المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الوجه الأول - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - جـ ٢

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ الوجه الأول

تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني أو تريد أنه سبحانه وتعالى لايحب فعله ويرضاه ويفرح به فإن أردت هذا لم يسلم لك ذلك فإن الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة قد دل على وصفه بالمحبة والرضا والفرح أو تريد أنه لايحدث له في هذه الأمور مالم يكن قبل ذلك فهذا هو‌

‌ الوجه الأول

وقد تقدم الكلام عليه ثم قال الرازي وأما تقرير هذا المعنى في الصفات فذلك من وجوه أحدها أنا لانعقل ذاتًا تكون عالمة بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة

ص: 302

فإنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى وتقدس عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه اشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات أمرًا على خلاف مقتضى الوهم والخيال والكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا الكلام أن علم الله ليس من جنس علومنا ولا مماثلاً له وأنا لانستطيع أن نعلم كعلم الله تعالى هذا من أوضح الأمور وأبينها عند الخاصة والعامة فإن أحدًا من الخلق كما لا يظن أن ذاته كذات الله تعالى لايظن أن علمه كعلم الله تعالى ومن المعلوم لكل أحد أن الله أكبر وأعظم مما تعلمونه وتقولونه فيه فكذلك علمه وقدرته وسائر صفاته أكبر وأعظم من أن يعلم كنه علمه أو يوصف ولم يقل أحد من البشر إن علم الله تعالى مثل علمنا ولا توهم أحد ذلك ولا تخيله فأي شيء في هذا مما هو على خلاف مقتضى الوهم

ص: 303

والخيال غاية ما فيه أنه ليس مثلما نتوهمه ونتخيله في نفوسنا وهذا لا ريب فيه وهذا يظهر بالوجه الثاني وهو أن الله سبحانه ليس مثل مانعلمه ونعقله ونحسه من نفوسنا فضلاً عن أن يكون مثل ما نتخيله ونتوهمه من نفوسنا فلا اختصاص للوهم والخيال بذلك وإذا كان الله سبحانه ليس مثل ما نحسه ونعلمه ونعقله ونتخيله فينا ولم يكن في ذلك ما يقتضي أن يكون منافيًا لما نعلمه لم يجب أن يكون منافيًا لما نحسه ويقرر هذا بالوجه الثالث وهو أن العلم بامتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه علم فطري ضروري ليس هو من خصائص الوهم والخيال وأما ماذكره من إحاطة علم الله تعالى فليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك بحال الوجه الرابع أن كل ما وصف به علم الله ليس عندنا اعتقاد ينفي ذلك لا محسوس ولا متوهم ولا متخيل ولا معقول إلا أن يكون من الاعتقادات الباطلة التي لم تعلم بضرورة ولا نظر ولا ريب أن ذات الله وصفاته على خلاف الاعتقادات الباطلة التي يظن أنها معقولة أو محسوسة أو متخيلة ولكن لا فرق في ذلك بين ما يظن انه معقول معلوم وما يظن أنه محسوس ومتخيل

ص: 304

الوجه الخامس أن قوى بني آدم في العلم متفاوتة تفاوتًا لاينضبط طرفاه أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان ولبعضهم من القوة على استحضار معلومات في وقت واحد ما ليس لبعض وليس لذلك حد معلوم للناس يعتقدون أن أحدًا من البشر لا يمكن أن يكون أقوى من ذلك بل فوق كل ذي علم عليم حتى ينتهي ذلك إلى الله تعالى كما قال السلف وإذا كان بنو آدم متفاوتين في العلم والقدرة ولم يكن عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر من العلوم والأعمال مانعًا من اعتقاده ثبوت ذلك لغيره مع كونه مجانسًا له مساويًا في الحقيقة فلأن لا يكون عجز أحدهم عما يوصف الله تعالى به من العلم مانعًا من

ص: 305

اعتقاد وجوب ذلك في ربه عز وجل بطريق الأولى والأحرى ولا يكون ذلك معتقدًا ما يخالف محسوسه ولا معقوله الوجه السادس أنه إذا كان الآدمي يعلم من اقتدار غيره على استحضار العلوم المعضلة في زمن واحد ما لايقدر هو عليه كان ذلك دليلاً عنده على أن رب العالمين أولى بأن يكون موصوفًا بالعلم بمعلومات معضلة لايقدر العبد عليها الوجه السابع أن العبد يعلم أن ربه يدبر أمر السموات والأرض في آن واحد لايشغله شأن عن شأن ومعلوم أن التدبير يحتاج إلى قدر زائد عن العلم من القدرة والمشيئة والحكمة مع أن العبد يعلم عجز نفسه عن نظيره من نحو ذلك بأن يكون معتقدًا بأن ربه بكل شيء عليم وإن كان عاجزًا عن ذلك بطريق الأولى والأحرى وبالجملة فهذا الوجه من الوجوه التي ذكرها في تقريره هذه المقدمة وكذلك ما ذكره في قدرة الله تعالى وفي سمعه وفي بصره بعد هذا كما سنذكره

ص: 306

قال الرازي وثانيها أنا نرى أن كل من فعل فعلاً فلابد له من آلة وأداة وأن الأفعال الشاقة تكون سببًا للكلال والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع انه منزه عن المشقة واللغوب والكلال يقال له لاريب أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة 255] أي لايكرثه ولا يثقل عليه وقال في كتابه وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ {38} [ق 38] وقد ذُكر أنها نزلت لما قال من قال من اليهود إن الله خلق السموات والأرض ثم استراح يوم السبت فأخبر الله أنه ما مسه من لغوب واللغوب الإعياء وإنما يستريح من

ص: 307

أعيا ومنه قول أبي قتادة في حمار الوحش فسعى القوم حتى لغبوا وقال أهل الجنة وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ

ص: 309

إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ {35} [فاطر 34 ، 35] وهذا مما لايتنازع فيه المسلمون وإذا كان كذلك فالكلام على ماذكرته من وجوه أحدها أن هذا بيان أن قدرة الله تعالى كاملة تامة لانقص فيها ليست مثل قدرة العباد كما ذكرنا في العلم وهذا حق ولم يقل أحد إن هذا مخالف لا للمحسوس ولا للمعقول وإنما هو مخالف لمقدار صفاتنا الثاني أن هذا يُشبه هذا أن المعلوم والمعقول والمحسوس والمتخيل نسبة واحدة فقولك إن ثبوت هذا على خلاف حكم الوهم والخيال كقول القائل إنه ثابت على خلاف

ص: 310

حكم العقل والعلم الثالث أن هذا معناه أن الله ليس مثلنا ولا صفاته كمقدار صفاتنا وقد مضى أن انتفاء مثل الشيء لا يوجب انتفاءه فكيف إذا كان إنما نفى مماثلته لنا فقط وإن كان الله تعالى ليس كمثله شيء وقد قدمنا أنه إن عنى بثبوته على خلاف الحس والخيال عدم النظير فهو حق لكن نفي موجود لا داخل العالم لا خارجه معلوم بالفطرة البديهية لابالقياس ولا بعدم النظير الرابع أن هذه القدرة ليس عندنا اعتقاد بنفيها لا محسوس ولا معقول بخلاف وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن عندنا من العلوم الضرورية والنظرية ما ينفي ذلك الخامس أن قوى بني آدم في العقل مختلفة فإذا كان عجز أحدهم عما يقدر عليه الآخر ليس مانعًا من اعتقاد ثبوت تلك القدرة مع اشتراكهم في الجنس فأن لا يكون عجز أحدهم مانعًا من الإيمان بقدرة خالقه أولى وأحرى السادس أنه إذا كان أحدهم يعلم من قدرة غيره على العمل ما ليس هو عنده ولا يكون ذلك ممتنعًا لا في حسه ولا في

ص: 311

خياله ولا في عقله فأن يعلم من قدرة خالقه ما ليس هو عنده أولى وأحرى قال الرازي وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه سبحانه وتعالى كذلك يقال له لاريب أنه سبحانه وتعالى كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وإنه ليخفى على بعض كلامها فأنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة 1] وفي

