المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مسجدهم. وأخذ بعد ذلك يفند أثر الأدب في العلوم اللغوية - النظرات - جـ ١

[المنفلوطي]

الفصل: مسجدهم. وأخذ بعد ذلك يفند أثر الأدب في العلوم اللغوية

مسجدهم. وأخذ بعد ذلك يفند أثر الأدب في العلوم اللغوية والدينية وغيرها بحيث استنفذ من النظرات ما يقرب من أربعين صفحة.

كان ابن ثلاث عشرة سنة حين دخل الأزهر، واتصل وهو فيه بالإمام الشيخ محمد عبده وتتلمذ عليه في سنيه الأخيرة، وتلقى عنه دروسه العلمية والدينية التي كان يلقيها الشيخ على الطلبة، وذكروا عنه أنه كان من أنجب تلاميذه، فأحبه محمد عبده وأصبح المنفلوطي من أخص أصدقائه، وكان الشيخ يجله ويعجب به كثيرا، وحين أخذ بعض علماء الأزهر يقاومون الإمام محمد عبده وطرقه في تعليم الدين، والتفسير انبرى المنفلوطي يدافع عنه وينقذهم وينقذ طرقهم، ولما توفي الشيخ الإمام حزن عليه المنفلوطي حزنا عظيما ورثاه وانقطع عن الأزهر دون أن يحصل على شهادة العالمية منه، وعاد إلى بلده منفلوط فعاش فيها بضع سنين مشتغلا بأعماله الخاصة.

ثم بدأ في سنة 1907 بمراسلة جريدة المؤيد برسائله التي كان ينشرها أسبوعيا تحت عنوان

ص: 3

الأسبوعيات ثم تحت عنوان النظرات، فكانت هذه الرسائل مبدأ شهرته؛ وذلك لجودة إنشائها وبلاغة أسلوبها، واستمر ينشرها نحو عامين.

ومع أن الصحافة هي التي فتحت له أبواب الشهرة، وعرفت القراء بأسلوبه الشيق وأدبه الرفيع، فإنه لم يكن راضيا عنها ولا عن أصحابها. وقد ترك عمله فيها كما سنرى.

وقبل أن يطبع الجزء الثاني من نظراته ورد إليه كتاب من أديب يعمل في دائرة من دوائر الحكومة، ويتناول معاشا لا بأس به، ويذكر له صاحبنا في هذا الكتاب عن نفسه أن رفاقه يقدرون أدبه، وقد أشاروا عليه أن يستقيل ويشتغل بالصحافة، وهو يلتمس منه أن يشير عليه بما يرى. فكان في جوابه إليه ما يدل على نقمته الشديدة على الصحافة -قال:"أيها الرجل لا تفعل! فإنك إن فعلت خسرت ماضيك من حيث لا ينفعك مستقبلك، فاحذر أن يخدعك عنك خادع واربأ بنفسك أن تكون من الجاهلين". وحمل في رسالته إليه التي نشرها في النظرات حملة شديدة

ص: 4

على أرباب الصحف. وأبدى شفقته وعطفه على أولئك المحررين الذي يكتبون في إدراة الجرائد وتنقضي حياتهم في ذل وضرع ونفاق ورياء إرضاء لمديري الصحف وأصحابها، وعاد باللائمة أخيرا على الأمة التي استهانت بالأدباء، ورمتهم مقيدين بين أيدي أصحاب الصحف السياسيين.

وفي سنة 1909 اختارته وزارة المعارف العمومية لوظيفة "محرر عربي" وكان ذلك في عهد وزارة الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول باشا، وكان سعد من أصدقائه والمعجبين به. ثم انتقل بعد ذلك إلى "وزارة الحقانية"

وبعدها إلى الجمعية التشريعية، ثم إلى قلم "السكرتارية" في الديوان الملكي.

وكان في جميع أدوار حياته مثال الجرأة والإخلاص في العمل والصدق والأمانة والخلق العظيم.

وعين أخيرا في إحدى وظائف البرلمان المصري وظل فيها إلى أن استأثر الله به.

ويجب أن نذكر أنه في أول أدوار حياته حين كان يكتب في الصحافة تصدى لنقد بعض رجال السياسة

ص: 5

"وكان مذهبه السياسي سعديا ولازم هذا المذهب في جميع أدوار حياته، ولما نفي سعد باشا كتب عدة مقالات دافع فيها عنه وحلل فيها بطولته وعظمته.

وقد ضمت هذه المقالات إلى الجزء الثالث من كتاب النظرات"1.

ومن مواقفه السياسية المشهورة أنه نقم مرة على الخديوي عباس، فنظم قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

قدوم ولكن لا أقول سعيد

وملك وإن طال المدى سيبيد

ونشرها في جريدة الصاعقة فحجزت نسخ الجريدة، وصورت وحبس واضطهد. وزاد ذلك في شهرته ومقامه. وزعم سليم سركيس أنه تعاظم شوق الناس للاطلاع عليها، ولم يكن سبيل إلى إعادة نشرها فعمد سركيس نفسه إلى الحيلة، وسأل الشيخ عثمان الموصلي أن يشطرها تشطيرا في جريدة المشير جاعلا الأصل بين قوسين وقال: فأدركت غايتي ونجوت من نقمة الحكومة. هذا في الوقت الذي كان شوقي فيه شاعر

1 محي الدين رضا في: كلمات المنفلوطي ص138.

ص: 6

الخديوي يزوره في قصره ويجالسه في حديقة القصر حيث كان للخديوي رغبة فيما يروون في العمل في الحديقة، وكانت بيده مظلة ناولها لشوقي ليستظل بها من أذى الشمس، فقال شوقي.

عباس مولاي أهداني مظلته

يظلل الله عباسا ويرعاه

مالي وللشمس أخشى حر هاجرها

من كان في ظله فالشمس تخشاه

ولكنه كان مقربا للبلاط في آخر حياته في عهد الملك فؤاد حيث عمل كاتبا في قلم السكرتارية في الديوان الملكي كما ذكرنا.

ولم يعش طويلا فقد وافاه أجله رحمه الله يوم الخميس في 12 "حزيران""يونيه" سنة 1924 "10 ذي الحجة 1342" في اليوم نفسه الذي جرت فيه محاولة لاغتيال زعيم الوفد المرحوم سعد زغلول باشا، وجرح فشغل أكثر الناس بتلك الحادثة عن الالتفات إلى مأتمه كما يجب، ويقال أن سعد نفسه لما علم بوفاته جزع عليه جزعا شديدا وبكى. ولم يفت الشاعرين

ص: 7

الكبيرين في مصر شوقي وحافظ حين رثياه في حفلات المآتم التي أقيمت له أن يشيرا إلى هذا التصادف الغريب، فقال شوقي في حفلة نادي الحقوق في حديقة الأزبكية، من قصيدة من أربعين بيتا:

اخترت يوم الهول يوم وداع

ونعاك في عصف الرياح الناعي

هتف النعاة ضحى فأوصد دونهم

جرح الرئيس منافذ الأسماع

من مات في فزع القيامة لم يجد

قدما تشيع أو حفاوة ساع

ما ضر لو صبرت ركابك ساعة

كيف الوقوف إذا أهاب الداعي

خل الجنائز عنك لا تحفل بها

ليس الغرور لميت بمتاع

سر في لواء العبقرية وانتظم

شتى المواكب فيه والاتباع

وقال حافظ:

مت والناس في مصابك في "م"

شغل بجرح الرئيس حامي الحماة

ص: 8

شغلوا عن أديبهم بمنجيهم "م"

فلم يسمعوا نداء النعاة

وافاقوا بعد النجاة فألفوا

منزل الفضل مقفر العرصات

قد بكاك الرئيس وهو جريح

ودموع الرئيس كالرحمات

وانبرى الشعراء من كل الأقطار العربية ينظمون المراثي في تأبينه في العراق والشام ولبنان ومصر، بحيث زادت القصائد التي قيلت في رثائه عن الثلاثين هذا عدا الرسائل والخطب التي قيلت في حفلات التأبين المختلفة في أندية بيروت والشام ومصر وفي المجامع العلمية وغيرها.

أما مؤلفاته فهي كتاب "النظرات" وهو مجموعة رسائل اختارها مما كتبه في جريدة المؤيد، وغيرها من الصحف والمجلات، ومما كتبه من الرسائل ولم ينشر، وما نظمه من المقطعات والقصائد. وهو في ثلاثة أجزاء ظهر الأول منها في طبعته الأولى سنة 1910 وفي مقدمته ترجمة لحياته بقلم حافظ عوض استعنا بها

ص: 9

‌المقدمة:

يسألني كثير من الناس كشأنهم في سؤال الكتاب والشعراء، كيف أكتب رسائلي؟ كأنما يريدون أن يعرفوا الطريق التي أسلكها إليها فيسلكوا معي، وخير لهم ألَّا يفعلوا، فإني لا أحب لهم ولا لأحد من الشادين في الأدب أن يكونوا مقيدين في الكتابة بطريقتي أو طريقة أحد من الكتاب غيري، وليعلموا إن كانوا يعتقدون لي شيئا من الفضل في هذا الأمر أني ما استطعت أن أكتب لهم تلك الرسائل التي يعلمونها بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون لي الفضل فيها إلا لأني استطعت أن أتلفت من قيود التمثل والاحتذاء، وما نفعني في ذلك شيء ما نفعني ضعف ذاكرتي، والتواؤها علي وعجزها عن أن تمسك إلا قليلًا من المقروءات التي كانت تمر بي، فلقد كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثم لا ألبث أن أنساه فلا يبقى منه في ذاكرتي إلا جمال آثاره وروعة حسنه، ورنة الطرب به، وما أذكر أني نظرت في شيء من ذلك لأحشو به حافظتي، أو أستعين به على تهذيب بياني، أو تقويم لساني، أو تكثير مادة علمي باللغة والأدب، بل كل ما كان من

ص: 3

أمري أنني كنت امرأ أحب الجمال وأفتتن به، كلما رأيته في صورة الإنسان، أو مطلع بدر، أو مغرب الشمس، أو هجعة الليل، أو يقظة الفجر، أو قمم الجبال، أو سفوح التلال، أو شواطئ الأنهار، أو أمواج البحار، أو نغمة الغناء، أو رنة الحذاء، أو مجتمع الأطيار، أو منتثر الأزهار، أو رقة الحس، أو عذوبة النفس، أو بيت الشعر، أو قطعة النثر، فكنت أمر بروض البيان مرًّا، فإذا لاحت لي زهرة جميلة بين أزهاره تتألق في غصن زاهر بين أغصانة، وقفت بين يديها وقفة المعجب بها الحاني عليها المستهتر بحسن تكوينها، وإشراق منظرها من حيث لا أريد اقتطافها أو إزعاجها من مكانها، ثم أتركها حيث هي، وقد علقت بنفسي صورتها إلى أخرى غيرها، وهكذا حتى أخرج من ذلك الروض بنفس تطير سرورًا به، وتسيل وجدا عليه، وما هو إلا أن درت ببعض تلك الرياض بعض دورات، ووقفت على أزهارها بعض وقفات، حتى شعرت أن قد بدلت بنفسي نفسا غيرها، وأن بين جنبي حالا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل، فأصبحت أرى الأشياء بعين غير التي كنت أراها بها. وأرى فيها من المعاني الغريبة المؤثرة ما يملأ العين حسنا، والنفس بهجة، فقد كنت أرى الناس فرأيت نفوسهم، وأرى الجمال فرأيت لبه

