الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولهم: {بَلَى شَهِدْنَا} أي أنهم أقرُّوا بأن الله ربهم، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه. وقوله:{وَأَشْهَدَهُمْ} يدل على أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من ظهور آبائهم، وهو أخذ المني من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات فالمعنى: أُذْكُرْ حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مُقرِّين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم، فالأخذ يتضمن خلقهم، والإشهاد يتضمن هداه إلى الإقرار بأنه ربهم.
ولهذا صار الإقرار بوجود الله تعالى مما لا يحتاج إلى برهان؛ فإن الفطر الإنسانية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالقٍ حكيمٍ، قادرٍ عليمٍ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ: اللَّهُ} (الزخرف: 87) .
ومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء فإنه يلوذ بها في حال الضراء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 67) . ولهذا لم يأت الأمر التكليفي بوجوب معرفة وجود الله تعالى خلافاً لما يقوله أهل الكلام ومن سلك طريقهم، وإنما جاء الأمر بوجوب عبادته وتوحيده ونفي الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم:"أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله". وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} . (محمد: 19) . وهذا هو محل النزاع بين الرسل وأممهم كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} . (النحل: 36) .
وهذا هو التوحيد الواجب على كل الخلق، وهو مبنيٌّ على أن الله واحد في إلهيته لا ندَّ له، وواحد في ذاته وصفاته وأسمائه لا نظير له، وواحد في ملكه وأفعاله لا شريك معه، فلابد أن يعبد الله وحده لا يشرك معه غيره، والشرك في العبادة: هو أن يجعل معه إِلهٌ آخر يتوجه إليه بنوع من أنواع العبادة، وهذه أقسام التوحيد الثلاثة، توحيد العبادة، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا هو الدين الذي جاءت به الرسل من عند الله موجبين على الخلق أخذَهُ والإيمانَ به، وهو إخلاص التأله والتوجه إلى الله وحده، وعبادته بأسمائه وصفاته، وفعل أمره، واجَتناب نهيه.
ثمرة التوحيد
والتوحيد الخالص هو الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلِّصُها من رقِّ الاغيار ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين كما يسمون، وشيوخ الطرق الباطلة والدجل، والضلال
والتعلقات بالأحياء والأموات، ويخلصها كذلك من إله المادة والتعلق بالطواغيت الماديين وكل مخلوق، فيطلق عزائمهم من قيود العبودية لغير الله والتعلقات بالأحياء والأموات، فيكون المؤمن مع الناس حراً عزيزاً كريماً، ومع الله عبداً خاضعاً ذليلاً خائفاً، فهذا الذي يجب على العبد أن يعتني به أشد الاعتناء، ويحذر أشد الحذر أن ينحرف عنه؛ لأن الانحراف عنه هو الهلاك المحتّم والخسران الأكبر والخلود في جهنم، مع أن أقسام التوحيد الثلاثة متلازمة ولكن توحيد الربوبية أمر فطري خلقي:"والرب: هو المربي الخالق الرازق الناصر الهادي"1.
"فالرّب هو الذي يُرَبِّي عبده فيعطيه خلقه الذي تتم حياته به، ثم يهديه إلى جميع مصالحه"2. فتوحيد الربوبية: هو العلم بأن الله تعالى هو مالك الأشياء كلها، ومصرِّفُها على ما يريد، فالأمر كله راجع إليه تعالى، من خلق السماوات وما فيهن، وتصريف شأنها، وخلق الأرض ومَنْ عليها، وما فيها من معادن، وأسرار، وخلق الرياح وتصريفها، والسحب وتسخيرها تحمل الماء إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن، فينزله، وبه تحي الأرض الميتة وإيجاد الأرزاق للحيوانات والدواب والأناسي، والإحياء والإماتة، وتنظيم أمور الكون كله من بداية وجوده إلى نهايته، وإلى ما شاء الله تعالى، فالجميع ملك الله تعالى وتحت قهره وتصرفه، حسب إرادته جل وعلا، وهذا يُقرُّ به كل المكلفين من مؤمن وكافر إلا من عاند وكابر منهم، والمعاند لا تجدي فيه الأدلة، ولا تزيده المجادلة إلا تماديا في ضلاله، وإنما خلق له الحديد الذي فيه البأس الشديد، قال الله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) ، فبيَّن الله تعالى أنّ الكفار يعلمون أنّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وقال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَاّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} (النمل: 80- 81) . وأشهر من عرف في الماضي في تجاهله وإنكاره لله تعالى هو فرعون، وكان مستقيناً في قلبه وجود الله تعالى، وأنه مالك كل شيء كما قال تعالى عن موسى أنه قال له:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الأسراء: 102)، وقال تعالى مخبرا عنه وعن قومه:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} (النمل: 14)، ولهذا قال منكراً على موسى:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: 23)، فقال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ
1 مجموع الفتاوى ج 14 ص 13.