ص: 312

الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي فتحدثوا بينهم بحديث فقال أحدهم أترون الله يسمع مانقول فقال الآخر يسمع إن أعلنا ولايسمع إن أسررنا فقال الثالث إن سمع منه شيئًا فإنه يسمع كله فأنزل الله تعالى وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا

ص: 313

تَعْمَلُونَ {22} وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ {23} [فصلت 22 ̧23] لكن الكلام في سعة سمعه وبصره سبحانه وتعالى كالكلام في سعة علمه وقدرته سواء وليس فيما ذكره إلا أن ذلك ليس مثل سمعنا وبصرنا وثبوت مثل هذا مما لاينازع فيه عاقل ولا ينفيه حس ولا عقل ولا تخيل بل ثبوت مالا نظير له في الخلق

ص: 314

لا ينفيه الحس والعقل فكيف بما ليس له نظير مساو أيضًا فالعقل والحس والخيال والوهم بالنسبة إلى هذا سواء فقوله ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود بمنزلة قول القائل إن العقل البشري والعلم الإنساني قاصران عن الاعتراف بهذا الموجود وهو لايقول إن الله ثابت على خلاف حكم العقل والعلم فيلزمه في الحس والوهم والخيال مثل ذلك وأيضًا فقوله على خلاف ذلك إن أراد به أن الوهم والخيال يعجز عن إدراك ذلك لم يضر فإن العجز عن إدراك الشيء من بعض الوجوه لا ينفي القدرة على معرفته من وجه آخر وإن أراد أن الوهم والخيال يدرك ما ينافي ذلك للم يصح ذلك فليس في وهمنا وخيالنا الصحيح ما ينافي ذلك وإن فُرض اعتقاد فاسد ينافي ذلك فهو كالاعتقاد الذي يظن صاحبه أنه معقول أو معلوم وقد قدمنا أن لفظ الوهم والخيال يقال على الباطل تارة وعلى المطابق أخرى فالمطابق لا ينافي ذلك والباطل لا نزاع فيه وأيضًا فاعتقاد امتناع موجود لا داخل العالم ولا خارجه

ص: 315

ثابت بالضرورة الفطرية والمتوهم المتخيل لا يكون ثابتًا بالفطرة الضرورية كما تقدم قال الرازي فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة كنه الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما في معرفة الذات كان ذلك أولى وأحرى فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزهًا عن الحيز والجهة ليس أمرًا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب قلت قد تقدم الكلام على أصول هذا غير مرة من وجوه متعددة أحدها أن القصور عن معرفة الشيء غير العلم بانتفائه

ص: 316

والمنازع له قال إني أعلم انتفاء موجود لا داخل العالم ولا خارجه لم يقل إني قاصر أو عاجز عن معرفة وجوده الثاني أن قصور الوهم والخيال لا يستلزم قصور العلم والعقل والحس والمنازع له يقول إن ذلك لا يعلم بعقل ولا غيره فإذا كان غيره معقولاً لم يجب أن يكون هذا معقولاً الثالث أن المنازع له قال أنا أعلم بالفطرة الإنسانية التامة امتناع هذا الموجود لا يقول إن ذلك نعتقده بوهمنا وخيالنا دون علمنا وعقلنا الرابع أن جميع ماذكره إنما يدل على ثبوت ما لا نظير له لا يدل على ما نعتقد انتفاءه والأول مسلم ومورد النزاع من الثاني الخامس أن الوهم والخيال المطابق والعلم والعقل والإحساس فيما ذكره سواء كما تقدم بيانه ثم إنه لم يعزل العلم والعقل في معرفة الله تعالى فلا يعزل الحس الصحيح والتخيل الصحيح وأما الفاسد فهو معزول وإن قيل إنه

ص: 317

معقول ومعلوم كما يعزل ما يذكره الجهمية وغيرهم من أهل الإلحاد من الأمور التي يسمونها عقليات وهي جهليات السادس أن المنازع له قد يسلم أن يعزل الوهم والخيال في معرفة أفعال الله تعالى وصفاته وذاته لكن لم يعزل الفطرة الإنسانية والمعارف الضرورية ومسألتنا من هذا الباب ولم يذكر حجة واحدة تنفي كون ذلك معلومًا بالضرورة ولا يقبل الاحتجاج على خلاف ما يعرف بالضرورة السابع أنه إنما أثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته ليست مماثلة لأفعالنا وصفاتنا وذلك لايقتضي كونها ثابتة على خلاف الوهم والخيال فإن الوهم والخيال لاينفي ما لم يكن مثاله موجودًا فيه بل غاية ماذكره انتفاء المثل في الوجود والوهم والخيال لاينفي ما لا مثل له بل الوهم والخيال من أعظم الأشياء إثباتًا لما لا نظير له فيما يقدره ويصوره من الأمور التي تكون موجودة فيه وليس لها نظير في الخارج وأما قوله فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه منزهًا عن الحيز والجهة ليس أمرًا يدفعه صريح العقل وذلك تمام

ص: 318

المطلوب فقد تبين بأدنى نظر أنه ليس فيها وجه واحد يبين إمكان وجود ذلك لا الإمكان الذهني ولا الخارجي أعني لم يثبت أن العقل يعلم إثبات ذلك ولا أنه لا يعلم امتناعه ولو لم يكن عندنا اعتقاد ينفي إمكان ذلك بضرورة أو نظر فكيف إذا كان اعتقاد امتناع ذلك معلومًا بالضرورة وقد تقدم أن ما اعتقد امتناعه بالضرورة وأراد الرجل أن يبين أنه غير ممتنع بالضرورة ولا بالنظر بل هو ممكن في الذهن فلا بد أن يبين أن ما يعلم امتناعه بالضرورة أو النظر ليس هو الذي لا يعلم امتناعه في الذهن ليبقى الإمكان الذهني مع أن الإمكان الذهني لا يستلزم الإمكان الخارجي كما تقدم

ص: 319

فصل ثم إن المنازعين له إذا كانوا يقولون نعلم بالضرورة امتناع ذلك بل وقالوا إن مايقول النفاة إنه الحق الذي يجب وصف واجب الوجود به فإنه ممتنع وجوده معلوم امتناعه بضرورة العقل بل يقولون إنا نعلم بضرورة العقل أن رب العالمين فوق العالم فنحن نعلم بضرورة العقل وجوب ماادعى امتناعه بالنظر وامتناع ماادعى إمكانه بالنظر وقد يقولون نحن نعلم بالفطرة والضرورة أن الموجود أو أن الموجود الذي ليس هو صفة لغيره أو أن واجب الوجود لا يكون إلا قائمًا بنفسه يمتنع غيره أن يكون بحيث هو وأنه ليس خيالاً وشبحًا في النفس بل هو شيء موجود له التحقق والثبوت الذي يعلم بالقلوب أنه تحقق وثبوت وإن سماه المنازع تحيزًا وتجسمًا ونحو ذلك ونعلم بالضرورة والفطرة أن ما لا يكون كذلك لا يكون إلا معدومًا كما نعلم

ص: 320

بالضرورة والفطرة أنه ما من موجودين حيين عالمين قادرين بل ما من موجودين إلا وهما مشتركان في مسمى الوجود والثبوت وإن تميز أحدهما عن الآخر بخاصيته التي تخصه سواء كان واجبًا أو لم يكن وما به الاشتراك ليس هو ما به الامتياز ولا مستلزمًا له وإلا كان أحدهما هو الآخر إذا كان المشترك مستلزمًا للمميز فإنه إذا لم يكن أحدهما مختصًّا بما يميزه بل حيث تحقق المشترك تحقق المميز والمشترك ثابت لهما فإذا كان المميز ثابتًا لهما لم يكن لأحدهما تميز يخصه فلا يكون أحدهما غير الآخر إذ لابد في المعينين من أن يمتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وإذا كان كل منهما موصوفًا بقدر مشترك والقدر المشترك أن يكون لأحدهما شبه ما للآخر ولو من بعض الوجوه امتنع أن يكون في الوجود موجود لا يشارك الموجودات في شيء من الأمور الوجودية ولا يشابهها في شيء من ذلك ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن العلماء يعلمون بعقلهم انتفاء ذلك كما قال الإمام أحمد رحمه الله في رده

