المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان - النور والظلمات في ضوء الكتاب والسنة

[سعيد بن وهف القحطاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌المبحث الأول: النور والظلمات في الكتاب الكريم

- ‌ الناس قسمان:

- ‌القسم الأول: أهل الهدى والبصائر

- ‌القسم الثاني: أهل الجهل والظلم، وهؤلاء قسمان:

- ‌1 - الذين يحسبون أنهم على علم وهدى

- ‌2 - أصحاب الظلمات، وهم المنغمسون في الجهل

- ‌ الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أربعة أقسام:

- ‌ القسم الأول: قبلوه ظاهراً وباطناً، وهم نوعان:

- ‌ النوع الأول: أهل الفقه فيه، والفهم

- ‌ النوع الثاني: حفظوه، وضبطوه وبلّغوا ألفاظه إلى الأمة

- ‌ القسم الثاني: من ردّه ظاهراً وباطناً، وكفر به، ولم يرفع به رأساً، وهؤلاء أيضاً نوعان:

- ‌النوع الأول: عرفه وتيقَّن صحته، وأنه حق، ولكن حمله الحسد، والكِبر

- ‌النوع الثاني: أتباع هؤلاء الذين يقولون هؤلاء سادتنا وكبراؤنا

- ‌ القسم الثالث: الذين قبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به ظاهراً

- ‌النوع الأول: من أبصر ثم عمي

- ‌النوع الثاني: ضعفاء البصائر الذين أعشى

- ‌ القسم الرابع: يكتمون إيمانهم في أقوامهم، ولا يتمكنون من إظهاره

- ‌وقد جاء في هذا النور أحاديث وآثار كثيرة، منها

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌المبحث الثاني: النور والظلمات في السنة النبوية

- ‌1 - كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه في آخر الليل إذا ذهب إلى الصلاة في المسجد: ((اللهم اجعل في قلبي نوراً

- ‌2 - عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطّهور شطر الإيمان

- ‌15 - عن أنس رضي الله عنه أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة

- ‌18 - وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تُعرَض

- ‌((القلوب أربعة:

- ‌قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن

- ‌فالقلب الأجرد: المتجرِّد مما سوى الله سبحانه وتعالى

- ‌والقلب الأغلف: قلب الكافر، لأنه داخل في غلافه وغشائه

- ‌القلب المنكوس المكبوب: قلب المنافق

الفصل: ‌2 - عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطهور شطر الإيمان

تعالى (1): {الله نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (2).

‌2 - عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطّهور شطر الإيمان

، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور

)) الحديث (3).

قوله صلى الله عليه وسلم: ((والصلاة نور))، قال الإمام القرطبي رحمه الله في شرح ذلك:((معناه: أن الصلاة إذا فُعِلَت بشروطها: المصححة، والمكملة نوَّرت القلب؛ بحيث تُشرق فيه أنوار المكاشفات والمعارف، حتى ينتهي أمر من يراعيها حق رعايتها أن يقول ((وجعلت قُرّة عيني في الصلاة)) (4)، أيضاً: فإنها تنوِّر بين يدي مراعيها يوم القيامة في تلك الظلم، وأيضاً: تنوِّر وجه المصلي يوم القيامة، فيكون ذا غُرّةٍ وتحجيل)) (5).

وقال الإمام النووي: ((وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((والصلاة نور)) فمعناه: أنها تمنع صاحبها من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهدي إلى الصواب، كما أن النور يُستضاء به، وقيل: معناه: أن يكون أجرها نوراً لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لإشراق أنوار المعارف، وانشراح القلب،

(1) انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1183، وفتح الباري، لابن حجر، 11/ 118.

(2)

سورة النور، الآية:35.

(3)

أخرجه مسلم، في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، 1/ 203، برقم 223.

(4)

أخرجه الإمام أحمد في المسند، 3/ 128، 199، 285، والنسائي في كتاب عشرة النساء، باب: حب النساء، 7/ 62.

(5)

المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 1/ 476.

