الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الثاني
العلو - الاستواء - الحد - الجسم - الحيز - الجهة
حققه
د. رشيد حسن محمد علي
فصل المشهور بين أهل السنة والجماعة أنه لايقال في صفات الله عز وجل كيف ولا في أفعاله لِمَ وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن السلف والأئمة نفوا علمنا الآن بكيفيته كقول مالك رحمه الله الاستواء معلوم والكيف مجهول لم
ينفوا أن يكون في نفس الأمر له حقيقة يعلمها هو وتكلمنا على إمكان العلم بها عند رؤيته في الآخرة أو غير ذلك لكنْ كثير من الجهمية من المعتزلة وغيرهم ينفون أن يكون
له ماهية وحقيقة وراء ماعلموه وكذلك إذا قلنا لايقال في
أفعاله لِمَ فإنما نفينا السؤال بـ لِمَ وذلك ينفي علم السؤال بالحكمة الغائية المقصودة بالفعل التي تصلح أن تكون جواب لِمَ وهي المقرونة في قول المجيب لكذا وهي التي تُنصب على المفعول له إذا حذفت اللام بأن تكون العلة مصدرًا فعلا لفاعل الفعل المعلل ومقارنة له في الزمان كما تقول فعلت هذا ابتغاء وجه الله ونحو ذلك لكن اللام تقرن بها بنفس الحكمة المقصودة ونفس قصدها وطلبها فيقال فعلت هذا لله ولابتغاء وجه الله وأما مع حذف اللام فلا يكون المنصوب إلا مايقوم بالفاعل من الباعث له كالإرادة والكراهة وما يستلزم ذلك كما يقال قعد هن الحرب جبنًا لأن الجبن يتضمن البغض والكراهة وكما يقال وأغفر عوراء الكريم ادخاره وأعرض عن ذم اللئيم تكرما
فإن ادخاره يتضمن قصد الانتفاع به والتكرم يتضمن قصد صون النفس عن التأذي بشتمه لكن قوله لايقال في أفعاله لم لاينفي ثبوت الحكمة التي تكون مقصودة له في نفس الأمر ولاكونه مريدًا لها قاصدًا وإن كان ذلك ينفيه من ينفيه من نفاة التعليل ومثبتيه ولهذا قال بعض علماء السلف إن الله علم علما علمه العباد وعلم علمًا لم يعلمه العباد وإن القَدَر من العلم الذي لم يعلمه العباد ورووا في قصة سؤال موسى وعيسى وعزير ربنا تبارك وتعالى عن سر القَدَر وأنه لو أراد أن يطاع لأطيع وقد أمر
أن يطاع وهو مع ذلك يعصى ومضمون السؤال لو أردت هذا لكان واقعًا لأنك قادر عليه فما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ثم قد أمرت به والأمر يستلزم محبته وطلبه فهلا كان المحبوب المطلوب قد أريد وقوعه فأوحى الله تعالى إليهم أن هذا سري فلا تسألوني عن سري وأن المسيح قال للحواريين القدر سر الله فلا تكلفوه والمقصود التنبيه على أن العقول تعجز عن إدراك كنه الغاية المقصودة بالأفعال كما تعجز عن كنه إدراك حقيقة الفاعل ولكن نفي الشيء غير نفي العلم به ونفي هذه الحكمة المقصودة لظن أن ثبوتها يستلزم قيام الحوادث المستلزمة حدوثه به واستكماله بغيره المقتضي حاجته ونحو ذلك هو نظير نفي صفاته الثابتة بالفطرة والشرع والعقل لظن أن ثبوتها
يستلزم حدوثه أو يستلزم افتقاره إلى غيره فما يتوهمه النفاة المكذبين من المتفلسفة والمتكلمة من أن ثبوت الصفات يستلزم حدوثًا وحاجة وأن ثبوت الأفعال أو حكمها المقصودة يستلزم حدوثًا وحاجة هو من جنس واحد وكل
منهم يلزمه فيما أثبته أعظم مما فر منه هو لم يثبت إلا هذا الموجود المحسوس بلا صانع أصلا بل كلما كان أقل إثباتًا كانت المحذورات فيما يثبته أعظم وأعظم لأن الإثبات إذا قل قلت صفات الكمال له وكان مايلزمه من النقائص وما يتوهم أنه مستلزم للحدوث والفقر أعظم وأعظم فيلزمه اجتماع هذه الأمور مع نقيضها من القدم والوجوب فليتدبر المؤمن العلم بهذا الأصل الجامع العظيم فإنه من أعظم مايهدي به الله تعالى إلى الصراط المستقيم ثم قالوا في جواب ماذكروه من إبطال الغرض قوله في الوجه الثاني في إبطال هذا القسم إن كل من فعل فعلا لغرض فهو أخس من ذلك الغرض قلنا القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا غير علمية بل خطابية فلا يمكن بناء القواعد العلمية عليها على أننا
ننقض هذه القضية بالراعي فإنه ليس أخس من الغنم وبالنبي فلأن أمته ليسوا بأشرف منه فهكذا ههنا وهذا جواب ضعيف وقد تعلمه من ابن سينا فإنه هو القائل في الشفاء إن القضايا المبنية على الشرف والخسة قضايا خطابية وليس الأمر كذلك فإنه من المعلوم
ببديهة العقول أن الشيء الذي لم يقصد به إلا أن يكون وسيلة وطريقًا إلى غيره فالذي هو المقصود بذاته يجب أن يكون أكمل في الوجود من الذي ليس يراد منه إلا أن يكون وسيلة إلى غيره والمعنى بالشرف كمال الوجود وبالخسة نقص الوجود وهذا أمر معقول بل على مثل ذلك تنبني عامة البراهين الصحيحة بل معرفة الفطرة بمثل هذه القضية أبين عندها من كثير من القضايا البديهية لأنه يجتمع فيها العلم والحب فتبقى معلومة بالعقل موجودة مذوقة بوجد القلب وذوقه وإحساسه فتكون من القضايا العقلية المحسوسة بالحس الباطن وإلا فهل يقول عاقل إن الموجود الذي يكون وجوده أكمل من غيره لايقصد به إلا أن يكون وسيلة إلى الموجود الذي هو دونه وأنقص منه وأما ماذكره من التمثيل بالنبي والراعي فيقال منشأ الغلط في مثل هذا هو اشتباه المقصود بالقصد الأول بالمقصود بالقصد الثاني وذلك أن الراعي ليس مقصوده الأول برعاية الغنم مجرد نفعها بدون غرض يحصل له هو من ذلك بل إنما
يقصد أولا ماكان مصلحة له ونفعًا وكمالا إما تحصيل الأجرة وهو المال الذي ينتفع به ويقضي به حاجاته أو يتشرف به وإما رحمة للغنم وإحسانا إليها ليدفع عن نفسه الألم الحاصل إذا كان الحيوان محتاجًا متألمًا وهو لايزيل ألمه أو فيحصل له الراحة والعافية من هذا الألم أو يحصل له تنعم وفرح وسرور بالإحسان إليها أو أن تكون له أو لصديقه أو لقريبه فيقصد برعايته ما يحصل له من المنفعة والفرح والسرور وزوال الضرر بمثل ذلك وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بالإحسان إلى الأمة إنما يقصد مايناله من التقرب إلى الله تعالى وعبادته والإحسان إلى عباده من أنواع المطالب والمقاصد التي هي أشرف وأعظم من فعله بهم فمطلوبه ومقصوده أعظم وأشرف من فعله وربه الذي يعبده ويبتغي وجهه أعظم من العباد الذين ينفعهم فأما أن تكون الغاية المقصودة له بذاتها هي مجرد نفعهم من غير مقصود آخر يكون أشرف من هذا فهذا إنما يقوله جاهل شديد الجهل بالمقاصد والنيات وقد أجاب طائفة ثالثة من أهل الكلام من الكرامية
وغيرهم كابن الهيصم في كتابه المسمى بجمل الكلام وكالقاضي أبي يعلى الصغير في كتابه المصنف في أصول
الدين عن سؤال الحكمة بجواب خير من جواب هذين كما أن هؤلاء أيضًا قالوا في سبب الحوادث خيرًا من قول هذين وإن كان الجميع مقصرين في الأمرين جميعًا وقالوا العلة فيه استدعاء الحمد والتعظيم من عبيده وذلك أن الحكمة تستحسن استدعاء الحمد من مستحقه واستدعاء التعظيم ممن هو أهله كما أنه يستحسن طلب المحامد ممن عدمها ألا ترى أنه من عدم المعاني التي يستحق عليها الحمد والتعظيم كيف يحسن في الحكمة أن يبذل الوسع في طلبها ولذلك حسن منا طلب العلوم ومكارم الأخلاق فأما الله تعالى فقد كان كامل العلم والقدرة والجود والكرم فخلق العالم وأسكنه أهل التمييز يستدعي بذلك حمدهم له وتعظيمهم إياه وعلى ذلك يخلد من يخلده منهم في الجنة أبد الآبدين قال الله تعالى لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {70} [القصص 70] قالوا والدليل على أن وجه حكمة الله في خلق هذا العالم أن يدل على صفاته التي توجب تعظيمه وأن يستدعي الحمد له أن هذا الوجه من القصد حسن مقبول عند كل عاقل وليست المنافع كذلك من قبل أن المتقدمين والمتأخرين قد اختلفوا في
المنافع هل هي فاضلة في أنفسها أم لا وذلك يدل على أن المنفعة ليست صريح الحكمة والحسن لاشتباه ذلك على من عرفها وثبت أن صريح الحكمة والحسن استدعاء الحمد والتعظيم من مستحقها إذ كان هذا الوجه في تشبيه على ذي عقل قالوا وقد قال الله تعالى جل جلاله فيما وصف أهل الجنة لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ [القصص 70] وقال وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {10} [يونس 10] وإذ قد جعل حمدهم إياه آخر مايحشرهم إليه بكلية هذا التدبير ثبت أنه الغرض من خلق الكل وقال الله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} [الذاريات 56] يعني ليعبده منهم البعض فتكون عبادتهم وتعظيمهم إياه عوضًا عن جملة ماخلق ممن عبده وممن لم يعبده وذلك أن من لم يعبد صار سببًا لعبادة من عبد ولذلك صح أن تكون عبادة من عبده غرضًا من كلية هذا التدبير قالوا وفي تكليف من عمل أنه لايطيع لم يكن غرضه من تكليفه إياه أن يتأدى إلى حسن حال يخصه في عاقبته بل
أجرى تكليفه ذلك إلى غرض صحيح ولا يجب أن يكون غرضه في تكليف كل واحد من المكلفين مايعود إلى حسن حال يخصه وماينتفع به في عاقبة أمره بل الذي يجب أن يكون غرضه من ذلك أمرًا هو صحيح في الحكمة كما أنه خلق الجماد ولم يكن غرضه من خلقه أن يتأدى به خلقه إياه إلى منفعة تخصه في نفسه وإنما خلقه لغرض آخر وذلك أنه أظهر بتكليف من هلك ضربًا من تدبيره واستدعى بذلك محامد من علم أنهم يعتبرون به ونفع بتكليفه غيره ممن علم أنهم ينتفعون بذلك وهو إنما هلك بسوء اختياره فكان تكليفه حسنًا إذْ أن أمره له بالإيمان والطاعة والشيء الذي كلف فعله حسن لأنه كلفه أن يؤمن ويطيع والذي عرض له أيضًا حسن لأنه عرض لنعيم الجنة فأما الغرض من تكليفه فلم يكن حسن حال يخصه في عاقبته إذ قد علم أنه يهلك بسوء اختياره وإنما كان الغرض منه صلاح ضرب من التدبير علمه فيه ولولا ذلك لم يكن ليكلفه قلت وليس المقصود هنا بيان مايجب أن يقال في حكمة الله تعالى ومشيئته ورحمته وما يستحقه من الصفات والأفعال إذ لكل مقام مقال
ولكن الغرض بيان ممانعة الجهمية والدهرية وعجز كل طائفة عن تصحيح قولها لاشتراك الطائفتين في جحد أصول فطرية ضرورية جاءت الرسل بكمالها وتمامها وشهدت بها الأقيسة الصحيحة وأن الجهمية عاجزون عن الجواب عن شبه الدهرية على أصولهم وأن الدهرية عن الجواب عن حجج الجهمية على أصول أنفسهم أعجز وأن حجة كل واحدة من الطائفتين باطلة على أصل نفسه كما هي باطلة على أصل خصمه فإذا كانت حججهم باطلة على الأصلين كما أن ذلك أيضًا باطل على الأصول الصحيحة ظهر مع بطلان أصولهم عظم تناقضهم من كل وجه
وقد تقدم أن هذه الحجة حجة الحكمة والغرض للفعل احتج بها الدهرية وذكرنا أنهم يعارضون بها على كل قول يقولونه فتبين أن الذي يلزمهم أعظم مما فروا منه ونقول قد تبين أنهم معترفون بما هو مشهود معلوم من ظهور الحكمة التي في العالم التي يسمونها العناية والفلاسفة من أعلم الناس بهذا وأكثر الناس كلاما فيما يوجد في المخلوقات من المنافع والمقاصد والحكم والموافقة للإنسان وغيره ومايوجد من هذه الحكمة في بدن الإنسان وغيره سواء كانوا ناظرين في العلم الطبيعي وفروعه أو علم
الهيئة ونحوه من الرياضي أو العلم الإلهي وأجل
القوم الإلهيون وقد تقدم ماذكر من اعترافهم بأن هذه الموافقة ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد ولاريب أن الاعتراف بهذا ضروري كالاعتراف بأن المحدث لابد له من محدث والممكن لابد له من مرجح فكما أن هناك مقدمتين إحداهما أن هنا حوادث مشهودة والحادث لابد له من محدث والأولى حسية والثانية عقلية بديهية ضرورية وكذلك أن ها هنا ممكنات والممكن لابد له من مرجح واجب فكذلك ها هنا مقدمتان إحداهما أن هنا حكمًا ومنافع مطلوبة والثانية أنه لابد لذلك من فاعل قاصد مريد وهما مقدمتان ضروريتان الأولى حسية والثانية عقلية فإن الإحساس بالانتفاع كالإحساس بالحدوث وإن كان في تفصيل ذلك مايعلم بالقياس أو الخبر ثم هذه الحكم قد يعلم حدوثها وقد يعلم إمكانها
كالأسباب وأيضًا فإنه يقال هذا الموجود المحسوس يستلزم الواجب القديم فإن كل موجود إما قديم واجب بنفسه وإما ممكن أو محدث والممكن والمحدث يستلزم القديم الواجب فثبت الموجود الواجب بنفسه فكذلك يقال هذه المقاصد المحسوسة تستلزم وجود مقصود لنفسه لأن هذه المقصودات إما أن تكون مقصودة لنفسها أو لغيرها والمقصود لغيره يستلزم وجود المقصود لنفسه فثبت أنه لابد من مقصود لنفسه على التقديرين كما ثبت أنه لابد من موجود لنفسه على التقديرين ثم هذا يدل على وجود المريد القاصد الفاعل لأجل هذه المقصودات لغيرها ولنفسها وإذا تقرر هذا تبين تناقض الفلاسفة وفساد مذهبهم في حجة
الحكمة والغرض وحجة السبب الحادث وهما جماع الكلام وذلك أنهم لما قالوا في حجة الغرض إذا أحدثه كان فاعلا بالاختيار وذلك محال لما تقدم من الوجهين أحدهما أن ذلك يستلزم إما استكمال بغيره وإما العبث ولما في ذلك من المحذور على تقدير جواز القبائح عليه وعدم جوازها فيقال لهم أنتم معترفون بالاختيار كما تقدم التصريح عنكم بأن هذه الحكم ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد له وهذا موجود في عامة كتب الفلاسفة وأعظمهم قدرًا هم الإلهيون المشاؤون وهم أعظم الناس تصريحًا بذلك وكذلك الطبائعيون حتى محمد بن زكريا الرازي وأمثاله
ثم يقال ثبوت القصد والاختيار كثبوت الواجب القديم كما تقدم بيانه فقد ثبت بالعلوم الضرورية وبالمقاييس البرهانية وبالاتفاق وجود الفاعل القاصد لهذه الحكم المريد لها كما ثبت كذلك وجود الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فالقدح في ثبوت الفاعل المختار كالقدح في ثبوت
الموجود القديم الواجب بنفسه وهذا إنما يمكن بإنكار وجود هذه الموجودات المحسوسة وهذا في غاية البيان والإحكام والإتقان يقال لهم حينئذ فهذا القصد والإرادة يستلزم ما ذكرتموه سواء بسواء فما كان جوابكم عن ذلك فهو جواب لمن قال بحدوث العالم سواءً وأما في مسألة السبب الحادث إذا ثبت أنه فاعل بالقصد والإرادة وأن له عناية بالمفعولات لزمكم كل ما ألزمتموه لغيركم فإن ابن رشد الحفيد قال في إلزامه للمتكلمين وأيضًا فإن الإرادة التي تتقدم المراد وتتعلق به بوقت مخصوص لابد أن يحدث فيها في وقت إيجاد المراد عزم على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت لأنه إن لم يكن في المريد في وقت الفعل حالة زائدة على ماكانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة
عدم الفعل لم يكن وجود ذلك الفعل في ذلك الوقت أولى من عدمه فيما تقدم فيقال لهم حينئذ يجب أن يتجدد له عزم في وقت حدوث هذه الحوادث وحكمها وحينئذ فالقول في حدوث ذلك العزم كالقول فيما طلبتموه من السبب الحادث للعالم وأيضًا فقد قلتم إذا كانت الإرادة قديمة لزم قدم المراد فلو كانت له إرادة قديمة لزم قدم الحوادث وفي الجملة فأنتم بين أمرين إما أن تنكروا القصد والإرادة وقد تبين أن ذلك كإنكار الموجود الواجب نقلا عنكم وإلزامًا لكم وإما أن تقروا بالقصد والإرادة فيبطل جميع مابنيتموه على لإنكار ذلك وجميع مايخالفون به أهل الملل إنما هو مبني على إنكار ذلك وإلا فمتى وقع الاعتراف بأن الصانع العالم فاعل مختار انهارت هذه الفلسفة كما ينهار ما أسس على شفا جرف هار فلاريب أن هذه الآية إشارة واعتبار لمثل حالهم فإنهم بنوا مذاهب تتخذها القلوب عقائد ومقاصد مقابلة لما جاء به المرسلون كـ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ
أَرَدْنَا إِلَاّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {107} لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ {108} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {109} لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {110} [التوبة 107-110] ومما يوضح ذلك أن القاضي أبا الوليد الفيلسوف ابن رشد قال في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وأما صفة الإرادة فظاهر اتصافه بها إذْ كان من شروط صدور الشيء عن الفاعل العالم أن يكون مريدًا له وكذلك من شرطه أن يكون قادرًا فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة
بإرادة قديمة فبدعة وشيء لايعلمه العلماء ولايقنع الجمهور أعني الذين بلغوا رتبة الجدل بل ينبغي أن يقال إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه كما قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {40} [النحل 40] فإنه ليس عند الجمهور كما قلنا شيء يضطرهم إلى أن يقولوا هو مريد للمحدثات بإرادة قديمة إلا ما توهمه المتكلمون من أن الذي تقوم به الحوادث حادث قلت وهذا الكلام كالصريح في تجويز قيام الحوادث بالرب وبالجملة فهو لازم لهم وهو يبطل القول بقدوم الأفلاك ويبين فساد كثير مما اعترض به هذا الفيلسوف على حجج المتكلمين فإنه إنما أطعمه فيمن رد عليهم نفيهم لهذا الأصل وقد تقدم أنه ما من طائفة من الطوائف وإن نفت هذا الأصل إلا وهي تلتزم به في مواضع أخر وأن القول به لازم لجميع الطوائف وذلك أن هذا الفيلسوف قال بعد أن اعترض على حجة الأعراض التي للمتكلمين بما بعضه حق وبعضه باطل والحق منه لايمنع من القول بحدوث هذه المخلوقات ثم قال
وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة التي استنبطها أبو المعالي في رسالته المعروفة بالنظامية ومبناها على مقدمتين
إحداهما أن العالم بجميع مافيه جائز أن يكون على مقابل ماهو عليه حتى يكون من الجائز مثلا أن يكون أصغر مما هو وأكبر مما هو أو بشكل آخر غير الشكل الذي عليه أو عدد أجسامه غير العدد التي هي عليه أو تكون حركة كل متحرك منها إلى جهة ضد الجهة التي يتحرك إليها حتى يمكن في الحجر أن يتحرك إلى فوق وفي النار إلى أسفل وفي الحركة الشرقية أن تكون غربية وفي الغربية أن تكون شرقية والمقدمة الثانية أن الجائز محدث وله محدث أي فاعل محدث صيره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر فأما المقدمة الأولى فهي خطبية في بادئ الرأي وهي إما في