ص: 4

وجوهره، وأرى الخير فرأيت حسنه، وأرى الشر فرأيت قبحه، وأرى النعماء فرأيت ابتساماتها، وأرى البأساء فرأيت مدامعها، وأرى العيون فرأيت الحر السحر الكامن في محاجرها، وأرى الثغور فرأيت الخمر المترقرقة بين ثناياها، وكنت أرى الشمس فرأيت خيوطها الفضية الهفافة بين السماء والأرض، وأرى القمر فرأيت شعاعه كأنما يهم أن ينبسط حتى يفيض عن جوانبه فيضا، وأرى الفجر فرأيت بياضه وهو يدب في تجاليد1 الظلام دبيب المشيب في تجاليد الشباب، وأرى النجوم فرأيت عيونها الذهبية تطل على الكون من فروج قميص الليل، وأرى الليل فرأيته، وهو يهوي بأجنحته السوداء إلى الأرض هوى الكرى إلى الأجفان، وكنت أسمع خرير المياة فسمعت مناجاتها، وحفيف الأوراق ففهمت نغماتها، وتغريد الأطيار فعرفت لغاتها، فأحببت الأدب حبا جما ملأ ما بين جانحتي، فلم تكن ساعة من الساعات أحب إلي ولا آثر عندي من ساعة أخلو فيها بنفسي، وأمسك علي بابي ثم أسلم نفسي إلى كتابي فيخيل إلي كأني قد انتقلت من هذا العالم الذي أنا فيه إلى عالم آخر من عوالم التاريخ الغابر، فأشاهد بعيني تلك العصور الجميلة عصور العربية الأولى، وأرى العرب

1 التجاليد الجسم.

ص: 5

في جاهليتها بين خيامها وأخبيتها، وأطنابها وأعوادها، وإبلها وشائها، وشيحها وقيصومها، وأرى مساجلاتها ومنافراتها، وحبها وغرامها، وعفتها ووفاءها، وصبرها وبلاءها، وحداءها وغناءها، وأسواق شعرائها، ومواقف خطبائها، وفقرها وإقلالها، وشحوب وجوهها، وسمرة ألوانها، وضوى أجسامها، وترددها في بيدائها بين حمارة1 القيظ وصبارة2 البرد، وتنقلها من صحراء إلى ريف، ومن مشتى إلى مصيف، ومن نجد إلى وهد، ومن شرف إلى غور، وانتجاعها مواقع الغيث، ومنابت العشب، وقناعتها من الطعام بأحفان التمر، وقعاب اللبن وأصوع الشعير، فإذا جد الجد أكلت القد3 واشتوت الجلد، وتبلغت بالضب واليربوع وعراقيب الآبال وأظلاف الأبقار، واكتفاءها من اللباس بأكسية الكرابيس وأردية الأشعار، وقُمص الأوبار، فإذا أعوزها ذلك لبست الظل، وافترشت الرمل، غير ناقمة ولا ساخطة ولا متبرمة بقضاء الله وقدره في قسمه أزراقه بين عباده ولا باكية حظها من رخاء العيش ولينه، ثم أراها بعد ذلك وقد أنعم الله عليها بنعمة المدينة الإسلامية، فأرى رغد عيشها، ولين طعامها، واعشوشاب جانبها، وعذوبة مواردها ومصادرها، وسرورها

1 شدة الحر.

2 شدة البرد.

3 السير يقد من جلد.

ص: 6

وغبطتها بما أفاء الله عليها من ذخائر الفرس وأعلاق الروم، وامتلاء قصورها باللؤلؤ المنظوم من القيان، واللؤلؤ المنثور من الولدان، وأرى مجالس غنائها، ومجامع أنسها، ومسارح لهوها، ومجالات سبقها، وملاعب جيادها، ومذاهب طرائدها، ومواقف حجها، وازدحام شعرائها على أبواب أمرائها، وجوائز أمرائها في أيدي شعرائها، وانطلاق ألسنتها بوصف ما تشاء من الأعواد والبرابط والمعازف والمزاهر والأقداح والدنان والموائد، والصحف وألوان الطعام حلوه وحامضه، وأصناف الشراب حلاله وحرامه، والطيور المحلقة في الأجواء، والسفن الذاهبة في الدأماء1، والرياض الخضراء، والغابات الشجراء، والقصور وتماثيلها، والبحيرات وأسماكها، والأنهار وشواطئها، والأزهار ونفحاتها، والغيوث قطراتها، ودبيب الحب في القلب، والغناء في السمع، والصهباء في الأعضاء، وخلجة الشك، ولمحة الفكر، وبارقة المنى، ثم لا أشاء أن أرى بين هذا وذاك خلقا عذبا، أو أدبا غضا، أو حبًا وفيًا، أو مجونا مستظرفا، أو حوارًا مستلمحًا، إلا وجدته، ولا أن أسمع ما تهتف به العاتق في خدرها، وما يحدو به الحادي في أعقاب إبله، وما يتغنى به العاشق، وما يهذي به الشارب

1 الدأماء: البحر.

ص: 7

وما يترنم به الشادي، وما يساجل به الماتح1 إلا سمعته، ولا أن أعلم ما يهجس في نفس المحب إذا اشتمل عليه ليله، والحائر إذا ضل به سبيله، والثاكل إذا فجعت بواحدها، والموتور إذا حيل بينه وبين واتره، والكريم إذا لاح له منظر من مناظر البؤس والشقاء، والغريب في دار غربته، والسجين بين جدران سجنه، والخائف إذا وقف بين الرضا والغضب، والمقدم للقتل إذا وقف بين الرجاء واليأس، والبائس إذا أعوزه القوت، واليائس إذا أعوزه الموت، والعزيز إذا ذل، والمشرف إذا هوى، والشريف إذا عبث بشرفه عابث، والغيور إذا لمس عرضه لامس، إلا علمته، ولا أن أعرف خلق الدهر في تنقله بالناس ما بين رفع وخفض، وجدة وفقر، ونعيم وبؤس، وإقبال وإدبار، ولا أثر يده السوداء في خراب القصور، وخلاء الدور، وإقفار المغاني، وتصويح الرياض، إلا عرفته، فكنت أجد في نفسي من اللذة والغبطة بذلك كله ما لا يقوم به عندي كل ما ينعم به الناعمون من رغد في العيش ورخاء حتى ظننت أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه لما علم أنه لم يكتب لي في لوح مقاديره ما كتب للسعداء، والمجدودين من عباده من مال أو جاه أعيش

1 الماتح المستقى على البئر.

ص: 8

في ظله، وأنعم بثمرته، زخرف لي هذا الجمال الخيالي البريء من الريبة والإثم وزوّره1 لي تزويرا بديعا، ووضع لي فيه من الملاذ والمحاسن مالم يضع لغيري رحمة بي، وإرعاء علي أن أهلك أو يهلك لبي بين اليأس القاتل، والرجاء الكاذب، وهكذا لا أزال محلقا في هذا الجو البديع من الخيال أضحك مرة، وأكتئب أخرى، وأتغنى حينا وأبكي أحيانا، حتى يرميني الباب ببعض الطارقين أو يستعيد إلى نفسي مستعيد.

ولم يكن حولي لذلك العهد ممن يستعين بمثلهم مثلي على الأدب أحد؛ لأنني كنت أعيش في مفتتح عهدي به، ولم أكن زاهيت إذ ذاك الثالثة عشرة من عمري بين أشياخ أزهريين من الطراز القديم لا يرون رأيي فيه، ولا يتعلقون منه بما أتعلق، فكانوا يرون أن التوفر عليه أو الألمام به عمل من أعمال البطالة والعبث، وفتنة من فتن الشيطان، فكان الذين يتولون أمري منهم لا يزالون يحولون بيني وبينه كما يحول الأب بين ولده وبين ما يعرض له من فتن الهوى ونزغات الصبوة ضنا بي يزعمون أن أنفق ساعة من ساعات دراستي بين لهو الحياة ولعبها، فكنت لا أستطيع أن ألم بكتابي إلا في الساعة التي آمن فيها على نفسي أن يلموا

1 زوره حسنه وقومه.

ص: 9

بأمري وقليلا ما كنت أجدها، وكثيرا ما كانوا يهجمون مني على ما لا يحبون، فإذا عثروا في حقيبتي أو تحت وسادتي أو بين لفائف ثوبي على ديوان شعر أو كتاب أدب خيل إليهم أنهم قد ظفروا بالدينار في حقيبة السارق، أو الزجاجة في جيب الغلام، أو العشيق في خدر الفتاة، فأجد من البلاء بهم، والغصص بمكانهم، ما لا يحتمل مثله مثلي، وهم لا يعلمون أحسن الله إليهم أنهم وجميع من يدور به جدار مسجدهم حسنة من حسنات الأدب الذي ينقمون منه ما ينقمون، ويد من أياديه البيضاء على هذا المجتمع البشري، فلولا الأدب ما استطاع أئمتهم المجتهدون فهم آيات الكتاب المنزل، ولا استنباط تلك الأحكام التي دونوها لهم وتركوها بين أيديهم يستغلونها كما يستغل المالك ضيعته، ويعيشون في ظلها عيش السعداء المترفين، ولولاه ما استطاع علماؤهم اللغويون أن يورّثوهم هذه العلوم اللغوية التي يدرسون اليوم نحوها وتصريفها وبيانها ومعانيها في مجالس علمهم، ويدلون بمكانهم منها على الناس جميعا، كما لا يعلمون أن الأدب هو خير ما يستعين به متعلم على علم، وأن الذوق الأدبي الذي يستفيده المتأدب من دراسة الأدب ومزاولته هو الميزان الذي يزن به ما يحاول فهمه من عبارات العلوم وأساليبها، والدليل الذي يتسمّته