ص: 54

ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى الله تعالى، بظاهره وباطنه، وقد قال الله تعالى:{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (1).

وقيل: معناه: أنها تكون نوراً ظاهراً على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضاً على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلِّ، والله أعلم)) (2)، قلت: النور يشمل ذلك كله في كل ما ذُكِرَ والله أعلم.

3 -

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً (3) من فوقه، فرفع رأسه فقال:((هذا باب من السماء فُتح اليوم لم يُفتَح قطّ إلاّ اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أو تيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلاّ أُعطيته)) (4).

وقد بيّن الإمام القرطبي رحمه الله معنى ذلك: وأن قول الملك: ((أبشر بنورين)) أي أبشر بأمرين عظيمين، نيِّرين، تنير لقارئهما، وتنوِّره، وخُصّت الفاتحة بهذا؛ لأنها تضمّنت جملة معانٍ: الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلى الجملة فهي آخذة بأصول القواعد الدينية، والمعاقد المعارفية، وخُصّت خواتيم سورة البقرة بذلك، لِمَا تضمّنته من الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه رضي الله عنهم، بجميل انقيادهم لمقتضاها، وتسليمهم

(1) سورة البقرة، الآية:45.

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم، 3/ 103.

(3)

نقيضاً: أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح. شرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 339.

(4)

مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، 1/ 554، برقم 806.

ص: 55

لمعناها، وابتهالهم إلى الله، ورجوعهم إليه في جميع أمورهم، ولِمَا حصل فيها من إجابة دعواتهم، بعد أن علموها، فخفَّف عنهم، وغفر لهم، ونُصِروا، وفيها غير ذلك مما يطول تتبُّعه)) (1).

4 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً على أهلها، وإن الله عز وجل ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم)) (2).

قال الطيبي رحمه الله: ((أما قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه القبور مملوءةٌ ظلمةً)) إلى آخره، فكالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة له، لينوَّر قبره

)) (3).

5 -

وعن أمِّ سلمة رضي الله عنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة عند إغماضه: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)) (4)، وهذا دعاء عظيم لأبي سلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له برفع الدرجة: أي: ارفع درجته واجعله في زمرة الذين هديتهم للإسلام، وكن الخليفة على من يتركه من عقبه: كأهله وأولاده، فاحفظ أمورهم ومصالحهم، ولا تكِلْهم إلى غيرك؛ فإنهم عقبة: أي الذين تأخروا عنه، ويعني بالغابرين: الباقين، كما قال الله عز وجل: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَاّ امْرَأَتَهُ

(1) انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 434.

(2)

صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 2/ 659، برقم 956.

(3)

شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1395، وانظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 4/ 17.

(4)

مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حضر، 2/ 634، برقم 920.

ص: 56

كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (1): أي من الباقين في العذاب، وغبر من الأضداد، يأتي بمعنى بقي، وبمعنى ذهب (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وافسح له في قبره، ونوِّر له فيه)) أي وسّع في قبره، وادفع عنه ظلمة القبر)) (3).

6 -

وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماءٍ يُدعى خُمّاً بين مكة والمدينة، فَحِمَد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثم قال:((أمّا بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله: فيه الهدى والنور [وهو حبل الله المتين، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة] فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)) فحث على كتاب الله ورغّب فيه .. )) الحديث (4).

قال الإمام النووي رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: ((هو حبل الله)) قيل: ((المراد بحبل الله: عهده، وقيل: السبب الموصل إلى رضاه، ورحمته، وقيل: هو نوره الذي يهدي به)) (5).

ولا شك أن العمل بكتاب الله يوصل إلى رحمته، ورضاه، وهدايته وتوفيقه، والله المستعان.

(1) سورة الأعراف، الآية:83.

(2)

انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 2/ 573، وشرح النووي على صحيح مسلم، 6/ 478، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 4/ 1374.

(3)

انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري، 4/ 87.

(4)

مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، 4/ 1873، برقم 2408.

(5)

شرح النووي على صحيح مسلم، 15/ 191.