بعض أجزاء العالم فظاهر كذبها بنفسه مثل كون الإنسان موجودًا على خلقةٍ غير هذه الخلقة التي هو عليها وفي بعضه الأمر فيه مشكوك مثل كون الحركة الشرقية غربية والغربية شرقية إذ كان ذلك ليس معروفًا بنفسه إذ كان يمكن أن يكون لذلك علة غير بينة الوجود بنفسها أو تكون من العلل الخفية على الإنسان ويشبه أن يكون مايعرض للإنسان في أول الأمر عند النظر في هذه الأشياء شبيهًا بما يعرض لمن ينظر في أجزاء المصنوعات من غير أن يكون من أهل تلك الصنائع وذلك أن الذي هذا شأنه إن سبق إلى ظنه أن ذلك في تلك المصنوعات أو كلها يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه ويوجد عن ذلك المصنوع ذلك الفعل بعينه الذي صنع من أجله أعني غايته فلا يكون في ذلك المصنوع عند هذا موضع حكمة وأما الصانع والذي يشارك الصانع في شيء من علم ذلك فقد يرى أن الأمر بضد ذلك وأنه ليس في المصنوع شيء إلا واجب ضروري أو ليكون به المصنوع أتم وأفضل إن لم
يكن ضروريا فيه وهذا هو معنى الصناعة والظاهر أن المخلوقات شبيهة في هذا المعنى بالمصنوع فسبحان الخلاق العليم فهذه المقدمة من جهة أنها خطبية قد تصلح لإقناع الجميع ومن جهة أنها كاذبة ومبطلة لحكمة الصانع فليست تصلح لهم وإنما صارت مبطلة للحكمة لأن الحكمة ليست شيئًا أكثر من معرفة أسباب الشيء وإذا لم يكن للشيء أسباب ضرورية تقتضي وجوده على الصفة التي هو بها ذلك النوع موجود فليس ههنا معرفة يختص بها الحكيم الخالق دون غيره كما أنه لو لم يكن هنا أسباب ضرورية في وجود الأمور المصنوعة لم يكن هنالك صناعة أصلاً ولا حكمة تنسب إلى الصانع دون من ليس بصانع وأي حكمة كانت تكون في الإنسان لو كانت جميع أفعاله وأعماله يمكن أن تأتي بأي عضو اتفق أو بغير عضو حتى يكون الإبصار مثلا يتأتى بالأذن كما يتأتى بالعين والشم يتأتى بالعين كما يتأتى
بالأنف وهذا كله إبطال للحكمة وإبطال للمعنى الذي سمى به نفسه حكيما تعالى وتقدست أسماؤه عن ذلك الوجه الثالث أن يقال له ماذكرته من الأمور الضرورية في الأسباب إنما يجيء في حق من لم يخلقها دون من خلقها ومن هنا وقع الغلط حيث قستم أفعال الله بأفعالنا حتى عجزتموه عن غير ماخلقه وذلك أن الواحد منا إذا أراد أمرًا من أكل وشرب ولباس وسفر وغير ذلك فإن لم يحصل الأسباب التي بها جعل الله وجود المطلوب لم يحصل والأسباب خارجة عن قدرته وإنما يمكنه تأليف مايؤلفه أو نقله من موضع إلى موضع وأمثال ذلك من الأفعال دون إبداع الأعيان وأما الله سبحانه وتعالى وإن كان قد جعل بعض الأشياء سببًا كما جعل الأكل مثلاً سببًا للشبع وخلق الطعام يغذي الإنسان فهو الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسنا ومما لانعلم وإذا كان هو الخالق للجميع فيمتنع أن يكون مضطرًا إلى شيء من ذلك فإنه إذا قيل البصر لايمكن إلا بالعين والسمع لايمكن إلا بالأذن ونحو ذلك من الأسباب فيقال هو الذي جعل هذه الماهيات وأبدعها وجعل لها هذه الصفات التي يتوصل بها إلى هذه المقاصد وقد كان من الممكن أنه إذا غير
هذا التخليق أن يحصل إما فوق تلك الحكمة وإما ماهو دونها وإما مايشاركها في الجنس دون النوع وإن كان نفس الحكمة الحاصلة فهذا لايحصل إلا بمثله ألا ترى أن أهل الجنة يكونون في أبدانهم وقوامهم أعظم مما هم في الدنيا مع كون هذه الحكم هناك أكمل وأبلغ وهب أن المنازع لايصدق بمثل ذلك فمن المشهود أن أبصار الناس وأسماعهم وسائر قواهم تختلف في القوة والضعف فتكون المنافع الحاصلة لهم متفاوتة مع أن العلم الضروري بأن الذي له لو جعل لهذا والذي لهذا لو جعل في هذا لكان يفوت التعيين وذلك لايبطل أصل الحكمة وهكذا البلاد تختلف فيما خلق فيها من الأقوات والأنهار والمساكن فيختلف لذلك وجه الانتفاع مع أن أصل المقصود حاصل في الجميع وقد يحول الله ماببعض البلاد
إلى بعض مع أن نظام العالم قائم والتحويل من حال إلى حال موجود في العالم فلو كان مايوجد من الصفات والمقادير لغاية بمعنى أن وجود تلك الغاية ضروري أي لايمكن عدمه وإلالزم منه فساد عام لم يكن الأمر كذلك الوجه الرابع أن يقال قولك هذا ضروري الوجود في الأسباب والحكم ماذا تعني به أتعني به أنه واجب بنفسه بمعنى أنه يمتنع عدمه أم تعني به أنه إذا عدم عدمت الحكمة التي وجد لأجلها أما الأول فباطل قطعًا وهو لم يرده وأما الثاني فيقال لك هب أنه يلزم من عدمه عدم تلك الحكمة المعينة فتلك الحكمة المعينة ليست واجبة بنفسها بل هي أيضًا جائزة فالقول في كونها مخصوصة بالإرادة دون غيرها من الحكم لابد له من تخصيص وهو الإرادة بل تلك الحكمة لاتكون حكمة إلا أن تكون مقصودة وأنت تقول ذلك وتحتج به فصار ماجعلته ضروريًّا يدل على الإرادة المخصصة بطريق الأولى الوجه الخامس أن يقال هذه الأمور المستحيلة من حال إلى حال فحركاتها واستحالاتها إما أن تكون واجبة لذاتها
أن تكون كذلك وإما ألا تكون واجبة لذاتها بل إنما صارت كذلك بفاعل غيرها فإن قدر الأول قيل فإذا جاز فيما هو واجب بنفسه أن يتحرك حركة استحالة فيكون تارة عالمًا وتارة جاهلاً وتارة شبعان أو تارة جائعًا وتارة صحيحًا وتارة مريضًا كما يقول نحو ذلك القائلون بوحدة الوجود
كصاحب الفصوص وأمثاله ويدعون أن الكمال المطلق أن يكون واجبُ الوجود منعوتًا بكل نعت سواء كان محمودًا شرعًا
أو عرفًا وعقلاً أو مذمومًا شرعًا وعرفًا وعقلاً وأنه هو المتلذذ بكل مافي الوجود من الألم وأنه هو الذي يتجدد له العلم بعد أن لم يكن عالمًا وينشدون وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وينشدون وماأنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق وأمثال ذلك من كلامهم المعروف نثرًا أو نظمًا ويدعون أن هذا هو التحقيق الذي آمن إليه هرامس الدهور الأولية
والمعرفة التي رامت إفادتها الهداية النبوية وإن كان لهم في تفصيل هذا المذهب اضطراب قد بيناه في غير هذا الموضع فيقال إذا قدرنا هذه الموجودات المشهودة واجبة الوجود بنفسها أو هي الموجود الواجب بنفسه أو وجودها غير وجود واجب الوجود لم يكن حينئذ أن يقال في واجب الوجود إنه لايفعل بعد أن لم يكن فعل لأن ذلك يقتضي تجدد أمر ما وحدوث أمر منه ممتنع ولا أن يقال ذلك يقتضي ثبوت الصفات له أو تجزيه أو حلول الحوادث به ونحو ذلك وذلك ممتنع فإنه من جوز أن يكون واجب الوجود هو الموجود المستحيل من حال إلى حال وأنه تارة يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة وتارة حبا ثم شجرًا ثم ثمرًا وتارة حيًّا ثم
ميتًا لم يبق عنده شيء يمتنع على واجب الوجود إذ هو واصف له بكل صفات واقعة في الموجودات التي هي عند الناس مخلوقة ممكنة ومن جوز أن يوصف بكل مايوصف به كل مخلوق وممكن بطل حينئذ أن يقول هو علة قديمة لايجوز عليها التغير والاستحالة ونحو ذلك مما يصف به المشاؤون لواجب الوجود وهذا القول وإن كان فاسدًا من وجوه كثيرة فالمقصود هنا أن ندرجه في ضمن التقسيم وذلك أن الموجود الواجب بذاته أدنى خصائصه امتناع العدم عليه وهؤلاء يجعلون ما وجد وعدم من واجب الوجود لذاته وأصل ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق له وجود في الخارج فقالوا بوحدة الوجود أي الوجود الواحد ولم يعلموا أن الوجود المطلق لا وجود له في
الخارج وإنما الموجود في الخارج موجودان كل منهما متعين متميز عن الآخر وليس أحدهما هو الآخر بعينه ولا نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بل الذهن يأخذ وجودًا مطلقًا مشتركًا فيه فإذا قال بوحدة الوجود فإنما قال بوحدة هذا الوجود الذهني المطلق ومن قال الوجود زائد على الماهية قد يقول بأن وجود الماهيات من جنس واحد وهو قول فاسد لكنه لا يقول نفس وجود هذا هو نفس وجود هذا بعينه فإن هذا مخالفة للحس ولصريح العقل ولهذا يقول كبير هؤلاء الاتحادية في وقته التلمساني
ثبت عندنا في الكشف مايناقض صريح العقل وذلك أن الذي ينكشف لهم أنهم متوجهون بقلوبهم توجهًا لا يعرفون فيه الرب البائن عن خلقه حتى يقصدوه فيشهدون الوجود المطلق المشترك بين الموجودات وإن لم يوجد في الخارج لكن القلوب تحدده وتأخذه مطلقًا وفي كل معين منه حصة وهذا الوجود المطلق الساري في الكائنات وإن كان وجودًا فيها علي وجه التعيين والتخصيص وهو الذي يقال
له الكلي الطبيعي فذاك من أثر وجود الله تعالى ومن مخلوقاته ومصنوعاته فيظنون الوجود المخلوق هو الوجود الخالق وهم يشبهون من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس الذي على الأرض والحيطان والجبال فظنه نفس الشمس التي في السماء مع أن هذا الشعاع منفصل عن الشمس ومع أنه قائم بأجسام غيرها والمخلوقات وإن كان لها وجود وتحقق فهو مخلوق لله بائن منه وغايته إذا قدر أن الوجود زائد على الماهيات أن يكون الوجود في الموجودات كالشعاع في الأجسام المقابلة للشمس فصار هذا الضلال ناشئا من نقص العلم والإيمان بالرب المباين للمخلوقات ومن شهود القلب لما وجد عنه من الوجود الساري في الكائنات فظن هذا هذا وقوى إضلالهم ما سمعوه من كلام المتفلسفة ومن وافقهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق وأنه لاداخل العالم ولاخارجه ونحو ذلك من مقالات الجهمية فلم يشهدوا
ما يكون كذلك إلا وجود الكائنات بعينه ولهذا يقولون بقول الباطنية القرامطة وغالية
الفلاسفة فيقولون هو من حيث ذاتهُ لااسم له ولاصفة ولا يتميز ويقولون شهود الذات مافيه خطاب ولا لذة فيه ونحو ذلك لأنهم إنما يتكلمون على ماشهدوه من الموجود المطلق الذي لا يوجد في الخارج مطلقًا وذلك ليس له حقيقة متميزة حتى يكون لها اسم أو صفة أو خطاب والمقصود هنا أنه لابد من الاعتراف بوجود قديم واجب فمن جعل ذلك هذه الموجودات المحسوسة لم يكن عنده وصف يجب تنزيه الرب عنه أصلاً من الأمور الممكنة في الوجود وحينئذ فلا يمكن هذا أن ينكر مذهبًا من المذاهب فلا يقول حدوث العالم عن واجب الوجود ممتنع لأنه يستلزم تغيره ويفتقر إلى سبب حادث فإن قوله فيه من الإحالة أعظم من هذا وأما إذا قيل بأن هنا موجودًا قديمًا واجبًا غير هذه الأمور الحادثة المستحيلة في الجملة فمن المعلوم أن ماسوى
الموجود الواجب بنفسه ليس هو موجود واجب الوجود بنفسه فثبت بهذا أن في الوجود شيئين أحدهما موجود واجب الوجود بنفسه والثاني موجود لايجب وجوده بل يكون موجودًا تارة ومعدومًا أخرى فهذا الموجود إذا وجد لم يمكن أن يقال إنه واجب الوجود بنفسه بل هو واجب الوجود بغيره وهب أن الشاك يشك في بعض الأمور التي لم يعلم عدمها واستحالتها هل هي واجبة بنفسها أم لا أما التي يعلم أنها تعدم وتستحيل فلا يشك في أنها ليست بواجبة بنفسها بل بغيرها مادامت موجودة وهي ليست واجبة العدم إذا عدمت أيضًا وليس لها من ذاتها لا وجوب الوجود ولا وجوب العدم لكن ليس لها من ذاتها إلا العدم وفرق بين أن تكون معدومة وعدمها من ذاتها وبين أن تكون واجبة العدم بذاتها فإن هذه صفة الممتنع إذ العدم ليس بشيء وإذا ثبت أن في الموجودات ماهو ممكن وجائز حصل المقصود فإن تخصيص هذا بالوجود دون العدم لابد له من موجب فاعل ثم إذا كانت ذاته قابلة للعدم فصفاته ومقاديره بطريق الأولى فتخصيصه
بصفة وقدر وزمان ومكان لابد له من مخصِّص بإرادته ومشيئته وهذا هو مطلوب أبي المعالي وغيره من أهل النظر والعلم في هذا المقام وأما الذي جرأه عليهم فإن هؤلاء المتكلمين الذين لايقولون برعاية الحكمة في أفعال الله تعالى كأبي الحسن الأشعري وأصحابه ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب أحمد رحمه
الله وغيرهم كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني ونحوهم ممن يوافقهم على هذا وعلى نفي التحسين والتقبيح العقليين مطلقًا مع أن أكثر الذين يوافقونهم من هؤلاء وغيرهم يتناقضون فيثبتون الحكمة في أكثر ما يتكلمون فيه من مسائل الخلق والأمر وجمهور الفقهاء يقولون ذلك ويصرح بالتحسين والتقبيح العقليين طوائف من
الفقهاء كأكثر أصحاب أبي حنيفة وقد ينقلونه عنه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وكأبي نصر
السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وطوائف كثيرة من أهل الحديث والفقه والكلام
والمقصود هنا أن أبا المعالي وهؤلاء يقولون إن القديم خلق العالم بعد أن لم يكن خالقا له لا لعلة وغرض ولا لداع وباعث وخاطر يعتريه لأن ذلك زعموا مقصور على اجتلاب المنافع ودفع المضار وذلك مستحيل في صفته ومناظرتهم في هذا الباب مع الدهرية الطبيعية ومع القدرية الإرادية وقول
كلا الفريقين فيه من الباطل أكثر مما يلزم هؤلاء نفاة الحكمة وإن الذي في قول الدهرية الطبيعية أكثر وقال أبو المعالي وهؤلاء نفاة التعليل معنى قولنا إنه حكيم في أفعاله أنه مصيب في ذلك ومحكم لها لأنه مالك الأعيان فيتصرف تصرف مالك الأعيان في ملكه من غير اعتراض وقد يراد بالحكمة العلم بالمعنى بكونه حكيمًا في فعله أنه خلقه على الوجه الذي أراده وعلمه وحكم به ثم لم يكن علمه وإرادته علة لفعله ولا موجبا لقدم هذه الصفات وحدوث متعلقها ففسروا حكمته بمعنى أن يفعل ما يشاء بلا ذم أو بمعنى أنه عالم ولاريب أن هذا خلاف ما عليه الناس في معنى الحكمة والحكيم فإنهم لايجعلون الحكمة كون الحكيم له أن يفعل مايشاء وإن كان الله تعالى له أن يفعل مايشاء لكن الحكمة فعله بعض الأشياء دون بعض لاشتمال المفعول على مايصلح أن يكون مرادًا للحكيم وتفسيرُها بمعنى العلم بالمفعولات أبعد ومع هذا فقول أبي المعالي وأمثاله
في الفقه وأصوله يخالف هذا الأصل بخلاف غيره من المتكلمين الذين لم يكونوا في الفقه كبراعة أبي المعالي فإنه يقول بالعلل المناسبة للأحكام التي تفسر بالباعث والداعي وإثباتها ينافي هذا الأصل ثم قال أبو المعالي ونحن لاننكر أن يكون الله تعالى خلق من نفعه بخلقه ومن ضره بخلقه والذي ننكره من الغرض وننفيه عن القديم سبحانه قيام حادث بذاته كالإرادة والداعية والحاجة والمعتزلة يوافقونا على استحالة قيام الحوادث بذاته غير أنهم أثبتوا للقديم سبحانه أوصافًا متجددة وأحوالا من الإرادات التي يحدثها لا في محل والمحذور من قيام الحوادث بذات الباري تعالى تجدد الأوصاف عليه وقد ألزموه قال أبو المعالي فإن قال قائل القديم إنما خلق العالم إظهارًا لقدرته وإظهارًا لحجج وآيات يستدل بها على إلهيته ويعرف سبحانه وتعالى بنعوته وجلاله وصفاته ويعبد ويعظم ويستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ويستوجب المعرض عنها العذاب الأليم وهذا منصوص عليه في الكتاب العزيز في آي كثيرة لاتحصى من ذلك قوله تعالى وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الجاثية 22]
وقد قال تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ {27} [ص 27] وقوله تعالى عن المؤمنين القائلين رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} [آل عمران 191] وقال تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] قال وهذا نص صريح في أنه إنما خلق هذه الأشياء ليعرف بها ويعبد فقال في الجواب اللام في قوله خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا [الطلاق 12] ليست اللام لام علة وإنما هي لام صيرورة وتكون غاية أي ليعلم من في المعلوم أنه يعلم وليُجزى على ذلك ويعرض ويعاند من في المعلوم أنه يعاند ولِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى {31} [النجم 31] قلت لام الصيرورة إما أن تكون لمن لايريد الغاية وذلك إنما يكون لجهل الفاعل بالغاية كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً [القصص 8] وإما لعجزه عن دفعها وإن كان كارهًا لها كقول القائل
لدوا للموت وابنوا للخراب وللموت ما تلد الوالدة فأما العالم بالعاقبة القادر على وجودها ومنعها فلا يتصور أن تكون العاقبة إلا وهو عالم بها قادر عليها والموجود الذي يحدثه الله وهو عالم به قادر عليه لايكون إلا وهو مريد له بل أبو المعالي وسائر المثبتين يسلمون أنه لايكون شيء إلا بمشيئته فيكون مريداً للغاية ومريد الغاية التي للفعل لايكون اللام في حقه لام صيرورة إذ لام الصيرورة إنما يكون في حق من لا يريد فلو قال إرادته لهذه الغايات كإرادته للأفعال التي
هي سببها لكان أمثل مع أن هذا الكلام لايدفع الحجة من الآية فإن القرآن يشهد بأن الله خلق المخلوقات لحكمة لكن ليس هذا موضع تحقيق ذلك وإزالة الشبهة العارضة فيه قال الحفيد وأما القضية الثانية وهي القائلة إن الجائز محدث فهي مقدمة غير بينة بنفسها وقد اختلف فيها العلماء فأجاز أفلاطون أن يكون شيء جائزًا أزليًّا ومنعه أرسطاطاليس وهو مطلب عويص ولن تتبين حقيقته إلا
لأهل صناعة البرهان وهم العلماء الذين خصهم الله تعالى بعلمه وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته قلت قد قدم فيما مضى أن أفلاطون وشيعته يقولون إن الزمان متناه وأنهم يقولون العالم محدث أزلي لكون الزمان متناهيًا عندهم في الماضي وان أرسطو وفرقته يقولون الزمان غير متناه في الماضي كما لايتناهى في المستقبل ولايسمون العالم محدثًا وهذا يقتضي أن الأزلي في هذا الكلام المراد به الأبدي الذي لاآخر له وإلا تناقض الكلام وأفلاطون وشيعته يقولون هو محدث جائز لكنه مع ذلك يكون أبديًّا والجائز
يمكن أن يكون أبديًّا وأما أرسطو فيقول ماكان محدثًا عن عدم فلابد له من آخر فالجائز لايكون أبديًّا وهذا الذي قاله أرسطو هو الذي تقدم قول الحفيد له إن كل محدث فهو فاسد ضرورة فهذا قول معلم طائفته أرسطو وهو أيضًا قول طائفة ممن يقول بحدوث العالم كالجهم بن صفوان ومن يقول بوجوب فناء الحوادث وأما الذي حكاه عن أفلاطون فهو قول أهل الملل إن الله يخلق شيئًا للبقاء ويخلق شيئًا للفناء كما يشاء ومع هذا فالذي ينقلونه عن أرسطو أن النفوس الناطقة عنده محدثة فتكون جائزة وهي مع هذا أبدية باقية