2 المصدر نفسه.
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (الشعراء: 24- 28) . وما زعمه بعضهم أن قول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} استفهام استعلام، وسؤال عن الماهية، وأن موسى عجز عن الجواب؛ لأن الله تعالى لا ماهية له، هو زعم باطل، بل الاستفهام للإنكار كما دلت عليه الآيات الأخر:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، وقوله:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} . وكل من أنكر وجود الله تعالى فلا يخلو من العناد والكبر.
أما غير المعاند فإنه يعترف بأن الله لا منازع له في الملك والإيجاد والقهر والتدبير ولا مشارك له فيه ولا معين، كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 22- 23) .
والله عز وجل فطر جميع خلقه على معرفة هذا النوع من التوحيد، فلذلك يلجئون إليه عند النوائب، ويفزعون إلى الله كُلَّما ألجأتهم الأزمات، وألمت بهم الكربات، وأصابتهم النكبات، فيخلصون له العبادة عند ذلك، كما لجأ إليه كبراء الملاحدة وقت الشدة مثل فرعون وذويه، فقد أخبر الله تعالى أنهم أنكروا وجود الله تعالى وقت المجادلة لموسى عليه السلام عند العافية، فلما أدركهم الغرق ذهب عنادهم، واعترفوا بالحق الذي كانوا ينكرونه عناداً وتكبراً، قال الله تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيل} (يونس: 90) .
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 40- 41) . وهذا صريح في أنهم يعلمون أن الله هو المالك لكل شيء المتصرف فيه بما شاء، ولهذا صار الإقرار بهذا النوع من التوحيد لا ينفع ولا ينجي من العذاب حتى ينضاف إليه توحيد القصد والنية والإرادة والتوجه، والمقر بتوحيد التصرف والملك لا يصير به مسلماً كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله تعالى، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87) . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأََمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) .
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (العنكبوت: 63) . وآيات القرآن في هذا كثيرة، وهي تدل على أن الكفار يؤمنون بهذا القسم من التوحيد ولم يجعلهم ذلك مسلمين، بل فوق هذا كانوا يخلصون الدعاء لله- الذي هو توحيد العبادة - في حالة الاضطرار، ثم يعودون إلى شركهم في الرخاء، كما قال الله تعالى عنهم:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) . ومعنى قوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أنهم توجهوا إلى الله وحده بالعبادة، من الدعاء، والذل، والخضوع، والرغبة والخوف، والالتجاء، لعلمهم أن شركاءهم لا يملكون لهم نفعا، ولا يستطيعون دفعاً عنهم، وإنما الأمر كله بيد الله تعالى وحده والذي صيرهم مشركين وأوجب خلودهم في النار هم زعمهم أن أصنامهم ومن يتوجهون إليهم يشفعون لهم عند الله كما قال الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 28) ، والمعنى أن الله لا يعلم أحدا يشفع عنده لهؤلاء لا من أهل السماء ولا من أهل الأرض؛ لأن الشفاعة لله وحده، ولا أحد يستطيع أن يشفع عنده حتى يأمره بذلك ويأذن له فيمن يشفع فيه، وإذا كان الله تعالى لا يعلم شافعا لهم لا في السماوات ولا في الأرض فالشافع لا وجود له.