ص: 57

7 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في فتنة القبر، وإجابة المسلم على الأسئلة:((ثم يُفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم يُنوّر له فيه)) (1)، والمعنى أنه يُوسَّع له في قبره سبعون ذراعاً في الطول وسبعون ذراعاً في العرض، ثم يجعل له النور في هذا القبر الذي وُسِّع له (2).

8 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نتف الشيب وقال: ((إنه نور المسلم)) (3).

9 -

وعن كعب بن مُرّة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة)) (4).

10 -

وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من شاب

(1) الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر 4/ 274، برقم 1071، وابن أبي عاصم، في كتاب السنة، 2/ 416، برقم 864، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 2/ 369، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243.

(2)

انظر: تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، 4/ 683.

(3)

الترمذي، كتاب الأدب، باب ما جاء في النهي عن نتف الشيب، 5/ 125، برقم 2821، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب نتف الشيب، 2/ 1226، برقم 3721، وأحمد في المسند، 2/ 179، 207، 210، 212،وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي،2/ 369،وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243.

(4)

الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، 4/ 172، برقم 1634، والنسائي، في كتاب الزينة، باب النهي عن نتف الشيب، 8/ 136، برقم 5068، وابن حبان في صحيحه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، 7/ 251، برقم 2983، وأبو داود بنحوه، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، في كتاب الترجّل، بابٌ: في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202، وأحمد في المسند، 4/ 413، 236، 6/ 20، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 248، برقم 1244، وفي صحيح سنن الترمذي، 2/ 126.

ص: 58

شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة)) (1).

11 -

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجلٌ شيبةً في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورُفِع بها درجة)) (2).

12 -

وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: ((لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نورٌ يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام، كُتب له بها حسنة، وحُطّ عنه بها خطيئة، ورُفِع له بها درجة)) (3).

وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في هذا المعنى عن أكثر من عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأحاديث الخمسة السابقة تبيّن فضل الشيب، وأنه لا يُنتف؛ لأنه نور المسلم، ووقاره؛ لأن الوقار يمنع الشخص عن الغرور والطرب، ويميل إلى الطاعة والتوبة، وتنكسر نفسه عن الشهوات، فيصير ذلك نوراً يسعى بين يديه في ظلمات الحشر إلى أن يدخله الجنة (4).

(1) الترمذي، كتاب فضائل الجهاد، باب ما جاء في فضل من شاب شيبة في سبيل الله، 4/ 172، برقم 1635، وقال:((هذا حديث حسن صحيح))، وأخرجه ابن حبان من حديث أبي نجيح السلمي، 7/ 252، برقم 2984.

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 5/ 205، برقم 6387، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1243. ورواه أبو داود بنحوه، في كتاب الترجل، باب في نتف الشيب، 4/ 85، برقم 4202.

(3)

ابن حبان في صحيحه 7/ 253، برقم 2985، وحسن إسناده شعيب الأرناؤوط، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 247، برقم 1243.

(4)

انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2934.

ص: 59

فالشيب يصير نفسه نوراً يهتدي به صاحبه، ويسعى بين يديه يوم القيامة، والشيب وإن لم يكن من كسب العبد، لكنه إذا كان بسبب من نحو جهاد أو خوف من الله ينزل منزلة سعيه، فيُكره نتف الشيب من نحو: لحية، وشارب، وعنفقة، وحاجب، قال النووي: لو قيل يحرم لم يبعد (1).

ومن غيّر بالسواد لا يحصل على هذا النور إلاّ أن يتوب أو يعفو الله عنه (2).

وهذا الشعر الأبيض يؤدي إلى نور الأعمال الصالحة، فيصير نوراً في قبر المسلم، ويسعى بين يديه في ظلمات حشره (3)، ويحصل هذا الفضل بشعرة واحدة بيضاء، تكون ضياء ومخلصاً عن ظلمات الموقف، وشدائده (4).