فهذا يناقض ما أصله فهذا القدر الذي تبين يدل على أن ماحكاه عن هذين الفيلسوفين وأصحابهما اتفاق منهم على أن ماكان جائزًا فهو محدث فإذا كان قد ثبت أن العالم جائز ثبت أنه محدث ولهذا منع هو كونه جائزًا وغلّط ابن سينا في قوله إنه جائز بنفسه مع موافقته له على قدمه فأما الذي فهمه من كلامهم في هذا المقام واعترض به وهو أن يقول عن أفلاطن إن الجائز يكون أزليًّا فهذا لايناسب ماتقدم فإنه
إذا كان قول أفلاطن إن العالم لم يتقدمه زمان وعنده أن الزمان متناه في الماضي ثبت أنه ليس بأزلي فأي حقيقة لقوله الجائز لايكون أزليًّا أي قديمًا لامتنع أن يكون عنده شيء من الممكن بذاته أزليًّا وهو خلاف قوله فهذا النقل وقع فيه غلط إما لفظ الجائز وإما لفظ الأزلي ثم يقال له يا سبحان الله من الذي جعل هذه الطائفة من اليونان وأتباعهم هم العلماء دون سائر الأمم وأتباع الأنبياء الذين لايختلف من له عقل ودين أنهم أعلمُ منهم وأي برهان عندهم يتبين به هذه الحقيقة وقد ذكرت أن نفس أهل صناعة البرهان تنازعوا فيها فلو كان ذلك منكشفًا بصناعتهم لم يتنازع أئمة الصناعة فيها ثم يقال ومن الذي خص هؤلاء بكونهم أهل البرهان مع أن غاية مايقولونه في العلم الإلهي لايصلح أن يكون من
الأقيسة الخطابية والجدلية فضلاً عن البرهانية ثم يقال وكيف يستحسن عاقل أن يجعل المتكلمين على عُجَرِهم وبُجَرِهم أهل جدل وهؤلاء أهل برهان مع أن بين تحقيق المتكلمين للعلم الإلهي بالأقيسة العقلية وبين
تحقيقهم تفاوت يعرفه كل عاقل منصف والقوم لم يتميزوا بالعلم الإلهي ولانبل أحد باتباعهم فيه بل الأمم متفقة على ضلالهم فيه إلا من قلدهم ولكن يؤثر عنهم من الكلام في الأمور الطبيعية والرياضية ماشاع ذكرهم بسببه ولولا ذلك لما كان لهم ذكر عند الأمم كيف يستجيز مسلم أن يقول إن العلماء الذين أثنى الله عليهم في كتابه هم أهل المنطق مع علمه بأن أئمة الصحابة والتابعين وتابعيهم كانوا مرادين من هذا الخطاب قطعًا بل هم أفضل من أريد به بعد الأنبياء وقد ماتوا قبل أن تعرب كتب اليونان بالكلية وإن أراد بذلك البرهان العقلي الذي لايختص باصطلاح اليونان فلا اختصاص لهؤلاء به بل الصحابة والتابعون أحذق منهم في المعقولات التي ينتفع بها في الإلهية بما لا نسبة بينهمافي ذلك ثم العلماء الذين أثنى الله عليهم هم الذين شهدوا أنه لا إله إلا هو ومن المعلوم لكل من عرف أحوال الأمم أن أهل الملل
أحق بهذا التوحيد من الصابئة الذين هم أهل دمن الفلاسفة ومن المشركين الذين فيهم فلاسفة كثيرون بل كانت اليونان
منهم والمسلمون وعلماؤهم أحق بهذه الشهادة من الأولين والآخرين بل يقال لك نحن لانعلم أن هؤلاء القوم كانوا يشهدون بهذه الوحدانية فإن الذي في الكتب المنقولة عنهم من التوحيد إنما مضمونه نفي الصفات كما تقوله الجهمية ومعلوم أن هذا ليس الشهادة بأنه لا إله إلا الله بل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته هذا التوحيد والقرآن مملوء منه ولم يقل لهم كلمة واحدة تتضمن نفي الصفات ولاقال ذلك أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الدين مع العلم الضروري بأنهم كانوا أعلم بمعاني القرآن منا وإن ادعى مدع تقدمه في الفلسفة عليهم فلا يمكنه أن يدعي تقدمه في معرفة ما أريد به القرآن عليهم وهم الذين تعلموا من الرسول لفظه ومعناه وهم الذين أدوا ذلك إلى من بعدهم قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان
وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا مافيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل
وليس معه ما يعتمد عليه أن هؤلاء كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله بل لو قيل كانوا مشركين لكان أقرب فإنه من المشهور في أخبار اليونان أهل مقدونية وغيرها أنهم كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب وهؤلاء الفلاسفة يسمون الكواكب الآلهة الصغرى والأرباب وفي كتاب لسقراط والنواميس
لأفلاطن وغيرهما من ذلك أمور كثيرة وقد ذكر هذا الرجل عنهم أن أكثرهم انتهى نظرهم إلى الفلك فلم يثبتوا وراءه موجودًُا ومعلوم أن الذي أثبتوه من واجب الوجود هو أدعى شيء إلى عبادة الكواكب والأصنام فكيف يكون هؤلاء هم أهل العلم بشهادة أن لا إله إلا الله بل إذا قيل إن هؤلاء وأمثالهم أصل كل شرك وأنهم سوس الملل وأعداء الرسل لكان هذا الكلام أقرب إلى الحق من شهادته لهم بما ذكره قلت ومقتضى ماذكره هو وذكره عن هؤلاء الفلاسفة أن ماثبت فيه أنه ممكن جائز وجب أن يكون محدثًا وأن القديم لايكون إلا واجبًا فمتى ثبت أنه جائز ثبت أنه محدث وقد تقدم التنبيه على ذلك قال الحفيد وأما أبو المعالي فإنه رام أن يبين هذه
المقدمة بمقدمات إحداها أن الجائز لابد له من مخصص يجعله بأحد الوصفين الجائزين أولى منه بالثاني والثانية أن هذا المخصص لايكون إلا مريدًا والثالثة أن الموجود عن الإرادة هو حادث قلت وكذلك قررها الرازي أيضًا فهذه المقدمات الثلاث مع أن نزاع الحفيد والفلاسفة في تينك المقدمتين لايضر فإنا قد بينا أنهم موافقون على أن الخالق مريد قاصد كما تبين في إثباتهم العناية وإن تناقضوا بنفي الإرادة هنا لم يفدهم لإقرارهم بذلك ولأنا قد بيّنا أن الأدلة الدالة على ذلك يقينية ضرورية وأن نفي ذلك كنفي واجب الوجود ولكن أبو المعالي والرازي ونحوهما إنما احتاجوا لهذه الطريقة لأنهم لايثبتون الحكمة الغائية وإنما يثبتون الإرادة المخصصة
وقد قدمنا أن كونه مختارًا يبينُ بما دل على الإرادة المخصصة لمفعول دون مفعول وبما دل على مافي المفعولات من الحكمة المقصودة وبالأمرين جميعًا لكن هؤلاء الفلاسفة سلكوا إحدى الطريقتين وتناقضوا في منازعتهم في الأخرى والأشعرية سلكوا إحدى الطريقتين ونازعوا في الأخرى والتناقض لازم لهم أيضًا والمقصود من الطريقتين واحد وهو كونه قاصدًا مريدًا مختارًا وهذه الطريقة التي سلكها أبو المعالي والرازي وغيرهما صحيحة أيضًا توجب العلم اليقيني بكونه مريدًا مختارًا قال الحفيد ثم بين يعني أبا المعالي أن الجائز يكون عن الإرادة أي عن فاعل مريد من قبل أن كل فعل فإما أن يكون عن الطبيعة وإما عن الإرادة والطبيعة لا يكون عنها أحد هذين الجائزين المتماثلين أعني لاتفعل المماثل دون مماثله بل تفعلهما مثال ذلك أن السقمونيا ليست
تجذب الصفراء مثلاً التي في الجانب الأيمن من البدن دون التي في الأيسر فأما الإرادة فهي التي تخص الشيء دون مماثله ثم أضاف إلى هذه أن العالم مماثل كونه في الموضوع الذي خلق فيه في الجو الذي خلق فيه يريد الخلاء لكونه في غير الموضع من ذلك الخلاء فأنتج عن ذلك أن العالم خلق عن إرادة والمقدمة القائلة إن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة والقائلة إن
العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ويلزم أيضًا عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديمًا لأنه إذا كان محدثًا احتاج إلى خلاء قلت قد سلم المقصود بهذه المقدمة وهو أن الإرادة هي التي تخص أحد المتماثلين صحيحة وأما اعتراضه على العالم فذاك متعلق بالمقدمة الأولى وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي يفسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيما شاركوهم في بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبد الله الرازي ومن قبله حتى إن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات
الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ماقد يطلقونه من الأدلة اللفظية لاتفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضًا والآيات المتشابهة في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لاتجوزون أيضًا تأويل الآيات الواردة ها هنا فقال نحن لم نتمسك بآية معينة ولا بحديث معين ولكن نعلم باضطرار إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني ولم يقل أحد أنه علم من دينهم بالضرورة التشبيه والقدر فظهر الفرق فلينظر العاقل في هذا الجواب حيث قال لهم هؤلاء المتكلمون نحن نعلم الإخبار بمعاد الأبدان أن الرسل أخبرت به بالضرورة فلم يجعلوا مستند العلم بذلك دلالة القرآن والحديث والإجماع عليه لأنهم عارضوهم بمثل ذلك وبأبلغ منه في أمر الصفات والقدر فعدلوا إلى ماذكروه من أنا نعلم بالاضطرار إخبارهم بالمعاد الجسماني فإن هذا الذي قالوه
صحيح وحجة صحيحة على إثبات المعاد البدني لكن قصروا في عدم الاحتجاج على ذلك بالقرآن وبالأخبار وإجماع السلف وأيضًا فأهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها يقولون للطائفتين نحن نعلم أيضًا إخبارهم بما أخبروا به من الصفات والقدر بالضرورة وقول بعضهم إنه لم يقل أحد إن هذا معلوم بالضرورة من دينهم ليس كذلك بل أهل الحديث وغيرهم يعلمون ذلك من دينهم ضرورة وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم فلهذا كان السلف والأئمة مطبقين على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورًا معلومًا بالاضطرار لعموم المسلمين
حتى قبل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق
ويقال لهم قول أهل الإثبات لكم هو لكم أنتم للدهرية في معاد الأبدان ودعواكم تعارض الأدلة في ذلك أو خفاء ذلك كدعوى الدهرية ذلك فإن أبا عبد الله الرازي قال في كتابه الكبير نهاية العقول في مسألة التكفير لما حد الكفر بحد أبي حامد الغزالي وهو تكذيب الرسول في شيء مما
جاء به قال ونعني بالتكذيب إما نفس التكذيب أو ما علم من الدين ضرورة دلالته على التكذيب فأورد على هذا أن صاحب التأويل إما أن لايجعل من المكذبين بل يجعل المكذب من يرد قوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل وإما أن يجعل من المكذبين فإن كان الأول لزمنا أن لايكون الفلاسفة في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علمه تعالى بالجزئيات وإنكار الحشر والنشر كفارًا لأنهم يجعلون للنصوص الواردة في هذه المسألة تأويلات ليست بأبعد من تأويلاتكم للنصوص في التشبيه لأنهم يحملون النصوص الواردة في علمه بالجزئيات على أنه تعالى يعلم كل الجزئيات على وجه كلي ويحملون النصوص الواردة في الحشر والنشر على أحوال النفس الناطقة في سعادتها
وشقاوتها بعد المفارقة قالوا إذا جاز لكم حمل الآيات والأخبار المحتملة للتشبيه على أمور روحانية بصرفها عن ظواهرها التي هي أمور جسمانية فلم لايجوز مثلها في الحشر والنشر فثبت أنا لو أردنا بالتكذيب رد النصوص لا على وجه التأويل لزمنا أن لانجعل الفلاسفة من المكذبين وإن لم يكونوا من المكذبين وجب أن لايكونوا كفرة لأن العكس واجب في الحد فأما إن جعلنا صاحب التأويل من المكذبين فمعلوم أنه ليس كل متأول مكذبًا وإلا لزم إجراء كل الأخبار والآيات على ظواهرها وذلك يوجب التشبيه والقدر والمذاهب المتناقضة وكل ذلك باطل بل يجب أن تجعل
بعض التأويلات غير موجبة للتكذيب وبعضها موجبة وعند ذلك لا نعلم حقيقة التكذيب إلا عند الضابط الذي به يصير التأويل تكذيبًا وما لم يذكروا ذلك كان التأويل غير مفيد وقال في الجواب عن هذا إنا نعلم بالضرورة إجماع الأمة على أن دينه عليه السلام هو القول بحدوث العالم وإثبات العلم والجزئيات وإثبات الحشر والنشر وأن إنكار هذه الأشياء مخالف لدينه ثم علمنا بالضرورة أنه عليه السلام كان يحكم أن كل مايخالف دينه فهو كفر فعلمنا بهاتين المقدمتين حكمه عليه السلام بكون هذه الأشياء كفرًا فمن اعتقدها كان مكذبًا له عليه السلام فمان كافرًا ومثل هذه الطريق لم توجد في التشبيه والقدر لأن الأمة غير مجمعة على أن القول بهما
مخالف لدينه عليه السلام فالحاصل أنا لانكفرهم لأجل مخالفتهم للظواهر بل للإجماع على الوجه المذكور ومثله غير حاصل في الاختلاف الحاصل بين الأمة فلا يلزمنا تكفير الداخلين في الأمة هذا كلام أبي عبد الله الرازي وقد ادعى طائفة من الفلاسفة في مسألة المبدأ والمعاد نظير ماادعاه هو في مسائل الصفات والقدر كما ذكر ذلك هذا الحفيد الذي تقدم نقل كلامه كما ذكر هذا أيضًا في كتابه الذي زعم أنه جمع فيه بين الشريعة والفلسفة لما ذكر ماسيأتي حكايته عنهم حيث بين تقارب الطائفتين ومخالفتهما جميعا لظاهر الشرع إلى قوله فكيف يتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه والظاهر الذي
قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء قال ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين فإن التصديق بالشيء من قبيل التوليد القائم بالنفس هو شيء اضطراري لا اختياري أعني أنه ليس لنا أن لا نصدق أو نصدق كما أن لنا أن نقوم أو لا نقوم وإذا كان من شرط التكليف الاختيار فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت إذا كان من أهل العلم معذور ولذلك قال عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر وأي حاكم
أعظم من الذي يحكم على الموجود أنه كذا أو ليس بكذا وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله تعالى بالتأويل وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع إنما هو الخطأ الذي يقع من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها وأما الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف في الناس فهو إثم محض وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذورًا كذلك الحاكم على الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحكم فليس بمعذور بل هو إما آثم وإما كافر وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن يجتمع له أسباب
الاجتهاد وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس فبالحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه استنباطه منها وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في الطب والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم ولايعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر وإن وقع في فيما بعد المبادئ فهو بدعة وهذا الخطأ يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع وهذا مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الأدلة الثلاثة التي لا يعرى أحد من
الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلا من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جُعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان وإن كان من أهل الجل فبالجدل وإن كان من أهل الموعظة فبالموعظة ولهذا قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله ويؤمنوا بي يريد بأي طريق
اتفق لهم من طرق الإيمان الثلاث قلت وهذا الكلام فيه أشياء جيدة وفيه مقاصد غير صحيحة لكن هذا ليس موضع الكلام عليه ثم قال وأما الأشياء التي لخفائها لاتعلم عندهم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده والذين لاسبيل لهم إلى البرهان إما من قبل فطرهم وإما من قبل عادتهم وإما من قبل عدمهم أسباب التعلم فإنه ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال إذ كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع أعني الجدلية والخطابية وهذا هو السبب في أن يقسم الشرع إلى ظاهر وباطن فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة
لتلك المعاني والباطن هو تلك المعاني التي لاتتجلى إلا لأهل البرهان وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب التفرقة قلت هذا الكلام في أصول النفاق نفاق الدهرية ويظهر بطلانه من وجوه أحدها قوله وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان إلى آخره يقال له قولك لا تعلم إلا بالبرهان أي لا يمكن تصورها إلا بالبرهان أولا يمكن التصديق بها عقلاً
إلا بالبرهان فأما الأول فباطل فإن التصور سابق على التصديق فلو كان لايمكن تصورها إلا بعد قيام البرهان على ثبوتها والبرهان لا يمكن أن يقوم على التصديق إلا بعد التصور لزم الدور وهو قد ذكر في غير هذا الموضع أن تصور الشيء يكون إما بنفسه وإما بمثاله وليس هذا من البرهان وإذا كان تصورها ممكنًا بدون البرهان فالرسول خبرهُ يوجب التصديق وليس هو ملزمًا لأن يقوم برهان خاص على كل مايخبر به فإذا كان تصورها ممكنًا بلا برهان وخبرهُ وحده كاف في التصديق لم يحتج إلى ماسماه برهانًا الثاني أن يقال له إذا قدر أن التصديق بها لايمكن إلا
بالبرهان فإما أن يكون الرسول أخبر بها الخاصة مثرونًا بالبرهان أو بلا برهان أو لم يخبر بها ومعلوم أن هذه البراهين التي تثبت بها الفلاسفة تجرد النفس ونعيمها وعذابها والعقول والنفوس لم تأت بها الرسل فإما أن يكونوا تركوا الإخبار بها أو أخبروا بها بدون ما ادعاه من البرهان وعلى التقديرين يظهر أن الرسول لم يسلك ما ادعاه فإنه يزعم أن الرسول علمها للخاصة دون العامة الثالث أن يقال ليس فيما يذكره الفلاسفة مايبعد فهمه على عامة الناس بأكثر من فهم مادل عليه ظاهر الشرع وإن كانوا مقصرين في فهم الأدلة ألا ترى أن المتكلمين يصرحون بما يقولونه للعامة وإن كانت أدلته كثيرة إما أن تكون أغمض من أدلة الفلاسفة وإنما هي مسائل معدودة مسألة واجب الوجود وفعله والنفس وسعادتها وشقاوتها والعقول والنفوس ومايتبع ذلك فأي شيء في هذا مما لايمكن التصريح به للعامة لو كان حقًّا فعلم أن ترك التصريح به إنما هو لما اشتمل عليه من الباطل المخالف للفطرة والشرعة والحق الذي صرحت به الشريعة
