الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أ)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
عاشت صورة هذا الكتاب في عقلي ووجداني زمنا طويلا، وكانت هناك مجموعة أسباب تعاونت جميعًا على هذه المعايشة الطويلة، ثم دفعتْ أخيرا إلى تنفيذه بعد أن هيّأتُ نفسي لأهلية تأليفه، ورسمت خطته التي التزمتها في كل أبوابه وأفكاره، وهذه المقدمة ينبغي أن توضح للقارئ -بإيجاز- الجانبين السابقين من دوافع التأليف والنهج الذي التزمته في تنفيذ هذا المؤلف.
من هذه الأسباب أن طول الصحبة لكتب مسائل النحو القديمة -مطولة ومختصرة، نثرا ونظما- تؤكد لدى كل منصف أن هذه الكتب صعبة الفهم على الشّادين في النحو، بل إن بعضها يتعذر استيعابه على الدارسين المتخصصين أنفسهم، وذلك لامتلائها بالحشو والفضول، أو كما يقول ابن مضاء:"بالمماحكات والتخييل" ففيها حشود من المجادلات الذهنية العقيمة وألوان من العلل والعوامل التي يسوغها منطق العقل لا منطق اللغة، يضاف لذلك كله تخريجات مجهدة واستطرادات شتى وفروع من المسائل متفرقة وغير ذلك، مما ينطمس معه وجه النحو الأصيل تحت ركام المزيف الدخيل.
لذلك أحسست -بعد طول الصحبة مع هذه المؤلفات- أن هذا الجهد المشكور للنحاة رحمهم الله بعضه مفيد للغة، وبعضه طفيلي معوق عن الوصول لما هو مفيد، بل إن هذا الأخير هو الغالب على مطولات النحو من مؤلفات المتأخرين، ورأيت أن الواجب بذل جهد مخلص لتخليص المفيد من الطفيلي المعوق والإبقاء على "نحو اللغة" لا "نحو الصنعة".
ومن هذه الأسباب أن تخصصي في الدراسات العليا هيأ لي -بكل ظروفه-
(ب)
أن أعايش القضية السابقة في وجهيها الأصيل والدخيل درسًا وتقويمًا وموازنة وكان مجال ذلك كله "منهج النحو العربي" أو بعبارة أخرى: الأسس التي أحكمته وتحكمت فيه، مما كشف لي بطريقة علمية محددة ما كنت أحس به من قبل غائمًا غير محدد، فتعرفت -على قدر جهدي واجتهادي- على مسار التفكير في النحو، وكيف نما وتعقد ثم كان لي من ذلك كله موقف علمي يستند إلى الدراسات اللغوية الحديثة أعانني على فهمه أستاذي العالم الجليل الدكتور "تمام حسان" ولم يكن قوام هذا الموقف النقد فقط، بل النقد والتصحيح، لم يكن قوامه تشخيص الداء وحده، بل تشخيص الداء والدواء جميعا، هذا مع التعاطف التام مع كل ما في كتاب النحو العربي من أصيل صحيح ورفض ما هو طفيلي مزيف.
صار الإحساس الغائم إذن حقيقة محددة، وأصبحت الشكوى الممرورة منهجًا مدروسًا، وانتهت مرحلة الرفض الانفعالي المهوّش، وبدأت مرحلة الفهم المتزن المدروس، وخرجت من دخان الظنون والتخمين إلى مناخ أقرب ما يكون إلى التحديد واليقين، فازددت اقتناعا بضرورة تصفية النحو من أوشابه وعلاجه من أوصابه والكشف عن وجهه الصحيح المشرق.
وفي أثناء ذلك كنت أعيش التجربة في صورة أخرى غير صورة الكتب القديمة والمنهج، كنت أعيشها مع الدارسين المتخصصين من طلاب اللغة الذين يجأرون بالشكوى كل حين من النحو وصعوباته التي تتمثل في تشتت أفكاره وكزازة عرضه، وتجمد أمثلته، وغرابة شواهده وتهافت الكثير منها، مما يترتب عليه تلقائيا التمزق والتململ والكراهية والشكوى المستمرة، مع أن هؤلاء الحانقين الشاكين هم الذين سيحملون -فيما بعد- أمانة تعليم اللغة للصغار والكبار في العالم العربي ومسئولية الكلمة المكتوبة والمنطوقة في حياتنا الأدبية والعلمية.