وهذا الفضل في هذه الأحاديث يرغِّب المسلم في ترك نتف الشيب، وأعظم من النتف التغيير بالسواد، فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وحذّر منه، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((غيِّروا هذا بشيء واجتنبوا السواد)) (5)، والثغامة نبت أبيض الزهر، والثمر، شُبِّه بياض الشيب به، وقيل: شجرة تبيضّ كأنها الثلجة، أو كأنها الملح (6).

(1) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي، 6/ 156.

(2)

انظر: المرجع السابق، 6/ 157.

(3)

انظر: مرقاة المفاتيح، للملا علي القاري، 8/ 235.

(4)

انظر: تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري، 5/ 261.

(5)

صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، 3/ 1663، برقم 4212.

(6)

المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418.

ص: 60

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((غيّروا هذا بشيء)) أمرٌ بتغيير الشيب، قال به جماعة من: الخلفاء، والصحابة، لكن لم يَصِر أحد إلى أنه للوجوب، وإنما هو مستحبٌّ (1).

قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((أما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخضب فليس بصحيح، بل قد صحّ عنه أنه خضب بالحنّاء، وبالصّفرة)) (2)، ولعل القرطبي رحمه الله يشير إلى حديث أبي رمثة رضي الله عنه حيث قال:((أتيت أنا وأبي النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد لطّخ لحيته بالحنّاء)) (3).

وعنه رضي الله عنه قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ورأيته قد لطّخ لحيته بالصّفرة)) (4).

وعن زيد بن أسلم قال: ((رأيت ابن عمر يُصفِّر لحيته، فقلت:

يا أبا عبد الرحمن، تُصفِّر لحيتك بالخلوق؛ قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصفِّر بها لحيته ولم يكن شيء من الصبغ أحب إليه منها)) (5)، وهذا من

(1) المرجع السابق، 5/ 418، وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز ابن باز رحمه الله أثناء تقريره على الحديث رقم 5073، من سنن النسائي في: 21/ 8/1418هـ يقول: ((الخضاب سنة مؤكدة وليس واجباً)).

(2)

المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، للقرطبي، 5/ 418.

(3)

النسائي، في كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5083، وأبو داود، كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4206، وصححه الألباني في صحيح النسائي،

3/ 1044.

(4)

النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 140، برقم 5084، وأبو داود في كتاب الترجل، باب في الخضاب، 4/ 86، برقم 4208، وصححه الألباني في صحيح النسائي،

3/ 1044، وفي مختصر الشمائل المحمدية، ص40 - 41، برقم 36 - 37.

(5)

النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالصفرة، 8/ 140، برقم 1085، وصححه الألباني، في صحيح سنن النسائي، 3/ 1044.

ص: 61

فعله صلى الله عليه وسلم، أما من قوله فقد ثبت عنه أحاديث:

فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحسن ما غيرتم به الشيب: الحناءُ والكتم)) (1).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل قد خضب بالحناء فقال: ((ما أحسن هذا؟))، قال: فمر آخر قد خضب بالحناء والكتم فقال: ((هذا أحسن من هذا))، قال: فمر آخر قد خضب بالصفرة فقال: ((هذا أحسن من هذا كله)) (2).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية، ويصفِّر لحيته بالورس والزعفران، وكان ابن عمر يفعله)) (3).

وسمعت شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول: ((وقد جاء التصفير عن ابن عمر في الصحيحين، ويستثنى من التزعفر: ما كان في اللحية، أو الشارب، أو الرأس)) (4)، وسمعته أيضاً

(1) النسائي، كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم، 8/ 139، برقم 5077 - 5080، ومن حديث عبد الله بن بريدة، برقم 5081 - 5082، وأخرجه أبو داود، كتاب الترجل، باب الخضاب، 4/ 85، برقم 4205.

(2)

أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4211، وقال العلامة الألباني في تحقيقه لمشكاة المصابيح:((وإسناده جيد))، 2/ 1266.

(3)

النسائي، كتاب الزينة، باب تصفير اللحية بالورس والزعفران، 8/ 186، برقم 5244، وأبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب الصفرة، 4/ 86، برقم 4210، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 3/ 1065، برقم 4839، وصحيح سنن أبي داود، 2/ 792.