الرابع أن يقال إن الله قد أجمل في كتابه وعلى لسان رسوله ما لايمكن النفوس معرفة تفصيله مثل قوله تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 17] ومثله قوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الخامس أن يقال النقص الذي ذكرته هو إما من قبل نقص الفطرة وإما من قبل سوء العادة وإما من قبل عدم أسباب التعلم فيقال لك أما النقص فنقص بني آدم ليس له حد فمن الناس من ينقص عن فهم مايفهمه جمهور الناس ومن المعلوم أن نهاية ما عند الفلاسفة يفهمه أوسط المتفقهة في مدة قريبة والشريعة قد جاءت بما هو أبعد عن الفطر الناقصة من هذا وأما العادة والتعليم فالرسول هو المعلم الأعظم الذي علمهم الكتاب والحكمة وقد نقلهم عن كل عادة سيئة إلى أحسن العادات
والسنن والشرائع فإن كان التصريح بهذه الأمور مشروطًا بالعلم التام والعادة الصالحة فلا أكمل من هذا المعلم ولا من السنن التي عودها فهلا علمها وبينها إذا كان الأمر كذلك السادس أن يقال هب أن العامة لا يمكنهم فهمها فهلاّ بينها للخاصة ومن المعلوم بالاضطرار أن الشريعة ليس فيها دلالة على مايقوله الدهرية والجهمية من الأمور السلبية في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب السابع أن يقال فإذا صرح فيها بنقيض ماهو الحق وإن قلت إنه مثال والحق المطلوب لم يبينه لاللعامة ولا للخاصة ألا يكون هذا تلبيسًا وإضلالاً الثامن أن يقال قولكم الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان وإن الباطن هو تلك المعاني التي لا تتجلى إلا لأهل البرهان كلام من أبطل القول وذلك أن هذه الأمور قد فسرتها
بما تتأول من صفات الله وصفات المعاد حتى ذكرت آية الاستواء والنزول ونعيم الجنة والنار وغيرهما من ذلك فيقال لهم التأويلات التي يدعون أنها باطن هذه الألفاظ معان ظاهرة معلومة للخاص والعام مثل تأويلات الاستواء بالقدرة أو بالرتبة فكل أحد من الناس يتصور أن الله قادر على المخلوقات قاهر لها أعظم مما يتصور استواءه عليها فلأي ضرورة يعبر عن المعنى الظاهر الواضح بلفظ يكون تصور ظاهره أخفى من تصور ذلك المعنى وهذا بين قاطع لمن تدبره وإن كانت الوجوه كلها كذلك ثم قال الحفيد وإذا اتفق كما قلنا أن يعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث لم يحتج أن يضرب له أمثالاً وكان على ظاهره لايتطرق إليه تأويل وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر مثل من يعتقد ألا سعادة أخروية هاهنا ولاشقاء وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس
بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم وأنها حيلة وأنه لاغاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط وإذا تقرر لك هذا فقد ظهر لك في قولنا إن هاهنا ظاهرًا من الشرع لايجوز تأويله فإن كان تأويله في المبادئ فهو كفر وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة وهنا أيضًا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله تعالى في السماء أعتقها فإنها مؤمنة
إذ كانت ليس من أهل البرهان والسبب في ذلك أن هذا الصنف من الناس الذين لايقع لهم التصديق إلا من قبل التخييل أعني أنهم لايصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبًا إلى شيء متخيل ويدخل أيضًا على من لايفهم من هذه النسبة إلا المكان وهم الذين شذوا عن رتبة الصنف الأول قليلا في النظر باعتقاد الجسمية ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من
المتشابهات وأن الوقف في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللهُ [آل عمران 7] وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المتأول فقد يختلفون في تأويله قلت الذين سماهم أهل البرهان هنا هم من عيّناه من الجهمية والدهرية وقد تناقض في هذا الكلام فإنه قد تقدم ماذكره في كتاب مناهج الأدلة في الرد على الأصولية ولفظه وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله تعالى والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك وماذكره من أن ذلك من الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن العلو مساكن للروحانيين يريدون الله والملائكة وقوله قد
ظهر لكمن هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وقد تقدم حكاية قوله فإذا كان هذا هكذا فكيف يكون أهل البرهان متفقين على تأويل ذلك وأن يكون قول الجارية إنه في السماء مما يجب على أهل البرهان تأويله ثم يقال له هل كان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين من أهل البرهان الحق أم لا فإن قلت لم يكونوا من أهله ولكن المتأخرين وفي الصابئين قبلنا من كان من أهله فهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن السابقين الأولين كانوا أعظم علمًا وإيمانًا من هؤلاء وإن قلت كانوا من أهل البرهان فمن المعلوم بالاضطرار أنهم لو يؤولوه كما تأوله هؤلاء المتأخرون بل هم متفقون على أن الله تعالى فوق العرش كما ذكرت أنت إجماع الأنبياء والحكماء على ذلك وكلامهم في تحريم تأويل ذلك أعظم من أن يذكر هنا فكيف يكون واجبًا وأيضًا فالمتأولون لهذا ليس فيهم من تحمده أنت فإن تأويل ذلك إما أن يكون عن معتزلي أو أشعري أخذ عنه أو من
يجري مجراهم وهؤلاء عندك أهل جدل لاأهل برهان وأنت دائمًا تصفهم بمخالفة الشرع والعقل وإن قلت نحن أهل برهان وهم المتفلسفة المنتسبون إلى الإسلام فهذا أكذب الدعاوى وذلك أنه لاريب عند من عرف المقالات وأسبابها أن الذي صار به المتكلمون مذمومين هو ماشاركوا به هؤلاء المتفلسفة من القياس الفاسد والتأويل الحائد وأن أحسن حال المتفلسف أن يكون مثل هؤلاء فإذا كان هؤلاء قد اتفقت الأئمة والأمة وعقلاؤهم متفقون أيضًا على أنهم فيما قالوا من خلاف مذهب السلف ليسوا أهل برهان بل أهل هذيان فكيف بأصحابك الذين اعترف أساطينهم بأنه ليس لهم في العلم الإلهي يقين والمتكلمون لايقرون على أنفسهم بمثل هذا بل يقولون إن مطالبهم تأولوها بالأدلة
العقلية وبسط هذا الكلام له موضع آخر ليس هذا موضعه وليس يلزم من كونهم أهل برهان في علم الحساب والطب والهندسة أن يكونوا أهل برهان في معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما أنه لا يلزم من كون الرجل ذا برهان في الهندسة والحساب أن يكون ذا برهان في الطب مع أن كليهما صناعة حسية وكثيرًا مايحذق الرجل فيهما ومن المعلوم أن العلم بهذه الأمور أبعد عن الطب والحساب من بعد أحدهما عن الآخر ثم يقال له هب أن تلك الجارية ليست من أهل البرهان فما الموجب لأن يخاطبها الرسول بخطاب الظاهر من غير حاجة إليه فقد كان يمكنه تعرف إيمانها بأن يقول من ربك ومن إلهك ومن تعبدين فتقول الله تعالى فلم يعدل عن لفظ ظاهره وباطنه حق إلى لفظ ظاهره باطل ثم يكلفها مع ذلك تصديق الباطل ويحرم عليها وعلى غيرها اعتقاد نقيض الباطل فهل هذا فعل عاقل فضلا عن أن يكون هذا فعل بالكذب ثم الله ورسوله يخاطب الخلق بخطاب واحد يخبر به
عن نفسه وقد فرض على طوائف أن يعتقدوا ظاهره وإن لم يعتقدوه كفروا وعلى آخرين أن يعتقدوا نقيض ما اعتقده هؤلاء وإن اعتقدوه كفروا ثم مع هذا كله لايبين من هؤلاء ولا من هؤلاء ولايبين ما هو مراده به الذي خالف ظاهره بل يدع الناس في الاختلاف والاضطراب وهذا الفيلسوف ادعى أن الاختلاف إنما نشأ من جهة كون العلماء فتحوا التأويلات للعامة فأضلوا العامة بذلك حيث فرقوهم ثم هو قد جعل الرسول نفسه أضلّ الخاصة وأوقع بينهم التفرق والاختلاف حيث عنى بهذا الخطاب باطنًا فرضه عليهم ولم يبينه لهم فإن هذا في الإضلال والتفريق بين الناس أعظم وأعظم وإضلال الخاصة والتفريق بينهم أعظم من إضلال العامة والتفريق بينهم فالذنب الذي شنعه على أهل الكلام نسب الأنبياء إلى أعظم منه وقد قال تعالى للرسل أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى 13] وقال إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92} [الأنبياء 92] وقال إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام 159] وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إلى قوله تعالى وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} [آل عمران 102 - 105] وقال وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ {4} [البينة 4] وعلى مازعمه هؤلاء يكونون قد تفرقوا واختلفوا من قبل أن يأتيهم العلم أو تأتيهم البينة لأنهم زعموا أن في الكتاب ظاهرًا يجب على أهل البرهان تأويله وأن الذي يعلمونه هو التأويل الذي قال الله تعالى فيه وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران 7] ثم يقول وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المؤول فقد يختلفون في تأويله وذلك بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان فإذا لم يبين لهم الرسول مراده فما جاءهم العلم ولا البينة فيكونون معذورين في التفرق والاختلاف كما زعم هؤلاء المنافقون ثم يقال له البرهان يفضي إلى إحالة الظاهر مثلاً أم إلى تعيين المراد أما الأول فهم متفقون عليه وأما تعيين المراد فليس مستفادًا من مجرد القياس الذي تسميه البرهان إنما يعرف
من حيث يعرف مراد المتكلم فكيف يكون اختلافهم في التأويل بحسب مرتبة كل واحد في معرفة البرهان والبرهان إنما ينفي الظاهر فقط لايبين ما هو المراد والرد على هؤلاء يطول فليس هذا موضع استقصائه وإنما الغرض التنبيه على أن هؤلاء الدهرية سلطوا على الجهمية بمثل هذا حتى آل الأمر إلى الكفر بحقيقة الإيمان بالله وباليوم الآخر وجعلوا ذلك هو البرهان والتحقيق الذي يكون للخاصة الراسخين في العلم حتى حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسماء الله تعالى وآياته وجعلوا أئمة الكفر والنفاق هم أئمة الهدى ورؤوس العلماء وورثة الأنبياء مع أنهم في القياس الذي سموه البرهان إنما أتوا فيه بمقاييس سفسطائية من شر المقاييس
السفسطائية فآل أمرهم إلى السفسطة في العقليات والقرمطة في الشرعيات وهذه حال القرامطة الباطنية الذين عظمهم وسلك سبيلهم هذا الفيلسوف ولهذا كان ابن
سينا وأمثاله منهم وكان أبوه من دعاة القرامطة المصريين قال ولذلك اشتغلت بالفلسفة ثم قال وها هنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لايجوز تأويله ويلحقه آخرون بالباطن الذي لايجوز حمله على الظاهر للعلماء لعِواصة هذا الصنف واشتباهه
والمخطئ في هذا معذور أعني من العلماء فإن قيل فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب فمن أي هذه الثلاث مراتب هو عندكم ماجاء في صفات المعاد وأحواله فنقول إن هذه المسألة المر فيها أنها من الصنف المختلف فيه وذلك أنا نرى أقوامًا ممن ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون إن الواجب حملها على ظاهرها إذا كان ليس فيها برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها وهذه طريقة الأشعرية وقوم آخرون أيضًا ممن يتعاطى البرهان يتأولونها وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا وفي هذا الصنف
أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة ومنهم من يجمع فيها تأويلين كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورًا والمصيب مشكور أو مأجور وذلك إذا اعترف بالوجود
وتأول فيها نحوًا من أنحاء التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذا كان التأويل لايؤدي إلى نفي الوجود وإنما كان جحد الوجود في هذه كفرًا لأنه في أصل من أصول الشريعة وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود وأما من كان من غير أهل العلم فالواجب عليه حملها على الظاهر وتأويلها في حقه كفر لأنه يؤدي إلى الكفر لذلك نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر لأنه يؤدي للكفر والداعي إلى الكفر كافر ولهذا يجب أن لاتثبت هذه التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان فأما إذا ثبت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية
والخطبية والجدلية كما يصنعه أبو حامد فخطأ على الشرع وعلى الحكمة وإن كان الرجل إنما قصد خيرًا وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك ولكن كثر بذلك أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة وقوم إلى ثلب الشريعة وقوم إلى الجمع بينهما ويشبه أن يكون هذا هو أحد مقاصده بكتبه والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر أنه لم يلزم مذهبًا من المذاهب في كتبه هو مع الأشعرية أشعري ومع الصوفية صوفي ومع الفلاسفة فيلسوف كما قيل
يوما يمان إذا لاقيت ذايمن وإن لقيت معديًا فعدناني والذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم إلا لمن كان من أهل العلم كما يجب عليهم أن ينهوا عن كتب البرهان من كان ليس أهلاً لها قلت أما عده أبا حامد ممن لايقر بمعاد الأبدان فهو وإن كان قد قال في بعض كتبه مانسب لأجله إلى ذلك فالذي لا ريب
فيه أنه لم يستمر على ذلك بل رجع عنه قطعًا وجزم بما عليه المسلمون من القيامة العامة كما أخبر به الكتاب وأما ذكره أن هذا قول كثير من المتصوفة فلا ريب أن في المتصوفة والمتفقهة وغيرهما من هو صديق ومن هو زنديق
فإن انتحال الحلية أو القول ظاهرًا ليس بأعظم من انتحال الإسلام وإن كان في نفس ادعاء الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأعصار منافقون كثيرون فهؤلاء موجودون في جميع الأصناف من المنتسبين إلى العلم وإلى العبادة وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لايقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولاريح لها ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لايقرأ القرآن مثل الحنظلة طعمها مر ولاريح
لها فأما شيوخ الصوفية المشهورون عند الأمة الذين لهم في الأمة لسان صدق مثل أبي القاسم الجنيد وسهل بن عبد الله
التستري وعمرو بن عثمان المنكي وأبي العباس بن عطاء بل مثل أبي طالب المكي وأبي عبد الرحمن
السلمي وأمثال هؤلاء فحاش لله أن يكونوا من أهل هذا المذهب بل هم من أبعد الطوائف عن مذهب الجهمية في سلب الصفات فكيف يكونون في مذهب الدهرية المنكرين لانفطار السموات وانشقاقها نعم يوجد في المتحلين بحلية الصوفية من يعتقد أنواعًا من الاعتقادات كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين بكلام الفقهاء من أهل الفلسفة والكلام وغيرهم وهذا
الرجل قد ذكر أصنا فالأمة في الأمور الإلهية الذين سماهم حشوية والأشعرية والمعتزلة والباطنية وذكر الصنف الرابع الباطنية ولم يتعقبهم بكلام إلا ماذكره من مذهب الصوفية أنهم يلتمسون العلم بطريقة إماتة الشهوات فإن كان قد جعل هؤلاء هم الباطنية فهذا خطأ عظيم وإن كان يوجد فيهم من يقول بقول الباطنية كما يوجد مثل ذلك في المتكلمين
والفقهاء لعل شبهتهم في ذلك مع ماحكاه عنهم في أمر المعاد أنهم يقولون علم الباطن وينتسبون إلى علم الباطن ولكن هذا اللفظ فيه إجمال وإبهام فالصوفية العارفون الذين لهم في الأمة لسان صدق إذا قالوا علم الباطن أو علوم الباطن ونحو ذلك فهم لايريدون بذلك مايناقض الظاهر بل هم متفقون على أن من ادعى باطنًا من الحقيقة يناقض ظاهر الشريعة فهو زنديق وإنما يقصدون بذلك عمل باطن الإنسان الذي هو قلبه بالأعمال الباطنة كالمعرفة والمحبة والصبر والشكر والتوكل والرضا ونحو ذلك ماهو
كله تحقيق كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وممايبين تناقض الفريقين لاشتراكهما في النفي والتعطيل أن كل حجة يحتج بها أحدهما على الآخر تنقض مذهبه أيضًا كما تنقض مذهب خصمه ولهذا عمدة كلامهم بيان كل طائفة تناقض الأخرى وإن كانت هي أيضًا متناقضة كما نبهنا عليه غير مرة ويوضح ذلك ماذكره هذا القاضي أبو الوليد ابن رشد الحفيد في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على
الأصولية هذا بعد أن قال في خطبته أما بعد فإنا كنا قد بينّا قبل هذا في قول أفردناه مطابقة الحكمة للشرع وأمر الشريعة بها وقلنا هناك إن الشريعة ظاهر ومؤول وأن الظاهر منها هو فرض الجمهور وأن المؤول هو فرض العلماء وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله قلت فقد جعل فرض الجمهور اعتقاد الباطل الذي هو خلاف الحق إذا كان الحق خلاف ظاهره وقد فرض عليهم حمله على ظاهره قال وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله وأنه لايحل للعلماء أن يفحصوا بتأويله للجمهور كما قال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما
يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله قلت حرف لفظ حديث علي ومعناه فإن عليًّا قال كما ذكره البخاري في صحيحه من رواية معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن
علي قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وهذا يدل على نقيض مطلوبه لأنه قال أتحبون أن يكذب الله ورسوله فعلم أن من الأحاديث التي قالها الله ورسوله أحاديث لايطيق كل أحد حملها فإذا سمعها من لايطيق ذلك كذب الله ورسوله وهذا إنما يكون في
ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وتكلم به لا في خلاف ما قاله ولا في تأويل ما قال بخلاف ظاهره فإن ذكر ذلك لايوجب أن المستمع يكذب الله ورسوله نعم نفس ذلك التأويل المخالف لقوله يكون تكذيبًا لله ورسوله إما في الظاهر وإما في الباطن والظاهر فلو أريد ذلك لكان يقول أتريدون أن تكذبوا الله ورسوله أو أن تظهروا تكذيب الله ورسوله فإن المكذب من قال مايخالف قول الله ورسوله إما ظاهرًا وإما ظاهرًا وباطنًا وعلي إنما خاف تكذيب المستمع لله ورسوله وهذا لا يكون لمجرد تأويل المتأولين فإن المؤمن لايكذب الله ورسوله لقول مخالف لتأويل يخالف ذلك بل يرد ذلك عليه فإن قال هذه التأويلات الباطنية قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للخاصة قيل هذا من الإفك المفترى الذي اتفق أهل العلم بالإسلام على أنه كذب وقد ثبت عن علي رضي الله عنه