ص: 10

ويترسم مواقع أقدامه في فهم أصول الدين؛ ليكون مجتهدا أن استطاع أو واقفا على منازع المجتهدين، واللسان الذي يستعين به على الإفضاء بأدق أغراضه وأعمقها وأقصاها مكانا من قلبه ليكون إنسانا ناطقا، ومعلما نافعا، ولو أن هؤلاء الزارين على الأدب من علماء الدين وشيوخه وهم اليوم والحمد لله قليل بل هم في طريق الفناء والانقراض قد تعلقوا منه بما كان يتعلق به أسلافهم وأئمتهم من قبل لنالوا به في دينهم خيرا كثيرا، ولا ستدفعوا به عن أنفسهم في أمره شرًّا عظيمًا، فما زال الدين واضح المنهج قائم الحجة، وما زالت آيات الكتاب ومتون الأحاديث سائغة هنيئة لا يلحقها الريب ولا يحيط بها الشك، ولا تطير بجنباتها الأوهام والظنون حتى جهل علماء الدين الأدب ففسدت أذواقهم، وضلت أفهامهم، فكثر بينهم التأويل والتخريج، ووهت تلك العقدة الوثيقة بين الألفاظ والمعاني، واسترخت عراها من أيديهم، فأصبح كل لفظ في نظرهم محتملا لكل معنى حتى ما يأبى أحدهما على الأخر شيئا، وتهافت ذلك الحاجز الحصين الذي كان قائما بين الحقيقة والمجاز، والحقيقة والخيال، فبغى بعض الكلم على بعض وعاث كل منهما في تربة صاحبه إقبالا وإدبارا، وجيئة وذهوبا، وصعودا ونزولا، فاستطاع الواغلون في الدين والناصبون له أن يدخلوا

ص: 11

عليه من الأحاديث المنحولة الغريبة في أساليبها عن منهاج العرب ومناحيهم مالا يضبطه الحساب كثرة، فهلكت الأمة بين هذا وذاك هلكا لا تزال تتجرع كأسه المريرة حتى اليوم.

فالحمد لله أولا، وللأدب ثانيا على نجاتي منهم فيما كانوا يرومون بي، ويحاولون مني، بل أحمد الله إليهم كذلك فقد كفيت بهم وبسوء رأيهم في الأدب ونقمتهم عليه شر من يدخل بيني وبين نفسي في المفاضلة بين شاعر وشاعر، وكاتب وكاتب، أو الموازنة بين أسلوب وأسلوب، وديباجة وأخرى، فلم يكن لي عون على ذلك كله غير شعور نفسي، وخفوق قلبي خفقة السرور أو الألم إن مر بي ما أحب أو ما أكره من حسنات القول أو سيئاته من حيث لا أعرف سبيل ذلك ولا مأتاه، فكان شأني في ذلك شأن السامع الطروب الذي تطربه نغمة وتزعجه أخرى، فيطير بالأولى فرحا، وبالثانية جزعا، ولقد يكون ضعيف الإلمام بضروب الإيقاع وقواعد النغم، فكنت لا أقرأ إلا ما أفهم، ولا أفهم إلا ما أشعر أنه قد خرج من فم قائله خروج السهم من القوس، فإذا هو في كبد الرمية ولبها، فإن رأيت أن المعنى قد قام دونه ستار من التراكيب المتعاظلة، والأساليب الملتوية، علمت أن القائل إما ضعيف المادة اللغوية، فهو يعجز عن الإفضاء بما في نفسه

ص: 12

لأنه لا يعرف كيف يفضي به، وإما جاهل لم يستوِ له المعنى الذي يريده كل الاستواء، ولم يدر في جوانب نفسه حتى يستقر في قراره منها، فهو يتخيله تخيلا، ويجمجمه ويهذي به هذيانا فلا سبيل له إلا الإفصاح عنه، وإما داهية محتال قد علم أن المعنى الذي يجول في نفسه، ويشتمل عليه خاطره تافه مرذول، وكان لا بد له أن ينفقه1 على الناس ويزخرفه لهم ويزوره2 في أعينهم، فهو يكسوه أسلوبا غامضا؛ ليكدهم ويجهدهم في سبيله حتى إذا ظفروا به بعد ذلك، خيل إليهم أنهم قد ظفروا بمعنى غريب، أو خاطر بديع، ووجدوا فيه عند الوصوص إليه من اللذة والمتعة ما يجد الظامئ في ضحضاح3 الماء الكدر إذا أبعد النُّجعة في طلبه، ووصل إليه بعد الجهد والإشفاء، وإما عاجز ضعيف القوة النفسية قد علم أن ضعفاء الافهام من الناس، وهم سواد الأمة، ودهماؤها لا يرضون عن معنى من المعاني، ولا يستسنون4 قيمته، ولا يقيمون له وزنا إلا إذا جاءهم في جلدة من الألفاظ المتكرسة المتقبضة، وأنهم إذا ورد عليهم أثمن المعاني وأغلاها،

1 ينفقه بالتشديد: يجعله نافقًا أي رائجا.

2 زور الشيء: حسَّنه وزخرفه.

3 الضحضاح: الماء القليل في قعر البئر.

4 استسنى فيمته: رآها سنية رفيعة.

ص: 13

وأكرمها جوهرا، وأطيبها عنصرا، في ثوب من الأساليب الرقيقة الشفافة ذهب بهم الوهم إلى أنه ما جاءهم على هذه الصورة إلا لأنه ساقط مبتذل، أو سوقي مطروق، فاحتقره وازدروه، وكان يرى لضعف حيلته وسقوط همته أن لا بد له من موافاة رغبتهم، وبلوغ رضاهم، والنزول على حكمهم، فتجمل لهم باللكنة والعي، وتملقهم بالغموض والإبهام، وإما أعجمي يظن أن اللغة العربية حروف وكلمات، وهو لا يعرف منها غيرهما، فينطق بشيء هو أشبه الأشياء بما يترجمه بعض المترجمين من اللغات الأعجمية ترجمة حرفية، فإن نعيت عليه غرابة أسلوبه واستعجامه والتواءه على الفهم كان مبلغ ما ينضح به عن نفسه أن المعاني العصرية والخيالات الحديثة لا يستطاع إلباسها إلا كيسة البدوية، والأردية العربية، كإنما هو يظن أن المعاني والخواطر خطط وأقسام، وبقاع وضياع، هذا للشرق وهذا للغرب، وهذا للعرب وهذا للعجم، أما الحقيقة التي لا ريب فيها فهي أن الرجل لا ينتزع تلك المعاني من قرارة نفسه، ولا يصور فيها صورة عقله، وإنما هو مترجم قد عثر بتلك المعاني في اللغة الأعجمية التي يعرفها لاصقة بأثوابها الأصلية، فلما أراد أن يفضي بها إلى العرب، وكان غير مضطلع بلغتهم، ولا متمكن من أساليبهم عجز عن أن ينزع عنها

ص: 14

أثوابها اللاصقة بها، فنقلها إليهم كما هي إلا ما كان من تبديل حرف بحرف أو كلمة بأخرى من حيث يظن أنه يهتف بشيء قام في نفسه أو يفضي بخاطر من خواطر قلبه، وإما شحيح يأبى له لؤم نفسه، وخبث فطرته أن يمنح الناس منحته سائغة هنيئة دون أن يكدرها عليهم بالمظل والتسويف والممانعة والمحاولة. والشح خلق إذا نزل منزله من نفس صاحبه أقام من نفسه حارسا يقظا على كل حاسة من حواسه الباطنة، والظاهرة حتى لا يجد فيه واجد مصطنعا، ولا يظفر منه معتصر ببلة، فيضن بعلمه، كما يضن بماله، ويقبض لسانه عن النطق، كما يقبض يده عن الإنفاق، ويصرد1 عطاءه تصريدًا ليستديم به حاجة الناس إليه، كما يجيع كلبه ليتبعه، ولعنه الله والملائكة والناس أجمعين، على العجزة والجاهلين، والمحتالين والكاذبين، والأشحاء والباخلين.

وكان أشعر الشعراء عندي، وأكتب الكتاب سواء في ذلك المتقدم والمتأخر والنابه والخامل أوصفهم لحالات نفسه أو أثر مشاهد الكون فيها، وأقدرهم على تمثيل ذلك، وتصويره للناس تصويرا صحيحا كأنما هو يعرضه على أنظارهم عرضا، أو يضعه في أيديهم وضعا، فإن ظننت أن القائل كاذب فيما يقول، أو

1 صرد العطاء أعطاه قليلا قليلا.

ص: 15

أنه يرسم صورة غير الصورة التي تتلجلج في نفسه، أو أنه لغوي يفر من ضعف أسلوبه، وفساد نظمه إلى أكمة من الألفاظ الغريبة والتراكيب المستوعرة يكمن وراءها، أو ناقل يتخذ الكتابة حقيبة يحشوها بالمسائل العلمية أو الوقائع التاريخية حشوا، أو مترجم ينقل عن اللغة الأعجمية التي يعرفها آراء علمائها وخيالات شعرائها، وكأنما هو صاحبها، أو شعرت أنه قد مر بخاطره، وهو ينطق بكلمته أن يكون بليغا فيها أو مبدعا ليعجب الناس منها، كان لكل حظه مني أن أعرف له قدره في العلم، ومنزلته من الذكاء والفهم، إن أحسن فيما يقول، ولكنني لا أعده كاتبا ولا شاعرا؛ لذلك كان أغزل الغزل عندي غزل العاشقين، وأفضل الرثاء رثاء الثاكلين، وأشرف المدح مدح الشاكرين، وخير العظات عظات المخلصين، وأجمل البكاء بكاء المنكوبين، وأحسن الهجاء هجاء الصادقين، وأبرع الوصف وصف الرائين المشاهدين.