(4)

سمعته من سماحته، يوم الأحد بعد المغرب، في جامع الأميرة سارة أثناء شرحه لحديث رقم 5244، من سنن النسائي، بتاريخ 10/ 11/1418هـ.

ص: 62

يقول: ((والسنة الخضاب بالحناء أو بالصفرة، أو بالحناء والكتم)) (1).

قال الإمام القرطبي رحمه الله: ((وأما الصباغ بالحناء بحتاً، وبالحناء والكتم، فلا ينبغي أن يختلف فيه؛ لصحة الأحاديث بذلك، غير أنه قد قال بعض العلماء: إن الأمر في ذلك محمول على حالين:

* أحدهما: عادة البلد، فمن كانت عادة موضعه ترك الصبغ فخروجه عن المعتاد شهرة تَقْبُح وتكره.

* وثانيهما: اختلاف حال الناس في شيبهم، فربَّ شيبة نقية هي أجمل بيضاء منها مصبوغة، وبالعكس فمن قبَّحه الخضاب اجتنبه، ومن حسنه استعمله، وللخضاب فائدتان:

إحداهما: تنظيف الشعر مما يتعلق به من الغبار والدخان.

والأخرى: مخالفة أهل الكتاب (2)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم)) (3)، ثم قال رحمه الله:((ولكن هذا الصباغ بغير السواد، تمسكاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((واجتنبوا السواد))، والله أعلم (4)، وقال رحمه الله:((وقوله صلى الله عليه وسلم: ((واجتنبوا السواد)) أمر باجتناب السواد، وكرهه جماعة

(1) سمعته من سماحته أثناء شرحه لحديث رقم 5085، من سنن النسائي في المكان السابق، بتاريخ 24/ 8/1418هـ.

(2)

انظر: المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420.

(3)

متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 4/ 175، برقم 3462، ومسلم، كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ، 3/ 6316، برقم 2103.

(4)

المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 420.

ص: 63

منهم: علي بن أبي طالب، ومالك، وهو الظاهر من هذا الحديث، وقد عُلِّلَ ذلك بأنه من باب التدليس على النساء؛ وبأنه سواد في الوجه، فيكره؛ لأنه تشبه بسيما أهل النار)) (1)، ثم ذكر رحمه الله جماعة كثيرة من السلف كانوا يخضبون بالسواد، وقال:((ولا أدري عذر هؤلاء عن حديث أبي قحافة ما هو؟ فأقل درجاته الكراهة كما ذهب إليه مالك)) (2).

قلت: أما عذر السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد، فيحمل على أنه لم يبلغهم حديث النهي الصريح عن الصبغ بالسواد، والله أعلم. وقال الإمام النووي رحمه الله:((ومذهبنا استحباب خضاب الشيب للرجل والمرأة بصفرة، أو حمرة، ويحرم خضابه بالسواد على الأصح)) (3).

ويؤكد اختيار الإمام النووي ومن سلك مسلكه في تحريم الخضاب بالسواد ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة)) (4)، وسمعت سماحة العلامة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله يقول عن هذا الحديث: ((إسناده جيد، وهذا يدل على

(1) المرجع السابق، 5/ 419.

(2)

المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 5/ 419.

(3)

شرح النووي على صحيح مسلم، 14/ 325.

(4)

أبو داود، كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، 4/ 87، برقم 4212، والنسائي في كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد، 8/ 138، برقم 5075، وأحمد في المسند،

1/ 273، وقال ابن حجر في فتح الباري، 6/ 499:((إسناده قوي))، وصحح إسناده العلامة الألباني في غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، وقال: على شرط الشيخين، ص84.

ص: 64

تحريم تغيير الشيب بالسواد، ويقتضي أنه كبيرة؛ لأنه وعيد)) (1).

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كحواصل الحمام)) أي كصدور الحمام في الغالب؛ لأن صدور بعض الحمام ليست بسود (2).