ص: 321

على الجهمية لما ذكر عنهم ما وصفوه من السلوب وأنهم قالوا كل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه وهذا معنى قول المؤسس وذويه إنه على خلاف الحس والخيال أو العقل وقد تقدم ذكر ذلك قال فقلنا هو شيء قالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لاشيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لايثبتون شيئًا ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون به في العلانية فإذا قيل لهم

ص: 322

من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لاتثبتون شيئًا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فذكر أولاً أن ما يقال إنه شيء ثم يقال إنه لا كالأشياء أي لا يشابهها بوجه من الوجوه بل يخالفها من كل وجه فهذا قد عرف أهل العقل أنه لا شيء لأن العلم بذلك عام في أهل العقل ولما ذكر ثانيًا من يعبدون قالوا نعبد المدبر لهذا الخلق فهذا إخبار عن المعبود الذي تجب عبادته في الدين فلما قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة قال قد علم المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا لأن المسلمين يوجبون عبادة الله تعالى فذكر أولاً عن عموم أهل العقل أنهم لا يثبتون شيئًا وذكر ثانيًا عن أهل الدين أنهم لا يعبدون شيئًا ذكر في كل مقام ما يناسبه وذلك لأن المجهول لايعرف فلا يقصد ولا يعبد ومن لا يعرف

ص: 323

بصفة تميزه من غيره لم يكن معلومًا فلا يكون معبودًا فهنا ذكر أن لابد من صفة تميزه عن غيره والنفاة يقولون هذا تجسيم وذكر أولاً أنه يمتنع أن لا يكون بينه وبين شيء من الموجودات قدر مشترك ولا شبه بوجه من الوجوه والنفاة يقولون هذا تشبيه فهم بما عنوه بلفظ التشبيه والتجسيم أوجبوا أن يكون الموصوف بنفي ذلك على المعنى الذي قصدوه معدومًا بل واجب العدم ممتنع الوجود وإن كان اللفظ يحتمل نفي معان باطلة مثل نفي كونه مشابهًا للمخلوقات مماثلاً لها من بعض الوجوه فإن نفي هذا واجب وكذلك نفي كونه يقبل التفريق والتفكيك فلا يكون صمدًا أحدًا هو أيضًا واجب فتكلموا أيضًا باللفظ المجمل المتشابه الذي يحتمل الحق والباطل ولكن قصدوا به ماهو باطل وإن قصدوا به ما هو أيضًا حق أوهموا الناس أنهم لم يقصدوا به إلا نفي ما هو باطل كما قال أحمد رحمه الله يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويوهمون جهال الناس بما يشبهون عليهم

ص: 324

فصل ويقول المنازعون نحن نعلم بالنظر العقلي والاستدلال كما علمنا بالفطرة الضرورية لامتناع وجود ما أثبته المنازع من أنه لا داخل العالم ولا خارجه ونعلم انتفاء ذلك وثبوت ضده بالكتاب والسنة وبالإجماع وبالنقل المتواتر عن الأنبياء المتقدمين وباتفاق أهل الفطر السليمة من جميع العقلاء فصاروا يقولون إن كل واحد من ثبوت ما يقوله ونفي ما يقوله الجاحد المخالف يعلم بالفطرة والضرورة والبديهة والذوق

ص: 325

والوجد ويعلم بالفطرة والأدلة العقلية ويعلم بالأدلة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع ويعلم بالنقل المتواتر عن الأنبياء ويعلم باتفاق العقلاء ذوي الفطر السليمة وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه أحدها وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقًّا وتارة باطلاً وهذا متفق عليه بين العقلاء فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كل ما لم يحسه مماثلاً لما أحسه إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه بل من الأمور الغائبة عن حسه ما لا يعلمه أو مايعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ماشهده وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع

ص: 326

والمحسوس ابتداءً هو ما يحسه بظاهره أو باطنه وهذا بين القسم الثاني وهو أنهم متفقون على أن من الأمور الغائبة عنة حسه ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شهده كما يعلم ما يغيب عنه من أفراد الآدميين والبهائم والحبوب والثمار وأفراد الأطعمة والأشربة واللباس ونحو ذلك فإنما يسميه الفقهاء ونحوهم جنسًا واحدًا أو هو ماله اسم جامع يجمع أنواعًا يميز بينها بالصفات كالحنطة والثمر والإنسان والفرس وهو الذي يسميه المنطقيون النوع وما هو اخص من ذلك وإن كان قد يسمى أيضًا جنسًا أو صنفًا أو نوعًا كالعربي والعبري والفارسي والرومي وكالتمر البرني والمعقلي ونحو ذلك لا ريب أن الإنسان لم يحس جميع أعيانه وأفراده وإنما يعلم غائبها بالقياس على شاهدها فهذا أصل متفق عليه بين العقلاء ومن حكى من أهل الكلام أن من الأمم أمة لا تقر بشيء من المعقولات وإنما تقر بما أحسته ويذكرون ذلك عن

ص: 327

البراهمة السمنية فلا ريب أن هذا النقل وقع فيه غلط من هؤلاء وتغليط من أولئك وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أصل هذا النقل لما ذكر مبدأ حدوث الجهمية في هذه الملة فقال وكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من الترمذ وكان صاحب خصومات

ص: 328

وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي ناسًا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا بالجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلهًا قال الجهم نعم فقالوا له هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مجسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى صلى الله على نبينا وعليه هي من روح الله تعالى ومن ذات الله

ص: 329

تعالى فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهي عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لايُرى له وجه ولايُسْمَعُ له صوت ولا تُشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] ولَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه كله على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف

ص: 330

الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا فقد ذكر بأن السمنية طالبوه بأن يكون إلهه معروفًا ببعض حواسه الخمس وأن ما لا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعلمه وهذا يقتضي أن ما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لايعرفه وهذا تغليط منهم فظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لايعرف شيئًا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضًا فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضًا ولو كانوا هم لايقرون إلا بما

ص: 331

أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس وقياس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لايمكن أن يحتج بقول الأنبياء على كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لايقبلون القياس في المحسوس لكانوا لايقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء ر يعرف حكمه من جهة النظير بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودًا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس لايقولون الإنسان المعين لايعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضًا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لايتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ

ص: 332

مبلغ التواتر لايتفقون على إنكار ما يعلم بالضرورة كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب أن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به طوائف العقلاء أن يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لايتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطؤ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطؤ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما قد يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لعارض فهو وإن كان ظلومًا جهولاً فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدًا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لايعيشون بدونه لايتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبًا وأمًّا وأخًا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه

ص: 333

لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لابد من الاعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لابد أن يعرفوا أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وان أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا بد أن أحدهم يستعين بالآخر على جلب منفعة ودفع مضرة فيأتيه فيصلح له طعامًا وشرابًا أو لباسًا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعاتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضًا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أتى به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأسباب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل أمة من رئيس مطاع وكبير منهم

ص: 334

لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحسيات وهذه الأفعال ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إن ما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل ما لا يعرفه هذا الجنس المعنى لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدًّا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمون هذا أحد أنواع السفسطة

ص: 335

ولكن غلطهم في تفصيل السفسطة كغلطهم في جملتها فإنهم ذكروا أن من الناس من ينكر جملة العلوم ويجحدها ومنهم من يشك ويقول لا أدري ويسمونهم المتجاهلة واللاأدرية ومنهم من يقول إن الحقائق تتبع العقائد ثم قالوا منهم من يعترف بالحسيات فقط ومنهم من يضم إلى ذلك المتواترات ويقولون إن رئيس هؤلاء شخص يقال له سفسطاء نسبوا إليه كما نسبت المانوية