ولا أدري ما الذي كان يعجبني في مطالعاتي من شعر الهموم والأحزان، ومواقف البؤس والشقاء وقصص المحزونين والمنكوبين خاصة، فقد كان يعجبني كل العجب ويبكيني أحر البكاء، وأشجاه شقاء المهلهل في الطلب بثأر أخيه، وشقاء

ص: 16

امرئ القيس في الطلب بثأر أبيه، وبكاء جليلة أخت جساس على زوجها وأخيها، وبكاء عدي بن زيد على نفسه في سجن النعمان، وبكاء متمم بن نويرة على أخيه مالك حتى دمعت عينه العوراء، وبكاء ليلى بنت طريف على أخيها الوليد، وهيام أم حكيم زوج عبيد الله بن العباس في المواقف والمواسم تنشد طفليها الذبيحين، وبكاء الشريف على المناذرة في خرائب الحيرة، وبكاء أبي عبادة على الأكاسرة في خرائب المدائن، وبكاء الرضى على بني هاشم، وبكاء العبلي على بني أمية، وبكاء الرقاشي على بني برمك، وذل أبي فراس في أسره، والمعتمد بن عباد في سجنه، وبكاء الوزير ابن زيدون على نفسه مرة وعلى ولادة أخرى، وبكاء ابن مناذر على عبد المجيد، والبحتري على المتوكل، وابن اللبانة على ابن عباد، والتيمي على يزيد بن مزيد، ومروان بن حفصة على معن بن زائدة، وجنون المجنون بليلاه وجلوسه في جنبات الحي منفردا عاريا مذهوب اللب مشترك العقل يهذي، ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب، ثم هيامُه بعد ذلك مع الوحش في البرية لا يأكل إلا ما ينبت فيها من بقل، ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وراحته إلى الطريق يصدع مع مصعديه، وينحدر مع منحدريه، حتى هلك في أرض مقشعرَّة

ص: 17

مغبرة بين الصخور والأحجار، وشقاء قيس لبنى بلبناه بعد أن طلقها برَّا بوالده، ونزولا على حكمه، وذهاب الحب به بعد ذلك كل مذهب، حتى هلك بين الوفاء للفضيلة والوفاء للحب، وموقف جميل بن معمر بين يدي أبيه، وهو يعتب عليه أشد العتب، وأمره في استهتاره بحب بثينة ومخاطرته بنفسه في الألمام بحبها فيقول: يا أبت هل رأيت قبلي أحد أقدر أن يدفع عن قلبه هواه أو ملك أن يسلى نفسه أو استطاع أن يدفع ما قُضي به عليه، والله لو قدرت أن أمحود ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها من عيني لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بيت به لحين قد أتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام به، ولو مت كمدا وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه، وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند ما سمع قيس بن عاصم يحدث عن نفسه أنه كان يئد بناته في الجاهلية، وأن واحدة منهن ولدتها أمها، وهو في سفر فدفعتها إلى أخوالها ضنا بها على الموت واشفاقا عليها، فلما عاد وسألها عن الحمل، قالت له: إنها ولدت مولودا ميتا، ثم مضت على ذلك سنون عدة حتى كبرت البنت، ويفعت فزارت أمها ذات يوم فرآها عندها، فأعجب بجمالها وعقلها وذكائها، وسألها عنها فحدثته حديثها على وجهه، ولم يكتمه شيئا منه طعما في أن يضمها إليه ويمنحها رحمته وعطفه

ص: 18

فأمسك عنها أياما ثم تغفل أمها عنها ذات يوم، وخرج بها إلى الصحراء حتى أبعد فاحتفر لها حفرة، وجعلها فيها فجعلت تقول: يا أبت ما تريد أن تصنع بي؟ وما هذا الذي تفعل؟ وهو يهيل عليها التراب، ولا يلتفت إليها وهي تئن وتقول: أتاركي أنت يا أبت وحدي في هذا المكان، ومنصرف عني؟ حتى واراها وانقطع أنينها، وبكاء الأعرابية التي مات منها ولدها في دار غربة، فدفنته ثم وقفت على قبره تودعه، وتقول: والله يا بني لقد غذوتك رضيعا، وفقدتك سريعا، وكأن لم يكن بين الحالين مدة ألتذ بعيشك فيها، فأصبحت بعد الغضارة والنضارة ورونق الحياة والتنسم بطيب روائحها تحت أطباق الثرى جسدا هامدا ورفاتا سحيقا، وصعيدا جزرا، اللهم إنك قد وهبته لي قرة عين فلم تمتعني به كثيرًا، بل سلبتنيه وشيكًا، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فارحم الله غربته، وآنس وحشته، واستر عورته، يوم تنكشف الهنات والسوآت، واثكل الوالدات ما أمض حرارة قلوبهن، وأقلق مضاجعهن، وأطول ليلهن، وأقل أنسهن، وأشد وحشتهن، وأبعدهن من السرور، وأقربهن من الأحزان، وشقاء ذينك البائسينالمنكوبين عروة بن حزام وعفراء بنت عقال ومناصبة الدهر لهما

ص: 19

وانقطاع سبيله بهما حتى أصبحت زوجا لغيره وأصبح من بعدها هائما مختبلا يرمى بنفسه المرامي ويقذف بها في فجاج الأرض ومخارمها حتى بلغ منزلها ذات يوم فتنكر حتى زارها وهو يظن أن زوجها لا يعلم من أمره إلا أنه أحد الأضياف الغرباء، فلما علم أنه يعرف حقيقة أمره وأنه على ذلك لا يتهمه ولا يتنكر له عزم على الانصراف حياء منه، وقال لها يا عفراء أنت حظي من الدنيا وقد ذهبت فذهبت دنياي بذهابك فما قيمة العيش من بعدك، وقد أجمل هذا الرجل عشرتي واحتمل لي ما لا يحتمله أحد لأحد حتى استحييت منه، وإني راحل من هذا المكان، وإني عالم أني أرحل إلى منيتي، وما زال يبكي، وتبكي حتى انصرف، فلما رحل نكس بعد صلاحه وتماسكه وأصابه غشى وخفقان فكان كلما أغمى عليه ألقى على وجهه خمارا لعفراء كانت زودته إياه، فيفيق حتى بلغ حيَّه، وأمسك عاما كاملا لا يسمع منه سامع كلمة، ولا أنَّة حتى بلغ منه اليأس فسقط مريضا، فمر به بعض الناس فرآه ملقى بجانب خبائه فسأله هما به فوضع يده على صدره، وقال:

كأن قطاة علقت بجناحها

على كبدي من شدة الخفقان

ثم شهق شهقة كان نفسه فيها، فلما بلغ عفراء خبره قامت إلى زوجها وقالت له، قد كان من خبر ابن عمي ما كان وقد مات

ص: 20

في وبسببي، ولا بد أن أندُبه وأقيم مأتما عليه، فقال افعلي، فما زالت تندبه ثلاثا حتى ماتت في اليوم الرابع، وشقاء سعد الوراق بحب عيسى النصراني حينما علم أن أهله قد بنوا له ديرا بنواحي الرقة؛ ليترهب فيه ويحتجب عن الناس فضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وأحرق بيته وفارق أهله وأخوانه ولزم صحراء الدير عله يجد السبيل إلى الوصول إليهن، فامتنع عليه ذلك بعد ما ذل للرهبان وتخضع لهم، وتأتي لهم بكل سبيل فلم يجده ذلك شيئا، فصار إلى الجنون وخرق ثيابه وأصبح عريان هائما لا شأن له إلا أن يقف بكل طائر يراه على شجرة، فيناشده الله أن يبلغ رسائله إلى عيسى حتى رآه بعض الناس في بعض الأيام ميتًا إلى جانب الدير، وأمثال ذلك من مواقف البؤس ومصارع الشقاء، كأنما كنت أرى أن الدموع لحبها، أو كأنما كنت أرى أن الدموع مظهر الرحمة في نفوس الباكين، فلما أحببت الرحمة أحببت الدموع لحبها، أو كأنما كنت أرى أن الحياة موطن البؤس والشقاء، ومستقر الآلام والأحزان، وأن الباكين هم أصدق الناس حديثا عنها، وتصويرًا لها، فلما أحببت الصدق أحببت البكاء لأجلِهِ، أو كأنما كنت أرى أن بين حياتي وحياة أولئك البائسين المنكوبين شبهًا قريبًا وسببًا متصلًا، فأنست بهم وطربت بنواحهم طرب المحب بنوح الحمائم، وبكاء

ص: 21

الغمائم، أو كأنما كنت في حاجة إلى بعض قطرات من الدمع أتفرج بها مما أنا فيه، فلما بكى الباكون وبكيت لبكائهم وجدت في مدامعهم شفاء نفسي، وسكون لوعتي، أو كأنما كنت أرى أن جمال العالم كله في الشعر، وأن الشعر هو ما تفجر من صدوع الأفئدة الكليمة، فجرى من عيون الباكين مع مدامعهم، وصعد من صدورهم مع زفراتهم.

تلك أيامي التي سعدت بها برهة من الدهر، ومر لي فيها أحسن ما مر لأحد، والتي لا أزال أذكرها بعد مرور تلك الأعوام الطوال، فأكاد أشرق بدمعي لذكراها، ثم انثنيت فوجدت يدي صفرا منها، وإذا أنا بين يدي هذا العالم المظلم المقشعر عالم الحقيقة، والألم فنظرت إليه نظر الغريب الحائر إلى بلد لا عهد له به، ولا سكن له فيه فرأيت مخازيه وشروره وظلمة أجوائه، واغبرار سمائه، وقتال الناس بعضهم بعضا على الذرة والحبة، والنسمة والهبوة1، واتساع مسافة الخلف بين دخائل القلوب وملامح الوجوه، وسلطان القوة على الحق، وغلبة الجهل على العلم، واقفار القلوب من الرحمة، وجمود العيون عن البكاء، وعجز الفقراء عن فتات موائد الأغنياء، وتمضغ الأغنياء بلحوم

1 الهبوة: الغيرة

ص: 22

الفقراء، ورأيت الترائي بالرذيلة حتى ادعاها لنفسه، وأنحلها إياها من لا يتخلق بها طلبًا لرضى الناس عنه برضاه عنها، ورأيت البراءة من الفضيلة حتى فر بها صاحبها من وجوه الساخرين به، والناقمين عليه فرار العاري بسوأته، والموسوم بخزيته، ورأيت الرجل والمرأة وقد سرًّا1 كل منهما ثوبه عن جسمه وألقاه بين يديه، ثم تقايضا فلبست قباءه، وليس غلالتها فأصبح امرأة لها من النساء التكسر والتبرد، وأصبحت رجلًا من الرجال والتوقح والتشطر2 ورأيت الدين وهو دوحة السلام الخضراء التي يستظل بها الضاحون3 من لفحات الحياة، وزفراتها قد استحال في أيدي الناس إلى سهام مسمومة يحاول كل منهم أن يصيب بها كبد أخيه فلا يخطئها، ورأيت ضلال الأسماء عن مسمياتها، وحيرة مسمياتها بينها، واضطراب الحدود والتعاريف عن أماكنها ومواقفها حتى دخل فيها مالم يكن داخلا، وخرج منها مالم يكن خارجا، فسمى الشح اقتصادا والكرم إسرافا والحلم جبنًا، والسماجة جرأة والسفاهة براعة، والفجور فتوة والتبذل حرية، واشتبهت طرق الفضيلة ومسالكها على من يريد ركوبها

1 سرا الثوب عن جسمه ألقاه عنه.

2 تشطر صار شاطرا والشاطر هو من أعيا أهله خبثا.

3 الضاحي المنكشف للشمس.

