسى، فنسي موسى أن هذا هو الإله فذهب يطلبه في موضع آخر وهو قول الأكثرين.

وقيل: فنسي وقت الموعد في الرجوع.

قوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي: أن العجل لا يكلمهم، لا يجيبهم إذا دعوه، {وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً} . وهذا استدلال على عدم أنه إله بأنه لا يتكلم ولا ينفع ولا يضر. وهذا يدل على أن الإله لا بد وأن يكون موصوفاً بهذه الصفات، وهو كقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يَبْصِرُ} [مريم: 42] وأن موسى عليه السلام في الأكثر لا يعول إلى على دلائل إبراهيم عليه السلام .

قوله: {أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} العامة على رفع «يَرْجِعُ» لأنها المخففة من الثقيلة، ويدل على ذلك وقوع أصلها وهو المشددة في قوله:{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148] .

قال الزجاج: الاختيار الرفع بمعنى: أنه لا يرجع كقوله: {وحسبوا أَلَاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] بمعنى: أنه لا تكون.

ص: 359

وقرأ أبو حيوة والشافعي رضي الله عنه وأبان بنصبه، جعلوها الناصبة.

والرؤية على الأولى يقينية، وعلى الثانية بصرية، وقد تقدم تحقيق هذين القولين (في المائدة) .

والسَّامريُّ: منسوب لقبيلة يقال لها سامرة.

فصل

دلَّت الآية على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، وقال في آية أخرى {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف: 148] ، وهو قريب من قوله في ذم عبدة الأصنام {فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] ، أي لو كان يكلمهم لكان إلهاً، والشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، وفوات منها يقتضي فوات المشروط، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط.

قال بعض اليهود لعليٍّ رضي الله عنه ما دَفَنْتُمْ نَبيَّكُمْ حتَّى اختلفتم.

فقال: اختلفنا عنه وما اختلفنا فيه، وأنتم ما جفَّت أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم لنبيكم اجعَلْ لَنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَة.

ص: 360

قوله: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ} إنما قال ذلك شفقة منه على نفسه وعلى الخلق، أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف

ص: 360

والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه موسى عليه السلام {اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142] ، فلو كان يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنى المنكر كان مخالفاً لأمر الله ولأمر موسى وذلك لا يجوز. وأما الشفقة على الخلق فلأن الإنسان يجب أن يكون مشفقاً على خلق الله خصوصاً على أبناء جنسه، وأي شفقة أعظم من أن يرى جَمعاً يتهافتون على النار فيمنعهم منها. ولمَّا ثبت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشفقة على المسلمين واجب، ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار فيمنعهم منها. ولمَّا ثبت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشفقة على المسلمين واجب، ثم إن هارون عليه السلام رأى القوم متهافتين على النار فلم يبال بكثرتهم بل صرح بالحق فقال:{ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} .

(واعلم أن هارون عليه السلام سَلَكَ في هذا الوعط أحسن الوجوه، لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} ، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله: {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} ) ثم دعا إلى ثالثاً إلى النبوة بقوله: «فَاتَّبِعُونِي» ثم دعاهم رابعاً بقوله «وَأَطِيعُوا أَمْرِي» .

وهذا هو الترتيب الجيد، لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه. وإنما قال:{وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} فخص هذا الموضع باسم الرحمن، تنبيهاً على أنهم متى تابوا قَبِلَ الله توبتهم، لأنه هو الرحمن، ومن رحمته أن خلصهم من آفات فرعون، ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد فقالوا:{لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} كأنهم قالوا: لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول موسى، وهذه عادة المقَلِّدِ.

قوله: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ} .

قرأ العامة: {إِنَّمَا فُتِنتُمْ} بالكسر فيهما، لأنها بعد القول لا بمعنى الظن وقرأت فرقة بفتحهما، وخُرِّجت على لغة سُلَيْم، وهي أنهم يفتحون «أنَّ» بعد القول مطلقاً.

ص: 361

وقرأ أبو عمرو في رواية الحسن وعيسى بن عمر بفتح «أنَّ ربَّكُمْ» فقط، وخرجت على وجهين:

أحدهما: أنها وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: واللأمر أنَّ رَبَّكُم الرَّحْمنُ، فهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات.

والثاني: أنها مجرورة مقدر، أي: لأنَّ رَبَّكُم الرَّحْمنُ.

«فَاتَّبِعُونِي» وقد تقدم القول في نظير ذلك بالنسبة إلى هذه الفاء.

فصل

لمَّا قالوا لهارون {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} أي: مقيمين على عبادة العجل {حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} اعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة، وكانوا يؤقصون حول العِجْل قال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله. وقال له:{مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا} أشركوا.

قوله: «إذْ» منصوب ب «مَنَعَكَ» ، أي: أي شيء منعك وقت ضلالهم.

و «لَا» فيها قولان:

أحدهما: أنَّها مزيدة، أي ما منعك من أن تتبعني.

والثاني: أنَّها دخلت حملاً على المعنى، إذ المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، وما دَعَاك إلى أن لا تتبعني، ذكره عَلِيُّ بن عِيسَى.

وقد تقدم تحقيق هذين القولين في (سورة الأعراف، والقراءة في) ، «يَبْنَؤُمَّ» .

فصل

ومعنى تَتَّبِعني تتَّبع أمري ووصيَّتٍي، يعني هلَاّ قاتلتهم، وقد علمت أنِّي لو كنت

ص: 362

فيهم لقاتلتهم على كفرهم، وقيل:{أَلَاّ تَتَّبِعَنِ} أي: ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالهم فتكون مفارقتك إياهُم زَجْراً لهم عما أتوا {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} .

فصل

تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه:

أحدها: أنَّ موسى عليه السلام إما أن يكون قد أمر هارون باتباعه أو موسى لهارون معصيةً وذنباً، لأن ملامة غير المجرم معصية.

وإن لم يتبعه كان هارون تاركاً للواجب فكان فاعلاً للمعصية، وإن قلنا: إن موسى ما أمره باتباعه كانت ملامته إيَّاه بترك الاتباع معصية، وعلى جميع التقديرات يلزم إسناد المعصية إما إلى موسى أو إلى هارون.

وثانيها: قول موسى {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} استفهام على سبيل الإنكار، فوجب أن يكون هارون قد عصاه، وأن يكون ذلك العصيان منكراً، وإلا كان موسى كاذباً، وهو معصية، وإذا فعل هارون لك فقد فعل المعصية.

ثالثها: قوله: {ياابنأم لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94] وهذا معصية، لأن هارون عليه السلام قد فعل ما قدر عليه، فكان الأخذ بلحيته وبرأسه معصية، وإن فعل ذلك قبل تعرف الحال كان ذلك معصية.

ورابعها: أن هارون قال: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94] ، فإن كان الأخذ بلحيته ورأسه جائزاً كان قول هارون «لَا تَأْخُذْ» منعاً له أن يفعله، فيكون ذلك القول معصية. وإن لم يكن ذلك الأخذ جائزاً كان موسى عليه السلام فاعلاً للمعصية.

ص: 363

والجواب عن الكل: أنَّ حاصَ هذه الوجوه تمسكٌ بظواهر قابلة للتأويل، ومعارضة ما يبعد عن التأويل بما يتسارع إليه التأويل غير جائز. وإذا ثبتت هذه المقدمة ففي الجواب وجوه:

أحدهما: أنَّا وإن اختلفنا في جواز عصمة الأنبياء لكن اتفقنا على جواز ترك الأولى عليهم. وإذا كان كذلك فالفعل الذي يفعله أحدهما ويمنع منه الآخر، أعني: موسى وهارون عليهما السلام لعله كان أحدهما أولى، والآخر كان ترك الأولى، فلذلك فعله أحدهما وتركه الآخر.

فإن قيل: هذا التأويل غير جائز، لأن كل واحد منهما كان جازماً فيما يأتي به فعلاً كان أو تركاً، وفعل المندوب وتركه لا يجزمونه قلنا: تقييد المطلق بالدليل غير ممتنع، فيحمل الجزم في الفعل والترك على أن المراد افعل ذلك أو اتركه إن كنت تريد الأصلح، وقد يترك ذلك الشرط إذا كان تواطؤهما على رعايته معلوماً متقرراً.

وثانيهما: أن موسى عليه السلام أقبل وهو غضبان على قومه فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك الغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه وأصابعه ويفتل لحيته، فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه، لأنه كان أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب، وأما قوله:{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94] فلا يمتنع أنه معاون له، ثم أخذ في شرح القصة فقال:{إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} [طه: 94] .

وثالثها: أنَّ نبي إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى، حتى إن هارون غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى: أنت قتلته، فلما وعد الله موسى، وكتب له في الألواح من كل شيء، ثم رجع فرأى من قومه ما رأى، أخذ برأس أخيه ليدنيه فيتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون أن يَسْبِق إلى قلوبهم ما لا أصل له، فقال إشفاقاً على موسى:{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94] ، لئلا يظن القوم ما لا يليق بك.

ص: 364

ورابعها: قال الزمخشري: كان موسى عليه السلام رجلاً حديداً مجبولاً على الحدة، والخشونة، والتصلب في كل شيء، شديد الغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون عجلاً من دون الله بعد ما رأوا من الآيات العظام أن ألقى الواح التوراة لما غلب عليه من الدهشة العظيمة غضباً لله وحميّة، وعنَّف بأخيه وخليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدو.

قال ابن الخطيب: وهذا الجواب ساقط، لأنه يقال: هَبْ أنه كان شديد الغضب، ولكن مع ذلك الغضب الشديد هل كان يبقى عاقلاً مكلفاً أم لا؟

فإن بقي عاقلاً فالأسئلة باقية بتمامها، أكثر ما في الباب أنك ذكرت أنه يغضب شديداً وذلك من جملة المعاصي. فإن قلتم: إنه في ذلك الغضب لم يبق عاقلاً ولا مكلفاً فهذا مما لا يرتضيه مسلم البتة، فهذه أجوبة من لم يجوِّز الصغائر، وأما من جوزها فالسؤال ساقط.

وجواب آخر: وهو أنَّ موسى عليه السلام لمَّا رجع إلى بني إسرائيل كان عالماً بانهم قد فُتِنُوا، وأن السامري قد أضلهم، والدليل عليه قوله تعالى لموسى ( «إِنَّا قَدْ فَتَنَّا) قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ» وإذا كان كذلك فموسى عليه السلام إنما جاء وهو عالم بحالهم، فإنكاره على هارون لعلمه بحالهم قبل مجيئه إليهم لا لما أثبتوه في سؤالهم.

وقوله: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} يدل على أن تارك المأمور به عاص، والعاصي مستحق للعقاب، لقوله:«وَمَنْ يَعْص اللهَ (وَرَسُولَه فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّم» ) فمجموع الآيتين يدل على أن الأمر للوجوب.

ص: 365

قوله: «يا بْنَ أُمِّ» قيل: إنما خاطبه بذلك ليدفعه عنه، ويتركه.

وقيل: كان أخاه لأمه.

واعلم أنه ليس في القرآن دلالة على أنَّه فَعَلَ ذلك، فإن النهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهي عنه لقوله تعالى:{وَلَا تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1، 48] وإنما في القرآن أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه.، وهذا القدر لا يدل على الاستحقاق بل قد يفعل لسائر الأغراض على ما بيناه.

قوله: {لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} الجمهور على كسر اللام من اللحية، وهي الفصحى. وفيها الفتح وبه قرأ عيسى بن سليمان الحجازي، والفتح لغة الحجاز ويجمع على لِحّى كقِرَب. ونقل فيها الضم كما قالوا: صِوَرَ بالكسر وحقها بالضم.

والباء في «بِلِحْيَتِي» ليست زائدة إما لأنَّ المعنى لا يكن منك أخذ وإما لأن المفعول محذوف أي لا تأخُذْنِي. ومن زعم زيادتها كهي في {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] فقد تعسف.

ص: 366

فصل

معنى قوله: «بِرَأْسِي» أي بِشَعْر رأسي، وكان قد أخذ بذوابته «إنِّي خَشِيتُ» لو أنكرت عليهم لصاروا حريين بقتل بعضهم بعضاً، فتقول أنت {فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} ولم تحفظ وصيتي حين قلت لك:{اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142] لأي ارفق بهم.

قوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} هذه الجملة محلها النصب نسقاً على {فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} أي أن تقول: فرقت بينهم وأن تقول: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} .

وقرأ أبو جعفر «تُرقب» بضم حرف المضارعة من أرقب. فإن قيل: إن قوله موسى عليه السلام «وما منعك أن لا تتبع أفعَصَيْتَ أمْرِي» يدل على أنه أمره بشيء، فكيف يحسن في جوابه أن يقال: إنما لم أمتثل قولك خوفاً من أن تقول «وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» ، وهل يجوز مثل هذا الكلام على العاقل؟

فالجواب: لعلَّ موسى عليه السلام إنما أمره بالذهاب إليه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى فساد القوم، فلما قال موسى «مَا مَنَعَكَ أَْنْ لَا تَتَّبِعنِي» قال لأنك إنما أمرتني باتباعك إذا لم يحصل الفساد، فلو جئتك مع حصول الفساد ما كنت مراقباً لك.

ص: 367

قوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} . «مَا خَطْبُكَ» مبتدأ وخبر، وتقدم الكلام على الخَطب في يوسف، ومعناه هنا: ما أمرك وشأنُك، أي ما حملك على ما صنعت.

ص: 367

وقال ابن عطيَّة هنا: إنه يقتضي إشهاراً، كأنه قال: ما نَحْسُكَ وما شُؤْمُك.

ورد عليه أبو حيَّان بقوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون} [الحجر: 57، الذاريات: 31] .

قوله: «بَصُرْتُ» يقال: بَصُر الشيء، أي: علمه، وأبصره أي: نظر إليه كذا قال الزجاج.

وقال غيره: بصر بالشيء وأبصره بمعنى: علمه. والعامة علم ضم الصاد في الماضي ومضارعه وقرأ الأعمش وأبو السمال «بَصِرتُ» بالكسر «يَبْصَرُوا» بالفتح وهي لغة.

وعمرو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين، أي أُعْلِمْتُ بما لم يعلموا به، وقرأ الأخوان «تَبْصَرُوا» خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله:{إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء}

3686 -

حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ

والباقون بالغيبة من قومه والعامة على فتح القاف من «قَبْضَة» وهي المرة من القبض.

قال الزمخشري: وأما القبضة فالمرة من القبض، وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر.

قال شهاب الدين: والنحاة يقولون: إن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء تقول:

ص: 368

هذه حلةٌ نسجُ اليمن، ولا تقول: نسجة اليمن، ويعترضوون بهذه الآية، ثم يجيبون بأن الممنوع إنما هو التاء الدالّة على التحديد لا على مجرد التأنيث، وهذه التاء دالة على مجرد التأنيث، وكذلك قوله:{والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67] .

وقرأ الحسن «قُبْضَةٌ» بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغَة في معنى المغروف والمقبوض. وروي عنه «قُبْصَة» بالصاد المهملة. والقَبْض بالمعجمة بجمع الكف، وبالمهملة بأطراف الأصابع، وله نظائر كالخضم وهو الكل بجميع الفم والقضم بمقدمه، والقضم قطع بانفصال والفصم بالفاء باتصال، وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة. وأدغم ابن محيصن الضاد المعجمة في تاء المتكلم مع إبقائه الإطباق. وأدغم الأخوان وأبو عمرو الذال في التاء من «فَنَبَذْتُهَا» .

فصل

لما أجاب هارون أخاه موسى بالجواب المتقدم أقبل موسى على السامريّ وقال له: «مَا خَطْبُكَ» أي: ما حملَكَ على ما فعلتَ؟ فقال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي: رأيت

ص: 369

ما لم يروا بنو إسرائيل وعرفت ما لم يعرفوا.

قال ابن عباس: علمتُ ما لم يعلموا، ومنه قولهم: رجل بصيرٌ، أي: عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام فأخذ من موضع حافر دابته قبضةٌ من تراب، فقال:{فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} .

وقرأ ابن مسعود: «مِنْ أَثَرِ فَرَسِ الرَّسُولِ» والمراد بالرسول جبريل عليه السلام (عند عامَّة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي) أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر.

وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّ جبريل عليه السلام لمَّا نزل ليذهب موسى إلى الطور أبصره السَّامريّ من بين الناس.

واختلفُوا في أنه كيف اختص السامريُّ برؤية جبريل ومعرفته بين الناس؟

فقال ابن عبَّاس في رواية الكلبي: إنَّما عرفه، لأنه رآه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولجتْ طرحتْ ولدَها حيث لا يشعر به آل فرعون، فيأخذ الملائكة الولدان ويربونَهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامريُّ ممن أخذه جبريل عليه السلام، وجعل كفَّ نفسه في فيه وارتضع منه اللبن والعسل ليربيه - فلما قضي على يديه من الفتنة فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه.

قال ابن جريج: فعل هذا قوله: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} يعني رأيت ما لم يروه. ومَنْ فسّر الإبصار بالعلم فهو صحيح، ويكون المعنى علمتُ أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصة الإحياء، وذلك أنه كان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه في مشيه على الطريق اليبس يخرج تحته النبات في الحال.

وقال أبُو مسلم: ليس في القرآن تصريح بما ذكره المفسرون فهنا وجه آخر، وهو أن يكون المرادُ بالرسول موسى عليه السلام، وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل: إنَّ فلاناً يقفُوا أثرَ فلان يقتص أثرَه إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أنَّ موسى عليه السلام لمَّا أقبل على السامريِّ باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه

ص: 370

إلى إضلال القوم في العَجْل فقال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أي عرفت أن الذي أنتم عليه (ليس بحق)، وقد كنت قبضتُ قبضةٌ من أثرك أيُّها الرسولُ أي: شيئاً من دينك، فنبذته أي: طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدُّنيا والآخرة، وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقولُ الأميرُ في كذا، أو بماذا يأمرُ الأمير. وأما ادِّعاؤُه أنَّ موسى عليه السلام رسول مع جحده وكفره فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله:{يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} وإن لم يؤمنوا بالإنزال.

قال ابن الخطيب: وهذا الذي ذكره أبو مسلم (ليس فيه إلَاّ أنَّه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه:

أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس معهوداً باسم الرسول، ولم يجز له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.

وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول والإضمار خلاف الأصل.

وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أنَّ السامريّ كيف اختصَّ من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، ثم كيف عرف أن تراب حافر دابته يؤثر هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي ربَّاه فبعيد، لأن الاسمريِّ إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أنَّ موسى عليه السلام نبيٌّ صادقٌ، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ فأنَّى ينفعه كون جبريل عليه السلام (مربيّاً له) حال الطفولية في حصول تلك المعرفة.

ورابعها: أنه لو جاز إطلاع بعض الكفرة على ترابٍ هذا شأنه لكان لقائل أن

ص: 371

يقول: فلعل أطلع أيضاً على شيء آخر يشبه ذلك، فلأجله أتى بالمعجزات، فرجع حاصله إلى سؤال من يطعن في المعجزات ويقول: لِمَ لا يجوز أن يقال: إنَّهم أتوا بهذه المعجزات لاختصاصهم بمعرفة بعض الأدوية التي لها خاصية أن يفيد حصول تلك المعجزة، وحينئذ يسند باب المعجزات بالكلية.

ثم قال: {وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي زينت، والمعنى: فعلتُ ما دعتني إليه نفسي، وسولت مأخوذة من السؤال.

قوله

: {فاذهب

فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ} قرأ العامة بكسر الميم وفتح السين، وهو مصدر لفاعل كالقِتَال من قَاتَلَ، فهو يقتضي المشاركة، وفي التفسير: لا تَمسَّنِي ولا أمسك وإن مَنْ مَسَّه أصابته الحمَّى. وقرأ الحسن وأبُو حيوة وابن أبي عبلة (وقعنب) بفتح الميم وكسر السين، هكذا عبّر أبُو حيَّان، وتبع فيه أبا البقاء. ومتى أخذنا بظاهر هذه العبارة لزم أن يقرأ «مَسِيس» بقلب الألف ياء لانكسار ما قبلها، ولكن لم يُرْوَ ذلك فينبغي أن يكونوا أرادوا بالكسر الإمالة، ويدل على ذلك ما قاله الزمخشري: وقُرئ «لَا

ص: 372

مَساس» بوزن (فَجَارِ) . ونحوه قولهم في الظباء: إنْ وَرَدَتِ المَاءَ فَلَا عَبَابِ وإنْ فَقَدَتْهُ فَلَا أَبَابِ (فهي أعلام للمسَّةِ والعبَّة والأبَّةِ وهي المرة من الأبّ وهو) الطلب. ويدل عليه أيضاً قولُ صاحب اللوامح: هو على صورة (نَزَالِ، ونَظَارِ) من أسماء الأفعال بمعنى (انزل، وانظر) . فهذا أيضاً تصريح بإقرار الألف على حالها. ثم قال صاحب اللوامح: فهذه الأسماء التي بهذه الصيغة معارف، ولا تدخل عليها (لا) النافية التي تنصب النكرات نحو: لَا مَالَ لَكَ. لكنه فيه نفي الفعل، فتقديره: لا يكون منك مَسَاسٌ، ومعناه النهي، أي: لا تمسَّني وقال ابن عطيَّة: «لا مَسَاسِ» وهو معدول عن المصدر كفجَارِ ونحوه، وشبهه أبو عبيدة وغيره بنزَالِ ودَرَاكِ ونحوه، والشبه صحيح من حيث هي معدولات، وفارقه من حيث أن هذه عدلت عن الأمر و «مَسَاسِ» وفَجَارِ عدلت عن المصدر، ومن هذا قول الشاعر:

ص: 373

3687 -

تَمِيمٌ كَرَهْطِ السَّامِرِيِّ وَقَوْلِهِ

أَلَا لَا يُرِيدُ السَّامرِيُّ مَسَاسِ

فكلام الزمخشري وابن عطية يعطي أن «مَسَاسِ» على هذه القراءة معدول عن المصدر كفجار عن الفَجَرة. وكلام صاحب اللوامح يقتضي أنَّها معدولة عن فعل الأمر إلا (أن يكون مراده) أنها معدولة كما أنَّ اسم الفعل معدول كما تقدم توجيه ابن عطيَّة لكلام أبي عبيدة.

فصل

معنى الكلام أنَّك ما دُمتَ حيَّا أن تقول: «لَا مَسَاسَ» أي لا تخالط أحداً ولا يخالط أحد.

أو أمرِ موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقاربوه، قال ابن عباس لا مَسَاسَ لَكَ ولِوَلَدِكَ. والمَسَاس من المماسّة معناه لا يَمَسُّ بعضُنا بعضاً، فصار السامري يهيم في الأرض مع الوحوش والسباع لا يمس أحداً. ولا يمسه أحد، لا تقربني ولا تَمَسَّنِي. وقيل: كان إذا مَسَّ أحداً أو مسَّه أحدٌ حُمَّا جميعاً، حتى إنَّ بقاياهم اليوم يقولون ذلك. وإذَا مسَّ أحدٌ من غيرهم أحداً منهم حُمَّا جميعاً في الوقت. وقال أبو مسلم يجوز أن يريد مسَّ النساء، فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله فلا يكون له من يؤنسه، فيخليه الله من زينة الدنيا (التي ذكرها) في قوله تعالى

{المال

والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] .

ص: 374

قوله: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ} . وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو «تُخْلِفَهُ» بكسر اللام على البناء للفاعل، أي تجيء إليه ولن تغيب عنه. والباقون بفتحها على البناء للمفعول وقرأ أبُو نُهَيْك فيما حكاه عنه (ابن خالويه) بفتح التاء من فوق وضم اللام، وحكى عنه صاحب اللوامح كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وابن مسعود والحسن بضم نون العظمة وكسر اللام فأما القراءة الأولى فمعناها: لن تَجِدَهُ مخلفاً كقولك: أحْمَدته وأحببته أي وجدته محموداً وحبَّاباً. وقيل المعنى: سيصل إليك ولن تستطيع الروغان ولا الحيدة عنه، قال الزمخشري: وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته مخلفاً. قال الأعشى:

3688 -

أثْوَى وَقصَّر لَيْلَهُ لِيُزَوَّدَا

فَمَضَى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا

ومعنى الثانية لَنْ يَخْلِفَ الله موعده الَّذِي وَعَدَك. وفتحُ اللام اختيار أبي عبيد، كأنَّه قال موعداً حقاً لا خُلْفَ فيه، ولن يُخلِفَ الله، والمعنى أن الله يكافئك على فعلك ولا تفر منه. وأما قراءتا أبي نُهَيْك فهما من خلفهُ يخلفُهُ إذا جاء بعده أي الموعد الذي لك لا يدفع قولَك الذي تقوله، وهي مشكلة، قال أبو حاتم: لا نعرف لقراءة أبي نُهَيْك مذهباً. وأما قراءة ابن مسعود فأسند الفعل فيها إلى الله

ص: 375

تعالى، والمفعول الأول محذوف، أي لن (يخلفكه) .

قوله: «ظَلْتَ» العامَّة على فتح الظاء وبعدها لام ساكنة. وابن مسعود وقتادة والأعشى بخلاف عنه وأبو حَيْوَة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر كسر الظَّاء، وروي عن ابن يَعْمَر ضمها أيضاً. وأبيّ والأعمش في الرواية الأخرى «ظَلِلْتَ» بلامين أولهما مكسورة فأمَّا قراءة العامة ففيها حذف أحد المِثلين وإبقاء الظاء على حالها من حركتها، وإنما حذف تخفيفاً، وعده سيبويه في الشاذ، يعني شذوذ قياس لا شذوذ استعمال، وعدَّ معه ألفاظاً أُخَر نحو مَسْتُ وَأَحَسْتُ. كقوله:

3689 -

أَحَسْنَ بِهِ (فَهُنَّ إِلَيْكَ شُوسُ)

وعد (ابن الأنباري) هَمْتُ في هَمَمْتُ، ولا يكون هذا الحذف منقاس في كل مضاعف العين واللام سكنت لمه وذلك في لغة سليم.

ص: 376

قال شهاب الدين: والذي أقوله إنه متى التقى التضعيف المذكور والكسرة نحو ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذف. وهل يجري الضم مجرى الكسر في ذلك؟ فالظاهر أنه يجري بل بطريق الأولى، لأن الضم أثقل من الكسر نحو غُصْنَ يا نسوة أي اغضُضْنَ أبصاركنّ ذكره ابن مالك.

وأما الفتح فالحذف فيه ضعيف نحو قَرْن في المنزل، ومنه أحد توجيهي قراءة «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» كما سيلأتي إن شاء الله تعالى. وأما الكسر فوجهه أنه نقل كسرة اللام إلى الفاء بعد سلبها حركتها ليدل عليها.

وأما الضمُّ فيحتمل أن يكون جاء في لغة على فَعَل يَفْعَلُ بقتح العين في الماضي وضمها في المضارع ثم نقلت كما تقدم ذلك في الكسر.

وأما «ظَلِلْتُ» بلامين فهذه هي الأصل، وهي منبهة على غيرها. و «عَاكِفاً» خبر «ظَلَّ؟ .

قوله:» لَنُحَرِّقَنَّهُ «جواب قسم محذوف، أي: والله لنحرُقَنَّهُ، والعامة على ضم النون وكسر الراء مشددو من حرَّقَهُ يحرَّقه بالتشديد. وفيها تأويلان:

أحدهما: أنها من حرقه بالنار.

والثاني: أنه من حرق ناب البعير إذا وقع عضُّ أنيابه على بعض، والصوت المسموع منه يقال له الصَّريف، والمعنى لَنَبْرُدُنَّه بالمِبْرَدِ بَرداً يسحقه به كما يفعل البعير بأنيابه بعضها على بعض. وقرأ الحسنُ وقتادة وأبو جعفر» لَنَحْرُقَنَّهُ «بضم النون وسكون الحاء وكسر الراء من أحرق رباعياً. وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر» لَنُحْرِقَنَّهُ «كذلك إلا أنه بضم الراء، فيجوز أن يكون من حرَّقَ وأحْرَقَ بمعنى

ص: 377

كأنزل ونزَّل. وأما القراءة الأخيرة فبمعنى لَنَبرُدَنَّهُ بالمِبْرَدِ.

قوله:» لَنَنْسِفَنَّهُ «العامة على فتح النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين خفيفة. وقرأ عيسى بضم (السين) . وقرأ ابن مقسّم بضم النون الولى وفتح الثانية وكسر السين مشدّدة. والنَّسف التفرقة والتذرية، وقيل: قَلْع الشيء من أصله، يقال: نَسَفَهُ ينسِفُه بكسر السين وضمها في المضارع، وعليه القراءتان والتشديد للتكثير.

فصل

معنى إحراقه على قراءة التشديد قال السُّدِّي: أمر موسى بذبح العجل فذبح وسال منه الدم، ثم أُحرق ونُسِفَ رماده. وهذا يدل على أنه صار لحماً ودماً، لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار. وفي حرف ابن مسعود:» لَنَذْبَحَنَّهُ ولَنَحْرِقنَّهُ «. وعلى قراءة التخفيف أي لَنَبْرُدَنَّه بالمِبْرَد، وهذه القراءة تدل على أنه لم ينقلب لحماً ودماً، فإن ذلك لا يُبْرَدُ بالمِبْرَدِ، ومنه قيل للمبرد: المحرق.

وقال السَّدي: أخذ موسى العجل، ثم ذبحه ثم حرقه، ثم بُرِدت عظامه بالمِبرد، ثم ذرَّاهُ في اليَمِّ. ثم لما فرغ من إبطال ما ذهب إليه السامريُّ عاد إلى بيان الدين الحق فقال:» إنَّما إلهُكُمْ «أي المستحق للعبادة {الله الذي لاا إله إِلَاّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} قال مقاتل: يعلم من يعبده (ومن لا يعبده) قوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} العامة على كسر السين خفيفة و» عِلْماً «على هذه القراءة تمييز منقول من الفاعل، إذ الأصل وسع كُلَّ شيءٍ علمُهُ. وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددة. وفي انتصاب» عِلماً «أوجه:

أحدها: أنه مفعول به، قال الزمخشري: ووجهه أن» وَسع «متعد إلى

ص: 378

مفعول واحد (وهو كُلُّ شيءٍ) وأما» عِلماً «فانتصابه على التمييز فاعلاً في المعنى، فلما ثقل نقل إلى التعدية إلى مفعولين فنصبهما معاً على المفعولية، لأن المميز فاعل في المعنى كما تقول في خاف زيدٌ عمراً. خَوَّفْتُ زيداً عمراً: فترُدُّ بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً. وقال أبو البقاء: والمعنى: أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ علماً فضمنه معنى (أَعْطَى) . وما قاله الزمخشري أولى.

والوجه الثاني: أنه تميز أيضاً كما هو في قراءة التخفيف، قال أبو البقاء وفيه وجه آخر، وهو ان يكون بمعنى عظَّم خلقَ كُلِّ شيءٍ كالأرض والسماء، وهو بمعنى بسط فيكون» عِلْماً «تمييزاً وقال ابن عطية: وسع خَلْقَ الأشياءِ وكثرها بالاختراع.

ص: 379

قوله تعالى: «كَذَلِكَ نَقُصُّ» الكاف إما نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير ذلك المصدر المقدر، والتقدير: كقصّنا هذا النبأ الغريب نقص، و «مِن أنْبَاءِ» صفة لمحذوف هو مفعول «نَقُصُّ» أي: نقص نبأ من أنباء.

فصل

لمَّا ذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون ثم مع السامري قال: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} من أخبار سائر الأمم وأحوالهم تكثيراً لشأنك وزيادةً في معجزاتك {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} يعني القرآن (لقوله تعالى) : {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ

ص: 379

أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} [الزخرف: 44]{والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1]{يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 4] . وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه:

أحدها: أنه كتاب فيه ذكرُ ما يحتاج إليه الناس من أمور دينهم ودنياهم.

وثانيها: أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة.

وثالثها: فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكراً فقال تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} [النحل: 43، الأنبياء: 7] وكما بيَّن نعمته بذلك بيَّنَ وعيده لمن أعرض عنه فقال: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي: من أعرض عن القرآن ولم يؤمن به ولم يعمل بما فيه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً، والوزرُ هو العقوبة الثقيلة، سماها وزراً لثقلها على المعاقب تشبيهاً بالحمل الثقيل. وقيل: حِمْلاً ثقيلاً من الإثم. قوله: «مَنْ أَعَرَضَ» يجوز أن تكون «مَنْ» شرطية أو موصولة، والجملة الشرطية أو الخبرية الشبيهة بها في محل نصب صفة ل «ذِكْراً» . قوله:«خَالِدينَ فِيهِ» حال من فاعل «يَحْمِلُ» . فإن قيل: كيف يكون الجمع حالاً من مفرد؟

فالجواب: أنه حمل على لفظ «مَنْ» فأفرد الضمير في قوله: «أَعْرَضَ» و «فَإِنَّهُ» و «يَحْمِلُ» ، وعلى معناها فجمع في «خَالِدِينَ» و «لَهُمْ» ، والمعنى مقيمين في عذاب

ص: 380

الوزر. والضمير في «فِيهِ» يعود ل «وِزْراً» ، والمراد فيه العقاب المتسبب عن الوزر، وهو الذَّنب، فأقيم السبب مقام المسبب. وقرأ داود (بن رفيع)«ويُحَمَّل» مضعفاً مبنيَّا للمفعول، والقائم مقام فاعله ضمير «مَنْ» و «وِزْراً» مفعول ثان. قوله:«وَسَاءَ» هذه ساء التي بمعنى بِئْس وفاعلها مستتر فيها يعود إلى «حِمْلاً» المنصوب على التمييز، لأن هذا الباب يفسر الضمير فيه بما بعده، والتقدير: وَسَاءَ الحِمْلُ حِمْلاً، (والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وَسَاء الحِمْلُ حِمْلاً وِزْرَهُمْ) . ولا يجوز أن يكون الفاعل لبئس ضمير الوِزْر، لأن شرط الضمير في هذا الباب أن يعود على نفس التمييز.

فإن قلتَ: ما أنكرت أن يكون في «سَاءَ» ضمير الوزر. قلت: لا يصح أن يكون في «سَاءَ» وحكمه حكم بئس ضمير شيءٍ بعينه غير مبهم. ولا جائز أن يكون «سَاءَ» هنا بمعنى «أَهَمَّ وأحزَنَ) فتكون متصرفة كسائر الأفعال.

قال الزمخشري: كفاك صادَّا عنه أن يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى قولك وأحْزَنَ الوِزْرَ لَهُمْ يومَ القيامة حِمْلاً، وذلك بعد أن تخرج عن عُهْدِة هذه اللام وعهدة هذا المنصوب. انتهى. واللام في» لَهُمْ «متعلقة بمحذوف على سبيل البيان كهي في» هَيْتَ لَك «والمعنى بئس ما حملوا على أنفسهم من الإثم كفراً

ص: 381

بالقرآن. قوله:» يَوْمَ يُنْفَخُ «» يَوْمَ «بدل من» يَوْمَ القِيَامَةِ «، أو بيان له أو منصوب بإضمار فعل، أو خبر مبتدأ مضمر، وبُنِيَ على الفتح على رأي الكوفيين كقراءة» هَذَا يَوْمُ يَنْفَع «وقد تقدَّم. وقرأ أبو عمرو» نَنْفُخُ «مبنيّاً للفاعل بنون العظمة كقوله:» وَنَحْشُر «أسند الفعل إلى الأمر به تعظيماً للمأمور، وهو إسرافيل. والباقُونَ مضمومة مفتوح الفاء على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده. والعامة على إسكان الواو» في الصًّورِ «.

وقرأ الحسن وابن عامر بفتحها جمع صورة كغُرَف جمع غُرْفَة، وقد تقدم القول في الصُّور في الأنعام (وقرئ:» يَنْفُخَ، وَيَحْشُرُ «بالياء مفتوحة مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى أو المَلَك) . وقرأ الحسن وحميد» يُنْفَخُ «كالجمهور،» ويَحْشُرُ «بالياء مفتوحة مبنياً للفاعل، والفاعل كما تقدم ضمير الباري أو ضمير الملك. وروي

ص: 382

عن الحسن أيضاً» ويُحْشَرُ «مبنينَّا للمفعول» المُجْرِمُونَ «رفع به و» زُرْقاً «حال من المجرمين، والمراد زرقةُ العُيون، وجاءت الحال هنا بصفة تشبه اللازمة، لأن أصلها على عدم اللزوم، ولو قلتَ في الكلام: جاءَنِي زيدٌ أزرق العينين لم يجز إلا بتأويل.

فصل

قيل: الصور قرن ينفخ فيه بدعائه الناس للحشر. وقيل: إنه جمع صورة، والنَّفخُ نفخ الرُّوح فيه، ويدل عليه قراءة من قرأ» الصٌّوَر «بفتح الواو.

والأول أولى لقوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} [المدثر: 8] والله تعالى يعرف الناس أمور الآخرة بأمثال ما شُوهِدَ في الدنيا، ومن عادة الناس النفخُ في البوق عند الأسفار وفي العساكر. والمراد من هذا النفخ هو النفخة الثانية لقوله بعد ذلك:{وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} فالنفخ في الصور كالسبب لحشرهم، فهو كقوله:{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ: 18] . والزرقة هي الحضرة في سواد العين، فيُحْشَرُون زرق العيون سود الوجوه. فإن قيل: أليس أنَّ الله تعالى أخبر يُحْشَرُونَ عُمْياً فكيف يكون أعمى وأزرق؟

ص: 383

فالجواب لعله يكون أعمى في حال: وأزرق في حال.

وقيل: «زُرْقاً» أي عُمْياً، قال الزجاج: يخرجون زُرْقاً في أول الأمر ويُعْمَون في المحشر.

وسوادُ العين إذا ذهب تزرق. فإن قيل: كيف يكون أعمى، وقد قال الله تعالى:{لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] وشخوص البصر من الأعمى محال، وأيضاً قد قال في حقهم:{اقرأ كَتَابَكَ} والأَعْمَى كيف يقرأ؟

فالجواب أن أحوالهم قد تختلف. وقيل: المراد بقوله: «زُرْقاً» أي زرق العيون، والعرب تتشاءَمُ بها. وقيل يجتمع مع الزرقة سواد الوجه.

قال أبو مسلم: المراد بالزرقة شخوص أبصارهم، والأزرق شاخص فإنه لضعف بصره يكون محدِّقاً نحو الشيء، وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره، وهي كقوله:{إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: «زُرْقاً» عِطَاشاً، قال لأنهم من شدة العطش يتغير سوادُ أعينهم حتى تزرَقُّ لقوله تعالى:{وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي: «زُرْقاً» طامعين (فيما لا يَنَالُونَه) .

فصل

قالت المعتزلة: لفظُ المجرمين يتناول الكفار والعُصاة فيدل على عدم العفو عن

ص: 384

العصاة. وقال ابن عباس: يريدُ بالمجرمين الذين اتخذوا مع الله إلهاً آخر وتقدم هذا البحث.

قوله: «يَتَخَافَتُونَ» يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً ثانية من «المُجْرِمينَ» ، وأن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في «زرقاً» فتكون حالاً متداخلة، إذ هي حال (من حال) . ومعنى «يَتَخَافَتُونَ» أي: يتشاوَرُونَ فيما بينهم، ويتكلمون خفية، يقال: خَفَتَ يَخْفِتُ، وخَافَتَ مُخَافَتَة، والتَّخافُت السرار نظيره قوله تعالى:{فَلَا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْساً} [طه: 108] ، وإنما يتخافتون، لأنه إمتلأت صدورُهُمْ من الرعب والهول، أو لأنهم بسبب الخوفِ صارُوا في نهاية الضعف فلا يطيقون الجهر. وقوله:«إن لَبِثْتُمْ» هو مفعول المارة، وقوله:«إلَاّ عَشْراً» يجوز أن يراد الليالي، وحذف التاء من العدد قياسي. وأن يراد الأيام، فيُسْأَل لِمَ حذفت التاء؟ فقيل: إنه إذا لم يذكر المميز في عدد المذكر جازت التاء وعدمها، سمع من كلامهم: صُمْنَا من الشهر خَمْساً، والصَّوْمُ إنما هو الأيام، دون اللَّيالي. وفي الحديث «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وأتْبَعَهُ بستّ مِنْ شَوَّال» ، وحسن الحذف هنا لكونه رأس آية وفاصلة.

ص: 385

فصل

قال الحسن وقتادةَ والضحَّاك: أرادوا به اللبث في الدنيا، أي فما مكثتم في الدُّنْيَا إلا عشر ليال، واحتجُّوا بقوله تعالى:{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون: 112، 113] .

فإن قيل: إما (أن يقال) : إنهم قد نسَوا قدرَ لبثهم في الدنيا أو ما نَسوا ذلك والأول غير جائز، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقى الإنسان خمسين سنة في بلدة ثم يَنْسَى.

والثاني غير جائز، لأنه كذب، وأهل الآخرة لا يكذبون لا سيَّما وهذا الكذب لا فائدة فيه.

فالجواب من وجوه:

الأول: لعلَّهم إذا حُشِرُوا في أول الأمر وعاينوا تِلْكَ الأهوال وشدة وقعها ذهلوا عن مقدار عمرهم في الدُّنيا، ولم يذكروا إلا القليل فقالوا: ليتَنا ما عِشْنَا إلا تلك الأيام القليلة في الدنيا حتى لا نَقَع في هذه الأهوال، والإنسان قد يذهل عند الهول الشديد، وتمام تقريره مذكورة في سورة الأنعام في قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [23] . وثانيها: أنهم عالِمون بمقدار عمرهم في الدنيا إلا أنَّهُم لمّا قَابَلُوا أَعْمَارَهُمْ في الدنيا بأعمارِ الآخرة وجدُوهَا في نهاية القلة، فقال بعضهم: ما لبثْنَا في الدنيا إلا عشرة أيام، وقال أعْقَلُهُمْ: ما لبثنا إلا يوماً واحداً، أي: قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى قدر لبثنا في الآخرة كعشرة أيام بل كاليوم الواحد بل كالعدم، وإنما خصَّ العشرة والواحد بالذكر، لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد.

وثالثها: أنهم لما عايَنُوا الشدائد تذكَّروا أيام النعمة والسرور، وتأسفوا عليها، وصفوها بالقصر، لأن أيام السرور قصار.

ص: 386

ورابعها: أن أيامَ الدنيا قد انقضت وأيام الآخرة مستقبلة، والذاهب وإن طالت مدته قليل بالقياس إلى الآتي وإن قصرت مدته، فكيف والأمر بالعكس. ولهذه الوجوه رجَّح الله تعالى قول مَنْ بالغ في التقليل فقال:{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً} . وقيل: المراد منه اللبث في القبر، ويؤيده قوله تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث} [الروم: 55، 56] .

(فأما من جوَّز الكذب على أهل القيامة فلا إشكال له في الآية)، أما من لم يجوزه قال: إن الله تعالى لما أحْيَاهم في الفترة وعذَّبهم، ثم أماتهم ثم بعثهم يوم القيامة لم يعرفوا مقدار لبثهم في القبر كم كان؟ فخطر ببال بعضهم أنه في التقدير عشرة أيام.

وقال آخرون: إنه يوم واحد، فلمَّا وَقَعُوا في العذاب مرة أخرى استثقلوا زمانَ الموت الذي هو زمان الخلاص لِمَا نالهم من هول العذاب.

وقيل: المراد باللبث بين النفختين، وهو أربعون سنة، لأن العذاب يرفع عنهم بين النفختين، استقصروا مدة لبثهم لهول ما عاينوا. والأكثرون على أنَّ قوله:{إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} أي عشرة أيام، فيكون قولُ مَنْ قال {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً} أقل، وقال مقاتل:{إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ عَشْراً} أي ساعات، لقوله (تعالى:{كَأَنَّهُمْ) يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلَاّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] وعلى هذا يكون اليوم أكثر.

ثم قال تعالى: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي: يَتَشَاوَرُون {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي: أوفاهم عقلاً وأعدَلُهم قولاً {إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْماً} قصر ذلك في أعينهم في جنب ما استقبلهم من الأهوال يوم القيامة. قيل: نَسُوا مقدارَ لبثهم لشدة ما دهمهم. قوله: «إذْ يَقُولُ» منصوب ب «أَعْلَمُ» و «طريقةً» منصوب على التمييز.

ص: 387

قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} الآية، (لما وَصَفَ لهم يومَ القيامة) حكى سؤال من لا يؤمن بالحشر. قال ابن عباس: سأل رجلٌ من ثقيف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ - فقال: كيفَ تكون الجبالُ يوم القيامة؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال الضحاك: نزلت في مشركي مكة، قالوا يا محمد كيف تكون الجبالُ يوم القيامة؟ على سبيل الاستهزاء.

{فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} وأجاب بفاء التعقيب، لأن مقصودَهم من هذا السؤال الطعنُ في الحشر والنشر، فلا جرم أمره بالجواب مقروناً بحرف التعقيب، لأن تأخير البيان في مثل هذه المسألة الأصولية غير جائز، وأما المسائل الفروعية فجائز فلذلك ذكر هناك بغير حرف التعقيب. والضمير في «يَنْسِفُهَا» عائد إلى الجبال، والنسف التذريَة. وقيل: القَلْع الذي يقلعها من أصلها ويجعلها هباءً منثوراً.

قال الخليل: «يَنْسِفُهَا» يُذْهِبُهَا ويطيُّرُهَا.

قوله: «فَيَذَرُها» في هذا الضمير وجهان:

أحدهما: أنه ضمير الأرض، أضمرت للدلالة عليها كقوله:{مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45] .

والثاني: ضمير الجبال، وذلك على حذف مضاف أي فيذر مراكزها ومقارها

ص: 388

و «يَذَرُ» يجوز أن يكون بمعنى يُخْلِها، فيكون «قَاعَاً» حالاً، وأن يكون بمعنى يترك التصييرية فيتعدى لاثنين ف «قَاعاً» ثانيهما.

وفي القاع أقوال: فقيل: هو مقتنع الماء ولا يليق معناه هنا.

وقيل: إنه المنكشف من الأرض قاله مكي.

وقيل: إنه المكان المستوي، ومنه قوله ضرار بن الخطاب:

3690 -

لَتَكُونَنَّ بَالبِطَاحِ قُرَيْشٌ

بُقْعَة القَاعِ فِي أَكُفِّ الإمَاءِ

وقيل: إنه الأرض التي لا نبات فيها ولا بناء.

والصَّفْصَفُ: الأرض الملساء، وقيل: المستوية، فهما قريبان من المترادف وجمع القاع أقْوُعٌ وأقْوَاعٌ وقِيعَانٌ.

قوله: {لَاّ ترى فِيهَا عِوَجاً} يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً من الجبال، ويجوز أن تكون صفة للحال المتقدمة وهي «قَاعاً» على أحد التأويلين، أو صفة للمفعول الثاني على التأويل الآخر.

وتقدم الكلام على العِوَج. وقال الزمخشري هنا: فإن قلت: قد فرَّقوا بين

ص: 389

العَوَج والعِوَج، قالوا: العوج بالكسر في المعاني، وبالفتح في الأعيان، والأرض عَيْن، فكيف صح فيها كسر العين. قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون وذلك أنه لو عَمَدت إلى قطعةِ أرض فسويتها وبالغت في التسوية على عينيك وعيون البصراء، واتفقتم على أنَّه لم يبقى فيها اعوجاج قط، ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي، فنفى الله تعالى ذلك العوج الذي دقَّ وَلطُفَ عن الإدراك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير الهندسي، وذلك الاعوجاجُ لمَّا لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس أُلحق بالمعاني، فقيل فيه عِوَجٌ بالكسر.

والأَمْتُ النتوُّ اليسير يقال: مَدَّ حَبْلَهُ حتى ما فيه أمْتٌ. وقيل: الأمت التل، وهو قريب من الأول.

وقيل: الشُّقُوقُ في الأرض. وقيل: الإكام.

وقال الحسن: العوَج ما انخفض من الأرض، والأمْتُ ما نشز من الرَّوابي. والمقصود من وصف الأرض بهذه الأوصَاف أنها تكون في ذلك اليوم ملساءَ خالية عن الارتفاع والانخفاض وأنواع الانحراف والاعوجاج. قوله:«يَوْمَئِذٍ» منصوب ب «يَتَّبِعُونَ» وقيل: بدل من «يَوْمَ القِيَامَةِ» قاله الزمخشري. وفيه نظر، للفصل الكثير وأيضاً يبقى «يَتَّبِعُونَ» غير مرتبط بما قبله، وبه يفوت المعنى والتقدير: يوم إذا نُسِفَت الجِبَالُ.

ص: 390

فصل

«الدَّاعِي» إسرافيل، والدُّعَاءُ هو النفخ في الصور، أي يتبعون صوتَ الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة. وقوله:«لَا عِوَجَ لَهُ» أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكُلُّ. وقيل: لا عوج لدعائه، وهو من المقلوب، أي لا عوج لهم من دعاء الدَّاعِي لا يعوجونَ عنه يميناً ولا شَمالاً.

وقيل: إنه مَلَكٌ قائِمٌ على صخرة بيت المقدس ينادي ويقول: أيَّتُهَا العِظَام النخرة، والأوصال المتفرقة، واللحوم المتمزقة قُومي إلى عَرْض الرَّحمن.

قوله: {وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن} أي: سَكَنَتْ وذلَّت وخضَعَتْ. وصف الأصوات بالخشوع والمرادُ أهلُهَا.

قوله: {فَلَا تَسْمَعُ إِلَاّ هَمْساً} الاستثناء مفعول به، وهو استثناء مفرغ. والهَمْسُ: الصوت الخفي، قيل: هو تَحْرِيكُ الشفتيْن دون النطق قال الزمخشري: وهو الذكر، الخفي، ومنه الحروف المهموسَة.

وقال ابن عباس والحسن وعكرمة: الهَمْسُ: وَطْءُ الأقدام أي: لا تسمع إلا خَفْقَ الأرض بأقدامهم، ومنه هَمَست الإبل (إذا سمع ذلك من وقع) أخافها على الأرض، قال:

3691 -

وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا

ص: 391

قوله: «يَوْمَئِذٍ» بدلٌ مما تقدم، أو منصوبٌ بما بعده «لَا» عند من يجيز ذلك والتقدير: يومَ إذ يَتَّبِعُونَ لا تنفَعُ الشَّفَاعَةُ.

قوله: {إِلَاّ مَنْ أَذِنَ} فيه أوجه:

أحدها: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له «تَنْفَعُ» و «مَنْ» حينئذ واقعة على المَشْفُوعِ له.

الثاني: أنَّه في محل رفع بدلاً من «الشَّفاعة» ، ولا بدَّ من حذف مضاف تقديره: إلا شَفَعَةُ مَنْ أذِنَ لَه.

الثالث: أنه منصوب على الاستثناء من «الشفاعة» بتقدير المضاف المحذوف وهو استثناء متصل على هذا، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً إذا لم نقدر شيئاً وحينئذ يجوز أن يكون منصوباً وهي لغة الحجاز، أو مرفوعاً وهي لغة تميم، وكل هذه الأوجه واضحة.

(و «لَهُ» ) في الموضعين للتعليل كقوله: {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} [مريم: 73] أي لأجله ولأجلهم.

ص: 392

فصل

المعنى: {لَاّ تَنفَعُ الشفاعة} أحداً من الناس {إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} أي: إلا من أذن له الله أن يشفع له {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} أي رضي قوله.