ومما يدل على قُبح الخضاب بالسواد ما بيَّنه بعض السلف الذين كانوا يخضبون بالسواد حيث قيل: إنه قال:

ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل (3)

نُسَوِّدُ أعلاها وتأبى أصُولُها

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((والصواب أن الأحاديث في هذا الباب لا اختلاف بينها بوجه؛ فإن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير الشيب أمران:

أحدهما: نتفه.

والثاني: خضابه بالسواد

والذي أذن فيه: هو صبغه وتغييره بغير السواد: كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم

وأما الخضاب بالسواد فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب لِمَا تقدم، وقيل للإمام أحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله، وهذه المسألة من المسائل التي حلف عليها

ورخص فيه آخرون،

(1) سمعته منه أثناء شرحه لحديث رقم 5075، من سنن النسائي، في جامع الأميرة سارة بالبديعة، بعد مغرب يوم الأحد الموافق 21/ 8/1418هـ.

(2)

انظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح، 9/ 2933، ومرقاة المفاتيح، للملاّ علي القاري،

8/ 232.

(3)

شرح مشكل الآثار، للطحاوي، 9/ 314.

ص: 65

منهم أصحاب أبي حنيفة، وروي ذلك عن الحسن، والحسين، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن جعفر، وعقبه بن عامر، وفي ثبوته عنهم نظر، ولو ثبت فلا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنته أحق بالاتباع، ولو خالفها من خالفها)) (1).

ويستخلص من الأحاديث الواردة في الشيب وخضابه ما يأتي:

أولاً: الشيب نور المسلم في الدنيا والآخرة.

ثانياً: المنع من نتف الشيب ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: الشيب تُزاد به الحسنات.

رابعاً: الشيب تُرفع به الدرجات.

خامساً: الشيب تُحطّ به الخطايا.

سادساً: تحريم صبغ الشيب بالسواد.

سابعاً: صبغ الشيب بالحناء، أو الصفرة، أو الحناء والكتم سنة مؤكدة.

ثامناً: الحناء: لونه أحمر، والحناء والكتم: لونه بين السواد والحمرة.

تاسعاً: من صبغ الشيب بالسواد من السلف فلا دليل له من كتاب ولا سنة.

عاشراً: لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كائناً من كان.

الحادي عشر: الشيب له أسباب غير كبر السن، فقد يكون مبكراً؛ لخوف الله عز وجل، أو لغيره من الأسباب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت؟ قال: ((شيبتني هودٌ، والواقعة، والمرسلات،

(1) تهذيب ابن القيم المطبوع مع معالم السنن للخطابي، 6/ 104.

ص: 66

وعمّ يتساءلون، وإذا الشمس كوِّرت)) (1).

وعن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: قالوا: يا رسول الله، نراك قد شبت؟ قال:((شيبتني هودٌ وأخواتها)) (2)، والله عز وجل الموفق للصواب.

13 -

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ((كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَدْبُرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد صلى الله عليه وسلم قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم)) (3).

والمقصود بالنور الذي قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:هو القرآن العظيم؛ لأن فيه الهدى والنور، فمن عمل بما فيه كان على الصراط المستقيم وعلى الحق المبين (4).

14 -

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) (5)، وهذا الحديث يبيّن أن الله عز وجل خلق الخلق في ظلمة، وألقى عليهم شيئاً من نوره، فمن أصابه شيء من ذلك النور اهتدى إلى طريق

(1) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة الواقعة، 5/ 402، برقم 3297، وحسنه، وصححه الألباني مختصر شمائل الترمذي، ص40، برقم 34.

(2)

أخرجه الترمذي في الشمائل، وصححه الألباني في مختصر الشمائل، ص40، برقم 35.

(3)

البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، 8/ 160، برقم 7219.

(4)

انظر: فتح الباري، لابن حجر، 13/ 209، وإرشاد الساري، للقسطلاني، 15/ 180.

(5)

الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، 5/ 26، برقم 2642، وقال:((هذا حديث حسن))، وأخرجه أحمد، 2/ 176، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 30، وصحح إسناده العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1076.

ص: 67