الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أوّل واجب على المكلّف عبادة الله تعالى وضوح ذلك من كتاب الله ودعوات الرسل
للشيخ عبد الله الغنيمان رئيس قسم الدراسات العليا
الحمد لله الغني الحميد، المبدىء المعيد، غني بذاته عن كل من سواه، وكل من سواه فقير إليه، وصائر إليه، وهو تحت قهره وتصرفه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين
…
وبعد
…
فإنّ الله تعالى خلق الإنسان وفضله على كثير من خلقه، بالعقل والفكر والنطق والبيان، ووهبه القدرة على الكَسب والقوة على العمل، ليكون مؤهلاً للأمر والنهى، وجعل له دارين، داراً للابتلاء والاختبار والتمييز بين الصالح والفاسد، ومحلا لكسب الأعمال، التي بها يستوجب الثواب أو العقاب، وجعل لها مدة محددة، وأجلاً قصيراً، ثم ينقل إلى الدار الأخرى التي لا تنتهي ولا تنقطع، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} .
فالله تعالى أوجد الإنسان بعد أن كان معدوماً، وأعطاه ما يحتاج إليه في حياته، وما يكون سبباً لسعادته من العقل والفكر الذي يميز به ما ينفعه مما يضره وما يلزم لذلك من السمع والبصر، والقوى التي يتمكن بها من العمل. قال تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً. إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً} . (الإنسان: 1- 3) فقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . وقوله: {نَبْتَلِيهِ} هذا ما خلق الإنسان من أجله، وقد بين ذلك تعالى بيانا واضحاً وضوح النهار.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} . (النحل: 36) . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء: 25) .
وفي القرآن آيات كثيرة تنص على وجوب عبادة الله تعالى، وتبيِّن لزوم ذلك للإنسان لزوم أمر أوجبه الله تعالى عليه، وأكثر تعالى من التهديد والوعيد لمن تركه، وأعرض عنه، ومن الترغيب والوعد بالجزاء الجميل لمن امتثل ذلك واتبع الرسل، ومع وضوح هذا الأمر وكثرة ما أحيط به من ترغيب في فعله في الدنيا والآخرة، ومن ترهيب لمن أعرض عنه وجانبه مع ذلك كله فقد ضل عنه أكثر الخلق إما جهلاً، وإما عمداً وعناداً، وذلك أن الذي يحمل العبد على امتثال أمر الله واتباع رسله هو قوة الإيمان بالله، وبما أعده لمن آمن به وعمل صالحاً وما أعده لمن عصاه وبارزه بالمعادات والمحاربة.
ومع الإيمان فلابد من العلم بأمره وشرعه، ومع فَقد هذين الأمرين يستحكم الضلال، والبعد عن كل خير، لهذا صار أهم ما على العبد معرفته ما أوجبه الله عليه، والعمل به، وأول ما أوجب الله تعالى على العبد وأعظمه هو الإيمان به تعالى وبرسوله- ثم الاهتداء إلى ذلك وتفاصيله بالوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} . (سبأ: 50) فالاهتداء يكون بالوحي ولهذا أمر الله تعالى أهل العقل بتدبر القرآن واستماعه والإنصات لتلاوته، وحض فيه على التدبر والتفكر والتذكر والعقل والفهم والتأثر منه بالوجل، والبكاء والخشية لما فيه من العلم والهدى، والمقصود من إرسال الرسل إلى العباد، وإنزال الكتب عليهم إصلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله ويصلوا إليه وهو عبادة ربهم وحده لا شريك له.
والعبادة أصلها عبادة القلب، المستلزمة لعبادة الجوارح، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده، وإذا صلح الملك صلحت الجنود، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب"1.
والقلب بعبادة الله تعالى والاستعانة به: معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان المتين، فلا يزال في زيادة من العلم والإيمان، أو سلامة من الجهل والضلال، سالماً من جهل أهل التصوف وعباد الخلق، وضلال المتكلمين أهل الشك والحيرة والخذلان. والعبد لما كان مخلوقاً مربوباً، عاد في علمه وعمله إلى خالقه وباريه فبه
1 رواه البخاري ومسلم انظر الفتح ج 1ص 126 وج 4 ص 0 29 ومسلم ج 3 ص1220.