ص: 23

لأنه يجد على رأس كل واحدة منها زعيما من زعماء الخديعة، والكذب يصرفه عنها إلى غيرها، وكنت أرى أن الأدب حال قائمة بالنفس تمنع صاحبها أن يقدم على شر أو يحدث نفسه به، أو يكون عونا لفاعليه عليه، فان ساقته إليه شهوة من شهوات النفس أو نزوة من نزواتها وجد في نفسه عند غشيانه ومخالطته من المضض والارتماض ما ينغص عليه عيشه، ويقلق مضجعه، ويطيل سهده وألمه، فإذا هو صورة من صور الجوارح وعرض من أعراض الجسم لا دخل له في جوهر النفس، ولا علاقة بينه وبين الحس والوجدان، فأكثر الناس عند الناس أدبا، وأقومهم خلقا، وأطهرهم نفسا، من لا يفي على شرط أن يعد، ومن يكذب على أن يكون كذبه سائغا مهذبا، ومن يملأ صدره موجدة وحقدًا على أن يكون بساما ضحوك السن، ومن يسرق على أن يستطيع العبث بمواد القانون وخداع القضاة عنها، ومن يبغض الناس جميعا بقلبه، على أن يحبهم جميعا بلسانه، ومن يحفظ تلك المصطلحات اللفظية، وتلك الصور الجافة من الحركات الجسمية التي تواضع عليها المتكلفون في الزيارة والاستزارة والهناء والعزاء والمؤاكلة والمنادمة، وأمثال ذلك مما يرجع العلم به غالبا إلى صغر النفس وإسفافها، أكثر مما يرجع إلى علوها وكمالها،

ص: 24

فداخلني من ذلك هم عظيم لم أستطيع أن أملك نفسي معه كأنما خيل إلي لقرب عهدي بما أرى أنني أرى شيئا عجيبا، أو منظرا غريبا، أو كأنما كنت أحسب أن عالم الخيال الذي كنت فيه إنما هو صورة صحيحة لعالم الحقيقة الذي أنتقل إليه، فأزعجني ما رأيت من هذا الاختلاف العظيم بينهما، فأرسلت الكلمة إثر الكلمة كما يتنفس المتنفس أو يئن الحزين، فرأى ذلك بعض الناس فسموا ما رأوه كلاما، ثم ما زالوا يستحسنون ما أقول ويغرونني بأمثاله، وما زلت أطمع فيهم وأرجو أن أصيب ما في نفوسهم حتى رأيتني كاتبا.

ولقد كان لهذا الأدب الذي توليت نفسي به أثر باق عندي إلى هذه الساعة التي أكتب فيها رسالتي هذه، فإني لا أحسن حتى اليوم أن أكتب كلمة يفضي بها إلى غيري، أو أعبر عن معنى لا يقوم بنفسي، أو أبكي على من لا يحزنني فراقه، أو أندب من لا يفجعني موته، أو أستنكر ما أستحسن، أو أستحسن ما أستنكر، كما لا أستطيع أن أمر بمشهد من تلك المشاهد التي تهيج في نفسي حزنا شديدا، أو طربا كثيرا، فأملك نفسي عن محاولة الإفضاء بما تركه عندي من خير أو شر، وما أعلم أني كتبت كلمة في شأن من الشؤون إلا وكان

ص: 25

بعض تلك المشاهد منشأها في قلبي، فقد كنت رجلا لا أحب الكذب، ولا أحمل نفسي عليه ما وجدت منه بدًا، فأبغضت الكاذبين بغض الأرض للدم، فكان من همي أن أقاتلهم على الصدق قتالا مستحرا حتى أصل بهم إلى إحدى الحسنيين، إما أن يكونوا صادقين، وإما أن يعلم الناس أنهم كاذبون، وكنت إنسانا بائسا لم يترك الدهر سهمًا من سهامه النافذة لم يرمني به، ولا جرعة من كؤوس مصائبه ورزاياه لم يجرعني إياها، فقد ذقت الذل أحيانا، والجوع أياما، والفقر أعواما، ولقيت من بأساء الحياة وضرائها مالم يلق بشر، فشعرت بمرارة الحياة في أفواه المساكين، ورأيت مواقع سهام الدهر في أكباد البائسين والمنكوبين، فكان من همي أن أبكي كل بائس، وأندب كل منكوب، وأطلب رحمة القوي للضعيف، والغني للفقير، والعزيز للذليل، وقُدِّر لي فيما مر بي من أيام حياتي أن رأيت بعيني من وقفت بين يديه امرأة ذليلة تبكي وتضرع إليه أن يرضخ لها بقليل من المال؛ لتستعين به على ستر ما كشف ابنه من سوأة ابنتها، فأبى ذلك عليها، وقال لها وهو يحسب أنه يعلم ما يقول: أيتها المرأة لا حق لابنتك عندي، ولا عند ولدي فلم يكن حظه منها فيها كان من أمرهما بأكبر من حظها منه: ورأيت من تزوج

ص: 26

فتاة كان يمسك في نفسه لأهلها حقدًا قديمًا فما دنا منها ليلة البناء بها حتى صدف عنها صارخا: أيها الناس إن الفتاة مريبة: وكان كاذبا فيما يقول، ولكن صدقه الناس، فانتقم لنفسه بذلك شر انتقام وأقذعه، ورأيت من دخلت إليه امرأة من أولئك النساء المريبات تسأله بعض المعونة على أمرها، فأمر بطردها ذهابا بنفسه أن تسوء سمعته بمكانها، وكان هو الذي أفسدها على نفسها، فنزل بها فسادها إلى هذه المنزلة من السقوط ثم الفقر، فلما جد الجد حاسبها على لقمة تتذوقها في بيته، ولم يحاسب نفسه على عرض كان يأكله في بيتها أكلا، فكان بي منذ ذلك العهد أن أنظر إلى المرأة بعين غير التي ينظر بها الناس إليها، وأن ألمس لها من العذر، وإن زلت بها قدم مالا يلتمسه لها أحد، وأن أنتصف لها من الرجل كلما وجدت السبيل إلى ذلك حتى يديل لها الله منه، وكنت من شؤون عيشي في حالة لا أستطيع معها أن أعتزل الناس الاعتزال كله، ولا أن أختار لعشرتي من أشاء من خيارهم وذوي المروءة فيهم، فلبستهم على علاتهم فما حفظ لي صديق عهدا، ولا صان لي صاحب سرًّا، ولا استدنت مرة فنفس عني دائن، ولا دنت فوفى لي مدين، ولا رد ليمستعير عارية، ولا شكر لي شاكر صنيعة، ولا فرج لي كربتي

ص: 27

مفرج إلا إذا استقطر ماء وجهي إلى القطرة الأخيرة منه؛ ليأخذ أكثر مما أعطى، ويسلب فوق ما وهب، ووجدت في طريق حياتي من خالطني مخالطة الزائر للمزور حتى أمكنته الفرصة، فسرق مالي بعد ما تحرم بطعامي وشرابي، ومن كان يتردد وجهه في وجهي، فأكره أن أرده بالأمل الخائب، فلما عجزت عن ذلك مرة أضمر لي في قلبه من الشر ما لا يضمر مثله الرجل إلا لمن يغلبه على تراث أبيه وأمه، أو يخضِّب لحيته من دم مفرقه، ومن نصب1 لي وغَرِيَ بمحادَّتي ومماظَّتي2 لأنه كان يحمل في رأسه فتكة لم يجد في طريقه من يحملها عنه، ويستخذي له فيها سواي، ومن أخذ نفسه بالنيل مني والغض من شأني؛ لأنه كان يشكو الخمول والضعة، وكان لا بد له من أن يكون نابها مذكورًا، فاتفق له أن رأي عاتقي بين يديه فظن أنه أعلى العواتق وأبعدها مذهبا في جو السماء فعلاه ليشرف منه على الناس، فيعرفوا مكانه، فوالله ما تحلحلت ولا نبوت به بقيا عليه، وضنا به أن يسقط سقطة لا يئل منها، ومن كان لا يكبر شأني إلا إذ اتقاني فإذا أضاء ما بيني وبينه كنت في عينه أصغر منه

1 نصب فلان لفلان عاداه.

2 المماظة المخاصمة والمشارة.

ص: 28

في عين نفسه، ومن كان يقبل ويدبر بإقبال الدهر علي، وإدباره عني، ثم لا يستحي أن يستكثر من ذلك حتى أستحي له منه، فعركت بجنبي1 أكثر ما كرهت من ذلك، ولكنني لم أرض لنفسي أن أنزل في الغرارة والغفلة دون المنزلة التي ينخدع فيها الغر الكريم، فأصبح رأيي في الناس غير رأيهم في أنفسهم، ورأى بعضهم في بعض، وخفت أن يصيب كثيرًا من الضعفاء والمحدودين2 أمثالي مثل ما أصابني، فكان من همي أن أنبش دفائنهم خيرا كان أو شرًّا، وأن أكشف أثوابهم عن أجسامهم، وأجسامهم عن نفوسهم، حتى يتراءوا ويتكاشفوا فيتواقوا ويتحاجزوا، فلا يهنأ خادع بخدعته، ولا يبكي مخدوع على نكبته، ولا يتخذ بعضهم بعضا حمرًا يركبونها إلى أغراضهم ومطامعهم، وكان منشيء في قوم بداة سذج لا يبتغون بدينهم دينا، ولا بوطنهم وطنا، ثم ترامى بي الأمر بعد ذلك، وتصرفت بي في العيش شؤون جمة

فخضعت لكثير من أحكام الدهر، وأقضيته إلا أن أكون ملحدًا في ديني، أو زاريا على وطني، فاستطعت، وقد غمر الناس ما غمرهم من هذه المدينة الغربية أن أجلس ناحية

1 عرك بجنبه ذنب صاحبه احتمله.

2 المحدود المحروم ويراد به سيئ الحظ.

ص: 29

منها، وأن أنظر إليها من مرقب عالٍ، وكنت أعلم أن من أعجز العجز أن ينظر الرجل إلى الأمر نظرة طائرة حمقاء، فإما أخذه كله، وإما تركه كله، فرأيت حسناتها وسيئاتها، وفضائلها ورذائلها، وعرفت ما يجب أن يأخذ منها الآخذ، وما يرتك التارك، فكان من همي أن أحمل الناس من أمرها على ما أحمل عليه نفسي، وأن أنقم من هؤلاء العجزة الضعفاء تهالكهم لها، واستهتارهم بها، وسقوط نفوسهم أمام رذائلها ومخازيها، وإلحادها وزندقتها، وشحها وقسوتها، وشرهها وحرصها، وتبذلها وتهتكها، حتى أصبح الرجل الذي لا بأس بعلمه وفهمه إذا حزبه1 الأمر في مناظرة بينه وبين من يأخذه برذيلة من الرذائل لا يجد بين يديه، وما ينضح به عن نفسه إلا أن يعتمد عليها في الاحتجاج على فعل ما فعل، أو ترك ما ترك، كأنما هي القانون الإلهي الذي تثوب إليه العقول عند اختلاف الأنظار، واضطراب الأفهام، أو القانون المنطقي الذي توزن به التصديقات والتصورات لمعرفة صوابها وخطئها وصحيحها وفاسدها، وحتى أصبح السيد في منزله يستحي من خادمة مطبخه الأوروبية أن تطَّلع منه على جهل ببعض عاداتها وعادات قومها حتى لبس الرداء، وخلع الحذاء،

1 حزبه الأمر اشتد عليه.