في الصحيح من غير وجه لما سأله من ظن أن عنده من الرسول علمًا اختص به فبين لهم علي رضي الله عنه أنه لم يخصه بشيء قال الحفيد فقد رأيت أن أفحص في هذا الكتاب عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم بحسب الجهد والاستطاعة فإن الناس قد اضطربوا في هذا المعنى كل الاضطراب في هذه الشريعة حتى حدثت فرق ضالة وأصناف مختلفة كل واحد منهم يرى أنه على الشريعة الأولى وأن من
خالفه إما مبتدع وإما كافر مباح الدم والمال وهذا كله عدول عن مقصد الشارع وسببه ماعرض لهم من الضلال عن فهم مقصد الشريعة وأشهر هذه الطوائف في زماننا هذا أربعة الطائفة التي تسمى بالأشعرية وهم الذين يرى أكثر الناس اليوم أنهم أهل السنة والتي تسمى بالمعتزلة والطائفة التي تسمى بالباطنية والطائفة التي تسمى بالحشوية وكل هذه الطوائف قد اعتقدت في الله اعتقادات مختلفة وصرفت كثيرًا من ألفاظ الشرع عن ظاهرها إلى تأويلات نزلوها على تلك الاعتقادات وزعموا أنها الشريعة الأولى التي قصد بالحمل عليها جميع الناس وأن من زاغ عنها فهو إما كافر وإما مبتدع وإذا تؤملت جميعها وتؤمل مقصد الشارع ظهر أن جلها أقاويل محدثة
وتأويلات مبتدعة وأنا أذكر أن ذلك مايجري مجرى العقائد الواجبة في الشرع التي لايتم الإيمان إلا بها وأتحرى في ذلك كله مقصد الشارع صلى الله عليه وسلم دون ماجعل أصلا في الشرع وعقيدة من عقائده من قبل التأويل الذي ليس بصحيح وأبدأ من ذلك بتعريف ماقصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله تبارك وتعالى والطرق التي سلك بهم في ذلك وذلك في الكتاب العزيز ونبتدئ من ذلك بمعرفة الطريق التي تفضي إلى وجود الصانع إذ كانت أول معرفة يجب أن يعلمها المكلف وقبل ذلك فينبغي أن نذكر آراء تلك الفرقة المشهورة في ذلك فنقول أما الفرقة التي تدعى بالحشوية فإنهم قالوا إن طريق وعرفة وجود الله تعالى هو السمع لا العقل أعني أن الإيمان بوجوده الذي كلف الناس التصديق به يكفي فيه أن يتلقى
من صاحب الشرع ويؤمن به إيمانًا كما يتلقى منه أحوال المعاد وغير ذلك مما لامدخل للعقل فيه وهذه الفرقة الظاهر من أمرها أنها مقصرة عن مقصود الشرع في الطريق التي نصبها للجميع مفضية إلى معرفة وجود الله تعالى وتقدس ودعاهم من قبلها على الإقرار به وذلك أنه يظهر من غير ما آية من كتاب الله تعالى أنه دعا الناس فيها إلى التصديق بوجود الباري سبحانه وتعالى بأدلة عقلية منصوص عليها فيه مثل قوله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} [البقرة 21] ومثل قوله تعالى أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم 10] إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المعنى وليس لقائل أن يقول إنه لو كان ذلك واجبًا على كل من آمن بالله تعالى أعني أن لايصح إيمانه إلا من قبل وقوعه عن هذه الأدلة لكان النبي صلى الله عليه وسلم لايدعو أحدًا إلى الإسلام إلا عرض عليه هذه الأدلة فإن العرب كلها
كانت تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى ولذلك قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] ولايمتنع أن يوجد من الناس من يبلغ به فدامة الطبع وبلادة القريحة ألا يفهم شيئًا من الأدلة الشرعية التي نصبها الشارع صلى الله عليه وسلم للجمهور وهذا فهو أقل الوجود وإذا وجد ففرضه الإيمان بالله من جهة السماع فهذه حال الحشوية مع ظاهر الشرع ثم قال وأما الشعرية فرأوا أن التصديق
بوجود الله تعالى لايكون إلا بالعقل لكن سلكوا في ذلك طرقًا ليست هي الطرق الشرعية وساق الكلام كما ذكرنا عنه أولاً قلت مسمى الحشوية في لغة الناطقين به ليس هو اسمًا لطائفة معينة لها رئيس قال مقال فاتبعته كالجهمية والكلابية والأشعرية ولا اسمًا لقول معين من قاله كان كذلك والطائفة إنما تتميز بذكر قولها أو بذكر رئيسها ولهذا
كان المؤمنين متميزين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالقول الذي يدعون إليه هو كتاب الله والإمام الذي يوجبون اتباعه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا بني الإيمان وبذلك وجب الموالاة والمعاداة كما قال تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ إلى قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة 55، 56] وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة 71] وأمثال ذلك وقال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ {104} [المائدة 104] وكذلك ذكر ذلك في البقرة والمائدة ولقمان فذكر أنَّ الكفار
لايستجيبون لذاك وكذلك ذكر عن المنافقين فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً {61} [النساء 60 ، 61] فأخبر عن الكافرين والمنافقين أنهم يعرضون عن الاستجابة للكتاب والرسول فعلم أن المؤمنين ليسوا كذلك بل هم كما قال الله تعالى إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور 51] وقال فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً {65} [النساء 65] وبذلك أمرهم حيث قال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وبذلك حكم بين أهل الأرض كما قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213} [البقرة 213] وشواهد هذا الأصل كثيرة
والناس منذ بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف إما كافر معلن وإما منافق مستتر وإما مؤمن موافق ظاهرًا وباطنًا كما ذكر الله تعالى هذه الأصناف الثلاثة في أو سورة البقرة وحينئذ فالواجب أن يكون الرجل مع المؤمنين باطنًا وظاهرًا وكل قول أو عمل تنازع الناس فيه رده إلى الكتاب والسنة ولايجوز وضع طائفة بعينها يوالي من والته ويعادي من عادته لاأخص من المؤمنين أو كانت أسماؤهم للتعريف المحض كالمالكية والشافعية والحنبلية أو غير ذلك ولا أعم من ذلك مما يدخل فيه المسلم والكافر كجنس النظر والعقل أو العبادة المطلقة ونحو ذلك ولايجوز تعليق الحب والبغض والموالاة والمعاداة إلا بالأسماء الشرعية وأما أسماء التعريف كالأنساب والقبائل فيجوز أن يعرف بها مادلت عليه ثم ينظر في موافقته للشرع ومخالفته له وإذا كان كذلك فأول من عرف أنه تكلم في الإسلام بهذا اللفظ عمرو بن عبيد رئيس
المعتزلة فقيههم وعابدهم فإنه ذكر له عن ابن عمر شيء يخالف قوله فقال كان ابن عمر حشويًّا نسبة إلى الحشو وهم العامة والجمهور فإن الطوائف الذين تميزوا عند أنفسهم بقوله تميزوا به عما عليه جماعة المسلمين وعامتهم يسمونهم بنحو هذا الاسم فالرافضة تسميهم
الجمهور وكذلك تسميهم الفلاسفة كما سماهم بذلك صاحب هذا الكتاب والمعتزلة ونحوهم يسمونهم الحشوية والمعتزلة تعني بذلك كلمن أثبت الصفات وأثبت القدر وأخذ
ذلك عنها متأخرو الرافضة فسموا الجمهور بهذا الاسم وأخذ ذلك عنهم القرامطة الباطنية فسموا بذلك كل من اعتقد صحة ظاهر الشريعة فمن قال عندهم بوجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصوم رمضان وحج البيت وتحريم الفواحش والمظالم ونحو ذلك سموه حشويًّا كما رأينا ذلك مذكورًا في مصنفاتهم والفلاسفة تسمي من أقر بالمعاد الحسي والنعيم الحسي حشويًّا وأخذوا ذلك عن المعتزلة تلامذتهم من الأشعرية سموا من أقروا بما ينكرونه من
الصفات ومن يذم مادخلوا فيه من بدع الكلام والجهمية والإرجاء حشويًّا ومنهم أخذ ذلك المصنف ومما يبين ذلك أن القول الذي حكاه عنهم لايعرف في الإسلام عالم معروف قال به ولا طائفة معروفة قالت به ولكن قد يقول بعض العوام قولا لا يفصح معناه وحجته يظن به مستمعه أنه يعتقد ذلك والتحقيق أن هذا النقل إنما نقلته المعتزلة ومن وافقهم عليه كهذا الرجل بطريق اللزوم لا أنهم
سمعوه منه أو وجدوه مأثورًا عنهم وذلك أنهم يسمعون أهل الإيمان من أهل الحديث والسنة والجماعة والفقهاء والصوفية يقولون الكتاب والسنة وإذا تنازعوا في مسألة من موارد الشرع بين الأمة في مسائل الصفات أو القدر أو نحو ذلك قالوا بيننا وبينكم الكتاب والسنة فإذا قال لهم ذلك المنازع بيننا وبينكم العقل قالوا نحن مانحكم إلا بالكتاب والسنة ونحو هذا الكلام الذي هو حقيقة أهل الإيمان وشعار أهل السنة والجماعة وحلية أهل الحديث والفقه والتصوف الشرعي قالوا بموجب رأيهم يلزم من هذا أن تكون معرفة الله تعالى لاتحصل إلا بخبر الشارع إذا لم يكن للعقل مجال في إثبات المعرفة وهذا جهل منهم وقول بلا علم فإن أحدًا من هؤلاء لم يقل إن الله تعالى لايعرف إلا بمجرد خبر الشارع الخبر المجرد فإن هذا لايقوله عاقل فإن تصديق المخبر في قوله إنه رسول الله بدون المعرفة أنه رسول ممتنع ومعرفة أنه رسول الله ممن لايعرف أن الله موجود ممتنع فنقل مثل هذا
القول عن طائفة توجد في الأمة أو عن عالم معروف في الأمة من الكذب البين وهو من جنس وضع الملاحدة للأحاديث المتناقضة على المحدثين ليشينوهم بذلك عند الجهال لكن من عموم المؤمنين أهل الحديث وغيرهم من لايحسن أن يجيب عما يورد عليه من الشبه أو من لا يحسن البيان عما انعقد في نفسه من البرهان واستقر عنده من الإيمان ولكن هذا لايبيح أن ينقل عنهم البهتان كيف وشعارهم الدعاء إلى الكتاب والسنة والقرآن مملوء من طريق تعريف الله تعالى لعباده بالأدلة الواضحة المعقولة والأمثال المضروبة التي هي القياسات العقلية
ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن القرآن بين فيه أصول الدين في المسائل والدلائل على غاية الإحكام ونهاية التمام وأن خلاصة مايذكره أهل الكلام والفلسفة إنما هو بعض مابينه القرآن والحديث مع سلامة ذلك عما في كلامهم من التناقض والاختلاف واشتماله عما تقصر عنه نهايات عقولهم ومالايطمعون أن يكون من مدلولهم وبينا أن تعريف الشارع ودلالة الشرع ليس بمجرد الإخبار كما يظنه من يظن ذلك من أهل الكلام والفلسفة فإن مثل هذا الظن بالشارع هو الذي أوجب أن يلمزوا المؤمنين بما هو أولى وأحرى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً {58} [الأحزاب 58] وهذا حال الكفار والمنافقين الذين قال الله تعالى فيهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا
مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} [البقرة 13 - 14] وقال إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} [المطففين 29 - 31] فإن الله سبحانه ضمن كتابه العزيز فيما أخبر بع عن نفسه وأسمائه وأفعاله من الأدلة والآيات والأقيسة التي هي الأمثال المضروبات ما يبين ثبوت المخبر بالعقل الصريح كما يخاطب أولي الألباب والنَّهي والحِجر ومن يعقل ويسمع بل قد ضمن كتابه من الأدلة العقلية على ثبوت الأمر والنهي والوعد والوعيد مانبه عليه في غير موضع كقوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ {54} [فصلت 53 - 54] فكيف يكون أهل الكتاب والسنة والإيمان يقولون إن الله تعالى إنما يعرف بوجوده بمجرد خبر الشارع المجرد وأما ما قد يقولونه من أن العقل لامجال له في ذلك أو
ينهون عن الكلام أو عما يسمى معقولات ونظرًا وبعضهم قد لايفرق بين مايدخل في ذلك من حق وباطل وبعضهم قد يقصر عن الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة كما ذكره هذا الرجل ولاريب أن التقصير ظاهر على أكثر المنتسبين إلى الكتاب والسنة من جهة عدم معرفتهم بما دل عليه الكتاب والسنة ولوازم ذلك فيقال من الوجوه الصحيحة أن مانطق به الكتاب وبينه أو ثبت بالسنة الصحيحة أو اتفق عليه السلف الصالح فليس لأحد أن يعارضه معقولا ونظرًا أو كلامًا وبرهانًا وقياسًا عقليًّا أصلا بل كل ما يعارض ذلك فقد علم أنه باطل علمًا كليًّا عامًّا وأما تفصيل العلم ببطلان ذلك فلا يجب على كل أحد بل يعلمه بعض الناس دون بعض وأهل السنة الذين هم أهلها يردون ماعارض النص والإجماع من هذه وإن زخرفت بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112} [الأنعام 112] فأعداء النبيين دائمًا يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا
وكذاك من الوجوه الصحيحة أن موارد النزاع لاتفصل بين المؤمنين إلا بالكتاب والسنة وإن كان أحد المتنازعين يعرف ما يقوله بعقله وذلك أن أقوى العقول متفاوتة مختلفة وكثيرًا مايشتبه المجهول بالمعقول فلا يمكن أن يفصل بين المتنازعين قول شخص معين ولا معقوله وإنما يفصل بينهم الكتاب المنزل من السماء والرسول المبعوث المعصوم فيما بلغه عن الله تعالى ولهذا يوجد من خرج عن الاعتصام بالكتاب والسنة من الطوائف فإنهم يفترقون ويختلفون وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ [هود 118 - 119] وأهل الرحمة هم أهل الإيمان والقرآن ومن الوجوه الصحيحة أن معرفة الله بأسمائه وصفاته على وجه التفصيل لاتعلم إلا من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام إما بخبره وإما بخبره وتنبيهه ودلالته على الأدلة العقلية ولهذا يقولون لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180 - 182]
ثم ذكر ابن رشد الكلام على الطريق التي عزاها إلى الأشعرية وأبو الحسن الأشعري قد بين في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أن هذه الطريق مبتدعة وأنها
ليست هي طريقة الأنبياء وأتباعهم بل هي محرمة عندهم كما سنذكر ذلك عنه وكذلك ذكر غير واحد من متقدمي أصحابه ومتأخريهم حتى أبو عبد الله الرازي بين أن معرفة الله تعالى ليست منحصرة في هذه الطريق التي حكاها عن الأشعرية وبين غلط أبي المعالي في قوله اعلم أن أول مايجب على البالغ العاقل القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم وبين أن العلم بحدوث العالم يمكن أن يعلم بالسمع فضلا عن أن لا يكون طريقًا إلى إثبات الصانع إلا العلم بحدوثه بالطريق الذي ذكره وأن يكون القصد إلى النظر في هذه الطريق وكذلك الغزالي قبله بين حصول المعرفة بدون هذه الطريق
وبالجملة فإنه وإن كان أبو المعالي ونحوه يوجبون هذه الطريقة فكثير من أئمة الأشعرية أو أكثرهم يخالفونه في ذلك ولايوجبونها بل إما يحرموها أو يكرهوها أو يبيحوها وغيرها ويصرحون بأن معرفة الله تعالى لاتتوقف على هذه الطريقة ولايجب سلوكها ثم هم قسمان قسم يسوغها ويسوغ غيرها ويعدها طريقًا من الطرق فعلى هذا إذا فسدت لم يضرهم والقسم الثاني يذمونها ويعيبونها ويعيبون سلوكها وينهون عنها إما نهي تنزيه وإما نهي تحريم كما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته كما سنذكره عنه كما ذكر ذلك طوائف ممن لايبطل تلك الطريقة كأبي سليمان الخطابي ونحوه قال الشيخ
أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين أما بعد فإن أخًا من إخواني سألني بيان مايجب على المسلمين علمه ولايسعهم جهله من أمر الدين وشرح أصوله في التوحيد وصفات الباري تعالى والكلام في القضاء والقدر والمشيئة والدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبيان إعجاز القرآن والقول في ترتيب الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وما يتصل به من الكلام وطلب إليّ أن أورد في كل شيء منها أوضح ما أعرفه من الدلالة وأقربها من الفهم لينتفع به من لايرضى بالتقليد في مايعتقده من أصول الدين وكان مع ذلك ممن لايحب النظر في الكلام ولا يجرد القول على مذهب المتكلمين وذكر تمام الكلام وذكر عدة أصول من الاستدلال بخلق الإنسان والاستدلال بتركيب المتضادات وتأليفها والاستدلال بما في الوجود من الحكمة الغائية الذي يسميه ابن رشد دليل
العناية الدال على الإرادة والرحمة والعناية الدال على الصانع إلى أن قال وطرق الاستدلال كثيرة إلا أنا اخترنا منها في الكتاب ماهو أقرب إلى الأفهام وأشبه بمذاهب السلف والعلماء وقد أنزل الله تعالى كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم وحاج به قومه وهم عرب ليسوا بفلاسفة ولا متكلمين وإنما خاصمهم بما يفهمه أولو العقول الصحيحة ويستدركه ذوو الطباع السليمة وتشهد له المعارف وتجري به العادات القائمة فما قامت الحجة عليه كان في الاستدلال على إثبات الصانع وحدوث العالم قال وقد أبى متكلمو زماننا هذا إلا الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها وزعموا أنه لادلالة أقوى من ذلك ولا أصح منه ونحن وإن كنا لاننكر
الاستدلال بهذا النوع من الدلالة فإن الذي نختاره ونؤثره هو ماقدمنا ذكره لأنه أدلة اعتبار طريق السلف من علماء أمتنا وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير فمن الناس من ينكرها وزلا يثبتها رأسًا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر والاستدلال لايصح بها إلا بعد استبراء هذه الشبهة وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب قال وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريقة الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجود قبول مادعا إليه صلى الله عليه وسلم وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لا يتسع فهمه لاستدراك وجوه سائر الأدلة ولم يتبين تعلق الأدلة بمدلولاتها ولن يكلف الله نفسًا إلا وسعها
قلت هذه الطريق يستدل صاحبها بالنبوة على حدوث العالم لأن معرفة الصانع تعلم بدون ذلك إما بالأدلة الأُخر وإما بالفطرة وصدق الرسول مبني على مقدمات ضرورية قريبة أو نظرية قريبة من الضرورية ثم يستدل بقوله على حدوث العالم فالخطابي في هذه الطريق ذكر أن طريقة الأعراض غير منكرة عنده ولكنه كرهها ورغب عنها إلى ماذكره أنه طريق السلف لأنها بدعة ولأن فيها آفات وقد قال في رسالته في الغنية عن الكلام وأهله كلامًا أسد من هذا وبين أنها محرمة كما ذكره الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر فقال الخطابي في هذه الرسالة عصمنا الله تعالى وإياك من الأهواء المضلة والآراء