يهتدي وله يعمل، وإليه يصير، فلا غنى له عنه، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده، وبالله له عن كل شيء عوض، وليس لكل شيء عن الله عوض وليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربه وعبادته، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خلق من أجلها، فما سوى ذلك إما فضل نافع أو فضول غير نافعة أو فضول ضارة، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته، فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يعلم من تتبع دعوات الرسل في القرآن، بخلاف الطرق الكلامية الفلسفية فإنهم يبدأون بنفوسهم فيجعلونها هي الأصل الذي يفرعون عليه، فيتكلمون في إدراكاتهم للعلم، أنه مرة يكون بالحس ومرة بالعقل، أو بهما.
ويجعلون العلوم الحسية والبديهية هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها على حد زعمهم، مثل الأمور الطبيعية والحسابية، والأخلاق، وبنوا سائر العلوم على هذه الأمور الثلاثة، ولهذا كانوا يمثلون بها في أصول العلم والكلام كقولهم: إن الواحد نصف الاثنين، والعشرة أكثر من الخمسة، والجسم لا يكون في مكانين، والضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض، هذا في الحسابية والطبيعية، وأما الأخلاق فمثل استحسان العلم، والعدل والعفة والشجاعة.
ثم إذا تجاوزوا هذه الأمور إلى العالم العلوي فمقصودهم إثبات خالق العالم والدلائل التي بها تثبت النبوة على طريقهم فإذا ثبتت النبوة تلقوا عنها السمعيات، وهي الكتاب والسنة والإجماع، وهذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، أما الوسائل مع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة. وأما مقاصدها فغايتها إثبات ربوبية الله تعالى للكون فهي كما قيل:"لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى"، مثال ذلك قولهم كما في نهاية المرام والإرشاد وغيرهما:"إن الله لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم ثم الاستدلال بذلك على محدثه، والدليل على أن العالم حادث، ما فيه من الأعراض، والأعراض هي صفات الأجسام"1، وجمهور المتكلمين يستدلون بهذا الدليل بعينه على نفي صفات الله تعالى حيث قالوا: إن حركات الأجسام وأعراضها هو الذي دل على حدوثها، وسمَّوا الصفات أعراضاً مثل العلم والرحمة والغضب والرضا وغير ذلك وقالوا: إذا اتصف بذلك صار محلا للحوادث، وما كان محلا للحوادث فهو حادث.
1 انظر غاية المرام ص 7 وانظر الإرشاد ص 18.
[والقدرية من المعتزلة يعتقدون أن إثبات الرب تعالى لا يمكن إلا بعد اعتقاد أن العبد هو المحدث لأفعاله، وإلا انتقض الدليل] . وكثير منهم جعل سلوك هذا متعينا لأنه الموصل إلى معرفة الله، ومن لم يسلك ذلك لم يعرف ربه. وبطلان هذا معلوم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (البينة: 5) . وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (الزمر:2) . وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:21) . وهذا كثير في القرآن يأمر الله تعالى أن يعبد ويخلص له الدين، وأن يؤمن به ابتداء، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس إلى النظر ابتداء إلى الاستدلال على وجود الله تعالى، ولا إلى مجرد إثبات وجوده، بل أول ما دعاهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وكان يأمر رسله والدعاة الذين يبعثهم لنشر دعوته بأن يبدؤا بدعوة الناس إلى أن يوحِّدوا الله أولا بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كما في حديث معاذ المتفق على صحته حينما بعثه إلى أهل اليمن قال:"إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أجابوك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخذُ من أغنيائهم فتُردُّ في فقرائهم"1. وقوله في حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين وحديث ابن عمر: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"2 وقد أجمع الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم على أن الكافر يدعى إلى الشهادتين مهما كانت عقيدته وعمله فإذا أجاب ونطق بالشهادتين حكم بإسلامه ظاهراً، فإن كان صادقا في نطقه فهو مسلم ظاهرا وباطنا، وإن كان كاذبا في الباطن فهو منافق.
وليس في كتاب الله أن النظر أول الواجبات، بل ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس الذين لا يحصل لهم الإيمان إلا به كقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:184 ـ 185) . فقول الجويني مثلا في الإرشاد (ص 3) : "أول ما
1 البخاري انظر الفتح ج3 ص 261،322،357 ومواضع أخر وانظر مسلم ج1 ص50.
2 البخاري ومسلم انظر الفتح ج3 ص 262 ج12 ص 275 وانظر مسلم ج1 ص 52 ـ 53.
ما يجب على العاقل البالغ، باستكمال سِنّ البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم"، ومثل ذلك قال الرازي (انظر المحصل ص 47) ، وكذلك الايجي في المواقف (ص 32) وغيرهم، وهذا كلامٌ مخالف لكتاب الله تعالى ولما عُلِمَ من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليه أئمة المسلمين، وإذا سُلِّم لهؤلاء، "أنّ أول الواجبات هو النظر، أو المعرفة أو حتى الشهادتين كما هو الصحيح قال ابن المنذر:"أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين خالف دين الإسلام، وهو بالغ صحيح العقل أنه مسلم، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتداً، يجب عليه ما يجب على المرتد". (الأوسط: ص 735) فكيف يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ وقد فعله قبل ذلك، وخصوصاً إذا كان النظر مستلزماً للشك المنافي لما حصل له من المعرِفة والإيمان، فيكون التقدير أن يقال:"أُكْفُرْ ثم آمن، واجْهَلْ ثم اعْرِفْ "، وهذا كما أنه محرَّم شرعاً، فهو ممتنع في العقل، فإن تكليف العالم الجهل من باب تكليف مالا يقدر عليه، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً.
كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه، فمن كان الله قد أنعم عليه بالإيمان وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه كيف يؤمر بما يناقض إيمانه ومعرفته.
والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ.
والشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله، لكن مجرد معرفة الله تعالى لا يصير بها الإنسان مؤمناً وإن كان يعلم أنه رب كل شيء فلابد للإيمان من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله تعَالى. قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) . فالعبادة هي الغاية المقصودة من الخلق التي أرادها الله منهم بأمره وشرعه، وبها يحصل محبوبه تعالى، وتحصل سعادتهم ونجاتهم، وهذا لا يخالف كون كثير منهم لم يعبده؛ لأن الله تعالى لم يجعلهم عابدين له، لما في ذلك من تفويت محبوبات له أخرى، هي أحب إليه من عبادة أولئك، وحصول مفاسد أخرى هي أبغض من معصيتهم كما قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 119) . فهو تعالى أراد بخلقهم ما هم صائرون إليه من الرحمة، والاختلاف إرادة كونية قدرية، ففي قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} . ذكر الغاية
لتي أمروا بها، وفى قوله تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ذكر الغاية التي يصيرون إليها، وكلاهما مرادة له تعالى تلك مرادة بأمره وشرعه، والموجود منها مراد بخلقه وأمره، والأخرى مرادة بخلقه، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره، وهذا معنى ما يروى عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى:{إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، قال معناه:"إلا لآمرهم أن يعبدون، وأدعوهم إلى عبادتي"، وقاله مجاهد أيضا.
وقال ابن عباس: {إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} : "ليقرُّوا لي بالعبودية طوعاً وكرهاً".
وقال السدي: "خلقهم للعبادة، فمن العبادة عبادة تنفع، ومنها عبادة لا تنفع كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَضَ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ} (لقمان: 25) ، فهذا منهم عبادة ولكنها لا تنفعهم"، وقال الكلبي:"إلا ليوحدوني، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} "(العنكبوت: 65)1.
وهذه الأقوال تُبيِّن أنّ جميع الإنس والجن مقرُّون بالخالق معترفون به، خاضعون لعبوديته طوعاً وكرهاً، وهذا يقتضي أنّ هذه المعرفة من لوازم نشأتهم لا ينفك عنها أحد منهم، وبه يعلم أن أصل الإقرار بالله تعالى، والاعتراف به ربّاً مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أن الإقرار بالرب تعالى أنه يحصل بسبب يعرض للإنسان في حياته فهو في الحقيقة يظهر بذلك ويبرز، وهذا والله أعلم هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172- 173) . وشهادة المرأ على نفسه في القرآن يراد بها إقراره، فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْر} (التوبة: 17) ؛ لأنهم كانوا مُقرِّين بما هو كفر، فصار ذلك شهادة منهم على أنفسهم، وقال تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} (الأنعام: 130) ، فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم على أنفسهم.
1 أنظر تفسير ابن كثير ج 7 401 -452. ط. الشعب.