ص: 30

أكثر مما يستحي من الله، ومن الناس أن يهجموا منه على أرذل الرذائل، وأكبر الكبائر، وحتى أصبح تاريخ المشرق وتاريخ علمائه وأدبائه، وفلاسفته وشعرائه صورة من أقبح الصور، وأسمجها في نظر كثير من الشرقيين الذي أصبحوا يفخرون بجهل تاريخهم إن جهلوه، ويراؤون بجهله إن علموه، وحتى قدر ذلك الغلام الرومي خادم الحان أو القهوة منفردًا على مالم تقدر عليه الأمة جميعها مجتمعة، فحملها على النزول إليه لتحدثه بلغته، قبل أن تحمله على الصعود إليها ليحدثها بلغتها، وهو إلى أن يترضاها ويستدنيها أحوج منها إلى أن تزدلف إليه، وتنزل على حكمه.

فذلك ما تراه في رسائل النظرات منتثرًا ههنا وههنا قد شعر به قلبي، ففاض به قلمي من حيث لا أكذب الناس عن نفسي، ولا أكذب نفسي عنها، ولو كان بي أن أكذبهم لكذبتهم فيما يرضيهم، وما أعلم أني أتحظاهم به، وأنال به الأثرة الخالدة في نفوسهم، ولو أردت ذلك منهم لما كان بيني وبين خاصتهم إن أردت الخاصة إلا ثلاث كلمات، السخرية بالأديان، واحتقار تاريخ المشرق، والقول بتبرج المرأة وسفورها، ولا كان بيني وبين عامتهم إن أردت العامة إلا ثلاثا أخرى، سب الكفار، وعبادة الأضرحة، والجمود على كل قديم.

ص: 31

وعندي أن الكاتب المسخر الذي لا شأن له إلا أن يكتب ما يفضي به الناس إليه صانع غير كاتب، ومترجم غير قائل، لا فرق بينه وبين صائغ الذهب وثاقب اللؤلؤ، كلاهما ينظم ما لا يملك، ويتصرف فيما لا شأن له فيه، على أن خير ما ينتفع به الأديب من أدبه أن يترك يوم وداعه لهذه الدنيا صفحة يقرأ فيها الناظرون في تاريخه من بعده من أبنائه وشيعته وذوي رحمه صورة نفسه، ومضطرب آماله، ومسرح أحلامه، فإذا كان كل شأنه في حياته أن يكون مرآة تتقلب فيها مختلفات الصور أو وفيعة1 تتمسح بها أعواد الأقلام كان خسرانه عظيما لا يقوم به كل ما يربح الرابحون من مال أو يؤثلون من جاه، والتاريخ أضن من أن يحفظ بين دفتيه من مجد الأدباء إلا مجد أولئك الذي يودعون نفوسهم صفحات كتبهم، ثم يموتون وقد تركوها نقية بيضاء من بعدهم، وحياة الكاتب بحياة كتابته في نفوس قرائها، ولا تحيا كتابة كاتب سيعلم الناس من أمره بعد قليل أنه يكذبهم عن نفسه وعن أنفسهم، وأنه روَّاغ متخلّج2 يأمرهم اليوم بما ينهاهم عنه غدًا، ويرى في ساعة ما لا يرى في أخرى،

1 الوفيعة خرقة يمسح بها القلم.

2 المتخلّج المضطرب في مشيته.

ص: 32

وأنه يستبكى ولا يبكي، ويسترحم ولا يرحم، ويحرك النفوس وهو ساكن، ويثير الثائرة وهو سالم، فيستريبون به، ويحارون في مصادره وموارده، ثم يحملون أمره على شر حاليه، ثم ينقطع ما بينهم وبينه، والبيان ليس سلعة من السلع التي يتنقل بها تجارها من سوق إلى سوق، ومن حانوت إلى آخر، ولكنه حركة طبيعية من حركات النفس تصدر عنها عفوًا بلا تكلفٍ، ولا تعمل صدور النور عن الشمس، والصدى عن الصوت، والأريج عن الزهر، وشعاع لامع يشرق في نفس الأديب إشراق المصباح في زجاجته، وينبوع ثرار يتفجر في صدره، ثم يفيض على أسلات قلمه، وهو أمر وراء العلم واللغة والمحفوظات والمقروءات والقواعد والحدود، ولو أن أمرًا من ذلك كائن لكان أبرع الكتاب، وأشعر الشعراء أغزرهم مادة في العلم أو أعلمهم بقواعد اللغة أو أجمعهم لمتونها أو أحفظهم لفصيح القول ورائعه، أما العلم فأكثر المؤلفين الذين تركوا بين أيدينا هذه الأسفار التي نقرأها في الشريعة والحكمة والمنطق وغيرها كانوا علماء ما يتدافع في ذلك اثنان، وها قد مرت علينا وعلى ما تركوه بين أيدينا القرون والحقب، وأكثرنا عاجز عن فهم أكثر ما كانوا يكتبون، وأما المحفوظات فما نعلم أحدًا أحفظ لكتاب

ص: 33

الله من جماعة القراء، ولا أحفظ للحديث من الفقهاء، ولا أقل منهم إلماما بالأدب، ولا أبعد منهم عنه مكانا، وأما اللغة فما عرفنا بين المتقدمين والمتأخرين من رواتها وحفاظها والمتوفرين على تدوينها وتحقيقها والمنقطعين لدرس قواعدها، وفنونها من عرفت له البراعة والتفوق في تحبير الرسائل أو قرض الشعر أو القوة القلمية في التصنيف في غير ما أخذوا أنفسهم به، وكان الخليل بن أحمد إذا سئل عن نظم الشعر قال: يأباني جيده وآبى رديئه، وكان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة، وأبو زيد الأنصاري يحفظ نصفها وأبو مالك الأعرابي يحفظها كلها، وكذلك كان شأن النضر بن شميل وأبي عبيدة وابن دريد والأزهري والصاغاني وابن فارس وابن الاثير صاحب النهاية، والجوهري والفيروزبادي، وأمثالهم من علماء اللغة والنحو، وما سمعنا لواحد منهم في إحدى الصناعتين شيئا مذكورا، وقال أبو العباس المبرد في بعض أحاديثه: لا أحتاج إلى وصف نفسي مشكلة إلا لقيني بها، وأعدني لها فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس لا يخفى علي مشتبه من الشعر والنحو والكلام المنثور والخطب والرسائل، وربما احتجت إلى اعتذار من فلتة أو التماس حاجة فاجعل المعنى الذي أقصده نُصب عيني ثم

ص: 34

لا أجد سبيلا إلى التعبير عنه بيد ولا لسان، ولقد بلغني أن عبيد الله بن سليمان ذكرني بجميل، فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أموري، فأتبعت نفسي يومًا في ذلك، فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عما في نفسي، فينصرف لساني إلى غيره اهـ بل لو شئت لقلت إنه ما أفسد على المتنبي وأبي تمام كثيرًا من شعرهما، ولا على المعري كثيرا من منظومه ومنثوره، ولا على الحريري مقاماته، ولا على ابن دريد مقصورته إلا غلبة اللغة عليهم واستهتارهم بها، وشغفهم بتدوينها في كل ما يكتبون، فقد كانوا هم وأمثالهم من حبائس اللغة وأنضائها في كثير من مواقفهم يؤلفون ويدونون، من حيث يظنون أنهم ينظمون أو يكتبون، ولا تزال نفسي تشتمل على لوعة من الحزن لا تفارقها حتى الموت، كلما ذكرت أن الأدب العربي كان يستطيع أن يكون خيرًا مما كان لو أن الله كتب للزوميات المعري النجاة من قبضة اللغة وأسر الالتزام، وإنك لا تكاد ترى اليوم من شعراء هذا العصر، وكتابه الذين يأخذون بزمام هذا المجتمع العربي ويقيمون عالمه، ويقعدونه بقوتهم القلمية في شؤونه السياسية والاجتماعية والأدبية كافة من يعد من حفاظ اللغة العربية، وثقاتها أو من يسلم له مقال من مأخذ لنحوي أو مغمز

ص: 35

للغوي، وهم على ذلك عندي أدخل في باب البيان، وألصق به، وأمسّ به رحمًا من أولئك الذين يستظهرون متون اللغة، ويحفظون دقائقها، ويحيطون بمترادفها ومتواردها ويتباصرون بشاذها وغريبها ويحملون في صدورهم ما دق وجل من مسائل نحوها وتصريفها، فإذا عرض لهم غرض من الأغراض في أي شأن من شؤون حياتهم، وأرادوا أنفسهم على الإفضاء به ارتج عليهم فأغلقوا، أو تقعروا وتشدقوا، فكأنهم لم ينطقوا، والفرق بين الأدباء واللغويين أن الأولين كاتبون، والآخرين مصححون، فمثلهما كمثل النساج وعامله، هذا ينسج الثوب، وهذا يلتقط زوائده ويمسح عنه زئبره1 أو كمثل الشاعر والعروضي، هذا ينظم الشعر وهذا يعرضه على تفاعيله وموازينه، وليس البيان ذهاب كلمة، ومجيء أخرى، ولا دخول حرف وخروج آخر، وإنما هو النظم والنسق والانسجام، والإطراد والماء والرونق واستقامة الغرض وتطبيق المفصل، والأخذ بالنفوس، وامتلاك أزمة الهواء، فإن صح ذلك لامرئ، فهو الكاتب القدير، أو الشاعر الجليل، فإن زلت به قدم في وضع حرف مكان حرف، أو غلبه على لسانه دخيل، أو خرج من يده أصيل، أو كان ممن يفوته العلم ببعض القواعد

1 الزئبر ما يظهر من درز الثوب.