قال ابن عباس: يعني قَالَ: لَا إلَهَ إلَاّ الله. وهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمنين. وقالت المعتزلة: الفاسق غير مرضيٍّ عند الله، فوجب أن لا يشفع الرسول في حقه. وهذه الآية من أقوى الدلائل على ثبوت الشفاعة في حق الفساق، (لأن قوله:{وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} يكفي صدقه أن يكون الله تعالى قد رَضِيَ له قولاً واحداً من أقواله) ، والفاسق قد ارتضى الله من قوله شهادة أنْ لَا إلهَ إلَاّ الله. فوجب أن تكون الشفاعة نافعة له، لأن الاستثناء من النفي إثبات فإن قيل: إنَّه تعالى استثنى من ذلك النفي بشرطين: أحدهما حصول الإذن. والثاني: أن يكون رَضِيَ له قولاً. فهب أنَّ الفاسق قد حصل فيه أحد الشرطين، وهو أنه تعالى رضِيَ له قولاً، فلم قلتم: إنه أذن فيه؟

فالجواب أنَّ هذا القيد كافٍ في حصول الاستثناء لقوله تعالى: {لَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] فاكتفى هناك بهذا القيد. ودلَّت هذه الآية على أنه لا بد من الإذن، فظهر من مجموعهما أنه إذا رضي له قولاً يحصل الإذن في الشفاعة، وإذا حصل القيدان حصل الاستثناء وتم المقصود.

قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الضمير في قوله: «بَيْنَ أيْدِيهِمْ» عائد إلى الذين يتبعون الداعي.

ومن قال: إن قوله: {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} المراد به الشافع (قال: الضمير عائد إليه)، والمعنى: لا تَنْفع شفاعة الملائِكة والأنبياء إلا لِمَن أذِنَ له الرحمن في أن

ص: 393

يشفع من الملائكة. ثم قال {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يعني ما بين أيدي الملائكة كقوله في آية الكرسي، قاله الكلبي ومقاتل.

وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفَعُوا له. قال مقاتل: يعلم ما كان قبل أن يخلق الملائكة، وما كان بعد خلقهم. ومن قال: الضمير عائد إلى الذين يتبعون الداعي قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي ما قدموا «وَمَا خَلْفَهُمْ» من أمر الدنيا قاله الكلبي. وقال مجاهد: «مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ» من أمر الدنيا والأعمال «وَمَا خَلْفَهُمْ» من أمر الآخرة. وقال الضحاك: يعلم ما مضى وما بقي ومتى تكون القيامة. {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} قيل: الكناية راجعة إلى «مَا» أي: هو يعلمُ ما بيْنَ أيديهم وما خلفهم، (ولا يعلمونه أي العباد لا يعلمون بما بين أيديهم وما خلفهم) .

وقيل: الكناية راجعة إلى الله، أي عباده لا يحيطُون به علماً.

قوله: وَعَنَتِ الوُجُوهُ «يقال: عَنَا يَعْنُو إذا ذلَّ وخضع وأعناه غيره أي: أذلَّهن ومنه العُنَاة جمع عانٍ وهو الأسير، قال:

3692 -

فَيَا رُبَّ مَكْرُوبٍ كَرَرْتُ وَرَاءَهُ

وَعَانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عظَنْهُ فَقَدْ أَبَى

وقال أمية بن أبي الصلت:

3693 -

مَليكٍ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ

لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وَتَسْجُدُ

وفي الحديث «فَإنَّهُنَّ عَوَان» . والمعنى: أنَّ ذلك اليوم تُذَلُّ الوجوه أي:

ص: 394

المكلِّفين أنفسهم، ذكرَ «الوجوه» وأراد أصحاب الوجوه، لأن قوله «وَعَنَتْ» من صفات المكلفين لا من صفات الوجوه كقوله:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية: 8، 9] وخص الوجوه بالذكر، لأن الخضوع بها يبين، وفيها يظهر. وتقدم تفسير «الحَيُّ القَيُّومُ» وروى أبو أمامة الباهليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - أنه قال:«اطلبوا اسمَ الله الأعظم في هذه السُّور الثلاث البَقَرة وآل عمران، وطه» قال الراوي: فوجدنا المشترك في السور الثلاث {الله لَا إله إِلَاّ هُوَ الحي القيوم} [البقرة: 255، آل عمران: 2] .

قوله: «وَقَدْ خَابَ» يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وأن تكون حالاً، ويجوز أن يكون اعتراضاً. قال الزمخشري:«وَقَدْ خَابَ» وما بعده اعتراض كقولك خَابُوا وخَسِرُوا، وكل من ظلم فهو خائِبٌ خَاسِر.

ومراده بالاعتراض هنا أنَّه خصَّ الوجوه بوجوه العصاة حتى تكون الجملة قد دخلت بين العُصَاة وبين {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} فَهذَا عنده قسيم «وَعَنَتْ الوُجُوهُ» فلهذا كان اعتراضاً. وأما ابن عطية فجعل «الوُجُوهُ» عامة، فلذلك جعل {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} معادلاً بقوله {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} إلى آخره.

فصل

قال ابن عباس: «خَابَ» خَسِر من أشْرَكَ بالله. والظُّلمُ: الشِّرك قال الله تعالى {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والمراد بالخيبة: الحِرمان، أي: حُرِم الثواب مَنْ حَمَل ظُلْماً، أي ظلم ولم يتب. ثم قال:{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ) أي: ومَنْ يَعمل شيئاً مِنَ الصَّالِحَاتِ، والمراد به الفرائض وكان عمله مقروناً

ص: 395

بالإيمان، نظيره قوله:{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات} [طه: 75] . قوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» جملة حالية.

«فَلَا يَخَافُ» قرأ بن كثير (بجزمه) على النهي، والمعنى: أَمِنَ، والنهي عن الخوف أمر بالأمن.

والباقون: برفعه على النفي والاستئناف، أي: فهو لا يخاف.

والهضم: النقصُ تقول العرب: هَضَمَتْ لزيدٍ مِنْ حَقِّي أي: نقصتُ منه، ومنه: هَضِيمُ الكَشْحَيْن أي: ضامُرُها، ومن ذلك أيضاً، «طَلْعُهَا هَضِيمٌ» أي: دقيق متراكب كأنَّ بعضه يظلم بعضاً فينتقصه حقه.

ورَجلٌ هضيمٌ أي مظلوم.

وهضمته واهتضمته وتَهَّضمتُه عليه بمعنى، قال المتوكل الليثي:

3694 -

إنَّ الأذلَّةَ واللِّئَامَ لمِعْشَرٍ

مَوْلَاهُم المُتَهَضَّم المَظْلُومُ

قيل: والظلم والهضم متقاربتان وفرَّق القاضي الماوردي بينهما فقال: الظلم من جميع الحق، والهضم منع بعضه. والظلمُ هنا هو أن يعاقب لا على جريمةٍ

ص: 396

أو يمنع من الثواب على الطاعة. والهضم هو أن ينقص من ثوابه.

وقال أبو مسلم: الظلم أن ينقص من الثواب، والهضم أن لا يوفي حقه.

ص: 397

قوله: «وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ» نسق على «كَذَلِكَ نَقُصُّ» قال الزمخشري «ومثل ذلك الإنزال وكما أَنْزَلْنَا عليك هؤلاء الآيات أنزلنا القرآن كلَّه على هذه الوتيرة.

وقال غيره: والمَعْنَى كما قدَّرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذَّرْنَا هؤلاء أمرها، {أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} لتفهمه العرب فيقفوا على إعجازه ونظمه، وخروفه عن الكلام البشري.

{وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد} أي: كرَّرْنَاهُ وفصَّلْنَاهُ.

قوله:» مِنَ الوَعِيدِ «صفة لمَفْعُولٍ محذوف، أي: صرَّفنا في القرآن وعيداً من الوعيد، والمراد به الجنس.

ويجوز أن تكون» مِنَ «مزيدة على رأي الأخفش في المفعول به، والتقدير: وصرَّفنا فيه الوعيد» لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون «أي يجتنبون الشرك. {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} أي: يجدد لهم القرآن عبرة وعظة.

وقرأ الحسن:» أَوْ يُحْدِثْ «كالجماعة إلا أنه سكَّن لام الفعل وعبد الله والحسن أيضاً في رواية ومجاهد وأبو حيوة» نُحْدِثْ «بالنون، وتسكين اللام أيضاً.

(وخُرِّجَ علَى) إجراء الوصل مجرى الوقف، أو على تسكين الفعل استثقالاً للحركة، كقول امرئ القيس:

ص: 397

3695 -

فَاليَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ

وقول جرير:

3696 -

أَوْ نَهْرُ تِيرَى فَلَا تَعْرِفُكُمُ العَربُ

وقد فعله كما تقدم أبو عمر في الراء خاصة نحو» يَنْصُرُكُم «.

وقرئ:» تُحدث «بتاء (الخطاب) أي: تُحدث أنتَ.

(قوله:» أَوْ يُحْدِثُ «) فيه سؤالات:

الأول: كيف يكون محدثاً للذكر؟ والجواب: لمّا حصل الذكر عند قراءته أضيفَ إليه.

الثاني: لِمَ أضيفَ الذكر إلى القرآن، وما أضيفت التقوى إليه؟

والجواب: أنَّ التقوى عبارة عن أن لا يفعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي، فلم يجز إسناده إلى القرآن، وأمَّا حدوث الذكر فأمر حدث بعد أن لم يكن، فجازت إضافته إلى القرآن.

الثالث: كلمة» أو «للمنافاة بين التقوى وحدوث الذكر، ولا يصح الاتقاء إلا مع الذكر، فما معناه؟

والجواب: هذا كقول» جَالِس الحسن أو ابنَ سِيرين، أي:(لا تكن خالياً منهما) ، فكذا ههنا.

ص: 398

وقيل: معنى الكلام أنا أنزلنا القرآن ليتَّقوا، فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث القرآن لهم ذكراً وشرفاً وصيتاً حسناً، وعلى التقديرين يكون إنزاله تقوى.

قوله تعالى: {فتعالى الله الملك الحق} لما عظم أمر القرآن أردفه بأن عظم نفسه وذلك تنبيه على أنَّه يجب على خلقه تعظيمه، وإنما وصف مُلكَه بالحَقِّ، لأن ملكه لا يزول ولا يتغير، وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به، ولهذا وصف بذلك. و «تَعَالَى» تفاعل من العُلُوّ، وقد ثبت أن علوه وعظمته لا تكيّفه الأوهام ولا تقدره العقول.

ثم قال: {وَلَا تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} .

قال أبو مسلم: إن من قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] إلى هنا يتم الكلام وينقطع، ثم قوله:{وَلَا تَعْجَلْ بالقرآن} (خطاب مستأنف كأنه قال: {وَيَسْأَلُونَكَ

وَلَا تَعْجَلْ بالقرآن} [طه: 105 - 114]

وقال غيره: إن النبي صلى الله عليه وسلم َ - كان إذا أنزل عليه جبريل عليه السلام بالقرآن يبادر فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل من التلاوة مخافة الانفلات والنسيان فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يسكت حال قراءة المَلَك، يقرأ بعد فراغه من (القراءة) . فكأنه تعالى ما شرح نفع القرآن للمكلفين، وتبين أنه سبحانه متعال عن كل ما لا ينبغي، ومن كان كذلك يجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان (في أمر الوحي، فإذا حصل الأمان عن السهو والنسيان) فلا تعجل بالقرآن فقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بالقرآن} يحتمل أن يكون المراد لا تعجل بقراءته في نفسك. لما روى عطاء عن ابن عباس: أن يكون أخذُك القرآن على تثبيت وسكون. ويحتمل لا تعجل في تأديته إلى غيرك، قال مجاهد وقتادة: لا تقرأ به أصحابك ولا تُمْله عليهم حتى يتبين لك معانيه. ويحتمل في اعتقاد ظاهرهن ويحتمل في تعريفه الغير ما يقتضيه ظاهرهن أي: حتى يتبين لك بالوحي

ص: 399

تمامه أبو بيانه أو هما جميعاً، لأنه يجب التوقف في معنى الكلام إلى أن يفرغ لجواز أن يحصل عقبيه استثناء أو شرط، أو غيرهما من المخصصات.

فإن قيل: الاستعجال لذي نُهِي عنه إن كان فعلُه فكيف نهي عنه؟

فالجواب لعله فعل باجتهاد، وكان الأولى تركه فلهذا نهِي عنه.

قوله: {قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} العامة على بناء «يُقْضَى» للمفعول ورفع «وَحْيُه» لقيامه مقام الفاعل.

والجحدري وأبو حيوة والحسن، وهي قراءة عبد الله «تَقْضِي» بنون العظمة مبنيًّا للفاعل، «وَحْيَه» مفعول به.

وقرا الأعمش كذلك إلَاّ أنَّه سكن (لام الفعل) ، استثقل الحركة وإن كانت خفيفة على حرف العلة، وقد تقدم شواهد عند قراءة {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ} .

قوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} أي: بالقرآن ومعانيه، وقيل:«عِلماً» أي ما علمت. وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه قال: اللهم زدْنِي إيماناً ويقيناً.

ص: 400

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} الآية. في تعليق هذه الآية بما قبلها وجوه:

ص: 400

الأول: أنه تعالى لما قال {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} [طه: 99] ثم إنه عظَّم أمر القرآن ذكر القصة إنجازاً للوعد في قوله: {كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} [طه: 99] .

الثاني: أنه لما قال: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113] أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنَّه قال: إنَّ طاعة بني آدم للشياطين، وتركهم التحفظ من الوساوِسِ أمر قديم، فإنَّا عهدنا إلى آدم من قبل، أي: من قبل هؤلاء الذين صرَّفنا لهم الوعيد، (وبالغنا في تنبيهه)، فقلنا له:{إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} ، ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد، فأمر البشر في ترك التحفظ أمر قديم.

الثالث: أنه لمَّا قال لِمُحمَّد {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ذكر بعده قصة آدم، فإنه عهد إليه وبالغ في تحذيره من العود، فدل ذلك على ضعف البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوقفه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان.

الرابع: أن محمداً عليه السلام لما قيل له: «وَلَا تَعْجَلْ» دل على أنه كان في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط، وصف آدم بالتفريط في ذلك، فإنه تساهَلَ ولم يتحفظ حتى نسي، فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط، ليعلمه أن البشر لا ينفك عن نوع زلة.

الخامس أن محمداً لما قيل به: «وَلَا تَعْجَلْ» ضاق قلبه، وقال في نفسه: لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي، وإلا لما نهيت عنه، فقيل له: يا محمد إن كنت فعلتَ ما نُهِيتَ عنه فإنما فعلته حرصاً منك على العبادة، وحفظاً لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي لتساهله، وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره. والمراد بالعهد هنا أمر الله، أي: أمرنا وأوصينا إليه أن لا يأكل من الشجرة من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن فتركوا الإيمان.

وقال ابن عباس: من قبل أن يأكل من الشجرة عَهِدْنَا إليه أن لا يأكل

ص: 401

منها. وقال الحسن: من قل محمد والقرآن.

قوله: «فَنَسِيَ» قرأ اليماني بضم النون وتشديد السين بمعنى نَسَّاه الشيطان. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يقال: أقدم على المعصية من غير تأويل، وأن يقال: أقدم عليها مع التأويل.

وعلى القراءة المشهورة يحتمل أن يكون المراد بالنسيان نقيض الذكر، وإنما عوقب على ترك التحفظ، والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان، ويحتمل أن يكون المراد بالنسيان الترك، وأنه ترك ما عهد إليه من ترك أكل ثمرتها.

قوله: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}

يجوز أن تكون (وجد) علمية، فتتعدى لاثنين، وهما «لَهُ عَزْمًا» .

وأن تكون بمعنى الإصابة فتتعدى لواحد، وهو «عَزْمًا» (و «لَهُ» ) متعلق بالوجدان، أو بمحذوف على أنه حال من «عَزْمًا» إذ هم في الأصل صفة له قدمت عليه.

والعازم: هو المصمم، فقوله:{وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} يحتمل: ولم نجد له عزماً على ترك المعصية، أو على التحفظ والاحتراز عن الغفلة، أو على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا: إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد.

وقال الحسن: ولم نجدْ له صبراً عما نُهي عنه.

وقال عطية: حفظاً لما أمر به. وقال ابن قتيبة: رأياً معزوماً.

حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد لهز والعزم في اللغة: هو توطين النفس على الفعل.

قال أبو أمامة الباهليّ: لو وُزِنَ حلمُ آدم بحلم ولده لرجح عليه وقد قال الله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} . فإن قيل: أتقولون إن آدم كان ناسياً لأمر الله حين أكل من الشجرة. قيل: يجوز أن يكون نَسِي أمره، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت

ص: 402

مرفوعاً عن الإنسان بل كان مؤاخذاً به، وإنما رفع عنا.

وقيل: نَسِيَ عقوبة الله، وظن أنَّه نَهي تنزيه. قوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لآدَمَ} تقدَّم الكلام على ذلك مفصَّلاً في سورة البقرة.

وقوله: «أَبَى» جملة مستأنفة، لأنها جواب سؤال مقدر، أي: ما منعه من السجود؟ فأجيب بأنه أبَى واستكبر.

ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً، وقد صرَّح به في الآية الأخرى في قوله:{أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 31] وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة. ويجوز أن لا يراد ألبتة، وأن المعنى: أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو.

قوله: {فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} وسبب تلك العداوة من وجوه:

الأول: أن إبليس كان حسوداً، فلمَّا رأة آثار نِعَم الله تعالى في حق آدم حسده فصار عدواً له. الثاني: أن آدم عليه السلام كان شاباً عالماً لقوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وإبليس كان شيخاً جاهلاً، لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل والشيخ أبداً يكون عدواً للشَّاب العالم.

الثالث: أن إبليس مخلوق من النار وآدم من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فبقيت تلك العداوة.

ص: 403

فإن قيل: لم قال: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} مع أن المخرج لهم من الجنة هو الله تعالى؟

فالجواب لما كان بوسوسته هوة الذي فعل ما ترتب عليه الخروج صح ذلك. قوله: «فَتَشْقَى» منصوب بإضمار (أنْ) في جواب النهي، والنهي في الصورة لإبليس والمراد به هما، أي لا تَتَعَاطَيَا أسباب الخروج (فيحصل لكما الشقاء) ، وهو الكد والتعب الدنيوي خاصة.

ويجوز أن يكون مرفوعاً على الاستئناف، أيك فأنت تشقى، كذا قدره أبو حيان.

وهو بعيد أو ممتنع، إذ ليس المقصود الإخبار بأنه يشقى بل إن وقع الإخراج لهما من إبليس حصل ما ذكر. وأسند الشقاء إليه دونها، لأن الأمور معدوقة برؤوس الرجال، وحسن ذلك كونه رأس فاصلة، ولأنَّه إن أريد بالشقاء التعب في طلب القوت فذلك على الرجل دون المرأة.

قوله: {إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ} خبر «إنَّ» ، و «ألَاّ تَجُوعَ» في محل نصب اسماً لها، (والتقدير: إنَّ لَكَ عدم الجوع والعُرْي) و «تَعْرَى» منصوب تقديراً نسقاً على «تَجُوع» (والعُرْيُ تجرد الجلد عن شيء يقيه، يقال منه: عَرِيَ يَعْرَى عَرْياً) قل الشاعر:

3697 -

فَإنْ يَعْرَيْنَ إنْ كُسِيَ الجَوَارِي

فتَنْبُو العينُ عَنْ كَرَم عِجَافِ

«وأنَّكَ لَا تَظْمَأ» قرأ نافع وأبو بكر «وإنَّك بكسر الهمزة. والباقون بفتحها.

ص: 404

فمن كسر يجوز أن يكون ذلك استئنافاً، وأن يكون نسقاُ على» إنَّ «الأولى. ومن فتح فلأنه عطف مصدراً مؤولاً على اسم» إنَّ «الأولى، والخبر» لَكَ «المتقدم. والتقدير: إنَّ لَكَ عدم الجوع، وعدم العري، وعدم الظمأ والضحى. وجاز أن يكون» أنَّ «بالفتح اسماً ل» إنَّ «بالكسر للفصل بينهما، ولولا ذلك لم يجز. لو قلت: إنَّ أنَّ زيداَ حق لم يجز، فلما وصل بينهما جاز.

وتقول: إنَّ عندِي أنَّ زيداً قائمٌ، فعندي هو الخبر على الاسم وهو أنَّ وَمَا في تأويلها لكونه ظرفاً، والآية من هذا القبيل إذ التقدير: فإن لك أنَّك لا تَظْمَأ وقال الزمخشري: فإن قلت:» إنَّ «لا تدخل على» أنَّ «، فلا يقال: إنَّ أنَّ زيداً منطلقٌ، والواو نائبة عن» إنَّ «وقائمة مقامها، فلم دخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبداً نائبة عن» إنَّ «إنما هي نائبة عن كل عاما، فلمَّا لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة كإن لم يمتنع اجتماعهما كما اجتمع» إنَّ «و» أنَّ «وضَحِيَ يَضْحَى أي: برز للشمس، قال عمر بن أبي ربيعة:

3698 -

رَأَتْ رَجُلاً أمَّا إذَا الشَّمْسَ عَارَضَتْ

فَيَضْحَى وَأَمَّا بالعَشِيَّ فَيَخْصَرُ

ص: 405

وذكر الزمخشري هنا معنى حسَناً في كونه تعالى ذكر هذه الأشياء بلفظ النفي دون أن يذكر أضدادها بلفظ الإثبات، فيقول: إنَّ لَكَ الشبع والكسوة والري والاكتنان في الظل، فقال: وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعُرِي، والظمأ، والصّحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها.

ص: 406

قوله: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ» أي: أنهى إليه الوسوسة، وأمَّا وَسوَسَ له فمعناه: لأجله قال الزمخشري: فإن قلت: كيف عدّى وَسْوَسَ باللام في قوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} [الأعراف: 20] وأخرى بإلى؟ قلت: وَسْوَسَةُ الشيطان كَوَلْوَلَةِ الثكلى ووَقْوَقَة الدجاجة في أنها حكايات الأصوات، فحكمُها حكمُ صوت أو جرس، ومنه: وسوسة المُبْرسَم وهو مُوَسْوس بالكسر، والفتح لحسن، وأنشد ابن الأعرابي:

3699 -

وَسْوَسَ يدعُو مُخْلصاً رَبَّ الفَلَقْ

فإذا قلت: وسوس له فمعناه لأجله كقوله:

3700 -

أجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أبِي كِبَاشِ

ص: 406

ومعنى وسوس إليه أنهى الوسوسة كقوله: حدث إليه.

وقال أبو البقاء: عُدّي «وَسْوَسَ» ب «إلى» لأنه بمعنى أسرَّ، وعداه في موضع آخر باللام، لكونه بمعنى ذَكَرَ له، أو تكون بمعنى لأجله.

قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} يعني على شجرة إن أكلتَ منها بَقيتَ مخلداً، {وَمُلْكٍ لَاّ يبلى} أي مَنْ أكل هذه الشجرة دام ملكه. قال ابن الخطيب: واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغَّبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله:{فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى إِنَّ لَكَ أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تعرى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تضحى} [طه: 117 - 119] ورغَّبه إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} وفي انتظام المعيشة بقوله: {وَمُلْكٍ لَاّ يبلى} فكان الشيء الذي رغَّب (الله تعالى آدم) فيه هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقعه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه (بان الله تعالى مولاه وناصره ومريبه، وأعلمه) بأن عدوه حيث امتنع من السجود له، وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته، كيف قبل في الواقعة الواحدة والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه هو الناصر والمولى. ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أنّ هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدره.

ص: 407

روى البخاريُّ ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال: «احتجَّ آدمُ وموسى عند ربهما، فحَجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكتك وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق، قال موسى: بأربعين عاماً، قال آدم: فهل وجدت فيها {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} ؟ قال نعم، قال أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فحَجَّ آدمُ مُوسَى» .

وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «كَتَبَ الله مَقَادِير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال وعَرْشُهُ على الماء» وقال: «كل شيء خلقه بقدر حتى العَجْز والكَيْسُ» قوله: «فَأكَلَا مِنْهَا» يعني آدم وحواء. {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} .

قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما. وإنما جمع «سَوْآتِهِمَا» كما قال «» صَغَتْ قُلُوبُكُمَا «.

{وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} قال الزمخشري: طَفِقَ بفعل كذا مثل

ص: 408

جعل يفعَلُ وأخَذَ وأنْشَأ، وحكمها حكم كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً وبينها وبينه مسافة قصيرة. وقرئ» يُخَصِّفان «للتكثير والتكرير من خصف النعل، وهو أن يخرز عليها الخصاف، أي: يلزقان الورق بسوآتهما للتستر، وهو ورق التين. قوله: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ} بأكل الشجرة» فَغَوى «أي» فعل (ما لم يكن له فعله) . وقيل: أخطأ طريق الجنة وضلَّ حيث طلب الخلد بأكل ما نهي عن أكله فخاف ولم ينل مراده.

وقال ابن الأعرابي: أي: فسد عليه عيشه وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب. قال ابن قتيبة: يجوز أن يقال: عَصَى آدمُ، ولا يجوز أن يقال: آدم عاصٍ ولا يقال: هو خياط (حتى يعاوده ويعتاده) .

قوله: «فَغَوَى» الجمهور على فتح الواو بعدها ألف وتقدم تفسيرها.

وقيل: معناه بشم من قولهم: غوي البعير بكسر الواو والياء إذا أصابه ذلك. وحكى أبو البقاء هذه قراءة وفسروها بهذا المعنى.

ص: 409

قال الزمخشري: زعم بعضهم «فَغَوى» فَبَشَم من كثرة الأكل، وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفاً، فيقول في فَنِيَ، وبَقِيَ: فَنَا وَبَقَا، وهم بنو طيئ تفسير خبيث.

قال شهاب الدين: كأنه لم يطلع على أنه قرئ بكسر الواو، ولو اطلع عليها لردها، وقد فرَّ القائل بهذه المقالة من نسبة آدم عليه السلام إلى الغي.

فصل

تمسك بعضهم بقوله: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} في صدور الكبيرة عنه من وجهين:

أحدهما: أن العاصي اسم للذمِّ فلا يطلق إلا على صاحب الكبيرة، ولقوله تعالى:{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ} [الجن: 23] ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فَعَل فِعْلاً يُعَاقَبُ عليه.

الثاني: أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه.

وأجيب عن الأول: بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وبالندب، فإنك تقول: أمرته فعَصَاني، وأمرته بشرب الدواء فَعَصَاني وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه تاركاً للمندوب فأجاب المستدل بأنا قد بيّنّا أن ظاهر القرآن يدل على أنَّ العاصي يستحق العقاب، والعرف يدل على أنه اسم ذم، فوجب تخصيص اسم العاصي بتارك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصياً لوجب وصف الأنبياء بأسرهم بأنهم عصاة، لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب.

فإن قيل: وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز والمجاز لا يطرد.

ص: 410

قلنا: لما سلمت كونه مجازاً فالأصل عدمه، وأما قوله: يقال أمرته بشرب الدواء فَعَصَاني، قلنا: لا نُسَلِّم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب، ولئن سلَّمنا ذلك لكنهم إنما يطلقون ذلك إذا أجزموا عليه بالفعل. وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلاً، وإن لم يكن الوجوب حاصلاً، وذلك يدل على أنَّ لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب، فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على آدم عليه السلام إنما كان لكونه تاركاً للواجب ومن الناس من سلَّم أن الآية تدل على صدور المعصية منه، لكنه زعم أن المعصية كانت من الصغائر لا من الكبائر، وهذا قول عامة المعتزلة. وهذا أيضاً ضعيف، لأنا بينا أن اسم العاصي اسم للذم، وأن ظاهره يدل على أنه يستحق العقاب، وذلك لا يليق بالصغيرة، وأجاب أبو مسلم: بأنه عَصَى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في «غَوَى» .

وهذا أيضاً بعيد، لأن مصالح الدنيا مباحة، من تركها لا يوصف بالعصيان الذي هو اسم ذم، ولا يقال:{فَدَلَاّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] .

وأما التمسك بقوله: «فَغَوَى» فأجابوا عنه من وجوه:

أحدها: أنه خابَ من نعيم الجنة، لأنه إنما أكل من الشجرة ليدومَ مُلْكه، فلما أكل زال، فلما خاب سَعْيه قيل: إنَّه غَوَى.

وتحقيقه أن الغَيَّ ضدُّ الرشد، والرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود، ومن توصل بشيء إلى شيء فحصل ضد مقصوده كان ذلك غياً.

وثانيها: قال بعضهم غَوَى أي: بَشَم من كثرة الأكل.

قال ابن الخطيب: والأولى عندي في هذا الباب أن يقال: هذه الواقعة كانت قبل النبوة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة. وهاهنا بحث لا بد منه، وهو أن ظاهر القرآن وإن دلَّ على أن آدم عصى وغوى، ولكن ليس لأحد أن يقول: إن آدم كان عاصياً غاوياً. ويدل على صحة هذا القول أمور:

ص: 411

أحدها: قال العُتبي: يقال للرجل يخيط ثوبه خاط ثوبه، ولا يقال: هو خياط حتى يعاوده ويعتاده، ويصير معروفاً بالخياطة.

وهذه الزلة لم تصدر عن آدم أن تكون هذه الواقعة إنما وقعت قبل النبوة، لم يجز بعد أن قبل الله توبته وشرَّفه بالرسالة والنبوة إطلاق هذا الاسم عليه كما لا يقال لمن أسلم بعد الكفر أو شرب أو زنا ثم تاب وحسنت توبته لا يقال له بعد ذلك كافر أو شارب أو زانٍ فكذا هنا.

وثالثها: أن قولنا: عاصٍ وغاوٍ يُوهِمُ كونه عاصياً في أكثر الأشياء، (وغاوياً عن معرفة الله تعالى) ولم ترد هاتان اللفظتان في القرأن مطلقتين بل مقرونتين بالقصة التي عَصَى فيها، فكأنه قال: عصى في كيت وكيت، وذلك لا يوهم ما ذكرنا.

ورابعها: أنه يجوز من الله ما لا يجوز من غيره، كما يجوز للسيد من ولده وعبده عند معصيته من إطلاق القول ما لا يجوز لغيره.

قوله: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} أي: اختاره واصطفاه، «فَتَابَ عَلَيْه» بالعفو وهداه إلى التوبة حين قال:{رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] .

قال عليه السلام: لو جُمِع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاؤه أكثر ولو جمع ذلك إلى نوح لكان بكاؤه أكثر، وإنما سمي نوحاً لنوحه على نفسه. ولو جمع ذلك كله إلى بكاء آدم على خطيئته كان بكاؤه أكثر.

قال وهب: لمّا كثر بكاؤه أمره الله تعالى أن يقول: «لَا إلَه إلَاّ أنْتَ سُبْحَانَكَ وبحمدِك عَملتُ سوءاً وظَلَمْتُ نفسي فاغفر لي فإنَّكَ خَيْرُ الغَافِرِينَ» فقالها آدم، ثم قال: قل «سُبْحَانَكَ لَا إلَهَ إلَاّ أنْتَ عِمِلْتُ سوءاً وظلَمْتُ نلَفْسِي فتُبْ عليَّ إنَّكَ أنْتَ التَوَّابُ» .

قال ابن عباس: هذه الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.

ص: 412

قوله: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} هنا سؤال وهو أن قوله: «اهْبِطَا» إما أن يكون خطاباً مع شخصين أو أكثر، فإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال بعده:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} وهو خطاب الجمع؟ وإن كان خطاباً مع شخصين فكيف قال: «اهْبِطَا» ؟ وأجاب أبو مسلك: بأن الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس ومعه ذريته، ولكونهما جنسين صح قوله:«اهْبِطَا» ولأجل اشتكال كل من الجنسين على الكثرة صح قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} .

وقال الزمخشري: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصل البشر اللذين منهما تفرعوا أنفسُهُما، فخوطِبَا مخاطبتهم، فقيل:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} على لفظ الجماعة.

ومن قال: بأنَّ أقَلَّ الجمع اثنان، أو بأنه يعبر عن الاثنين بلفظ الجمع، كقوله:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فلا يحتاج إلىلتأويل.

قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} تقدم تفسيره.

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ} وهذا يدل على أن المراد الذرية والمراد بالهدى الرسل، وقيل: الآيات والأدلة، وقيل: القرآن.

«فَلَا يَضِلُّ» في الدُّنيا، «وَلَا يشقى» في الآخرة، لأنه تعالى يهديه إلى الجنة.

ص: 413

وقيل: لا يَضِلُّ ولا يَشْقَى في الدُّنْيَا. فإن قيل: المتبع لهدى الله قَدْ يَشْقَى في الدنيا.

فالجواب: أن المراد لا يضل في الدين، ولا يشقى بسبب الدين، فإن حصل بسبب آخر فلا بأس. ولما وعد الله تعالى من يتبع الهُدَى أتْبَعه بالوعيد لمن أعرض فقال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} والذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتبق الله تعالى على ما تقدم.

قوله: «ضَنْكاً» صفة لمعيشة، وأصله المصدر، فكأنه قال: معيشة ذات ضنك، فلذلك لم يؤنث ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور «ضَنْكاً» بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاًَ وقفاً كسائر المعربات.

وقرأت فرقة «ضنكى» بالف كسكرى. وفي هذه الألف احتمالان:

أحدهما: أنها بدل من التنوين، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف كما تقدم في نظائره، وسياتي منها بقية إن شاء الله تعالى.

والثاني: أن تكون ألف التأنيث، بُنِي المصدر على (فَعَلَى) نحو دَعْوَى. والضنك الضيق والشدة، يقال منه: ضَنُكَ عيشُه يَضْنَكُ ضَنَاكَةً وَضَنْكاً، وامرأة ضنَاكٌ كثير لحم البدن، كأنهم تخيلوا ضيق جلدها به.

فصل

قال جماعة من المفسرين: الكافر بالله يكون حريصاً على الدنيا طالباً للزيادة فعيشه ضَنْكٌ، وأيضاً فمن الظلمة مَنْ ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة بكفره قال تعالى:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} [البقرة: 61] وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ

ص: 414

لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66]، وقال:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] وقال ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهم -: المراد بالعيشة الضنكى عذاب القبر.

وقال الحسن وقتادة والكلبي: هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإن طعامهم الضريع والزقوم، وشرابُهُم الحميم والغِسْلِين، فلا يموتون فيها ولا يَحْيُون. وقال ابن عباس: المعيشة الضنك هو ان يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها. وعن عطاء: المعيشةُ الضَّنك هي معيشة الكافر، لأنه غير موقِنٍ بالثواب والعقاب.

وروي عنه عليه السلام أنَّه قال: عقوبة المعصيةِ ثلاثة ضيقُ النعيشة والعُسْرُ في اللذة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله (تعالى) .

قوله: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى}

قرأ العامة «وَنَحْشُرُهُ» بالنون ورفع الفعل على الاستئناف.

وقرأ أبان بن تغلب في آخرين بتسكين الراء، وهي محتملة لوجهين:

أحدهما: أن يكون الفعل مجزوماً نسقاً على محل جزاء الشرط، وهو الجملة من قوله:«فَإنَّ لَهٌ مَعِيشَةً» فإنَّ محلها الجزم، فهي كقراءة: «مَنْ يُضْلِل اللهُ

ص: 415

فَلَا هَادِي لَهُ وَيَذَرْهُم» بتسكين الراء.

والثاني: أنْ يكون السكون سكون تخفيف (نحو «يَأْمُرْكُم» وبابه) .

وقرأت فرقة بياء الغيبة، وهو الله تعالى أو الملك. وأبان بن تغلب في رواية «وَنَحْشُرُهْ» بسكون الهاء وصلاً، وتخريجها إما على لغة بني عقيل وبني كلاب وإمَّا على إجراء الوصل مجرى الوقف. و «أعْمَى» نصب على الحال.

فصل

قال ابن عباس: أعمى البصر. وقال مجاهد والضحاك ومقاتل: أعمى عن الحجة، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قال القاضي: وهذا ضعيف، لأن في القيامة لا بد أن يُعْلِمهم اله بطلان ما كانوا عليه حتى يتميز لهم الحق من الباطل، ومن هذا حاله لا يوصف بذلك إلا مجازاً،

ص: 416

ولا يليق بهذا قوله: «وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً» ، ولم يكن كذلك في حال الدنيا. ومما يؤيد ذلك أنه تعالى علَّل ذلك العمى بأن المكلف نَسِي الدلائل فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النِّسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر.

قوله: {لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} اعلم أنَّ الله - تعالى - جعل هذا العمى جزاءً على تركه اتباع الهدى.

وقوله: «وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً» جملة حالية من مفعول «حَشَرْتَنِي» . وفتح الياءَ من «حَشَرْتَنِي» قبل الهمزة نافع وابن كثير.

قوله: «كذلك أَتَتْكَ» قال أبو البقاء: «كَذَلِكَ» في موضع نصب أي: حَشَرْنَا مثل ذلك أو فَعَلْنَا مثل ذلك أو إتياناً مثل ذلك أو جزاءً مثل إعراضِك أو نسياناً وهذه الأوجه التي ذكرها تكون الكاف في بعضها نصباً (على المصدر، وفي بعضها نصباً) على المفعول به.

ولم يذكر الزمخشري في غير المفعول به فقال: أي: مثل ذلك فعلتَ أنْتَ، ثم فُسِّر بأنَّ آياتنَا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر، فتركتَها وأعرضتَ عنها. {وكذلك اليوم تنسى} تُتْرَك في النار.

قوله: {وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أي ومثل ذلك الجزاء نجزي «مَنْ أسْرَفَ» أي: أشرك، {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى} مما يعذبهم في الدنيا (والقبر، «وَأبْقَى» وأدْوَمُ) .

ص: 417

قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} في فاعل (يَهْدِ) أوجه:

أحدها: أنه ضمير الباري تعالى، ومعنى (يَهْدِي) يُبَيِن، ومفعول (يَهْدِي)

ص: 417

محذوف تقدره: أفلم يُبَيِّن اللهُ لهم العبرَ وفعله بالأمم المكذبة.

قال أبو البقاء: وفي فاعله وجهان:

أحدهما: ضمير اسم الله تعالى وعلَّق (بَيَّن) هنا، إذا كانت بمعنى أعلم كما علقه في قوله تعالى {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} [إبراهيم: 45] .

قال أبو حيَّان: و «كَمْ» هنا خبرية، والخبرية لا تعلِّق العامل (عنها) .

وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون فيه ضمير الله، أو الرسول، ويدل عليه القرءان بالنون.

الوجه الثاني: أنَّ الفاعل مضمر يفسره ما دلَّ عليه من الكلام بعده، قال الحوفي:«كَمْ أهْلَكْنَا» قد دَلَِّ على هلاك القرون التقدير: أَفَلَمْ نُبَيِّن لَهُمْ هَلَاكَ من أهلكنا من القرون ومَحْونا آثارَهم فيتعِظُوا بذَلِك.

وقال أبو البقاء: الفاعل ما دَلَّ عليه «اهْلَكْنا» أي إهْلَاكنا والجملة مفسرة له.

الوجه الثالث: أنَّ الفاعل نفس الجملة بعده.

قال الزمخشري: فاعل «لَمْ يَهْدِ» الجملة بعد يريد: أَلَمْ يَهْدِ لَهُم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلَامٌ على نُوحٍ فِي العالمين} [الصافات: 78، 79] أي: تركنا عليه هذا الكلام.

قال أبو حيَّان: وكونُ الجملة فاعل «يَهْدِ» هو مذهب كوفيّ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلَامٌ على نُوحٍ فِي العالمين} [الصافات: 78، 79] فإن «تَرَكْنَا» معناه هذا القول فحكيتْ به الجملة، فكأنه قيل: وقُلْنَا عليه، وأطلقنا عليه هذا اللفظ، (والجملة تُحكَى بمعنى القول كما تُحْكَى بالقول) .

ص: 418

الوجه الرابع: أنه ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم َ - لأنه هو المبيّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، وهذا الوجه تقدم نقلُه عن الزمخشري.

الوجه الخامس: أنَّ الفاعلَ محذوف، نقل ابن عطية عن بعضهم: أنَّ الفاعل مقدر تقديره: الهُدَى أو الأمرُ أو النَّظَرُ والاعتبارُ.

قال ابن عطيَّة: وهذا عندي أحسن التقادير.

قال أبو حيان: وهو قول المبرِّد، وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل، وهو لا يجوز عند البصريين، وتحسينه أن يقال: الفاعل مضمرٌ تقديره: يَهْدِ هُوَ أي: الهُدَى قال شهاب الدين: ليسَ في هذا القول أن الفاعل محذوف بل فيه أنه مقدر، ولفظ مقدَّر كثيراً ما يستعمل في المضمر. وأما مفعول «يَهْدِ» ففيه وجهان:

أحدهما: أنه محذوف.

والثاني: أن يكون الجملة من «كَمْ» وما في خبرها، لأنها معلقة له، فهي سادة مسد مفعوله.

ص: 419

الوجه السادس: أن الفاعل «كَمْ» - قاله الحوفي، وأنكره على قائله لأن «كَمْ» استفهام لا يعمل فيها ما قبلها.

قال أبو حيَّان: وليست «كَمْ» هنا استفهامية بل هي خبرية.

واختار أن يكونَ الفاعل ضمير الله تعالى، فقال: وأحسَنُ التخاريج أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى، كأنَّه قال أَفَلَمْ يبيَّن الله، ومفعول يبين محذوف، أي العبرَ بإهلاك القرون السابقة، ثم قال:«كَمْ اهْلَكْنَا» أي: كثيراً أهلكنَا، ف «كَمْ» مفعولة ب «أهْلَكْنَا» والجملة كأنها للمفعول المحذوف ل «يَهْدِ» .

قال القفَّال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبيِّناً لهم كما جعل مثل ذلك واعظاً لهم وزاجراً. وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن السلمي «أَفَلَمْ نَهْدِ» بالنون المؤذنة بالتعظيم. قال الزجاج: يعني أفَلَمْ نبيَِّن لهم بياناً يهتدون به لو تدبروا وتفكروا.

وقوله: «كَمْ أَهْلَكْنَا» فالمراد به المبالغة في كثرة مَنْ أهلكه الله تعالى من القرون الماضية. قوله: «مِنَ القُرونِ» في مجحل نصب (نعت ل «كَمْ» ) لأنَّها نكرة ويضعف جعلُه حالاً من النكرة، ولا يجوز أن يكون تمييزاً على قواعد البصريين

ص: 420

و «مِن» داخلة عليه على حد دخولها على غيره من التمييزات لتعريفه.

قوله: «يَمْشُونَ» حال من «القُرونِ» ، أو من مفعول «أَهْلَكْنَا» والضمير على هذين عائد على القرون المهلكة، ومعناه: إنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ وَهُمْ في حال أمنٍ وَمَشْيٍ وتقلُّب في حاجاتهم كقوله: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «لَهُمْ» ، والضمير في «يَمْشُونَ» على هذا عائد على مَنْ عادَ عليه الضمير في «لَهُمْ» وهم المشركون المعاصرون لرسول الله - صلى الله عيله وسلم - والعامل فيها «يَهْدِ» . والمعنى: إنَّكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفة وتتصرفون في بلادهم فينبغي أن تعتبروا لئلا يحلّ بكُم ما حلَّ بهم.

وقرأ ابن السميفع «يُمَشَّوْنَ» مبنيًّا للمفعول مضعفاً، لأنه لما تعدَّى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول.

فصل

المعنى: أَو لَمْ نبيِّن القرآن أو مَا تقدم من المقادير لكفَّار مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ديارهم إذا سافَرُوا. والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام، فيروْنَ ديار المهلكين من أصحاب الحِجْر، وثَمُود، وقرى لوط {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} لذوي العقول. ثم بيَّن تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلاً على من كفر بمحمد عليه السلام فقال:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} (وفيه تقديم وتأخير)، والتقدير: ولولا كلمةٌ سبقت من ربك وأجل مسمى لكانَ لزاماً.

والكلمة في الحكم بتأخير العذاب عنهم أي: وَلَوْلَا حكمٌ سبقت بتأخير العذاب عنهم «وَأَجَلٌ مًسَمًّى» هو القيامة، (وقيل: يَوْمَ بَدْر) . قوله: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» في رفعه وجهان:

ص: 421

أظهرهما: عطفه على «كَلِمَةٌ» ، أي: ولوْلَا أجلٌ مُسَمًّى لكان العذاب لزاماً لهم.

والثاني: جوَّزه الزمخشري، وهو أن يكون مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر، والضمير عائد على الأخذ العاجل المدلول عليه بالسياق، وقام الفصل بالخبر مقام التأكيد، والتقدير: ولوْلَا كلمة سبقت من ربك لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعادٍ وثمود، ولم ينفرد الجل المسمى دون الأخذ العاجل، فقد جعل اسم «كَانَ» عائداً على ما دلَّ عليه السياق، إلا أنَّه قد يشكل عليه مسألة وهي أنه قد جوَّز في (لزاماً) وجهين:

أحدهما: أن يكونَ مصدرَ (لازم) كالخصام، ولا إشكال على هذا.

والثاني: أن يكون وصفاً على (فِعَال) بمعنى مُفْعِل أي: ملزم، كأنه ىلة اللزوم، لفرط لزومه، كما قالوا: لِزَازٌ خَصِمٌ، وعلى هذا فيقال: كان ينبغي أن يطابق في التثنية، فيقال: لزامين بخلاف كونه مصدراً فإنه يفرد على كل حال. وجوَّز أبو البقاء أن يكون «لِزَاماً» جمع «لَازِم» كقيام جمع قائِم.

ص: 422

فصل

والمراد انَّ أمة محمد عليه السلام وإن كذَّبُوا فسيؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال، وذلك لأنَّه عَلِم أن فيهم من يؤمن. وقيل: علم أنَّ في نسلِهِم من يؤمن، ولو نزل بهم العذاب لعمهم الهلاك. وقيل: المصلحة فيه خفية لا يعلمها إلا الله تعالى.

وقال أهل السنة: له بحكم المالكية أن يخص مَنْ يشاء بفضله ومَن شاء بعذابه من غير علة، إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدوم الفعل، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل.

ثم إنَّه تعالى لما أخبر نبيَّه بأنه لا يُهْلِكُ أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر فقال: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي من تكذيبهم النبوة، وقيل: تركهم القبول.

قال الكلبي ومقاتل: هذه الآية منسوخة بآية القتال. ثم قال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي: صَلِّ بأمر ربك. وقيل: صَلِّ لله بالحمْدِ له، والثناء عليه، ونظيره قوله تعالى:{واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] .

قوله: «بِحَمْدِ رَبِّك» حال أي: وأنتَ حامدٌ لربِّك على أنه وفقك للتسبيح وأعانك عليه. واختلفوا في التسبيح على قوليْن، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه:

الأول: أنَّ المراد الصلوات الخمس، قال ابن عباس: دخلت الصلوات الخمس فيه، ف {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} هو الفجر، وقيل؛ «غروبها» الظهر والعصر، لأنهما جميعاً قبل الغروب {وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ} يعني المغرب والعتمة، ويكون قوله: «

ص: 423

وَأطْرَافَ النَّهَار» كالتوكيد للصَّلاة بين الوقتين في طرفي النهار، وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب، كما اختصت الوسطى بالتوكيد.

الثاني: أنَّ المرادَ الصلوات الخمس والنوافل، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخليْن في هاتيْن العبادتين وأوقات الصلاة الواجبة دخلت فيها، ففي قوله:{وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} للنوافل.

الثالث: أن المراد أربع صلوات، فقوله:{قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} للفجر «وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» للعصر، {وَمِنْ آنَآءِ الليل} المغرب والعتمة، بقي الظهر خارجاً.

وعلى هذا التأويل يمكن أن يستدل بهذه الآية على أن المراد بالصَّلاة الوُسْطى صلاة الظهر، لأن قوله:{حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} [البقرة: 238] المراد به هذه الأربع، ثم أفرد الوسطى بالذكر، والتأسيس أوْلَى من التأكيد، والأول أولى. هذا إذا حَمَلْنَا التسبيح على الصلاة.

وقال أبو مسلم: لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات. فإن قيل: النهار له طرفان، فكيف قال:«وَأَطْرَافَ النهار» ؟ بل الأولى أن يقول كما قال: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] .

فالجواب: من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ومنهم من قال: إنما جمع لأنه يكرر في كل نهار ويعود. وقوله: {مِنْ آنَآءِ الليل} متعلق ب «سَبِّحْ» الثانية. قوله: «وَأَطْرَافَ» العامة على نصبه، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه عطف على محل {وَمِنْ آنَآءِ الليل} .

والثاني: انه عطف على «قَبْل» .

وقرأ السحن وعيسى بن عمر «وأطرافِ» بالجر عطفاً على «آناءِ اللَّيل» وقوله هنا «أطْرَافَ» وفي هود «طَرَفَيْ النَّهَارِ» ، فقيل: هو من وضع الجمع موضع التثنية كقوله:

ص: 424

3701 -

ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْن

وقيل: هو على حقيقته، والمراد بالأطراف الساعات.

قوله: «تَرْضَى» قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم «تُرْضَى» مبنيًّا للمفعول.

والباقون مبنيًّا للفاعل، وعليه {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] والمعنى: ترضى ما تنال من الشفاعة، أو ترضى بما تنال من الثواب على ضم التاء كقوله:{وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم: 55] .

ص: 425

قوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} قيل: المراد منه نظر العين، وهؤلاء قالوا: مَدَّ النظر تطويله، وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور وإعجاباً به، كما فعل نظارة قارون حيث قالوا:{ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79] حتى واجههم أولو العِلْم والإيمان فقالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [القصص: 80] وفيه أن النظر غير الممدود يعفى عنه كنظر الإنسان إلى الشيء مرةً ثم

ص: 425

يغض. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطبائع قيل: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي: لا تفعل ما أنت معتاد له. ولقد شدد المتقون في وجوب غضِّ البصر عن ابنية الظلمة، ولباس الفسقة، ومراكبهم وغير ذلك، لأنهم اتَّخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغرى لهم على اتخاذها. قال أبو مسلم: ليس المنهي عنه هنا هو النظر بل هو الأسف، أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا.

قال أبو رافع: نزل ضيفٌ بالرسول عليه السلام فبعثني إلى يهوديٍّ، فقال قل له: إن رسول الله يقول: يعني كذا وكذا من الدقيق، وأسلفني إلى هلال رجب، فأتيته، فقلت له ذلك، فقال: والله لا ابيعه ولا أسلفه إلا بهن، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فأخبرته بقوله فقال:«والله لَئِنْ باعَنِي وأسْلَفَنِي لقضيتُهُ، وَإنِّي لأَمشينٌ فِي السَّمَاءِ وَآمِينٌ فِي الأَرْضِ اذْهَبْ بِدِرْعِي الحديد إليه» فنزلت هذه الآية. وقال عليه السلام: «إنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ ولكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وَأعْمَالِكُمْ» .

وقال أبو الدرداء: الدنيا دارُ مَنْ لا دارَ له، ومالُ مَنْ لا مالَ له، ولها يجمع من لا عقلَ له. وعن الحسن: لَوْلَا حمقُ الناس لخربت الدُّنيا.

وعن عيسى ابن مريم عليه السلام لا تَتَّخِذُوا داراً فتتخذكم لها عبيداً.

ص: 426

وعن عروة بن الزبير كان إذَا رَأى ما عِنْدَ السلطان يتلو هذه الآية، وقال: الصلاة يرحمكم الله قوله: «أزواجاً» في نصبه وجهان: أحدهما: أنَّه منصوبٌ على المفعول به. والثاني: أنَّه منصوب على الحال من الهاء في «بِهِ» .