المغوية والفتن المحيرة ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف وانتهجها بعدهم صالح الخلف وجنبنا وإياك مداحض البدع وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة وأعاذنا وإياك من حيرة الجهل وتعاطي الباطل والقول بما ليس لنا به علم والدخول فيما لايعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه ونهينا عنه ونفعنا وإياك بما علمنا وجعله سببًا لنجاتنا ولاجعله وبالا علينا برحمته وقفت على مقالتك وماوصفته من أمر ناحيتك وظهور ماظهر بها من مقالات أهل الكلام وخوض الخائضين فيها وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها واعتذارهم في
ذلك بأن الكلام وقاية للسنة وجنة لها يذب به عنها ويذاد بسلاحه عن حريمها وفهمت ماذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم لأن توقفك بين أن تسلم لهم مايدعونه من ذلك فتقبله وبين أن تقابلهم على مايزعمونه فترده وتنكره وكلا الأمرين يصعب عليك أما القبول فلأن الدين يمنعك منه ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول ويؤاخذونك بقوانين الجدل ولايقنعون منك بظواهر الأمور وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان وأن أسلك في ذلك طريقة لايمكنهم ردها ولايسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها فرأيت إسعافك به لازما في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين وأنا أسأل الله تعالى أن يوفق
لما ضمنت لك وأن يعصم من الزلل فيه واعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت فشاعت في البلاد واستفاضت ولايكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله وذلك مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الدين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين وأهله فلا تنكر ما تشاهده منه
وسل الله العافية من البلاء واحمده على ماوهبه لك من السلامة ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة وعد واحدًا من الجمهور والكافة فحركهم بذلك إلى التنطع في النظر والتبدع في مخالفة السنة والأثر ليبينوا عن طريقة الدهماء ويتميزوا في الرتبة
عمن هو دمنهم في الفهم والذكاء واختدعهم بهذه المقدمة حتى أزلهم عن واضح المحجة وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها وتاهوا في حقائقها ولم يخلصوا فيها إلى شفاء نفس ولاقبلوها بيقين ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ماانتحلوه ويشهد عليهم بباطل مااعتقدوه ضربوا بعض آياته ببعض فتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم واستوى عندهم على ماوضعوه من أصولهم ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولسنته المأثورة عنه وردوها
على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة ووجهوا عليهم الظنون ورموهم بالفرية ونسبوهم إلى ضعف السنة وسوء المعرفة بمعاني مايروونه من الحديث والجهل بتأويله ولو سلكو سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين ورَوْح القلوب ولكثرت البركة وتضاعف النماء وانشرحت الصدور ولأضاءت فيها مصابيح النور وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213} [البقرة 213] واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزًا عنه ولا انقطاعًا دونه وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة
وكان في زمانهم هذه الشبهة والآراء وهذه النحل والأهواء وإنما تركوا هذه الطريقة وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها وحذروه من سوء مغبتها وقد كانوا على بينة من أمرهم وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله به من توفيقهم وشرح به صدورهم من نور معرفته ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما وأن الحجة قد وقعت بهما والعلة أزيحت بمكانهما فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة وقلت عنايتهم بها واعترضهم الملحدون بشبههم المتحذلقون بجدلهم حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ويدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا
في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة في الرأي وعيبًا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان فإن قال هؤلاء فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها قلنا إنا لاننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكن لانذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ماهو أوضح بيانا وأبين برهانًا وإنما هو شيء أخذتموه عن
الفلاسفة وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لايثبتون النبوات ولايرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ماتعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله تعالى عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المتعوجة التي لايؤمن العنت على راكبها والإبداع والانقطاع على سالكها وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين والاستدلال على معرفة الصانع سبحانه وتعالى وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لايتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه هو أن الله سبحانه وتعالى لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا
وقال له يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة 67] وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع وفي مقامات له شتى وبحضرته عامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اللهم هل بلغت فكان ماأنزل الله تعالى وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة 3] فلم يترك شيئًا من
أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لاخلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لاتبرح فيهما الحاجة داعية أبدًا في كل وقت وزمان ولو أخر فيهما البيان لكان قد كلفهم ما لاسبيل لهم إليه وإذا كان الأمر على ماقلنا وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعهم من هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها إذ لايمكن أحدٌ من الناس أن يروي في ذلك عنه ولا عن واحد من أصحابه من هذا النمط حرفًا واحدًا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف
مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم قلت وهذا الكلام يشبه ماذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته الثغرية ومضمون ذلك أن هذه الطريقة محدثة مبتدعة مستغني عنها منهي عن سلوكها لذلك وليس فيه بيان أنها باطلة ولكون أمثال هؤلاء لا يعتقدون بطلانها في الباطن وإن نهوا عن سلوكها وقع منهم أقوال مبنية على بعض مقدماتها وغن خالفت النصوص والمعقول والذي عليه حذاق الأئمة والعلماء أنها طريقة باطلة كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفلاسفة وهذا الحفيد وإن بين بطلانها لكن طريقته في الباطن أبطل من هذه وإن سماها طريقة البرهان ولهذا لما فرغ من الرد على الأشعرية في هذه الطريقة وذكر طريقة ثانية لأبي المعالي وهي أن العالم جائز والجائز لابد له من
مخصص تكلم عليها بما ليس هذا موضعه إلى أن قال فقد تبين لك من هذا كله أن الطرق المشهورة للأشعرية في السلوك إلى معرفة وجود الباري ليست طرقًا نظرية يقينية ولا طرقًا شرعية يقينية وذلك ظاهر لمن تأمل أجناس الأدلة المنبهة في الكتاب العزيز على هذا المعنى أعني معرفة وجود الصانع وذلك أن الطرق الشرعية إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة في المقدمات الأولى قال وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية أعني مركبة من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس
عند تجردها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة على المطلوب ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كثيرة مثل قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة 282] ومثل قوله تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69} [العنكبوت 69] ومثل قوله تعالى إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً [الأنفال 29] إلى أشياء كثيرة في الشرع يظن أنها عاضدة لهذا المعنى ونحن نقول إن هذه الطريقة ليست عامة للناس بما هم ناس ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها في الإنسان عبثًا والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار وتنبيه على طرق النظر نعم لسنا ننكر أن تكون إماتة الشهوات شرطًا في صحة النظر مثل ماتكون الصحة شرطًا في ذلك لا أن إماتة الشهوات هي التي تفيد المعرفة بذاتها
وإن كانت شرطًا فيها كما أن الصحة شرط في التعلم وإن كانت ليست مفيدة له ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ماحث الله على العمل لاأنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلنا وهذا بين عند من أنصف واعتبر الأمر بنفسه قال وأما المعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى ويشبه أن تكون طرقهم من جنس طرق الأشعرية قال فإن قيل فإذْ قد تبين أن هذه الطرق كلّها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري سبحانه
وتعالى فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها واعتمدتها الصحابة رضوان الله عليهم قلنا الطرق التي نبه الكتاب العزيز عليها ودعا الكل من بابها إذا استقرئ الكتاب العزيز وُجدت تنحصر في جنسين أحدهما طريق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله ولنسم هذا دليل العناية والطريقة الثانية مايظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل ولنسم هذا دليل الاختراع ثم تكلم على شرح كل واحد من الطريقين قلت أما المعتزلة فطريقتهم هي طريقة الأعراض هم أهل هذه الطريقة وأشهر الطوائف بها وعنهم تلقاها من تلقاها من الأشاعرة وبمثل هذه الطريقة ولوازمها كثر ذم
السلف والأئمة لهم فيما ذموه من الكلام ومن الجهمية فإنهم من أشهر الطوائف بهذا الكلام المبني على هذه الطريقة طريقة الأعراض والجواهر ومذهب الجهمية الذي هو نفي الصفات إذ البدع المضافة إلى الأشعرية هي بقايا من أصولهم وبذلك نعتهم من نعتهم من أهل الحديث والفقهاء والصوفية والفلاسفة أيضًا كما ذكره أبو نصر في رسالته إلى أهل
زبيد قال ولقد حكى لي محمد بن عبد الله المالكي المغربي وكان فقيهاً صالحاً عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه خلف المعلم وكان من فقهاء
المالكيين أنه قال الأشعري أقام أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري وعودته قلت وسبب هذا مقدمات هذه الحجة ونحوها حيث لم يبطلها وأبو الحسن الأشعري يذكر أن المعتزلة مع الفلاسفة كذلك كما ذكره في كتاب المقالات فقال الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين وعمى العمين وحيرة الحائرين الذين نفوا صفات رب العالمين وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لا صفات له وأنه لا علم له ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له ولا عزة
له ولا جلال له ولا عظمة له ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا قديم وعبروا عنه بأن قالوا عين لم تزل ولم يزيدوا على ذلك غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه بنفيهم أن يكون للباري علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ماكانت الفلاسفة تظهره من ذلك ولأفصحوا به غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأيادي كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري تعالى عالم
قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة ومنهم رجل يعرف بعباد بن سليمان يزعم أن الباري ليس بعالم قادر سميع بصير حكيم جليل في حقيقة القياس وكذلك ذكر في الإبانة وأما الفرقة الرابعة وهي الباطنية فلم يذكر لهم مقالة
تعقبها برد وذلك لأنه منهم فإنه يرى أن ظواهر الشريعة في وصف الله تعالى واليوم الآخر له باطن يخالف ظاهره وأن فرض الجمهور اعتقاد ظاهره ومن تأوله فقد كفر وفرض الذين سماهم أهل البرهان اعتقاد باطنه ووجوب تأويله ومن لم يتأوله فقد كفر لكن قد ذكر عن الصوفية أنهم يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية ولم يرض هذه الطريقة بل ذكر أن إماتة الشهوات شرط في صحة النظر لا أنها تفيد المعرفة بذاتها وقد ذكر قبل هذا عن طائفة من
الصوفية أنهم يرون في المعاد رأي الفلاسفة المشائين فيكون الصوفية معدودين عنده من الباطنية وإن كان اسم الباطنية يتناولهم عنده ويتناول الفلاسفة المشائين وحقيقة الأمر أن اسم الباطنية قد يقال في كلام الناس على صنفين أحدهما من يقول إن للكتاب والسنة باطنًا يخالف ظاهرهما فهؤلاء هم المشهورون عند الناس باسم الباطنية من القرامطة وسائر أنواع الملاحدة وهم الذين عناهم هذا الفيلسوف وهؤلاء في الأصل قسمان قسم يرون ذلك في الأعمال الظاهرة حتى في الصلاة والصوم والحج والزكاة وتحريم المحرمات من الفواحش والظلم والشرك ونحو ذلك فيرون أن الخطاب المبين لوجوب هذه الواجبات وتحريم المحرمات ليس هو على ظاهره المعروف عند الجمهور ولكن لذلك أسرار وبواطن يعرفونها كما يقولون الصلاة معرفة أسرارنا والصوم
كتمان أسرارنا والحج والزيارة إلى شيوخنا القدسيين فهؤلاء زنادقة منافقون باتفاق سلف أئمة الإسلام ولا يخفى نفاقهم على من له بالإسلام أدنى معرفة ثم خواصهم لايقولون برفعها عن الخاصة كما يقولون في الأمور العلمية فإن من دفع أن يكون الخطاب العملي مرادًا به هذه الأعمال فهو للخطاب العلمي أعظم دفعًا وهذا الصنف يقع في القرامطة المظهرين للرفض ويقع في زنادقة الصوفية من الاتحادية الحلولية ويقع في غالية المتكلمة لكن هؤلاء قد يدّعون تخصيص الخطاب العام الموجب للصلاة والزكاة والصيام والحج وإن كان ذلك كذبًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام أنه باطل لايدعون رفع حكم الخطاب مطلقًا وأما عقلاء هذه الطائفة الباطنية مثل ابن رشد هذا وأمثاله فإنهم إنما
يقولون بالباطن المخالف للظاهر في العلميات وأما العمليات فيقرونها على ظاهرها وهذا قول عقلاء الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام مع أنهم في التزام الأعمال الشرعية مضطربون لما في قلوبهم من المرض والنفاق وتارة يرون سقوطها عنهم أو عن بعضهم دون العامة وابن سينا كان مضطربًا في ذلك لكن له عهد قد التزم فيه موافقة الشريعة وهم في الجملة يرون موافقة الشريعة العملية أولى من مخالفته وليس هذا موضع تفصيل مقالات الناس ولايكاد تفصيل الباطل ينضبط أما القسم الثاني فالذين يتكلمون في الأمور الباطنة من العمال والعلوم لكن مع قولهم إنها توافق الظاهر ومع اتفاقهم على أن من ادعى باطنًا يناقض الظاهر فهو منافق زنديق فهؤلاء هم المشهورون بالتصوف عند الأمة وهم في ما يتكلمون فيه من الأعمال الباطنة وعلم الباطن يستدلون على ذلك بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة كما يستدل بذلك على الأعمال الظاهرة وذلك في علم الدين والإسلام كما للإنسان بدن وقلب وهؤلاء من أعظم الناس إنكارًا على من
يخالف الظاهر ممن فيه نوع تجهم دع الباطنية الدهرية وهم أشد إيمانًا بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا من غيرهم وأشد تعظيمًا للأعمال الظاهرة مع الباطنة من غيرهم ولكن يوجد منهم من جنس ما يوجد في بقية الطوائف من البدع والنفاق مثل من قد يرى الاستغناء بالعمل الباطن عن الظاهر ومن يدعي أن للقرآن باطنًا يخالف ظاهره ونحو ذلك من صنوف المنافقين الزنادقة فهؤلاء بالنسبة إلى الصوفية الذين هم مشايخ الطريقة الذين لهم في الأمة لسان صدق بالنسبة إلى المنافقين الزنادقة ومن متكلمي الفلسفة ونحوهم الموجودين في الفقهاء بالنسبة إلى الفقهاء الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدق فكما أن أولئك الأئمة الفقهاء برءاء من بدع أهل الكلام فضلا عن بدع الفلاسفة من الباطنية ونحوهم فكذلك المشايخ الصوفية برءاء من بدع أهل التصوف فضلا عن
بدع من دخل فيهم من المتفلسفة وغيرهم فهذا أصل عظيم ينبغي معرفته واعتبر ذلك بما ثبت مقبولاً عن أئمة المشايخ كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي
والسري السقطي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وعمرو بن عثمان المكي وخلائق قبل هؤلاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الذين ذكرهم أبو نعيم الأصبهاني في كتاب حلية الأولياء وذكرهم أبو الفرج
ابن الجوزي في كتابه صفوة الصفوة من المتقدمين والمتأخرين فإن المصنفات في أخبار الزهاد ثلاثة أقسام قسم جردوا النقل لأخبار القرون المفضلة من الصحابة
والتابعين ونحوهم كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله في كتابه المشهور في الزهد فإنه صنفه على الأسماء وذكر فيه زهد الأنبياء والصحابة والتابعين وإن كان آخرون من المصنفين في الزهد كعبد الله بن المبارك وهناد بن السري
صنفوا ذلك على الأبواب وقسم ذكروا أخبار الزهاد المتأخرين من حين حدث اسم التصوف كما فعل أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه في طبقات الصوفية وكما فعل أبو القاسم القشيري في