ص: 36

اللغة أو بعض وجوه الاستعمال فيها، كان ذلك عيبًا لاحقا بعلمه أو بحافظته، لا ببيانه وفصاحته، ومتى صدر القائل في قوله عن سجية وطبع أصبح شأنه شبيهًا بشأن العرب الأولين، وكان من شأنهم أن يسبقهم إلى كلامهم الخطأ اللفظي في بعض الأحيان، وكان السبب في ذلك كما يقول أبو علي الفارسي: أنهم كانت تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء، فزاغوا به عن القصد من حيث لا يشعرون، وكما أن الجسم لا يغير صورته، ولا يقلب سحنته أن تطير منه ذرة، وتحل أخرى محلها لتمثلها كذلك لا يغير صورة الكلام، ولا يذهب بنسقه خروج أصيل، أو دخول دخيل، ولقد قيل لأحد الكتاب الإنكليز نراك كثير الإعجاب بالكاتب "كبلنغ" وهو رجل لحانة لا يحفل بقواعد اللغة، فأجاب أن سطرًا واحدًا مما يكتبه "كبلنغ" أثمن عندي من قوانين اللغة جميعها، وليس من الرأي أن أحرم نفسي التمتع بأدبه إكراما لسواد عيون الغراماطيق1 الإنكليزي، وفضل الأدباء على اللغة في سيرورتها وذيوعها وتداولها وخلودها أكبر من فضل اللغويين عليها في ذلك؛ لأنهم هم الذين يمهدون سبلها، ويعبدون2 طرقها، ويستدنون نافرها، ويجمعون شاردها،

1 الغراماطيق: النحو.

2 يعبدون: يذللون ويمهدون.

ص: 37

وينظمون لآلئها، نظم الثاقب لآلئه في السلك، فيأخذها الناس عنهم من أخصر الطرق وأقربها، وأشهاها إلى النفس، وأعلقها بالقلب، وقليل من الناس من يأخذ مادته اللغوية من معاجم اللغة أو يكتسب ملكة الإعراب من كتب النحو والتصريف، وما كانت اللغة عدوة للأدب، ولا كان الأدب عدوًّا لها، بل هي أساسه وقوامه الذي يقوم به، ولكن المشتغلين بها، والمتوفرين على دراستها، والمنقطعين لاستظهارها، والنظر في دقائقها، والتعمق في أطوائها، لا يزال يغلب عليهم الولع بها، والفناء فيها، حتى تصبح في نظرهم مقصدًا من المقاصد، لا وسيلة من الوسائل، وللبيان وسائل كثيرة غير وسيلة اللغة، فمن لا يأخذ نفسه بجميع وسائله لا يصل إليه والتربية العلمية كالتربية الجسمية، فكما أن الطفل لا ينمو جسمه، ولا ينشط ولا تتبسط أعضاؤه، ولا تنتشر القوة في أعصابه، إلا إذا نشأ في لهوه ولعبه، وقفزه ووثبه، كذلك الكاتب لا تنمو ملكة الفصاحة على لسانه، ولا تأخذ مكانها من نفسه، إلا إذا ملك الحرية في التصرف والافتتان والذهاب في مذاهب القول، ومناحيه كما يشاء وحيث يشاء، دون أن يسيطر عليه في ذلك مسيطر إلا طبعة وسجيته، واللغوي لا يزال يحوط نفسه بالحذر والخوف، والوساوس والبلابل،

ص: 38

فَإِنْ مَشَى خيل إليه أنه يمشي على رملة ميثاء، وإن تحرك خيل إليه أن تحت قدميه حفرة جوفاء، حتى يقعد به خوفه ووسواسه عن الغاية التي يريد الوصول إليها، على أن الكاتب لا يبلغ مرتبة الكتابة إلا إذا نظر إلى الألفاظ بالعين التي يجب أن ينظر بها إليها، فلم يتجاوز بها منزلتها الطبيعية التي تنزلها من المعاني، وهي أن تكون خدمًا لها وخولًا، وأثوابًا وظروفا، فإذا كتب تركها وشأنها، وأغفل أمرها حتى تأتي بها المعاني وتقتادها طائعة مرغمة، والمعاني هي جوهر الكلام ولبه، ومزاجه وقوامه، فما شغل الكاتب من همته بغيرها أزرى بها حتى تُفلت من يده، فيفلت من يده كل شيء.

وبعد فالعلم والمحفوظات والمقروآت والمادة اللغوية، والقواعد النحوية، إنما هي أعوان الكاتب على الكتابة ووسائله إليها، فالجاهل لا يكتب شيئا؛ لأنه لا يعرف شيئا، ومن لا يضطلع بأساليب العرب ومناحيها في منظومها ومنثورها سرت العجمة إلى لسانه، أو غلبته العامية على أمره، ومن قل محفوظه من المادة اللغوية قصرت يده عن تناول جميع ما يريد تناوله من المعاني، ومن جهل قانون اللغة أغْمَضَ الْأَغْرَاضَ وَأَبْهَمَهَا، أو شَوَّهَ جَمَالَ الْأَلْفَاظِ وَهَجَّنَهَا، وَلَكِن لَيْسَتْ هَيَ جَوْهَرُ الْفَصَاحَةِ، وَلَا

ص: 39

حقيقة البيان، فأكثر القائمين عليها، والمضطلعين بها، لا يكتبون ولا ينظمون، فإن فعلوا كان غاية إحسان المحسن منهم أن يكون كصانع التماثيل الذي يصب في قالبه تمثالا سويا متناسب الأعضاء، مستوي الخلق، إلا أنه لا روح فيه ولا جمال له؛ لأنه ينقصهم بعد ذلك كله أمر هو سر البيان ولبه، وهو الذوق النفسي والفطرة السليمة، وأنى لهم ذلك وما دخلت الفلسفة أيا كان نوعها على عمل من أعمال الفطرة إلا أفسدته، وما خالط التكلف عملًا من أعمال الذوق إلا شوَّه وجهه، وذهب بحسنه وروائه.

ولقد قرأت ما شئت من منثور العرب، ومنظومها، في حاضرها وماضيها، قراءة المتثبت المستبصر، فرأيت أن الأحاديث ثلاثة، حديث اللسان، وحديث العقل، وحديث القلب.

فأما حديث اللسان، فهو تلك العبارات المنمقة، والجمل المزخرفة، أو تلك الكلمات الجامدة الجافة التي لا يعني صاحبها منها سوى صورتها اللفظية، فإن كان لغويًا تقعر وتشدق، وتكلف وأغرب، حتى يأتيك بشيء خير ما يصفه به الواصف أنه متن مشوش من متون اللغة لا فصول له ولا أبواب، وإن كان بديعيًا جنس ورصع وقابل ووشَّع وزواج وافتن في الإتيان بالكلمة مهملة كلها أو معجمة كلها، أو راوح بين الإهمال والإعجام

ص: 40

فيخيل إليك، وأنت تراه ينطق بما ينطق به كأنما هو يصنعه بيديه صنعا، أو يصففه تصفيفا، ثم لا يبالي بعد ذلك باستقامة المعنى في ذاته ولا بمقدار ماله من الأثر في نفس السامع، وهذا الحديث هو أسقط الأحاديث الثلاثة وأدناها وأجدرها أن ينظمه الناظم في سلك الصناعة اليدوية التي لا دخل للعقل، ولا للفهم في شيء منها، وأن ينظم صاحبها في سلك جماعة الصيادلة الذين لا شأن لهم إلا تحليل المواد وتركيبها، وجمعها وتفريقها، والمزاوجة بين مقاديرها، والموازنة بين أثقالها، من حيث لا يكون لقوة التصور، ولا لذكاء القلب، دخل في هذا أو ذاك.

وأما حديث العقل، فهو تلك المعاني التي ينحتها الناحتون من أذهانهم نحتا، ويقتطعونها من اقتطاعها، ويذهبون فيها مذهب المعاياة، والتحدي والتعمق والأغراب، ويسمونها تارة تخييلا، وأخرى غلوًا، وأخرى حسن تعليل إلى كثير من أمثال هذه الأسماء والألقاب التي تتفرق ما تتفرق، ثم يجمعها شيء واحد هو الكذب والإحالة، وآية ما بينك وبينها أنك إذا رأيتها شعرت بأنك ترى أمامك شيئا غريبا عن نفسك، وعن نفس صاحبه، وعن نفوس الناس جميعا، وأن صاحبه لا يريد منه إلا أن

ص: 41

يطرفك أو يضحكك أو يدهشك أو يعجبك من ذكائه وفطنته، واقتداره على تصوير ما لا يتصور، وإيجاد ما لا يكون، وهو أمر لا علاقة له بجوهر الشعر، ولا حقيقة الكتابة، وربما انعكس عليه حتى غرضه هذا فنفرك وأكدَّك، وملأ قلبك غيظا وقيحا كأن يقول:

لو لم تكن نية الجوزاء خدمته

لما رأيت عليها عقد منتطق

فإن الجوزاء لا تنتطق، ولو كان هذا الذي نراه يستدير بها نطاقًا، فهو شيء متصل بها قبل أن يخلق للمدوح، ويخلق أباؤه الأولون والآخرون إلى آدم وحواء، والكواكب ليست أشخاصًا أحياء يتخذ منها الناس خدما وخولا لأنفسهم، ولو كانت كذلك لاستحال عليها، وهي من سكان السماء أن تهبط إلى الأرض لتخدم سكانها، فقد كذب وأحال أربع مرات في بيت واحد، ثم عجز بعد هذا كله أن يترك في نفس السامع صورة تمثل جلال ممدوحه، وعظم شأنه، فهو في الحقيقة إنما يريد ببيته هذا أن يمتدح نفسه بالإبداع وقوة التخيل، لا أن يمتدح ممدوحه برفعه الشأن وعلو المقام.

أو يقول:

ما به قتل أعاديه ولكن

يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب

ص: 42

فإن الذي يحمل في صدره قلبا رحيما، مشفقا على الذئاب من الجوع، مستعظما أن يخلفها ما عودها إياه من طعام وشراب لا يمكن أن يكون هو نفسه ذئبا ضاريا يريق دماء الناس، ويمزق أحشاءهم، ويقطع أوصالهم؛ ليملأ بها بطون الوحش، ولا يوجد بين الأسباب التي تحمل الناس على القتال سبب يشبه هذا السبب الذي ذكره، على أن المحسن لا يكون محسنا إلا إذا وهب ما يهب من ماله، ومن خزائن بيته، فأما أن يقتل الناس تقتيلًا، ويمثل بهم ثم ينعم بجثثهم على الجائعين والظماء من وحوش الأرض وذئابها فذلك شيء هو بالجنون أشبه منه بالإحسان.