ص: 336

والجهمية إلى رئيسهم وهذا غلط فإن أمة من الأمم لا يتصور أن تنكر ذلك ولا يتصور أن عاقلاً يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبًا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لايتصور ولكن وقع الاشتباه في هذا النقل فإن هذه الكلمة هي كلمة معربة وأصلها باليونانية سوفسقيا أي حكمة مموهة فإن صوفيا باليونانية هي الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة وهم قسموا الحكمة القياسية إلى خمسة أنواع

ص: 337

برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة ومغلطية فهذه المموهة المغلطية هي التي تشبه الحق وتوهم أنها حق وهي باطلة قطعًا لايجوز أن يظن صدقها ولا أن تتأثر النفس بها فإن الشعرية قد تتأثر النفس بها كما يتأثر الإنسان بأقوال الشعر التي فيها من المدح والذم ما يجزم عقله بكذبه لكن لما فيها من التخييل والتشبيه يؤثر في النفس وإن علم انها ليست مطابقة وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل فسموها سوفسقيا أي حكمة مموهة ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم وفيها من أمور الطب والحساب ما لا يضر كونه في ذلك وصار الناس فيها أشتاتًا قوم يقبلونها وقوم يحكون مافيها وقوم يعرضون

ص: 338

ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب مضمومًا إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة حتى صار ما مدح في الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرها ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والعدل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها

ص: 339

فإن كل أمة من أهل الكتب في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع إلا الظن وما تهوى الأنفس ولهذا قال تعالى وتقدس كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه كما قال تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {59} [النساء 59] وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعبرون باللفظة المعربة من سوفسقيا إلى سوفسطا عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق وليس الأمر كذلك وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم

ص: 340

فكل من جحد حقًّا معلومًا وموّه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرًّا بأمور أخرى وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره قال تعالى وتقدس وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل 14] فهؤلاء سوفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى وقال تعالى وتقدس فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ {33} [الأنعام 33] ولهذا كان جمهور من يكذب بالحق الذي بعث الله به رسله من ذوي التمييز هم من الجاحدين المعاندين وهم من شر السوفسطائيين فهكذا ماذكروه عن السمنية إنما كان اصل قولهم إن الموجود لابد أن يمكن أن يكون محسوسًا بإحدى الحواس لا أنه لابد لمن أقر به أن يحس به وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الإثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يُرى متفقين على أن ما لا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدومًا لا موجودًا

ص: 341

فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لابد أن أحس بإلهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم انه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لابد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو احد الحواس وقد رآه بعضهم أيضًا عند كثير من أهل الإثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه

ص: 342

لابد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنة الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب

ص: 343

فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه وهو الروح وهذا هو قول المتفلسفة المشائين فيها وحجته هذه من جنس حجة أبي عبد الله الرازي لما ادعى جواز وجود موجود لايمكن إحساسه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه واحتج على ذلك بقول هؤلاء المتفلسفة ومن وافقهم في العقول والنفوس ويقول بقولهم وقول من وافقهم من متكلمي المسلمين في النفوس الناطقة فجهم أول هؤلاء

ص: 344

ومقدمهم الأول ولهذا ألزمته هذه الحجة أن يصف الرب تعالى وتقدس من الحلول والاتحاد بنحو مما قالته النصارى في المسيح لكن أولئك خصوه بالمسيح والجهمية تطلقه في الموجودات فقولهم في كل مكان نظير قول النصارى أنه حال في المسيح إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطربون كل منهم يستعمله فيما يثبته وينكره فيما ينفيه وإن ذلك فيما ينفيه أولى منه فيما يثبته ويرد على منازعه مااستعمله من ذلك وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي كما تجدهم أيضًا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله ويرد منها ما خالف قوله وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم والحديث والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم

ص: 345

في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب ما لايحصيه إلا رب الأرباب وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترئون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الإلهية والمقاصد الربانية ما لم تصل إليه آراء هؤلاء المتكلفين في المسائل والوسائل في الأحكام

ص: 346

والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساويًا له أصلاً بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوًا وسميًّا وهم مع هذا كثيرو البراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوًا وندًّا وسميًّا

ص: 347

كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر بن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات

ص: 348

وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكل ماثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى بأن يكون هو موصوفًا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله غيره فغن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ماكان منتفيًا عن المخلوق لكونه نقصًا وعيبًا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع

ص: 349

وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحقَّ بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحقَّ بالتنزيه منها لأنه عن العدم ابعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبتت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريقة القياسية العقلية التي لله فيها المثل العلى كان ذلك اعتبارًا صحيحًا وكذلك إذا نفى عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطرق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية فاستعملوا مثل هذا فيما أثبتوه لله تعالى وفيما نفوه عنه وفيما ردوه من قول الجهمية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائمًا بنفسه

ص: 350

أو موصوفًا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به ألا يكون بحيث يكون غيره وأن لايكون معدومًا بل ما أوجب أن يكون قائمًا بنفسه مباينًا لغيره وأمثال ذلك من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد جَارٍ على هذا الصراط المستقيم فكلما كان اقرب إلى الموجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد الوجه الثاني أن يقال من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودًا ومنه قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء [المائدة 6] وقوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور 39] وقوله أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى {7} [الضحى 6 ، 7] وأمثال ذلك فالموجود هو الذي يجده الواجد فنسبة الموجود إلى الواجد كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر والمحس أو المحسوس إلى الحس والمشهود إلى الشهود والمرئي إلى الرؤية وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودًا لواجد يجده لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود ونحو ذلك لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه

ص: 351

الرائي ويجده الواجد وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الواجد وكثيرًا ما يقصدون به المعنى الأول فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد وكذلك لفظ الوجود يريدون به تارة المصدر الذي هو الأصل فيها ويريدون به تارة المفعول أي الموجود كما في لفظ الخلق ونحوه وكذلك لفظ الفعل فإنهم يقولون وُجد هذا وهذا صيغة فعل مبني للمفعول فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعروا فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق فهذه ثلاث معان لكن عزوف هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت وغن كان المعنى الآخر لازمًا له وحينئذ فنقول اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمهما فكما أن كل ماوجده واجد فله

ص: 352

حصول في نفسه فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالمًا وحيًّا وقادرًا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء ولهذا كثيرًا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي يامقصود ياموجود وقول المذكر والداعي يا من يجيب من قصده ومن طلب الله صادقًا وجده وعلى هذا دل قوله حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ [النور 39] فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي وهو قوله وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ لكنه عدّاه إلى مفعولين وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون وهذا بعينه هو انه بحيث يحسونه فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان بل هو هو ولا يستعمل لفظ موجوده ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر أثبت الجهة بعد أن كان

ص: 353

ينفيها ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقائل هذا بمثابة من قال إثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده قال ولأن العوام لايفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم طلبته فلم أجده في موضع ما هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون هذا بمنزلة قولهم فإذا هو معدوم لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد

ص: 354

وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه فما لا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد وما امتنع أن يجده الواجد لم يكن موجودًا بل كان معدومًا كما بين أن نفي الأين والحيث ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد والمع ومعلوم أن هذا لاينطبق إلا على المعدوم فكذلك الآخر والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدًا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه وفطنته وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه وأمثال ذلك وقد استقرأت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفًا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفًا وهذا متفق عليه بين

ص: 355

الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلاً مطلقًا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليًّا مطلقًا بل لا يكون إلا مخصوصًا معينًا وإذا كان كذلك فلا يُعنى بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية كقولنا

ص: 356

الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وغما متحيز وإما قائم بمتحيز وحي وقادر ونحو ذلك وبمثل ما علمنا هذا نعلم أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورًا تامًّا حصل له حينئذ العلم البديهي الضروري الفطري فإن العلم البديهي يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيًا في التصديق به فعدم التصديق به كثيرًا ما يكون لعدم التصور