وفي هذا التصوير السابق للشكوى والتذمر كثير من الحق مع الأسف!! وهو أحد الأسباب التي دفعتني للخروج من الاقتناع الفكري المجرد إلى التصميم العملي على تأليف هذا المكتوب "النحو المصفى" ملتزما في تأليفه النهج التالي:
(جـ)
1 -
قبل كتابة أي موضوع "كالحال مثلا" أراجع كثيرًا من كتب مسائل النحو القديمة كشروح الألفية ومؤلفات ابن هشام وغيرهما للإحاطة التامة بكل أفكار الباب كما عرضته هذه المصادر الأصيلة.
2 -
أقوم -بعد ذلك- بتصفية ما لا فائدة فيه وما لا ضرر في تركه كالمجادلات الذهنية والاستطرادات الجانبية والتمارين غير العملية والمسائل المقحمة في غير موضعها وفلسفات العوامل والخلاف حولها والعلل والتعلات والتخريجات الظنية وغير ذلك مما لا يفيد نطقًا وأساء إلى كتاب النحو العربي، وعوق فهمه وأطال نصه، ليبقى بعد ذلك جوهر الموضوع وخطه الواضح الأصيل.
ولا حاجة بي إلى القول بأن هذه التصفية تتم في إطار منهج مدروس -وإن كان غير منظور- هو ما أفدته في دراستي العليا للماجستير والدكتوراه، فهي تصفية مضبوطة لا مندفعة، واعية لاعشوائية.
وسيجد القارئ في بعض الأحيان هزًّا لبعض المسائل التقليدية ونقضا لها مع ذكر الرأي فيها بعد عرضها في إيجاز شديد كما قررها النحاة رحمهم الله وهذا عمل متعمد وراءه منهج علمي مدروس، وهو في الوقت نفسه جانب من جوانب التصفية التي استهدفها هذا الكتاب ومؤلفه.
3 -
نظمت الأفكار المصفاة للموضوع -كل موضوع- بطريقة تصل إلى الذهن متكاملة، ومن أقرب طريق، وقدمت هذه الأفكار المنظمة ملخصة في سطور قليلة عند بدايته لتقدم للقارئ بنظرة واحدة سريعة ما هو قادم عليه من دراسة الباب كله.
4 -
عرضت الأفكار -بترتيبها في مقدمة الباب- بأسلوب سهل مساوٍ لا كزازة فيه ولا غموض ولا تزيّد، أسلوب مفهوم معاصر واضح لا يقف أبدًا حاجزا بين القارئ وفهم الأفكار، فلا يضيع منه أيّ جهد في غير الفهم نفسه.
(د)
5 -
استخدمت أمثلة حديثة "بدل زيد وعمرو" تنمي عقل الدارس وتصقل وجدانه وتزيد خبرته، وتقربه من لغة الحياة المعاصرة وما تعبر عنه من ثقافة وتجارب، بالإضافة إلى مهمتها الأساسية في إفهام القواعد دون تكلف أو صنعة وكثيرًا ما بدأت بتلك الأمثلة بين يدي الأفكار، لتكون وسيلة الاستقراء والاستنتاج، للتخفيف من منهج عرض النحو المعياريّ الجاف.
ومع ذلك التزمت -في أثناء عرض الأفكار- ذكر ثروة النحو من الشواهد نثرًا وشعرًا إلا ما تهافت نصه أو أدى إلى مجادلات لا طائل وراءها، وفي بعض الأحيان لا أقتصر على تقديم الشاهد يتيمًا ضائع المعنى، بل أقدمه ضمن مقطوعته التي توضح معناه، وتعطف الدارس إليه.
6 -
وضعت بعد كل قسم مجموعة من النصوص للتدريب، اخترتها من الأدب العربي القديم نثرًا وشعرًا، ووراء هذا الاختيار مضمونها الراقي إنسانيا واجتماعيا ووضعت بعد كل منها أسئلة لم أقدم حلها، وهذه الأسئلة لتطبيق قواعد القسم الذي جاءت بعده على النص، ليكون حلها وسيلة الفهم والمراجعة والتطبيق.
وبعد: فقد يكون الكلام السابق أهون الأشياء إذا مر عليه القارئ مرًّا سريعًا وهو يتجشأ أو يتثاءب، ولكنه -في حقيقة الأمر- أصعب الأشياء إذا ما تصورنا أن خطاه تنقلت عبر أكثر من سبعمائة صفحة هي حجم هذا الكتاب، وأنه جشمني من الجهد والإجهاد ما أهبه خالصا لوجه الله .. والعلم.
وإني لأدعو الله أن ينتفع به القارئ قدر ما تعبت فيه!! وأن يتحقق المرجوّ منه بقدر نبل الهدف من
تأليفه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} .
القاهرة في 20 أغسطس سنة 1971
محمد عيد