أو يقول:

لا يذوق الاغفاء إلا رجاء

أن يرى طيف مستميح رواحا

فإن النوم قوام الإنسان وعماد حياته، ولازم من لوازمه اللاصقة به، أراد ذلك أم لم يرد، فإن كان لا بد من دخوله في باب الاختيار، فإن من أبعد الأشياء عن التصور والفهم أن يكون ما يحمل الإنسان على طلب النوم رجاؤه أن يرى فيه الأحلام والرؤى، فإن فعل فلا يدخل في باب أغراضه وأمانيه أن ينام ليرى خيال جماعة المتسولين والمتأكلين، وهم ملء الأرض وهباء الجو، وأرصاد الأعتاب، وأعقاب الأبواب، لا تنفتح الأعين

ص: 43

إلا عليهم، ولا تمتلئ الأنظار إلا بهم، فهم لم يبلغوا في الضن بأنفسهم والعزف بها مبلغ من لا يراه الرائي ولا يعثر به إلا إذا ألقى في طريقة حبائل الأحلام ليصطاده بها.

أو يقول:

لم يتخذ ولدًا إلا مبالغة

في صدق توحيد من لم يتخذ ولدا

فإن الأولاد لا يتخذون اتخاذًا، وإنما ينعم الله بهم على من يشاء من خلقه إنعامًا، وأكثر ما تقذف به الأرحام من النسمات إنما هو ثمرة من ثمرات الحب يأتي بها عفوًا، لا نبتة من نبات الأرض يبذر الزراع بذورها ليستنبتها، والله تعالى غني بربوبيته، ووضوح آثارها عن الاستدلال عليها بنطفة يقذفها قاذفها في بعض الأرحام، فإن كان لا بد في إثبات ربوبيته من دليل يدل على مخالفته للحوادث في الصفات والأفعال فالأدلة على ذلك كثيرة لا يضبطها الحسَّاب كثرة، وربما كان أهونها، وأضعفها أنه لا يتخذ ولدًا وأنهم يتخذون، على أن المتخذين كثيرون قد ضاق بهم بطن الأرض وظهرها، فالمسألة مفروغ منها قبل أن يخلق هذا الممدوح، ويخلق وله فلا فضل له في الإتيان بشيء جديد.

أو يقول:

وما ريح الرياض لها ولكن

كساها دفنهم في الترب طيبًا

ص: 44

فإن الأزهار التي تستمد حياتها ونماءها من جثث الموتى ورممهم لا يمكن أن تكون طيبة الريح، على أن الأزهار مريحة قبل أن يدفن هؤلاء الموتى في قبورهم، فلم يزد في كلمته هذه على أن أتى بخيال ضعيف مبتذل هو أشبه الأشياء بخيال العامة الذين يرون أن بعض الأزهار ما خلق إلا إكراما لبعض النبيين.

أو يقال:

تتلف في اليوم بالهبات وفي السا

عة ما تجتنيه في سنتك

فقد أراد أن يصف ممدوحه بالكرم وصفا فوق ما يصف الناس، ويأتي في ذلك بما لم يأت به غيره، فأنزله منزلة مجانين المسرفين الذين لا يحسنون الموازنة بين أرزاقهم ونفقاتهم، ولو تقدمت هذه التهمة بهذه الصورة إلى قاضٍ من قضاة المال لما كان له بد من الحجر عليه، والقضاة يرضون في مثل هذه الأحكام بدون إنفاق، دخل السنة جميعها في ساعة واحدة أو يوم واحد.

أو يقول:

ولما ضاق بطن الأرض عن أن

يضم علاك من بعد الممات

أصاروا الجو قبرك واستعاضوا

عن الأكفان ثوب السافيات

فإن شيئا من ذلك لم يكن، فالقبر لا يضيق بأحد، والجو

ص: 45

لا يكون قبرًا، والريح ليست كفنًا، والرجل لا يزال مصلوبًا غير مقبور، ولا يزال عاريًا غير مدرج في كفن.

وأما حديث القلب فهو ذلك المنثور أو المنظوم الذي تسمعه، فتشعر أن صاحبه قد جلس بجانبك ليتحدث إليك كما يتحدث الجليس إلى جليسه، أو ليصور لك ما لا تعرف من مشاهد الكون، أو سرائر القلوب، أو ليفضي إليك بغرض من أغراض نفسه، أو لينفس عنك كربة من كرب نفسك،

أو ليوافي رغبتك في الإفصاح عن معنى من المعاني الدقيقة التي تعتلج في صدرك، ثم يتكاءدك الإفصاح عنها، من حيث لا يكون للصناعة اللفظية، ولا الفلسفة الذهنية، دخل في هذا أو ذاك، حتى ترى حجاب اللفظ قد رق بين يديك دون المعنى حتى يفنى كما تفنى الكأس الصافية دون ما تشتمل عليه من الخمر، فإذا الخمر قائمة بغير إناء، أو كما تفنى صفحة المرآة الصقيلة بين يدي الناظر فيها، فلا يرى إلا صورته ماثلة بين يديه، ولا لوح هناك ولا زجاج، وهو أرقى الأحاديث الثلاثة وأشرفها، وهو الذي يريده المريدون مهما اختلفت عباراتهم، وتنوعت أساليبهم، من تعريف كلمة البيان.

ولقد كان من أكبر ما أعانني على أمري في كتابة رسائل

ص: 46

النظرات أشياء أربعة أنا ذاكرها لعل المتأدب يجد في شيء منها ما ينتفع به في أدبه:

"أولها" أني ما كنت أحتفل من بين تلك الأحاديث الثلاثة بحديث اللسان ولا حديث العقل، أي: إنني ما كنت أتكلف لفظا غير اللفظ الذي يقتاده المعنى ويتطلبه، ولا أفتش عن معنى غير المعنى الطبيعي القائم في نفسي، بل كنت أحدث الناس بقلمي كما أحدثهم بلساني، فإذا جلست إلى مكتبتي خيل إلي أن بين يدي رجلا من عامة الناس مقبلا علي بوجهه، وأن من أشهى الأشياء وآثرها في نفسي أن لا أترك صغيرا ولا كبيرا مما يجول بخاطري حتى أفضي به إليه، فلا أزال أتلمس الحيلة إلى ذلك، ولا أزال أتأتى إليه بجميع الوسائل وألح في ذلك إلحاح المشفق المجد حتى أظن أني قد بلغت من ذلك ما أريد، فلا أقيد نفسي بوضع مقدمة الموضوع في أوله، ولا سرد البراهين على الصورة المنطقية المعروفة، ولا التزام استعمال الكلمات الفنية التزاما مطردا إبقاء على نشاطه وإجمامه وإشفاقا عليه أن يمل ويسأم فينصرف عن سماع الحديث أو يسمعه فلا ينتفع به.

"وثانيها" أني ما كنت أحمل نفسي على الكتابة حملا، ولا أجلس إلى مكتبتي مطرقا مفكرا: ماذا أكتب اليوم،

ص: 47

وأي الموضوعات أعجب وأغرب، وألذ وأشوق، وأيها أعلق بالنفوس، وألصق بالقلوب؟ بل كنت أرى فأفكر فأكتب فأنشر ما أكتب فأرضي الناس مرة وأسخطهم أخرى من حيث لا أتعمد سخطهم، ولا أتطلب رضاهم.

"وثالثها" أني ما كنت أكتب حقيقة غير مشوبة بخيال، ولا خيالا غير مرتكز على حقيقة؛ لأني كنت أعلم أن الحقيقة المجردة من الخيال لا تأخذ من نفس السامع مأخذا، ولا تترك في قلبه أثرا، وأحسب أن السبب في ذلك أن أكثر ما تشتمل عليه النفوس من العقائد والمذاهب، والآراء والأخلاق، والخواطر والتصورات، إنما هو أثر من آثار الخيالات الذهنية التي تتراءى في سماء الفكر، ثم لا تزال بها الأيام تكسوها طبقة بعد طبقة من غبار القدم حتى تصبح حقيقة من الحقائق الثابتة في الأذهان، وكما أن الحديد لا يفل إلا الحديد، واللون لا يذهب به إلا لون غيره، كذلك الخيال لا يذهب به ولا يزعجه من مكانه إلا الخيال، وللخيال الأثر الأعظم في تكوين هذا المجتمع الإنساني وتكييفه بالصورة التي يريدها، فلولا خيال الشعر ما هاج الوجد في قلب العاشق، ولولا خيال الشرف ما هلك الجندي في ساحة الحرب، ولولا خيال الذكرى ما اخترعت

ص: 48

المخترعات، ولا ابتدعت المبتدعات، ولولا خيال الرحمة ما عطف غني على فقير، ولا حنا كبير على صغير، كما كنت أعلم أن الخيال غير المرتكز على الحقيقة إنما هو هبوة طائرة من هبوات الجو لا تهبط أرضا، ولا تصعد إلى سماء.

"ورابعها" أني كنت أكتب للناس لا لأعجبهم، بل لأنفعهم، ولا لأسمع منهم أنت أحسنت، بل لأجد في نفوسهم أثرا مما كتبت، والناس كما قلت في بعض رسائلي خاصة وعامة: أما خاصتهم فلا شأن لي معهم، ولا علاقة لي بهم، ولا دخل لكلمة من كلماتي في شأن من شئونهم، فلا أفرح برضاهم، ولا أجزع لسخطهم؛ لأني لم أكتب لهم، ولم أتحدث معهم، ولم أشهدهم أمري، ولم أحضرهم عملي، بل أنا أتجنب جهد المستطاع أن أستمع منهم شيئا مما يتعلق بي من خير أو شر؛ لأني راض عن فطرتي وسجيتي في اللغة التي أكتب بها فلا أحب أن يكدرها علي مكدر، وعن آرائي ومذاهبي التي أودعها رسائلي فلا أحب أن يشككني فيها مشكك، ولم يهبني الله من قوة الفراسة ما أستطيع به أن أميز بين مخلصهم ومشوبهم، فأصغي إلى الأول لأستفيد علمه، وأعرض عن الثاني لأتقي غشه، فأنا أسير بينهم مسير رجل بدأ يقطع مرحلة لا بد له أن يفرغ منها في

ص: 49

ساعة معينة، ثم علم أن على يمين الطريق التي يسلكها روضة تعتنق أغصانها، وتشتجر أفنانها، وأن على يساره غابا تزأر أسوده، وتعوي ذئابه، وتفح أفاعيه وصلاله، فمضى قدما لا يلتفت يمنة مخافة أن يلهو عن غايته بشهوات سمعه وبصره، ولا يسرة مخافة أن يهيج بنظراته فضول تلك السباع المقعية، والصلال الناشرة، فتعترض دون طريقه: وأما عامتهم فهم بين ذكي قد وهبه الله من سلامة الفطرة، وصفاء القلب، ولين الوجدان، ما يعده لاستماع القول واتباع أحسنه، فأنا أحمد الله في أمره، وضعيف قد حيل بينه وبين نفسه فهو لا يرضى إلا عما يعجبه، ولا يسمع إلا ما يطربه، فأكل أمره إلى الله، وأستلهمه صواب الرأي فيه، حتى يجعل الله له من بعد عسرا يسرا،

مصطفى لطفي المنفلوطي

ص: 50