راعى لفظ «مَا» مرده فأفرد، ومعناها أخرى فلذلك جمع.

قال الزمخشري: ويكون الفعل واقعاً على «مِنْهُم» كأنه قال: إلى الذين متَّعْنا به وهو أصناف منهم. قال ابن عباس: أناساً منهم. قال الكلبي والزجاج: رجالاً منهم. قوله: «زَهْرَة» في نصبه تسعة أوجه:

أحدها: أنَّه مفعول ثانٍ، لأنه ضَمَّن «مَتَّعْنَا» معنى أعطينا، ف «أزْوَاجاً» مفعول أول، و «زَهْرَةَ» هو الثاني.

الثاني: أن يكون بدلاً من «أزواجاً» ، وذلك إما على حذف مضاف أي ذوي زهرة، وإمَّا على المبالغة جعلوا نفس الزهرة.

الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مضمرٍ دلَّ عليه «مَتَّعْنَا» تقديره: جَعَلنَا لهم زهرة

الرابع: نصبه على الذم، قال الزمخشري: وهو النصب على الاختصاص.

الخامس: أن يكون بدلاً من موضع الموصول، قال أبو البقاء: واختاره

ص: 427

بعضهم، وقال آخرون: لا يجوز، لأن قوله: لِنَفْتِنَهُمْ «من صلة» مَتَّعْنَا «فيلزم الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي. وهو اعتراض حسن.

السادس: أن ينتصب على البدل من محل» بِهِ «.

السابع: أن ينتصب على الحال من» مَا «الموصولة.

الثامن: أنه حالٌ من الهاء في» بِهِ «، وهو ضمير الموصول، فهو كالذي قبله في المعنى.

فإن قيل: كيف يقع الحال معرفة؟

فالجواب: أن تجعل» زَهْرَة «منونة نكرة، وإنما حذف التنوين للالتقاء الساكنين نحو:

3702 -

وَلَا ذَاكِرَ اللهَ إلَاّ قَلِيلا

وعلى هذا: فبم (جُرَّت» الحَيَاةِ «؟ فقيل: على البدل من» مَا «الموصولة) .

التاسع: أنه تمييز ل» مَا «أو الهاء في» بِهِ «وقد ردوه عليه بأنه

ص: 428

معرفة والمميز لا يكون معرفة، وهذا غير لازم، لأنه يجوز تعريف التمييز على أصول الكوفيين.

والعاشر: أنه صفة ل» أزْوَاجاً «بالتأويلين المذكورين في نصبه حالاً وقد منعه أبو البقاء يكون الموصوف نكرة والوصف معرفة، وهذا يجاب عنه بما أجيب في تسويغ نصبه حالاً أعني حذف التنوين للالتقاء الساكنين. والعامة على تسكين الهاء، وقرأ الحسن وأبو البرهسم وأبو حَيْوة بفتحها، فقيل: بمعنى كَجَهْرَة وجَهْرَة. وأجاز الزمخشري أن يكونَ جمع زاهر كفَاجِر وفَجَرة وبَارّ وبَرَرَة وروى الأصمعي عن نافع» لِنُفْتِنهُمْ «بضم النون من أقتنه إذا اوقعه في الفتنة والزَّهْرة بفتح الحاء وسكونها كَنَهر ونهْر ما يروق من النور وسراج زاهر لبريقه ورجل أزهر وامرأة زهراء من ذلك والأنجم الزهرُ هي المضيئة.

فصل

معنى» مَتَّعْنَا «ألذَذَْنَا به، والإمتاع: الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة ويسمع من

ص: 429

الأصوات المطربة، ويشم من الروائح الطيبة، وغير ذلك من الملابس والمناكح، يقال: أَمْتَعَه ومتَّعه تمتيعاً، والتفعيل يقتضي التكثير. ومعنى الزهرة فيمن حرَّك الزينة والبهجة، كما جاء في الجهرة قرئ» أَرِنَا الله جَهْرَةً} . وقيل: جمع زاهر وصفاً لهم بأنهم زَهْرَة هذه الحياة الدنيا لصفاء ألوانهم وتهلُّلِ وجوههم بخلاف ما عليه الصُّلحاء من شُحُوب الألوان والتقشف في الثياب. ومعنى «نَفْتِنَهُمْ» نُعَذِّبَهُم كقوله: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} [التوبة: 55] .

وقال ابن عباس: لنجعل ذلك فتنةً لهم بأن أزيد لهم في النعمة فيزيدوا كفراً وطغياناً. ثم قال: «وَرِزْقُ رَبِّك» في المعاد يعني في الجنة «خَيْرٌ وَأَبْقَى» أي: خير من مطلبوبهم وأبقى، لأنه يدوم ولا ينقطع، وليس كذلك حال ما أتوه في الدنيا.

ويحتمل أن ما أوتيته من يسير الدنيا إذا قرنته بالطاعة، ورضيت به، وصبرت عليه كانت عاقبته خيراً لك. ويحتمل أن يكون المراد ما أعطي من النبوة والدرجات الرفيعة. قوله:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} أي: قَوْمك.

وقيل: مَنْ كان على دينك كقوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة} [مريم: 55] وحمله بعضهم على أقاربه.

«واصْطَبِرْ عليها» أي: اصبِرْ على الصلاة وحافظ عليها فإنها تَنْهى عن الفحشاء والمنكر. وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ - بعدَ نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ عليهما السلام في كلِّ صباحٍ ويقول: «الصَّلاة» . ثم بيَّن تعالى أنَّما أمرهم بذلك لنفعهم وأنه متعال عن المنافع، فقال:{لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} أي: لا نكلفك أن ترزق أحداً من خلقنا، ولا أن ترزق نفسَك، وإنما نكلفُكَ عَمَلاً فَفَرِّغْ بالَك لأمر الآخرة،

ص: 430

كما قال بعضهم: مَنْ كان في عمل الله كان الله في عمله. وقال أبو مسلم: معناه إنما يُريدُ منه أن يرزقه كما يريد السادة من العبيد الخراج، ونظيره {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57] . وقيل: المعنى إنما أمرناك بالصَّلاة لا لأنا ننتفع بصلاتك. «نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ» في الدنيا بوجود النعم، وفي الآخرة بالثواب قال عبد الله بن سلام: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ - إذا نزل بأهلِهِ ضِيقٌ أو شِدَّةٌ أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية.

«وَالعَاقِبَةُ» الجميلة المحموجة «لِلتَّقْوَى» أي: لأهل التقوى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الذين صدَّقوك واتَّبعوك واتقون) ، ويؤيده قوله في موضع آخر، {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128، القصص: 83] . وقرأ ابنُ وثاب: «نَرْزُقكَ» بإدغام القاف في الكاف، والمشهور عنه أنه لا يدغم إلا إذا كانت الكاف متصلة بميم جمع نحو: خَلَقَكُمْ، كما تقدم. قوله تعالى:{وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه} واعلم أن هذا من لازم قوله تعالى: " فاصبر على ما يقولون " وهو قولهم: " لولا يأتينا بآية " (أي: هلا يأتينا بآية.

وقال في موضع آخر: " فليأتنا بآية) كما أرسل الأولون ". ثم أجاب عنه

ص: 431

بقوله: " أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى " أي: بيان ما فيها وهو القرآن إذا وافق ما في كتبهم مع أن الرسول عليه السلام لم يشتغل بالدراسة والتعلم فكان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا. و" بينة ما في الصحف الأولى " ما فيها من البشائر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وبعثته. وقال ابن جرير والقفال: " بينة ما في الصحف الأولى " من أنباء الأمم الذين أهلكنا لما جاءتهم الآيات فكفروا بها، واقترحوا الآيات، فلما جاءتهم لم يؤمنوا بها، فأخذناهم بالعقوبة والهلاك، فما يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك.

قوله: " أولم تأتهم بينة " قرأ نافع وأبو عمرو وحفص " تأتهم " بالتأنيث والباقون بالياء من تحت، لأن التأنيث مجازي.

وقرأ العامة " بينة " بإضافة " بينة " إلى " ما " مرفوعة وهي واضحة وقرأ أبو عمرو فيما رواه أو زيد بتنوين " بينة " مرفوعة، وعلى هذه القراءة ففي " ما " أوجه:

أحدها: أنها بدل من " بينة " بدل كل من كل.

الثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هي ما في الصحف الأولى.

الثالث: أن تكون " ما " نافية، قال صاحب اللوامح: وأريد بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصل مما لم يكن في غيره من الكتب، وقرأت جماعة " بينة " بالتنوين والنصب.

ووجهها: أن تكون " ما " فاعلة، و" بينة " نصب على الحال، وأنث على معنى " ما ". ومن قرأ بتاء التأنث فحملا على معنى " ما " ومن قرأ بياء الغيبة فعلى لفظها. وقرأ ابن عباس بسكون الحاء من " الصحف ".

ص: 432

قوله: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله " الهاء في " قبله " يجوز أن تعود للرسول لقوله: " لولا أرسلت إلينا رسولا.

وجوز الزمخشري وغيره في قوله: أنه يعود على " بينة " باعتبار أنها في معنى البرهان والدليل. والمعنى: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل إرسال الرسول، أو من قبل مجيء البرهان " لقالوا " يوم القيامة " لولا " هلا " أرسلت إلينا رسولا " يدعونا " فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " (بالعذاب. والذل: الهوان. والخزي: الافتضاح) . أي: لكان لهم أن يقولوا ذلك فيكون عذرا لهم، فأما الآن فقد أرسلناك وبينا على لسانك ما عليهم وما لهم فلم تبق لهم حجة ألبتة.

روى أبو سعيد الخدري: قال عليه السلام: " يحتج على الله يوم القيامة ثلاثة الهالك في الفترة، يقول: لم يأتني رسول، وتلا " لولا أرسلت إلينا رسولا " والمغلوب على عقله يقول: لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الصغير: كنت صغيرا لا أعقل، فترتفع لهم النار، ويقال ادخلوها، فيدخلها من كان في علم الله أنه شقي، ويبقى من كان في علم الله أنه سعيد، فيقول: إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتوكم ".

(فصل)

قال الجبائي: هذه الآية تدل على وجوب فعل اللطف إذ المراد أنه يجب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده، ولو لم يفعل لكان لهم أن يقولوا: هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن؟ وهلا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك؟ وإن كان في المعلوم أنهم لا يؤمنون، وإن

ص: 433

بعث إليهم الرسول لم يكن لهم في ذلك حجة، فصح أنه إنما يكون حجة لهم إذا كان في المعلوم أنهم يؤمنون عنده إذا أطاعوه.

(فصل)

قال الكلبي: قوله: " لولا أرسلت إلينا رسولا " أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده، وأنه ليس قوله:" لا يسأل عما يفعل " كما ظنه أهل الجبرية من أن ما هو جور منا يكون عدلا منه، بل تأويله: أنه لا يقع منه إلا العدل، قال: وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة، فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة.

(فصل)

دلت الآية على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع إذ لو تحقق العقاب قبل مجيء الشرع لكان العقاب حاصلا قبل الشرع. قوله: " فنتبع " نصب بإضمار " أن " في جواب التحضيض. وفي إعراب أبي البقاء: في جواب الاستفهام، وهو سهو. وقرأ ابن عباس وابن الحنفية والحسن وجماعة كثيرة:" نذل ونخزي " مبنيين للمفعول. قوله: "

ص: 434

قل كل متربص " " كل " مبتدأ، و" متربص " خبره، أفرد حملا على لفظ " كل ".

والمعنى: كل منا ومنكم متربص منتظر عاقبة أمره، وذلك أن المشركين قالوا: نتبرص بمحمد حوادث الدهر فإذا مات تخلصنا. قال الله تعالى: " فتربصوا " فانتظروا " فستعلمون " إذا جاء أمر الله، وقامت القيامة، وظهر أمر الثواب والعقاب، فإنه يتميز المحق من المبطل.

ويحتمل أن يكون المراد قبل الموت إما بسبب الجهاد وإما بسبب ظهور الدولة والقوة.

قوله: " فستعلمون من أصحاب ". يجوز في " من " وجهان:

أظهرهما: أن تكون استفهامية مبتدأة، و" أصحاب " خبره، والجملة في محل نصب سادة مسد المفعولين.

والثاني: ويعزى للفراء: أن تكون موصولة بمعنى الذين، و" أصحاب " خبر مبتدأ مضمر، أي هم أصحاب. وهذا على مقتضى مذهبهم، يحذفون مثل هذا العائد وإن لم تطل الصلة. ثم (علم) يجوز أن تكون عرفانية فتكتفي بهذا

ص: 435

المفعول وأن تكون على بابها فلا بد من تقدير ثانيهما.

قوله " الصراط السوي " قرأ العامة: " السوي " على وزن فعيل بمعنى المستوي وقرأ أبو مجلز وعمران بن (حدير)" السواء " بفتح السين والمد بمعنى الوسط الجيد.

وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري " السوا " على فعلى باعتبار أن " الصراط " يذكر ويؤنث. وقرأ ابن عباس: " السوء " بفتح السين بمعنى الشر. وروي عنهما " السوي " بضم السين وتشديد الواو، ويحتمل ذلك وجهين:

أحدهما: أن يكون قلب الهمزة واوا وأدغم الواو في الواو، وأن يكون فعلى من (السواء) ، واصله (السويا) ، فقلبت الياء واوا، وأدغم أيضا، وكان قياس هذه (السيا) لأنه متى اجتمع ياء وواو وسبقت إحداهما السكون قلبت الواو ياء، وهنا فعل بالعكس. وقرئ " السوي " بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء تصغير (سوء) . قاله الزمخشري.

ص: 436

قال أبو حيان: وليس بجيد إذ لو كان كذلك أثبت همزة (سوء) ، والأجود أن يكون تصغير (سواء) كقولهم عطي في عطاء.

قال شهاب الدين: وقد جعله أبو البقاء أيضا تصغير (السوء) بفتح الهمزة ويرد عليه ما تقدم إيراده على الزمخشري. وإبدال مثل هذه الهمزة جائز فلا إيراد.

قوله: " ومن اهتدى " فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون استفهامية، وحكمها كالتي قبلها إلا في حذف العائد.

الثاني: أنها في محل رفع على ما تقدم في الاستفهامية.

الثالث: أنها في محل جر نسقا على " الصراط " أي: وأصحاب من اهتدى. وعلى هذين الوجهين تكون موصولة.

قال أبو البقاء في الوجه الثاني: وفيه عطف الخبر على الاستفهام، وفيه تقوية قول الفراء يعني: أنه إذا جعلها موصولة كانت خبرية.

ومعنى الكلام: فستعلمون إذا جاء أمر الله وقامت القيامة من أصحاب الصراط المستقيم ومن اهتدى من الضلالة نحن أم أنتم.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا ".

وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه ". والله تعالى أعلم.

ص: 437

قال أبو حيان: وليس بجيد إذ لو كان كذلك أثبت همزة (سوء) ، والأجود أن يكون تصغير (سواء) كقولهم عطي في عطاء.

قال شهاب الدين: وقد جعله أبو البقاء أيضا تصغير (السوء) بفتح الهمزة ويرد عليه ما تقدم إيراده على الزمخشري. وإبدال مثل هذه الهمزة جائز فلا إيراد.

قوله: " ومن اهتدى " فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن تكون استفهامية، وحكمها كالتي قبلها إلا في حذف العائد.

الثاني: أنها في محل رفع على ما تقدم في الاستفهامية.

الثالث: أنها في محل جر نسقا على " الصراط " أي: وأصحاب من اهتدى. وعلى هذين الوجهين تكون موصولة.

قال أبو البقاء في الوجه الثاني: وفيه عطف الخبر على الاستفهام، وفيه تقوية قول الفراء يعني: أنه إذا جعلها موصولة كانت خبرية.

ومعنى الكلام: فستعلمون إذا جاء أمر الله وقامت القيامة من أصحاب الصراط المستقيم ومن اهتدى من الضلالة نحن أم أنتم.

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل عليها هذا، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا ".

وعن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا يس وطه ". والله تعالى أعلم.

ص: 438

سورة الأنبياء

ص: 439

وهي مائة واثنتا عشرة آية، وكلماتها ألف ومائة وستون كلمة، وعدد حروفها أربعة آلاف وثمان وتسعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية.

اللام متعلّقة ب «اقْتَرَبَ» ، قال الزمخشري: هذه اللام لا تخلو إمَّا ان تكن صلة ل «اقْتَرَبَ» ، قال الزمخشري: هذه اللام لا تخلو إمّا أن تكون صلة ل «اقْتَرَبَ» ، أو تأكيداً لإضافة الحساب إليهم كقولك: أَزِفَ للحيّ رَحِيلُهُمْ، الأصل: أَزِف رحيلُ الحيّ، ثم أزف للحيّ الرحيلُ، ثم أزف للحي رَحِيلُهُمْ، ونحوه ما أورده سيبويه في باب ما يثنى فيه المستقر توكيداً، نحو عَلَيْكَ زَيْدٌ حَرِيصٌ عضلَيكَ، وفِيكَ زيدٌ رَاغِبٌ فِيكَ، ومنه قولهم: لَا أَبَا لكَ، لأنّ اللام مؤكدة لمعنى الإضافة،

ص: 439

وهذا الوجه أغرب من الأول.

قال أبو حيَّان: يعني بقوله: صلة ل «اقْتَرَبَ» أي «متعلقة به، وأما جعله اللام توكيداً لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدا يقول ذلك، وأيضاً فيحتاج إلى ما يتعلق به، ولا يمكن تعلقها ب» حِسَابُهُمْ «لأنَّه مصدر موصول، ولأنه قدم معموله عليه، وأيضاً فإنّ التوكيد يكون متأخراً عن المؤكد، وأيضاً فلو أخر في هذا التركيب لم يصح.

وأما تشبيهه بما أورده سيبويه فالفرق واضح، فإن (عَلَيْكَ) معمول ل (حريص) و (عَلَيْك) المتأخرة تاكيد وكذلك (فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌٌ فِيكَ) يتعلق (فِيكَ) ب (رَاغِب) و (فِيكَ) الثانية توكيد، وإنَّمَا غره في ذلك صحة تركيب اقترب حساب الناس، وكذلك أزِفَ رحيلُ الحيّ، فاعتقد إذا تقدم الظاهر مجروراً باللام وأضيف المصدر لضميره أنه من باب: فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ، فليس مثله.

وأما (لَا أَبَا لَكَ) ، فهي مسألة مشكلة، وفيها خلاف، ويكن أن يقال فيها ذلك، لأنَّ اللام فيها جاورت الإضافة، ولا يقاس عليها لشذوذها وخروجها عن الأقيسة. قال شهاب الدين: مسألة الزمخشري أشبه شيء بمسألة (لَا أَبَا لَكَ) ،

ص: 440

والمعنى الذي أورده صحيح، وأما كونها مشكلة فهو إنما بناها على قول الجمهور، والمشكل مقدر في بابه، فلا يضرنا القياس عليه لتقريره في مكانه. قوله:{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} يجوز أنْ يكونَ الجار متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في» مُعْرِضُونَ «وأن يكون خبراً من الضمير، ومعرضون خب ثان وقول أبي البقاء في هذا الجار: إنه خبر ثان. يعني في العدد وإلا فهو أول في الحقيقة. وقد يقال: لمّا كان في تأويل المفرد جعل المفرد الصيح مقدماً في الرتبة، فهو ثان بهذا الاختيار.

وهذه الجملة في محل نصب على الحال من» للنَّاسِ «.

فصل

نزلت في منكري البعث، والقرب لا يعقل إلا في المكان والزمان، والقرب المكاني هما ممتنع فتعين القرب الزماني. فإن قيل: كيف وصف بالاقتراب وقد عبر هذا القول اكثر من ستمائة عام؟

والجواب من وجوه:

الأول: أنه مقترب عند الله، لقوله تعالى:

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ

بالعذاب

وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] .

الثاني: أنَّ كُلَّ آتٍ وإن طالت أوقات ترقبه، وإنما البعيد هو الذي انقرض قال الشاعر:

3703 -

فَمَا زَالَ مَا تَهْوَاهُ أَقْرَبَ مِنْ غَدٍ

وَلَا زَالَ ما تَخْشَاهُ أبعدُ مِنْ أمسِ

الثالث: أنَّ المقابلة إذا كانت مؤجلة إلى سنة ثم انقضى منها شهر، فإنه لا يقال: اقترب الأجل، أمَّا إذا كان الماضي أكثر من الباقي فإنه يقال: اقترب الأجل. فعلى هذا الوجه قال العلماء: إن فيه دلالة على قرب القيامة، ولهذا قال عليه السلام:«بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» وقال عليه السلام: «ختمت النبوة» كل ذلك لأجل

ص: 441

أنَّ الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي واعلم أنه إنما ذكر تعالى هذا الاقتراب لما فيه من مصلحة المكلفين ليكثر تحرزهم خوفاً منها. ولم يعين الوقت، لأنَّ كتمان وقت الموت أصلح لهم والمراد بالناس من له مدخل في الحساب وهم المكلفون دون من لا مدخل فيه.

قال ابن عبس: المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم، وهو ما يتلوه من صفات المشركين.

وقوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} وصفهم بالغفلة والإعراض، واما الغفلة فالمعنى: أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بُدَّ من جزاء المحسن والمسيء، ثم إذا انتبهوا من سِنَة الغفلة، ورقدة الجهالة مما يتلى عليهم من الآيات أعرضوا وسدوا أسماعهم.

قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} ذكر الله - تعالى - ذلك بياناً لكونهم معرضين، وذلك لأنَّ الله - يجدد لهم الذكر كل وقت، ويظهر لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم الموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم ذلك إلا استسخاراً.

قوله: «مُحْدِثٍ» العامة على جر «مُحْدِثٍ» نعتاً ل «ذِكْرٍ» على اللفظ.

وقوله: «مِنْ رَبِّهِمْ» فيه أوجه:

أجودها: انْ يتعلق ب «يَأتِيهِمْ» ، وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً.

والثاني: أنْ يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في «مُحْدِثٍ» .

الثالث: أنْ يكونَ حالاً من نفس «ذِكْرٍ» ، وإنْ كان نكرة، لأنه قد تخصّص بالوصف ب «مُحْدَثٍ» ، وهو نظير: ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ، ففصل بالحال بين الصفة والموصوف. وأيضاً فإنّ الكلام نفي وهو مسوغ لمجيء الحال من النكرة.

ص: 442

الرابع: أن يكون نعتاً ل «ذِكْرٍ» فيجوز في محله وجهان: الجر باعتبار اللفظ والرفع باعتبار المحل، لأنه مرفوع المحل إذ «مَن» مزيده فيه، وسيأتي.

وفي جعله نعتاً ل «ذِكْرٍ» إشكال من حيث إنه تقدم غير الصريح، وتقدم تحريره في المائدة.

الخامس: أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان. وقرأ ابن عبلة «محدثٌ» رفعاً نعتاً ل «ذِكرٍ» على المحل، لأن «مِنْ» مزيدة فيه لاستكمال الشرطين.

ص: 443

وقال أبو البقاء: ولو رفع على موضع «من ذكر» جاز. كأنه لم يطلع عليه قراءة وزيد بن عليّ «مُحْدَثاً» نصباً على الحال من «ذِكْرٍ» ، وسوغ ذلك وصفه ب «مِنْ رَبِّهِمْ» إن جعلناه صفة.

قوله: «إلَاّ اسْتَمَعُوهُ» هذه الجملة حال من مفعول «يأتيهم» وهو استثناء مفرغ، و «قد» معه مضمرة عند قوم.

«وهم يلعبون» حال من فاعل «اسْتَمَعُوهُ» أي استمعوه لاعبين.

فصل

قال مقاتل: معنى «مُحْدَثٍ» يحدث الله الأمر بعد الأمر. وقيل: الذكر المحدث ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم َ وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن، وأضافه إلى الرب، لأنه أمره بقوله إِلَاّ «اسْتَمَعُوهُ» لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون.

فصل

استدلت المعتزلة بهذه الآية على حدوث القرآن، فقالوا: القرآن ذكر، والذكر محدث، فالقرآن محدث، وبيان أن القرآن ذكر قوله تعالى في صفة القرآن:{إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104، ص: 87، التكوير: 27]{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]{إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} [يس: 69] و {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] . وبيان أن الذكر محدث قوله:

ص: 444

{مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} وقوله: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] فالجواب من وجهين:

الأول: أن قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104، ص: 87، التكوير: 27] وقوله {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] إشارة إلى المركب من الحروف والأصوات، وذلك مما لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة، وإنما النزاع في قدر كلام الله تعالى بمعنى آخر.

الثاني: أن قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً، كما أن قول القائل: لَا يَدْخل هذه البلدة رجلٌ فاضلٌ إلا يبغضونه فإنه لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً بل على أن من الرجال من هو فاضل، وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث، فيصير نظم الكلام: القرآن ذكر، وبعض الذكر محدث، وهذا لا ينتج شيئاً، فظهر أن الذي طنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع.

قوله: «لاهيةً» يجوز أن تكون حالاً من فاعل «اسْتَمَعُوهُ» عند من يجيز تعدد الحال، فيكون الحالان مترادفين.

ص: 445

وأن يكون حالاً من فاعل «يلعبون» فيكون الحالان متداخلين وعبر الزمخشري عن ذلك فقال: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} حالان مترادفان أو متداخلتان وإذا جعلناهما حالين مترادفين ففيه تقديم الحال غير الصريحة وفيه من البحث ما في باب النعت.

(و «قلوبهم» مرفوع ب «لَاهِيَةً» ) .

وقال البغوي: «لَاهِيَة» نعت تقدم الاسم، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب، فإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان فصل ووصل، فحالته في الفصل النصب كقوله تعالى {خاشِعاً أَبْصَارُهُمْ} وهذه قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي و {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} [الإنسان: 14] و {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} ، وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله:{أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} [النساء: 75] والعامة على «لَاهِيَة» ، وابن أبي عبلة على الرفع على أنها خبر ثان لقوله «وهُمْ» عند من يُجوِّز ذلك، أو خبر مبتدأ محذوف عند من لا يجوّزه.

قوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} يجوز في محل «الذين» ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه بدل من (واو)«أسَرُّوا» تنبيهاً على اتصافهم بالظلم الفاحش وعزاه ابن عطية لسيبويه، وغيره للمبرد.

ص: 446

الثاني: أنه فاعل، والواو علامة جمع دلت على جمع الفاعل كما تدل التاء على تأنيثه، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون: قاما أخواك وأنشدوا:

3704 -

يَلُومُونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخي

خِيلِ أَهْلِ] وَكُلُّهُمُ أَلُوَمُ

وإليه ذهب الأخفش وأبو عبيدة، وضعف بعضهم هذه اللغة وبعضهم حسنها فنسبها لأَزْدِ شَنُوءَة.

وتقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] .

الثالث: أن يكون «الذين» مبتدأ «وأسَرُّوا» جملة خبرية قدمت على المبتدأ ويعزى للكسائي.

الرابع: أن يكون «الذين» مرفوعاً بفعل مقدر فقيل تقديره: يقول الذين، واختاره النحاس، قال: والقول كثيراً ما يضمر، ويدل عليه قوله بعد ذلك:{هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . وقيل: تقديره: أسرها الذين ظلموا.

الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: هم الذين ظلموا.

السادس: أنه مبتدأ وخبره الجملة من قوله: {هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ} (ولا بد من إضمار

ص: 447

القول على هذا القول تقديره: الذين ظلموا يقولون هل هذا إلا بشر) والقول يضمر كثيراً. والنصب من وجهين:

أحدهما: الذم.

والثاني: إضمار «أعني» .

والجرّ من وجهين أيضاً:

أحدهما: النعت.

والثاني: البدل من «للناس» ، ويعزى هذا للفراء، وفيه بعد.

قوله: «هَلْ هذَا» إلى قوله: «تُبْصِرونَ» يجوز في هاتين الجملتين الاستفهاميتين أن تكونا في محل نصب بدلاً من «النَّجْوَى» وأن تكونا في محل نصب بإضمار القول. قالهما الزمخشري.

وأن تكونا في محل نصب على أنهما محكيتان ب «النَّجْوَى» ، لأَنها في معنى القول «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» جملة حالية من فاعل «تَأْتُونَ» .

فصل

اعلم أن الله - تعالى - ذم الكفار بهذا الكلام، وزجر غيرهم عن مثله، لأنهم إذا استمعوا وهم يلعبون لم يحصلوا إلى على مجرد الاستماع الذي قد تشارك فيه البهيمة

ص: 448

الإنسان، ثم أكد ذمهم بقوله:«لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ» واللاهية من لهي عنه إذا ذهل وغفل. وقدم ذكر اللعب على اللهو كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه الذهول والغفلة والسخرية والاستهزاء مُعَلَّل باللهو الذي معناه الذهول، فإنهم إنما أقدموا على اللعب لذهولهم عن الحق.

وقوله: «وَأسَرُّوا النَّجْوَى» فيه سؤال، وهو أن النجوى اسم من التناجي، وهو لا يكون إلا خفية، فما معنى قوله:«وَأَسَرُّوا» ؟

فالجواب: أنهم بالغوا في إخفائها، وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم.

فإن قيل: لِمَ قال: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} ؟

فالجواب: أن إبدال «الَّذِينَ ظَلَمُوا» من «أسَرُّوا» إشعار بأنهم المسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به. أو جاء على لغة من قال: أكلوني البراغيث وقوله: {هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} قال الزمخشري: هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من «النَّجْوَى» أي: وَأسروا هذا الحديث، وهو قولهم:{هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} . ويحتمل أن يكون التقدير: وَأَسروا النجوى وقالوا هذا الكلام وإِنما أسروا هذا الحديث لوجهين:

أحدهما: إنما كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم أمره، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم.

الثاني: يجوز أن يسروا نجواهم بذاك، ثم يقولوا لرسول الله والمؤمنين: إن كان ما تدعونه حقاً (فَأخْبِرُونا بما أسررناه) .

واعلم أنهم طعنوا في نبوته عليه السلام بأمرين:

أحدهما: أنه بشر مثلهم.

والثاني: أن الذي أتى به سحر.

وكلا الطعنين فاسد، أما الأول، فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل

ص: 449

لا على الصور، إذ لو أرسل الملك إليهم لما علم كونه نبياً بصورته، وإنما كان يعلم بالعلم، فإذا أظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً، بل الأولى أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً، لأن المرء إلى القبول من أشكاله أقرب، وهو به أقيس. وأما الثاني وهو أن ما أتى به الرسول من القرآن ظاهره الوعيد لا مرية فيه، ولا لبس، وقد كان عليه السلام يتحداهم بالقرآن مدة من الزمان حالاً بعد حال، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره، وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن، فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع، فلما لم يأتوا بها، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع، فلما لم يأتوا بها دلَّنا ذلك على أنه في نفسه معجز، وأنهم عرفوا حاله فكيف يجوز أن يقال: إنه سحر والحال ما ذكرناه وكل ذلك يدل على انهم كانوا عالمين بصدقه إلا أنهم كانوا يوهمون على ضعفائهم بمثل هذا القول، وإن كانوا فيه مكابرين. والمعنى:«أفَتَأْتُونَ» تحضرون «السِّحْرَ وَأَنْتُم» تعلمون أنه سحر.

ص: 450

قوله: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول} . قرأ الأخوان وحفص «قَالَ» على لفظ الخبر والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم َ.

والباقون: «قُلْ» على الأمر له.

قوله: «فِي السَّمَاءِ» فيه أوجه:

أحدها: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من القول.

والثاني: أنه حال من فاعل «يَعْلَمُ» وضعفه أبو البقاء، وينبغي أن يمتنع.

ص: 450

والثالث: أنه متعلق ب «يَعْلَمُ» ، وهو قريب مما قبله. وحذف متعلق «السَّمْيِعُ العَلِيمُ» للعلم به. والمعنى: لا يخفى عليه شيء «وهو السميع» لأقوالهم «العليم» بأفعالهم. قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» قلت: القول عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر، كما أن قوله:«يَعْلَمُ السَّرَّ» آكد من أن يقول: يعلم سرهم.

فإن قلت: لم ترك الآكد في سورة الفرقان في قوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] ؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع ولكن يجيء بالتوكيد تارة وبالآكد أخرى. ثم الفرق أنه قدم هنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه قال: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصفه ب {عَالِمِ الغيب لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] وإنما قدم «السميع» على «العليم» لأنه لا بد من سماع الكلام أولاً ثم من حصول العلم بمعناه. قوله: «أَضْغَاثُ أًحْلَام» خبر مبتدأ محذوف، أي هو أضغاث والجملة نصب بالقول. واعلم أنه تعالى عاد إلى حكاية قولهم:{هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر} ثم قال {بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} فحكى عنهم هذه الأقوال الخمسة، وترتيب كلامهم أن كونه بشراً مانع من كونه رسولاً لله. سلمنا أنه غير مانع، ولكن لا نسلم أن هذا القرآن معجز، ثم إما أن يساعد على أن فصاحة القرآن خارجة عن مقدور البشر، قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك سحراً، وإن لم يساعد عليه فإن ادّعينا كونه في نهاية الركاكة، قلنا: إنه أضغاث أحرم. وإن ادّعينا أنه متوسط بين الركاكة والفصاحة، قلنا: إنه افتراه، وإن ادّعينا أنه كلام فصيح، قلنا: إنه من جنس فصاحة سار الشعر. وعلى جميع هذه التقديرات فإنه لا يثبت كونه معجزاً. ولما فرغوا من تقدير هذه الاحتمالات قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ

ص: 451

أُرْسِلَ الأولون} والمراد أنهم طلبوا منه حالة لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات.

وقال المفسرون: إن المشركين اقتسموا القول فيه وفيما يقوله: فقال بعضهم «أضغاث أحرم» أي: أباطيلها وأهاويلها رآها في النوم.

وقال بعضهم: «بَلْ افْتَرَاهُ» أي: اختلقه. وقال بعضهم: بل محمد شاعر، وما جاءكم به شعر «فَلْيَأْتِنَا» محمد «بِآيَةٍ» إن كان صادقاً {كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} من الرسل بالآيات؟

قوله: «كَمَا أُرْسِلَ» يجوز في هذه الكاف وجهان:

أحدهما: أن يكون في محل نعتاً ل «آية» ، أي: بآية مثل آية إرسال الأولين (ما) مصدرية.

الثاني: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي إتياناً مثل إرسال الأولين. فأجابهم الله تعالى بقوله:{مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} أي: قبل مشركي مكة «مِنْ قَرْيَةٍ» أتتهم الآيات «أَهْلَكْنَاهَا» أي: أهلكناهم بالتكذيب «أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ إِن جاءتهم آية» . والمعنى: أنهم في العتو أشد من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات، وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا، فأهلكهم الله، فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أشد نكثاً.

قال الحسن: إنما لم يجابوا لأن حكم الله تعالى أن من كذب بعد الإجابة إلى ما اقترحه، فلا بدّ من أن ينزل به عذاب الاستئصال، وقد مضى حكمه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ - خاصة بخلافه فلذلك لم يجبهم. وتقدم الكلام في إعراب نظير قوله:{أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} .

قوله: «نُوحِي إِلَيْهَم» . قرأ حفص «» نوحي «بنون العظمة بنياً للفاعل، أي نوحي نحن والباقون بالياء وفتح الحاء مبنياً للمفعول، وقد تقدم في يوسف. وهذه

ص: 452

الجملة في محل نصب نعتاً ل» رِجَالاً «و» إِلَيْهِمْ «في القراءة الأولى منصوب المحل، والمفعول محذوف، أي: نوحي إليهم القرآن أو الذكر. ومرفوع المحلّ في القراؤة الثانية لقيامه مقام الفاعل.

ص: 453

اعلم أنه تعالى أجاب عن سؤالهم الأول وهو قولهم: {هَلْ هاذآ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} بقوله:

{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} فبين أن هذه عادة الله في الرسل من قبل محمد عليه السلام ولم يمنع ذلك من كونهم رسلاً، وإذا صح ذلك فيهم فقد ظهر على محمد مثل آياتهم.

«فاسئلوا أَهْلَ الذكر» يعني علماء أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشراً، ولم يكونوا ملائكة، وإنام أحلهم على أولئك، لأنهم كانوا يتابعون المشركين في معاداة الرسول، وأمر المشركين بمُساءلة أهل الكتاب، لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم َ - أقرب منهم إلى تصديق من آمن قال تعالى:{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} [آل عمران: 186] فإن قيل: إذا لم يوثق باليهود والنصارى فكيف يجوز أن يأمرهم بأن يسألوهم عن الرسل؟

فالجواب: إذا تواتر خبرهم وبلغ حدّ الضرورة جاز ذلك، لأنَّا نعلم بخير الكفار إذا تواتر كما نعلم بخبر المؤمنين. وقال ابن زيد: أراد بأهل الذمر المؤمنين، وهو بعيد، لأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي الرسول.

فأما تعلق كثير من الفقهاء بهذه الآية في أن للقاضي أن يرجع إلى فتيا العلماء وفي أن للمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر، فبعيد، لأن هذه الآية خطاب مشافهة، وهي

ص: 453

واردة في هذه الواقعة المخصوصة، ومتعلقة باليهود والنصارى على التعيين.

قوله: {إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} جواب الشرط محذوف لدلالة ما تقدم عليه، أي:«فَاسْأَلُوُهَم» ، ومفعولا العلم يجوز أن يراد، أي: لا تعلمون أن ذلك كذلك ويجوز أن لا يراد، أي: إن كنتم من غير ذوي العلم.

قوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً} أي ما جعلنا الرسل جسداً، ولم يقل: أجساداً، لأنه اسم جنس. {لَاّ يَأْكُلُونَ الطعام} هذا رد لقولهم:{مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7] والمعنى: لم نجعل الرسل ملائكة بل جعلناهم بشراً يأكلون الطعام {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} في الدنيا: قوله: {لَاّ يَأْكُلُونَ الطعام} في هذه الجملة وجهان:

أظهرهما: أنها في محل نصب نعتاً ل «جسداً» و «جسداً» مفرد يراد به الجمع، وهو على حذف مضاف أي: ذوي أجساد غير آكلين الطعام، و «جعل» يجوز أن تكون بمعنى (صير) فتتعدى لاثنين ثانيهما «جسداً» ويجوز أن تكون بمعنى (خلق) و (أنشأ) فتتعدى لواحد فيكون «جسداً» حالاً بتأويله بمشتق، أي: متغذين، لأن الجسد لا بد له من الغذاء.

وقال أبو البقاء: و «لا يأكلون» حال أخرى، بعد «جسداً» إذا قلنا إن (جعل تتعدى لواحد) .

وفيه نظر. بل هو صفة ل «جسداً» بالاعتبارين، لا يليق المعنى إلا به.

قوله: «صَدَقْنَاهُمْ الوَعدَ» صدق يتعدى لاثنين إلى ثانيهما بحرف الجر. وقد يحذف تقول: صَدَقْتُكَ الحديث، وفي الحديث نحو أمر واستغفر وقد تقدم في «

ص: 454

آل عمران» . قال الزمخشري: هو مثل قوله: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [الأعراف: 155] والأصل في الوعد، ومن قومه. والمعنى «صدقناهم الوعد» الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم، {فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ} أي: أنجينا المؤمنين الذين صدقوا الرسل «وَأَهْلَكْنَا المُسْرَفِين» أي: المشركين المكذبين، وكل مشرك مسرف على نفسه.

قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً} يا معشر قريش «فِيِهِ ذِكْرِكُمْ» أي شرفكم، كما قال:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وإنَّهُ شَرَفٌ لمن آمن به. وقال مجاهد: فيه حديثكم. وقال الحسن: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أي ذكر ما تحتاجون إليه من أمور دينكم «أَفَلَا تَعْقِلُونَ» وهذا كالحث على التدبر للقول لأنهم كانوا عقلاء، لأن التدبير من لوازم العقل، فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل.

ص: 455

قوله: «وَكَمْ قَصَمْنَا» «كَمْ» في محل نصب مفعولاً مقدماً ب «قَصَمْنَا» و «مِنْ قَرْيَةٍ» تمييز، والظاهر أن «كَمْ» هنا خبرية، لأنها تفيد التكثير. والقصم: القطع وهو الكسر الذي يبين تلازم الأجزاء بخلاف الفصم.

ص: 455

قوله: «كَانَتْ ظَالِمَةٌ» في محل جر صفة ل «قَرْيَةٍ» ، ولا بد من مضاف محذوف قبل «قَرْيَةٍ» أي: وكم قصمنا من أهل قرية بدليل عود الضمير في قوله: «فَلَمَّا أَحَسُّوا» ولا يجوز أن يعود على قوله «قوماً» لأنه لم يذكر لهم ما يقتضي ذلك.

فصل

لما حكى عنهم تلك الاعتراضات الساقطة، لكونها في مقابلة ما ثبت إعجازه، وهو القرآن ظهر لكل عاقل أن اعتراضهم كان لأجل حب الرياسة والدنيا.

والمراد بقوله: «قصمنا» أهلكنا. قال ابن عباس: المراد منه القتل بالسيوف، والمراد بالقرية: حضور وسحول باليمن ينسب إليهما الثياب، وفي الحديث:«كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - في ثوبين سحولين» ، وروي «حضورين» بعث الله إليهما نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم.

وروي «أنه لما أخذتهم السيوف ناداه مناد من السماء يا لثارات الأنبياء» فندموا واعترفوا بالخطأ، و {قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

وقال الحسن: المراد عذب الاستئصال. وهذا أقرب، أن إضافة ذلك إلى الله أقرب من إضافته إلى القائل، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على الحصر في القريتين اللتين ذكرهما ابن عباس.

وقوله: «كَانَتْ ظَالِمَةٌ» أي كافرة، يعني أهلها «وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا» أي: أحدثنا بعد علاك أهلها «قَوْمَاً آخَرِينَ» . {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} أي: عذابنا بحاسة البصر {إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ} أي: يسرعون هاربين.

والركض ضرب الدابة بالرجل، يقال: ركض الدابة يركضها ركضاً، ومنه قوله تعالى:«ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» . فيجوز أن يركبوا دوابّهم فيركضوها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب. ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين.

ص: 456

قوله: «إِذَا هًمْ» : «إذَا» هذه فجائية، وتقدم الخلاف فيها.

و «هُمْ» مبتدأ، و «يَرْكُضُونَ» خبره. وتقدم أول الكتاب أن أمثال هذه الآية دالة على أن «لمَّا» ليست ظرفية بل حرف وجوب لوجوب، لأن الظرف لا بد له من عامل، ولا عامل هنا، لأن ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها. والجواب أنه عمل فيها معنى المفاجَأة المدلول عليه ب «إِذَا» .

والضمير في «مِنْهَا» يعود على «قَرْيَةٍ» ، ويجوز أن يعود على «بَْسَنَا» لأنه في معنى النقمة والبأساء، فأنث الضمير حملاً على المعنى. و «مِنْ» على الأول لابتداء الغاية، وللتعليل على الثاني.

قوله: «لا تَرْكُضُوا» أي: قيل لهم: لا تركضوا، أي لا تهربوا. قال الزمخشري: القول محذوف، فإن قلت: من القائل؟ قلت: يحتمل أن يكون بعض الملائكة، أو من ثم من المؤمنين، أو يكون خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو بقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفهم في دينهم. أو يلهمهم ذلك فيحدثوا به نفوسهم.

ص: 457

وقوله: {وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ} من العيش الرافه والحال الناعمة. والإتراف انتظار النعمة، وهي الترفه. وقوله:«لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونََ» تهكم بهم وتوبيخ.

قال ابن عباس: تسألون عن قتل نبيكم. وقال غيره: هذا التهكم يحتمل وجوهاً:

الأول: ارجعوا إلى نعمتكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة.

الثاني: ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقولوا لكم: بم تأمرون، وماذا ترسمون كعادة المخدومين.

الثالث: تسألكم الناس ما في أيديكم ويستشيرونكم في المهمات.

قوله: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} اسم «زالت» «تلك» و «دعواهم» الخبر هذا هو الصواب. وقد قال الحوفي والزمخشري وأبو البقاء: يجوز العكس، وهو مردود بأنه إذا أخفي الإعراب مع استوائهما في المسوغ لكون كل منهما اسماً أو خبراً، وجب جعل المتقدم اسماً والمتأخر خبراً، وهو من باب ضرب موسى عيسى وتقدم إيضاح هذا في أول سورة الأعراف فليلتفت إليه. و «تلك» إشارة إلى الجملة المقولة. قال

ص: 458

الزمخشري: «تلك» إشارة إلى «يَا وَيْلَنَا» لإنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم، والدعوى بمعنى الدعوة، قال تعالى:{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] .

وسميت دعوى، لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا:«يا ويلنا» . قال المفسرون: لم يزالون يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] . «حتى جعلناهم حصيدا» الحصيد: الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، شبههم في استئصالهم به، كما تقول: جعلناهم رماداً أي: مثل الرماد قوله: «حَصِيداً» مفعول ثان، لأن الجعل هنا تصيير. فإن قيل: كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ فالجواب أن «حصيداً» و «خامدين» يجوز أن يكون من باب حلو حامض، كأنه قيل: جعلناهم جامعين بين الوصفين جميعاً. ويجوز أن يكون «خامدين» حالاً من الضمير في «جَعَلْنَاهُمْ» ، أو من الضمير المستكن في «حَصِيداً» فإنه في معنى محصود. ويجوز أن يكون في باب ما تعدد فيه الخبر نحو:«زيد كاتب شاعر» . وجوَّز أبو البقاء فيه أيضاً أن يكون صفة ل «حصيدا» ، وحصيد بمعنى محصود كما تقدم فلذلك لم يجمع. وقال أبو البقاء: والتقدير: مثل حصيد فلذلك لم يجمع كما لم يجمع «مثل» المقدر انتهى.

وإذا كان بمعنى محصودين فلا حاجة، والمعنى: أنهم هلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق حس ولا حركة، وجفوا كما يجف الحصيد وخمدوا كما تخمد النار.

ص: 459

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض} الآية. اعلم أنه لما بين إهلاك القرية لأجل تكذيبهم أتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلاً منه، ومجازاة على ما فعلوا فقال:{وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} أي: وما سوينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما سوى الجبابرة سقوفهم وفرشهم للعب واللهو، وإنما سويناهم لفوائد دينية ودنيوية. أما الدينية فليتفكر المكلفون فيها على ما قال:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} [آل عمران: 191] . وأما الدنيوية فلما يتعلق بها من المنافع التي لا تعد ولا تحصى، وهو كقوله:{وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] وقوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلَاّ بالحق} [الدخان: 39] . وقيل: وجه النظم أن الغر منه تقرير نبوة محمد عليه السلام والرد على منكريه، لأنه أظهر المعجز عليه، فإن كان محمد كاذباً كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب، وذلك منفي عنه، وإن كان صادقاً فهو المطلوب وحينئذ يفسد كل ما ذكروه من المطاعن و «لاعبين» حال من فاعل «خلقنا» .

فصل

قال القاضي عبد الجبار: دلَّت هذه الآية على أن اللعب ليس من قبله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان لاعباً، فإن اللاعب في اللغة اسم لفاعل اللعب، فنفي الاسم الموضوع لفعل يقتضي نفي الفعل. والجواب يبطل ذلك بمسألة الداعي، وقد تقدم. قوله:{لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً} .

قال ابن عباس: في رواية عطاء: اللهو: المرأة، وهو قول الحسن وقتادة وقال في رواية الكلبي: اللهو: الولد بلغة اليمن، وهو قول السدي. وهو في المرأة أظهر، لأن الوطأ يسمى لهواً في اللغة، والمرأة محل الوطأ.

ص: 460

«لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ» أي: من عندنا من الحور العين لا من عندكم من أهل الأرض. وقيل: معناه لو كان ذلك جائزاً في صفته لم يتخذه بحدث يظهر لهم ويستر ذلك حتى لا يطلع عليه. وتأويل الآية: أن النصارى لما قالوا في المسيح وأمه ما قالوا رد الله عليهم بهذا، وقال:«لَاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ» ، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره.

قوله: {إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} في «إِنْ» هذه وجهان:

أحدهما: أنها نافية، أي: ما كنا فاعلين، قاله قتادة ومقاتل وابن جريج.

والثاني: أنها شرطية، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب «لو» عليه والتقدير: إن كنا فاعلين اتخذناه ولكنا لم نفعله، لأنه لا يليق بالربوبية. قوله:{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} . «بَل» حرف إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه لذاته كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب بل من موجب حكمتنا أن نغلب اللعب بالجد وندحض الباطل بالحق.

والمعنى دع الذي قالوا فإنه كذب وباطل. و «نقذف» نرمي ونسلط قال تعالى: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} [الصافات: 8، 9] أي يرمون بالشهب. «بالحق» بالإيمان، «على الباطل» على الكفر وقيل: الحق قول الله: إنه لا ولد له، والبطل قولهم: اتخذ الله ولداً. قوله: «فَيَدْمَغُه» العامة على رفع الغين نسقاً على ما قبله. وقرأ عيسى بن عمر بنصبها قال الزمخشري: وهو في ضعف قوله:

3705 -

سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم

وأَلْحَقُ بالحجاز فَأَسْتَرِيحَا

ص: 461

وقرئ شاذاً «فيدمغه» بضم الميم، وهي محتملة لأن يكون في المضارع لأن يكون لغتان في المضارع لغتان يَفْعَل ويَفْعُل، وأن يكون الأصل والضمة للإتباع في حرف الحلق.

و «يدمَغُه» أي يصيب دماغه من قولهم: دمغت الرجل، أي ضربته في دماغه كقولهم: رأسه وكبده ورجله، إذا أصاب منه هذه الأعضاء. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ. واستعار القذف والدمغ تصويراً لإبطاله به، فجعله كأنه جرم صلب كالصخرة مثلاً قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه: أهلكه وأذهبه {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} ذاهب، {وَلَكُمُ الويل} يعني من كذب الرسول ونسب القرآن إلى أنه سحر وأضغاث أحلام، وغير ذلك من الأباطيل.

قوله: {مِمَّا تَصِفُونَ} فيه أوجه:

أحدهما: أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، أي: استقر لكم الويل من أجل ما تصفون. و «مِنْ» تعليلية. وهذا وجه وجيه.

والثاني: أنه متعلق بمحذوف.

والثالث: أنه حال من الويل، أي: الويل واقعاً مما تصفون، كذا قدره أبو البقاء و «مَا» في «ممَّا تَصِفُونَ» يجوز أن تكون مصدرية فلا عائد عند الجمهور، وأن

ص: 462

تكون بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، ولا بد من العائد عند الجميع، حذف لاستكماله الشروط. والمعنى: ممّا تصفون الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد. وقال مجاهد: مما تكذبون.

ص: 463

قوله: {وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} الآية. لما نفى اللعب عن نفسه، ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة، (ونفي الحاجة) لا يصح إلا بالقدرة التامة عقب تلك الآية بقوله:{وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض} لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة. وقيل: لما حكى كلام الطاعنين في النبوات، وأجاب عنها، وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد، وعدم الانقياد، بين ههنا أنه تعالى منزه عن طاعتهم لأنه هو المالك بجميع المخلوقات، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع كونهم في نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.

قوله: «وَمَنْ عِنْدَهُ» يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أنه معطوف على «مَنْ» الأولى أخبر تعالى عن من في السموات والأرض وعن من عنده بأن الكل له في ملكه.