روى الحاكم والدارقطني وابن مردويه: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة فرَّ عكرمة بن أبي جهل فركب البحر، فأصابهم عاصف، فقال أصحاب السفينة:"أخلِصُوا فإنّ آلهتكم لا تغني عنكم هاهنا شيئاً"، فقال عكرمة:"والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره، اللهم إنّ لك عليّ عهداً إن عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلا أجدنّهُ إلا عفوا كريماً"، قال:"فنجا فأسلم"1.
قال قتادة: "الخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك "2.
المشركون اليوم أعظم شركاً ممن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا يتبيَّن سفاهة عقول مشركي هذا الزمان، وعظم شركهم، وأنه لم يصل إليه شرك السابقين. فمشركوا وقتنا هذا يُخلصون الدعاء وتزداد إنابتهم، ويتضاعف ذلّهم وخضوعهم لمن يعبدونه من دون الله تعالى ممن يدَّعون لهم بالولاية، عندما يقعون في الشدائد،
1 الإصابة ج هـ ص 539 وانظر البداية والنهاية ج 4 ص 298.
2انظر تفسير الطبري ج 13 ص 78.
والكربات، ويشركونهم مع الله تعالى حتى في الربوبية، ويجعلون لهم التصرف، والهداية وجلب النفع، ودفع الضر بخلاف مشركي العرب زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فما كان أحد منهم يدّعي ذلك لآلهته وإنما كانوا يقولون: إنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه تعالى، كما قال تعالى عنهم:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) ، ومع ذلك لم يكن شركهم مستمراً في كل وقت كهؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم مسلمون، بل في وقت الشدائد يخلصون العبادة لله تعالى كما سبق بعض الأدلة على ذلك.
ومن سفاهة هؤلاء أنهم جعلوا الشرك الذي هو أعظم الذنوب أفضل أعمالهم، ورموا من أنكر عليهم ذلك بالجفاء، وتنقص الأنبياء والأولياء، وبأنهم خوارج يكفرون المسلمين. وذلك لأنهم جهلوا معنى العبادة، ومعنى الإله، فظنوا أن معنى الإله: الرب الخالق المحيي الميت، القادر على كل شيء، وظنوا أن الدعَاء والاستغاثة ليست عبَادة، وسموا ذلك توسلا وتعلقا؛ لأن القرآن صرح أن عبادة غير الله كفر، واستبعدوا أن تكون هذه الأعمال التي أدركوا عليها آباءهم وقومهم شرك من أعمال المشركين، فسموا العبادة بغير اسمها لجهلهم دين الإسلام ولغته.
وجهلوا الشرك، فظنوا أنه السجود للصنم، والصلاة له، واعتقاد أنه تدبير الأمور مع الله والتصرف في الكون، واعتقدوا أن المشركين السابقين يعتقدون في آلهتهم هذا المعنى، فحملوا آيات القرآن في الشرك على هذا المعنى.
قال صاحب فرقان القرآن في (ص: 111) في تعريفه العبادة: "الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً باعتقاد ربوبية المخضوع له أو قالباً مع ذلك الاعتقاد، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعا في كثير ولا قليل، مهما كان المأتى به ولو سجودا".
وقال في (ص: 87) : "توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان عرفاً وشرعاً، فالقول بأحدهما قوْلٌ بالآخر، والإشراك في أحدهما إشراك في الآخر، فمن اعتقد أنه لا رب ولا خالق إلا الله لم ير مستحقا للعبادة إلا هو، ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره فذلك بناء منه على أنه لا رب إلا هو، ومن أشرك مع الله غيره في العبادة كان لا محالة قائلا بربوبية هذا الغير هذا مالا يعرف الناس سواه "
…
ونقل محمود حسن عن هذا الرجل أنه قال في مؤلف له آخر: "إن من ود الرب تعالى إنزال الغوث والرحمة على من يذكر أحباءه ويناديهم ويستغيث بهم ولو كانوا غائبين أو متوفين". (ص هـ 6) : كشف الشبهات.