رسالته وابن خميس في مناقب الأبرار ونحو هؤلاء وقسم ذكروا المتقدمين والمتأخرين كما فعل الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما
وهؤلاء المشايخ الموجودون في هذه الكتب ليس فيهم من هو معروف باعتقاد مذهب الباطنية المخالف للظاهر بل لهم من الكلام في نقيض ذلك بل في رد البدع الصغار وحفظ الشريعة باطنًا وظاهرًا من الكلام والقوة في ذلك والموالاة عليه والمعاداة عليه ما لا يوجد كثير منه لكثير من أئمة الفقهاء وحذاق الشيوخ أكثر عناية بالرد على الجهمية من كثير من حذاق الفقهاء لاسيما الكاملين في التصوف منهم وهم أهل الحديث كما كانوا يوصون الإنسان أن يكتب الحديث وان يتصوف فإن هؤلاء من أعظم الناس رعاية لما جاءت به الشريعة من الأقوال والأعمال ومحافظة على ما دل عليه ظاهرها مع تحقيق باطنها فيجمعون بين الظاهر والباطن وأما ما حكاه عنهم حيث قال وأما الصوفية
فطرقهم في النظر ليست طريقة نظرية أعني من مقدمات وأقيسة وإنما يزعمون المعرفة بالله وبغيره من الموجودات بشيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب فيقال هذه الأشياء إنما أخذها هذا من كلام أبي حامد فإنه كثيرًا ما يذكر في كتبه أن الطريق إلى المعرفة هي هذا وهو يذكر ذلك في الكتب التي يذكر فيها كلام المشايخ الصوفية كـ الإحياء وغيره ويذكر بعض ما في النصوص والآثار
وكلام المشايخ الصوفية من الدلالة على تأثير العمل الصالح في حصول العلم فظن هذا وأمثاله أن هذا مذهب الصوفية كما حكاه وليس الأمر على ماقالوه بل مشايخ الصوفية الذين لهم في الأمة لسان صدق متفقون على وجوب تعلم العلم الشرعي وتدبر كتان الله تعالى والنظر فيما ذكره فيه من الآيات والأمثال المضروبة ومتفقون أيضًا على النظر والاعتبار بما في المخلوقات من الآيات بل هم أعظم تجردًا لكثير من النظر والاعتبار في الآيات المسموعة والآيات المشهودة من كثير من أهل الكلام والفقه وحالهم في ذلك أشهر عند من يعرفه من أن يحتاج إلى بسط وأما أنهم يقولون إن مجرد ترك الشهوات والتجرد المحض يوجب معرفة الحقائق من معرفة ما جاءت به الرسل ومن غير نظر في ذلك وتدبر فهذا ليس طريق القوم الذين لهم في الأمة لسان صدق ولهذا وصيتهم بالعلم الشرعي والمحافظة عليه في الأصول الخبرية وفي الأعمال أعظم من أن يذكر هنا
نعم فيهم من قد يجرد بعض العبادات كالذكر ويوصون بذلك في الابتداء ليصفى به القلب ويثبت على الإيمان وينقطع عن الالتفات إلى غير الله فليس ذلك مجرد ترك الشهوات بل نفس الذكر لله تعالى والاستحضار هو الذي يرقي النفس ويصلح القلب وينوره ويقويه ويثبته وإنما ترك الشهوات معين على ذلك أو شرط فيه لا أنها هي كل الطريق إذ الأمور العدمية لا تحصِّل بنفسها أمورًا وجودية ولكن قد تكون شرطًا في الأمور الوجودية وأيضًا فهم وغيرهم من أهل الكلام والفقه والحديث يقولون إن المعارف التي يزعم النظار أنها لا تحصل بالقياس قد تحصل بالفطرة البديهية الضرورية عند ترك النفس هواها وتوجهها إلى طلب الحق وهذا والله أعلم هو أصل المعنى الذي قال عنهم لأجله ما قال ولكن هذا ليس كلام الصوفية وحدهم بل وحذاق المتكلمين يوافقونهم على هذا حتى أبو عبد الله الرازي ونحوه فإنه قال في مسألة وجوب النظر لما ذكر أن المعرفة الـ واجبة لا تحصل
إلا به فطالب المعارض بالدليل على أن المعرفة لاتحصل إلا بالنظر فقال من جهة نفسه الطريق إلى تحصيل العلم بالأشياء إما الحس أو الخبر أو النظر والأولان لا يكونان طريقين فتعين النظر وقال من جهة المعترض لانسلم أن طريق تحصيل المعارف هذه الطرق الثلاث فما الدليل عليه ثم أنا نبين ها هنا طريقًا آخر وهو تصفية النفس عن العلائق الجسدانية والهيئات البدنية فإنها متى خلت عن هذه الأمور حصل لها عقائد يقينية وهذا هو طريق الصوفية وأصحاب الرياضة فإنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في
المعارف الإلهية وأما أصحاب النظر فقلما يحصل لهم مثل هذا الجزم وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى معرفة الله تعالى فلا أقل من أن تكون من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله فإذا كان كذلك بطل ما ذكرتموه من الحجة وقال في جواب هذا قوله لما لا يجوز أن تكون التصفية طريقًا إلى اكتساب المعارف قلنا العقائد الحاصلة عند التصفية إما أن تكون ضرورية وإما أن لاتكون فغن كانت فلا كلام لنا فلما قلنا هذا علم أن النظريات يمكن أن تصير ضرورية وإن لم تكن ضرورية فلا يخلو إما أن تكون تلك العقائد بحال يلزم من زوالها زوال شيء من العلوم الضرورية أو لايلزم فإن لزم قتلك العلوم إنما حصلت مرتبة على تلك العلوم الضرورية ولا معنى للعلم النظري إلا ذلك وإن لم يلزم فتلك العقائد ليست إلا عقائد تقليدية ولا عبرة حينئذ بذلك فإن أمثال تلك العقائد قد تحصل لأصحاب الرياضة من المبطلين نحو اليهود
والنصارى والدهرية قلت وقد رأيت بخط القاضي أبي العباس أحمد بن محمد بن خلف المقدسي حكاية مضمونها أن الشيخ أحمد
الخيوقي المعروف بالكبرى أخبره انه دخل عليه إمامان من أئمة الكلام أحدهما أبو عبد الله الرازي والآخر من شيوخ المعتزلة الذين بتلك البلاد بلاد جرجان وخوارزم
قال فقالا لي يا شيخ بلغنا أنك تعلم علم اليقين فقلت لهما نعم فقالا كيف تعلم علم اليقين ونحن نتناظر من وقت كذا إلى كذا كلما أقام دليلاً أظنه قال على صحة الإسلام أفسدته وكلما أقمت دليلاً أفسده وقمنا ولم يقدر أحدٌ منا أن يقيم دليلاً على الآخر فقال فقلت ماأدري ماتقولان أنا أعلم علم اليقين فقالا فصف لنا علم اليقين قال فقلت هو واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها وهذا الجواب مناسب لما يعلمانه من حد العلم الضروري فإن العلم الضروري هو الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لايمكنه الانفكاك عنه فبين أن اليقين الذي يحصل لنا أمر نضطر إليه يرد على قلوبنا لا نقدر على دفعه قال فقالا له كيف الطريق إلى هذه الواردات فدلهما على طريقة وهي الإعراض عن الشواغل الدنيوية والإقبال على ما يؤمر به من العبادات والزهد قال فقال الرازي أنا لايمكنني هذا فإن لي تعلقات كثيرة وأما المعتزلي فقال أنا محتاج إلى هذه الواردات فقد أحرقت
الشبهات قلبي فأمره الشيخ بما يعمله من الذكر والخلوة فتعبد مدة فلما خرج من الخلوة قال ياسيدي والله ماالحق إلا فيما يقوله هؤلاء المشبهة هذا معنى الحكاية أو نحو ذلك وذلك أن المعتزلة يسمون من أثبت الصفات مشبهًا وكان يعتقد النفي لا يرى أن الخالق يتوجه إليه القلب إلى جهة فوق ولا نحو ذلك فلما خلا قلبه من تلك العقائد والأهواء التي هي الظن وماتهوى النفس حصل له بالفطرة علوم ضرورية توافق قول المثبتة ومع هذا فالمشايخ الصوفية العارفون متفقون على أن
ما يحصل بالزهد والعبادة والرياضة والتصفية والخلوة وغير ذلك من المعارف متى خالف الكتاب والسنة أو خالف العقل الصريح فهو باطل ومن زعم من المنتسبين إليهم أنهم يجدون في الكشف مايناقض صريح العقل أو أن أحدهم يرد عليه أمر يخالف الكتاب والسنة بحيث يكون خارجًا عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره أو أنه يحصل له علم مفصل بجميع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به فهو عندهم ضال مبطل بل زنديق منافق لايجوزون قط طريقًا يستغنى به عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخبر به الرسول ويأمر به فضلا عن أن يسوغ له مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره وخبره وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع ولو جاز ذلك لأحد لكان مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن محتاجًا إلى متابعته في خبره وأمره وهذا حال الذين قال الله تعالى فيهم وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ [الأنعام 124] وقال تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً {52} [المدثر 52]
ولكن هؤلاء الضالون المنافقون منهم المسوغون للاستغناء عن الرسول بكشفهم أو مشاهدتهم أو لمخالفته بخاصة انفردوا بها عن جميع المؤمنين هم في ذلك بمنزلة كثير من أهل الكلام الظانين أنهم يصلون بالأدلة العقلية إلى مايستغنون به عن الرسول وأنهم يدركون بمقاييسهم العقلية نقيض ما أخبر به الرسول وهذه الزندقة والنفاق في الطائفتين هي في حال المتفلسفة والباطنية ونحو هذه الأصناف المعروفين بالنفاق وأما قوله ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة وحث عليها في جملة ماحث أعني على العمل لا أنها كافية بنفسها كما ظن القوم بل إن كانت نافعة في النظرية فعلى الوجه الذي قلناه فيقال الشارع لم يأمر بالأعمال لمجرد كونها معينة للنظر على حصول العلم بل هذا إنما يظنه هؤلاء المتفلسفة ونحوهم من المبطلين الذين يظنون أن غاية الكمال الإنساني المطلوب هو أن يكون الإنسان عالمًا وهذا في غاية
الجهل كما قد بسطنا في غير هذا الموضع بل مقدمهم الجهم بن صفوان لما ادعى أن المعرفة في القلوب تنفع وإن لم يكن معها عمل أطلق غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وغيره تكفير من يقول ذلك فكيف بمن يقول إنها
المقصود فقط وما سواها وسيلة هذا لعمري لو كان
مقصودهم المعرفة التي دلت عليها الرسل فكيف وهم يعنون بالمعرفة عقائد أكثرها باطلة مناقضة للشرع والعقل بل كل واحد من علم القلب وعمله الذي أصله محبة القلب هو أمر مأمور به مقصود للشارع فالعلم بمنزلة السبب والأصل يوجب المحبة والإرادة وطلب المحبوب المعبود ثم كلما ازداد العبد معرفة ازداد محبة وعبادة وكلما ازداد محبة ازداد عبادة والمطلوب المقصود الذي هو الغاية هو الله سبحانه وتعالى وأن يكون العبد عابدًا له قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} [الذاريات 56] وليست عبادته مجرد الأعمال البدنية بل أصل العبادة كمال معرفته وكمال محبته وكمال تعظيمه وهذه الأمور تصحبه في الدار الآخرة فكل من النظر والعمل مأمور به مقصود للشارع وكل منهما معين للآخر وشرط
في حصول المقصود بالآخر فإن الناظر مع سوء قصده وهواه لايحصل له المطلوب لا من العلم ولا من العمل والعابد مع فساد نظره لا يحصل له المقصود لا من العلم ولا من العمل بل كلاهما واجب لنفسه وشرط للآخر فلابد من سلوك الطريقين معًا ليس ذلك في وقت واحد ولا بد أن يكون ذلك جميعه موافقًا لما أخبر به الرسول وأمر به فإذا حصل هذا وهذا كان العبد من الذين هم على هدى من ربهم الذين هم المفلحون وإلا كان من المغضوب عليهم والضالين مثل من اقتصر على النظر دون العمل أو على العمل دون النظر أو جمعهما وأعرض عن كون نظره وعمله على الوجه المشروع المأمور به فكيف بمن كان له نظر مجرد غير شرعي كحال كثير من المتفلسفة والمتكلمين أو عمل مجرد غير شرعي كحال كثير من عباد المتفلسفة والمتصوفين فهذا هذا والله أعلم
ولا ريب أن من أشهر مشايخ الصوفية وأعظمهم عندهم وعند العامة في عصر أبي المعالي الجويني شيخَ الإسلام أبا إسماعيل الأنصاري وأبا القاسم سعد بن علي الزنجاني وأمثالهما فلينظر ماذكره هؤلاء في مصنفاتهم ولهذا لما كانت هذه الحجة التي جعلها المتكلمون الجهمية الدين وهي حجة الأعراض مستلزمة في الحقيقة لحدوث الرب وتعطيله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا
وكانت في المعتزلة أخذها من أخذها من الأشعرية وكانت بينها وبين مذهب الدهرية من الملازمة ماتؤول إليه كما نبهنا عليه تكلم الناس بذلك حتى قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه المشهور في ذم الكلام وأهله ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما ادعته من أمور
الفلاسفة ولم نقف فيها إلا على التعطيل البحت وان قطب مذاهبهم ومنتهى عقدتهم ماصرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية وأن قولهم إنه تعالى في كل موضع وفي كل شيء ما استثنوا جوف كلب ولا جوف خنزير ولا حُشًّا فرارًا من الإثبات وذهابًا عن التحقيق وأن قولهم سميع بلا سمع بصير بلا بصر عليم بلا علم قادر بلا قدرة إله بلا نفس ولا شخص ولا صورة ثم قالوا لا حياة له ثم قالوا لا شيء فإنه لو كان شيئًا لأشبه الأشياء حاولوا حول مقال رؤوس الزنادقة القدماء إذ قالوا الباري لا صفة ولا لاصفة خافوا على قلوب ضعفى المسلمين
وأهل الغفلة وقلة الفهم منهم إذ كان ظاهر تعلقهم بالقرآن وإن كان اعتصامًا به من السيف واجتناناً به منه وإذ هم يرون التوحيد ويخاوضون المسلمين ويحملون الطيالسة فأفصحوا بمعانيهم وصاحوا بسوء ضمائرهم ونادوا على خبايا نكثهم فياطول مالقوا في أيامهم من سيوف الخلفاء وألسنا العلماء وهجران الدهماء فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية في مقالات علماء المسلمين فيهم ودأب الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين
على إخراجهم من الملة فعلت عليهم الوحشة وطالت عليهم الذلة وأعيتهم الحيلة إلا أن يظهروا الخلاف لأوليهم والرد عليهم ويصبغوا كلامهم صبغًا يكون ألواح للأفهام وأنجع في العوام من أساس أوليهم يجدوا بذلك المساغ ويتخلصوا من خزي الشناعة فجاءت بمخازيق تراءى للغبي بغير ما في الحشايا ينظر الناظر الفهم في جذرها فيرى مخ الفلسفة يُكسى لحاء السنة وعقد الجهمية تنُحل ألقاب الحكمة يردون على اليهود قولهم يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] فينكرون الغُل وينكرون اليد فيكونون أسوأ حالا من اليهود لأن الله تعالى أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب ويردون على النصارى في مقالهم في عيسى وأمه
فيقولون لايكون في المخلوق إلا المخلوق فيبطلون القرآن فلا يخفى على ذوي الألباب أن كلام أولهم وكلام آخرهم كخيط السحارة فاسمعوا الآن ياذوي الألباب وانظروا مافضل هؤلاء على أولئك قالوا قبح الله مقالتهم إن الله موجود بكل مكان وهؤلاء يقولون ليس هو في مكان ولا يوصف بأين وقد قال المبلغ عن الله لجارية معاوية بن الحكم رضي
الله عنه أين الله وقالوا هو من فوق كما هو من تحت لا يُدرى أين هو ولايوصف بمكان وليس هو في السماء وليس هو في الأرض وأنكروا الجهة والحد وقال أولئك ليس له كلام إنما خلق كلامًا وهؤلاء يقولون تكلم مرة فهم متكلم به منذ تكلم لم ينقطع الكلام ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به ثم يقولون ليس هو في مكان ثم قالوا ليس له صوت ولا حرف وقالوا هذا ثاج وورق وهذا صوف وخشب وهذا إنما قصد به النقش وأريد به النفس وهذا صوت القارئ أما ترى منه حسنًا وغير حسن وهذا لفظه أو ما تراه مجازًا به حتى قال رأس
رؤوسهم أو يكون قرآن من لبد وقال آخر من خشب فراوغوا فقالوا هذا حكاية عبربها عن القرآن والله تعالى تكلم مرة ولا يتكلم بعد ذلك ثم قالوا غير مخلوق ومن قال مخلوق كافر وهذا من فخوخهم يصطادون به قلوب عوام أهل السنة وإنما اعتقادهم القرآن غير موجود لفظته الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشر مرات
وأولئك قالوا لاصفة وهؤلاء يقولون وجه يقال وجه النهار ووجه الأمر ووجه الحديث وعين لعين المتاع وسمع كأذن الجدار وبصر كما يقال جداراهما يتراءيان ويدٌ كيد المنة والعطية والأصابع كما يقال خراسان هي أصبع الأمير والقدمين كقولهم جعلت الخصومة تحت قدمي والقبضة كما قيل فلان في قبضتي أي أنا مالك أمره
وقال الكرسي العلم والعرش الملك والضحك الرضا والاستواء الاستيلاء والنزول القبول والهرولة مثله فشبهوا من وجه وأنكروا من وجه وخالفوا السلف وتعدوا الظاهر وردوا الأصل ولم يثبتوا شيئًا ولم يبقوا موجودًا ولم يفرقوا بين التفسير والعبارة بالألسنة فقالوا لانفسرها نجريها عربية كما وردت وقد تأولوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد عيابًا عنها وأعيا ذهابا منها ليكونوا أوحش عند ذكرها وأشمس عند سماعها وكذبوا بل التفسير أن يقال وجه ثم لا يقال كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين فأما العبارة فقد قال الله وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة 64] وإنما قالوها
بالعبرانية فحكاها الله عنهم بالعربية وكان يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبًا بالعربية فيها أسماء الله وصفاته فيعبر بالألسنة عنها ويكتب إليه بالسريانية فيعبره له زيد بن ثابت رضي الله عنه بالعربية والله تعالى يُدعى بكل لسان باسمه فيجيب
ويحلف بها فيلزم وينشد فيجاز ويوصف فيعرف ثم قالوا ليس ذات الرسول بحجة وقالوا ماهو بعد مامات بمبلغ فلا تلزم به الحجة فسقط من أقاويلهم على ثلاثة أشياء أنه ليس في السماء رب ولا في الروضة رسول ولا في الأرض كتاب كما سمعت يحيى بن عمار رحمه الله يحكم به عليهم وإن كانوا موهوها ووروا عنها أو
استوحشوا من التصريح بها فإن حقائقها لازمة لهم وأبطلوا التقليد فكفروا آباءهم وأمهاتهم وأزواجهم وعوام المسلمين وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم فكفروا السلف وسموا الإثبات تشبيهًا فعابوا القرآن وضللوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تكاد ترى فيهم رجلاً ورعًا ولا للشريعة معظمًا ولا للقرآن محترمًا ولا للحديث موقرا سلبوا التقوى ورقة القلب وبركة التعبد ووقار الخشوع واستفضلوا الرسول فانظر فلا هو طالب آثاره ولا متتبع أخباره ولا متأصل عن سنته ولا هو راغب في أسوته يتقلد مرتبة العلم وما عرف حديثًا واحدًا تراه يهزأ بالدين ويضرب له الأمثال ويتلعب بأهل السنة ويخرجهم أصلا من العلم لاتنفذ لهم عن بطانة إلا خانتك ولا عن عقيدة إلا رابتك ألبسوا ظلمة