وعلى هذا فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيهاً على شرفه، لأن قوله:{مَن فِي السماوات} شمل «مَنْ عِنْدَهُ» وقد مرَّ نظيره في قوله: «وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ» وقوله: «لَا يَسْتَكْبِرُونَ» على هذا فيه أوجه:

أحدها: أنه حال من «مَنْ» الأولى أو الثانية أو منهما معاً. وقال أبو البقاء حال

ص: 463

إما من «مَنْ» الأولى على قول من رفع بالظرف.

يعني: أنه إذا جعلنا «مَنْ» في قوله: {وَلَهُ مَن فِي السماوات} مرفوعاً بالفاعلية والرافع الظرف وذلك على رأي الأخفش جاز أن يكون «لا يَسْتَكْبِرُونَ» حالاً من «مَنْ» الأولى، وإما من «من» «يَسْتَكْبِرُون» حالاً وكأنه يرى أن الحال لا يجيء من المبتدأ، وهو رأي لبعضهم. ويجوز أن يكون «لَا يَسْتَكْبِرُونَ» حالاً من الضمير المستكن في (عنده) الواقع صلة وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في «له» الواقع خبراً.

والوجه الثاني من وجهي «مَنْ» أن تكون مبتدأ و «لَا يَسْتَكْبِرُونَ» خبره، وهذه جملة معطوفة على جملة قبلها، وهل الجملة من قوله:{وَلَهُ مَن فِي السماوات} استئنافية أو معادلة لجملة قوله: «وَلَكُمُ الويل» أي لكم الويل ولله جميع العالم علويه وسفليه والأول أظهر {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} أي: لا يكلون ولا يتعبون، يقال: استحسر البعير أي: كلَّ وتَعِب قال علقمة بن عبدة:

3706 -

بِهَا جِيَفُ الحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا

فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ

ويقال: حَسِرُ البعر وحسرته أنا، فيكون لازماً ومتعدياً، وأحسرته أيضاً، فيكون فعل وأفعل بمعنى في أحد وجهي فعل.

ص: 464

قال الزمخشري: فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور. قلت: في الاستحسار بيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا فبما يفعلون.

وهو سؤال حسن وجواب مطابق. قوله: «يُسَبِّحُون» يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً من الفاعل في الجملة قبله. و «لَا يَفْتَرُون» يجوز في الاستئناف، والحال من فاعل «يُسَبِّحُون» .

فصل

دلَّت هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من ثلاثة أوجه تقدمت في البقرة. والمراد بقوله: «وَمَنْ عِنْدَهُ» هم الملائكة بالإجماع وصفهم الله تعالى بأنهم {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لَا يَفْتُرُونَ} وهذا لا يليق بالبشر، وهذه العندية عندية الشرف لا عندية المكان والجهة. روى عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: قلت لكعب: أرأيت قول الله تعالى: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لَا يَفْتُرُونَ} ثم قال: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} [فاطر: 1] أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح، وأيضاً قال:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملاائكة} [البقرة: 161] فكيف يشتغلون باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الأحبار وقال: التسبيح لهم كالتنفس لنا، فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال.

فإن قيل: هذا القياس غير صحيح، لأن الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام؛ لأن آلة التنفس غير آلة الكلام، وأما التسبيح واللعن فهما من جنس الكلام فاجتماعهما محال. فالجواب: أي استبعاد في أن يخلق الله لهم ألسنة كثيرة ببعضها يسبح الله

ص: 465

وببعضها يلعنون أعداء الله. أو يقال: معنى قوله: «لَا يَفْتَرُونَ» أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال: إن فلاناً مواظب على الجماعة لا يفتر عنها، لا يراد به أنه أبداً مشتغل بها، بل يراد به أنه مواظب على العزم على أدائها في أوقاتها.

قوله تعالى: «أمِ اتَّخَذُوا» هذه «أَمْ» المنقطعة، فتقدر ب (بل) التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي معناها الإنكار. و «اتخذ» يجوز أن يكون بمعنى (صنع) فيتعلق «مِنْ» به وجوَّز أبو حيَّان أن يكون بمعنى (صَيَّر) التي في قوله {واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] ، فقال: وفيه معنى الاصطفاء والاختيار. و «مِنَ الأرْضِ» يجوز أن يتعلق بالاتخاذ كما تقدم، وأن يتعلق بمحذوف على أنها نعت ل «ألِهَة» أي من جنس الأرض.

قوله: «هُمْ يَنْشِزُون» بضم حرف المضارعة من أنشر. وقرأ الحسن بفتحها وضم الشين يقال: أنشر الله الموتى فنشروا. ونشر لا يكون لزماً ومتعدياً. قوله: {أَمِ اتخذوا آلِهَةً} استفهام

ص: 466

بمعنى الجحد أي لم يتخذوا من الأرض يعني: الأصنام من الأرض والحجارة، وهما من الأرض، والمنكر بعد اتخاذهم آلهة من الأرض ينشرون الموتى. فإن قيل: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر، وما كانوا يدعون ذلك لآلهتهم بل كانوا في نهاية البعد عن هذه الدعوى، فإنهم كانوا مع إقرارهم بالله وأنه خالق السموات والأرض منكرين للبعث، ويقولون:

{مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] فكيف يدعون ذلك للجماد الذي لا يوصف بالقدرة البتة؟ فالجواب: أنهم لما اشتغلوا بعبادتها، ولا بد للعبادة من فائدة، وهي الثواب، فإقدامهم على عبادتهم يوجب إقرارهم بكونهم قادرين على الحشر والنشر والثواب والعقاب، فذكر ذلك على سبيل التهكم بهم، والمعنى: إذا لم يكونوا قادرين على أن يُحْيوا أو يميتوا ويضروا وينفعوا فأي عقل يجوز اتخاذهم آلهة.

وقوله: «مِنَ الأرْضِ» كقولك: فلان من مكة أو من المدينة. وقوله: «هم» يفيد معنى الخصوصية كأنه قيل: أن اتخذوا آلهة لا يقدرون على الإنشار إلا هم وحدهم.

ص: 467

قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ الله لَفَسَدَتَا} وإلا هنا صفة للنكرة قبلها بمعنى «غير» ، والإعراب فيها متعذر فجعل على ما بعدها. وللوصف بها شروط منها: تنكير الموصوف، أو قربه من النكرة بأن يكون معرفاً ب (أل) الجنسية.

ومنها أن يكون جمعاً صريحاً كالآية أو ما في قوة الجمع كقوله:

3707 -

لَوْ كَانَ غَيْرِي سُلَيْمَى الدَّهْر غَيَّرَهُ

وَقْعُ الحَوَادِثِ إِلا الصَّارِمُ الذَّكَرُ

ص: 467

ف (إلا الصارم) صفة ل «غيري» ، لأنه في معنى الجمع. ومنها: أن لا يحذف موصوفها عكس (غير)، وأنشد سيبويه على ذلك قوله:

3708 -

وَكلُّ أَخٍ مَفارِقُهُ أَخُوهُ

لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَاّ الفَرْقَدَانِ

أي: وكل أخ لك غير الفرقدين مفارقه أخوه.

وقد وقع الوصف ب «إلا» كما وقع الاستثناء ب «غير» ، والأصل في «إلا» الاستثناء وفي «غير» الصفة. ومن مُلَح الكلام الزمخشري: والعم أن (إلا) و (غير) يتقارضان. ولا يجوز أن يرتفع الجلالة على البدل. قلت لأن «لو» بمنزلة «إن» في أن الكلام معها موجب، والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى

ص: 468

{وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امرأتك} [هود: 81] وذلك لأن أعم العام يصح نفيه، ولا يصح إيجابه.

فجعل المانع صناعياً مستنداً إلى ما ذكر من عدم صحّة إيجاب أعم العام. وأحسن من هذا ما ذكره أبو البقاء من جهة المعنى قال: ولا يجوز أن يكون بدلاً، لأن المعنى يصير إلى قولك: لَوْ كَانَ فِيهِمَا الله لفسدتا ألا ترى أنك لو قلت: ما جاءني قومك إلا زيد على البدل لكان المعنى: جاءني زيد وحده.

ثم ذكر الوجه الذي رد به الزمخشري فقال: وقيل يمتنع البدل، لأن قبلها إيجاباً. ومنع أبو البقاء النصب على الاستثناء لوجهين:

أحدهما: أنه فاسد في المعنى، وذلك أنك إذا قلت: لو جاءني القوم إلا زيداً لقتلهم، كان معناه أن القتل امتنع لكون زيد مع القوم، ولو نصبت في الآية لكان المعنى: أن فساد السموات والأرض امتنع لوجود الله تعالى مع الآلهة، وفي ذلك إثبات إله مع الله. وإذا رفعت على الوصف لا يلزم مذل ذلك، لأن المعنى لو كان فيهما غير الله لفسدتا.

والوجه الاثني: أن «آلهة» هنا نكرة، والجمع إذا كان نكرة لم يستثن منه عند جماعة من المحققين، إذ لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء. وهذا الوجه

ص: 469

الذي معناه، أعني الزمخشري وأبا البقاء، قد أجاز المبرد وغيره أما المبرد فإنه قال: جاز البدل، لأن ما بعد «لو» غير موجب في المعنى والبدل في غير الموجب أحسن من الوصف.

وفي هذا نظر من جهة ما ذكره أبو البقاء من فساد المعنى:

وقال ابن الضائع تابعاً للمبرد: لا يصح المعنى عندي إلا أن تكون «إلا» في معنى (غير) التي يراد بها البدل، أي: لو كان فيهما آلهة عوض واحد، أي: بدل الواحد الذي هو الله لفسدتا، وهذا المعنى أراد سيبويه في المسألة التي جاء بها توطئة. وقال الشلوبين في مسألة سيبويه:«لو كان معنا رَجُلٌ إلَاّ زَيْدٌ لَغُلِبْنَا» إن المعنى: لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مكان زيد لغلبنا، ف «إلا) بمعنى (غير) التي بمعنى مكان. وهذا أيضاً جنوح من أبي علي إلى البدل. وما ذكره ابن الضائع من المعنى المتقدم مسوغ للبدل، وهو جواب عنا أفسد به أبو البقاء وجه البدل إذ معناه واضح، ولكنه قريب من تفسير المعنى لا من تفسير الإعراب.

فصل

المعنى لو كان يتولاهما، ويدبر أمرهما شيء غير الواحد الذي فطرهما لفسدتا ولا يجوز أن تكون» إلا «بمعنى الاستثناء، لأنها لو كانت استثناء لكان المعنى: لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله لفسدتا، وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله أن لا يحصل الفساد، وذلك باطل، لأنه لو كان فيهما آلهة فسواء كان الله معهم، أو لم

ص: 470

يكن الله معهم فالفساد لازم. ولما بطل حمله على الاستثناء ثبت ما ذكرنا. وهو أن المعنى: لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله لفسدتا، أي لخربتا، وهلك من فيهما بوجود التمانع من الآلهة، لأن كل أمر صدر عن اثنين فأكثر لم يجر على النظام. ويدل العقل على ذلك من وجوه:

الأول: أنا لو قدرنا إلهين لكان أحدهما إذا انفرد صح منه تحريك الجسم وإذا انفرد الثاني صح منه تسكينه، فإذا اجتمعا وجب أن يبقيا على ما كان عليه حال الانفراد، فعند الاجتماع يصح أن يحاول أحدهما التحريك والآخر التسكين فإما أن يحصل المرادان، وهو محال، وإما أن يمتنعا وهو أيضاً محال، لأنه يكون كل واحد منهما عاجزاً، وأيضاً المانع من تحصيل مراد كل واحد منهما مراد الآخر، والمعلول لا يحصل إلا مع علته، فلو امتنع المرادان لحصلا، وذلك محال وإما أن يمتنع أحدهما دون الثاني، وذلك أيضاً محال، لأن الممنوع يكون عاجزاً، والعاجز لا يكون إلهاً، ولأنه لما كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد لم يكن عجز أحدهما أولى من عجز الآخر، فثبت أن القول بوجود إلهين يوجب هذه الأقسام الفاسدة فكان القول به باطلاً.

الوجه الثاني: أن الإله يجب أن يكون قادراً على جميع الممكنات، فلو فرضنا الإلهين لكان كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات، فإذا أراد كل واحد منهما تحريك جسم فتلك الحركة إما أن تقع بهما معاً ولا تقع بواحد منهما أو تقع بواحد منهما أو تقع بأحدهما دون الثاني، والأول محال، لأن الأثر مع المؤثر المستقل واجب الحصول، ووجوب حصوله به يمنع من استناده إلى الاثني، فلو اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما، وغنيَّا عنهما وهو محال، وإما أن لا يقع بواحد منهما ألبتة، فهذا يقتضي كونهما عاجزين، وأيضاً فامتناع وقوه بهذا إنما يكون لأجل وقوعه بذاك وبالضد، فلو امتنع وقوعه بهما معاً وهو محال، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل، لأن وقوعه بهما لوقع بهما معاً وهو محال، وإما أن يقع بأحدهما دون الثاني فهو باطل، لأن وقوعه بهذا يلزم فيه رجحان أحد الإلهين على الآخر من غير مرجح، وهو محال.

الوجه الثالث: لو قدرنا إلهين فإما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا على الشيء الواحد فذلك الواحد مقدور لهما ومراد لهما فيلزم وقوعه بهما وهو محال، وإن اختلفا فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما، أو يقع أحدهما دون الآخر والكل محال، فثبت أن الفساد لازم على كل التقديرات.

وذكروا وجوهاً أخر عقلية وفي هذا كفاية.

ص: 471

ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال: {فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي: عما يصفه به المشركون من الشرك والولد.

فإن قيل: أي فائدة لقوله تعالى: {رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} .

فالجواب: أن هذه المناظرة وقعت مع عبدة الأصنام، وهي أنه كيف يجوز للعاقل أن يجعل الجماد الذي لا يعقل ولا يحس شريكاً في الإلهية لخالق العرش العظيم وموجد السموات والأرضين.

قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} اعلم أن أهل السنة استدلوا على أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بأمور:

أحدها: أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة كانت تلك العلة معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل، فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة، وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى، وصفاته مبرأة من الافتقار إلى المبدع المخصص، فكذا فاعليته يجب أن يجب أن تكون مقدسة عن الاستناد إلى الموجب والمؤثر.

وثانيها: أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة ممكنة، فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونها فاعلاً، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً باختيار. وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى فيفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال.

وثالثها: أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة، فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقرت إلى علة أخرى ولزم التسلسل.

ورابعها: أنه إن فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة، أو لا يكون متمكناً منه.

فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً. وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً، والعجز على الله تعالى محال، وأما العجز علينا فغير ممتنع، فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وذلك في حق الله تعالى محال.

وخامسها: لو كان فعلاً معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد، والأول محال، لأنه منزه عن النفع والضر، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وان يكون عائداً إلى العباد، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذة وعدم حصول الآلام، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير واسطة، وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء.

ص: 472

وسادسها: أن الموجودات ملكه، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له: لم فعلت ذلك؟

وسابعها: أن من قال لغيره: لم فعلت ذلك؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله، وذلك في حق الله تعالى محال، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب؟ فذلك على الله محال، وإن هذه باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضاً محال، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله: لم فعلت؟ وإنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه. وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه يجوز أن يقال: الله عالم بقبح القبيح، وعلام بكونه غنياً عنها، ومن كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله: لم فعلت هذا؟ ثم قال تعالى: «وهُمْ يُسْأَلُونَ» وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم. واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه:

أحدها: قالوا: التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك، أو حال رجحان أحدهما على الآخر، والأول محال، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح، وحال امتنع الترجيح يكون تكليفاً بالمحال. والثاني محال، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق.

وثانيها: قالوا: كل ما علم الله وقوعه فهو واجب، فيكون التكليف به عبثاً، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع، فيكوت التكليف به تكليفاً لا يطاق.

وثالثها: قالوا: سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فإن عادت إلى العبد فهو محال، لأن سؤاله لما كان سبباً للعقاب لم يكن نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرر عائد إليه. وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثاً، وهو غير جائز على الحكيم، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم.

والجواب من وجهين:

الأول: أن غرضكم من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف، وهذا متناقض.

ص: 473

والثاني: أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد، وهو أن التكاليف كلها تكليف (بما لا يطاق) فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله تعالى: لِمَ كلفت عبادك، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} ، فظهر بهذا أن قوله:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أصل لقوله: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن. فإن قيل: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} متأكد بقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وبقوله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] إلا أَنَّهُ يناقضه قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} [الرحمن: 39] .

فالجواب: أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض.

فصل

قالت المعتزلة: (فيه وجوه:

أحدها) : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما من حقه الذم، كما يحمد بما من حقه الحمد.

وثانيها: أنه يجب أن يسأل عن المأمور به إذ لا فاعل سواء.

وثالثها: أنه لا يجوز أن يسألوا عن علمهم إذ لا عمل لهم.

ورابعها: أن علمهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم.

وخامسها: أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] .

وهذا يقضي أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل، وقال:{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134] ونظائر هذه الآيات كثيرة، وكلها تدل على ان حجة العبد متوجهة على الله تعالى.

والجواب هو المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى.

ص: 474

فصل

في تعلق هذه الآية بما قبلها، وهو أن كل من أثبت الله تعالى شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى، قالوا: رأينا في العالم خيراً وشراً، ولذة وألماً، وحياة وموتاً، وصحة وسقماً، وغنى وفقراً، وفاعل خير وفاعل شر، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً (للخير والآخر للشر) ، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر. فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية. لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم.

قوله تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً} استعظام لكفرهم، وهو استفهام إنكار وتوبيخ. {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} إما من جهة العقل وإما من جهة النقل، واعلم أنه تعالى لما ذكر دليل التوحيد أولاً، وقرر الأصل، الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية أخذ يطالبهم بدليل شبهتهم. قوله:{هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} العامة على إضافة «ذِكْرُ» إلى «مَنْ» أضاف المصدر إلى مفعوله كقوله تعالى «بِسُؤَالِ نَعْجَتِك» . وقرئ «ذِكْرٌ» بالتنوين فيهما و «مَنْ» مفتوحة الميم. نوّن المصدر ونصب به المفعول (كقوله تعالى){أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] . وقرأ يحيى بن يعمر «ذِكْرٌ» بتنوينهما و «مِنْ» بكسر الميم، وفيه تأويلان:

ص: 475

أحدهما: أن ثم موصوفاً محذوفاً قامت صفته وهي الظرف مقامه، والتقدير: هذا ذكر من كتاب معي ومن كتاب قبلي.

والثاني: أن «مَعِيَ» بمعنى عندي. ودخول «من» على «مع» في الجملة نادر، لأنها ظرف لا يتصرف.

وقد ضعف أبو حاتم هذه القراءة، ولم ير لدخول «من» على «مع» وجهاً.

ووجهه بعضهم بأنه اسم هو ظرف نحو (قبل وبعد) فكما تدخل (من) على أخواته كذلك تدخل عليه. وقرأ طلحة: «ذِكْرٌ مَعِي وذِكْرٌ قَبْلِي» بتنوينهما دون (من) فيهما. وقرأ طائفة «ذِكْرُ مَنْ» بالإضافة ل «من» كالعامة {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} بتنوينه وكسر ميم «من» ووجهها واضح مما تقدم.

فصل

قال ابن عباس «هذا ذكر من معي» أي: هو الكتاب المنزل على من معي، «وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» أي: الكتاب الذي نزل على من تقدمني من الأنبياء وهذه التوراة والإنجيل والزبور والصحف. وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلهاً من دوني بل

ص: 476

ليس فيها إلا أنني أنا الله لا إله إلا أنا كما قال بعد هذا: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَاّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاا إله إِلَاّ أَنَاْ فاعبدون} . وهذا اختيار القفال والزجاجا.

وقال سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي: معناه: القرآن ذكر من معي فيه خبر من معي على ديني، ومن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وذكر خبر من قبلي من الأمم السالفة ما فعل بهم في الدنيا وما يفعل بهم في الآخرة. وقال القفال: المعنى: قل لهم: هذا الكتاب الذي جئتكم به قد اشتمل على أحوال لمن معي من المخالفين والموافقين، فاختاروا لأنفسكم، فكأن الغرض منه التهديد.

ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحق} لما طالبهم بالدلالة على ما ادعوه، وبين أنه لا دليل لهم البتة لا من جهة العقل ولا من جهة السمع، ذكر بعده أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم أصل الشر والفساد وهو عدم العلم والإعراض عن استماع الحق.

العامة على نصب «الحَقَّ» وفيه وجهان:

أظهرهما: أنه مفعول به بالفعل قبله.

والثاني: أنه مصدر مؤكد. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المنصوب أيضاً على التوكيد لمضمون الجملة لسابقة كما تقول: هذا عبد الله الحق لا الباطل فأكد انتقاء العلم. وقرأ الحسن وابن محيصن وحميد برفع وحميد برفع «الحَقُّ» وفيه وجهان:

أحدهما: أنه خبر لمبتدأ مضمر.

قال لزمخشري «وقرئ» الحَقُّ «بالرفع على توسط التوكيد بين السبب والمسبب والمعنى أن إعراضهم بسبب الجهل هو الحق لا الباطل.

ص: 477

قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} الآية. اعلم أن هذه الآية مقررة لما سبقها من آيات التوحيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم» نُوحِي «بالنون وكسر الحاء على التعظيم لقوله» «أَرْسَلْنَا» وقرأ الآخرون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول.

قوله

: {وَقَالُواْ

اتخذ

الرحمن

وَلَداً} الآية.

لما بيَّن بالدلائل القاهرة كونه منزهاً عن الشريك والضد والند أردف ذلك ببراءته عن اتخاذ الولد.

قال المفسرون: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: إنه تعالى صاهر الجن على ما حكى الله تعالى عنهم فقال: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] . ثم إنه تعالى نزه نفسه عن ذلك بقوله: «سبحانه» ، لأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد، فلو كان لله ما يشبهه من بعض الوجوه فلا بد وأن يخالفه من وجه آخر، وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيقع التركيب في ذات الله تعالى، وكل مركب ممكن، فاتخذاه للولد يدل على كونه ممكناً غير واجب، وذلك يخرجه عن حد الإلهية ويدخله في حد العبودية، فلذلك نزه نفسه. قوله:«بَلْ عِبَادٌ» «عِبَاد» خبر مبتدأ مضمر، أي هم عباد، و «مُكْرَمُونَ» في قراءة العامة مخفف، وقراءة عكرمة مشدد و «لا يَسْبِقُونَهُ» جملة في محل رفع صفة ل «عباد» والعامة على كسر الباء في «يَسْبِقُونَهُ» وقرئ بضمها وخرجت على أنه مضارع سَبَقَهُ، أي: غلبه في السبق، يقال: سابقه فَسَبَقَه يَسْبُقُه أي: غلبه في السبق، ومضارع فعل في المغالبة مضموم العين مطلقاً إلا في يائيّ العين أو لامه والمراد لا يسبقونه بقوله، فعوض الألف واللام عن

ص: 478

الضمير عند الكوفيين، والضمير محذوف عند البصريين أي: بالقول منه.

فصل

لما نزه تعالى نفسه أخبر عنهم بأنهم عباد، والعبودية تنافي الولادة إلا أنهم مكرمون مفضلون على سائر العباد لا يسبق قولهم قوله، وإن كان قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً مبني على أمره لا يعلمون عملاً ما لم يؤمروا به ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى السبب لهذه الطاعة فقال:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} والمعنى أنهم لما علموا كونه سبحانه عالماً بجميع المعلومات علموا كونه عالماً بظواهرهم وبواطنهم، فكان ذلك داعياً لهم إلى نهاية الخضوع وكما لالعبودية. قال ابن عباس: يعلم ما قدموا وأخروا من أعمالهم. وقال مقاتل: بعلم ما كان قبل ان يخلقهم، وما يكون بعد خلقهم.

وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآخرة، «وَمَا خَلْفَهُمْ» الدنيا. وقيل بالعكس ثم قال:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن هو عند الله مرضي. قاله مجاهد، وقال ابن عباس: لمن قال لا إله إلا الله. {وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ} أي: من خشيتهم منه، فأضيف المصدر إلى مفعوله. «مُشْفقُونَ» خائفون لا يأمنون من مكره، ونظيره قوله تعالى {لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38] .

«وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -» أنه رأى جبريل -

ص: 479

عليه السلام - ليلة المعراج ساقطاً كالحلس من خشية الله «.

قوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ} .

قال قتادة: عنى إبليس حيث دعا إلى عبادة نفسه وأمر بطاعة نفسه فإن أحداً من الملائكة لم يقل إني إلهٌ من دون الله.

والآية لا تدل على أنهم قالوا ذلك أو ما قالوه، وهذا قريب من قوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] قوله:» فذلك نجزيه «يجوز في» ذلك «وجهان:

أحدهما: أنه مرفوع بالابتداء، وهذا وجه حسن.

والثاني: أنه منصوب بفعل مقدر يفسره هذا الظاهر، والمسألة من باب الاشتغال، وفي هذا الوجه إضمار عامل مع الاستغناء عنه، فهو مرجوح.

والفاء وما في حيزها في موضع جزم جواباً للشرط.

و» كذلك «نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر أي جزاء مثل ذلك الجزاء، أو نجزي الجزاء حال كونه مثل ذلك.

وقرأ العامة» نَجْزِيه «بفتح النون، وأبو عبد الرحمن المقرئ بضمها، ووجهها أنه من أجزأ بالهمز من أجزائي كذا، أي: كفاني، ثم خففت الهمزة فانقلبت إلى الياء.

ص: 480

فصل

احتجت المعتزلة بقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارتضى} على أن الشفاعة في الآخرة لا تكون لأهل الكبائر، لأنه لا يقال في أهل الكبائر: إن الله يرتضيهم.

والجواب: قول ابن عباس والضحاك: أن معنى {إِلَاّ لِمَنِ ارتضى} أي لمن قال: لا إله إلا اله. وهذه الآية من أقوى الدلائل في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، وهو أن من قال لا إله إلا اله فقد ارتضاه الله في ذلك، ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله في ذلك (فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله) وإذا ثبت الله سبحانه قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على ما قرره ابن عباس.

فصل

دلَّت الآية على أن الملائكة مكلفون لقوله: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} ، وعلى أن الملائكة معصومون. قوله:{كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} قال القاضي عبد الجبار: هذا يدل على أن كل ظالم يجزيه الله جهنم، كما توعد الملائكة به، وذلك يوجب القطع بأنه تعالى لا يغفر الكبائر في الآخرة. وأجيب بأن أقصى ما فيه أن هذا العموم مشعر بالوعيد، وهو معارض بعمومات الوعد.

والمراد ب» الظَّالِمينَ «الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.

ص: 481

قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا} الآيات. اعلم أنه تعالى شرع الآن في الدلائل الدالة على وجود الصانع، وعلى كونه منزهاً عن الشريك، وعلى التوحيد، فتكون

ص: 481

كالتوكيد لما تقدم، لأنها دالة على حصول الترتيب العجيب في العالم، ووجود إلهين يقتضي وقوع الفساد. وفيه رَدٌّ على عبدة الأوثان من حيث أن الإله القادر على مثل هذه المخلوقات العظيمة، كيف يجوز في العقل أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر لا يضر ولا ينفع؟ فهذا وجه النظم. قرأ ابن كثير «أَلَمْ يَرَ» من غير واو، والباقون بالواو. ونظير حذف الواو وإثباتها هنا ما تقدم في البقرة وآل عمران في قوله:{قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116]{سارعوا إلى مَغْفِرَةٍ} [آل عمران: 133] ، وقد تقدم حكمه، وإدخال الواو يدل على العطف على آخر تقدمه. والرؤية هنا يجوز أن تكون قلبية، وأن تكون بصرية. ف «أَنَّ» وخبرها سادة مسد مفعولين عند الجمهور على الأول، ومسد واحد والثاني محذوف عند الأخفش. وسادة مسد واحد قط على الثاني. فإن قيل: إن كان المراد بالرؤية البصرية فمشكل، لأن القوم ما رأوهم كذلك ألبتة، ولقوله تعالى:{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض} [الكهف: 51] . وإن كان المراد بالرؤية العلم فمشكل، لأن الأجسام قابلة للفتق والرتق في أنفسها فالحكم عليها بالرتق أولاً وبالفتق ثانياً لا

ص: 482

سبيل إليه إلا بالسمع والمناظرة مع الكفار المنكرين للرسالة، فكيف يجوز مثل هذا الاستدلال.

فالجواب: المراد من الرؤية العلم، وما ذكروه من السؤال فدفعه من وجوه:

أحدها: أنا نثبت نبوة محمد عليه السلام بسائر المعجزات، قم نستدل بقوله، ثم نجعله دليلاً على حصول النظام في العالم، وانتفاء الفساد عنه، وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد.

وثانيها: أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق، والعقل يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصاً.

وثالثها: أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك، فإنه جاء في التوراة أن الله تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إيها بعين إلهية، فصارت ماء، ثم خلق السموات والأرض منها، وفتق بينهما، وكان بين اليهود وعبدة الأوثان نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم َ -، فاحتج الله عليهم بهذه الحجة على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.

قوله: «كَانَتَا» الضمير يعود على «السَّمواتِ والأَرضَ» بلفظ التثنية والمتقدم جمع وفي ذلك أوجه:

أحدها: ما ذكره الزمخشري فقال: وإنما قال «كَانَتَا» دون كُنَّ، لأن المراد جماعة السموات وجماعة الأرضين، ومنه قولهم: لقاحان سوداوان، أي: جماعتان، فعل في المضمر ما فعل في المظهر.

الثاني: قال أبو البقاء: الضمير يعود على الجنسين.

الثالث: قال الحوفي: «كَانَتَا رَتْقَاً» ، و «السَّمواتِ» جمع، لأنه أراد الصنفين. قال الأسود بن يعفر:

ص: 483

3709 -

إِنَّ المَنِيَّةَ وَالخَوْفَ كِلَاهُمَا

يُوفِي المخَارِمَ يَرْقُبَان سَوَادِي

لأنه أراد الوعين. وتبعه ابن عطية في هذا فقال: وقال: «كَانَتَا» من حيث هما نوعان ونحوه قول عمرو بن شُيَيْم:

3710 -

أَلَمْ يَحْزُنْكَ أن حِبَالَ قَيْسٍ

وتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعَاً

قال الأخفش: «السَّموات» نوع، والأرض نوع، ومثله:{إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولَا} [فاطر: 41] . ومن ذلك: أصلحنا بين القومين، ومرت بنا غنمان أسودان، لأن هذا القطيع غنم، و «رَتْقَاً» خبر، ولم يثن لأنه في الأصل مصدر، ثم لك أن تجعله قائماً مقام المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق أو تجعله على حذف مضاف أي: ذواتي رتق. وهذه قراءة الجمهور. وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رَتَقاً» بفتح التاء وفيه وجهان:

ص: 484

أحدهما: أنه مصدر أيضاً، ففيه الوجاهن المتقدمان في الساكن التاء.

والثاني: أنه فعل بمعنى مفعول كالقَبض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنقوض، وعلى هذا فكان ينبغي أن يطابق مخبره في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال: هو تقدير موصوف، أي: كانتا شيئاً رتقاً.

وقال المفضل: لم يقل: كانتا رتقين كقوله: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لَاّ يَأْكُلُونَ الطعام} [الأنبياء: 8] وحدّ «جسداً» كذلك ما نحن فيه كل واحد رتق.

ورجح بعضهم المصدرية بعدم المطابقة في التثنية، وقد عرف جوابه وله أن يقول: الأصل عدم حذف الموصوف، فلا يصار إليه دون ضرورة والرتق: الانضمام، ارتتق حلفه أي: انضم، وامرأة رتقاء أي: منسدة الفرج فلم يمكن جماعها من ذلك. والفتق: فصل ذلك المرتتق. وهو من أحسن البديع هنا حيث قابل الرتق بالفتق.

فصل

قال ابن عبَّاس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: كانتا شيءاً واحداً ملتزمين ففصل الله بينهما، ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء، لأنه تعالى لما فصل بينهما جعل الأرض حيث هي، وأصعد الأجزاء السماوية. قال كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحاً توسطتهما ففتقتهما. وقال مجاهد والسدي: كانت السموات مرتتقة طبقة واحدة

ص: 485

ففتقها فجعلها سبع سموات، وكذلك الأرض مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين. وقال ابن عباس في رواية عطاء وأكثر المفسرين: إن السموات كانت رتقاً مستوية صلبة لا تمطر، والأرض رتقاً لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات، ونظيره قوله تعالى:{والسمآء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11، 12] ورجحوا ذلك الوجه بقوله بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، وهو ما ذكرنا فإن قيل: هذا الوجه مرجوح، لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة، وهي سماء الدنيا.

فالجواب: إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق، وبُرْمَة أَعْشَار. وعلى هذا التأويل فتحمل الرؤية على الإبصار. وقال أبو مسلم: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله: {فَاطِرِ السماوات والأرض} ، وكقوله:{بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق، وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.

وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات وأعيان متباينة بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها من بعض، وينفصل بعضها عن بعض.

فبهذا الطريق يحسن جعل الرتق مجازاً عن العدم، والفتق عن الوجود.

وقيل: إن الليل سابق النهار لقوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] فكانت السموات والأرض مظلمة أولاً ففتقها الله بإظهار النهار المبصر. واعلم أن دلالة هذه

ص: 486

الوجوه على إثبات الصانع ووحدانيته ظاهرة لأن أحداً لا يقدر على مثل ذلك. قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يجوز في «جَعَلَ» هذه أن يكون بمعنى «خَلَقَ» فيتعدى لواحد، وهو {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} و «من الماء» متعلق بالفعل قبله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه من «كُلَّ شَيْءٍ» لأنه في الأصل يجوز أن يكون وصفاً له فلما قدم عليه نصب على الحال. ومعنى خلقه من الماء: أحد شيئين: إما شدة احتياج كل حيوان للماء فلا يعيش بدونه، وإما لأنه مخلوق من النطفة التي تسمى ماء. ويجوز أن يكون (جَعَلَ) بمعنى (صَيَّرَ) فيتعدى رثنين ثانيهما الجار بمعنى أنا صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. والعامة على خفض «حَيٍّ» صفة لشيء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعول ثان ل «جعلنا» والظرف لغو، ويبعد على هذه القراءة أن يكون «جَعَلَ» بمعنى (خلق) ، وأن ينتصب «حياً» على الحال.

قال الزمخشري: و «مِنْ» في هذا نحو «مِنْ» في قوله عليه السلام «ما أنا مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّدُ مِنَّي»

فإن قيل: كيف قال: خلقنا من الماء كل حيوان، وقد قال:{والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27]، وقال عليه السلام:«إن الله تعالى خلق الملائكة من النور» ، وقال في عيسى:{وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ} [المائدة: 110]، وقال في حق آدم:{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] فالجواب: اللفظ وإن كان عاماً

ص: 487

إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الجليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود، وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك.

فصل

قال بعض المفسرين: المراد بقوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} الحيوان فقط. وقال آخرون: بل يدخل فيه النبات، لأنه من الماء صار نامياً، وصار فيه الرطوبة والخضرة والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمقصود، لأن المعنى كأنه قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً. فإن قيل: النبات لا يسمى حياً. فالجواب: لا نسلم، ويدل عليه قوله تعالى {كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} [الروم: 50] . ثم قال {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} والمعنى أفلا يؤمنون بأن يتدبروا هذه الأدلة فيعملوا بها ويتركوا طريقة الشرك.

قوله: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} الرواسي الجبال، والراسي: هو الداخل في الأرض. قوله: «أنْ تَمِيدَ» مفعول من أجله، أي: أن لا تميد، فحذفت «لا» لفهم المعنى كما زيدت في {لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] ، أو كراهة أن تميد وقدره أبو البقاء فقال: مخافة أن تميد وفيه نظر، لأنا إن جعلنا المخافة مسندة إلى المخاطبين اختل شرط من شروط النصب في المفعول وهو اتحاد الفاعل. وإن جعلناها مسندة لفاعل الجعل استحال ذلك، لأنه تعالى لا يسند إليه الخوف. وقد يقال يختار أن يسند المخافة إلى المخاطبين، وقولكم يختل شرط من شروط النصب جوابه: أنه ليس بمنصوب بل مجرور بحرف الجر المقدر، وحذف حرف الجر مطرد مع أنَّ وأَنْ بشرطه.

ص: 488

فصل

قال ابن عباس: إن الأرض بسطت على الماء فكانت تكفأ بأهلها السفينة فأرساها الله بالجبال الثقال. قوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً} وجهان:

أحدهما: أنه (مفعول به) و «سُبُلاً» بدل منه.

والثاني: أنه منصوب على الحال من «سُبُلاً» ، لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب كقوله:

3711 -

لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ

يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ

ويدل على ذلك مجيئه صفة في قوله تعالى {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 20] .

وقال الزمخشري: فإن قلت: في الفجاج معنى الوصف فما لها قدمت على السبل ولم تؤخر كقوله تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 20]، قلت: لم تقدم وهي صفة، ولكن جعلت حالاً كقوله:

3712 -

لعزَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ قَدِيمُ

ص: 489

فإن قلت: ما الفرق بينهما من جهة المعنى؟ قُلْتُ: أحدهما: إعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة، والثاني: أنه حين خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثمة. قال أبو حيان: يعني بالإبهام أن الوصف لا يلزم أن يكون الموصوف متصفاً به حالة الإخبار عنه، وإن كان الأكثر قيامه به حالة الإخبار عنه، ألا ترى أنه يقال: مررت بوحشيّ القاتل حمزة، وحالة المرور لم يمن قائماً به قتل حمزة. والفَجُّ الطَّرِيقُ الوَاسِعُ، والجمع الفِجَاج. والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على الأرض وهو الظاهر كقوله

{والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح: 19، 20] . وأن يعود على الرواسي، يعني أنه جعل في الجبال طرقاً واسعة وهو قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس وعن ابن عمر قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق الله قوم نوح فرّقها فجاجاً وجعل فيها طرقاً. وقوله {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي لكي يهتدوا إذ الشك لا يجوز على الله. والمعنى: ليهتدوا إلى البلاد. وقيل: ليهتدوا إلى وحدانية الله بالاستدلال قالت المعتزلة: وهذا يدل على أنه تعالى أراد من جميع المكلفين الاهتداء وقد تقدم.

وقيل: الاهتداء إلى البلاد والاهتداء إلى وحدانية الله تعالى يشتركان في أصل الاهتداء، فيحمل اللفظ على ذلك المشترك مستعملاً في مفهوميه معاً. قوله:{وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} سميت سقفاً، لأنها كالسقف للبيت، ومعنى «محفوظاً» أي: محفوظاً من الوقوع كقوله: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} [الحج: 65] . وقيل: محفوظاً من الشياطين.

قوله: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا} جملة استئنافية، ويضعف جعلها حالاً مقدرة. وقرأ مجاهد وحميد «عَنْ آيَتِهَا» بلفظ الإفراد.

دعا الخلق آية وهي مشتملة على آيات، أو أطلق الواحد وأراد به الجنس

ص: 490

والمعنى: أن الكفار معرضون عما خلق في السماء من الشمس والقمر والاستيضاء بنوريهما، والنجوم والاهتداء بها، وحياة الأرض بأمطارها، وعن كونها آية بينة على وجود الصانع ووحدانيته لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. قوله:{وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي: كل منهما من الشمس والقمر أو منها أي من اليل والنهار والشمس والقمر. و «يَسْبَحُون» يجوز أن يكون خبر «كُلٌّ» على المعنى، و «في فَلَكٍ» متعلق به. ويجوز أن يكون حالاً والخبر «في فَلَكٍ» . وكون المضاف إليه يجوز أن يقدر بالأربعة الأشياء المذكورة ذكره أبو البقاء ولم يذكر غيره، إلا أن المضاف إليه (الشَّمْس والقَمَر) وهو الظاهر، لأن السباحة من صفتهما دون (اللَّيلِ والنَّهَارِ) ، وعلى هذا فيتعذر عن الإتيان بضمير الجمع، وعن كونه جمع من يعقل، أما الأول فقيل: إنما جمع، لأن ثم معطوفاً محذوفاً تقديره: والنجوم كما دلت عليه آيات أخر، فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة يعود هذا الضمير إليها.

وقال الزمخشري: الضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع مل يوم وليلة جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار. انتهى. والذي حسن ذلك كوته رأس آية. وقال أبو البقاء: و «يسبحون» على هذا الوجه حال، والخبر «في فَلَكٍ» . وقيل: التقدير: وكلها، والخبر «يَسْبَحُونَ» وأتى بضمير الجمع على معنى «كل» .

وفي هذا الكلام نظر من حيث أنه لما جوز أن يكون المضاف إليه شيئين جعل الخبر الجار و «يَسْبَحُونَ» حالاً فراراً من عدم مطابقة الخبر للمبتدأ، فوقع في تخالف الحال وصاحبها.

وأما الثاني فلأنه لمَّا أسند إليها السباحة التي هي من أفعال العقلاء جمعها جمع

ص: 491

العقلاء كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] .

قال الزمخشري: والتنوين في «كل» عوض عن المضاف إليه أي: كلهم. {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وهذه الجملة يجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «الشمس والقمر» . فإن قلنا: إن السباحة تنسب إلى الليل والنهار كما نقل عن أبي البقاء في أحد الوجهين يكون حالاً من الجميع، وإن كان لا يصح نسبتها إليهما كانت حالاً من «الشمس والقمر» وتأويل الجمع قد تقدم. قال أبو حيان: أو محلها النصب على الحال من «الشمس والقمر» لأن الليل والنهار لا يصفان بأنهما يجريان في فَلَكٍ فهو كقولك: رأيت هنداً وزيداً (متبرجة) . انتهى. وسبقه إلى هذا الزمخشري، يعني أنه قد دل على أن الحال من بعض ما تقدم كما في المثال المذكور، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: لكل واحد من القمرين فَلَكٌ على حدة فكيف قال: {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} . قُلْت: هذا كقولهم: كساهم الأمير حلة وقلدهم سيفاً أي: كل واحد منهم. والسباحة العوم في الماء، وثد يعبر عن مطلق الذهاب وقد تقدم اشتقاقه في «سُبْحَانَكَ» .

ومعنى «يُسَبِّحُونَ» يسيرون بسرعة كالسابح في الماء.

ص: 492

فصل

اعلم أن للكواكب حركتين الأولى: مجمع عليها وهي حركتها من المشرق إلى المغرب. والحركة الثانية: قالت الفلاسفة وأصحاب الهيئة: إن للكواكب حركة أخرى من المشرق إلى المغرب، قالوا: وهي ظاهرة في السبعة السيارة خفية في الثابتة، واستدلوا بأنا وجدنا الكواكب السيارة كل ما كان منها أسرع حركة إذا قارن ما هو أبطأ حركة منه تقدمه نحو المشرق. وهذا في القمر ظاهر جداً، فإنه يظهر بعد الاجتماع بيوم أو يومين من ناحية المغرب على بعد من الشمس، ثم يزداد كل ليلة بعداً منها إلى أن يقابلها وكل كوكب كان شرقياً منه على طريقه على ممر البروج يزداد كل ليلة قرباً منه، ثم إذا أدركه ستره بطرفه الشرقي، وينكشف ذلك الكوكب بطرفه الغربي. فعلمنا أن لهذه الكواكب السيارة حركة من المغرب إلى المشرق. وأجيبوا: بأن ذلك محال، لأن الشمس مثلاً إذا كانت متحركة بذاتها من المغرب إلى المشرق حركة بطيئة، وهي متحركة بسبب الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب لزم كون الجرم الواحد متحركاً حركتين إلى جهتين مختلفتين دفعة واحدة، وذلك محال، لأن التحرك إلى جهة يقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها، فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين، وهو محال.

قالوا: ما ذكرتموه ينتقض بما إذا دارت الرحى إلى جانب والنملة التي تكون عليها متحركة على خلاف ذلك الجانب. وللكلام في هذه المسألة مكان غير هذا.

فصل

والفَلَكُ مدار النجوم، والفَلَكُ في كلام العرب كل مستدير وجمعه أَفْلَاك، ومنه فلك المغزل. قال الضحاك: الفلك ليس بجسم، وإنما هو مدار هذه النجوم. وقال الكلبي: الفلك استدارة السماء. وقال بعضهم: الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه. وقيل: ماء مجموع تجري فيه الكواكب. واحتجوا

ص: 493

بأن السباحة لا تكون إلا في الماء. وأجيبوا بالمنع، فإنه يقال في الفرس الذي يمدّ يديه في الجري «سابح.

وقال الحسن: الفلك طاحونة كهيئة فلكة المغزل.

وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة: الأفلاك أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول. واختلف الناس في حركات الكواكب، فقال بعضهم: الفلك ساكن والكواكب تتحرك فيه كحركة السمكة في الماء، وقال آخرون: الفلك متحرك، والكواكب تتحرك فيه أيضاً إما مخالفاً لجهة حركته، أو موافقاً لجهته إما بحركة مساوية لحركة الفلك في السرعة والبطء أو مخالفة.

وقيل: الفلك متحرك والكواكب مغزورة فيه. أما الأول فقالت فذلك أيضاً يوجب الخرق، وإن كانت حركتها إلى جهة حركة الفلك فإن كانت مخالفة لها في السرعة والبطء لزم الانخراق، وإن استويا في الجهة والسرعة والبطء فالخرق أيضاً لازم، لأن الكوكب يتحرك بالعرض بسبب حركة الفلك فتبقى حركته الذاتية زائدة فيلزم الخرق. فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أن يكون الكوكب مغزوراً في الفلك، والفلك يتحرك، فيتحرك الكوكب بسبب حركة الفلك. واعلم أن مدار هذا الكلام على أن امتناع الخرق على الأفلاك باطلن بل الحق أن الأقسام الثلاثة ممكنة، والله تعالى قادر على كل الممكنات والذي دل عليه لفظ القرآن أن الأفلاك ثابتة والكواكب جارية كما تسبح السمكة في الماء.

فصل

احتج ابن سينا على كون الكواكب أحياء ناطقة بقوله» يَسْبَحُونَ «قال: والجمع

ص: 494

بالواو والنون لا يكون للعقلاء، وبقوله تعالى:{والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] .

والجواب إنما أتى بضمير العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.

ص: 495

قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} الآية. لما استدل بالأشياء المذكورة، وهي من أصول النعم الدنيوية أتبعه بما يدل على أن هذه الدنيا أمرها كذلك يبقى ولا يدوم، وإنما خلقها سبحانه وتعالى للابتلاء والامتحان، وليتوصل بها إلى دار الخلود فقال:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} .

قال مقاتل: إن ناساً كانوا يقولون: إن محمداً لا يكون فنزلت هذه الآية.

وقيل: كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون به في قولهم: نتربص بمحمد ريب المنون، فنفى الله عنه الشماتة بهذه الآية فقال:{أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} قضى الله تعالى أن لا يخلد في الدنيا بشراً لا أنت ولا هم، وفي هذا المعنى قول القائل:

3713 -

فَقُلْ للشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا

سيلقى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

وقيل: يحتمل أنه لما أظهر أنه عليه السلام خاتم الأنبياء، وجاز أن يقدم مقدر أنه لا يموت إذ لو مات لتغير شرعه، فنبه الله تعالى على أنه حاله كحال غيره من الأنبياء عليهم السلام في الموت.

ص: 495

قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ} تقدم نظيره في آل عمران عند قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه، وهو أنه إذا اجتمع شرط واستفهام أجيب الشرط، فتكون الآية قد دخلت فيها همزة الاستفهام على جملة الشرط، وليست مصبًّا للاستفهام، وزعم يونس أن الاستفهام منصب على الجملة المقترنة بالفاء، وأن الشرط معترض بين الاستفهام وبينها، وجوابه محذوف. وليس بشيء إذ لو كان كما قال لكان التركيب: أفإن مت هم الخالدون بغير فاء. وكان ابن عطية ينحى منحى يونس فإنه قال: وألف استفهام داخلة في المعنى على جواب الشرط.

قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} هذا العموم مخصوص فإن له تعالى نفساً لقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] مع الموت لا يجوز عليه.

قال ابن الخطيب: وكذا الجمادات لها نفوس، وهي لا تموت، والعام المخصوص حجة فيبقى معمولاً به فيما عدا هذه الأشياء، وذلك يبطل قول الفلاسفة في أن الأرواح البشرية والعقول والنفوس الفلكية لا تموت. واعلم أن الذوق ها هنا لا يمكن إجراؤه على ظاهره، لأن الموت ليس من جنس المطعوم حتى يذاق، بل الذوق إذ ذاك خاص، فيجوز جعله مجازاً عن اصل الإدراك.

وأما الموت فالمراد منه هنا مقدماته من الآلام العظيمة، لأن الموت قبل دخوله في الوجود يمتنع إدراكه، وحال وجوده يصير الشخص ميتاً، والميت لا يدرك شيئاً والإضافة

ص: 496

في {ذَآئِقَةُ الموت} في تقدير الانفصال، لأنه لما يستقبل، كقوله:{غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} [المائدة: 1] و {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] .

قوله: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير} «نَبْلُوكُمْ» نختبركم «بالشَّر والخَيْرِ» بالشدة والرخاء، والصحة والسقم والغنى والفقر.

وقيل: بما تحبون وما تكرهون لكي يشكر على المنح ويصبر على المحن، فيعظم ثوابه إذا قام بما يلزم. وإنما سمي ذلك ابتلاء وهو عالم بما يكون من أعمال العالمين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار. قوله:«فِتْنَةً» في نصبه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه مفعول من أجله.

الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، أي فاتنين.

الثالث: أنه مصدر من معنى العامل لا من لفظه، لأن الابتلاء فتنة، فكأنه قيل: نفتنكم فتنة. ثم قال: «وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ» أي: إلى حكمه ومحاسبته ومجازاته بيّن بذلك بطلان قولهم في نفي البعث والمعاد. وقرأ العامة «ترجعون» بتاء الخطاب مبنياً للمفعول. وغيرهم بياء الغيبة على الالتفات.

ص: 497

قوله: {وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً} المعنى: ما يتخذونك إلا هزواً، وهذا رجوع إلى تهجين كفرهم. قال السدي ومقاتل:«نزلت في أبي جهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم َ - وكان أبو سفيان مع أبي جهل، لأبي سفيان: هذا نبيّ عبد مناف، فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبياً في بني عبد مناف. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - قولهما فقال لأبي جهل» ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلته رحمة «فنزلت هذه الآية. فوله:» إنْ يَتَّخِذونَك «» إنْ «هنا نافية، وهي وما في حيزها جواب الشرط بإذا. و» إذا «مخالفة لأدوات الشرط في ذلك، فإن أدوات الشرط متى أجيبت ب (إن) النافية أو ب (ما) النافية وجب الإتيان بالفاء تقول: إن أتيتني فإن أهنتك، أو فما أهنتك، وتقول: إذا أتيتني ما أهنتك بغير فاء يدل له قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَاّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] و» اتخذ «هنا متعد لاثنين و» هُزُواً «هو الثاني إما على حذف مضاف، وإما على الوصف بالمصدر مبالغة، وإما على وقوعه موقع اسم المفعول.

وفي جواب» إذَا «قولان:

أحدهما: أنه» إِنْ «النافية وقد تقدم.

والثاني: أنه محذوف، وهو القول الذي قد حكي به الجملة الاستفهامية في قوله {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} إذ التقدير: وإذا رآك الذين كفروا يقولون أهذا الذي، وتكون الجملة المنفية معترضة بين الشرط وبين جوابه المقدر.

قوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ} » هُمْ «الأولى مبتدأ مخبر عنه ب» كَافِرُونَ «، و» بِذِكْرِ «متعلق بالخبر، والتقدير: وهم كافرون بذكر، و» هُمْ «الثانية تأكيد للأول تأكيداً لفظياً، فوقع الفصل بين العامل ومعموله بالمؤكد، وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول.

وفي هذه الجملة قولان:

أحدهما: أنها في محل نصب على الحال من فاعل القول المقدر، أي: يقولون ذلك وهم على هذه الحالة.

ص: 498

والثاني: أنها حال من فاعل «يتخذونك» ، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: والجملة في موضع الحال، أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله.

فصل

والمعنى: أنهم يعيبون عليه كونه يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء مع أنهم بذكر الرحمن المنعم عليهم الخالق المحيي المميت كافرون، ولا فعل أقبح من ذلك فيكون الهزؤ واللعن والذم عليهم من حيث لا يشعرون. ويحتمل أن يراد «بذكر الرحمن» القرآن. ومعنى إعادة «وهم» أن الأولى إشارة إلى القوم الذين كانوا يفعلون ذلك الفعل، والثانية إبانة لاختصاصهم به، وأيضاً فإن في إعادتها تأكيداً وتعظيماً لفعلهم.

ص: 499

قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} الآية. في المراد بالإنسان قولان:

أحدهما: أنه النوع، وذلك أنهم كانوا يستعجلون العذاب {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} . (والمعنى أن ينبته من العجلة وعليها طبع كما قال:{وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] . فإن قيل: مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله: {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} ؟

فالجواب أنه تعالى نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة مرغوب فيها.

القول الثاني: أن المراد بالإنسان شخص معين، فقال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث.

ص: 499

وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك: المراد آدم عليه السلام. وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم قال: خلق آدم بعد كل شيء من آخر نهار يوم الجمعة، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل:{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} والقول الأول أولى، لأن الغرض ذم القوم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع. قوله:«من عجل» فيه قولان:

أحدهما: أنه من باب القلب، والأصل: خُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ لشدة صدوره منه وملازمته له وإلى هذا ذهب أبو عمرو، ويؤيده قراءة عبد الله:«وَخُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ» . والقلب موجود في كلامهم قال الشاعر:

3714 -

حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّرْبَالِ آخذُهُ

يريد: حسرت السربال عن كفي.

ومثله في الكلام: إذا طلعت الشِّعرى استوى العود على الحِرْبَاء وقالوا: عرضت الناقة على الحوض، وتقدم منه أمثلة إلا أن بعضهم يخصه بالضرورة وتقدم فيه ثلاثة مذاهب.

والثاني: أنه لا قلب فيه، وفيه ثلاث تأويلات أحسنها أن ذلك على المبالغة

ص: 500

جعل ذات الإنسان كأنها خلقت من نفس العجلة دلالة على شدة اتصاف الإنسان بها، وأنها مادته التي أخذ منها كما قيل للرجل الذي هو حاد: نار تشعل العرب قد تسمى المرء بما يكثر منه، فتقول: ما أنت إلا أكل ونوم، وما هو إلا إقبال وإدبار، قال الشاعر:

3715 -

تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حتى إذَا ادَّكَرَتْ

فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ

ويتأكد هذا بقوله: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} [الإسراء: 11] .

قال المبرد: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي من شأنه العجلة كقوله {خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} [الروم: 54] أي: ضُعَفَاء. ومثله في المبالغة من جانب النفي قوله عليه السلام: «لست من الدَّدِ وَلَا الدِّدُ مِنِّي» ، والدُّدُ: اللعب، وفيه لغات: دَدٌ محذوف اللام ودَدَا مقصوراً كعصا، ودَدَنٌ بالنون. وألفه في إحدى لغاته مجهولة الأصل لا يدري أهي عن ياء أو واو. وقيل:{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} أي بسرعة، وتعجيل من غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم أنشأناه خلقاً آخر.

وقال أبو عبيدة: العَجَل الطين بلغة حمير قال شاعرهم:

3716 -

والنَّبْعُ في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبِتُهُ

والنَّخْلُ يَنْبِتُ بَيْنَ المَاءِ وَالعَجَلِ

قال الزمخشري بعد إنشاده عجز هذا البيت: والله أعلم بصحته.

قال شهاب الدين: وهو معذور. وهذا الجار يحتمل تعلقه ب «خُلِقَ» على

ص: 501

المجاز أو الحقيقة المتقدمتين. وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال كأنه قال: خلق الإنسان عجلاً. قاله أبو البقاء. وقرأ العامة «خُلِقَ» مبينياً للمفعول «الإنسان» مرفوعاً لقيامه مقام الفاعل. وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم «خَلَقَ» مبنياً للفاعل «الإنسان» نصباً مفعولاً به. فإن قيل: القوم استعجلوا الوعيد على وجه التكذيب، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة.

فالجواب: أن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت، وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين حقيقة.

قوله: {سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي} مواعيدي؛ قيل: هي الهلاك المعجل في الدنيا والآخرة، ولذلك قال {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} أي أنه سيأتي لا محالة في وقته، فلا تطلبوا العذاب قبل وقته، فأراهم يوم بدر. وقيل: كانوا يستعجلون القيامة. وقيل: الآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: كانوا يستعجلون القيامة. وقيل: الآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: الآيات آثار القرون الماضية بالشام واليمن. قوله: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} هذا هو الاستعجال المذموم على سبيل الاستهزاء، وهو كقوله:{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم.

قوله: «مَتَى هَذَا» «مَتَى» خبر مقدم، فهي في محل رفع. وزعم بعض الكوفيين أنها في محل نصب على الظرف، والعامل فيها فعل مقدر ل «هَذَا» التقدير: متى يجيء هذا الوعد، أو متى يأتي ونحوه والأول أشهر.

قوله: «لو يعلم» جوابها مقدر، لأنه أبلغ في الوعيد فقدره الزمخشري: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم هو الذي هونه

ص: 502

عندهم وقدره ابن عطية: لما استعجلوا. وقدره الحوفي: لسارعوا. وقدره غيره: لعلموا صحة البعث. وقال البغوي: لما أقاموا على كفرهم، ولما استعجلوا بقولهم {متى هذا الوعد} .

و «حين» مفعول به لعلموا، وليس منصوباً على الظرف، أي: لو يعلمون وقت عدم كف النار. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون «يعلم» متروكاً بلا تعدية بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين، و «حين» منصوب بمضمر أي حين {لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار} يعلمون أنهم كانوا على الباطل. وعلى هذا ف «حين» منصوب على الظرف، لأنه جعل مفعول العلم أنهم كانوا.

وقال أبو حيان: والظاهر أن مفعول «يَعْلَمُ) محذوف لدلالة ما قبله، أي: لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعد الذي سألوا عنه واستبطأوه، و» حِينَ «منصوب بالمفعول الذي هوة مجيء، ويجوز أن يكون من باب الإعمال على حذف مضاف، وأعمل الثاني، والمعنى: لو يعلمون مباشرة النار حيت لا يكفونها عن وجوههم.

فصل

ثم إنه تعالى ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وجهين: الأول: أنه بيَّن ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} أي: لو يعلمون الوقت الذي يسألون عنه بقولهم» مَتَى هَذَا الوَعْدُ «وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من قدّام ومن خلف، فلا يقدرون على دفعها عن أنفسهم، ولا يجدون ناصراً ينصرهم كقوله:{فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} [غافر: 29] . وإنما خص الوجوه والظهور، لأن مس العذاب لها أعظم موقعاً.

قال بعضهم: {وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ} السياط. قوله» بَغْتَةٌ «نصب على الحال، أي: مباغتة. والضمير في» تأتيهم «يعود على النار، وقيل: على الحين، لأنه في معنى الساعة. وقيل: على الساعة التي تضطرهم فيها إلى العذاب. وقيل: على الوعد،

ص: 503

لأنه في معنى النار التي وعدوها قاله الزمخشري. وفيه تكلّف. وقرأ الأعمش:» بَلْ يَاْتِيهِمْ «بياء الغيبة» بَغْتَةٌ «بفتح الغين» فَيَبْهَتَهُمْ «بالياء أيضاً. فأما الياء فأعاج الضمير على الحين أو على الوعد، وقيل: على» النَّار «وإنام ذكر ضميرها، لأنها في معنى العذاب، ثم راعى لفظ» النَّارِ «فأنث في قوله:» رَدَّهَا «. وقوله» بَلْ تِأْتِيهِمْ «إضراب انتقال.

وقال ابن عطية:» بَلْ «استدراك مُقَدَّرٌ قبله نفيٌّ تقديره: إنَّ الآيات لا تأتي على حسب اقتراحهم. وفيه نظر، لأنه يصير التقدير: لا تأتيهم الآيات على حسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، فيكون الظاهر أن الآيات تأتي بغتة، وليس ذلك مراداً قطعاً. وإن أراد أن يكون التقدير: بل تأتيهم الساعة أو النار، فليس مطابقاًُ لقاعدة الإضراب.

فصل

لما بين شدة هذا العقاب بين أن وقت مجيئه غير معلوم لهم {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً} وهم غير محتسبين ولا مستعدين» فَتَبْهَتهُمْ «أي: تدعهم حيارى واقفين {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} [النساء: 98] في ردها، {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} أي لا يمهلون لتوبة أو معذرة. وإنام لم يعلم المكلفين وقت الموت (والقيامة لما) فيه من المصلحة، لأن المرء مع كتمان ذلك أشد حذراً وأقرب إلى التلافي.

ثم ذكر الوجه الثاني في دفع الحزن عن قلب الرسول عليه السلام فقال: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: عقوبة استهزائهم. و» حَاقَ «وحَقّ بمعنى كزَالَ وزَلَّ، والمعنى: فكذلك يحيق بهؤلاء وبال استهزائهم.

ص: 504

قوله تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم} الآية لما بين أن الكفار في الآخرة {لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار} بسائر ما وصفهم به أتبعه بأنهم في الدنيا أيضاً لولا أن الله تعالى يحرسهم ويحفظهم لما بقوا في السلاكة، فقال لرسوله: طقُلْ «لهؤلاء الكفار الذين يستهزئون ويغترون بما هم عليه {مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار} وهذا كقول الرجل لمن حصل في قبضته ولا مخلص له منه: من ينصرك مني؟ وهل لك مخلص؟

والكلاءة: الحفظ، أي يحفظكم بالليل والنهار {مِنَ الرحمن} إن نزل بكم عذابه. يقال: كَلأَهُ الله يَكْلَؤُهُ كِلَاءَةٌ بالكسر كذا ضبطه الجوهري فهو كالئ ومكلوء.

قال ابن هرمة:

3717 -

إنَّ سُلَيْمَى وَاللهُ يَكْلَؤُهَا

ضَنَّتْ بِشَيءٍ مَا كَانَ يَزْرَؤُهَا

واكْتَلأْتُ منه: احترست، ومنه سُمِّيَ النبات كلأ، لأنَّ به تقوم بنية البهائم وتحرس. ويقال: بلغ الله بك أكلأ العمر. والمُكَلأُ موضع يحفظ فيه السفن. وفي الحديث:» نَهَى عَنْ بَيْعِ الكَالِئ بَالكَالِئ «أي: بيع الدين بالدين كأنَّ كُلاًّ من رب الدينين بكلأ الآخر أي: يراقبه.

ص: 505

(وقال ابن عباس: المعنى: مَنْ يمنعكم من عذاب الرحمن.

وقرأ الزهري وابن القعقاع» يَكْلُوكُمْ «بضمة خفية دون همز.

وحكى الكسائي والفراء» يَكْلَوْكُمْ «بفتح اللام وسكون الواو.

قال شهاب الدين: ولم أعرفها قراءة. وهو قريب من لغة من يخفف أكلت الكلأ على الكلو وقفاً إلا أنه أجرى الوصل مجرى الوقف) .

قوله:» مِنَ الرَّحمنِ «متعلق ب» يَكْلَؤُكُمْ «على حذف مضاف أي من أمر الرحمن أو بأسه كقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] .» وبِالَّيْلِ «بمعنى في الليل، وإنما ذكر الليل والنهار، لأن كل واحد من الوقتين آفات تختص به، والمعنى: من بحفظكم بالليل إذا نمتم وبالنهار إذا تصرفتم في معاشكم.

وخص ها هنا اسم الرحمن بالذكر تلقيناً للجواب حتى يقول العاقل أنت لكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك كما في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} [الانفطار: 6] . فخص اسم الكريم تلقيناً. قوله:» بَلْ هُمْ «إضراب عما تضمنه الكلام الأول من النفي، إذ التقدير: ليس لهم كالئ ولا مانع غير الرحمن. والمراد ب» ذِكْرِ رَبِّهِمْ «القرآن ومواعظ الله» مُعْرِضُونَ «لا يتأملون في شيء منها ليعرفوا أنه لا كالئ لهم سواه، ويتركوا عبادة الأصنام التي لا تحفظهم ولا تنعم عليهم.

قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} » أَمْ «منقطعة، أي بل ألهم؟ فالميم صلة والمعنى: ألهم آلهة تمنعهم، وقد تقدم ما فيها.

وقوله:» من دُونِنَا «فيه وجهان:

ص: 506

أحدهما: أنه متعلق ب» تَمْنَعُهُمْ «قبل، والمعنى: ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز، وإلى هذا ذهب الحوفي.

والثاني: أنه متعلق بمحذوف، لأنه صفة ل «آلهة» ، أي آلهة من دوننا تمنعهم، ولذلك قال ابن عباس إن في الكلام تقديماً وتأخيراً.

ثم وصف الآلهة بالضعف فقال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} وهذا مستأنف لا محل له، ويجوز أن يكون صفة ل «آلهة» ، وفيه بعد من حيث المعنى.

قال ابن الخطيب: «لا يسطيعون» خبر مبتدأ محذوف، أي فهذه الآلهة لا تستطيع حماية أنفسها عن الآفات، وحماية النفس أولى من حماية الغير، فإذا لم تقدر على حمية نفسها فكيف تقدر على حماية غيرها.

قوله: {وَلَا هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} . قال ابن عباس: يجاورون، تقول العرب: أنا لك جار وصاحب من فلان، أي مجير عنه. وقال مجاهد: يُنْصَرُونَ. وقال قتادة: لا يصحبون من الله بخير. {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء} الكفار «وَآبَاءَهُمْ» في الدنيا، أي أمهلناهم. وقيل: أعطيناهم النعمة. {حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} أي امتد بهم الزمان فاغتروا. {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} أي: أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله المستعجلون بالعذاب آثار قدرتنا في أنا ننقص الأرض من جوانبها نأخذ الواحد بعد الواحد من المشركين ونفتح البلاد والقرى من حول مكة، ونزيدها في ملك محمد، أما كان لهم عبرة في ذلك فيؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم َ -. {أَفَهُمُ الغالبون} أم نحن وهو استفهام تقريع.

قال ابن عباس ومقاتل والكلبي: «نَنْقُصُهَا» بفتح البلدان. وروي عن ابن عباس رواية أخرى: المراد نقصان أهلها. وقال عكرمة: تخريب القرى وموت أهلها.

ص: 507

وقيل: موت العلماء، وهذه الرواية إن صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - فلا يعدل عنها وإلا فالأظهر هاهنا ما يتعلق بالغلبة، ولذلك قال:{أَفَهُمُ الغالبون} . قال القفال: نزلت هذه الآية في كفار مكة، فكيف يدخل فيها العلماء والفقهاء.

ص: 508

قوله: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي} أي: أخوفكم بالقرآن وقوله: «وَلا يَسْمَعُ» قرأ ابن عامر هنا «وَلَا تُسْمِعُ» بضم التاء للخطاب وكسر الميم، «الصُّمَّ الدُّعَاءَ» منصوبين. وقرأ ابن كثير في النمل والروم. وقرأ باقي السبعة بفتح ياء الغيبة بفتح ياء الغيبة والميم «الصُّمُّ» بالرفع «الدُّعَاءَ» بالنصب في جميع القرآن.

وقرأ الحسن كقراءة ابن عامر إلا أنه بياء الغيبة. وروى عنه ابن خالويه «وَلَا يُسْمَعُ» بياء الغيبة مبنياً للمفعول «الصُّمُّ» رفعاً «الدُّعَاءَ» نصباً.

وروي عن أبي عمرو بن العلاء «وَلَا يُسْمِعُ» بضم الياء من تحت وكسر الميم «الصُّمَّ» نصباً «الدُّعَاءُ» رفعاً.

فأما قراءة ابن عامر وابن كثير فالفاعل فيها ضمير المخاطب، وهو الرسول عليه السلام. فانتصب «الصُّمَّ» و «الدُّعَاءَ» على المفعولين، وأولهما هو الفاعل المعنوي.

ص: 508

وأما قراءة الجماعة فالفعل مسند للصّمّ فانتصب «الدُّعَاءَ» مفعولاً به. وأما قراءة الحسن الأولى فأسند الفعل فيها إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم َ - وهي كقراءة ابن عامر في المعنى. وأما قراءته الثانية فأسند الفعل فيها إلى «الصُّمم» قائماً مقام الفاعل، فانتصب الثاني وهو «الدُّعَاءَ» وأما قراءة أي عمرو فإنه أسند الفعل فيها إلى الدعاء على سبيل الاتساع وحذف المفعول الثاني للعلم به، والتقدير: ولا يسمع الدعاء الصم شيئاً البتة ولما وصل أبو البقاء إلى هنا قال: «وَلَا يَسْمَعُ» فيه قراءات وجوهها ظاهرة ولم يذكرها. و «إذَا» في ناصبه وجهان:

أحدهما: أنه «يَسْمَعُ» .

والثاني: أنه «لدّعاء» فأعمل المصدر المعرف ب (أل) وإذا أعملوه في المفعول الصريح ففي الظرف أولى.

قال الزمخشري: فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشّر كما لا يسمعون دعاء المنذر، فكيف قيل:{إِذَا مَا يُنذَرُونَ} ؟ قلت: اللاّم في «الصُّم» عائدة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس، والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدهم أسماعهم إذا انذروا، أي أنتم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصامّ عن الإنذارات والآيات. ثم بيَّن تعالى أن حالهم سيتغير إلى أن يصيروا بحيث إذا شاهدوا اليسير مما أنذروا به، فعنده يسمعون ويعتذرون ويعترفون حيث لا ينتفعون، وهذا المراد بقوله:{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} وأصل النفح من الريح: اللين. قال الزمخشري: في المس والنفحة ثلاث مبالغات، لفظ المس، وما في النفح من معنى القلّة والنزار يقال: نفحته الدابة: رمحته رمحاً يسيراً.

والنفح: الخطرة. قال ابن عباس: «

ص: 509

نَفْخَةٌ» طرف. وقيل: قليل: وقال ابن جريج: نصيب من قولهم: نفح فلان لفلان من ماله أي: أعطاه حظاً منه، قال:

3718 -

إِذَا رَيْدَةٌ مِنْ مَا نَفَحَتْ لَهُ

أَتَاهُ برَيَّاهَا خَليلٌ يُوَاصِلُهْ

وقيل: ضربة، من قولهم: نفحت الدابة برجلها، أي: ضربت.

و «مِنْ عَذَابِ» صفة ل «نَفْحَةٌ» .

ثم بيّن تعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلاّ عدلاً فيهم بقولهم: {لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي: مشركين دعوا على أنفسهم بالويل بعد ما أقروا بالشرك.

قوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط} قال الزجاج: ذوات القسط، ووَضْعُها إحضارها. (وإنما جمع «المَوَازِينَ» لكثرة من توزن أعمالهم، وهو جمع تفخيم. ويجوز أن يرجع إلى الموزونات) . وفي نصب «القِسْطَ» وجهان:

أحدهما: أنه نعت للموازين، وعلى هذا فلم أُفردَ؟ وعنه جوابان:

أحدهما: أنه في الأصل مصدر، والمصدر يوحّد مطلقاً.

واثاني: أنه على حذف مضاف.

الوجه الثاني: أنه مقعول من أجله أي: لأجل القسط، إلا أن في هذا نظراً، من حيث إن المفعول له إذا كان معرّفاً ب (أل) يقل تجرّده من حرف العلة تقول: جئت للإكرام، ويقل: جئت الإكرام، كقوله:

ص: 510

3719 -

لَا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ

وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ

وقرئ: القِصْطَ بالصاد، لأجل الطاء. وقد تقدّم.

قوله: «لِيَوْمِ القِيَامَة» في هذه اللام أوجه:

أحدها: قال الزمخشري: مثلها في قولك: جئت لخمس خلون من الشهر ومنه بيت النابغة:

3720 -

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ فَعَرَفْتُهَا

لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا العَامِ سَابِعُ

والثاني: أنها بمعنى (في) وإليه ذهب بن قتيبة وابن مالك وهو رأي الكوفيين ومنه عندهم: «لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا» وكقول مسكين الدارمي:

3721 -

أُوْلَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوا لسبيلِهِمْ

كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْل عَادٌ وَتُبَّعُ

وكقول الآخر:

ص: 511

3722 -

وَكُلَّ أب وابن وإن عمرا معاً

مقيمين مفقود لوقت وفاقد

والثالث: أنها على بابها من التعليل ولكن على حذف مضاف أي: لحساب يوم القيامة و «شَيْئاً» يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، وأن يكون مصدراً، لأي: شيئاً من الظلم.

فصل

في وضع الموازين قولان:

أحدهما: قال مجاهد: هذا مثل، والمراد بالموازين العدل، ويورى مثله عن قتادة والضحاك، والمراد بالوزن: القسط بينهم في الأعمال، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه أي: ذهبت سيئاته وحسناته حكاه ابن جرير عن ابن عباس.

والثاني: أنَّ الموازين توضع حقيقة ويوزن بها الأعمال، «روي عن الحسن أنه ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام يروى» أنَّ داود عليه السلام سأل ربه أنْ يُرِيَهُ الميزان، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب فغشي عليه، ثم أفاق، فقال: إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات، فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عد ملأتها بتمرة «.

وعلى هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان:

أحدهما: أن توزن صحائف الأعمال.

والثاني: أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل: أهل القيامة إمّا أن يكونوا عالمين بكونه - تعالى - عادلاً غير ظالم أو لا يعلمون ذلك. فإن علموا كان مجرد حكمه كافياً في معرفة أنَّ الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا قائدة في وضع الميزان. وإن لم يعلموا ذلك لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف، لاحتمال أنه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلماً، فلا فائدة في وضع الميزان على كلا التقديرين.

والجواب: قال ابن الخطيب: أما على قولنا {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] وأيضاً ففيه

ص: 512

ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق، فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور والأخرى أعظم الغم، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره. وإذا ثبت ذلك فالدليل على وجود الموازين الحقيقة أن حمل لفظ الميزان على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل غير جائز لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في ذلك.

قوله: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ} قرأ نافع هنا وفي لقمان برفع «مِثْقَال» على أن «كَانَ» تامة، أي: وإنْ وجد مثقال. والباقون بالنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر، أي: وإنْ كان العمل. و «مِنْ خَرْدَلٍ» صفة ل «حَبَّةٍ» . وقرأ العامة «أَتَيْنَا» من الإتيان بقصر الهمزة، وفيه أوجه:

أصحها: أنَّه (فَاعَلْنَا) من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة، والمعنى: جازينا بها، ولذلك تعدى بالباء.

الثاني: أنَّها (مفاعلة) من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء، قاله الزمخشري.

ص: 513

الثالث: أنه أفعل من الإيتاء، كذا توهم وهو غلط. قال ابن عطية: ولو كان آتينا: أعطينا لما تَعَدَّتْ بحرف جر، وَيُوهِنُ هذه لقراءة أنَّ إبدال الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومة والمكسورة يعني: أنه كان من حق هذا القارئ أن يقرأ «وَأَتَيْنا» مثل وأعطينا، لأنها من المواتاة على الصحيح، فأبدل هذا القارئ الواو المفتوحة همزة وهو قليل ومنه أحد وأناة.

قال أبو البقاء: ويُقْرَأُ بالمد بمعنى جَازَيْنَا بها، فهو يَقْرُبُ من معنى أعطينا، لأنَّ الجزاء إعطاء، وليس منقولاً من أتينا، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم.

وقرأ حُمَيْدُ «أثَبْنَا» من الثواب، والضمير في «بِهَا» عائد على المثقال وأنّث ضميره لإضافته لمؤنث، فهو كقوله:

3723 -

كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ

في اكتسابه التأنيث بالإضافة.

فصل

زعم الجبائي أنَّ من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل ينحبط بالأكثر، فيبقى الأكثر كما كان.

وهذه الآية تبطل قوله، لأن الله تعالى تمدح بأنَّ اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. فإن قيل: الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال: «حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ» ؟ فالوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار. والغرض المبالغة في أنَّ شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله. ثم قال: {وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} .

قال السّديّ: مُحْصِينَ. والحَسبُ: معناه العد. قال ابن عباس: عالمين

ص: 514

حافظين، لأنَّ من حسب شيئاً علمه وحفظه.

والغرض منه التحذير فإنَّ المحاسب إذا كان عالماً بحيث لا يمكن أن يفوته شيء، وكان في القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون شديد الخوف منه.

ص: 515

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} الآية. لما أمر رسوله أن يقول {إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي} [الأنبياء: 45] أتبعه بأنه عادة الله في الأنبياء قبله. {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} يعني: الكتاب المفرق بين الحق والباطل، وهو التوراة، وكان «ضِيَاءٌ» لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى في معرفة الشرائع، وكان «ذكرى» أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم.

وقال ابن زيد: الفرقان النصر على الأعداء كقوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] يعني: يوم بدر حين فرق بين الحق والباطل. وهو مروي عن ابن عباس، ولأنه أدخل الواو في قوله «وَضِيَاءٌ» أي: آتينا موسى النصر والضياء، وهو التوراة، لأنَّ العطف يقتضي المغايرة. وقيل: المراد بالفرقان: البرهان الذي فرق به بين الحق والباطل. وقال الضحاك: الفرقان هو فلق البحر.

وقال محمد بن كعب: الفرقان الخروج عن الشبهات. ومن قال المراد بالفرقان: التوراة قال: الواو في قوله: «وَضِيَاءٌ» تكون من عطف الصفات، والمراد به شيء واحد، أي: آتيناه الجامع بين هذه الأشياء. وقيل: الواو زائدة. قال أبو البقاء ف «ضِيَاءٌ» حال على هذا. وإنما خصص الذكر بالمتقين كما في قوله «هُدىً للمتّقين» .

قوله: «الذين يَخْشَوْنَ» في محله ثلاثة أوجه: (البحر على النعت أو البدل أو البيان، والنصب والرفع على القطع) . وفي معنى «الغَيْب» وجوه:

ص: 515

الأول: «يَخْشَوْنَ» أي: يخافون ربهم ولم يروه فيأتمرون بأوامره، وينتهون عن نواهيه.

وثانيها: يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها.

وثالثها: يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس {وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} خائفون. ثم قال: ولما أنزلت عليه القرآن المنزل عليك وهو معنى قوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} يعني: القرآن «ذِكْرٌ» لمن تذكر به «مُبَارَكٌ» يتبرك به، ويطلب منه الخير، «أَفَأنْتُمْ» يا أهل مكة «لَهُ مُنْكِرُونَ» جاحدون، استفهام إنكار وتوبيخ، والمعنى: لا إنكار في إنزاله وفي عجائب ما فيه.

ص: 516

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} الآية. «رُشْدَهُ» مفعول ثان.

وقرأ العامة «رُشْدَهُ» بضم الراء وسكون الشين، وعيسى الثقفي بفتحها. والرُّشْدُ والرَّشَدُ كالعُدْم والعَدَم، وقد تقدم الكلام عليهما. والمراد بالرُّشْدُ: النبوة لقوله {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} ، لأنه تعالى إنَّمَا يخص بالنوبة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحثها ويجتنب ما لا يليق بها ويحترز عما ينفر قومه من القبول.

وقيلب: الرُّشْد: الاهتداء لوجوه الصلاح في الدين والدنيا لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] وقيل: يدخل تحت الرشد النبوة والاهتداء.

ص: 516

قوله: «مِنْ قَبْلُ» أي: من قبل موسى وهارون، قاله ابن عباس، وهاذ أحسن ما قدر به المضاف إليه وقيل: من قبل بلوغه أو نبوته حين كان في السرب فظهرت له الكواكب، فاستدل بها، وهذا على قول من حمل الرشد على الاهتداء وإلا لزمه أن يحكم بنبوته عليه السلام قبل البلوغ. قاله مقاتل.

وروى الضحاك عن ابن عباس معنى «مِنْ قَبْلُ» أي: حين كان في صلب آدم لما أخذ الله ميثاق النبيين.

والضمير في «بِهِ» يعود على «إبْرَاهِيمَ» . وقيل: على «رُشْدَهُ» .

والمعنى: أنه تعالى علم منه أشياء بديعة وأسراراً عجيبة حتى أهّله لأن يكون خليلاً له، وهذا كقولك في رجل كبير: أنا عالم بفلان، فإنَّ هذا الكلام في الدلالة على تعظيمه أدل مما إذا شرحت حال كماله.

فصل

دَلَّت الآية على أنَّ الإيمان مخلوق لله تعالى، لأنَّهُ لو كان الرشد هو التوفيق والبيان، وقد فعل الله تعالى ذلك بالكفار فيجب أن يكون قد آتاهم رشدهم.

وأجاب الكعبي: بأنَّ هذا يقال فيمن قَبِلَ لا فيمن ردَّ، وذلك كمن أعطى المال لولدين فقبله أحدهما وثمره، وردَّه الآخر أو أخذه ثم ضيعه، يقال: أغنى فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال فيمن ضيع. وهذا الجواب لا يتم إلا إذا جعلنا قبوله جزءاً من مسمى الرّشد وذلك باطل، لأنَّ المسمى إذا كان متركباً من جزأين ولا يكون أحدهما مقدر الفاعل لم يجز إضافة ذلك المسمى إلى الفاعل، فكان يلزم أن لا يجوز إضافة الرشد إلى الله تعالى بالمفعولية لكن النص وهو قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} صريح في أنَّ ذلك الرشد إنما حصل من الله تعالى فبطل قوله.

قوله: «إذْ قَالَ» يجوز أن يكون منصوباً ب «آتَيْنَا» أو ب، «رُشْدَهُ» أو ب «عَالِمِينَ» أو بمضمر أي: اذكر وقت قوله. وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكون بدلاً من موضع «

ص: 517

قَبْلُ» .

أي: أنه يحب محله فيصح المعنى إذْ يصير التقدير: ولقد آتيناه رشداً إذْ قال. وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقدير.

قوله: {مَا هذه التماثيل} أي: الصور، يعني: الأصنام. والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبهاً بخلق من خلق الله. وأصله من مثَّلْتُ الشيء بالشيء: إذا شبهته به، فاسم ذلك المُمَثَّل تِمْثَال. والتَّمَاثِيلُ: جمع تِمْثَال، وهو الصورة المصنوعة من رخام، أو نحاس، أو خشب، أو حديد؛ يشبه بخلق الآدمي وغيره من الحيوانات، فال امرؤ القيس:

3724 -

فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ

بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ

قوله: «لَهَا» قيل: اللام للعلة، أي: عاكفون لأجلها. وقيل: بمعنى (على)، أي: عاكفون عليها. وقيل: ضمّن «عَاكِفُونَ» معنى عابدين فلذلك أتى باللام وقال أبو البقاء: وقيل: أفادت معنى الاختصاص.

وقال الزمخشري: لم ينو للعاكفين مفعولاً، وأجراه مجرى ما لا يتعدى كقوله: فاعلون العكوف لها، أو واقفون لها. فإن قلت: هلَاّ قيل: عليها عاكفون كقوله: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138] قلت: لو قصد التعدية لعداه بصلته التي هي «على» .

قال شهاب الدين: الأولى أن تكون اللام للتعليل وصلة «عَاكِفُونَ» محذوفة أي: عاكفون عليها، أي: لأجلها لا لشيء آخر.

قوله: {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} «عَابِدِينَ» مفعول ثان ل «وَجَدْنَا» و «لَهَا» لا تعلق له، لأنَّ اللام زائدة في المفعول به لتقدمه.

ص: 518

فصل

اعلم أنَّ القوم لم يجدوا في جوابه إلَاّ طريقة التقليد فأجابوه بأنَّ آباءهم سلكوا هذا الطريق، فاقتدوا بهم، فلا جرم أجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله:{لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} فبين أنَّ الباطل لا يصير حقاً بكثرة المتمسكين به. قوله: «أَنْتُمْ» تأكيد للضمير المتصل.

قال الزمخشري: و «أَنْتُمْ» من التأكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به، لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع، ونحوه {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35، الأعراف: 19] . قال أبو حيان: وليس هذا حكماً مجمعاً عليه فلا يصح الكلام مع الإخلال به، لأنَّ الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير تأكيد بالضمير المنفصل، ولا فصل، وتنظير ذلك ب {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35، الأعراف: 19] مخالف لمذهبه في {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35، الأعراف: 19] لأنه يزعم أَنَّ «وَزَوْجَكَ» ليس معطوفاً على الضمير المستكن في «اسْكُنْ» بل مرفوع بفعل مضمر أي: وليسكن، فهو عنده من قبيل عطف الجمل، وقوله هذا مخالف لمذهب سيبويه.

ص: 519

قال شهاب الدين: لا يلزم من ذلك أنه خالف مذهبه إذ يجوز أن ينظر بذلك عند من يعتقد ذلك وإن لم يعتقد (هو) .

و «فِي ضَلَالٍ» يجوز أن يكون خبراً إن كانت (كَانَ) ناقصة، أو متعلقاً ب «كُنْتُمْ» إن كانت تامة.

قوله

: {أَجِئْتَنَا

بالحق

أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} لما حقق عليه السلام ذلك عليهم، ولم يجدوا من كلامه مخلصاً ورأوه منكراً عليهم من كثرتهم {قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} فأوهموه بهذا الكلام أنه يبعد أن يقدم على الإنكار عليهم جاداً في ذلك، وقالوا: أجاد أنت فيما تقول أم لاعب، فأجابهم بقوله عليه السلام {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض} الآية. قوله «بالحَقِّ» متعلق ب «جئت» ، وليس المراد به حقيقة المجيء إذ لم يكن غائباً. و «أَمْ أَنْتَ» «أَمْ» متصلة وإن كان بعدها جملة، لأنها في حكم المفرد إذ التقدير: أي الأمرين واقع مجيئك بالحق أم لعلك كقوله:

3725 -

ما أُبَالِي أَنَبَّ بِالحَزْنِ تَيْسٌ

أَمْ لَحَانِي بِظَهْرٍ غَيْبٍ لَئِيمُ

وقوله:

3726 -

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي، وَإِنْ كُنْتَ دَارِياً

شُعَيْبُ بنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ

ص: 520

يريد: أي الأمرين واقع، ولو كانت منقطعة لَقُدِّرَتْ ب (بل) والهمزة وليس ذلك مراداً. قوله:«الذي فَطَرَهُنَّ» يجوز أن يكون مرفوع الموضع أو منصوبه على القطع. والضمير المنصوب في «فَطَرَهُنَّ» للسموات والأرض. قال أبو حيان: ولما لم تكن السموت والأرض تبلغ في العدد الكثير منه جاء الضمير ضمير القلة. قال شهاب الدين: إن عنى لم تبلغ كل واحد من السموات والأرض فمسلم ولكنه غير مراد، بل المراد المجموع، وإن عنى لم تبلغ المجموع منهما فغير مسلم، لأنه يبلغ أربع عشرة، وهو فوق حد جمع الكثرة، اللهم إلَاّ أنْ نقول: إنَّ الأرض شخص واحد وليست بسبع كالسماء على ما رآه بعضهمن فيصح له ذلك، ولكنه غير معول عليه. وقيل: على التماثيل.

قال الزمخشري: وكونه للتماثيل أثبت لتضليلهم وأدخل في الاحتجاج عليهم.

وقال ابن عطية: «فَطَرَهُنَّ» عبارة عنها كأنها تعقل، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد، وقد وصفت في مواضع بوصف من يعقل. وقال غيره:«فَطَرَهُنَّ» أعاد ضمير من يعقل لما صدر منهن من الأحوال التي تدل على أنهما من قبيل مَنْ يعقل، فإنَّ الله تعالى أخبر بقوله:{أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] وقوله عليه السلام «أطَتِ السماءُ وحقَّ لها أن تَئِطّ» قال شهاب الدين: كأنَّ ابن عطية وذا القائل توهما أنَّ (هُنَّ) من الضمائر المختصة بالمؤنثات العاقلات، وليس كذلك بل هو لفظ مشترك بين العاقلات وغيرها قال تعالى:{مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] ثم قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] .

قوله: «عَلَى ذَلِكُمْ» متعلق بمحذوف أو ب «الشَّاهشدِينَ» اتساعاً، أو على

ص: 521

البيان، وقد تقدم نظيره نحو {لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] .

فصل

اعلم أنَّ القوم لمَّا أوهموه أنه كالمازح في ما خاطبهم به أمر أصنامهم أظهر ذلك بالقول أولاً ثم بالفعل ثانياً.

أمَّا القول فهو قوله: {قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض} وهذا يدل على أنَّ الخالق الذي خلقها لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد لأن القادر على ذلك هو الذي يقدر على الضرر والنفع، وهذه الطريقة هي نظير قوله:{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يَبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42]، ثم قال:{وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} أي: على أنه لا إله إلا الذي يستحق العبادة إلا هو. وقيل: {مِّنَ الشاهدين} على أنه خالق السموات والأرض.

وقيل: إنِّي قادر علىإثبات ما ذكرته بالحجة، وإني لست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم. وقيل: المراد منه المبالغة في التأكيد والتحقيق، كقول الرجل إذا بالغ في مدح آخر أو ذمه: أشهد أنه كريم أو ذميم.

ص: 522

وأما الفعل فقوله: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} لأمكرن بها. قرأ العامة «تَاللهِ» بالتاء المثناة فوق. وقرأ معاذ بن جبل، وأحمد بن حنبل بالباء الموحدة. قال الزمخشري: فإن قُلْتَ «ما الفرق بين التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه. أما قوله: إنَّ الباء في الأصل فيدل على ذلك تصرفها

ص: 522

في الباب بخلاف الواو والتاء، وإن كان السُّهيلي قد ردَّ كون الواو بدلاً منها.

وقال أبو حيان: النظر يقتضي أن كلاً منهما أصل. وأما قوله: التعجب فنصوص النحويين أنه يجوز فيها التعجب وعدمه، وإنما يلزم ذلك مع اللام كقوله:

3727 -

للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ

بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيانُ والآسُ

و» بَعْدُ «منصوب ب» لأكِيدَنَّ «، و» مُدْبِرِينَ «حال مؤكدة، لأن» تُوَلُّوا «يفهم معناها. وقرأ العامة» تُوَلُّوا «بضم التاء مضارع (وَلَّى) مشدداً.

وقرأ عيسى بن عمر» تَوَلَّوا «بفتحهما مضارع (تَوَلَّى)، والأصل: تتولوا فحذف

ص: 523

إحدى التاءين إمَّا الأولى على رأي هشام، وإمَّا الثانية على رأي البصريين وينصرها قراءة الجميع {فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} ، ولم يقرأ أحد» تُوَلُّوا «وهي قياس قراءة الناس هنا، وعلى كلتا القراءتين فلام الكلمة محذوفة، وهو الياء، لأنه من» وَلَّى «، ومتعلق هذا الفعل محذوف تقديره: تولوا إلى عيدكم ونحوه. فإن قيل: الكيد ضرر الغير بحيث لا يشعر به ولا يتأتى ذلك في الأصنام فكيف قال: {لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} ؟

فالجواب: توسعاً لما كان عندهم أنَّ الضرر يجوز عليها، وقيل: المراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أنزل بهم الغم.

قوله:» فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً «. قرأ العامة» جُذَاذاً «بضم الجيم، والكسائي بكسرها وابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال بفتحها. قال قطرب: هي لغاتها كلها مصدر، فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث والظاهر أنَّ المضموم اسم للشيء المكسر كالحطام والرفات والفتات بمعنى الشيء المحطم والمفتت. وقال اليزيدي: المضموم جمع جُذَاذَة بالضم نحو زجاج في زجاجة، والمكسور جمع جَذِيذ نحو كِرَام في كَرِيم. وقال بعضهم: المفتوح مصدر بمعنى المفعول أي: مَجْذُوذِينَ. ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي: ذوات جذاذ.

ص: 524

وقيل: المضموم جمع جُذَاذَة بالضم، والمكسور جمع جِذَاذَة بالكسر، والمفتوح مصدر وقرأ ابن وثاب» جُذُذاً «بضمتين دون ألف بين الذالين، وهو جمع جَذِيذ كقَلِيب وقُلُبٍ. وقرئ بضم الجيم وفتح الذال، وفيها وجهان:

أحدهما: أن يكون أصلها ضمتين، وإنما خففت بإبدال الضمة فتحة نحو سُرَر وذُلَل في جمع سرير وذليل، وهي لغة لبني كلب.

والثاني: أنه جمع جذَّة نحو قبب في قبة ودرر في درة.

والجذ القطع والتكسير، وعليه قوله:

3728 -

بَنُو المُهَلَّبِ جَذَّ اللهُ دَابِرَهُمْ

أَمْسَوا رَمَاداً فَلَا أصْلٌ وَلَا طَرَفُ

وتقدم هذا مستوفى في هود. فإن قيل: لِمَ قال «جَعَلَهُمْ» وهذا جمع لا يليق إلا بالعقلاء؟

فالجواب عَامَلَ الأصنام مُعَاملة العقلاء حيث اعتقدوا فيها ذلك.

قوله: «إلَاّ كَبِيراً» استثناء من المنصوب في «فَجَعَلَهُمْ» أي: لم يكسره بل تركه

ص: 525

و «لَهُمْ» صفة له، وهذا الضمير يجوز أن يعود على الأصنام، وتأويل عود ضمير العقلاء عليها تقدم. ويجوز أن يعود على عابديها. والضمير في «إلَيْهِ

يجوز أن يعود إلى» إبراهيم «، أي: يرجعون إلى مقالته حين يظهر لهم الحق، أو غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما شاهدوه من إنكاره لدينهم، وسب آلهتهم، فيبكتهم بما أهانهم به من قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء: 63] .

ويجوز أن يعود إلى الكبير، وفيه وجهان:

أحدهما: لعلهم يرجعون إليه كما يرجعون إلى العالم في حل المشكلات، فيقولون: ما لهؤلاء مكسورة ومالك صحيحاً والفأس على عاتقك؟ وهذا قول الكلبي. وإنما قال ذلك بناء على كثرة جهالاتهم، فلعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تجيب وتتكلم.

والثاني: أنه عليه السلام قال ذلك مع علمه أنهم لا يرجعون إليه (استهزاء بهم) .

فصل

قال السّدّيّ: كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها، ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا، فخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إنِّي سَقِيم أشتكي رِجْلي،، فلمَّا مَضَوْا وبقي ضعفاء الناس، نادى وقال:{تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} أي: إلى عيدكم. فسمعوها منه. واحتج هذا القائل بقوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} .

وقال الكلبيّ: كان إبراهيم عليه السلام من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلَاّ مريضاً، فلما هَمَّ إبراهيم بكسر الأصنام، نظر قبل يوم العيد إلى السماء، وقال لأصحابه: أراني أشتكي غداً، وهو قوله:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89] . وأصبح في الغد معصوباً رأسه، فخرج القوم ليعيدهم

ص: 526

ولم يتخلف أحد غيره، فقال:{وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمع رجل منهم هذا القول، فحفظه عيله، ثم أخبر به غيره، وانتشر ذلك في جماعة، فلذلك قال تعالى:{قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} ، ثم إن إبراهيم عليه السلام دخل بيت الأصنام فوجد سبعين صنماً مصطفة، وعند الباب صنم عظيم من ذهب مستقبل الباب وفي عينه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفاس في يده حتى لم يبق إلَاّ الكبير علق الفأس في عنقه.

فإن قيل: أولئك الأقوام إمَّا أنْ يكونوا عقلاء أو لم يكونوا عقلاء، فإن كانوا عقلاء وجب أن يكونوا عالمين بالضرورة أنَّ تلك الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ، فأي حاجة في إثبات ذلك إلى كسرها؟ أقصى ما في الباب أن يقال: القوم كانوا يعظمونها كما يعظم الواحد منا المصحف والمسجد والمحراب وكسرها لا يقدح في تعظيمها من هذا الوجه.

وإن لم يكونوا عقلاء لم يحسن مناظرتهم ولا بعثة الرسل إليهم.

فالجواب: أنهم كانوا عقلاء وكانول عالمين بالضرورة أنها جمادات، ولكن لعلهم كانوا يعتقدون فيها أنها تماثيل للكواكب، وأنها طلمسات موضوعة، بحيث إنَّ كل من عبدها انتفع، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد، ثم إنَّ إبراهيم عليه السلام كسرها ولم ينله منها ضرر ألبتة، فكان فعله دالاً على فساد مذهبهم. قوله {مَن فَعَلَ هذا} يجوز في «مَنْ» أن تكون استفهامية وهو الظاهر، فعلى هذا تكون الجملة من قوله:{إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} استئنافاً لا محل لها من الإعراب. ويجوز أن تكون موصولة بمعنى (الَّذِي) ، وعلى هذا فالجملة من «إنَّهُ» في محل رفع خبراً للموصول، والتقدير: الذي فعل في الظلمة إما لجرأته على الآلهة الحقيقة بالتوقير والإعظام، وإما لأنهم رأوا إفراطاً في كسرها، وتمادياً في الاستهانة بها.

قوله: «يَذْكُرُهُمْ» . في هذه الجملة أوجه:

أحدها: أن «سمع» هنا يتعدى لاثنين، لأنها متعلقة بعين، فيكون «فَتًى» مفعولاً أولاً و «يَذْكُرُهُمْ» هذه الجملة في محل نصب مفعول ثانياً، ألا ترى أنك لو قلت: سَمِعْتُ زَيْداً، وسَكَّتَ لم يكن كلاماً بخلاف: سمعت قراءته وحديثه.

ص: 527

والثاني: أنها في محل نصب أيضاً صفة ل «إبراهيم» .

قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: ما حكم الفعلين بعد «سَمِعْنَا» ، وما الفرق بينهما؟ قلت: هما صفنان ل «فَتًى» إلَاّ أنَّ الأول وهو «يَذْكُرُهُمْ» لا بدَّ منه ل «سَمِع» لأنك لا تقول: سَمِعْتُ زَيْداً وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمعن وأما الثاني فليس كذلك. وهذا الذي قاله لا يتعين لما عرفت أن سمع إن تعلقت بما سمع نحو سمعت مقالة بكر فلا خلاف أنها تتعدى لواحد. وإن تعلقت بما لا يسمع فلا يكتفى به أيضاً بلا خلاف بل لا بدّ من ذكر شيء يسمع، فلو قلت: سَمِعْتُ زَيْداً، وسكت، أم سَمِعْتُ زَيْداً يركب، لم يجز، فإن قلت: سمعته يقرأ صح، وجرى في ذلك خرف بين النحاة فأبو علي يجعلها متعدية لاثنين، ولا يتمشى عليه قول الزمخشري. وغيره يجعلها متعدية لواحد، ويجعل الجملة بعد المعرفة حالاً وبعد النكرة صفة، وهذا أراد الزمخشري.

قوله: «إِبْرَاهِيمُ» . في رفع «إِبْرَاهِيمُ» أوجه:

أحدها: أنه مرفوع على ما لم يسم فاعله، أي: يقال له هذا اللفظ، وكذلك قال أبو البقاء: فالمراد الاسم لا المسمى.

وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين أعني تسلط القول على المفرد الذي يؤدي معنى جملة ولا هو مقتطع من جملة، ولا هو مصدر ل «قال» ، ولا هو صفة لمصدره نحو: قلت زَيْداً، أي: قلت هذا اللفظ، فأجازه جماعة كالزجاجي والزمخشري وابن خروف وابن مالك، ومنعه آخرون. وممن اختار

ص: 528

رفع «إِبْرَاهِيمُ» على ما ذكرت الزمخشري وابن عطية. أمَّا إذا كان المفرد مؤدياً معنى جملة كقولهم: قلت خطبة وشعراً وقصيدة أو اقتطع من جملة كقوله:

3729 -

إذَا ذُقْتَ فَاهَا قُلْتَ طَعْمُ مُدَامةٍ

مُعَتَّقَةٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ التُّجُرْ

أو كان مصدراً نحو قُلْتُ قَوْلاً، أو صفة له نحو: قُلْتُ حقاً أو باطِلاً، فإنه يتسلط عليه كذا قالوا. وفي قولهم: المفرد المقتطع من الجملة نظر، لأنَّ هذا لم يتسلط عيله القول إنما تسلط على الجملة المشتملة عليه.

الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، يقال له: هذا إبراهيم، أو هو إبراهيم.

الثالث: أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي: يقال له إبراهيم فاعل ذلك.

الرابع: أنه منادى وحرف النداء محذوف أي: يا إبراهيم.

وعلى الأوجه الثلاثة فهو مقتطع من جملة، وتلك الجملة محكية ب «يُقَالُ» وتقدم تحقيق هذا في البقرة عند قوله {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} ] [58 رفعاً ونصباً وفي الأعراف عند

ص: 529

قوله {قَالُواْ مَعْذِرَةً} [الأعراف: 164] رفعاً ونصباً. والجملة من «» يُقَالُ لَهُ «يحتمل أن تكون مفعولاً آخر نحو ظننت زيداً كاتباً شاعراً. وأن تكون على رأي الزمخشري ومن تابعه وأن تكون حالاً من» فَتًى «وجاز ذلك لتخصصها بالوصف.

فصل

ص: 530

لما سمع بعض القوم قول إبراهيم عليه السلام {تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وسمعوا سبّه لآلهتهم غلب على ظنهم أنه الفاعل لذلك، فلذلك قالوا:{سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي: يعيبهم ويسبهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ، فهو الذي يظن أنه الذي صنع هذا.

فبلغ ذلك نمروذ الجبار، وأشراف قومه، فقالوا فيما بينهم {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} قال نمروذ، أي: جيئوا به ظاهراً، أي بمرأى من الناس {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه أنه الذي فعله. قال الحسن وقتادة والسدي: كرهوا أن يأخذوه بغير بينةٍ. وقال محمد بن إسحاق: {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي: يحضرون عقابه فينزجروا عن الإقدام على مثله. وقال

ص: 530

الكلبي ومقاتل: المراد مجموع الأمرين أي: يشهدون عليه عقابه.

قوله: {على أَعْيُنِ} في محل نصب على الحال من الهاء في «بِهِ» أي: ائتوا به ظاهراً مكشوفاً بمرأى منهم ومنظر. قال الزمخشري: فإنْ قُلْتَ «ما معنى الاستعلاء في:» عَلَى «؟ قُلْتُ: هو وارد على طريق المثل، أي يثبت إتيانه على الأعين، ويتمكن ثبات الراكب على المركوب، وتمكنه منه.

قوله: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} . في» ءَأَنْتَ «وجهان:

أحدهما: أنه فاعل بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده، والتقدير: أفعلت هذا بآلهتنا فلمّا حذف الفعل انفصل الضمير.

والثاني: أنه مبتدأ والخبر بعد الجملة.

والفرق بين الوجهين من حيث اللفظ واضح، فإنَّ الجملة من قوله» فَعَلْتَ «الملفوظ بها على الأول لا محل لها، لأنها مفسرة ومحلها الرفع على الثاني، ومن حيث المعنى أنّ الاستفهام إذا دخل على الفعل أشعر بأنَّ الشك إنما تعلق به (هل وقع أم لا؟ من غير شك في فاعله. وإذا دخل على الاسم وقع الشك فيه) هل هو الفاعل أم غيره؟ والفعل غير مشكوك في وقوعه، بل هو واقع فقط.

فإذا قلت: أَقَامَ زَيْدٌ؟ كان شكك في قيامه. وإذا قلت: أَزَيْدٌ قَامَ؟ وجعلته مبتدأ كان شكك في صدور الفعل منه أم من عمرو.

والوجه الأولى هو المختار عند النحاة، لأنَّ الفعل تقدم ما يطلبه، وهو أداة الاستفهام.

قوله: {بَلْ فَعَلَهُ} هذا الإضراب عن جملة محذوفة تقديره: لم أفعله إنما الفاعل حقيقة الله تعالى، وإسناد الفعل إلى» كَبِيرُهُمْ «من أبلغ التعاريض.

قوله:» هَذَا «فيه ستة أوجه:

ص: 531

أحدها: أن يكونَ نعتاً ل» كَبِيرُهُمْ «.

الثاني: أن يكون بدلاً من» كَبِيرُهُمْ «.

الثالث: أن يكون خبراً ل» كَبِيرُهُمْ «على أنَّ الكلام يتم عند قوله» بَلْ فَعَلَهُ «وفاعل الفعل محذوف. كذا نقله أبو البقاء، وقال: وهذا بعيد، لأنَّ حذف الفاعل لا يسوغ. قال شهاب الدين: وهذا القول يعزى للكسائي، وحينئذ لا يحسن الرد عيله بحذف الفاعل فإنه يجيز ذلك، ويلزمه، ويجعل التقدير: بل فعله من فعله ويجوز أن يكون أراد بالحذف الإضمار، لأنه لمّا لم يذكر الفاعل لفظاً سمى ذلك حذفاً.

الرابع: أن يكونَ الفاعل ضمير «فَتًى» .

الخامس: أني كون الفاعل ضمير «إبْرَاهِيم» .

وهذان الوجهان يؤيدان أنَّ المراد بحذف الفاعل إنَّمَا هو الإضمار.

السادس: أن «فَعَلَهُ» ليس فعلاً، بل الفاء حرف عطف دخلت على «عَلَّ» التي أصلها «لَعَلَّ» حرف ترج وحذف اللام الأولى ثابت، فصار اللفظ «فَعَلَّهُ» أي: فَلعلّه، ثم حذف اللام الأولى وخففت الثانية. وهذا يعزى للفراء وهو مرغوب عنه. وقد استدل على مذهبه بقراءة ابن السميفع «فَعَلَّهُ» بتشديد اللام، وهي قراءة شاذة لا يرجع بالقراءة المشهورة إليها، وكأن الذي حملهم على هذا خفاء وجه صدور هذا الكلام من النبي عليه السلام.

ص: 532

فصل

اعلم أن القوم لمّا قالوا له {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم} طلبوا منه الاعتراف بذلك، ليقدموا على إيذائه، فقلب الأمر عليهم وقال:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} ، وكان قد علق الفأس في رقبته، وأراد بذلك إقامة الحجة عليهم وإظهار جهلهم في عبادة الأوثان، وقال:{فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} واعلم أنّ للناس هاهنا قولان:

الأول: قول كافة المحققين، وهو أنّ قول إبراهيم عليه السلام {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} من قبيل التعريض، وهو من وجوه:

أحدها: أنًّ قصد إبراهيم عليه السلام تقرير الفعل لنفسه على أسلوب تعريضيّ، وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم، وهذا كما لو قال صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق، وأنت شهير بحسن الخط، ولا يقدر هو إلا على خرمشة فاسدة: أأنت كتبت هذا، فقلت له: بل كتبته أنت، وكأن قصدك بهذا تقريره لك كع الاستهزاء لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء وإثبات للقادر.

وثانيها: أنَّ إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة، وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته لها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحال عليه.

وثالثها: أن يكون حكاية لما يلزم عن مذهبهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم، فإنَّ حق من يُعْبَد، ويُدْعَى إلهاً أن يقدر على هذا أو أشد منه ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري.

ورابعها: ما تقدم عن الكسائي أنه اكن يقف عند قوله «كَبِيرُهُمْ» ثم يبتدئ فيقول: {هذا فَاسْأَلُوهُمْ} . والمعنى: بل فعله كبيرهم، وعنى نفسه، لأنّ الإنسان أكبر من كل صنم، وأنه كناية عن غير مذكور، أي: فعله من فعله و «كَبِيرهُمْ» ابتداء كلام.

وخامسها: قال الطِّيبي معناه على التقديم والتأخير، أي بل فعله كبيرهم إن كانوا

ص: 533

ينطقون فاسألوهم، فجعل النطق شرطاً للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل فأراهم عجزهم، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك.

وسادسها: قراءة ابن السميفع المتقدمة.

والقول الثاني: قال البغوي: والأصح أن إبراهيم عليه السلام أراد بذلك الفعل إقامة الحجة عليهم فذلك قوله: {هذا فَاسْأَلُوهُمْ} حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، لما «روي أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أنه قال: لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله، قوله:» إنِّي سَقِيمٌ «، وقوله:» بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا «، وقوله لسارة:» هذه أختي «وفي حديث الشفاعة قول إبراهيم عليه السلام» إنِّي كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ «والقائلون بهذا القول قدروه من جهة العقل وقالوا: الكذب ليس قبيحاً لذاته فإنَّ النبي إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان فجاء الظالم وسأل عنه، فإنه يجب الكذب فيه، وإذا كان كذلك، فأي بُعْد في ان يأذن الله في ذلك لمصلحة لا يعلمها إلا هو كما أذن ليوسف عليه السلام حين أمر مناديه لإخوته:{أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ولم يكونوا سرقوا.

قال ابن الخطيب: وهذا القول مرغوب عنه أما الخبر فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه فلنجر هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه، وفي كل ما أخبر الله عنه، وذلك يبطل الوثوق بالشرائع، وتطرق المهمة إلى كلها، ثم لو صح ذلك الخب فهو محمول على المعاريض على ما قاله عليه السلام» إنَّ في المَعَارِيضِ لمندوحةً عن الكَذِبِ «.

ص: 534

فأمّا قوله:» إني سَقِيمٌ «فلعله سقيم القلب كما يجيء في موضعه.

وأمّا قوله:» بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ «فقد ظهر الجواب عنه. وأما قوله لسارة: هذه أختي، أي: في الدين. وأما قصة يوسف عليه السلام فتقدم الكلام عليها.

قوله: {إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} جوابه محذوف لدلالة ما قبله، ومن جوَّز التقديم جعل» فَاسْألُوهُمْ «هو الجواب.

قوله: {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} فيه وجوه:

الأول: أنَّ إبْراهيم عليه السلام لما نبههم على قبح طريقتهم بما أورده عليهم علموا أنَّ عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك.

الثاني: قال مقاتل: {فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ} فلاموها وقالوا: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.

الثالث: أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتموه ختى إنه يستهزئ بكم في الجواب.

قوله: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} قرأ العامة:» نُكِسُوا «مبنياً للمفعول مخفف الكاف أي: نكسهم الله أو خجلهم.

و «عَلَى رُؤُوسِهِم» حال، أي: كائنين على رؤوسهم. ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل. والنَّكْسُ والتَّنْكِيسُ: القلب، يقال:

ص: 535

نَكَسَ رَأْسَهُ ونَكَّسَهُ مخففاً ومشدداً. اي: طأطأه حتى صار أعلاه أسفله.

وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وابن الجارود وابن مقسم: «نُكِّسُوا» بالتشديد وقد تقدم أنه لغة في المخفف، فليس التشديد لتعدية ولا لتكثير.

وقرأ رضوان بن عبد المعبود: «نَكَسُوا» مخففاً مبنياً للفاعل، وعلى هذا فالمفعول محذوف تقديره: نكسوا أنفسهم على رؤوسهم.

فصل

قال المفسرون: أجرى اله الحق على ألسنتهم في القول الأول ثم أدركتهم الشقاوة فهو معنى قوله: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} أي: ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم. وقيل: قلبوا على رؤوسهم حقيقة بفرط إطراقهم خجلاً وانكساراً وانخزالاً مما بهتهم إبراهيم، فلما أحاروا جواباً إلا ما هو حجة لإبراهيم عليه السلام حين جادلهم - فقالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} فأقروا بهذه الحجة التي لحقتهم.

قوله: {مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} هذه الجملة جاب قسم محذوف، والقسم وجوابه معمولان لقول مضمر، وذلك القول المضمر حال من مرفوع «نُكِسُوا» أي: نكسوا قائلين: والله لقد علمت.

قوله: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً} يجوز أن تكون «مَا» حجازية فيكون «هَؤُلَاءِ» و «يَنْطِقُونَ» في محل نصب خبرها.

أو تميمية فلا عمل لها. والجملة المنفية بأسرها سادة مسد المفعولين إن كانت «عَلِمْت» على بابها، ومسد واحد إن كانت عرفانية.

قوله: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً} إن عبدتموه، {وَلَا يَضُرُّكُمْ}

ص: 536

إن تركتم عبادته. «أفٍّ لَكُمْ» أي: نتناً وقذراً لكم {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} تقدم الكلام على «أُفٍّ» في سورة سبحان. قال الزمخشري: «أُفٍّ» صوت إذا صوت به دل على أنّ صاحبه متضجر، وأن إبراهيم عليه السلام أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد وضوح الحق وانقطاع عذرهم وزهوق الباطل فتأفف.

واللام في «لَكُم» وفي «لِمَا» لام التبيين، أي: لتأفيف لَكُمْ لا لغيركم، وهي نظير قوله:«هَيْتَ لَكَ» . ثم قال: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ» أي: أليس لكم عقل تعقلون هذا وتعرفونه؟

ص: 537

فلما ألزمهم الحجة وعجزوا الحجة عن الجواب {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ} ليس في القرآن من القائل ذلك، والمشهور انه نمروذ بن كنعان بن سنجاريب بن نمروذ بن مكوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول: إنما أشار بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد من فارس.

ورى ابن جريج عن وهب عن شعيب قال: إن الذي قال حرقوه اسمه هرين فخسف الله به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

ص: 537

فصل

قال مقاتل: لما اجتمع نمروذ وقومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا له بنياناً كالحظيرة، وذلك قوله:{قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم} [الصافات: 97] . ثم جمعوا له الحطب الكثير، حتى إنَّ الرجل أو المرأة لو مرضت قالت: إن عافاني الله لأجمعن حطباً لإبراهيم. وقيل: بنوا آتوناً بقرية يقال لها كوثى.

ثم جمعوا له أصلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوماً، وكانت المرأة تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه فيه احتساباً في دينها، فلما اشتعلت النار، واشتدت حتى إن كانت الطير لتمر به وهي في أقصى الجو فيحترق من شدة وهجها. روي أنَّهم لم يعلموا كيف يلقوه فيها؟ فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه. وقيل: صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له: هيزن، وكان أول من صنع المنجنيق، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مقيداً مغلولاً، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة صيحة واحدة: أي ربنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه:«إن استغاث به وأما وَليُّهُ فهلوا بيني وبينه، فإنه خليل ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري» .

فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن المياه فقال: إن أردت أخمدت النار. وأتاه خازن الرياح فقال: إن شئت طيرت النار في الهواء.

فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض من يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.

قال ابن عباس: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] قالها إبراهيم حين القي في النار، وقالها محمد حين قيل له:{إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 173، 174] فحين ألقي في النار قال: «لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك

ص: 538

لك» . ثم رموه في المنجنيق إلى النار، فأتاه جبريل، فقال: يا إبراهيم الك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فاسأل ربك قال: حسبه من سؤالي علمه بحالي.

فقال الله تعالى: {يانار كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا على إِبْرَاهِيمَ} . قال كعب الأحبار جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار. «وروت أم شريك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - أمر بقتل الوزغ وقال:» كان ينفخ علىإبراهيم «وقال السُّدِّيّ: القائل {كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا} هو جبريل. وقال ابن عباس في رواية مجاهد: لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها، قال: ولم يبق يومئذ نار إلا طفئت، ولو لم يقل» عَلَى إِبْرَاهِيم «بقيت ذات برد أبداً. قال السدي: فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس، ولم تحرق النار منه لا وثاقه. وقال المنهال بن عمرو: أخبرت أنّ إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار كان فيها إما أربعين يوماً أو خمسين يوماً، وقال: ما كنت أطيب عيشاً مني إذا كنت فيها. قال ابن يسار: وبعث الله عز وجل ملك الظل في صورة إبراهيم فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه، وأتى جبريل بقميص من حرير الجنة وَطِنْفسَة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه وقال: يا إبراهيم إنَّ ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي.

ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق، فناداه نمروذ: يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟

ص: 539

قال: نعم، قم فاخرج، فقام يمشي حتى خرج منها.

قال له نمروذ: من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعداً إلى جنبك؟ قال: ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني، فقال له نمروذ: إني مقرِّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك، وإنِّي ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال إبراهيم عليه السلام لا يقبل الله نمنك ما دمت على دينك هذا، قال نمروذ: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها ثم كف عن إبراهيم.

روي أن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة. وإنما اختاروا المعاقبة بالنار، لأنها أقوى العقوبات. وقيل: روي أن هاران أبا لوط قال لهم: إن النار لا تحرقه، لأنه سحر العقوبات. وقيل: روي أن هاران أبا لوط قال لهم: إن النار لا نحرقه، لأنه سحر النار، وبكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته، ففعلوا، فطارت شرارة في لحية أبي لوط فأحرقته.

قوله:» بَرْداً «أي: ذات برد. والظاهر في» سَلَاماً «أنه نسق على» بَرْداً «فيكن خبراً عن» كوني «. وجوَّز بعضهم أن ينتصب على المصدر المقصود به التحية في العرف وقد رُدَّ هذا بأنه لو قصد ذلك لكان الرفع فيه أولى، نحو قول إبراهيم:» سَلَامٌ «، وهذا غير لازم، لأنه لا يجوز أن يأتي القرآن على الفصيح والأفصح، ويدل على ذلك أنه جاء مقصوداً، والمقصود به التحية نحو قول الملائكة:» قَالُوا سَلَاماً «.

وقوله «عَلَى إبْرَاهِيمَ» متعلق بنفس إن قصد به النحية. ويجوز أن يكون صفة فيتعلق بمحذوف، وعلى هذا فيحتمل أن يكون قد حذف صفة الأول لدلالة صفة الثاني عليه تقديره: كوني برداً عيله وسلاماً عليه.

فصل

قال أبو مسلم الأصفهاني في تفسير قولنا «قُلْنَا يَا نَارُ» المعنى: أنه سبحانه وتعالى

ص: 540

جعل النار برداً وسلاماً لا أنَّ هناك كلاماً كقوله: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] أي: يكونه. واحتج عليه بأن النار جماد فلا يجوز خطابه.

والأكثرون على انه وجد ذلك القول، ثم هؤلاء قولان:

أحدهما: قال السُّديِّ: القائل هو جبريل.

والثاني: قول الأكثرين إنَّ القائل هو الله تعالى، وهو الأقرب الأليق بالظاهر. وقوله: النار جماد فلا يكون في خطابها فائدة.

فالجواب: لِمَ لا يجوز أن يكون المقصود من ذلك الأمر مصلحة عائدة إلى الملائكة.

فصل

اختلفوا في كيفية برد النار. فقيل: إن الله تعالى أزال ما فيها من الحرارة والإحراق، وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق، والله على كل شيء قدير.

وقيل: إنه تعالى خلق في جسم إبراهيم كيفية مانعة من وصول النار إليه كما يفعل بخزنة جهنم في الآخرة، وكما أنه ركب بنية النعامة بحيث لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، وبدن السمندل بحيث لا يضره المكث في النار. وقيل: إنه خلق بينه وبين النار حائلاً يمنع من وصول أثر النار إليه.

قال المحققون: والأول أولى، لأنَّ ظاهر قوله:{يانار كُونِي بَرْداً} أي نفس النار صارت باردة حتى سلم إبراهيم من تاثرها. فإن قيل: الناؤ إن بقيت كما كانت، والحرارة جزء من مسمى النار، وامتنع كون النار باردة، فإذن يجب أن يقال: المراد من النار الجسم الذي هو أحد أجاء مسمى النار، وذلك مجاز فلم كان مجازكم أولى. فالجواب: أن المجاز الذي ذكرناهخ يبقى معه حصول البرد وفي الذيب ذكرتم لا يبقى ذلك، فكان مجازنا أولى.

فصل

معنى كون النار سلاماً على إبراهيم: أنَّ البرد إذا أفرط أهلك كالحر فلا بُدّ من الاعتدال، وهو من وجوه:

ص: 541

الأول: أن يقدر الله بردها بالمقدار الذي لا يؤثر.

والثاني: أنَّ بعض النار صار برداً وبقي بعضها على حرارته فتعادل الحر والبرد.

والثالث: أنه تعالى جعل في جسمه مزيدَ حرٍّ فانتفع بذلك البرد وَالتَذَّ بهِ.

فصل

روي أنّ كلّ النيران في ذلك الوقت زالت وصارت برداً، ويؤيد ذلك أنَّ النار اسم للماهية، فر بُدّ وأنْ يحصل هذا البرد في الماهية ويلزم منه عمومه في كل أفراد الماهية وقيل: بل اختصت بتلك النار، لأنّ الغرض إنما تعلق ببرد تلك النار، وفي النار منافع للخلق فلا يجوز تعطيلها، والمراد خلاص إبراهيم لا إيصال الضرر إلى سائر الخلق.

فإن قيل: أفيجو ما روي من أنه لو لم يقل «وَسَلَاماً» لأتى الرد عليه. قال ابن الخطيب: ذلك بعيد، لأنَّ برد النار لم يحصل منها وإنما حصل من جهة الله تعالى فهو القادر على الحر والبرد، فلا يجوز أن يقال: كان البرد يعظم لولا قوله: «سَلَاماً» .

قوله: {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} أي: أرَادُوا ان يكيدوه {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} .

قيل: معناه أنهم خسروا السعي والنفقة ولم يحصل لهم مرادهم.

وقيل: فجعلناهم مغلوبين غالبوه فلقنه الله الحجة وقيل: أرسل الله على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم، ودخلت واحدة في دماغه فأهلكته.

قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} لما نصره الله تعالى أتم النعمة عليه بأن نجاه ونجَّى لوطاً وهو ابن أخيه، وهو لوط بن هاران نجاهما من نمروذ وقومه من أرض العراق إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين يعني مكة، وقيل: أرض الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء.

وقال تعالى: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] قال أُبي بن كعب: سماها مباركة، لأنّ ما من ماء عذب وإلا وينبع أصله منتحت الصخرة التي ببيت المقدس وروى قتادة أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب: ألا تتحول إلى المدينة فيها

ص: 542

مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وقبره، فقال إني وجدت في كتاب الله المنزل يا أمير المؤمنين أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده.

«وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - يقول:» إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم «قوله:» وَلُوطاً «يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على المفعول قبله.

والثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً معه. والأول أولى.

وقوله:» إِلَى الأَرْضِ «يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أن يتعلق ب،» نَجَّيْنَاهُ «علىأن يتضمن معنى أخرجناه بالنجاة فلما ضمن معنى أخرج تعدى تعديته.

والثاني: أنه لا تضمين فيه وأنَّ حرف الجر يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير في» نَجَّيْنَاهُ «أي: نجيناه منتهياً إلى الأرض كذا قدره أبو حيان وفيه نظر من حيث إنه قدر كوناً مقيداً وهو كثيراً ما يَرُدُّ على الزمخشري وغيره ذلك.

فصل

اعلم أنَّ لوطاً آمن بإبراهيم كما قال تعالى {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] وكان ابن أخيه، وهو لوط بن هاران بن تارخ، وهاران هو أخو إبراهيم، وكان لهما أخ ثالث يقال له ناخور بن تارخ، وآمنت به أيضاً سارة، وهي بنت عمه، وهي سارة بنت هاران الأكبر عن إبراهيم فخرج من كوشى من أرض حدود بابل بالعراق مهاجراً إلى ربه ومعه لوط وسارة، فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه حتى نزل حَرَّان فمكث بها

ص: 543

ما شاء الله، ثم ارتحل منها ونزل أرض السبع من فلسطين وهي برية الشام، ثم خرج منها مهاجراً حتى قدم مصر، ثم خرج من مصر إلى الشام، ونزل لزط بالمؤتفكة، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب، وبعثه الله نبياً، فلذلك قوله:{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} .

ص: 544

قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} . قال مجاهد وعطاء: النافلة العطية وكذل النفل، ويسمى الرجل الكثير العطاء نوفلاً.

وقيل: الزيادة. وقيل: ولد الوالد.

فعلى الأول ينتصب انتصاب المصدر من معنى العامل وهو «وَهَبْنَا» لا من لفظه لأنّ الهبة والعطاء متقاربان فهي كالعاقبة والعافية. وعلى الآخرين ينتصب على الحال، والمراد بها يعقوب. والنافلة مختصة بيعقوب على كل تقدير، لأنّ إسحاق ولده لصلبه، وهذا قول ابن عباس وأُبيّ بن كعب وابن زيد وقتادة.

قوله: «وَكُلاًّ» مفعول أول ل «جَعَلْنَا» و «صَالِحِينَ» هو الثاني توسط العامل بينهما، والأصل: وجعلنا أي: صيرنا كلاًّ من إبراهيم ومن ذكر معه صالحين. وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} كما تقدم إلا أنه لم يتوسط العامل.

وقوله: «يَهْدُونَ» صفة ل «أئمةً» و «بأَمْرِنَا» متعلق ب «يَهْدُونَ» وقد تقدم التصريف المتعلق بلفظ «أَئِمَّة» وقراءة القراء فيها.

فصل

المعنى: «وَكُلاً» من إبراهيم وإسحاق ويعقوب «جَعَلْنَا صَالِحِينَ» .

ص: 544

قال الضحاك: أي: مرسلين، وقال آخرون: عاملين بطاعة الله. «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً» يقتدى بهم في الخبر «يَهْدُونَ» يدعون الناس إلى ديننا {بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} أي: العمل بالشرائع. وقال أبو مسلم: المراد النبوة. «وَإِقَام الصَّلَاةِ» أي: وإقامة الصلاة، يعني المحافظة؟ {وَإِيتَآءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} موحدين. دلَّت هذه الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأنَّ قوله تعالى:{وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ} يدل على أنّ الصلاح من قبله.

وأجاب الجبائي: بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم «صَالِحِيْنَ» ويكونهم «أَئِمَّةٌ» وبكونهم «عَابِدَيْنَ» ، ولما مدحهم بذلك، وإذا كان كذلك فلا بُدَّ من التأويل وهو من وجهين:

الأول: أنْ يكونَ المراد أنه تعالى أتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به.

والثاني: أنَّ المراد تسميتهم بذلك كما يقال: زيد فسق فلاناً وكفره، إذا وصفه بذلك وكان مصدقاً عند الناس، وكما يقال في الحاكم زكى فلاناً، وعدله، وجرحه، إذا حكم بذلك. والجواب: المعارضة بمسألة العلم والداعي، وأما الحمل على اللطف فباطل، لأنَّ فعل الإلطاف عام في المكلفين، فلا بُدَّ في هذا التخصيص من مزيد فائدة، ولأنّ قوله: جعلته صالحاً كقولك: جعلته متحركاً، فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر. وأما الحمل على التسمية فمحال، لأنّ ذلك إنما يصار إليه إلا عند الضرورة في بعض المواضع، ولا ضرورة ههنا إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم وحينئذ نرجع إلى مسألتي الداعي والعلم.

قوله: «فِعْلَ الخَيْرَاتِ» قال الزمخشري: أصله انْ تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، (ثم فعل الخيرات) وكذلك {إِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة} .

قال أبو حيَّان: كأنَّ الزمخشري لما رأى أنَّ فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليس من الأحكام المختصة بالموحي إليهم، بل هم وغيرهم في ذلك مشتركون بنى الفعل للمفعول حتى لا يكون المصدر مضافاً من حيث المعنى إلى ضمير الموحى إليهم، فلا يكون فعلهم الخيرات وإقامتهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة، ولا يلزم ذلك إذ الفاعل

ص: 545

مع المصدر محذوف. ويجوز أنْ يكونَ من حيث المعنى مضافاً إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليهم وغيرهم، والتقدير: فعل المكلفين الخيرات. ويجوز أن يكون مضافاً إلى ضمير الموحى إليهم أي: أن يفعلوا الخيرات ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإذا كانوا هم قد أوحى إليهم ذلك فأتباعهم جارون مجراهم في ذلك، ولا يلزم اختصاصهم به. ثم اعتقاد بناء المصدر للمفعول مختلف فيه أجاز ذلك الأخفش، والصحيح منعه، فليس ما اختاره الزمخشري بمختار. قال شهاب الدين: الذي يظهر أنّ الزمخشري لم يقدر هذا التقدير الذي ذكره الشيخ حتى يلزمه ما قاله بل إنما قدّر ذلك، لأن نفس الفعل الذي هو معنى صادر من فاعله لا يوحى إنما يوحى ألفاط تدل عليه فكأنه قيل: وأوحينا هذا اللفظ وهو أن نفعل الخيرات، ثم صاغ ذلك الحرف المصدري مع ما بعده منوناً ناصباً لما بعده، ثم جعله مصدراً مضافاً لمفعوله.

وقال ابن عطية: والإقام مصدر وفي هذا نظر انتهى، يعني ابن عطية بالنظر أن مصدر (أفعل) على (الإفعال) ، فإنْ كان صحيح العين جاء تاماً كالإكرام، وإنْ كان معتلها حذف منه إحدى الألفين، وعوض منه تاء التأنيث فيقال: إقامة، إذا اعتلت عينه،

ص: 546

وحسن ذلك أنه قابل: «وَإِيتَاءَ الزَّكاة» وهو بغير تاء فتقع الموازنة بين قوله {وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة} . وقال الزجاج: حذف التاء من إقامة، لأنَّ الإضافة عوض عنها. وهذا قول الفراء زعم أنَّ التاء تحذف للإضافة كالتنوين.

ص: 547

قوله تعالى: {وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} الآية.

في الواو في قوله: «وَلُوطاً» قولان:

أحدهما: قال الزجاج: إنَّه عطف على قوله «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ» .

والثاني: قال أبو مسلم: إنه عطف على قوله {آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} [الأنبياء: 51] ولا بُدَّ من ضمير في قوله: «وَلُوطاً» كأنه قال: وآتينا لوطاً، فهو منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر بعده تقديره: وآتينا لوطاً آتيناه، فهي من الاشتغال والنصب في مثله هو الراجح، ولذلك لم يقرأ به لعطف جملته على جملة فعلية وهو أحد المرجحات.

ص: 547

وقيل: إنَّ «لُوطاً» منصوب ب (اذكر) لوطاً.

«آتَيْنَاهُ حُكْماً» أي: الحكمة، أو الفصل بين الخصوم بالحق، وقيل: النبوة «وَعِلْماً» قيل: أدخل التنوين على الحكم والعلم دلالة على علو شأن ذلك الحكم وذلك العلم.

قوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية} أي: من أهل، يدل على ذلك قوله:{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وكذلك أسند عمل الخبائث إليها، والمراد أهلها يريد سدوساً.

والخبائث صفة لموصوف محذوف أي: يعمل الأعمال لخبائث، كانوا يأتون الذكران في أدبارهم، ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أُخَر كانوا يعلمون من المنكرات {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ} قال مقاتل: الرحمة النبوة وقال ابن عباس والضحاك: إنَّها الثواب. {إِنَّهُ مِنَ الصالحين} .

ص: 548

قوله تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نادى مِن قَبْلُ} الآية. في نصب «نوحاً» وجهان:

أحدهما: أنه منصوب عطفاً على «لوطاً» فيكون مشتركاً معه في عامله الذي هو «آتَيْنَاهُ» المفسر ب «آتَيْنَاهُ» الظاهر، وكذلك {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} والتقدير: وَنُوحاً آتيناه حُكْماً وداود وسليمان آتيناهما حكماً، وعلى هذا ف «إذْ» بدل من «نُوحاً» ومن «داود وسليمان» بدل اشتمال، وتقدم تحقيق مثل هذا في طه.

ص: 548

الثاني: أنه منصوب بإضمار (اذكر)، أي: اذكر نوحاً وداود وسليمان أي: اذكر خبرها وقصتهم، وعلى هذا فيكون «إذْ» منصوبة بنفس المضاف المقدر، أي: خبرهم الواقع في وقت كان كيت وكيت.

وقوله: «مَنْ قَبْلُ» أي: من قبل هؤلاء المذكورين.

فصل

المراد من هذا النداء: دعاؤه على قومه بالعذاب، ويدل على لك قوله:{أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر} [القمر: 10]، وقوله:{رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] ويؤكده قوله تعالى {فاستجبنا لَهُ} «فَنَجَّيْنَاهُ» ، يدل على ذلك أنَّ نداءه ودعاءه كان بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من الأذى بسبب تكذيبهم وردهم عليه واتفق المحققون على أنَّ ذلك النداء كان بأمر الله، لأنَّه لو لم يكن بإذنه لم يؤمن أن يكون المصلحة أن لا يجاب إليه، فيصير ذلك سبباً لنقصان حال الأنبياء. وقال آخرون: لم يكن مأذوناً له في ذلك. قال أبو أمامة: لم يتحسر أحد من خلق الله كحسرة آدم ونوح عليهما السلام فحسرة آدم على قبول وسوسة إبليس، وحسرة نوح على دعائه على قومه فأوحى الله إليه أن دعوتك وافقت قدرتي قوله:{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} المراد بالأهل هنا اهل دينه قال ابن عباس: المراد {مِنَ الكرب العظيم} من الغرق وتكذيبه قومه وقيل: لأنه كان أطول الأنبياء عُمراً وأشدَّهُمْ بلاءً، والكرب أشد الغم.

قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} فيه أوجه:

أحدها: أن يُضمن «نَصَرْنَاهُ» معنى منعناه وعصمناه، ومثله {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] فلما تضمن معناه تعدى تعديته.

ص: 549

والثاني أن (نصر) مطاوعه (انتصر) فتعدى تعدية ما طاوعه، قال الزمخشري هو نصر الذي نطاوعه انتصر، وسمعت هذيلاً يدعو على سارق اللهم انصرهم منه أي: اجعلهم منتصرين منه. ولم يظهر فرق بالنسبة إلى التضمين المذكور فإن معنى قوله: منتصرين منه أي: ممتنعين أو معصومين منه.

الثالث: أن «مِنْ» بمعنى «عَلَى» أي: على القوم، (وقرأ أبي «ونَصَرْنَاهُ عَلَى القَوْمِ» ) . قال المبرد: ونصرناه من مكروه القوم.

قال تعالى: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] . والمعنى منعناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا أن يصلوا إليه بسوء {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ} لتكذيبهم له وردهم عليه {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} فخلصه منهم بذلك.

ص: 550

قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الآية. تقدم الكلام على الإعراب.

واعلم أَنَّ المقصود ذكر نعم الله على داود وسليمان، فذكر أولاً النعمة المشتركة بينهما ثم ذكر ما يخصّ كل واحد منهما من النعم. أما النعمة المشتركة فهي قصة الحكومة، وهو أن الله زينهما بالعلم والفهم في قوله:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} قال أكثر المفسرين: المراد بالحرث الزرع. وقال ابن مسعود وابن عباس: كان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده. {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} أي رعته ليلاً فأفسدته؛

ص: 550

والنَّقْشُ: الرعي بالليل. قاله ابن السكيت، وهو قول جمهور المفسرين. والنَّفْشُ: الانتشار، ومنه {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] ونفشت الماشية أي: رعت ليلاً بغير راع، عكس الهَمَل وهو رعيها نهاراً بلا راع. وعن الحسن: أنَّ النفش هو الرعي بلا راع كان أو نهاراً.

قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} في الضمير المضاف إليه «حُكْم» أوجه:

أحدها: أنه ضمير جمع يراد به المثنى، وإنما وقع الجمع موقع التثنية مجازاً، أو لن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان، ويدل علىأنَّ المراد التثنية قراءة ابن عباس «لِحُكْمِهما» بصيغة التثنية.

الثاني: أنَّ المصدر مضاف للحاكمين والمحكوم عليه، فهؤلاء جماعة.

وهذا يلزم منه إضافة المصدر لفاعله ومفعوله دفعو واحدة، وهو إنما يضاف لأحدهما فقط. وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز، فإن الحقيقة إضافة المصدر لفاعله، والمجاز إضافته لمفعوله.

الثالث: أنَّ هذا مصدر لا يراد به الدلالة على علاج، بل جيء به للدلالة على أنَّ هذا الحدث وقع وصدر كقولهم: له ذكاء الحكماء، وفهم فهم الأذكياء فلا ينحل بحرف مصدري وفعل، وإذا كان كذلك فهو مضاف في المعنى للحاكم والمحكوم له والمحكوم عيله، ويندفع المحذوران المذكوران.

قوله: «فَفَهَّمْنَاهَا» . قرأ العامة «فَفَهَّمْنَاهَا» بالتضعيف الذي للتعدية، والضمير للمسألة أو للفتيا.

وقرأ عكرمة: «فَأَفْهَمْنَاهَا» بالهمزة عداه بالهمزة كما عدّاه العامة بالتضعيف.

ص: 551

فصل

قال أكثر المفسرين: دخل رجلان على داود عليه السلام أحدهما: صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدته، فلا يبق منه شيئاً، فقال داود: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال: لو وليت أمرهما لقضيت بغير هذا. وروي أنه قال: غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود، فدعاه، فقال: كيف تقضي، وروي أنه قال له: بحق النبوة والأبوة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها، ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه، فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى أهله، وأخذ صاحب الغنم غنمه، فقال داود: القضاء ما قضيت.

وقال ابن مسعود ومقاتل: إن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان، وأفسدت الكرم، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود، فقضى له بالغنم، لأن لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت وذكر باقي القصة. قال ابن عباس: حكم سليمان ذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة وأما حكم الإسلام: أنّ ما أفسدت الماشية المرسلة بالنهار من مال الغير فلا ضمان على ربها، وما أفسدت بالليل ضمنه ربها، لأنَّ في عرف الناس أنَّ أصحاب الزروع يحفظونها بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار، وترد بالليل إلى المراح.

«روى ابن محيصة أنّ ناقة لِلْبَرَاء بن عازِب حائطاً فَأَفْسَدَتْ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -» أَنَّ على أَهْل الحَوَائِط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضَامِنٌ على أهْلِهَا «.

ص: 552

وذهب أصحاب الرأي إلى أن المالك إذا لم يكن معها فلا ضمان عليه فيما اتلفت الماشية ليلاً كان أو نهاراً.

فصل

قال أبو بكر الأصم: إنهما لم يختلفا في الحكم ألبتة، وأنه تعالى بين لهما الحكم على لسان سليمان. والصواب أنهما اختلفا، ويدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم وأيضاً قوله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، ثم قال:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} والفاء للتعقيب، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا الفهم، وذلك الحكم السابق إن اتفقا فيه لم يبق لقوله {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فائدة. وإن اختلفا فيه فهو المطلوب.

فصل

احتج الجبائي على أنّ الاجتهاد غير جائز من الأنبياء بوجوه:

الأول: قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يوحى إِلَيَّ} [يونس: 15] وقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] .

الثاني: أنّ الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على اليقين، فلا يجوز المصير إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز الاجتهاد.

الثالث: لو جاز له الاجتهاد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها، فلما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دلّ على أنّ الاجتهاد غير جائز عليه.

الرابع: أنّ الاجتهاد إنما يصار إليه عند فقد النص، وفقد النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد.

الخامس: لو جاز الاجتهاد من الرسول أيضاً من جبريل، وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله أم من اجتهاد جبريل؟

وأجيب عن الأول: أنّ الآية واردة في إبدال آية بآية، لأنه عقيب قوله:{قَالَ الذين لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] ولا مدخل للاجتهاد في ذلك.

ص: 553

وأما قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] فمن جوَّز له بالاجتهاد يقول إنّ الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة، وإن لم يكن ذلك على التفصيل، وأيضاً فالآية واردة في الأداء عن الله لا في حكمه الذي يكون بالعقل.

وعن الثاني: أنَّ الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللاً في الأصل بكذا، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بمثل ذلك الحكم، فههنا الحكم مقطوع به، والظن غير واقع فيه بل في طريقه.

وعن الثالث: لعله عليه السلام كان ممنوعاً عن الاجتهاد في بعض الأنواع، أو كان مأذوناً له مطلقاً، لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد فتوقف.

وعن الرابع: لِمَ لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد.

وعن الخامس: أن هذا الاحتمال مدفوع بإجماع الأمة على خلافه. ثم الذي يدل على جواز الاجتهاد لهم وجوه:

الأول: أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أنَّ الحكم في الأصل معلّل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بُدَّ وأن يغلب على ظنه أنَّ حكم الله في هذه الصورة مثل ما في الأصل كقوله عليه السلام.

«أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ» .

الثاني: قوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا» أمر الكل بالاعتبار، فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل، وإلا لكان كل واحد من المجتهدين أفضل منه في هذا الباب. فإن قيل: إنما يلزم لو لم يكن درجته أعلى من الاعتبار، وليي الأمر كذلك لأنه كان يستدرك الأحكام وحياً على سبيل اليقين، فكان أرفع درجة من الاجتهاد (قصاراه الظن.

فالجواب: لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع، فلو لم يكن من أجل

ص: 554

الاجتهاد) لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه تعرف ذلك الحكم من الاجتهاد، وأيضاً فقد تقدم أن الله لما أمره بالاجتهاد كان ذلك مفيداً للقطع.

الرابع: قوله عليه السلام «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الاجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك.

الخامس: قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فذاك الإذْنُ إن كان بإذن الله - تعالى - استحال له «لِمَ أَذِنْتَ» وإن كان بهوى النفس فهو جائز. وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب.

فصل

قال الجبائي: لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء ففي هذه المسألة لا نجوزه لوجوه:

أحدها: أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من دّر صواباً لزم أن لا ينقض لأنَّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإن كان خطأ وجب أن يبين الله توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام، فلما مدحهما بقوله:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} دَلَّ على أنه لم يقع الخطأ من داود عليه السلام.

وثالثها: لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظناً لا علماً لكن الله تعالى قال: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} .

ورابعها: كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد مع قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} .

وأجيب عن الأول: بأنَّ الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجِعَالَات، وحكم المصرّاة.

ص: 555

وعن الثاني: لعلَّ خطأه كان من باب الصغائر.

وعن الثالث: إنّ المتمسك بالقياس فإن الظن واقع في طريق الحكم، فأمَّا الحكم فمقطوع به.

وعن الرابع: أنَّ المجتهد إذا تأمل واجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم كأن الله - تعالى - فهمه من حيث بين له طريق ذلك.

فهذا جملة الكرم في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد. وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أنْ يكون اختلافهما فيه بسبب النص، فوجهه أنْ يقال: إنَّ داود عليه السلام كان مأموراً بالحكم من قبل الله - تعالى - ثم إنه تعالى نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان خاصة، وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً.

وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} اي: أوحينا إليه. فإن قيل: هذا باطل لوجهين:

الأول: لما أنزل الله الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان.

الثاني: أن الله تعالى مدح كل واحد منهما على الفهم، ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح.

واعلم أنَّ القول الأول أولى، لأنه روي في الأخبار الكثيرة أن داود لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أنَّ غير ذلك أولى، وفي بعضها أنّ داود ناشده لكي يورده ما عنده، ولو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه. ووجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس: أن داود عليه السلام قوّم قدر الضرر في الكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم وكان عنده أنّ الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع، فلا جرم سلم الغنم إلى المجني عليه كما قال أبو حنيفة في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه.

وأما سليمان فأداه اجتهاده إلى أنه يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد وأما مقابلته بالزوائد فغير جائز، لأنه يقتضي الحيف، ولعل منافع الغنم في تلك

ص: 556

السنة كانت موازنة فحكم به، كما قال الشافعي: فيمن غصب عبداً فأبق من يده أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإيزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادّا.

فصل

إذا ثبت أنّ تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد، فهل تدل هذه القصة على أَنَّ المصيب واحد، أو الكل مصيبين؟ فمن قال: إنَّ المصيب واحد استدل بقوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} قال: ولو كان الكل مصيبون لم يكن لتخصيص سليمان بهذا التفهيم فائدة. وأما القائلون بأنَّ الكل مصيبون فمنهم من استدل بقوله تعالى {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ، ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} قال ابن الخطيب: وكلا الاستدلالين ضعيف أما الأول: فلأنّ الله - تعالى - لم يقل إنه فهم الصواب، فيحتمل أنه فهممه الناسخ، ولم يفهم ذلك داود، فكان كل واحد منهما مصيب فيما حكم به على أن أكثر ما في الآية أنَّها دالة على أنَّ داود وسليمان ما كانا مصيبين، وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا.

واما الثاني: فلأنه تعالى لم يقل: كلاًّ آتيناه فيما حكم به هنا، بل يجوز أنْ يكون إيتاؤه حكماً في شرعهم أنْ يكون الأمر كذلك في شرعنا.

قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ} هذه من النعم التي خصَّ بها داود فقوله: «يُسَبِّحْنَ» في موضع نصب على الحال.

«والطَّيْرَ» يجوز ان ينتصب نسقاً على «الجِبَالَ» ، وأن ينتصب على المفعول معه وقيل:«يسبِّحْنَ» مستأنف فلا محل له. وهو بعيد. وقرئ «وَالطَّيْرُ» رفعاً وفيه وجهان:

أحدهما: أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي: والطير مسخرات أيضاً.

ص: 557

والثاني: أنه نسق على الضمير في «يُسَبِّحْنَ» ، ولم يؤكد ولم يفصل، وهو موافق لمذهب الكوفيين.

فصل

قال ابن عباس: (كان يفهم) تسبيح الحجر والشجر.

وقال وهب: كانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير.

وقال قتادة: «يُسَبِّحْنَ» أي: يصلين مع إذا صلى. وقيل: كان داود إذا فتر سمعه الله تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه.

وقال بعض المفسرين: إنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً.

وقالت المعتزلة: لو حصل الكرم في الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله فيه، والأول محال، لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة، وما لا يكون حياً قادراً عاقلاً يستحيل مه الفعل.

والثاني محال، لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله لكان المتكلم هو الله لا الجبال. فثبت أنَّه لا يمكن إجراؤه على ظاهره، فعند هذا قالوا: معنى قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال} قوله: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] أي: تصرفي معه وسيري بأمره. ومعنى «يُسَبِّحْنَ» من السبح الذي هو السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو أفرد لقيل: اسبحي، فلما كثر قيل سبحي معه، أي: سيري وهو كقوله: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] أي: تصرفاً ومذهباً، إذا ثبت هذا فنقول: إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله. واعلم أنّ مدار هذا القول على أن بنية الجبال لا تقبل الحياة، وأن المتكلم من فعل الكلام، وكلاهما ممنوع، وأما «

ص: 558

الطّيْر» فلا امتناع أن يصدر عنها الكلام، ولكن أجمعت الأمة على أنّ المكلفين إمَّا الجن والإنس والملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل يكن حاله كحال الطفل في ان يُؤْمر ويُنْهَى.

وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق. وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله وعلى تنزيهه عمّا لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال. وقدم الجبال على الطير، لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان.

ثم قال: «وَكُنَّا فَاعِلِينَ» أي: قادرين على أنْ نفعل وإنْ كان عجباً عندكم وقيل: نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام.

الإنعام الثاني قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} الجمهور على فتح اللاتم من «لَبُوسٍ» وهو الشيء المعد للبس قال الشاعر:

3730 -

أَلْبَسُ لكُلِّ حَالَةٍ لَبُؤْسَهَا

إِمَّا نَعِيْمَهَا وَإمَّا بُؤسَهَا

والمراد باللبوس هنا الدرع لأنها لا تلبس، وهي في اللغة اسم لكل ما يلبس. ويستعمل في الأسلحة كلها، وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب.

وقرئ «لُبُوس» بضم اللام، وحينئذ إما أنْ يكون جمع لُبْس المصدر الواقع موقع المفعول، وإما أنْ لا يكون واقعاً موقعه، والأول أقرب. و «لَكُمْ» يجز أن يتعلق ب «عَلَّمْنَاه» ، وأن يتعلق ب «صَنْعَةَ» قاله أبو البقاء، وفيه بُعْد. وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «لَبُوس» . قال قتادة: أول من صنع الدروع وسردها وحلقها داود وإنما كانت صفائح.

قوله: «لِتُحْصِنَكُم» . هذه لام كي، وفي متعلقها أوجه:

أحدها: أن تتعلق ب «عَلَّمْنَاهُ» ، وهذا ظاهر على القولين الآخرين وأما على

ص: 559

القول الثالث فيشكل، وذلك أنه يلزم تعلق جر في جر متحدين لفظاً ومعنى. ويجاب عنه بأن يجعل بدلاً من «لَكُمْ» بإعادة العامل كقوله تعالى:{لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] وهو بدل اشتمال، وذلك أنَّ أنْ الناصبة للفعل المقدرة مؤولة وهي منصوبها بمصدر، وذلك المصدر بدل من ضمير المخاطب في «لَكُمْ» بدل اشتمال، والتقدير: وعلمناه صنعة لبوس لتحصنكم.

والثاني: أن تتعلق ب «صَنْعَةَ» على معنى أنه بدل من «لَكُم» كما تقدم تقريره وذلك على رأي أبي البقاء، فإنه علَّق «لَكُمْ» ب «صَنْعَةَ» .

والثالث: أنها تتعلق بالاستقرار الذي تعلق به «لَكُمْ» إذا جعلناه صفة لما قبله. وقرأ الحرميان والأخوان وأبو عمرو: «لِيُحْصِنَكُمْ» بالياء من تحت، والفاعل الله تعالى، وفيه التفات على هذا الوجه، إذ تقدمه ضمير المتكلم في قوله «وَعَلَّمْنَاهُ» . أو داود، أو التعليم، أو اللبوس. وقرأ حفص وابن عامر بالتاء من فوق، والفاعل الصنعة أو الدرع، وهي مؤنثة، أو اللبوس، لأنها يراد بها ما ليس، وهو الدرع، والدرع مؤنثة كما تقدم.

وقرأ أبو بكر «لِنُحْصِنَكُمْ» بالنون جرياً على «عَلَّمْنَاهُ» . وعلى هذه القراءات الثلاث الحاء ساكنة والصاد مخففة. وقرأ الأعمش «لِيحَصِّنكم» وكذا النعيمي عن أبي عمرو بفتح الحاء وتشديد الصاد على التكثير إلَاّ أن الأعمش بالتاء من فوق وأبو عمرو بالياء من تحت وقُدِّمَ ما هو الفاعل.

فصل

معنى «لِنُحْصِنَكُم» أي: لنحرزكم ونمنعكم من بأسكم أي: حرب عدوكم.

ص: 560

وقال السُّديّ: من وقع السلاح فيكم. ذكر الحسن أن لقمان الحكيم - صلوات الله عليه - حضر داود وهو يعمل الدرع، فأراد أن يسأله عمَّا يفعل ثم كف عن السؤال حتى فرغ منها ولبسها على نفسه، فقال عند ذلك: الصمت حكمة وقليل فاعله. ثم قال تعالى: {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} يقول لداود وأهل بيته وقيل: يقول لأهل مكة، فهل أنتم شاكرون نعمي بالطاعة الرسول.

قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} العامة على النصب، أي: وسخرنا لسليمان، فهي منصوبة بعامل مقدر. وقرأ ابن هرمز وأبو بكر عن عاصم في رواية بالرفع عى الابتداء، والخبر الجار قبله. وقرأ الحسن وأبو رجاء بالجمع والنصب. وأبو حيوة بالجمع والرفع. وتقدم الكرم على الجمع والإفراد في البقرة، وبعض هؤلاء قرأ في سبأ وكذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

قوله: «عَاصِفَةً» حال، والعامل فيها على قراءة من نصب «سَخَّرْنَا» المقدر، وفي قراءة من رفع الاستقرار الذي تعلق به الخبر. يقال: عَصَفتِ الرِّيْحُ تَعْصِفُ عَصْفاً وعُصُوفاً، فهي عَاصِفٌ وعَاصِفَةٌ. وأسد تقول: أَعصَفَتِ بالألف تعصف، فهي مُعْصِفٌ ومَعْصِفَةٌ. والريح تذكر وتؤنث. والعاصفة: الشديدة الهبوب. فإن قيل: قد قال في موضع آخر {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً} [ص: 36] والرخاء: اللين قيل: كانت الريح تحت أمره، إن أراد أن تشتد اشتدت، وإن أراد أن تلين لانت.

فإن قيل: قال في داود: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال} ، وقال في حق سليمان {وَلِسُلَيْمَانَ الريح} فذكر في حق داود بكلمة مع وفي حق سليمان باللام وراعى

ص: 561

هذا الترتيب أيضاً في قوله {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] وقال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [ص: 36] فما الفائدة في تخصيص داود بلفظ مع، وسليمان باللام؟

فالجواب: يحتمل أنّ الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف فما أضيف بلام التمليك، وأما الريح فلم يصدر منه إلا ما يجري مجرى الخدمة فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك وهذا جواب إقناعي.

قوله: «تَجْرِي» يجوز أن تكن حالاً ثانية، وأن تكون حالاً من الضمير في «عَاصِفَة» فتكون حالين متداخلين. وزعم بعضهم: أَنَّ «الَّتِي بَارَكْتَا (فِيهَا» صفة للريح، وفي الآية تقديم وتأخير، والتقدير: الريح التي باركنا فيها) إلى الأرض.

وهو تعسف. والمراد بقوله: {إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} بيت المقدس. قال الكلبي: كان سليمان عليه السلام وقومه يركبون عليها من إصطخر إلى الشام، وإلى حيث شاء، ثم يعود إلى منزله.

ثم قال: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} وكنا بكل شيء عملناه عالمين بصحة التدبير فيه، علمنا أنما نعطي سليمان من تسخير الريح وغيره يدعوه إلى الخضوع لربه. قوله:{مَن يَغُوصُونَ} يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة وعلى كلا التقديرين فموضعهما إمَّا نصب نسقاً على الريح، أي: وسخرنا له من يغوصون، أو رفع على الابتداء والخبر في الجار قبله وجمع الضمير حملاً على معنى «مَنْ» ، وحسن ذلك تقدم الجمع في

ص: 562

قوله «الشَّيَاطِينَ» فلما ترشح جانب المعنى روعي، ونظيره قوله:

3731 -

وَإنَّ من النِّسْوَانِ مَنْ هِي روضة

تهيج الرياض قبلها وتصوح

راعى التأنيث لتقدم قوله: وإنَّ من النسوان. و «دُونَ ذَلِكَ» صفة ل «عَمَلاً» .

فصل

يحتمل أن يكون من يغوصون منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال، ويحتمل أنهم فرقة أخرى، ويكون الكل داخليتن في لفظة «مَنْ» والأول أقرب. وظاهر الآية أنه سخرهم لكنه قد روي أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين:

أحدهما: إطلاق لفظ الشياطين.

والثاني: قوله: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} فإنَّ المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد، وإنما يجب ذلك في الكافر. ومعنى «يَغُوصُونَ» أي: يدخلون تحت الماء، فيخرجون له من قعر البحر الجواهر {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك} أي: دون الغوص، وهو ما ذكره تعالى في قوله:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13] الآية. {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} حتى لا يخرجوا من أمره.

وقيل: وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من المؤمنين الجن. وقال ابن عباس:

ص: 563

إنَّ سلطانه مقيم يفعل بهم ما يشاء. وفي كونهم محفوظين ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه تعالى كان يحفظهم لئلا يذهبوا.

وثانيها: قال الكلبي: كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه.

وثالثها: قال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا، وكان دأبهم أن يعملوا بالنهار ثم يفسدونه بالليل.

روي أن سليمان كان إذا بعث شيطاناً مع إنسان ليعمل له عملاً قال له: إذا فرغ من عمله قبل الليل اشغله بعمل آخر لئلا يفسد ما عمل وكان من عادة الشياطين أنهم إذا فرغوا من العمل ولم يشتغلوا بعمل آخر خربوا ما عملوه وأفسدوه.

فصل

سأل الجبائي نفسه، وقال: كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم دقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل، وإنما يمكنهم الوسوسة؟ وأجاب بأنه - سبحانه - كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان، فلما مات سليمان عليه السلام ردهم إلى الخلقة الأولى، لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس ولو ادعى مثبت النبوة وجعله دلالة، لكان كمعجزات الرسل، فلذلك ردهم إلى خلقهم الأول.

قال ابن الخطيب: وهذا الكلام ساقط من وجوه:

أحدها: لم قلتم إنّ الجن من الأجسام، ولم يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز، ويكون الجن منهم؟ فإن قلت: لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى. قلت: هذا ضعيف لأنَّ الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في اللزومات، فكيف اللوازم السلبية.

سلمنا أنه جسم لكن لم يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف سلمنا أنه لا بُدّ من تكثيف أجسامهم، لكن لم قلتم: بأنه لا بثدّ من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان.

ص: 564

وقوله: بأنه يفضي إلى التلبيس، قلنا: التلبيس غير لازم، لأن النبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعوّ أن يقول: لم لا يجوز أن يقال: إن قوة أجسامهم كانت معجزة لنبي ىخر. ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به. واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة. أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد، وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة، فأي بعد أنْ يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً. وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار، وقد جعلها الله - تعالى - معجزة لسليمان عليه السلام، أما الهواء فقوله:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} [ص: 36] . وأما النار فلأنَّ الشياطين مخلوقين من النار، وقد سخرهم الله - تعالى - له، ثم كان يأمرهم بالغوص في المياه، والنار تطفأ بالماء، ولم تكن تضرهم وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد.

ص: 565

قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ} الآية.

قوله: وَأَيُّوبَ «كقوله:» وَنُوحاً «وما بعده. وقرأ العامة» أَنِّي «بالفتح لتسلط النداء عليها بإضمار حرف الجر بأني. زعيسى بن عمر بالكسر فمذهب البصريين إضمار القول أي: نادى فقال: إني ومذهب الكوفيين أجرى النداء مجرى القول. والضُّرّ بالضم المرض في البدن وبالفتح الضرر في كل شيء فهو أعم من الأول.

فصل

قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم، وهو

ص: 565

أيوب بن أنوص بن زارح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم، وكانت أمه من ولد لوط بن هاران، وكان الله قداصطفاها ونبأه وبسط عليه الدنيا، وكانت له البَثَنِيَّة من أرض الشام كلها سهلها وجبلها، وكان له فيها من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر والبساتين ما لا يكون لرجل أفضل منه في العدة والكثرة والأهل والولد من الرجال والنساء، وكان رحيماً بالمساكين يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل. وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به، وعرفوا فضله؛ قال: كان أحدهم من أهل اليمن يقال له: اليقن، ورجلان من أهل بلدة يقال لأحدهما: يلدد، والآخر ضافر، وكانوا كهؤلاء.

وكان إبليس لا يحجب عن شيء من السموات وكان يقف فيهن حيث ما أراد حتى رفع الله عيسى، فحجب من أربع، فما بعث محمد صلى الله عليه وسلم َ - حجب من الثلاث الباقية، فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب، وذلك حين ذكره الله وأثنى عليه فأدركه البغي والحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاص كان يقفه، فقال: إلهي نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكرك وعافيته فحمدك ولو ابتليته بنزع ما أعطيته لحال عما هو عليه من شكرك وعبادتك ولخرج من طاعتك. فقال الله - تعالى -: انطلق فقد سلطتك على ماله فانقض عدو إبليس حتى وقع إلى الأرض، ثم جمع عفاريت الجن ومردة الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فني سلطت على مال أيوب؟ فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرق كل شيء، فقال له إبليس: فأت الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها. ثم جاء إبليس في وي بعض الرعاة إلى أيوب، فوجده قائماً يصلي، فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك فأحرقتها ومن فيها غيري فقال أيوب: الحمد لله الذي هو أعطاها وهو أخذها، وقديماً وطّنْتُ نفسي ومالي على الفناء، فبقي الناس مبهوتين متعجبين، فمن قائل يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً، وما كان إلا في غرور. ومنهم مَنْ يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه.

ومنهم مَنْ يقول: هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوه، ويفجع به صديقه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله، ولو علم الله فيك خيراً أيها العبد لنقل روحك مع تلك الأرواح، وصرت شهيداً ولكنه علم

ص: 566

منك شراً فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً، فقال لهم: ماذا عندكم من القوة، فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحة صحيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه. فقال له إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاتها، ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي، فقال له مثل القول الأول، فرد عيله أيوب الرد الأول. فرجع إبليس صاغراً إلى أصحابه، فقال لهم: ما عندكم من القوة فإني لم أكلم قلب أيوب؟ فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً أقلع كل شيء أتيت عليه.

فقال: اذهب إلى الحرث والفدادين، فأتاهم، فأهلكهم. ثم أتى إبليس متمثلاً إلى أيوب، فقال مثل قوله: فرد عيله أيوب الرد الأول. وكلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال. فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله. فقال: إلهي إن أيوب يرى أنك ما متعته بولده، فأنت معطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده فإنها المعصية التي لا تقوم لها قلوب الرجال؟ قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده. فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم. ثم جاء أيوب متمثلاً بالمعلم الذي يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه والرأس يسيل دمه ودماغه، فقال: لو رأيت بنيك حتى رَقَّ ايوب - عيله السلام - وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه، وقال: ليت أمي لم تلدني، فاغتنم إبليس ذلك وصعد سريعاً، ووقف موقفه. ثم لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر واستغفر، وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته، فسبقت توبته إلى الله - تعالى - وهو أعلم. فوقف إبليس ذليلاً فقال: يا إلهي إنما هوّن على أيوب المال والولد لعلمه أنه يرى أنك متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده؟ فقال الله عز وجل انطلق فقد سلطتك على جسده، وذكرى للعابدين، وكل بلاء نزل بهم ليتأسوا به في الصبر، ورجاء للثواب. فانْقَضّ عدو الله سريعاً، فوجد أيوب ساجداً، فعجل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قبل وجهه، فنفخ في منخره نفخة اشتعل فيها جسده فخرج من

ص: 567

قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم، ووقعت فيه حكّة لا يملكها، فكان يحك بأظفاره حتى سقطت كلها، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها، ثم حكها بالفخار والحجارة الخشنة حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن، فأخرجوه أهل القرية وجعلوه على كناسة، وجعلوا له شرعاً، ورفضه الناس كلهم إلا امرأته رحمة بن افرايم بن يوسف، فكانت تصلح أموره ويختلف إليه مما يصلحه.

ثم إنَّ وَهْباً طول الحكاية إلى أن قال: إنَّ أيوب عليه السلام أقبل على الله - تعالى - متضرعاً إليه فقال: رب لأي شيء خلقتني يا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت والعمل الذي عملت فصرفت وجهك عني ألم أكن للغريب داراً، وللمسكين قراراً، ولليتيم ولياً، وللمرأة قيماً، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فَالمَنُّ لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء غرضاً، وللفتنة نصباً، وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله، إلهي تقطعت أصابعي، وتساقطت لهواتي، وتناثر شعري، وذهب المال فصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي، ويعيرني بفقري وهلاك أولادي. قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله: وفي جملة هذا الكلام ليتك إذا كرهتني لم تخلقني، ثم قال: ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنم إبليس بان يحمله على الشكوى، وأن يخرجه عن حلية الصابرين، والله لم يخبر عنه إلا قوله {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} وقال:{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] . واختلف العلماء في السبب الذي قاله لأجله {أَنِّي مَسَّنِيَ الضر} «فروى ابن شهاب عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -» إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشر سنة، فرفضه القريب والبعيد إلَاّ رجلين كانا يغدوان ويروحان، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: والله إن أيوب أذنب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين. فقال صاحبه: وما ذاك. فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم ي رحمه الله، ولم يكشف ما به. فلما راحا إلى أيوب لم يصبر حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب: ما أدري ما يقولان غير أن الله - تعالى - يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنها كراهية أن يذكر الله إلا في حق. وروي أنّ الرجلين لما دخلا عليه قالا: لو كان ليوب عند الله منزلةً ما بلغ في هذه الحالة. فما شق على أيوب شيء مما بلي به أشد مما سمع منهما، وقال: اللهم إن كنت تعلم أني

ص: 568

لم أبت شبعاناً وانا أعلم مكان جائع فصدقني، فصدق. ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم ألبس قميصي وأنا أعلم مكان عار فصدقني، فصدق. وهما يسمعان، ثم خرَّ أيوب ساجداً، ثم قال: اللهم لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال: فكشف الله ما به «.

وروى الحسن قال: مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهراً، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة، صبرت معه، وكانت تأتيه بطعام. فاجتمع جنوده من أقطار الأرض، وقالوا له: ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً، ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة ما يقربه إلا امرأته، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذمر والحمد، فاستغثت بكم لتعينوني، فأشيروا علي. قالوا: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها، لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم. فانطلق حتى أتى امرأته، فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت: هو ذَا يَحُكُّ قُرُوحَهُ وتتردد الدواب في جسده. فلما سمعها طمع أن يكون ذلك جزعاً فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه.

قال الحسن: فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت، فاتاها بسخلة فقال: ليذبح هذا أيوب لغير الله فيبرأ، قال: فجاءت تصرخ إلى أيوب تقول: حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك، أين المال، أين الولد، أين الماشية، أين الصديق، أين الحسن، أين جسمك الذي قد بلي وصار مثل الرماد وتردد فيك الدواب، اذبح هذه السخلة واسترح؟ قال أيوب عليه السلام: أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجتبيه، أما تذكرين ما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانا ذلك؟ قالت: الله. قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا بهذا البلاء؟ قالت سبع سنين قال: ما أنصفت ربك ألَاّ صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة، لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة أمرتيني أن أذبح لغير الله، وحرام عليّ ان أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به، فطردها، فذهبت، فلما نظر أيوب في شأنه، وليس عنده طعام، ولا شراب، ولا صديق، وقد ذهبت امرأته، خَرَّ ساجداً، وقال: {أَنِّي

ص: 569

مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك {اركض بِرِجْلِكَ} [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت، ثم ضرب برجله مرة أخرى، فنبعت عين أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلَاّ خرج، وقام صحيحاً، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان، ثم كسي حبة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه الله، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، فجعل يضمه بيده، فأوحى الله إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى، ولكن من يشبع من نعمك، قال: فخرج حتى جلس مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع، لأرجعن غليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة، ولا تلك الحال، وإذا الأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه، وتسأل عنه، فأرسل إيلها أيوب، ودعاها، فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت، وقالت: بعليط، قال أتعرفينه إذا رأتيه، قالت: وهل يخفى علي فتبسم وقال: أنا هو.

فعرفته بضحكه فاعتنقته، ثم قال: إنك أمرتيني أن أذبح لإبليس سخلة، وإني أطعت الله، وعصيت إبليس، ودعوت الله، فرد عليَّ ما ترين.

وروى الضحاك ومقاتل: أنّ أيوب بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات. وقال وهب: بقي في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب عليه السلام إبليس ذهب إبليس - لعنه الله - إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العطم والحسن والجمال، وعلى مركب ليس من مراكب الناس، فقال لها: أنت صاحبة أيوب، قاقلت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: فأنا إله الأرض، صنعت بأيوب ما صنعت، وذلك لأن عبد إله السماء وتركني فأغضبني، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله لعوفي مما في البلاء، وفي رواية أخرى قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة لرجعت المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها. فقال لها أيوب - عليه

ص: 570

السلام - أتاك عدو الله ليفتنك، ثم أقسم إن عافاه الله ليضربنها مائة سوط. فقال عند ذلك:{مَسَّنِيَ الضر} يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي له، ودعائه إيَّاها وإيَّايَ إلى الكفر.

وفي رواية قال وهب: كانت امرأة أيوب تعمل للناس وتأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء، وسئمها الناس، فلم يستعملوها، فالتمست ذات يوم شيئاً من الطعام، فلم تجد شيئاً، فجزت قرنها من رأسها فباعته برغيف، فأتته، فقال لها: أين قرنك؟ فأخبرته بذلك. فحينئذ قال: {مَسَّنِيَ الضر} . وفي رواية قال إسماعيل السّدّيّ: لم يقل أيوب {مَسَّنِيَ الضر} إلا لأشياء ثلاثة:

أحدها: قول الرجل له: لو كان عملك خالصاً لما أصابك ما أصابك.

والثاني: كانت لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداهن فقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً، وجاءت إلى أيوب، فقال: من أين هذا؟ قالت: كُلْ فإنَّهُ حلال. فلما كان من الغ لم تجد شيئاً فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث، وقالت: كُلْ فإنَّه حلال، فقال لا آكل ما لم تخبريني، فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما الله أعلم به.

وقيل: إنما باعت، لأن إبليس تمثل لقومه في صورة بشر، وقال: لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم: إنَّ امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها، فأقول: إنَّه يتعدى إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها.

والثالث: حين قالت له امرأته ما قالت. وفي رواية: قيل: سقطت دودة من فخذه فردها إلى موضعها، وقال: قد جعلني الله طعمة لك، فعضته عضة شديدة. فقال:{مَسَّنِيَ الضر} . وأوحى الله إليه: لولا أني جعلت تحت كل شعرة صبراً لما صبرت.

فصل

طعنت المعتزلة في هذه القصة من وجوه:

الأول: قال الجبائي: ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه عليه لقوله تعالى عنه {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] . وهذا جهل أما أولاً: فإنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدها من العافية لتهيأ له فعل الأجسام، ومن هذا حاله يكون إلهاً. وأما ثانياً: فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأن

ص: 571

قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] فالواجب تصديق خبر الله - تعالى - دون الرجوع إلى وهب بن منبه. وهذا اعتراض ضعيف، لأن المذكور في الحكاية أنَّ الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه. فلم قلتم: إنَّ القادر على النفخة التي تولد منها هذه الحكة لا بدَّ وأن يكون قادراً على خلق الأجسام، وهذا إلا محض التحكم. وأما التمسك بالنصّ فضعيف، لأنه إنَّما يقدم على الفعل مع علمه أنهل وأقدم عليه لما منعه الله تعالى. وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام من أنه استأذن الله فأذن له، وإن كان كذلك لم يكن بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة.

وثانيها: قالوا: ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة. فبعيد، لأنّ الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم بما يراه من أهله جاز أيضاً أن يسأل ربه من قبل نفسه. فإن قيل: أفلا يجوزون أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره. قلنا: يجوز ذلك بأن يعلمه أن إنزال ذلك بعد مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك من حيث يجوز أن يدومم ويجوز أن ينقطع.

وثالثها: قالوا: انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير غير جائز على الأنبياء.

فصل

اعلم أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب. فإن قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً.

فالجواب: قال سفيان بن عيينة: ولو شكى إلى الله فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله إذ ليس من شرطه استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب:{إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] .

ص: 572

قوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} وذلك أنَّ كلَّ من يرحم غيره فإمَّا أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو للرقة الجنسية في الطبع، فيكون مطلوب ذلك الثناء، ومن صفات الكمال فهو أرحم الراحمين. وأيضاً فكل من رحم غيره فإنما ذلك بمعونة رحمة الله، لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء فلولا الله - سبحانه - خلق المطعوم والملبوس والأدوية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء ولولا فضل الله لما حصل النفع النفع بذلك، فإذن رحمة العباد مسبوقة برحمة الله، وملحوقة برحمته، فما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون أرحم الراحمين. وأيضاً فلولا أن الله - تعالى - خلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور تلك الرحمة عنه، فكانم الراحم في الحقيقة هو الحق سبحانه لأنه هو الذي أنشأ تلك الداعية فكان تعالى أرحم الراحمين. فإن قيل: كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام، وسلط البعض على البعض بالإيذاء، وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وايذائه؟

فالجواب: أن كونه - سبحانه - ضاراً لا ينافي كونه راحماً بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة، ونفعه لي لجلب منفعة، بل لا يسأل عما يفعل.

قوله: «فاستجبنا لَهُ» يدل على أنه دَعَا ربَّه لكن هذا الدعاء يجوز أن يكون وقع منه على سبيل التعريض، كما يقال: إن رأيت لو أردت أو أجبت فافعل كذا، ويجوز أن يكون على سبيل التصريح لإزالة ما به من ضر. وبيّن تعالى أنه آتاه أهله، ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والحسن والكلبي وكعب: إن الله تعالى أحيا له أهله، يعني أولاده بأعيانهم، وأعطاه مثلهم معهم وهو ظاهر القرآن.

قال الحسن: آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رده إليه وأهله، ويدل عليه ما روى الضحاك عن ابن عباس: أن الله رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكراً. قال وهب: كان له سبع بنات وثلاثة بنين.

وقال ابن يسار: كان له سبعة بنين وسبع بنات.

وروي عن أنس يرفعه: أنه كان له أندران أندر للقمح وأنذر للشعير، فبعث الله سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب، وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض.

ص: 573

«وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فجعل أيّوب يَحْثى في ثوبه، فناداه ربُّه: يا أيوب ألم أكن أَغْنَيْتُكَ عَمَّا ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى عن بركتك» وروى الليث قال: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال: قيل لأيوب إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا، فقال: يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا فعلى هذا يكن معنى الآية «وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ» في الآخرة «وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ» في الدنيا. وأراد بالأهل الأولاد. فأما الذين أهلكوا فإنَّهم لم يردوا عليه في الدنيا.

قوله: «رَحْمَةً» فيها وجهان:

أظهرهما: أنها مفعول من أجله.

والثاني: أنها مصدر لفعل مقدر، أي: رحمناه رحمةً.

و «مِنْ عِنْدِنَا» صِفَة ل «رَحْمَةً» .

قوله: «وذكرى لِلْعَابِدِينَ» أي: فعل به تلك الرحمة، وهي النعمة لكي يتفكروا فيه بالذكر، ويتعظون فيعتبرون. وخص العابدين، لأنهم المنتفعون بذلك.

ص: 574

قوله تعالى: «وَإِسْمَاعِيلَ» يعني ابن إبراهيم، «وَإِدْرِيسَ» وهو اختوخ {وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} . لما ذكر صبر أيوب أتبعه بذكر هؤلاء، فإنهم أيضاَ كانوا من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة. أما إسماعيل فصبر على الانقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت فأكرمه الله وأخرج من صلبه خاتم النبيين. وأما إدريس فتقدمت قصته في سورة مريم قال ابن عمر:«بعث إلى قومه داعياً إلى الله فأبوا فأهلكهم الله، ورفع إدريس السماء السابعة» وأما ذو الكفل قال الزجاج: الكفلُ في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير والكفل أيضاً:

ص: 574

النصيب قال تعالى: {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} [النساء: 85] أي: نصيب. واختلفوا في تسميته بهذا الاسم، فقال الحسن: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه، وضعف ثوابهم. وقال ابن عباس: إن نبياً من أنبياء بي إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فاعرض الملك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أن يصلي بالليل لا يفتر ويصوم بالنهار ولا يفطر، ويقضي بين الناس ولا يغضب، فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك فقام شاب فقال: أنا أتكفل لك بهذا. وَوَفَى به، فشكر الله له ونبأه فسمي ذا الكفل. وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة، لأنه تكفل بأمور فوفى بها.

وقال مجاهد: ما كبر اليسع عليه السلام قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس، فقال من يتقبل مني ثلاثاً أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ويقضي فلا يغضب، فقام رجل تزدريه العين فقال: أنا. فرده ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت الناس وقام ذلك الرجل، فقال: أنا. فاستخلفه. فأتاه إبليس في صورة شيخ حين أخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام بالليل والنهار إلا تلك النومة. فذق الباب فقال: من هذا؟ فقال: شيخ كبير مظلوم، فقال: افتح الباب. فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا وفعلوا وجعل يطول حتى حضر الرواح، وذهبت القائلة. فقال: إذا رحت فأتني آخذ حقك، فانطلق وراح، فكان في مجلسه ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فلما كان الغد يقضي بين الناس ينظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة أخذ مضجعه أتاه، فدق الباب، فقال من هذا؟ فقال: الشيخ المظلوم، ففتح له، فقال: أقيل، فإذا قعدت فأتني، فقال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد، قالوا: نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق: فإذا رحت فأتني، فأتته القائلة، فراح فجعل ينظر ولا يراه، وشق عليه النعاس.

فقال للبواب في اليوم الثالث: قد غلب عليّ النعاس فلا تدع أحداً يقرب من هذا الباب حتى أنام، فجاء إبليس في تلك الساعة، فلم يأذن له الرجل فدخل في كُوَّة

ص: 575

في البيت، فتسور منها ودق الباب من داخل، فاستيقط وعاتب البواب، فقال: أما من قبلي فلم يأت، فانظر من أين أتيت، فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في التي، فقال له: أتنام والخصوم ببابك. فقال: أنت إبليس. قال: نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال بك، فعصمك الله مني، فسمي ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوقى به، وقيل غير ذلك.

فصل

قال أبو موسى الأشعري ومجاهد: ذو الكفل لم يكن نبياً بل كان عبداً صالحاً. وقال الحسن والأكثرون كان نبياً، وهو الأظهر، لأنه تعالى قرن ذكره بإسماعيل وإدريس، والغرض ذكر الفضلاء من عباده، فدلّ ذلك على نبوته، ولأن السورة ملقبة بسورة الأنبياء، ولأنَّ قوله:«دُو الكِفْلِ» يحتمل أن يكون لقباً، وأن يكون اسماً، والأولى أن يكون اسماً، لأنه أكثر فائدة من اللقب، وإذا ثبت ذلك، فالكِفْلُ هو النصيب، لقوله تعالى «يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَ» . والظاهر أنّ الله تعالى سماه بذلك تعظيماً له، فوجب أن يكون الكفل هو كفل لاثواب، فسمي بذلك، لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره، وقد كان في زمنه أنبياء على ما روي.

فصل

قيل: إن ذا الكفل زكريا. وقيل: يوشع. وقيل: إلياس. ثم قالوا: خمسة من الأنبياء عليهم السلام سماهم الله باسمين إسرائيل ويعقوب وإلياس وذا الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذا النون، ومحمداً وأحمد.

قوله: «كُلّ مِنَ الصَّبِرِيْنَ» أي: على القيام بأمر الله، واحتمال الأذى في نصرة دينه. {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} قال مقاتل: الرحمة النبوة، وصيرهم إلى الجنة والثواب. وقال آخرون: يتناول جميع أعمال البر.

ص: 576

قوله: {وَذَا النون إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} الآية. «ذَا» بمعنى صاحب و «النون» الحوت. ويجمع على نِينَان كحوت وحيتان والمراد بذي النون يونس عليه السلام وسمي بذلك، لأنَّ النون ابتلعه. وقد تقدم أن الاسم إذا دار بين أن يكون مفيداً ولقباً فحمله على المفيد أولى خصوصاً إذا علمت الفائدة التي لذلك الوصف.

قوله: «مُغَاصِباً» حال من فاعل «ذَهَبَ» والمفاعلة هنا تحتمل أن تكون على بابها من المشاركة، أي: غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا في أول الأمر، وفي بعض التفاسير: مغاضباً لربه فإن صح ذلك عمن يعتبر قوله، فينبغي أن تكون اللام للتعليل لا التعدية للمفعول، أي: لأجل ربه ولدينه.

ويحتمل أن يكون بمعنى غضبان، فلا مشاركة كعاقبت وسافرت. والعامة على «مُغَاضِباً» اسم فاعل. وقرأ ألو شرف «مُغَاضِباً» بفتح الضاد على ما لم يسم فاعله كذا نقله أبو حيان. ونقله الزمخشري عن أبي شرف «مُغْضباً» دون ألف من أغضبته فهو مغضب.

قوله: «أن لَّن» «أنْ» هذه المخففة، واسمها ضمير الشأن محذوف، و «لَنْ نَقْدِرَ» هو الخبر، والفاصل حرف النفي. والمعنى: أن نضيق عليه كقوله: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ

ص: 577

رِزْقَهُ} [الفجر: 16]{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . والعامة على «نَقْدِرَ» بنون العظمة مفتوحة وتخفيف الدال، والمفعول محذوف أي: الجهات والأماكن.

وقرأ الزهري بضمها وتشديد الدال. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو شرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يُقْدَر» بضم الياء من تحت، وفتح الدال خفيفة مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر بفتح الياء وكسر الدال خفيفة وعلي بن أبي طالب واليماني بضم الياء وكسر الدال مشددة.

والفاعل على هذين الوجهين ضمير يعود على الله تعالى.

قوله: {لَاّ إله إِلَاّ أَنتَ} يجوز في «أَنْ» وجهان:

أحدهما: أنها المخففة من الثقيلة فاسمها كما تقدم محذوف، والجملة المنفية بعدها الخبر.

والثاني: أنها تفسيرية، لأنَّها بعد ما هو بمعنى القول دون حروفه.

فصل

معنى الآية: واذكر صاحب الحوت، وهو يونس بن متى «إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً» قال ابن عباس: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة

ص: 578

أسباط ونصفاً، وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله إلى شعيا النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك، وقل له حتى يوجه نبياً قوياً أميناً، فإني ألقي في قلوب أولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال الملك: ومن ترى؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال: يونس بن متى فإنه قوي أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج، فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا.

قال: هل سماني لك؟ قال: لا. قال: فها هنا هي المفاعلة التي تكون من واحد كالمسافرة والمعاقبة.

فمعنى قوله: «مُغَاضِباً» أي: غضبان. وعن ابن عباس قال: أتى جبريل يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال: ألتمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب، فانطلق إلى السفينة. وقال وهب: إن يونس بن متى كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوة تَفسَّخَ تَحْتَهَا الرَّبع تحت الحمل الثقيل. فقذفها من يده، وخرج هارباً منها، فلذلك أخرجه الله من أول العزم، فقال لنبيه محمد عليه السلام:{فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} [الأحقاف: 35]، قال:{فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] .

قوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي: أن نقضي عليه بالعقوبة. قال مجاهد وقتادة

ص: 579

والضحاك والكلبي وهو رواية العوفي عن ابن عباس: يقال: قدّر الله شيئاً تقديراً، وقدر يقدر قدرً بمعنى واحد. ومنه قوله:{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} [الواقعة: 60] في قراءة من خفّفها دليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري «فَظَنَّ أَن لَّن نُّقَْدِّرَ عَلَيْهِ» بالتشديد. وقال عطاء وكثير من العلماء: معنا فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] أي: يضيق. وقال ابن زيد: هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر (عليه؟) وعن الحسن قال: بلغني أنَّ يونس لما أصاب الذنب انطلق مغاضباً لربه، واستزله الشيطان حتى ظن أن لن نقدر عليه، وكان له سلف وعبادة، فأبى الله أن يجعله للشيطان، فقذفه في بطن الحوت، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة. وقال عطاء: سبعة أيام، وقيل: ثلاثة أيام. وقيل: إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة. وقيل: بلغ به تخوم الأرض السابعة، فتاب إلى ربه في بطن الحوت، وراجع نفسه، فقال:{لَاّ إله إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} حين عصيتك، وما صنعت من شيء، فلم أعبد غيرك، فأخرجه الله من بطن الحوت برحمته.

فصل

احتج القائلون بجواز الذنب على الأنبياء بهذه الآية من وجوه:

أحدها: أن أكثر المفسرين على أنه ذهب يونس مغاضباً لربه، قيل: هذا قول ابن مسعود وابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير ووهب، واختيار ابن قتيبة ومحمد بن جرير، وإذا كان كذلك فمغاضبة الله من أعظم الذنوب، ثم على تقدير أن هذه المغاضبة لم تكن مع الله بل كان مع ذلك الملك، أو مع القوم، فهو أيضاً محظور لقول الله تعالى:{فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] وذلك يقتضي أن ذلك الفعل من يونس محظور.

ص: 580

وثانيها: قوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} وذلك يقتضي كونه شاكاً في قدرة الله.

وثالثها: قوله: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} والظلم مذموم قال تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] .

ورابعها: أنه لو لم يصدر منه الذنب، فلم عاقبه الله بان ألقاه في البحر في بطن الحوت.

وخامسها: قوله: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] والمليم هو ذو الملامة ومن كان كذلك فهو مذنب.

وسادسها: قوله: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] فإن لم يكن صاحب ذنب ولم يجز النهي عن التشبّه به وإن كان مذنباً فهو المطلوب.

وسابعها: قوله: {فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] وقاتل: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم} [الأحقاف: 35] وهذا يقتضي أنّ ذلك الفعل مخرج أن يكون يونس من أولي العزم.

والجواب: أنه ليس في الآية من غاضبة، فلا نقطع على نبي الله بأنه غاضب ربه، لأنّ ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي، والجاهل بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً.

وأما ما روى من أنه خرج مغاضباً لأمر يرجع إلى الاستعداد فمما يرتفع حال الأنبياء عنه، لأنّ الله تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه، لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] . فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم. وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى الله وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضباً لغير الله، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصه فيما يامره به، فيحمل على مغاضبة قومه، أو الملك، أو هما جميعاً ومعنى مغاضبته لقومه أنه غاضبهم لمفارقته لخوف حلول العذاب بهم، وقرئ «مغضباً» كما تقدن وأما قولهم: مغاضبة القوم أيضاً محظورة لقوله: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] .

ص: 581

فالجواب لا نسلم أنها كانت محرمة، أما الذهاب، فلأن الله أمره بتبليغ الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبداً، فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية. وأما الغضب لما لم يكن منهياً عنه قبل ذلك ظن أن ذلك جائز من حيث أنه لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه، بل كان الأولى أن يصابر وينتظر من الله الأمر بالمهاجرة عنهم، ولهذا قال تعالى:{وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] كأن الله تعالى أراد لمحمد صلى الله عليه وسلم َ - أفضل المنازل وأعلاها.

وأما الجواب عن قوله: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} فنقول من ظن عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين فكيف إلى الأنبياء، فإن لا بدَّ فيه من التأويل، وفيه وجوه:

الأول: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} نضيق عليه كقوله:

{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26]{وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي: ضيق، وكذا قوله:{وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي: ضيق، فمعناه: أن لن نضيق عليه، وهلى هذا فالآية حجة لنا، لأن يونس ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، وكان في المعلوم أنَّ الصلاح في تأخير خروجه، وهذا من الله بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج لا على تعمد المعصية لكن ظن أنَّ الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر، وكان الصلاح خلاف ذلك.

والثاني: أن يكون هذا من باب التمثيل، أي: فكانت حاله مماثلة لحال من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه عن قومه من غير انتظار لأمر الله.

الثالث: أن يفسر القدر بالقضاء، والمعنى فظن أن لن نقدر عليه بشدة.

قال مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، ورواية العوفي عن ابن عباس واختيار الفراء والزجاج: يقال: قَدَرَ الله الشيء قَدْراً وقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فالقدر بمعنى التقدير، وتقدم قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري بضم النون والتشديد من التقدير.

ص: 582

وروي أنه دخل عن ابن عباس على معاوية، فقال معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة، فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك. فقال: وما هي؟ قال: ظن نبي الله أن لن يقدر الله عليه. فقال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة.

الرابع: فظن أن لن (نقدر، أي: فظن أن لن نفعل لأن) بين القدرة والفعل مناسبة، فلا يبعد جعل أحدهما مجازاً عن الآخر.

الخامس: أنه استفهام بمعنى التوبيخ كما تقدم عن ابن زيد.

السادس: قول من قال إن هذه الواقعة كانت قبل رسالة يونس، فيكون هذا الظن حاصلاً قبل الرسالة، وإذا كان كذلك فلا يبعد في حق غير الأنبياء أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان، ثم إنه يرده بالحجة والبرهان.

وأما الجواب عن قوله {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فنقول: إن حملناه على ما قبل النبوة فلا كلام، وإن حملناه على ما بعدها فيجب تأويله، لأنا لو أجريناه على ظاهره، لاستحق اللعن، وهذا لا يقوله مسلم، وإذا وجب التأويل فنقول: لا شك أنه كان تاركاً للفضيلة مع القدرة على تحصيل الأفضل، فكان ذلك ظلماً.

وأما الجواب عن إلقائه في البحر في بطن الحوت، وأن ذلك عقوبة، فلا نسلم أنَّ ذلك عقوبة، إذ الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا بل المراد المحنة.

وأما الجواب عن الملامة فإنما كان بسبب ترك الأفضل.

فصل

قوله {فنادى فِي الظلمات} قال الزمخشري: أي: في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] وقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] . وقيل: أراد ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت.

{أَن

لَاّ

إله

إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ} نزه ربه عن كل النقائض، ومنها العجز، وهذا يدلّ على أنه ما كان مراده من قوله:{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أنه ظن العجز، وإنما قال:«سُبْحَانَكَ» ، لأنّ معناه سبحاتنك أن تفعل جوراً أو شهوة الانتقام أو عجزاً عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين}

ص: 583

أي: ظلمت نفسي بفراري من قومي بغير إذنك كأنه قال: كنت من الظالمين، وأنا الان من التائبين النادمين فاكشف عني المحنة.

روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - «مَا من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» .

قوله: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم} أي: من غمه بسبب كونه في بطن الحوت وبسبب خطيئته.

قوله: {وكذلك نُنجِي المؤمنين} : الكاف نعت لمصدر أو حال من ضمير المصدر أي: كما أنجينا يونس من كرب الحوت إذ دعانا، أو كإنجائنا يونس كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا. وقرأ العامة «نُنْجِي» بضم النون الأولى وسكون الثانية من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم «نُجِّي» بتشديد الجيم وسكون الياء وفيها أوجه:

أحسنها: أن يكون الأصل «نًنْجِي» بضم الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم فاستثقل توالي مثلين، فحذفت الثانية كما حذفت في قوله «مَا نُنَزِّلُ المَلَائِكَةَ» في قراءة من قرأه كما تقدم، وكما حذفت التاء الثانية في قوله:«تَذَكَّرَونَ» و «تَظَاهَرُونَ» وبابه. ولكن أبو البقاء استضعف هذا التوجيه بوجهين فقال:

أحدهما: أنَّ النون الثانية أصل، وهي فاء الكلمة، فحذفها يبعد جداً.

والثاني: أنَّ حركتها غير حركة النون الأولى، ولا يستثقل الجمع بينهما بخلاف «تظاهرون» ألا ترى أنك لو قلت: تتحامى المظالم لم يَسُغْ حذف الثانية.

أما كون الثانية أصلاً فلا أثر له في منع الحذف، ألا ترى أن النحويين اختلفوا

ص: 584

في إقامة واستقامة، أي الألفين المحذوفة من أنَّ الأولى هي الأصل، لأنها عين الكلمة وأما اختلاف الحركة فلا أثر له أيضاً، لأن الاستثقال باتحاد لفظ الحرفين على أي حركة كانا.

الوجه الثاني: أنّ «نُجِّي» فعل ماض مبني للمفعول، وإنما سكنت لامه تخفيفاً، كما سكنت في قوله:«مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا» في قراءة شاذّة تقدمت، قالوا: وإذا كان الماضي الصحيح قد سكن نخفيفاً فالمعتل أولى، ومنه:

3732 -

إنَّمَا شِعْرِي قَنْدٌ

قَدْ خُلِطَ بِجُلْجُلَانِ

وتقدم منذ لك جملة وأسند هذا الفعل إلى ضمير المصدر مع وجود المفعول الصريح كقراءة أبي جعفر «لِيُجْزَى قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ» وهذا رأي الكوفيين والأخفش، وتقدمت شواهد ذلك، والتقدير: نُجِّي النجاة، قال أبو البقاء: وهو ضعيف من وجهين:

ص: 585

أحدهما: تسكين آخر الفعل الماضي.

والآخر: إقامة المصدر مع وجود المفعول الصريح.

وقد عرف جوابهما مما تقدم.

الوجه الثالث: أن الأصل «نُنْجِي» كقراءة العامة إلا أن النون الثانية قلبت جيماً وأدغمت في الجيم بعدها. وهذا ضعيف جداً، لأن النون لا تقارب الجيم فتدغم فيها.

الوجه الرابع: أنه ماض مسند بضمير المصدر أي: نُجِّي النجاءُ كما تقدم في الوجه الثاني، إلا أنَّ «المُؤْمِنِينَ» ليس منصوباً ب «نُجِّي» بل بفعل مقدر. وكأن صاحب هذا الوجه فرَّ من إقامة غير المفعول به من وجوده فجعله من جملة أخرى. وهذه القراءة متواترة، ولا التفات على من طعن على قارئها، وإن كان أبو علي قال: هي لحن. وهذه جرأة منه، وقد سبقه إلى ذلك أبو إسحاق الزجاج.

وأما الزمخشري فإنما طعن على بعض الأوجه المتقدمة، فقال: ومن تمحل لصحته فجعله فُعِّل، وقال: نُجِّي النجاء المؤمنين، وأرسل الياء وأسنده إلى مصدره، ونصب المؤمنين فمتعسف بارد التعسف. فلم يرتض هذا التخريج بل للقراءة عنده تخريج آخر، وقد يمكن أن يكون هو المبتدأ به لسلامته مما تقدم من الضعف.

ص: 586

هاهنا انقطاع زكريا إلى ربه لما مسه الضر بتفرده، وأحب من يؤنسه ويقويه على أمر دينه ودنياه، ويقوم مقامه بعد موته، فدعا الله تعالى دعاء مخلص عارف بقدرة ربه على ذلك، وانتهت به الحال وبزوجه من الكبر وغيره ما يمنع من ذلك بحكم العادة فقال:{رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} وحيداً لا ولد لي، وارزقني وارثاً، {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} ثناء على الله بأنه الباقي بعد فناء الخلق، وأنه أفضل من بقي حياً.

ويحتمل أن يكون المعنى: إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير الوارثين.

قال ابن عباس: كان سنه مائة سنة، وسن زوجته تسعاً وتسعين، {فاستجبنا لَهُ} أي: فعلنا ما أراده بسؤاله، {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} ولداً صالحاً {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي: جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً. قاله أكثر المفسرين وقيل: كانت سيئة الخلق سلطة اللسان فأصلح الله خلقها. وقيل: جعلها مصلحة في الدين، فإن صلاحها في الدين من أكبر أعوانه، لأنه يكون إعانة في الدين والدنيا واعلم أنَّ قوله {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} يدل على أن الواو لا تفيد الترتيب، لأنَّ إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد مع أنه تعالى أخره في اللفظ. ثم قال:«إنَّهُمْ» يعني الأنبياء الذين سماهم في هذه السورة.

وقيل: زكريا وولده وأهله {كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} ، والمسارعة في طاعة الله من أكبر ما يمدح المرء به، لأنه يدل على حرص عظيم على الطاعة.

قوله: {وَيَدْعُونَنَا} العامة على ثبوت نون الرفع قبل (ن) مفكوكة منها وقرأت فرقة {} بحذف نون الرفع. وطلحة بإدغامها فيها.

وهذا الوجهان فيهما إجراء نون (ن) مجرى نون الوقاية. وقد تقدم. قوله: {رَغَباً وَرَهَباً} يجوز أن ينتصبا على المفعول من أجله، وأن ينتصبا على أنهما مصدران واقعان موقع الحال، أي: راغبين راهبين، وأن ينتصبا على المصدر الملاقي لعامله

ص: 587

في المعنى دون اللفظ، لأن ذلك نوع منه. والعامة على فتح الغين والهاء. وابن وثاب والأعمش ورويت عن أبي عمرو بسكون الغين والهاء، ونقل عن الأعمش وهو الأشهر عنه بضم اراء وما بعدها. وقرأت فرقة بضمة وسكون فيهما.

فصل

ومعنى «رَغَباً» : طمعاً «وَرَهَباً» : خوفاً، أي: رغباً في رحمة الله، ورهباً من عذاب الله. {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} أي: متواضعين، قال قتادة: ذلك لأمر الله. وقال مجاهد: الخشوع هو الخوف اللازم في القلب.

قوله

تعالى

: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} الآية. يجوز أن ينتصب قوله: «وَالَّتِي» نسقاً على ما قبلها، وأن ينتصب بإضمار اذكر، وأن يرتفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي: وفيما يتلى عليكم التي أحصنت. ويجوز أن يكون الخبر «فَنَفَخْنَا» وزيدت الفاء على رأي الأخفش نحو زيد فقائم. وفي كلام الزمخشري: نفخنا الروح في عيسى فيها. قال أبو حيان مؤاخذاً له: فاستعمل «نفخ» متعدياً والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديه إلى سماع، وغير متعد استعمله هو في قوله؛ أي: نفخت في المزمار. انتهى ما آخذه به.

قال شهاب الدين: وقد سمع «نفخ» متعدياً، ويدل على ذلك ما قرئ في الشاذ «فانفخها فَيَكُونُ طَائِراً» ، وقد حكاها هو قراءة، فكيف ينكرها. فعليك بالالتفات إلى ذلك. وقال ابن الخطيب: جعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا وهو جبريل - عليه

ص: 588

السلام - لأنه نفخ في جيب درعها، فوصل النفخ إلى جوفها أي: أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها، وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها وأضاف الروح إليه تشريفاً لعيسى (عليه السلام) .

ومعنى «أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا» أي: إحصاناً كلياً من الحلال والحرام جميعاً كما قالت: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم: 20] . وقيل: منعت جبريل جيب درعها قبل أن تعرفه.

والأول أولى لأنه الظاهر من اللفظ.

قوله: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} أما مريم فآياتها كثيرة:

إحداها: ظهور الحبل فيها لا من ذكر، وذلك معجزة خارجة عن العادة.

وثانيها: أنَّ رزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة لقول زكريا: {أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 37] .

وثالثها: ورابعها: قال الحسن: أنها لم تلتقم ثدياً قط، وتكلمت هي أيضاً في صباها كما تكلم عيسى. وأما آيات عيسى عليه السلام فقد تقدم بيانها فإن قيل: هلا قيل آيتين كما قال: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12] ليطابق المفعول؟

فالجواب: أنَّ كلاًّ منهما آية بالآخر فصارا آية واحدة، لأنّ حالهما بمجموعهما آية واحدة، وهي ولادتها إياه من غير فحل. أو تقول: حذف من الأول لدلالة الثاني، أو بالعكس أي: وجعلنا ابن مريم آية وأمه كذلك، وهو نظير الحذف في قوله:{والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وقد تقدم. أو أنّ معنى الكلام: جعلنا شأنهما وأمرهما آية.

ص: 589

قوله تعالى: {ق إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية. قرأ العامة على رفع «أُمَّتُكُمْ» خبراً ل «إنَّ» ، ونصب «أُمَّةً واحِدَةً» على الحال، وقيل: على البدل من «هَذِهِ» فيكون قد فصل بالخبر بين البدل والمبدل فيه نحو: إنَّ زيداً قائمٌ أخاك. وقرأ الحسن «أمَّتَكُمْ» بالنصب على البدل من «هَذِهِ» ، أو عطف البيان. وقرأ أيضاً هو وابن أبي إسحاق والأشهب العقليل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وهارون عن أبي عمرو «أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ» بالرفع على خبر «إنَّ» و «أُمَّتُكُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ» برفع الثلاث على أن يكون «أُمَّتُكُمْ» خبر «إنَّ» كما تقدم و «أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ» بدل منها بدل نكرة من معرفة، أو يكون «أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ» خبر مبتدأ محذوف ومعنى «أُمَّتُكُمْ» قال الزمخشري: الأمة الملة، وأشار إلى ملة الإسلام. «أمَّةً وَاحِدَةً» أي: ديناً واحداً وهو الإسلام غير مختلف، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان. وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة لاجتماع أهلها على مقصد واحد. ثم قال:«وَأَنَا رَبُّكُمْ» أي: إلهكم فَاعْبدُونِ.

قوله: «وَتَقَطّعُوا» أي: اختلفوا، والأصل: وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريق الالتفاف، وكأنه ينفي عهم ما أفسدوه إلى آخرين ويقبح عندهم فعلهم، ويقول لهم: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء، والمعنى: اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً.

ص: 590

قال الكلبي: وفرقوا دينهم بينهم يلعن بعضهم بعضاً ويتبرأ بعضهم من بعض. والتقطع هاهنا بمعنى: التقطيع.

قوله: «أَمَرَهُمْ» فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي: تفرقوا في أمرهم.

الثاني: أنه مفعول به، وعدى «تَقَطعُوا» لأنه بمعنى: قطعوا.

الثالث: أنه تمييز، وليس بواضح معنى، وهو معرفة، فلا يصح من جهة صناعة البصريين. قال أبو البقاء: وقيل: هو تمييز أي: تقطع أمرهم. فجعله منقولاً من الفاعلية. و «زُبُراً» يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً على أن تضمن (تقطعوا) معنى (صيروا) بالتقطيع. وإمَّا أن ينصب على الحال من المفعول، أي: مثل زبر، أي: كتب، فإنّ الزبر جمع زَبُور كرُسُل جمع رَسُول.

أو يكون حالاً من الفاعل، نقله أبو البقاء في سورة المؤمنين. وفيه نظر إذ لا معنى له، وإنما يظهر كونه حالاً من الفاعل في قراءة «زُبَراً» بفتح الباء أي فرقاً. والمعنى: صيروا أمرهم زبراً أي تقطعوه في هذه الحال، والوجهان مأخوذان من تفسير الزمخشري، لمعنى الآية الكريمة، فإن قال: والمعنى جعلوا أَمْرَ دِينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة، ويقتسمونه، فيصير لهذا نصيب، ولذلك نصيب تمثيلاً لاختلافهم فيه وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً وفي الكلام التفاف من الخطاب وهو قوله:«أُمَّتُكُمْ» إلى الغيبة تشنيعاً عليهم بسوء صنيعهم.

وقرأ الأعمش: «زُبَراً» بفتح الباء جمع زُبْرَة، وهي قطعة الحديد في الأصل

ص: 591

ونصبه على الحال من ضمير الفاعل «تَقَطَّعُوا» كما تقدم. ولم يتعرض له أبو البقاء في هذه السورة، وتعرض له في المؤمنين، فذكر فيه الأوجه المتقدمة، وزاد أنه قرئ «زُبْراً» بسكون الباء وهو بمعنى المضمومة.

قوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} توعدهم بأن هذه الفرق المختلفة إليه يرجعون فيحاسبهم ويجازيهم بأعمالهم، قال عليه السلام:«تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، فهلك سبعون وخلصت فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة، وقالوا: يا رسول الله من تلك الفرقة. قال:» الجماعة الجماعة الجماعة «وبهذا الخبر بيّن أن المراد بقوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} الجماعة المتمسكة بما بينه الله تعالى في هذه السورة من التوحيد والنبوات، وأن قول الرسول في الناجية إنّها الجماعة ليس تعريفاً للفرقة الناجية، إذ لا فرقة تمسكت بباطل أو بحق إلا وهي جماعة من حيث العدد، ولهذا طعن بعضهم في صحة الخبر، فقال: إنْ أراد بالاثنين وسبعين فوقة أصول الأديان فلن يبلغ هذا القدر، وإن أراد الفروع فإنَّها تتجاوز هذا القدر إلى أضعاف ذلك. وقيل أيضاً ضد ذلك، وهو أنها كلها ناجية إلا فرقة واحدة.

والجواب: قال ابن الخطيب: المراد ستفترق أُمتي في حال وليس فيه دلالة على افتراقها في سائر الأحوال، ولأنه لا يجوز أن يزيد وينقص.

ص: 592

قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية. لمَّا ذَكَرَ أَمْرَ الأُمَّةِ وتفرقهم، وأنهم راجعون إلى حيث لا أمر إلا له أتبع ذلك بقوله:{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} لا نجحد ولا نبطل سعيه.

والكفران مصدر بمعنى الكفر، قال:

3733 -

رَأَيْتُ أُنَاسَاً لَا تَنَامُ خُدُودُهُمْ

وَخَدِّي وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ نَائِمُ

و «لِسَعْيِهِ» متعلق بمحذوف، أي: نكفر لسعيه، ولا يتعلق ب «كُفْرَانَ» لأنه يصير مطولاً، والمطول ينصب وهذا مبني. والضمير في «لَهُ» يعود على السعي. والمعنى: لا بطلان لثواب عمله، وهو كقوله:{وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 19] .

فالكفران مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه.

فقوله: «فَلَا كُفْرَانَ» المراد نفي الجنس للمبالغة، أنَّ نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. ثم قال:{وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي: لسعيه كاتبون إمَّا في أم الكتاب، أو في الصحف التي تعرض يوم القيامة، والمراد من ذلك ترغيب العباد في الطاعات.

قوله تعالى: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ} قرأ الأخوان وأبو بكر ورويت عن أبي عمرو «

ص: 593

وَحِرْمُ» بكسر الحاء وسكون الراء وهما لغتان كالحِلّ والحَلَال.

وقرأ ابن عباس وعكرمة «وحَرِمَ» بكسر الحاء وسكون الراء وفتح الميم على أنه فعل ماض وروي عنهما أيضاً وعن أبي العالية بفتح الحاء والميم وضم الراء بزنة كَرُم، وهو فعل ماض أيضاً. (وروي عن ابن عباس أيضاً فتح الجميع وهو فعل ماض أيضاً) . وعن اليماني بضم الحاء وكسر الراء (مشددة وفتح الميم ماضياً مبنياً للمفعول. وروى عكرمة بفتح الحاء وكسر الراء) وتنوين الميم.

فمن جعله اسماً ففي رفعه وجهان:

أحدهما: أنه مبتدأ، وفي الخبر حينئذ ثلاثة أوجه:

أحدها: قوله: «لا يَرْجِعُونَ» وفي ذلك حينئذ أربعة تأويلات:

التأويل الأول: أن «لا» زائدة، والمعنى: وممتنع على قرية قدرنا إهلاكها لكفرهم رجوعهم إلى الإيمان إلى ان تقوم الساعة. وممن ذهب إلى زيادتها أبو عمرو مستشهداً عليه بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] يعني أحد القولين.

التأويل الثاني: أنها غير زائدة، وأن المعنى: أنهم غير راجعين عن معصيتهم وكفرهم.

ص: 594

التأويل الثالث: أنَّ الحرام قد يراد به الواجب، ويدل عليه قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُواْ} [الأنعام: 151] وترك الشرك ويدل عليه قول الخنساء:

3743 -

وَإِنَّ حَرَاماً لا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيَاً

عَلَى شَجْوَةِ إلَاّ بَكَيْتُ عَلَى صَخْر

أي: واجباً. وأيضاً فمن الاستعمال إطلاق أحد الضدين على الآخر، وهو مجاز مشهور قال تعالى:{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ومن ثم قال الحسن والسدي: لا يرجعون عن الشرك.

وقال قتادة: لا يرجعون إلى الدنيا.

التأويل الرابع: قال مسلم بن بحر: حرام ممتنع، وأنهم لا يرجعون، فيكون عدم رجوعهم واجباً، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع، فيكون المعنى: إن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيقه ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد وأنه - تعالى - مجازيه يوم القيامة.

وقول ابن عطية قريب من هذا فإنه قال: وَمُمْتَنِعٌ على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون (بل هم راجعون) إلى عذاب الله وأليم عقابه، فتكون «لَا» على بابها والحرام على بابه.

الوجه الثاني: أن الخبر محذوف، تقديره: وحرام توبتهم أو رجاء بعضهم، ويكون {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} علة لما تقدم من معنى الجملة. فيكون حينئذ في «لَا» احتمالان:

الاحتمال الأول: أن تكون زائدة، ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجه بعد تقديره الخبر المتقدم: إذ جعلت (لا) زائدة.

قلت: والمعنى عنده لأنهم يرجعون إلى الأخرة وجزائها.

الاحتمال الثاني: أن تكون غير زائدة بمعنى ممتنع توبتهم، أو رجاء بعثهم لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيستدركوا فيها ما فاتهم من ذلك.

الوجه الثالث: أن يكون هذا المبتدأ لا خبر له لفظاً ولا تقديراً، وإنما وقع شيئاً

ص: 595

يقوم مقام خبره من باب أقائم أخواك، قال أبو البقاء: والجيد أن يكون (أنهم) فاعلاً سد مسد الخبر. وفي هذا نظر، لأنَّ ذلك يشترك فيه أن يعتمد الوصف على نفي أو استفهام وهنا لم يعتمد المبتدأ على شيء من ذلك اللهم إلا أن ينحو نحو الأخفش فإنه لا يشترط ذلك، وهو الظاهر، وحينئذ يكون في (لا) الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمها باختلاف معنيين، أي: امتنع رجوعهم إلى الدنيا أو عن شركهم، إذا قدرتها زائدة، أو امتنع عدم رجوعهم إلى عقاب الله في الآخرة، إذا قدرتها غير زائدة.

الوجه الثاني: من وجهي رفع «حَرَامٌ» : أنه حبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم: الإقالة والتوبة حرام، وقدره أبو البقاء: أي: ذلك الذي ذكر من العمل الصالح حرام وقال الزمخشري: وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح، والسعي المشكور غير المكفور، ثم علل فقيل: إنَّهم لا يرجعون عن الكفر، فيكف لا يمتنع ذلك. وقرأ العامة «أَهْلَكْنَاهَا» بنون العظمة.

وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادة «أَهْلَكْتُهَا» بتاء المتكلم. ومن قرأ «حَرِمٌ» بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم فهو في قراءة صفة على فَعِل نحو حَذِر، وقال:

3735 -

وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مِسْأَلَةٍ

يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي ولَا حَرِمُ

ص: 596

ومن قرأه فعلاً ماضياً فهو في قراءته مسند ل «أن» وما في حيزها، ولا يخفى الكلام في (لا) بالنسبة إلى الزيادة وعدمها، فإن المعنى واضح مما تقدم.

وقرئ «إِنَّهُمْ» بالكسر على الاستئناف، وحينئذ فلا بُدَّ من تقدير مبتدأ يتم به الكلام تقديره: ذلك العمل الصالح حرام، وتقدم تحرير ذلك.

قوله تعالى: {حتى إِذَا فُتِحَتْ} الآية. تقدم الكلام على (حَتَّى) الداخلة على (إذا) مشبعاً. وقال الزمخشري هنا: فإن قُلْت: بم تعلقت (حَتَّى) واقعة غاية له وأية الثلاث هي؟ قلت: هي متعلقة ب «حَرَام» وهي غاية له، لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى الشرط والجزاء أعني: إذا وما في حيزها. وأبو البقاء نحا هذا النحو، فقال: و «حَتَّى» متعلقة في المعنى ب «حَرَام» . أي: يستمر الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عمل لها في «إذَا» . قال الحوفي: هي غاية، والعامل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك. وقال ابن عطية:«حَتَّى» متعلقة بقوله: «وَتَقَطَّعُوا» ، ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تتعلق ب «يَرْجِعُونَ» ، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء، وهو الأظهر بسبب (إذا) لأنها تقتضي جواباً للمقصود ذكره.

قال أبو حيان: وكون (حَتَّى) متعلقة ب «تَقَطَّعُوا» فيه من بعد حيث كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جَيِّد، وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك كله. وتلخص في تعلق (حَتَّى) أوجه:

أحدها: أنها متعلقة ب «حَرَام» .

ص: 597

والثاني: أنها متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، وهو قول الحوفي.

الثالث: أنها متعلقة ب «تَقَطَّعُوا» .

الرابع: أنها متعلقة ب «يَرْجِعُونَ» .

وتلخص في (حتى) وجهان:

أحدها: أنَّها حرف ابتداء، وهو قول الزمخشري وابن عطية فيما اختاره.

والثاني: إنها حرف جر بمعنى (إلى) .

وقرأ «فُتِّحَتْ» بالتشديد ابن عامر، والباقون بالتخفيف. وتقدم ذلك أول الأنعام وفي جواب «إذَا» أوجه:

أحدها: أنه محذوف، فقدره أبو إسحاق: قالوا يا ويلنا، وقدره غيره، فحينئذ يبعثون، وقوله:{فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} عطف على هذا المقدر.

والثاني: أنَّ جوابها الفاء في قوله: «فَإِذَا هِيَ» قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية، فقال الزمخشري: و «إذا» هي للمفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله تعالى:{إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] ، فَإِذَا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، ولو قيل:(إذَا هِيَ شَاخِصَةٌ) كان سديداً.

وقال ابن عطية: والذي أقول: إنَّ الجواب في قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره، لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرم عليهم امتناعه.

وقوله: «يَأْجُوج» هو على حذف مضاف، أي سدّ يأجوج ومأجوج، وتقدم

ص: 598

الكلام فيهما وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة أجزاء منها يأجوج ومأجوج يخرجون حيت يفتح السد.

قيل: السد يفتحه الله ابتداء. وقيل: بل إذا جعل الله الأرض دكاً زالت تلك الصلابة من أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح السد.

قوله: «وَهُمْ» قال أكثر المفسرين: «هُم» كناية عن «يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» .

وقال مجاهد: كناية عن جميع العالم بأسرهم أي: يخرجون من قبورهم، ومن كل موضع، فيحشرون إلى موقف الحساب.

والأول أظهر وإلا لتكلف النظم، ولأنه روي في الخبر أن يأجوج ومأجوج لا بدَّ وأن يسيروا في الأرض، ويقبلوا على الناس من كل موضع مرتفع. وقرأ العامة «يَنْسِلُونَ» بكسر السين. وأبو السمال وابن أبي إسحاق بضمها. والحَدَب: النشز من الأرض. أي: المرتفع، ومنه الحدب في الظهر، وكل كُدْيَة أو أَكْمَةٍ فهي حدبة، وبها سمي القبر لظهوره على وجه الأرض والنَّسَلَانُ: مقاربة الخطا مع الإسراع كالرملِ يقال: نَسَلَ يَنْسِلُ وَيَنْسُلُ بالفتح في الماضي والكسر والضمّ في المضارع، ونَسَلَ وعَسَلَ واحد قال الشاعر:

3736 -

عَسَلَانَ الذئبِ أَمْسَى قَارِباً

بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ

والنَّسْلُ من ذلك، وهو الذُّرّيةُ، أطلق المصدر على المفعول، ونَسَلْتُ ريشَ الطائِر من ذلك. وقدم الجار على متعلقة لتراخي رؤوس الآي.

ص: 599

وقرأ عبد الله وابن عباس: «جَدَث» بالثاء المثلثة والجيم اعتباراً بقوله:

{فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] . وقرئ بالفاء، وهي بدل منها قال الزمخشري: الثاء للحجاز، والفاء لتميم. وينبغي أن يكونا أصلين، لأنَّ كلاّ منهما لغة مستقلة، ولكن كثر إبدال الثاء من الفاء، قالوا مغثور في مغفور، وقالوا فُمَّّ في ثُمَّ، فأبدلت هذه من هذه تارة، وهذه من هذه أخرى.

« (روى حذيفة بن أسد الغفاري قال: اطلع النبي صلى الله عليه وسلم َ - علينا ونحن نتذاكر، فقال:» مَا تَذْكُرُونَ؟ «قالوا: نذكر الساعة قال: إنها لن تقوم حَتى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيات فذكر الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) .»

قوله: {واقترب الوعد الحق} . المراد بالوعد وهو يوم القيامة.

(وسمي الموعود وعداً تجوّزا. قال الفراء وجماعة: الواو في قوله: «وَاقْتَرَبَ» مقحمة معناه: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، كقوله:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103، 104] أي: ناديناه. ويدل عليه ما روى حذيفة قال: لو أنَّ رجلاً اقتنى فُلُّوا بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتى تقوم الساعة.

ص: 600

وقال قوم: لا يجوز طرح الواو، وجعلوا جواب {حتى إِذَا فُتِحَتْ} في قوله:«يَا وَيْلَنَا» يكون مجازاً لأنّ التقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة) .

قوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ} «إذَا» هنا للمفاجأة، و «هِيَ» فيها أوجه:

أجودها: أن يكون ضمير القصة، و «شَاخِصَةٌ» خبر مقدم، و «أَبْصَارُ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر ل «هِيَ» ، لأنها لا تفسر إى بجملة مصرح بخبرها، وهذا مذهب البصريين.

الثاني: أن تكون «شَاخِصَةٌ» مبتدأ، و «أَبْصَارُ» فاعل سد مسد الخبر، وهذا يتمشى على رأي الكوفيين، لأن ضمير القصة يفسر عندهم بالمفرد العامل عمل الفعل فإنه في قوة الجملة.

الثالث: قال الزمخشري: «هِيَ» ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره كما فسر «الَّذِينَ ظَلَمُوا» «وَأَسَرُّوا» . ولم يذكر غيره. قال شهاب الدين: وهذا قول الفراء، فإنه قال في ضمير الأبصار: تقدمت لدلالة الكلام ومحيء ما يفسرها، وأنشد شاهداً على ذلك:

3737 -

فَلَا وَأَبِيهَا لا تَقُولُ خَلِيلَتِي

أَلَا فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ

الرابع: أن تكون «هِيَ» عماداً، وهو قول الفراء أيضاً قال: لأنه يصلح موضعها

ص: 601

هو، فتكون كقوله:{إِنَّهُ أَنَا الله} [النمل: 9] ومثله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] وأنشد:

3738 -

بِثَوب ودينارٍ وشاة ودرهم

فَهَلْ هُوَ مَرْفُوع بِمَا هَاهُنَا رَاس

وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي، وهو أنه يجيز تقدم الفصل مع الخبر المتقدم نحو: هو خير منك زيد. الأصل زيد هو خير منك. وقال أبو حيان: أجاز هو القائم زيد، على أنَّ زيداً هو المبتدأ، والقائم خبره، وهو عماد، وأصل المسألة: زيد هو القائم.

قال شهاب الدين: وفي التمثيل نظر، لأنّ تقديم الخبر هنا ممتنع لاستهوائهما في التعريف بخلاف المثال المتقدم. فيكون أصل الآية الكريمة: فإذا أبصار الذين كفروا هي شاخصة، فلما قدم الخبر، «شَاخِصَة» ، قدم معها العماد.

وهذا أيضاً إنما يجيء على مذهب من يرى وقوع العماد قبل النكرة غير المقارنة للمعرفة.

الخامس: أن تكون «هِيَ» مبتدأ وخبره مضمر، فيتم الكلام حينئذ على «هِيَ» ويبتدأ بقوله:«شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ» ، والتقدير: فإذا هي بارزة، أي: الساعة بارزة أو حاضرة و «شَاخِصَةٌ» خبر مقدم، و «أَبْصَارُ» مبتدأ مؤخر. ذكره الثعلبي.

ص: 602

وهو بعيد جداً لتنافر التركيب، وهو التعقيد عند علماء البيان.

قوله: «يَا وَيْلَنَا» معمول لقول محذوف، أي: يقولون يَا وَيْلَنَا. وفي هذا القول المحذوف وجهان: أحدهما: أنه جواب «حتى إذا» كما تقدم.

والثاني: في محل تصب على الحال من {الذين كَفَرُواْ} قاله الزمخشري.

قوله: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا} يعني في الدنيا حيث كذبناه وقلنا: إنه غير كائن، بل كنا ظالمين أنفسنا بتلك الغفلة وتكذيب محمد، وعبادة الأوثان.

ص: 603

قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} أتى هنا ب «مَا» وهي لغير العقلاء، لأنه متى اختلط العاقل بغيره يُخَيّر الناطق بين (مَا) ، و «مَنْ) .

وقرأ العامة:» حَصَبُ «بالمهملتين والصاد مفتوحة، وهو ما يحصب أي: يرمى في النار ولا يقال له حصب إلا وهو في النار، فأما قبل ذلك فهو حطب وشجر وغير ذلك.

وقيل: يقال له حصب قبل الإلقاء في الناء. قيل: هو الحطب بلغة أهل اليمن.

وقال عكرمة: هو الحطب بالحبشية. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ورويت عن ابن كثير بسكون الصاد، وهو مصدر، فيجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول،

ص: 603

أو على المبالغة، أو على حذف مضاف. وقرأ ابن عباس بالضاد معجمة مفتوحة أو ساكنة وهو أيضاً ما يرمى به في النار، ومنه المِخْضَبِ عُودٌ يُحَرَّك به النار لتوقد، وأنشد:

3739 -

فَلَا تَكُ في حَرْبِنَا مِحْضَباً

فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا

وقرأ أمير المؤمنين وأبيّ وعائشة وابن الزبير» حَطَبُ «بالطاء، ولا أظنها إلا تفسيراً لا قراءة.

فصل

المعنى» إِنَّكُمْ «أيُّهَا المشركون {وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} يعني الأصنام» حَصَبُ جَهَنَّم «أي: وقودها، وهذا تشبيه. وأصل الحصب الرمي، قال تعالى:{أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} [القمر: 34] أي: ريحاً ترميهم بالحجارة.

قوله: {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . جوز أبو البقاء في هذه الجملة ثلاثة أوجه:

أحداه: أن تكون بدلاً من» حَصَبُ جَهَنَّم «.

يعني: أن الجملة بدل من المفرد الواقع خبراً، وإبدال الجملة من المفرد إذا كان أحدهما بمعنى الآخر، جائز، إذ التقدير: إنكم أنتم لها واردون.

ص: 604

والثاني: أن تكون الجملة مستأنفة.

والثالث: أن تكون في محل نصب على الحال من» جَهَنَّمَ «وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير مواضع المستثناة. ومعنى {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي: فيها داخلون. وإنما جاءت اللام في» لَهَا «لتقدمها تقول: أنت لزيد ضارب. كقوله تعالى: {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8، المعارج: 32] والمعنى: أنه لا بُدَّ وأن تردوها، ولا معدل لكم من دخولها.

فصل

» روى ابن عباس أنه عليه السلام دخل المسجد وصَنَادِيد قريش في الحَطِيم. وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجلس إليهم، فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - حتى أفحمه، ثم تلا عليهم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الآية. فأقبل عبد الله بن الزَّبَعْرَى فرآهم يتهامسون، فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله. فقال ابن الزبعرى: انت قلت ذلك؟ قال نعم.

قال: خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عُزَيْراً، والنصارى عبدوا المسيح، وين مليح عبدو الملائكة. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - ولم يجب، فضحك القوم «

، ونزل قوله تعالى:{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلَا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 57، 58] .

ونزل في عيسى والملائكة {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] . وفي رواية

ص: 605

أخرى أنه عليه السلام قال: «بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» فأنزل - تعالى - {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] يعني عزيراً والمسيح والملائكة. قال ابن الخطيب: واعم أنَّ سؤال ابن الزبعرى غير متوجه من وجوه:

أحدها: أنَّ ذلك الخطاب كان مع مشركي مكة، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط.

وثانيها: أنه لم يقل: ومن تعبدون بل قال: «وَمَا تَعْبُدُونَ» . كلمة «مَا» لا تتناول العقلاء، وأما قوله تعالى:{وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وقوله: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 2] فحمول على الشيء، ونظيره هاهنا أن يقال: إنكم والشيء الذي تعبدون من دون الله، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعرى.

وثالثها: أنَّ مَنْ عَبَدَ الملائكة لا يَدَّعِي أنهم آلهة وقال سبحانه {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} .

ورابعها: أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي، ووعد الله إياهم بكل مكرمة، وهو المراد بقوله سبحانه {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101] .

وخامسها: الجواب الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين. فإن قيل: الشياطين عقلاء ولفظ «مَا» لا يتناولهم، فكيف قال ذلك؟ قلنا: كأنه عليه السلام قال: لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه.

فإما ما قيل: إنه عليه السلام سكت عن إيراد ابن الزبعرى هذا السؤال، فهو خطأ، لأنه لا أقل من أنه عليه السلام كان يتنبّه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون، لأنه أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره، ولم يظهر له منها شيء.

فإن قيل: يجوز أن يسكت عليه السلام انتظاراً للبيان. قلنا: كان البيان حاضراً معه، فلم يجز عليه السكوت، لكي لا يتوهم عليه الانقطاع من سؤالهم.

ص: 606

ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعرى، فقال: إن الله - تعالى - يُصَوِّر لهم في النار ملكاً على صورة مَنْ عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها وهذا ضعيف من وجهين:

الأول: أنَّ القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئاً آخر لم يحصل معهم في النار.

الثاني: أنَّ الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة، وإن صح أن يدخلها، فإنَّ خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم.

فصل

الحكمة في أنهم بآلهتهم أمور:

أحدها: أنَّهم لا يزالون بمقارنتهم في زيادة غم وحسرة لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم، والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب.

وثانيها: أنّهم قَدَّرُوا أن يشفعوا لهم في الآخرة، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قَدَّرُوا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.

وثالثها: أنَّ إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بها.

ورابعها: قيل ما كان منها حجراً أو حديداً يحمى فيعذب بعبادها، وما كان خشباً يجعل جمرة يعذب بها صاحبها.

قوله تعالى: {لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} اعلم أنّ قوله: {وَمَا تَعْبُدُونَ} بالأصنام أليق، لدخول لفظ «مَا» وهذا الكلام بالشياطين أليق، لقوله:«هَؤُلَاءِ» ويحتمل أن يريد الشياطين والأصنام وغلب العقلاء ونبه الله - تعالى - على أنه مَنْ يرمي في النار لا يمكن أن يكون ذكرها لنفسه أو لغيره، فإن ذكرها لنفسه فلا فائدة فيه، لأنه كان عالماً بأنها ليست آلهة، وإن ذكرها لغيره فإما أن ي1كرها لمن يُصَدق بنبوته، (أو ذكرها لمن يُكَذّب بنبوته) فإن ذكرها لِمَنْ يُصَدّق بنبوته فلا حاجة إلى هذه الحجة، لأنّ كل مَنْ صدق بنبوته لم

ص: 607

يقل بالإهية هذه الأصنام، وإن ذكرها لمن كذب بنبوته فذلك المكذب لا يسلم أنّ تلك الآلهة يردون النار، فكان ذكر هذه الحجة لا فائدة فيه كيف كان.

وأيضاً فالقائلون بإلاهيتها لم يعتقدوا إلا كونها تماثيل الكواكب أو صورة الشفعاء، وذلك لا يمنع من دخولها النار. وأجيب عن ذلك بأن المفسرين قالوا: المعنى لو كان هؤلاء - يعني الأصنام - آلهة على الحقيقة ما وردوها، أي: ما دخل عابدوها النار.

قوله: «آلِهَةٌ» العامة على النصب خبراً ل «كَانَ» . وقرأ طلحة بالرفع وتخريجها كتخريج قوله:

3740 -

إذَا مُتَّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ

ففيها ضمير الشأن.

قوله: {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني: العابدين والمعبودين، وهو تفسير لقوله:{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} .

وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} قال الحسن: الزفير هو اللهيب، أي: يرتفعون بسبب لهب النار حتى إذا ارتفعوا وأرادوا الخروج ضربوا بمقامع الحديد، فهوَوا إلى أسفلها سبعين خريفاً. قال الخليل: الزفير أن يملأ الرجل صدره غماً ثم يتنفس.

ص: 608

قال أبو مسلم: قوله: «لَهُمْ» عام لكل مُعَذب، فيقول: لهم زفير من شدة ما ينالهم والضمير في قوله: «وَهُمْ فِيهَا» يرجع إلى المعبودين أي: لا يسمعون صراخهم وشكواهم، ومعناه أنهم لا يغيثونهم، وشبهه: (سمع الله لمن حمده، أي: أجاب الله دعاه.

وقوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} على قول أبي مسلم محمول على الأنام.

ومن حمله على الكفار فيحتمل ثلاثة أوجه:

أحدها: أنَّ الكفار يحشرون صماً كما يحشرون عمياً زيداة في عذابهم.

والثاني: لا يسمعون ما ينفعهم، لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين، أو كلام مَنْ يتولى تعذيبهم من الملائكة.

والثالث: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنَّ الكفار يجعلون في توابيت (من نار، ثم يجعل تلك التوابيت في توابيت أخر، ثم تلك التوابيت في توابيت) أخر من نار عليها مسامير من نار، فلذلك لا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنَّ أحداً يعذب غيره. والأول ضعيف، لأنَّ أهل النار سمعون كلام أهل الجنة، فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف.

ص: 609

قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} الآية. قال بعض أهل العلم «إنَّ» ههنا بمعنى (إلا) أي: إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى.

قال ابن الخطيب: قد بينا فساد هذا القول، وذكرنا أنَّ سؤال ابن الزبعرى لم يكن وارداً، فلم يبق إلا أحد أمرين:

ص: 609

الأول: أن يقال: إنَّ عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فلهذا ذكر هذه الآية عقيب تلك الآية فهي عامة في حق كل المؤمنين.

الثاني: أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ثم قال: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا هو الحق، أجراها على عمومها، فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها، لا أنّ الآية مختصة بهم. ومَنْ قال العبرة بخصوص السبب خصص قوله:«إنَّ الَّذِينَ» بهؤلاء فقط.

قوله: «مِنَّا» يجوز أن يتعلق ب «سَبَقَتْ» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «الحُسْنَى» قال الزمخشري:«الحُسْنَى» الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي إما السعادة، وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة ثم شرح أحوال ثوابهم فقال:{أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} . قال أهل العفو معناه: أولئك عنها مخرجون، واحتجوا بوجهين:

الأول: قوله {وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أثبت الورود، والورود الدخول، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج.

والثاني: أن إبعاد الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر، لأنّ تحصيل الحاصل محال.

وقال المعتزلة: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لا يدخلون النار ولا يقربونها ألبتة. واحتج القاضي عبد الجبار على فساد الأول بأمور:

أحدها: أنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} يقتضي أنّ الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا، وليس هذا حال من يخرج من النار.

وثانيها: أنه تعالى قال: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فكيف يدخل في لك من وقع فيها.

وثالثها: قوله: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} وقوله: {لَا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} يمنع من ذلك. والجواب عن الأول لا نسلم أنّ المراد من قوله {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم، ولم لم يجوز أن يكون المراد من «الحُسْنَى» تقدم الوعد بالثواب، (لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا) يليق بحال من يخرج من النار فإن عنده المحابطة باطلة، ويجوز الجميع بين استحقاق الثواب والعقاب. وعن الثاني: أنا

ص: 610

بينا أنّ قوله: {أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار. وعن الثالث: أن قوله: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} مخصوص بما بعد الخروج.

وعلى قول المعتزلة بأن المراد بقوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها، يبطل القول بأن جميع الناس يردون النار، ثم يخرجون إلى الجنة، فيجب التوفيق بينه وبين قوله:{وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقد تقدم.

قوله: {وَهُمْ فِي مَا اشتهت} إلى قوله: وَيَتَلَقاهُك «كل جملة من هذه الجمل يجتمل أن تكون حالاً مما قبلها، وأن تكون مستأنفة، وكذلك الجملة المضمرة من القول العامل في جملة قوله:» هذا يَوْمُكُمُ «إذ التقدير: وتتلقاهم الملائكة يقولون هذا يومكم.

فصل

معنى {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} أي: صوتها وحركة تلهبها إذا نزلوا منازل لهم في الجنة. والحس والحسيس: الصوت الخفي. {وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} مقيمون كقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} [الزخرف: 71]{لَا يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} النفخة الأخيرة لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [النمل: 87] . وقال الحسن: حين يؤمر بالعبد إلى النار. وقال ابن جريج: حين يذبح الموت وينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت. وقال سعيد بن جبير والضحاك: هو أن تطبق جهنم، وذلك بعد أن يخرج الله منها من يريد أن يخرجه.

{وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة} . أي: تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون {هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} . فإن قيل: أي: بشارة في أنهم لا يسمعون حسيسها؟

فالجواب: المراد منه تأكيد بعدهم عنها، لأن من قرب منها قد يسمع حسيسها فإن قيل: أليس أهل الجنة يرون أهل النار، فكيف لا يسمعون حسيس النار؟ فالجواب: إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال.

ص: 611

قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء} الآية. في «يَوْمَ نَطْوِي» أوجه:

أحدهما: أنه منصوب ب «لَا يَحْزُنْهُمْ» .

الثاني: أنه منصوب ب «تَتَلَقاهُم» .

الثالث: أنه منصوب بإضمار (اذكر) أو (أعني) .

الرابع: أنه بدل من العائد المقدر تقديره: توعدونه يوم نطوي، ف «يَوْمَ» بدل من الهاء، ذكره أبو البقاء وفيه نظر، إذ يلزم من ذلك خلو الجملة الموصول بها من عائد على الموصول، ولذلك منعوا جاء الذي مررت به أبي عبد الله، على أن يكون (أبي عبد الله) بدلاً من الهاء لما ذكر، وإن كان في المسألة خلاف.

الخامس: منصوب بالفزع، قاله الزمخشري، وفيه نظر من حيث إنه أعمل المصدر الموصوف قبل أخذه معموله. وقد تقدم أن نافعاً يقرأ «يُحْزنُ» بضم ايلاء إلا هنا، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ «يُحْزنُ» بضم الياء إلا هنا، وأن شيخه ابن القعقاع يقرأ «يَحْزُنُ» بالفتح إلا هنا.

ص: 612

وقرأ العامة «نَطْوِي» بنون العظمة. وشيبة بن نصاح في آخرين «يَطوي» بياء الغيبة، والفاعل هو الله تعالى. وقرأ أبو جعفر في آخرين «تُطْوَى» بضم التاء المثناة من فوق وفتح الواو مبنياً للمفعول. وقرأ العامة «السِّجِلِّ» بكسر السين والجيم وتشديد اللام كالطَّمرّ. وقرأ أبو هريرة وصاحبه أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير بضمهما واللام مشددة أيضاً بزنة «عُتُلٍّ» . ونقل أبو البقاء تخفيفها في هذه القراءة أيضاً فتكون بزنة عُنْقٍ. وأبو السمال وطلحة والأعمش بفتح السين. والحسن وعيسى بن عمر بكسرها. والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة.

قال أبو عمرو: قراءة أهل مكة مثل قراءة الحسن. والسِّجل الصحيفة مطلقاً وقيل: مخصوص بصحيفة العهد، وهي من المساجلة وهي المكاتبة.

والسَّجْلُ: الدلو المَلأى. وقال بعضهم: هو فارسيّ معرب فلا اشتقاق له و «طَيّ» مصدر مضاف للمفعول، والفاعل محذوف، تقديره: كما يطوي الرجل الصحيفة ليكتب فيها، أو لما يكتبه فيها من المعاني، والفاعل يحذف مع المصدر باطراد

ص: 613

والكلام في الكاف معروف أعني: كونها نعتاً لمصدر مقدر أو حالاً من ضميره. وأصل «طَيّ» طَوْي، فأعلّ كنظائره. وروي عن علي وابن عباس: أنّ السجل اسم ملك يطوي كتب أعمال بني آدم. وروى ابن الجوزاء عن ابن عباس: أنّ السجل اسم رجل كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ -. وعلى هذين القولين يكون المصدر مضافاً لفاعله، والكتاب اسم الصحيفة المكتوبة. قال بعضهم: وهذا القول بعيد، لأنّ كُتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - كانوا معروفين وليس فيهم من سُمِّيَ بهذا.

قال أبو إسحاق الزجاج: السجل بلغة الحبشة.

وقال الزمخشري: كما يطوى الطُّومَار للكتابة، أي: ليكتب فيه، أو لما يكتب فيه، لأنَّ الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثم يوقع على المكتوب. فقدره الزمخشري من الفعل المبني للمفعول، وقد عرف ما فيه من الخلاف واللام في «الكتاب» إما مزيدة في المفعول إنْ قلنا: إنَّ المصدر مضاف إلى المفعول، والفاعل محذوف، والتقدير: كطي الطاوي السجل وهذا قول الأكثرين. وقيلأ: اللام بمعنى (على) ، وهاذ ينبغي أن لا يجوز لبعد معناه على كل قول.

ص: 614

والقراءات المذكورة في السجل كلها لغات فيه.

وقرأ الأخوان وحفص «لِلْكُتُبِ» جمعاً. والباقون «لِلْكِتَابِ» مفرداً. والرسم يحتملهما فالإفراد يراد به الجنس والجمع للدلالة على الاختلاف، والمعنى المكتوبات، أي: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. فيكون معنى طي السجل للكتابة، كون السجل ساتراً لتلك الكتابة ومخفياً لها، لأنّ الطي هو الدرج ضد النشر الذي يكشف. قوله:«كَمَا بَدَأْنَا» في متعلق هذه الكاف وجهان:

أحدهما: أنها متعلقة ب «نُعِيدُهُ» و «مَا» مصدرية، و «بَدَأْنَا» صلتها، فهي وما في حيزها في محل جر بالكاف. و «أَوَّلَ خَلْقٍ» مفعول «بَدَأْنَا» ، والمعنى: نعيد أوّل خلق إعادة مثل بدأتنا له، أي: كما أبرزناه من العدم إلى الوجود نعيده من العدم إلى الوجود وإلى هذا نحا أبو البقاء فإنه قال: الكاف نعت لمصدر محذوف أي: نعيده عوداً كمثل بدئه.

وفي قوله: عوداً نظر إذ الأحسن أن يقول: إعادة.

والثاني: أنّها تتعلق بفعل مضمر. قال الزمخشري: ووجه آخر، وهو أنْ ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره «نُعِيدُهُ» و «ما» موصولة، أي: نعيد مثل الذي بدأنا نعيده و «أَوَّلَ خَلْقٍ» ظرف ل «بَدَأْنَا» أي: أول ما خلق، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى. قال أبو حيَّان: وفي تقديره تهيئة «بَدَأْنَا» لأنْ ينصب «أَوَّلَ خَلْقٍ» على المفعولية وقطعه عنه من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، وارتكاب إضمار (نعيد) مفسراً ب «نُعِيدُهُ» وهذه عجمة في كتاب الله، وأما قوله: ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره «نُعِيدُهُ» فهو ضعيف جداً، لأنه مبني على أن الكاف اسم لا حرف، وليس مذهب الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش، وكونها اسماً عند اسم لا حرف، وليس مذهب الجمهور، وإنما ذهب إلى ذلك الأخفش، وكونها اسماً عند البصريين مخصوص بالشعر.

ص: 615

قال شهاب الدين: كل ما قدره فهو جار على القواعد المنضبطة وقاده إلى ذلك المعنى الصحيح فلا مؤاخذة عليه، ويظهر ذلك بالتأمل لغير الفطن وأما «ما» ففيها ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها مصدرية.

والثاني: أنها بمعنى الذي. وقد تقدم تقرير هذين.

والثالث: أنها كافة للكاف عن العمل كما في قوله:

3741 -

كَمَا النَّاسُ مَجْرومٌ عَلَيْهِ وجَارِم

فيمن رفع (النَّاس) قال الزمخشري: «أوَّلَ خَلْق» مفعول نعيد الذي يفسره «نُعِيدُهُ» والكاف مكفوفة ب «ما» والمعنى: نعيد أول الخلق كا بدأناه تشبيهاً للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لها على السواء، فإنْ قُلْتَ: ما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه قُلْتُ: أوله إيجاده من العدم، فكما أوجده أولاً من يعدم يعيده ثانياً من عدم.

وأما «أَوَّلَ خَلق» فيحصل فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مفعول «بَدَأْنَا» .

والثاني: أنه ظرف ل «بَدَأْنَا» .

زالثالث: أنه منصوب على الحال من ضمير الموصول كما تقدم تقريره.

والرابع: أنه حال من مفعول «نُعِيدُهُ» قاله أبو البقاء، والمعنى: مثل أول خلقه

ص: 616

وأما تنكير «خَلقٍ» فدلالته على التفصيل، قال الزمخشري: فإن قُلْتَ: ما بال «خَلْق» منكراً. قُلْتُ: هو كقولك: أول رجل جاءني، تريد أول الرجال، ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً، فكذلك معنى أول خلق بمعنى أول الخلائق، لأنّ الخلق مصدر لا يجمع.

قوله: «وَعْداً» منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المتقدمة، فناصبه مضمر، أي: وعدنا ذلك وعداً.

فصل

اختلفوا في كيفية الإعادة فقيل: إن الله يفرق أجزاء الأجسام ولا يعدمها ثم إنه بعيد تركيبها فذلك هو الإعادة.

وقيل: إنه تعالى يعدمها بالكلية، ثم إنه يوجدها بعينها مرة أخرى، وهذه الآية دالة على هذا الوجه؛ لأنه تعالى شبه الإعادة بالابتداء، والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد العدم، فوجب أنْ تكون الإعادة كذلك.

واحتج الأولون بقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فدلّ هذا على أنّ السموات حال كونها مطويات تكون موجودة. وبقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] وهذا يدلّ على أنَّ الأرض باقية لكنها جعلت غير الأرض.

فصل

قال المفسرون: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم عراة غرلاً كذلك نعيدهم يوم القيامة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] . «روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم َ - قال:» إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً «ثم قرأ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} . يعني الإعادة والبعث. وقيل: المراد حقاً علينا بسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه وأن وقوع ما علم الله وقوعه واجب.

ص: 617

ثم حقق ذلك بقوله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} قرأ حمزة بضم الزاي، والباقون بفتحها بمعنى المزبور كالمحلوب والمركوب، يقال: زبرت الكتاب أي: كتبته. والزُّبور بضم الزاي جمع زِبْرَة كقِشرة وقُشُور. ومعنى القراءتين واحد، لأنّ الزبور هو الكتاب.

قال سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل: «الزَّبُور» جميع الكتب المنزلة، و «الذِّكْر» أم الكتاب الذي عنده، والمعنى من بعد ما كتب ذكره في اللوح المحفوظ. وقال ابن عباس والضحاك: الزبور: التوراة، واذلكر: الكتب المنزلة من بعد التوراة. وقال قتادة والشعبي: الزبور والذكر: التوراة. وقيل: الزبور: زبور داود، والذكر: القرآن، و «بَعْدِ» بمعنى قبل كقوله:{وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ} [الكهف: 79] أي: أمامهم.

ص: 618

{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] اي: قبله. وقيل: الزبور: زبور داود، والذكر هو ما روي أنه عليه السلام قال:«كان الله ولم يكن معه شيء ثم خلق الذكر» قوله: {مِن بَعْدِ الذكر} يجوز أن يتعلق بنفس «الزَّبُور» لأنه بمعنى المزبور، أي: المكتوب، أي: المزبور من بعد. ومفعول «كَتَبْنَا» «أنَّ» وما في حيزها، أي: كتبنا وراثة الصالحين للأرض، اي: حكمنا به قوله: «أنَّ الأَرْضَ» يعني أرض الجنة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} قال مجاهد: يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ - ويدل عليه قوله تعالى: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض} [الزمر: 74] وقال ابن عباس: أراد أراضي الكفار يفتحها المسلمون، وهذا حكم من الله تعالى بإظهار الدين وإعزاز المسلمين.

وقيل: أراد الأرض المقدسة يرثها الصالحون لقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] .

{إِنَّ فِي هذا} أي: في هذا القرآن يعني ما فيه من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة «لَبَلَاغَاً» وصولاً إلى البغية، فمن اتبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب. وقيل:«لَبَلَاغَاً» أي: كفاية: والقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر. {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي: مؤمنين. وقال ابن عباس: عالمين. وقال كعب الأحبار: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ - أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان.

وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً} يجوز أن ينتصب «رَحْمَةً» مفعولاً له، أي: لأجل الرحمة، ويجوز أن ينتصب على الحال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة، وإما على حذف مضاف أي: ذا رحمة، أو بمعنى راحم. وفي الحديث:«يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة» .

قوله: «لِلْعَالَمِينَ» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رَحْمَةً» أي: كائنة

ص: 619

للعالمين. ويجوز أن يتعلق ب «أَرْسَلْنَاكَ» عند مَنْ يرى تعلق ما بعد قبلها جائز، أو بمحذوف عند مَنْ لا يرى ذلك. هذا إذا لم يفرغ الفعل لما بعدها أما إذا فرغ فيجوز نحو: ما مررت إلا بزيد، كذا قاله أبو حيان هنا. وفيه نظر من حيث إن هذا أيضاً مفرغ، لأنّ المفرغ عبارة عما افتقر ما بعد إلا لما قبلها على جهة المعمولية له.

فصل

قال ابن عباس: قوله: «رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» عام في حق من آمن ومن لم يؤمن. اعلم أنه - عليه لسلام - كان رحمة في الدين والدنيا، أما في الدين فلأنه عليه السلام بعث والناس في جاهلية وضلال، وأهل الكتابين كانوا في حيرة في أمر دينهم لطول مدّتهم وانقطاع تواترهم ووقوع الاختلاف في كتبهم، فبعث الله محمداً حين لم يكن لطالب الحق سبيل إلى الفوز والثواب، فدعاهم إلى الحق وبين لهم سبيل الصواب وشرع لهم الأحكام، وميز الحلال والحرام، فمن كانت همته طلب الحق فلا يركن إلى التقليد ولا إلى العناد والاستكبار، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ} [فصلت: 44] إلى قوله: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] وأما في الدنيا فلأنهم تخلصوا بسببه من الذل والقتل. فإن

ص: 620

قيل: كيف كان رحمة وقد جاء بالسيف واستباحة المال؟ فالجواب من وجوه:

الأول: إنما جاء بالسيف لمن أنكر وعاند ولم يتفكر ولم يتدبر، ومن أوصاف الله الرحمن الرحيم، وهو منتقم من العصاة. وقال:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً} [ق: 9] ثم قد يكون سبباً للفساد.

الثاني: أنّ كل نبي من الأنبياء قبله إذا كذبه قومه أهلك الله المكذبين بالخسف والمسخ والغرق، وأنه تعالى أخر عذاب من كذب رسولنا إلى الموت أو إلى القيامة قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] ولا يقال: أليس أنه قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] . وقال: {لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين} [الأحزاب: 73] لأنا نقول تخصيص العام لا يقدح فيه.

الثالث: أنه عليه السلام كان في نهاية حسن الخلق قال تعالى: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]«وقيل له عليه السلام: ادع على المشركين. فقال:» إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذاباً «» وقال في رواية حذيفة: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أغضب كما يغضب البشر، فأيما رجل سببته أو لعنته فاجعلها اللهم عليه صلاة إلى يوم القيامة» .

الرابع: قال عبد الرحمن بن يزيد: {إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} يعني المؤمنين خاصة.

فصل

قالت المعتزلة: لو كان تعالى أراد من الكافر الكفر ولم يرد منه القبول من الرسول، بل ما أراد منهم إلا الرد عليه، وخلق ذلك فيهم، ولم يخلقهم إلا لذلك كما يقول أهل

ص: 621

السنة لوجب أن يكون إرساله نقمة وعذاباً عليهم لا رحمة، وهو خلاف هذا النص، ولا يقال: إن رسالته رحمة للكفار من حيث لم يجعل عذابهم في الدنيا كما عجل عذاب سائر الأمم، لأنا نقول: إنّ كونه رحمة للجميع على حد واحد، وما ذكرتموه في الكفار فهو حاصل للمؤمنين، وأيضاً فإن الذي ذكروه من نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار قبل بعثته عليه السلام لحصولها بعده، بل كانت نعمهم في الدنيا قب بعثته كحصولها بعده وأعظم، لأن في بعثته نزل بهم الغم والخوف، ثم أمر الجهاد الذي فيه أكبر همّ، فلا يجوز أن يكون هذا هو المراد.

والجواب أنْ نقول لما علم الله أن أبا لهب لم يؤمن البتة، وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره بالإيمان أمراً يقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً، وذلك محال، فكان قد أمره بالمحال، وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة، فلم لا يجوز ان يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر؟ ولأنّ قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازمن وإن كانت صالحة للضدين توقف الترجيح على مرجح من قبل الله تعالى قطعاً للتسلسل. وحينئذ يعود الإلزام، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون رحمة للكفار تأخير عذاب الاستئصال عنهم؟ وقولهم أولاً: لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكفار من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين.

فالجواب: ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين، فدعواكم بكون الوجه واحداً تحكم. وقولهم نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل. فالجواب: نعم، ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بُعِثَ حصل الخوف للكفار من نزول العذاب، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار.

فصل

تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة، لأنّ الملائكة من العالمين، فوجب أن يكون أفضل منهم. وأجيب بأنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ} [غافر: 7] وذلك رحمة منهم في حق المؤمنين، والرسول عليه السلام داخل

ص: 622

في المؤمنين، وكذا قوله تعالى:{إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] .

ص: 623

قوله: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} الآية.

لما أورد على الكافر الحجج في أن لا إله إلا سواه، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين أتبع ذلك بما يكون إنذاراً في مجاهدتهم والإقدام عليهم فقال:«إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ» قوله: «أَنَّمَآ إلهكم» (أنَّ) وما في حيزها في محل رفع لقيامه مقام الفاعل إذ التقدير: إنما يوحي إليّ وحدانية إلهكم. وقال الزمخشري: «إنّما» لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنَّما زيد قائمم، وإِنَّما يقوم زيد، و {أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} بمنزلة إنَّما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الجلالة على أنَّ الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ - مقصور على استئثار الله بالوحدانية.

قال أبو حيَّان: أما ما ذكره في «إنَّما» أنها لقصر ما ذكر فهو مبني على أن «إنّما» للحصر، وقد قررنا أنها لا تكون للحصر، وأنّ «مَا» مع «إنَّ» كهي مع «كأن» ومع «لَعَلّ» فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه، ولا الحصر في الترجي، فكذلك لا تفيده مع «إنَّ» ، وأما جعله «أنَّما» المفتوحة الهمزة مثل المكسورتها يدل على القصر فلا نعلم الخلاف إلا في «إنَّما» بالكسر، وأما «أنَّما» بالفتح فحرف مصدري ينسبك منه مع ما بعده مصدر، فالجملة بعدخا ليست جملة مستقلة، ولو كانت «أنَّمَا» دالى على الحصر لزم أن يقال: أنه لم يوح إليَّ شيء إلا التوحيد، وذلك لا يصح الحصر فيه، إذ قد أوحي إليه أشياء غير التوحيد. قال شهاب الدين: الحصر بحسب كل مقام على ما يناسبه، فقد يكون هذا المقام بقتضي الحصر في إيحاء الوحدانية لشيء جرى من إنكار الكفار وحدانيته تعالى، وأنَّ الله لم يوح إليه شيئاً، وهذا كما أجاب الناس عن هذا الإشكال

ص: 623

الذي ذكره الشيخ في قوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ} [النازعات: 45]{إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ} [الكهف: 110]{أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] إلى غير ذلك، و «مَا» من قوله:{إِنَّمَآ يوحى} يجوز فيها وجهان:

أحدهما: أنْ تكون كافة. وقد تقدم.

والثاني: أنْ تكون موصولة كهي في قوله: {إِنَّمَا صَنَعُواْ} [طه: 69]، ويكون الخبر هو الجملة من قوله {أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} تقديره: أنّ الذي يوحى إليّ هو هذا الحكم. قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} استفهام معناه الأمر بمعنى: أسلموا، كقوله:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} آذَنْتُكُمْ أعلمتكم، فالهمزة فيه للنقل، قال الزمخشري: آذن منقول من أذن: إذا علم، لكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله:

{فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ} [البقرة: 279] وقول ابن حلزة:

3742 -

آذَنْتَنَا بِبَيْنهَا أَسْمَاءُ

وقد تقدم تحقيق هذا في البقرة.

قوله: «على سَوَآءٍ» في محل نصب على الحال من الفاعل والمفعول معاً، أي:

ص: 624

مستوين بما أعلمتكم به لم نطوه على أحد منهم.

فصل

قال أبو مسلم: الإنذار على السواء الدعاء على الحرب مجاهرة كقوله: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] وفائدة ذلك أنه كان يجوز أن يقدر من أشرك أنّ ةحالهم مخالف لسائر حال الكفار في المجاهرة، فعرفهم بذلك أنهم كالكفار في ذلك. وقيل: المعنى: فقد أعلمتكم ما هو الواجب عليكم من التوحيد وغيره على سواء في الإبلاغ والبيان، لأني بعثت معلماً، والغرض منه إزاحة العذر لئلا يقولوا {رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} [طه: 134] وقيل: (ليستوي في الإيمان) . وقيل: {آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} أي: على مهل أي: لا أعاجل بالحرب الذي آذنتكم، بل أمهل وأؤخر رجاء إسلامكم.

قوله: {وَإِنْ أدري} العامة على إرسال الياء ساكنة، إذ لا موجب لغير ذلك. وروي عن ابن عباس أنه قرأ «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ» «وَإنْ أَدْرِيَ لَعَلَّهُ فتْنَةُ» بفتح الياءين، وخرجت على التشبيه بياء الإضافة على أن ابن مجاهد أنكر هذه القراءة البتة. وقال ابن جنيّ:

ص: 625

هو غلط، لأن «أن» نافية لا عمل لها. ونقل أبو البقاء عن غيره أنه قال في تخريجها: أنه ألقي حركة الهمزة على الياء فتحركت، وبقيت الهمزة ساكنة، فأبدلت ألفاً لانفتاح ما قبلها، ثم أبدلت همزة متحركة، لأنها في حكم المبتدأ بها، والابتداء بالساكن محال. وهذا تخريج متكلف لا حاجة إليه، ونسبة راويها عن ابن عباس إلى الغلط أولى من هذا التكلف فإنها قراءة شاذة، وهذا التخريج وإن وقع في الأولى فلا يجري في الثانية شيئاً. وسيأتي قريب من ادعاء قلب الهمزة ألفاً ثم قلب الألف همزة في قوله:«مِنْسَأَتَهُ» - إن شاء الله -، وبذلك يسهل الخطب في التخريج المذكور والجملة الاستفهامية في محل نصب ب «أّدْرِي» ، لأنها معلقة لها عن العملأ، وأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة، ولو وسط لكان التركيب: أقريب ما توعدون أم بعيد، ولكنه أخر مراعاة لرؤوس الآي. و «مَا تُوعَدُونَ» يجوز أن يكون مبتدأ وما قبله خبر عنه ومعطوف عليه، وجوّز أبو البقاء فيه أن يرتفع فاعلاً ب «قَرِيبٌ» قال: لأنه اعتمد على الهمزة. قال: ويخرج على قول البصريين أن يرتفع ب «بَعِيدٌ» لأنه أقرب إليه. يعني أنه يجوز أن تكون المسألة من التنازع فإِن كُلاًّ من الوصفين يصح تسلطه على «مَا تُوعَدُونَ» من حيث المعنى.

فصل

المعنى: وما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون، يعني: القيامة أو من عذاب الدنيا.

وقيل: الذي آذنهم به من الحرب لا يعلم هو قريب أم بعيد لئلا يقدر أن يتأخر، وذلك أنَّ السورة مكية، وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل: ما يوعدون من غلبة المسلمين عليهم.

قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} والمقصود منه الأمر بالإخلاص وترك النفاق. و «من القول» حال من الجهر. قوله: «لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ» الظاهر أن هذه الجملة

ص: 626

متعلقة ب «أدْرِي» والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في ذلك، إلا أنّ النحويين لم يعدوا من المعلقات (لَعَلّ) وهي ظاهرة في ذلك كهذه الآية، وكقوله:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3]{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .

فصل

المعنى: وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم، أو لعل إبهام الوقت الذي ينزل عليكم العذاب فتنة لكم أي: بلية واختبار لكم ليرى صنيعكم، وهل يتوبوا عن الكفر أم لا وقيل: لعل ما أنتم فيه من الدنيا بلية لكم، والفتنة البلوى والاختبار.

وقيل: لعل تأخير الجهاد فتنة لكم إذا أنتم دمتم على كفركم. وقيل: «قَالَ رَبِّ» خبراً عن الرسول عليه السلام والباقون: «قُلْ» على الأمر. وقرأ العامة بكسر الباء اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة وهي الفصحى. وقرأ أبو جعفر بضم الباء، فقال صاحب اجتزاءً بالكسرة عن ياء الإضافة وهي الفصحى. وقرأ بضم الباء، فقال صاحب اللوامح: إنه منادى

ص: 627

مفرد، ثم قال: وحذف حرف النداء فيما فيما يكون وصفاً ل (أيّ) بعيد بابه الشعر. قال شهاب الدين: وليس هذا من المنادى المفرد، بل نصّ بعضهم على أن بعض اللغات الجائزة في المضاف إلى ياء المتكلم حال ندائه. وقرأ العامة «

احْكُمْ» على صورة الأمر.

وقرأ ابن عباس وعكرمة وابن يعمر «رَبِّي» بسكون الياء «أَحْكَمَ» بفتح الميم كأكرم على أنه فعل ماض في محل خبر أيضاً ل «رَبِّي» وقرأ العامة «تَصِفُونَ» بالخطاب.

وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ على أبيّ رضي الله عنه «يَصفُون» بالياء من تحت وهي مروية أيضاً عن عاصم وابن عامر، والغيبة والخطاب واضحان

فصل

المعنى: رب اقض بيني وبين قومي بالحق أي: بالعذاب، والحق ههنا العذاب، نظيره:{رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} [الأعراف: 89] فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر. وقال أهل المعاني: رب احكم بحكمك الحق فحذف الحكم وأيم الحق مقامه. والله يحكم بالحق طلب أو لم يطلب، ومعنى الطلب: ظهور الرغبة من الطالب للحق. وقيل: المعنى: افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع، وهو أن تنصرني عليهم. {وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ} من الكذب والباطل. وقيل: كانوا يطمعون أن يكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم، وخيب آمالهم، ونصر رسوله والمؤمنين.

فصل

روي عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ -: «من قرأ سورة {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} حاسبه الله حساباً يسيراً وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن» .

ص: 628