وقال محمود حسن ربيع في كتابه كشف الشبهات أيضا: "إن استعانتك بالأولياء الذين تعتقد أن لهم حياة وتصرفا بأقدار الله ليس شركاً، وأن الشرك لو اعتقدت فيهم ربوبيةً"(ص 57) . وقال في (ص 58) : "فمن اتخذ من الأنبياء والأولياء وسيلة إلى الله لجلب نفع أو دفع ضر من الله فهو سائل الله"
…
"ومن قال: يا رسول الله أريد أن تردّ عليَّ عيني، أو ترفع عنا الجدب، أو يزول عنا المرض، وهو من المؤمنين كان ذلك دليلاً على أنه يطلب من الله".
فهذه التعريفات للعبادة والشرك أخذت من الواقع الذي عاش فيه هؤلاء وأحزابهم لا من الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد هؤلاء أن يكون الواقع الذي هم عليه متفقاً مع دين الإسلام، فجمعوا بين المتضادات، وقلبوا الحقائق، فجعلوا الشرك توحيداً، والتوحيد ضلالاً، وسلوكاً لطريق الخوارج الذين يكفرون المسلمين، واستبعدوا أن تكون هذه الأوضاع المنتشرة في سائر أنحاء البلاد الإسلامية هي التي كان يفعلها المشركون السابقون مع معبوداتهم، لذلك حاولوا تبرير أفعاَلهم وجعلها على نهج الإسلام بأحاديث ملّفقة أو موضوعة مكذوبة أو حكايات لا قيمة لها في الشرع الإسلامي، وأقل ما يقال في تلك الأحاديث أنها ضعيفة لا يجوز أن يعتمد عليها في فرع من فروع الشرع، فكيف في أصل الأصول- العبادة - التي خلق الجن والإنس من أجلها، وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لإقامتها وإخلاصها لله.
إن دعاة الوثنية لا يفتئون يؤلّفون الكتب، ويزوّقون الكلام بتحسين الشرك والثناء على أهله، وتقبيح التوحيد، وعيب أهله ودعاته، ورميهم بالعظائم اتباعاً لأهوائهم وأغراضهم الدنيوية، فهم يجهدون في تحريف أدلة الكتاب والسنة حتى تتفق مع ما يقولونه أو يفعلونه، أو يفعله معظموهم من الرعاع أتباع كل ناعق، ولهذا قال هؤلاء:"العبادة هي الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلبا وقالبا باعتقاد ربوبية المخضوع له، فإن انتفى ذلك الاعتقاد - يعنى اعتقاد الربوبية - لم يكن المأتى به من العبادة في كثير ولا قليل ولو كان سجود".
فهل يصدق العاقل أن المشركين في عهد النبوة الذين نزل فيهم القرآن- وهم أكمل عقولا من هؤلاء - يعتقدون أن الأحجار هي ربهم الذي يحييهم ويميتهم، وينزل عليهم المطر وينبت الزرع والكلأ، وما يقتاتونه هم وأنعامهم. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً
وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون أن الله تعالى هو الفاعل لما
ذكر في الآية من خلقهم وخلق من قبلهم، وخلق الأرض وجعلها فراشا لهم يفترشونها وينتفعون بها بما شاؤوا وخلق السماء وبناها وأنزل من السماء ماء فأنبت به الثمرات والأرزاق لكم ولأنعامكم فكيف تعبدون معه غيره مع علمكم أنه لا مشارك له في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وتصريف أمور الكون.
"وحال مشركي العرب مع أوثانهم معلومة، وأنهم إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها، والاستغاثة بها، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها، فالتبرك بالصالحين وبقبورهم هو عين فعل المشركين باللات والعزى ومناة وسائر أوثانهم"1.
وهو العبادة التي أوجبت لهم الخلود في النار، وحرّمت عليهم الجنة، وأخبر الله تعالى أنه لا يغفر ذلك إلا بالتوبة منه وفعل التوحيد الذي هو ضده.
وتسمية هذه الأفعال تبركا، أو توسلا أو غير ذلك لا يغير من الحقائق شيئا، فالشرك: هو الاتجاه بالعبادة إلى غير الله مهما سمّي ذلك، (وهو نوعان: شرك في الربوبية وشرك في الإلهية) .