الهوى وسلبوا هيبة الهدى فتنبو عنهم الأعين وتشمئز منهم القلوب وقد ذكر قبل ذلك باب تعظيم إثم من سنّ سنة سيئة أو دعا إليها وذكر الأحاديث في هذا الباب ثم ذكر حديثًا رواه من حديث عثمان بن سعيد حدثنا يحيى بن الحماني حدثنا ابن المبارك عن حيوة بن شريح حدثني أبو صخر
حميد بن زياد أن نافعًا أخبره عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون في أمتي مسخ وذلك في قدرية
وزندقية
قال فلم يكن بدٌّ أن يكون ماقال هو كائن كائنًا فلم يظهر شيء من ذلك حتى قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلمًا وهي إحدى فتنتي هذه الأمة اللتين لا ثالث لهما توازنهما التي ثانيتهما فتنة الدجال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في الحديث أنه من نجا من ثلاث فقد نجا موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال فلما قتل ذو
النورين رضي الله عنه بين ظهراني المسلمين في الشهر الحرام وفي حرم الرسول عليه الصلاة والسلام بأعين المسلمين وانشقت العصا وتفرقت الجماعة تشامست الأعين وتجادلت الأنفس واختلفت الآراء وتباعدت القلوب وساءت الظنون واشتعلت الريب واستقوت التهم وجدت كل فتنة فرصتها فلفظت غصتها واشتغل الرعاء وأسلم
النشأ وتزاحف أئمة الهدى رغبة في زهرة الدنيا فأخذت الغواة أزمة الضلالة فتهوست لها قلوب أهل الغفلة فمما ظهر في المسلمين من زيغ الدين الكلام في التوحيد تكلفًا وهي الزندقة الأولى وهي ثلاث قواعد نجم بعضها على أثر بعض الأولى منها القول بالقدر وهي فتنة البصرة ثم قصب السلف وهي فتنة الكوفة ثم إنكار الكلام لله وهي فتنة المشرق فأما فتنة القدر فأول من تكلم بها معبد الجهني رجل
من البصرة كان عنده سوء حظ من العلم يقال له معبد بن خالد ويقال معبد بن عبد الله بن عويمر مات بعد الهزيمة وكان يومئذ مع ابن الأشعث وأصابته جراحة وهو أول من تكلم بالقدر وهو الذي تبرأ منه عبد الله ابن عمر بن الخطاب فتكلم
عليه عمرو بن عبيد وجادل به غيلان وغيلان هو ابن
أبي غيلان أبو مروان من موالي عثمان بن عفان وكان عنده حظ من العلم تكلم به أمام عبد الملك بن مروان واستتابه عمر بن عبد العزيز ثم ظهر منه تكذيب التوبة فصلب على باب الشام بأخزى حالة لقيها
بشر قصته قد تقصيتها في كتاب تكفير الجهمية وأما عمرو بن عبيد وهو عمرو بن عبيد بن كيسان بن باب مولى بني تميم البصري مات سنة ثلاث وأربعين ومائة في طريق مكة فإنه أول من بسط أساسه فأصبح رأسه ونظم له كلامًا ونصبه إمامًا ودعا إليه ودل عليه فصار مذهبًا يسلك وهو إمام الكلام وداعية الزندقة الأولى ورأس المعتزلة سموا بها لاعتزاله حلقة الحسن
البصري وهو الذي لعنه إمام أهل الأثر مالك بن أنس الأصبحي وإمام أهل الرأي النعمان بن ثابت الكوفي أبو حنيفة وحذر منه إمام أهل المشرق عبد الله بن المبارك الحنظلي وقد قدمنا أسانيد تلك الأقاويل فسلط الله عليه
وعلى من استتبع واخترع سيفًا من سيوف الإسلام وهو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة السختياني واسم أبيه كيسان من أهل البصرة فهتك أستاره واظهر عواره ووسمه باللعنة والحق به بلاء تلك الفتنة وهو الذي يقول قتيبة بن سعيد إذا رأيت الرجل من أهل البصرة يحب أيوب فاعلم أنه على الطريق وقال رجل لأحمد بن حنبل رحمه الله من السني قال من أين أنت قال من أهل البصرة قال أتحب أيوب السختياني قال نعم قال فأنت سني هذه قصة أهل
البصرة أما قصة غيلان فظهرت بليته بالشام وافتتن بها ثور ابن يزيد ومكحول الفقيه وجماعة من أهل العلم بتلك الناحية فسلط الله عز وجل عليهم ريحانة من أهل الشام أبا عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي فلحظهم
بالصغار ووضعهم في المقدار وبسط عليهم لسانًا أعطي بيانًا وضن عليهم ببشاشة الوجه وطلاقة اللقاء حتى ذل به الأعزة في سبيل الضلالة وعز به الأذلة في سبيل السنة بحمد الله رب العالمين ومنه وأما فتنة قصب السلف فإن الكوفة دارها التي خرجتها ثم طار في الآفاق شررها واستطار فيها ضررها وإنما هاجتها أحلام فيها ضيق وأشربتها قلوب فيها حمق ولها عروق خفية السلامة للقلوب في ترك إظهار بعضها وأربابها أحمق خلق الله تعالى عرضت تساوي بين علي بن أبي طالب وبين أبي بكر وعمر رضي الله
عنهم ثم أخذت تفضله عليهما ثم جعلت توليه عليهما وتخاصمهما له وتظلمهما وتوليه حقهما بالقياس العقلي ترفعه ببنت الرسول صلى الله عليه وسلم وسبب البتول رضي الله عنها ثم جاءت تعدله بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وتشركه في وحي السماء ثم خطأت جبريل في نزوله فحلت الأمة من النبوة وأحوجتها إلى علي رضي الله عنه ثم ادعت له الإلهية ثم ادعتها
لولده قال الإمام الشعبي لو كانوا دوابًا لكانوا حمرًا أو كانوا طيرًا لكانوا رخمًا فاستظهرت بهؤلاء الغالية أرباب
القلوب المريضة فتظاهرت على قصب السلف الصالح الذين هم الناقلون وفيهم قانون الدين وديوان الملة فترى أمثلهم طريقة وأصوبهم وثيقة من يتستر بفضائل علي رضي الله عنه ويربأ به عن منزله الذي أنزله الله تعالى من الشرف به ثم روى من طريق العباس بن عقدة حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قرأت على
أبي حدثنا ابن الحباب عن عبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لاتصلح الصلاة إلا على النبي
صلى الله عليه وسلم فلما
تعادنت أولئك الغواة
بتلك الضلالة وتعاونت عليها قيض الله لها إمامًا خلصه حسامًا وهو أبو محمد عبد الله بن إدريس الأودي فصرح بقدحهم ودفع في نحرهم ونادى على خباياهم وأورى عن خفاياهم فلم تكابد الأمة من شؤم شيء ماكابدت من شؤم تلك الفتنة لم يكد قلب مسلم يسلم من شوب منها إلا من رحم ربك فعصم وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل فأول من بدعها
جعد بن درهم فلما ظهر جعد قال الزهري وهو أستاذ أئمة الإسلام حينئذ ليس الجعدي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورواه بإسناده من طريق ابن أبي حاتم فأخذ منه جهم بن
صفوان هذا الكلام فبسطه وطراه ودعا إليه فصار به مذهبًا لم يزل هو يدعو إليه الرجال وامرأته زهرة تدعو إليه النساء حتى استهويا خلقًا من خلق الله كثيرًا فأما الجعد فكان خزري الأصل فيما أخبرنا وأسنده عن قتيبة بن سعيد ولكن جهم بسط ذلك المذهب وتكلم فيه وهو صاحب ذلك المذهب الخبيث وكانوا قد حذروه فيما أخبرناه
وأسند ذلك من طريق ابن أبي حاتم إلى مقاتل بن حيان قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فقال من أين أنت قلت من أهل بلخ قال كم بينك وبين النهر قلت كذا فرسخًا قال هل ظهر من وراء النهر رجل يقال له جهم يُهلك
خلقًا من هذه الأمة يدخله الله وإياهم النار مع الداخلين فأما الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ من نكير وذلك سنة نيف وعشرين ومائة وأما الجهم وكان
بمرو فكتب هشام بن عبد الملك إلى واليه على خرسان نصر بن سيار يأمره بقتله فكتب إلى سلم بن أحوز وكان على مرو فضرب عنقه بين
نظارة أهل العلم وهم يحمدون ذلك فهذه قصة فتنة أهل المشرق بها بسطت ومهدت ثم سارت في البلاد فقام لها ابن أبي دؤاد وبشر بن غياث فملآ
الدنيا محنة والقلوب فتنة دهرًا طويلاً فسلط الله تعالى عليهم علما من أعلام الدين أوتي صبرًا في قوة اليقين أبا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني فشد المئزر وأبى الفتنة وجاد بالدنيا وضن بالدين وأعرض عن الغضاضة على طيب العيش ولم يبال في الله خفة الأقران ونسي قلة الأعوان حتى هدّ ماشدوا وقدّ مامدوا فأما قول الطائفة التي قال بالقدر فأرادت منازعة في
الربوبية وقعت فيها فضاهت المجوسية الأولى وهم الزنادقة التي كانت تشوش على الأولين دينهم ولعنهم الله تعالى على لسان سبعين نبيًّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا آخرهم
وأما الذين قالوا في السلف الصالح بالقول السيئ فأرادت القدح في الناقل لأن القدح في الناقل إبطال للمنقول فأرادوا إبطال الشرع الذي نقلوا وإنما تعلقوا بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه تسلحًا وروي عن أبي الربيع الزهراني قال كان من هؤلاء الجهمية عندنا رجل
وكان يظهر من رأيه الترفض وانتحال حب علي رضي الله عنه فقال له رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه قد علمت أنكم لاترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه فما الذي صبّكم على الترفض وحب علي قال إذًا أصدُقَك إنا إذا أظهرنا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة وقد وجدنا أقوامنًا ينتحلون حب علي ويظهرونه ويقعون بمن شاؤوا وانتسبوا بذلك إلى الرفض والتشييع ويعتقدون ماشاؤوا ويقولون ما شاؤوا وقد حبس الخليفة رجلاً في الزندقة فدخل عليه رجل فقال له قد كنا نعرفك بسب الصحابة والرفض فما خرج بك إلى الزندقة فقال نايغمائي وما
جنى عليّ أبو بكر وعمر لولا بغض صاحبهما قال وقد صدق مارأيت من رجل يُزَن بشيء من الرفض إلا كانت تخرج من فيه أشياء لاتشبه كلام المسلمين وأما الذين قالوا بإنكار الكلام لله عز وجل فأرادوا إبطال الكل لأن الله تعالى إذا لم يكن على زعمهم الكاذب
متكلمًا بطل الوحي وارتفع الأمر والنهي وذهبت الملة عن أن تكون سمعية فلا يكون جبريل عليه السلام سمع مابلغ ولا الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ ما أنفذ فيبطل التسليم والسمع والتقليد ويبقى المعقول الذي به قاموا وهذا قول عثمان بن سعيد إن جهمًا إنما بنى زندقته على نفي الكلام لله عز وجل فهذه القواعد
الثلاث أبنية الزندقة الأولى وهم الزنادقة الذكور كما سمعت يحيى ابن عمار يقوله وروى بإسناده عن
زر بن صالح السدوسي قال قلت لجهم بن صفوان هل نطق الرب قال لا قلت فينطق قال لا قلت فمن يقول لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر 16] ومن يرد عليه لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر 16] فقال لا أدري زادوا في القرآن ونقصوا ثم قال باب ذكر كلام الشعري وذكر ماقدمناه عنه وذكر قبل هذا قال سمعت عدنان بن عمدة النميري يقول سمعت أبا بكر البسطامي يقول كان أبو الحسن الأشعري أولاً ينتحل الاعتزال ثم رجع فتكلم عليهم وإنما
مذهبه التعطيل إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه وقال سمعت أحمد بن أبي نصر يقول رأينا محمد بن الحسين السلمي يلعن الكلابية قال وسمعت
عبد الرحمن بن محمد بن الحسن يقول وجدت أبا حامد الإسفراييني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور
الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله قال وسمعت عبد الواحد بن ياسين المؤذن أنا جعفر يقول رأيت بابين قلعًا من مدرسة أبي الطيب بأمره من بيتي شابين حضرا أبا بكر ابن فورك
فصل وأصل هؤلاء المتكلمين من الجهمية المعتزلة ومن وافقهم الذي بنوا عليه هذا هو مسألة الجوهر الفرد فإنهم ظنوا أن القول بإثبات الصانع وبأنه خلق السموات والأرض وبأنه يقيم القيامة ويبعث الناس من القبور لايتم إلا بإثبات الجوهر الفرد فجعلوه أصلا للإيمان بالله واليوم الآخر أما جمهور المعتزلة ومن وافقهم كأبي المعالي وذويه فيجعلون الإيمان بالله تعالى لايحصل إلا بذلك وكذلك الإيمان باليوم الآخر إذ كانوا يقولون لايعرف ذلك إلا بمعرفة حدوث العالم ولايعرف حدوثه إلا بطريقة الأعراض وطريقة الأعراض مبنية على أن الأجسام لاتخلو منها وهذا لم يمكنهم أن يثبتوه إلا بالأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة
والسكون فعلى هذه الطريقة اعتمد أولوهم وآخروهم حتى القائلين بان الجواهر لا تخلو عن كل جنس من أجناس الأعراض وعن جميع أضداده إن كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن احد الضدين وإن قدر عرض لاجنس له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه إذا لم يمنع مانع من قبوله فإن هذا أبلغ الأقوال وهو قول أصحاب الأشعري ومن وافقهم كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأبي الحسن
الزاغوني وغيرهم فإنه لم يمكنهم أن يثبتوا أن الجسم لايخلو من الأعراض إلا بالأكوان ثم عند التحقيق لم يمكنهم أن يثبتوا ذلك إلا بالاجتماع والافتراق فإن منهم من يقول الكون أمر عدمي ومنهم من يقول الكون الذي هو الحركة والسكون إنما يلزم إذا كان الجسم في مكان فأما إذا لم يكن في مكان فيجوز خلوه عن الحركة والسكون كما يقوله طوائف كالذين قالوا ذلك من الكرامية فآل الأمر بهذه الطريقة إلى الاجتماع والافتراق وعلى ذلك اعتمد أبو المعالي وغيره من الأشعرية وعلى ذلك اعتم محمد بن الهيصم وغيره من الكرامية ومعلوم أن قبول الاجتماع والافتراق لم يمكنهم حتى يثبتوا أن الجسم يقبل الاجتماع والافتراق وذلك مبني على انه مركب من الأجزاء التي هي الجواهر المنفردة فصار الإقرار بالصانع مبنيًّا عند هؤلاء المتكلمين على إثبات الجوهر الفرد
ثم الذين ذكروا أن لهم طريقًا إلى إثبات الصانع غير هذه كأبي عبد الله الرازي وغيره وهو الذي عليه أبو الحسن الأشعري وغيره من الحذاق قال من قال من هؤلاء إن إثبات المعاد موقوف على ثبوت الجوهر الفرد وهذا قول أبي عبد الله الرازي وغيره وهو مخلص ممن جعله الأصل في الإيمان بالله فجعله هو الأصل في الإيمان بالمعاد مع كونه يجعله أصلا في نفي الصفات التي ينكرها كما سيأتي بيانه قال في بعض أكبر كتبه الكلامية الذي سماه نهاية العقول في الأصل السابع عشر اعلم أن معظم الكلام في المعاد إنما يكون مع الفلاسفة ولهم أصول يفرعون شبههم عليها فيجب علينا إيراد تلك الأصول أولاً ثم الخوض بعدها في المقصود فلا جرم رتبنا الكلام في هذا الأصل على أقسام ثلاثة القسم الأول في المقدمات وفيه ثمان مسائل المسألة الأولى في الجزء الذي لايتجزأ ولا شك أن الأجسام التي نشاهدها قابلة
للانقسامات فالانقسامات التي يمكن حصولها فيها إما أن تكون متناهية أو لاتكون فيخرج من هذا التقسيم أقسام أربعة أولها أن تكون الانقسامات حاصلة وتكون متناهية وثانيها أن تكون حاصلة وتكون غير متناهية وثالثها ألا تكون حاصلة ولكن مايمكن حصوله منها يكون متناهيًا ورابعها أن لاتكون حاصلة ولكن ما يمكن حصوله منها يكون غير متناه فالأول مذهب جمهور المتكلمين والثاني مذهب النظام والثالث
مذهب بعض المتأخرين والرابع مذهب الفلاسفة فنخلص من هذا أن الخلاف بيننا وبين الفلاسفة في هذه المسألة يقع في مقامين أحدهما أن الجسم مع كونه قابلاً للانقسامات هل يعقل أن يكون واحدًا هل يعقل أن يكون قابلاً للانقسامات الغير متناهية وأعجب من هذا أنهم يجعلون إثبات الجوهر الفرد دين المسلمين حتى يعد منكره خارجًا عن الدين كما قال أبو المعالي وذووه اتفق المسلمون على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادًا وكل جزء لايتجزأ ولاينقسم وليس له طرف وحد وجزء شائع ولايتميز
وإلى هذا صار المتعمقون في الهندسة وعبروا عن الجزء بالنقطة فقالوا النقطة شيء لاينقسم وصار الأكثرون من الفلاسفة إلى أن الأجسام لاتتناهى في تجزئها وانقسامها وإلى هذا صار النظام من أهل الملة ثم اعترف بأنه تنتهي قسمتها بالفعل ولاتنتهي قسمتها بالقوة ويعنون بالقوة صلاحية الجزء للانقسام والعجب أنهم اتفقوا على أن الأجرام متناهية الحدود والقطار منقطعة الأطراف والأكثاف وكذلك على كل
جملة ذات مساحة فغن لها غايات ومنقطعات بالجهات ثم قضوا بأنها تنقسم أجزاءً بلا نهاية والجملة المحدودة كيف تنقسم أجزاءًا لاتتناهى ولا يحاط بها قلت والكلام في ذلك من وجهين أحدهما أنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الرسول والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين لم يبنوا شيئًا من أمر الدين على ثبوت الجوهر الفرد ولاانتفائه وليس المراد بذلك أنهم لم ينطقوا بهذا اللفظ فإنه قد تجدد بعدهم ألفاظ اصطلاحية يعبر بها عما دل عليه كلامهم في الجملة وذلك بمنزلة تنوع اللغات وتركيب الألفاظ المفردات وإنما المقصود أن المعنى الذي يقصده المثبتة والنفاة بلفظ الجوهر الفرد لم يبن عليها احد من سلف الأمة وأئمتها مسألة واحدة من مسائل الدين ولا ربطوا بذلك حكمًا علميًّا ولا علميًّا فدعوى المدعي انبناء أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ذلك يضاهي دعوى المدعي أن ما بينوه من الإيمان بالله واليوم الآخر ليس هو على مابينوه بل إما أنهم ماكانوا يعلمون الحق أو يجوز الكذب في هذا الباب لمصلحة الجمهور كما يقول نحو ذلك من يقوله من
المنافقين من المتفلسفة والقرامطة ونحوهم من الباطنية فإنهم إذا أثبتوا من أصول الدين مايعلم بالاضطرار انه ليس من أصول الدين لزم قطعًا تغيير الدين وتبديله ولهذا زاد أهل هذا الفن في الدين ونقصوا منه علمًا وعملاً وإذا كان كذلك لم يكن الخوض في هذه المسألة مما يبنى عليه الدين بل مسألة من مسائل الأمور الطبيعية كالقول في غيرها من أحكام الأجسام الكلية وأيضًا فإنه أطبق أئمة الإسلام على ذم من بنى دينه على الكلام في الجواهر والأعراض ثم هؤلاء الذين ادعوا توقف الإيمان بالله واليوم الآخر على ثبوته قد شكوا فيه وقد توقفوا في آخر عمرهم كإمام المتأخرين من المعتزلة أبي الحسين البصري وإمام المتأخرين من
الأشعرية أبي المعالي الجويني وإمام المتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين أبي عبد الله الرازي فإنه في كتابه بعد أن بين توقف المعاد على ثبوته وذكر ذلك غير مرة في أثناء مناظرته للفلاسفة قال في المسألة بعينها لما أورد حجج نفاة الجوهر الفرد فقال وأما المعارضات التي ذكروها فاعلم أن من العلماء من مال إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات