الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حديث الإفك:
ولقد كان حديث الإفك من أشد وأصعب ما واجهت عائشة رضي الله عنها في حياتها ومن أقسى ما تعرض له بيت النبوة إلى أن تنزلت آيات الله - تعالى - في سورة النور تكشف الغمة وتبددها.
فلقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في جيش من المسلمين في المدينة إلى ديار بني المصطلق لتأديبهم ومعاقبتهم على ما كان منهم وكان سهم الخروج من نصيب عائشة من بين أزواجه. وحين تم النصر للمسلمين على بني المصطلق الذين لقوا جزاء غدرهم ونفاقهم ووزعت الغنائم والأسلاب وقد التقى عند حوض المساء كان يستقي من المسلمين أحد الأنصار وأحد المهاجرين فتزاحما وتنافرا وكاد خصامهما يؤدي إلى اشتباك بين المؤمنين. ومما زاد في تأجيج نار الفتنة ما قاله رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذل.
وسمع أحد المسلمين تلك المقالة وشهد الحادثة ومن ثم رأى بوادر الفتنة فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل له الخبر وما قاله ابن سلول فرأى عليه الصلاة والسلام أن من الحكمة أن يشغل الناس عن الفتنة بالمسير على الفور بعد أن أقاموا للاستراحة. في أثناء ذلك كانت عائشة قد خرجت من خبائها لقضاء حاجة بعيدًا عن معسكر المسلمين وهي لا تدري من أمر ما يحدث شيئًا وابتعدت كثيرًا وحين رحل المسلمون رفع هودجها من مكانه ظنًا من قائده أنها بداخله ومضى المسلمون في طريقهم إلى المدينة.
عادت عائشة مما ذهبت إليه وافتقدت عقدًا كانت تزين به جيدها فلم تجده فرجعت سريعًا إلى حيث كانت ولملمت حبات العقد المتناثرة وعادت على جناح السرعة وحين بلغت طرف المعسكر ومكان الهودج لم تجد أثرًا لبشر فارتاعت وجزعت وألم بها خوف شديد ثم لبثت في مكانها لا تدري كيف تتصرف وماذا تفعل! وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد الظافر الخبير أن يرسل إثر كل غزوة رجلاً من أصحابه اسمه صفوان بن المعطل يستدرك ما فاته المسلمون عند رحيلهم، وفوجئت عائشة رضي الله عنها بخيال فارس يأتي حيث تقف فأرخت حجابها وعندما لمحها صفوان غض بصره وقال في دهشة وعجب! ! ظعينة رسول الله؟ ما خلفك رحمك الله؟ وما الذي أخرجك؟ ثم نزل عن بعيره وتأخر حتى ركبت ثم تقدم وأمسك بالمقود وشغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة حتى عادت واطمئن عليها وسمع بعذرها وصدقها بعد أن افتقدها فلم يجدها واهتم لأمرها.
وكان عندما أطل موكب صفوان وعائشة على مداخل المدينة المنورة ولمحه ابن سلول المنافق الذي كان جالسًا مع بضعة نفر من أتباعه ووجد المادة التي يتسلى بها والسم الذي ينفث لينفس عن حقده وحسده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين فقال: أيها الناس ظعينة نبيكم عادت في ركاب رجل والله ما نجت منه ولا نجا منها وسرت أكذوبة ابن سلول بين الناس مسرى النار في الهشيم وتناقلتها الألسنة تصريحًا وتلميحًا.
لكن عائشة رضي الله عنها دخلت منزلها خالية الذهن لا
تدري من أمر هذا الإفك والافتراء شيئًَا ثم وصل الهمس إلى أذن رسول الله فعاش فترة من الحيرة والقلق والهم الشديد، يبدو ذلك على محياه الشريف ويظهر في تصرفاته وكانت عائشة تعلل تلك الظواهر في وجهه صلى الله عليه وسلم أو انصرافه عنها بسبب انشغاله بأمور الدعوة وشئون المسلمين، وحين استفحل الأمر وقد شعرت رضي الله عنها بالمرض يداهما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذهب إلى بيت أبيها كي تقوم أمها على خدمتها ورعايتها ولقي طلبها هذا سرعة استجابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما جعلها تحزن وتتوجس لأنه - عليه الصلام والسلام - لم يكن ليطيق فراقها أو ابتعادها عنه ودخلت عائشة منزل والدها الصديق الحزين رضي الله عنه الذي ما انفك يدعو الله - تعالى - أن يبرئ ساحة ابنته. وقضت في بيت أبي بكر رضي الله عنه قرابة العشرين يومًا حتى شفيت من مرضها.
وفي ليلة خرجت مع امرأة من ألأنصار ممن كن يزرنها لقضاء حاجة بعيدًا في الخلاء وبينما كن في الطريق عثرت المرأة بطرف ثوبها وكادت تسقط أرضًا فقالت: تعس «مسطح» فانتفضت عائشة وقالت بحدة وغضب: بئس لعمر الله ما قلت في رجل من المهاجرين ممن شهدوا بدرًا
…
فقالت المرأة: عجبًا وتدافعين عنه أو ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ فأجابت عائشة مستفسرة بدهشة: وما الخبر؟ فقصت عليها المرأة حديث الإفك وما يشاع عنها وما يروجه دعاة السوء من أقاويل وافتراءات. وكان مسطح بن أثاثة واحدًا من الذين أطلقوا لألسنتهم العنان ينالون به من شرف عائشة
وسمعتها، ولما فرغت المرأة من الحديث كاد يغمى على عائشة فتماسكت وعادت إلى البيت تبكي وتنتحب وتلوم أمها لأنها كتمت عنها الخبر رأفة بها، وراحت الأم تخفف من حدة غضب «عائشة» والدموع تنهمر من عينيها فتغسل وجهها وتقول: أي بنية هوني عليك الشأن فوالله ما كانت امرأة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها لكن أين عائشة وأين أمها! !
لقد كانت في هم شديد، الدنيا كلها في نظرها مظلمة سوداء. فقبعت في الدار متوارية عن الناس عازفة عن الطعام والشراب لا تغفو ولا تنام تبكي وتنشج. ولم يكن سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم سكوت الصدق - معاذ الله - ولكن سكوت الصابر حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. وحين كثر القيل والقال خطب في الناس فقال:«أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيرًا، ويقولون ذلك في رجل ما علمت منه إلا خيرًا وما يدخل بيتًا من بيوتي إلا وهو معي (يعني صفوان بن المعطل)» فسكت الناس جميعًا ثم أراد رسول الله أن يستشير خلصاءه في هذا الأمر وأصفياءه فاستدعى إليه ابن عمه علي بن أبي طالب وحبه أسامة بن زيد وسألهما رأيهما فقال أسامة: إنك لأعلم الناس بعائشة يا رسول الله وإن الناس لتكذب وما عرفت عنها إلا خيرًا، وأما علي فقال: يا رسول الله إن النساء كثيرات وإنك لقادر على أن تستخلف (أي تنجب الأبناء) وسل الجارية تصدقك.