فالأول: إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى كمن يجعل الإنسان مستقلاً بأحداث فعله مهما كانت مرتبته نبياً فما دونه، وكذا من يجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية، أو العقول كما تقوله الفلاسفة، أو النفوس كما يقوله عُبّاد القبور، أو الملائكة أو غير ذلك من المخلوقات، من جعل شيئاً من ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث فهو مشرك في الربوبية.
"وكل ما سوى الخالق الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره، فلا يتم به حدوث حادث، ولا وجود ممكن، وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا النوع، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شئ وربه ومليكه، وإنما كان من الشرك في العبادة".
والنوع الثاني من الشرك: الشرك في الإلهية: وهو أن يجعل مع الله أحداً من خلقه يتوجه إليه في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته أو أي نوع من أنواع العبادة، وضد هذا الشرك التوحيد في الإلهية: وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فإن المشركين المقرين بأن الله رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع، ويستدفعون بها
1 الضياء الشارق ص 183.
المضار، ويتخذونها وسائل تقرّبهم إلى الله زلفى، وشفعاء يستشفعون بها إليه، وهذه الآلهة خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه، فكل ما يطلب منهم لا يحصل منه شئ إلا بإذن الله تعالى، وهو عز وجل لم يأمر بعبادة غيره، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل تقرب إليه، قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45)، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25)، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . (يونس: 18) .
(والمعنى أن الله تعالى لا يعلم أن أحدا يشفع عنده لهؤلاء لا في السماوات ولا في الأرض فلا وجود لذلك
…
)
فبين الله تعالى في هذه الآيات وغيرها أنه لم يشرع عبادة غيره، ولا أذن في ذلك، بل أخبر أنه لو كان في السماوات أو الأرض آلهة إلا الله لفسدتا، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربّاً فاعلاً منصرفا، يمتنع أن يكون إلها معبودا) 1.
"والإنسان بل وجميع الكائنات عباد الله تعالى، فقراء إليه مماليك له، وهو ربهم المتصرف فيهم، وهو إلههم لا إله إلا هو، فالمخلوق ليس له من نفسه شئ أصلاً، بل نفسه وصفاته وأفعاله، وما ينتفع به أو يستحقه إنما هو من خلق الله تعالى. هو الذي أوجده ومَنَّ به، وفقر المخلوق وعبوديته أمر لازم له، لا ينفك عنه بحال، ولا وجود له بدونه، والحاجة ضرورية لكل المخلوقات؛ لأنها ملك لخالقها وموجدها إذ لا قيام لها بدونه، ولكن الناس أو أكثرهم تعزب قلوبهم عن شهود هذه الحاجة الملِّحة وهذا الفقر الاضطراري"2. وتشهد توحيد الربوبية العام، الذي تشترك في شهوده سائر المخلوقات، وهو أنه لا خالق إلا الله تعالى، فلا يستقل شئ سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فكل ما سواه إذا كان سبباً فلابد له من شريك معاون، وضد معوق، فإذا طلب العبد من غير الله إحداث أمر من الأمور، فقد طلب منه ما لا يستقل به، ولا يقدر عليه وحده، حتى أفعال العبد الاختيارية لا يستطيع فعلها إلا بإعانة الله له عليها بأن يجعله فاعلا بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة، والقدرة على ذلك الفعل.
1 درأ تعارض العقل ج 7 ص ا 39 بتصرف.
2 انظر مجموع الفتاوى ج 14 ص ا 3.
فمشيئة الله وحده هي المستلزمة لكل ما يريد، فما شاء كان، وما لم يشاء لم يكن وما سواه لا تستلزم إرادته شيئاَ، بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره، إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده، ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
وبهذا يتبين أن السائل للمخلوق يسأله ما لا يستقل بملكه، هذا إذا كان المسؤول بمقدوره ظاهراً، فكيف إذا سأله مالا يقدر عليه أصلا مثل الشفاعة عند الله؛ لأنها لا تكون إلا بإذنه، ومثل هداية القلوب، وشفاء الأمراض ونحو ذلك.
والراجي لمخلوق، طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق، والمطلوب منه عاجز عن المطلوب، ولهذا صار ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
ومن نعم الله على عبده أن يمنع مطلوبه بالشرك، ليصرف قلبه إلى توحيد الله تعالى فإن وحَدّه توحيد الألهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان ممن قال الله فيهم:{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (يونس: 22) كان ما حصل له من توحيد حجة عليه، كما احتج سبحانه على أمثاله من المشركين، الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون غيره معه في العبادة، ولا يخلصونها له، قال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1 (المؤمنون: 83-89) . وهذا كثير في القرآن، وهو يدل على ما تقدم من أن الإقرار بتوحيد الربوبية وبوجود الله تعالى أمر فِطريٌ مسلَّمٌ به عند جميع الخلق، إلا من أخذته العزة بالإثم فكابر عقله، وخالف فطرته، وعاند الحق، ولهذا لم تكن رسالة الرسل في دعوة الناس إلى الإيمان بوجود الله تعالى والإقرار بربوبيته، إذ كان هذا مستقراً في القلوب.
ولذلك جعل الله تعالى هذا دليلاً وحجة على وجوب التزام القسم الثاني من التوحيد، الذي هو توحيد العبادة.
1 انظر مجموع الفتاوى ج10 ص 331.
فالإقرار بالخالق، وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته من الانحراف، ومع ذلك فقد قامت عليه الأدلة الكثيرة؛ لأنه قد يحتاج إليها كثير من الناس لفساد فطرهم وتغيُّرها ولأحوال تعرض لهم، وإن كانت مسألة الإقرار بوجود الله - كما قلنا - ليست من المسائل التي تحتاج إلى برهان، "فإن الفطر الإنساَنية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالق حكيم، قادر عليم". {أَفِي اللَّهِ شَك} ، {ولئن وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . وومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء، فإنه يلوذ إليها في حال الضراء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} .
فالأدلة على الله تعالى كثيرة: منها ما شهدت به الفطر السليمة من احتياج المخلوق إلى مدبر هو منتهى طلبه، يرغب إليه، ولا يرغب عنه، ويستغني به، ولا يستغني عنه، ويفزع إليه في الشدائد، واحتياج الإنسان في نفسه أوضح من احتياجِ الممكن الخارجي إلى موجد، والحادث إلى محدث، ولهذا ذكر الله تعالى هذا المعنى مُحتجاً به على وجوب عبادته كما قال تعالى:{أمَّن يجيب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} . (النمل: 62) . ومن رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف احتياجه إلى ربه في تكوينه، وبقائه، وتقلبه في أحواله. وكذلك النظر في آيات الآفاق والملكوت تدل دلالة واضحة على الله تعالى، ولكن المعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حالة الاختيار1.
وكذلك النظر في مخلوقات الله تعالى، وما فيها من العجائب، وإتقان الصنعة، وباهر الحكمة، وتقلّب الليل والنهار، ودوران الشمس والقمر والنجوم، وما يتجدد في طلوعها وغروبها، ودوران الأفلاك، وهبوب الرياح، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء إلى حيث يشاء الله، وعوالم المخلوقات مما يطول وصفه.
ومن ذلك خلق الإنسان من نطفة مستوية الأجزاء، متنقلة الأطوار، من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ثم خلق منها لحما وعظاما وعصبا، وبصرا وعقلا وإدراكا، وما يشم، وما يطعم، وما يمشي على بطنه، وما يمشي على أربع، وما يمشى على رجلين، وذكر وأنثى، وهل يمكن أن يكون المداد بنفسه كتاباً معرباً مرتب المعاني والمواضيع، منسق الكتابة والحروف بطبيعة المداد من غير كاتب عالم، {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}
…
الآيات.
1 انظر نهاية الإقدام ص 124.
ومن ذلك المعجزات التي جاءت بها الأنبياء وهي من أوضح الدلائل على الله تعالى مثل إحياء الموتى، وجعل العصا التي هي عود يابس مقطوع من شجرة حية تلتهم ما أمامها، وفلق البحر بضربه بالعصا، وقلب طبيعة النار ومنعها من الإحراق، وإنباع الماء من أصباع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتوضأ منه الجمع الكثير، وتكثير الطعام القليل حتى يتزوَّد منه الجيش بأكمله، وغير ذلك كثير جدا.
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل، وهما متلازمان، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطريق السمعي وهو صدق الرسل، ومن سلك الطريق السمعي بين الأدلة العقلية، كما بين ذلك القرآن.
وكان الشقي المعذَّب من لم يسلك لا هذا ولا هذا كما قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:10)، وقال الله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) .
والإلحاد يعرض لكثير من الناس، ويتبناه بعضهم إما ظاهراً دون باطن كحال فرعون ونحوه من المجرمين، وإما باطناً وظاهراً كحال ملاحدة اليوم.
والإلحاد لا يمنع أن تكون معرفة الله مستقرة في الفطرة، ثابتة بالضرورة؛ لأن إنكار وجود الله تعالى حال تعرض لكثير من الناس عمداً أو خطأ واغترارا، مع أن كثيراً من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية، والمعارف الفطرية، من الحسيات والحسابيات، والإلهيات، ومن تأمل ما يذكره أصحاب المقالات في العلوم المختلفة رأى عجائب وغرائب، فمن الطرائف في هذا ما ذكر أن رجلاً صنّف كتاباً في نفي العلوم فمات له ولد قد قارب الحلم فقال: أسفت لموت ولدي قبل أن يقرأ كتابي، فقيل له: وما يدريك أنه كان لك ولد، وأنه مات، وأنه لم يقرأ كتابك، وما يدريك أنك موجود وأنك صنفت كتاباً فلم يدر ما يقول.
وبنو آدم لا ينضبط ما يخطر لهم من الآراء والإرادات، فإنهم جنس عظيم التفاوت، فليس في المخلوقات أعظم تفاوتاً وتفاضلاً منهم، فخيارهم خير المخلوقات أومن خيرهم، وشرارهم أشر المخلوقات كما قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
ولكن الحق عزيز، ومع عزَّته كلٌّ يدَّعيه، ودعواهم الحق تحجبهم عن مراجعة الحق،
إنّ على الباطل ظلمة، وإن الحق نور، ولا يبصر نور الحق إلا من حشى قلبه بالنور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
القسم الثاني من التوحيد: توحيد الأسماء الصفات، وهذا القسم شبيه بالذي قبله - توحيد الربوبية - من حيث ثبوته في الفطر، وكثرة الأدلة عليه، كثرة عظيمة، وكون الأمم السالفة لم تنكره إلا من شذ وندر، وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في كثير من آيات الأحكام، ولم يختلفوا في شيء من آيات الصفات وأخبارها، بل اتفقوا على إقرارها على ظاهرها مع فهمهم معانيها، واثبات حقائقها، وذلك لأنها أعظم عناية، وأوضح بيانا من آيات الأحكام، ومن يقرأ كتاب الله تعالى، ويستعرض سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرى مدى العناية بهذا القسم، وإثباته بطرق مختلفة، وكثرة النصوص فيه فما سر ذلك؟ وما مغزاه؟ ذلك لأنه منبع الإيمان والمعرفة بالله على بصيرة وهدى، وهو مصدر التوحيد الكامل، فأكمل الناس توحيداً أَعلمهم بهذا القسم، أبصرهم بمعانيه وفقهه، والفقه فيه هو الفقه الأكبر.
إن معرفة الله تعالى على التفصيل لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق الوحي الذي جعله الله لعباده روحاً ونوراً وهدى، والله تعالى أعلم بنفسه وبغيره من خلقه، ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله، وما يجب له، وما يمتنع عليه، وما ينزّه منه، وما وصف الله به نفسه وجب قبوله والإيمان به وأنه الحق، وكذا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الخلق وأقدرهم على البيان، وَأنصح الخلق لأمته، وقد بين للناس ما نُزِّل إليه من ربه، وأعظم ذلك معرفة الله تعالى التي هي بها هداية القلوب، فقد بين خياله أوصاف الله تعالى التي تعرّف بها إلى عباده، وأمرهم بدعوته بها، إذ هي الطريق إلى معرفة الله تعالى وعبادته.
فكل اسم من أسمائه الحسنى له تعبّد يختص به علماً وحالاً، وأكمل الناس عبودية لله المتعبِّدُ بجميع الأسماء الحسنى والصفات العليا التي يعرفها الخلق، فلا تمنعه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، وهو جل وعلا يحب مقتضى أسمائه وصفاته، فلمحبته التوبة والمغفرة والعفو خلق من يتوب عليه، ويغفر له، ويعفو عنه كما جاء في الحديث:" لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم"2.
وإذا كان الإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته فرض على العبد؛ لأنه داخل في الإيمان بالله تعالى، ومعلوم عجز العقول عن الوصول إلى معرفة ذلك بدون هداية الوحي لأنّ ذلك
1 نظر صوت المنطق ص 198 ج 1.
2 درأ تعارض العقل ج 7 ص ا 39.
من الغيب، فلابد أن تعتصم من الزلل والاضطراب بعاصم وليس ذلك إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك فقط تحديد المسلك الصحيح الذي يهتدي المرء بارتياده، كما فيه أيضا التحذير من السبل الأخرى التي إذا سلكها الإنسان وترك فيها وشأنه لا يمكن أن يجني إلا الحيرة والاضطراب، كما وقع لكثير من أذكيَاء علماء الكلام الذين فتحوا المجال لعقولهم تجول في كل طريق، وفى النهاية أصبح أحدهم يتمنى أن يموت على عقيدة العجائز.
إن الكون مفتوح أمام العقل فعليه أن يعبر وينظر ما يريد، أما أن يحاول ارتياد الغيب بلا عاصم وبدون دليل من الوحي الإلهي، فمن الحق أن يقال له حينئذ "ليس هذا بعشِّك فادرجي"، ولكن عليه أن يقبل من الغيوب ما جاء به الكتاب والسنة، ومن ذلك ما وصف الله تعالى به نفسه أو وصفه الرسول به بدون تأويل أو تبديل بل يؤخذ على ظاهره، وذلك أن الوحي أنزل للهدى والبيان، وهو كما قال الله تعالى:{نور} و {رحمة} و {بصائر للناس} . فمن غير المعقول أن الله تعالى يصف القرآن بأنه هدىً للناس، ونور، وبيان، ورحمة ثم يخاطب الخلق فيه بألفاظ لا يقصد منها ما تدل عليه ظاهراً، بل يكون ظاهرها التشبيه والكفر، كما أنه محالا أن تكون آياته رموزاً وألغازاً أشير بها إلى معان باطنة لا تفهم إلا بصعوبة بالغة، ولا يصل إليها إلا النادر من الأذكياء كما يقوله الذين لم يؤمنوا بالله ورسله، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67)، وقال تعالى:{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (سورة ص: 75)، وقال تعالى:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: 158) .
فهذا التقسيم والتنويع يُبْطِلُ تأويل إتيان الرب تعالى بإتيانه أمره أو الملائكة كما يقوله أهل التحريف، ومثل هذه الآية قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} ، وقال تعالى:{قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: 46) .
والآيات في ذكر أوصاف الله تعالى كثيرة جداً، والإيمان بها على ظاهرها من غير تحريف لها ولا تأويل، ولا تشبيه ولا تمثيل هو سبيل المؤمنين- صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان - وقد قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . فمن سبيلهم الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمَّى بها نفسه في كتابه، أو على لسَان رسوله، من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها، ولا تأويل لها بما
يخالف ظاهرها، ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين؛ لأنهم تيقنوا أن المتكلم بها صادق، وأراد منهم اعتقاد معانيها فصدَّقوه، وسكتوا عما لم يعلموه من حقيقة معناها، وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصَّى بعضهم بعضاً بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذَّروا من التجاوز لمذهبهم، والعدول عن طريقتهم.
وبرهان ذلك أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأوَّلوا، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئاً من ذلك لنقل عنهم، ولا يجوز أن يكتم بالكلية إذ لا يجوز التواطؤ على الكتمان لما يحتاج نقله ومعرفته.
"للبحث صلة"