ص: 357

الصحيح للطرفين وهذه العبارات المجملة قد لايتصور أكثر الناس مراد أهل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناه ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا كل ذلك فطري ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة أما النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق وهو لا يتعين ولا يتخصص ولا كذا ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تتميز بها لزم أن يكون جسمًا متحيزًا داخل العالم أو خارجه وهم قد يسلمون نفي ذلك فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيمًا وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج وجميع العقلاء

ص: 358

يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهؤلاء أيضًا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر وعلموا من أين دخل الداخل على من كانوا عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان ومن كان حاذقًا في هذه الأمور منهم يقول ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة وهذا لايحصل إلا بالرياضة والمجاهدة

ص: 359

والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا وكان مهتما في ذلك وطلب مني ألا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وقال أنا لا أقول إنها خبر والخبر محتمل لكن أمور أخرى وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له وإن كان ذلك ما يثبته كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل وجعله حاكمًا بين الناس فيما اختلفوا فيه وأمر المؤمنين عند التنازع فِي ظُلُمَاتٍ ولَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ {8} يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ {9} وقال فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ {46} [الحج 46] كما قال تعالى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا [الحج 46] ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل وذم من لايعقل مثل ذلك ويعمى عن الحق المعقول فقلت له لا نزاع في أنه قد

ص: 360

يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة ما لا يحصل بمجرد العقل سواء كان للأنبياء فقط أو للأنبياء والأولياء أو لهم ولغيرهم لكن يجب الفرق بين مايقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته بين ما لا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه بين محارات العقول ومحالات العقول فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ماتعجز العقول عن معرفته ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته قلت وهذا بين واضح فلو قال قائل إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين وأن الواجب لذاته يكون ممتنعًا لذاته وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب ولا وجود قديم ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخبر عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة

ص: 361

فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل وبه يتبين زيف هؤلاء فلما تقرر هذا بينت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج وكان عارفًا بهذه العلوم وبينت له ما تستلزم أقوالهم من الجموع الكثيرة بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببدائه العقول وما كان كذلك فإذا ادعى المدعي أنه عرفه كشفًا وشهودًا وذوقًا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة وذلك أنه لا بد من أحد أمرين إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان كما يقع لكثير من الناس ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج وكثيرًا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن انه الخالق وغنما هو مخلوق ليس هو

ص: 362

الخالق فكل شهود وذوق وكشف يُدّعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال ذاته هو وجوده وبسط الكلام في هذا له موضع آخر فإن المؤسس وأمثاله وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة وفي الإقرار بثبوت ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة لكن هو وأمثاله

ص: 363

لا يقولون بهذا ويسلمون أنه ليس وجودًا مطلقًا بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عمّن سواه ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجودًا معينًا مخصوصًا قائمًا بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز كما يعلمون انه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه ولهذا لا يعقل احد ما هو قائم بنفسه إلا مايقولون هو متحيز وجسم فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائمًا بنفسه ولا قائمًا بغيره وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال هم لا ينازعون أن الموجود إما قائم بنفسه وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه

ص: 364

لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجد المستغني عن المحل أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرًا عدميًّا وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز وهو المعلوم في صرائح العقول ومن قيل له هل تعقل شيئًا قائمًا بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا أنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعًا له ولا مفارقًا له ولا قريبًا منه ولا بعيدًا عنه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ولا مماسًا له ولا محايثًا له وأنه لايشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكمًا بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود كما سمعنا ورأينا أنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول

ص: 365

وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئًا منها إمام من أئمة المسلمين ولا نطق بها كتاب ولا سنة والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله فإن قيل الاستغناء عن المحل وصف سلبي فإذا كان القيام بالنفس وصفًا سلبيًّا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه

ص: 366

متحيزًا أو مجسمًا قال له منازعه أولاً هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت وقالوا ثانيًا نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت وإنما قلنا الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلوب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت ونعلم أنه لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت وقالوا ثالثًا المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم وقالوا رابعًا وهو الوجه الخامس إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه ولا يكونان في حيز واحد بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث يكون هو الآخر وهذا معنى قول المتكلمين إن الأجسام لا تتداخل ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل

ص: 367

قالوا هذا قريب من جحد الضرورة ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجسامًا كاللون والطعن والريح وهذه متداخلة في محل واحد وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في تسميته أجسامًا فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد إنه يداخل مثله بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه وهو حيزه أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات وذلك مانع من المحايثة والمداخلة وإلا فإذا قدر أن كل من الصفتين عدمي فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية والمتكلمون قد ذكروا تعليل منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر فقالت المعتزلة وطائفة من

ص: 368

الصفاتية المانع منه التحيز والموجب لهذا الامتناع والتحيز وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته فما لا يكون متحيزًا لا يكون مانعًا مما ذكرناه وقال بعضهم الموجب لذلك تضاد كونيهما وعلى هذا فما لا يكون لا يضاد غيره والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم وهو ظاهر وقال بعضهم الاستحالة والامتناع لا يعلل أي هي ثابتة للذات وعلى هذا فالمعلوم أن ذلك ثابت للذوات المتحيزة فما لا يكون متحيزًا لا تعقل فيه هذه الاستحالة وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائمًا بنفسه أن لا يكون مانعًا لغيره أن يداخله وهذا باطل قطعًا وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائمًا لنفسه إلا المتحيز الوجه السادس أن يقال ما علم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسمًا أو عرضًا أو لا يكون إلا جوهرًا أو جسمًا أو عرضًا أو لا يكون إلا متحيزًا أو

ص: 369

قائمًا بمتحيز أو لايكون إلا موصوفًا أو صفة أو لا يكون إلا قائمًا بنفسه أو بغيره يعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب أو القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقًا والمعتزلة ومن اتبعهم الذين يخرجون القديم من هذا التقسيم مما اعتقدوه لما اعتقدوه وهذا قول طائفة من الفلاسفة لا جميعهم وكذلك ذاك قول طائفة من المتكلمين لا جميعهم وكما أن قول هؤلاء الفلاسفة لم يكن مانعًا للمتكلمين ومن وافقهم من الفلاسفة من التقسيم فكذلك قول هؤلاء المتكلمين ليس مانعًا لمن خالفوه من جماهير الناس وأهل الكلام والفلسفة من هذا التقسيم

ص: 370

ولهذا قال أئمة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية ومن أخذ ذلك عنهم من متكلمي الصفاتية كالأستاذ أبي المعالي إمام الحرمين وأمثاله في تقسيم الموجودات الموجود إما أن يكون له أول وإما أن يكون بلا أول والذي له أول هو الحادث وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي الحوادث إلى المحل قال وهذه القسمة أيضًا تستند إلى نفي وإثبات قال ول قيل هذه القسمة قسمة الموجودات لم يكن بعيدًا غير أن الوجود الأول لابدء له ولا نهاية لوجوده وكذلك أيضًا لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته وجودًا وحكمًا فكذلك لا يتطرق إلى ذات القديم ولا إلى صفاته الأوهام ولا تجول فيه الأفكار قلت وهذا لا يمنع من التقسيم فإن وصفه بالنهاية وعدمها فيه ماهو معروف في موضعه وهو لا يريد بسلبها أن ذاته لا تتناهى إنما يريد أنها بحيث لا يقال فيها هي متناهية أو

ص: 371

ليست متناهية فهي عنده لا تقبل أحدًا من الوصفين كما لا تقبل الوصف بالمحايثة والمباينة والدخول والخروج ونحو ذلك والخلو عن هذين الوصفين فرع إمكان ذلك أو ثبوته فلا يجعل دليلاً على مايقتضي وجوده إذا الشيء لا يكون دليلاً على نفسه إذا كان مطلوبًا بالدليل فكيف تكون دعوى الإمكان والثبوت دليلاً على وجود الشيء قبل العلم بوجوده وأيضًا فقوله لاتتطرق إليه الأوهام ولاتجول فيه الأفكار إن أراد به لا تحيط به ولا تدركه فهذا حق وإن أراد به لا تثبته ولا تُقِرُّ به فهذا باطل وأيضًا فعدم التناهي وعدم تطرق الأوهام والأفكار لا يمنع صحة التقسيم كما إذا قلنا الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما خالق وإما مخلوق وقد قال أولاً في أقسام الموجودات تنقسم قسمين موجود لاافتتاح لوجوده وهو القديم سبحانه

ص: 372

وصفاته وموجود لوجود افتتاح وهو الحادث قال وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي لأن الموجود إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول فإذا كان قد أدخله في تقسيم الموجود إلى قديم ومحدث فكذلك يجب أن يدخله في قسمة الموجود إلى مستقل ومفتقر بل هذا التقسيم أبين وأوضح والعقلاء متفقون عليه فإنه لا نزاع بينهم أن الباري سبحانه هو موجود مستقل وغير مفتقر كما أنهم متفقون على أنه قديم غير محدث لكن العلم باستقلاله وقيامه بنفسه هو أولى به وأبين وأسبق في القلب من كونه قديمًا كما أن العلم بوجوده أولى به من العلم بوجوب وجوده إذ لو لم يكن مستقلاًّ بنفسه غنيًّا عن المحل امتنع أن يكون قديمًا وحده أو واجبًا بنفسه كما أنه إذا لم يكن موجودًا امتنع أن يكون واجبًا بخلاف العكس فإن ما لم يكن قديمًا وحده أو لم يكن واجبًا بنفسه لا يمتنع أن يكون مستقلاًّ أو موجودًا فصار هذا مع هذا كالذات والصفات وأيضًا فإذا كان الموجود الأزلي لا بدء له ولا نهاية لوجوده وذلك لا يمنع من دخوله في تقسيم الموجود إلى قديم

ص: 373

وحادث فكذلك كونه لا نهاية لذاته وصفاته إن صح ذلك لا يكون مانعًا من دخوله في التقسيم إلى مستقل ومفتقر ومما يبين ذلك أن التقسيم الأول بالنسبة إلى الدهر والزمان كالتقسيم الثاني بالنسبة إلى الحيز والمكان والقديم لا تحصره الأزمنة كالمستقل الذي لاتحويه المكنة ثم قال هؤلاء ثم المحدث الذي يستغني عن المحل هو الجوهر في اصطلاح المتكلمين والمفتقر إلى المحل هو العرض ويشتمل القسمين اسم العالم ثم إن طائفة من متكلمة المعتزلة لما أثبتوا أعراضًا لا في محل كالإرادة والكراهة والفناء اتفق سائر العقلاء على أن هذا خروج عن المعقول لكونه أثبت ما لا يقوم بنفسه لا في محل فكذلك من أثبت قائمًا بنفسه ليس مباينًا لغيره فإن علم العقل باستحالة

ص: 374

عرض لا في محل كعلمه باستحالة قائم بنفسه ليس بمباين لغيره أو ليس بجسم فإنه كما أن الأول فيه جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل وكذلك في الثاني جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل ثم قالوا فإن قيل هل في المقدور حدوث ما يخرج عن القسمين قلنا إنما يوصف الرب سبحانه وتعالى بالاقتدار على الممكنات فإن الذي يحصره ويضبطه الذكر حسًّا أو حكمًا على هذا الحكم قسمان أحدهما موجود وهو جِرم متحيز لو اتصل بمثله اتصل به على طريق المجاورة لا بالمداخلة والحيثية بل ينحاز أحدهما عن الآخر ويختص عنه بجهة ويصير احد جهاته ولو نظر الناظر إليهما أدركهما شيئين متجاورين لكل واحد منهما حظ من المساحة وما هذا وصفه قد يسمى قائمًا بنفسه لاستغنائه عن محل يقوم به فيكون صفة له ومعنى تحيزه شغله الحيز وانه إذا وجد في فراغ أخرجه عن كونه فراغًا وما هذا وصفه يسمى

ص: 375

جوهرًا وأما القسم الثاني وهو الذي لو قدر شيئان منه لايمتنع حصولهما في محل واحد وحيثٍ واحد ولا يتصور ازدحامهما فيه ومن تأمل ما ذكرنا من القسمين وأنصف علم استحالة تقدير قسم ثالث خارج عن القسمين وهذا الكلام يتناول الموجود مطلقًا ويقال فيه مطلقًا ما قاله في المحدث فإن قوله الذي يضبطه الذكر حسًّا أو حكمًا يعم ذلك في الموجود لا يفرق في ذلك بين كونه قديمًا أو محدثًا بل ضبط الذكر حسًّا أو حكمًا لهذين القسمين هو للموجود مطلقًا من غير تقييد بحدوث أو قدم ويبين ذلك أن الذكر يضبط هذين القسمين قبل علمه بانقسام الموجود إلى محدث وقديم وقبل علمه باستحالة وصف القديم بأحدهما أو بهما أو جواز ذلك عليه وبالجملة فحكم الفطرة إن كان مقبولاً في هذا التقسيم فهو مقبولاً مطلقًا وإن لم يكن مقبولاً فليس مقبولاً مطلقًا إذ الفطرة لا تفرق ولهذا كان يقول غير واحد من أفاضل زماننا من الفضلاء العالمين بالفلسفة والشريعة ما ثم إلا مذهب المثبتة أو الفلاسفة وما بينهما متناقض وثبت أن الفلاسفة أكثر

ص: 376

تناقضًا الوجه السابع أن ما به يعلم أنه لابد لكل موجود في الخارج من صفة وخاصة ينفصل بها ويتميز بها عما سواه يعلم به أنه لابد لكل موجود من حد ومقدار ينفصل به عما سواه إذ كل موجود فلابدله من صفة تخصه وقدر يخصه وليس المراد بالحد هنا الحد النوعي فإن ذاك هو القول الدال على المحدود وهو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه وإذا أريد بالحد نفس المحدود وحقيقته فليس في الخارج محدود كلي بشرط كونه كليًّا بل يقال حقيقة هذا تشبه حقيقة هذا فالحدود على هذا تتشابه وتتماثل إذا عني بها حقيقة الموجودات الخارجية ولا بد لكل موجود من هذه الحدود والحقائق كما ذكرنا وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة

ص: 377

ولا قدر هو الذي يراد بالكيفية والكمية كتقدير موجود ليس قائمًا بنفسه ولا بغيره وهو الذي يراد بالعرض والجوهر ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن الكيف غير معقول وغير معلوم ويقولون إن لله عز وجل حدًّا لا يعلمه إلا هو فهم دائمًا ينفون علم العباد بكيفية الرب وكيفية صفاته وبحده وحد صفاته لاينفون ثبوت ذلك في نفسه بل ينفون علمنا به يبين هذا أن الذي قاله أئمة أهل الكلام في الصفة يقال مثله في القدر قال الأستاذ أبو المعالي ذهب قدماء المعتزلة إلى أن حقيقة الإله قدمه وذلك أخص وصفه وقال بعضهم حقيقته وجوب وجوده وقال أبو هاشم

ص: 378

أخص وصف الإله به حال هو عليها يوجب كونه حيًّا عالمًا قادرًا قال فهذا قول مبهم لابيان له قال وأما أصحابنا فقال بعضهم حقيقته تقدسه عن مناسبة الحوادث في جهات الاتصالات وقال بعضهم حقيقته غناه وقال بعضهم حقيقته قيامه بنفسه بلا نهاية قال وهذه العبارات تشير إلى نفي الحاجة وقال الأستاذ يعني أبا إسحاق حقيقة الإله صفة تامة اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان قال أبو المعالي

ص: 379

وهذا أيضًا فيه إبهام لأنه يلقى من صفة النفي إثباتًا قال وحكى القاضي أبو جعفر السمناني عن القاضي أبي بكر حقيقة الإله لا سبيل إلى إدراكها هذا الأوان قال وسنعود إلى هذا في كتاب الإدراكات قال وكان شيخنا أبو القاسم القشيري يقول هو الظاهر بآياته الباطن فلا سبيل إلى درك حقيقته وقال الأستاذ أبو المعالي لا شك في ثبوت وجوده سبحانه وتعالى فأما الموجود المرسل من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال لكن ليس يتطرق إليها

ص: 380

العقول ولا هي علم جهمي ولا علم مبحوث عنه إنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فغنه سبحانه وتعالى يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهي إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله قلت المقصود هنا أنه بين امتناع أن يكون وجوده مرسلاً وهو المطلق من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره وانه يعلم تلك الحقيقة وجوز أن يعلمها العباد وأما الذي أحال عليه في كتاب الإدراكات فإنه قال في باب الرؤية فصل قال ضرار بن عمرو إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه بها

ص: 381

ثم قال هذا الرجل لله عز وجل مائية لا يعلمنا في وقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة لايصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيره وقال مرة بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه وهو سبحانه رائي نفسه عالم بمائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته قال القاضي أبو بكر الحاسة قد تطلق والمراد بها الإدراك يقال أحس فلان الشيء إذا أدركه وقد يراد به الجارحة فإن أراد ضرار بالحاسة الجارحة والبنية المخالفة لبقية الحواس شاهدًا فقد سبق الرد على من قال الإدراك مفتقر إلى بنية وإن زعم أن الإدراك هو الذي أثبته خارج من قبيل الإدراكات إلا انه مخالف لها لمخالفة متعلقة متعلق الإدراكات فهذا صحيح ولكنه أخطأ في تسميته سادسًا وإن هو أومى فيما ذهب إليه إلى اختلاف الإدراكات فتخرج الإدراكات شاهدًا عن

ص: 382

الخمس والخمسين قال القاضي فلو قال قائل فما مذهب الرجل قلنا مذهبه إثبات الرؤية وبشرط بنية سادسة وصرف الحاسة إلى البنية والتأليف دون الإدراك قلت الحاسة يراد بها الإدراك ويراد بها العضو المدرك ويراد بها القوة التي في العضو والسادس يجوز أن يراد به البنية والتأليف ويجوز أن يراد به القوة ويجوز أن يراد به الإدراك أي يخلق جنسًا من الرؤية مخالفًا للجنس الموجود في الدنيا وهذا من جنس قول هؤلاء الذين يقولون يرى لا في جهة وليس المقصود هنا ذلك قال وأما المائية التي أثبتها فقد صار على إثباتها بعض الكرامية ولم يسلكوا في ذلك مسلك ضرار فإنه

ص: 383

من نفاة الصفات وإن عنى بها صفة نفسية وحالا فهو مذهب أبي هاشم فإنه صار إلى أنه سبحانه وتعالى في ذاته على صفة وحالة وهي أخص صفاته وبها يخالف خلقه وهذا تصريح بمذهب ضرار وإنما اختلفا في عبارة فإن أبا هاشم سماها خاصة وسماها ضرار مائية وقد رددنا على أبي هاشم مذهبه في إثبات الأحوال وقال القاضي أبو بكر لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب سبحانه وتعالى يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والعدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات المعنوية فهذا أقصى ما يقال في ذلك قال وقد تردد القاضي في أن الذين يرون الله في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية أم لا فمرة قال يعلمونها ومرة قال لا يعلمها أحد إلا الله قال وقد

ص: 384

قدمنا من مذهب الأستاذ أبي إسحاق أنه أوجب لله صفة توجب التقدس عن الأحياز والجهات والانفراد بنعوت الجلال فإنا نعلم أنه ليس من قبيل ما نشاهده من الجواهر والأعراض وأنه مما لا يتصور في الأوهام ولسنا نعني بقولنا ليس في العالم ولا خارج العالم نفي وجوده تعالى كما نسبتنا إلى ذلك المجسمة وإنما نعني به إثبات وجود غير محدود بوجه ومن أثبت لله حدًّا ونهاية من وجه فيلزمه إثبات النهاية من سائر الجهات فإن قول القائل إنه في العالم أو خارج العالم يقتضي حدًّا ونهاية يصح لأجلهما عليه الدخول في العالم أو الخروج منه وقال بعض المتكلمين أخص وصفه وجوب وجوده وقال بعض أصحابنا أخص وصفه قيامه بنفسه مع انتفاء النهاية والحجمية وهذا معنى قول الأستاذ ولم ينقل عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله تعالى في ذلك شيء غير أنه قال إنما ينفرد الرب سبحانه عن الأغيار بالهيئة وهي قدرته على الاختراع واستحقاقه نعوت الجلال وذكر

ص: 385

الأستاذ أبو بكر في كتاب الانتصار عن بعض الأصحاب أنه قال لله سبحانه وتعالى مائية ثم فسرها بصفاته التي تفرد بها عن المخلوقات من العلم المحيط والقدرة الكاملة والإرادة النافذة وغير ذلك من تقدسه عن سمات الحدث ومن الكرامية من أثبت لله كيفية ومائية فغن عنوا بالمائية ما أشار إليه القاضي والأستاذ وما أراهم يريدون ذلك فيبقى بيننا وبينهم الاختلاف في الاسم فنحن نقول المائية تقتضي الجنس والكيفية تقتضي الكمية والشكل ويتعالى الله عن ذلك فإنه ليس نوعًا لجنس ولا جنسًا لنوع بل هو الأحد الصمد

ص: 386

قلت ليس هذا موضع بسط الكلام على هذا فإن قوله المائية تقتضي الجنس إنما يعني أن يكون له ما يجانسه أي يماثله في حقيقته وليس الأمر كذلك فإن من أثبت له مائية وهي الحقيقة التي تخصه ويمتاز بها عن غيره لم يلزمه أن تكون تلك المائية من جنس المائيات كما أن الذين يطلقون عليه اسم الذات لا يلزمهم أن تكون ذاته من جنس سائر الذوات وإن فسر ذلك بثبوت قدر ما يتفقان فيه فهذا لا بد منه على كل تقدير ولفظ الجنس فيه عدة اصطلاحات فإن فسر بما يوجب مثلا لله فهو منتف عنه وإن فسر بالحد اللغوي الذي هو مدلول الأسماء المتواطئة والمشككة كما في اسم

ص: 387

الحي والعليم والقدير ونحو ذلك من الأسماء فهذا لابد منه باتفاق أهل الإثبات والنزاع في ذلك معروف عن الملاحدة ومن ضاهاهم ونفي ذلك تعطيل محض وأما قوله الكيفية تقتضي الكمية والشكل فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم وإذا كان هذا مستلزمًا للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة إلا وله قدر يخصه وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال بل كما قال الشريف أبو علي بن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهما وهو موافق لقول

ص: 388

السلف رضي الله عنهم والأئمة كما قالوا لا يعلم كيف هو إلا هو كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وأمثال هذا كثير في كلامهم ومنهم من ينفي ذلك ويقول لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيف فيخطر ببال وهذا قول ابن عقيل وغيره وهذا موافق لقول نفاة الصفات

ص: 389

فقد تبين أن الأقوال في وجود الحق على مراتب فمن قال إنه وجود مطلق فقوله باطل بالبديهة ومن قال إنه يتميز بصفات سلبية مثل امتناع عدمه ونحو ذلك فهو نظيره بل هو هو ومن قال يتميز ببعض الصفات المعنوية كعلمه وقدرته قيل له وإن اختص بذلك لكن لابد له من ذات موصوفة بتلك الصفة وأن تكون تلك الذات لها حقيقة في نفسها يتميز بها عن سائر الحقائق وأن القول الرابع وهو أن له حقيقة يختص بها هو الصواب ومعلوم أن الموجود ينظر في نفسه وفي صفته وفي قدرته وإن كان اسم الصفة يتناول قدره ويستلزم ذاته أيضًا

ص: 390

فإذا علم بصريح العقل أنه لابد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره فإن الموجود لا يتصور أن يكون موجودًا إلا بذلك ودعوى وجود موجود بدون ذلك دعوى تخالف البديهة والضرورة العقلية ولذلك حكموا على من نفى ذلك بالتعطيل لأنه لازم قوله وإن كان لا يعلم لزومه والتحقيق انه جمع في قوله بين الإقرار بما يستلزم وجوده والإقرار بما يستلزم عدمه فهو مقر به من وجه منكر له من وجه متناقض من حيث لا يشعر ولهذا يقول المشايخ العارفون إن هؤلاء المنكرين لا تتنور قلوبهم ولا يفتح عليها ولا ينالون زينة أولياء الله تعالى الكاملين لما عندهم من الجحود والإنكار المانع لهم من حقيقة معرفة الله تعالى ومحبته والقرب منه فإنهم ٍالتزموا التكذيب بالحق الذي تقربهم معرفته وقصده إلى الله تعالى ففاتهم من معرفة الله وقصده والتقرب إليه بقلوبهم ما به ينالون ولايته التي نعت بها أولياءه المتقين الكاملين وإن كانوا قالوا من ذلك بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى

ص: 391

الوجه الثامن أنه قد أثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يُرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانًا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمسانيد وقد اعتنى بجمعها أئمة مثل الدارقطني في كتاب الرؤية وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر

ص: 392

الآجري وطوائف كثيرون وفي الصحيحين نحو عشرة أحاديث فيها أن رؤية الأبصار ليست ممتنعة والجهمية الذين يدخلون في هذا الاسم عند السلف

ص: 393

كالمعتزلة والنجارية والفلاسفة ينكرون الرؤية ويقولون لأن ذلك يستلزم أن يكون بجهة من الرائي وأن يكون جسمًا متحيزًا وذلك منتف عندهم ومسألة الرؤية كانت هي أكبر المسائل الفارقة بين السنة المثبتة وبين الجهمية حتى كان علماء أهل الحديث والسنة يصنفون الكتب في الإثبات ويقولون كتاب الرؤية والرد على الجهمية وكذلك الأحاديث التي تنكرها الجهمية من أحاديث الرؤية وما يتبعها ويعدون من أنكر الرؤية معطلاً قال الخلال في كتاب السنة أخبرني

ص: 394

حنبل قال سمعت أبا عبد الله يقول وأدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئًا أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال وسمعت أبا عبد الله يقول

ص: 395

القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبد الله يقول قالت الجهمية إن الله لا يُرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يُرى لقول الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22 ، 23] وقال تعالى لموسى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف 143] فأخبر الله تعالى أنه يُرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر رواه جرير وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال

ص: 396

كلكم يخلو به ربه وإن الله يضع كنفه على عبده فيسأله

ص: 397

ماذا عملت هذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى صحيحة

ص: 398

عن الله تعالى انه يُرى في الآخرة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يُرى يوم القيامة وقول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله يسمع ويبصر وقال الله تعالى يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى {7} [طه 7] وقال إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال أبو عبد الله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واخترع مقالة من نفسه وتأول رأيه فقد خسر خسرانًا مبينًا وسمعت أبا عبد الله يقول من قال إن الله لا يُرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل وروي عن يعقوب بن بختان أنه سمع أبا عبد الله يقول صارت محبتهم كفرًا صراحًا يقولون إن الله تبارك وتعالى لا يُرى في الآخرة وسمعته يقول كفرهم ضروب

ص: 399

وعن حنبل سمعت أبا عبد الله يقول إن الله لايُرى في الدنيا ويُرى في الآخرة فثبت في القرآن وفي السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وقال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في نقضه على الجهمي المريسي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤية في قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة لاتضامون في رؤيته كما لا تضامون في رؤية

ص: 400

الشمس والقمر ليلة البدر فأقر الجاهل بالحديث وصححه وثبت روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تلطف لرده وإبطاله بأقبح تأويل وأسمج تفسير ولو قد رد الحديث أصلاً كان أعذر له من تفاسيره هذه المقلوبة التي لا يوافقه عليها أحد من أهل العلم ولا من أهل العربية فادعى الجاهل أن تفسير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته تعلمون أن لكم ربًّا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر لا على أن أبصار المؤمنين تدركه جهرة يوم القيامة لأنه نفى ذلك عن نفسه بقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] قال وليس على معنى قول المشبهة فقوله ترون ربكم تعلمون أن لكم ربًّا لا تعتريكم فيه الشكوك والريب ألا ترون أن الأعمى يجوز أن يقال ما أبصره أي ما أعلمه وهو لا يبصر شيئا ويجوز أن يقول الرجل نظرت في المسألة وليس للمسألة جسم ينظر إليه فقوله نظرت فيها رأيت فيها فتوهمت المشبهة الرؤية جهرة ويس ذلك من جهة العيان فيقال لك أيها المريسي أقررت بالحديث وثبته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الحديث بحلقك لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرن التفسير بالحديث فأوضحه ولخصه فجمعهما جميعًا إسناد

ص: 401

واحد حتى لم يدع لمتأول فيه مقالاً فأخبر أنه رؤية العيان نصًّا كما تُوهّم هؤلاء الذين سميتهم بجهلك مشبهة فالتفسير فيه مأثور مع الحديث وأنت تفسره بخلاف ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أثر تأثره عمن هو أعلم منك فأي شقي من الأشقياء وأي غوي من الأغوياء يترك تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم المقرون بحديثه المعقول عند العلماء الذي يصدقه ناطق الكتاب ثم يقبل تفسيرك المحال الذي لا تأثره إلا عن من هو أجهل منك وأضل أليس قد أقررت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم لا تضامون فيه كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر يعني معاينة قلت وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تشكون يوم القيامة في ربوبيته وهذا التفسير مع مافيه من معاندة الرسول محال باطل خارج عن المعقول لأن الشك في ربوبية الله زائل عن

ص: 402

المؤمن والكافر يوم القيامة وكل مؤمن وكافر يعلم يومئذ أنه ربهم لا يعتريهم في ذلك شك فيقبل الله ذلك من المؤمن ولا يقبله من الكافرين ولا يعذرهم يومئذ بمعرفتهم ويقينهم به فما فضل المؤمن على الكافر يوم القيامة عندك في معرفة الرب إذ مؤمنهم وكافرهم لا يعتريه في ربوبيته شك أو ما علمت أيها المريسي أنه من مات ولم يعرف قبل موته أن الله ربه في حياته حتى يعرفه بعد مماته فإنه يموت كافرًا ومصيره النار أبدًا ولن ينفعه الإيمان يوم القيامة بما يرى من آياته إن لم يكن آمن به من قبل فما موضع بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة إذ كل مؤمن وكافر في الرؤية يومئذ سواء عندك إذ كل لا يعتريه فيه شك ولا ريبة أو لم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ {12} [السجدة 12] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام 30] فقد أخبر تعالى الكفار أنهم به يومئذ موقنون فكيف المؤمنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سألوه هل نرى ربنا تعالى وقد

ص: 403

علموا من قبل أن سألوه أن الله ربهم لايعتريهم في ذلك شك ولا ريب أو لم تسمع ما قال الله تعالى يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا [الأنعام 158] يقال في تفسيره إنه طلوع الشمس من مغربها فإذا

ص: 404

لم ينفع الرجل إيمانه عند الآيات في الدنيا فكيف ينفعه يوم القيامة فيستحق به النظر إلى الله تعالى فاعقل أيها المريسي ما يجلب عليك كلامك من الحجج الآخذة بحلقك وأما إدخالك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حقق من رؤية الرب تعالى يوم القيامة قوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] فإنما يدخل على من عليه نزل وقد عرف ما أراد الله تعالى به وعقل فأوضحه تفسيرًا وعبَّره تعبيرًا ففسر الأمرين جميعًا تفسيرًا شافيًا سأله أبو ذر هل رأيت ربك يعني في الدنيا فقال نور أنى أراه حدثنا

ص: 405

الحوضي وغيره عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا معنى

ص: 406

قوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] في الحياة الدنيا فحين سئل عن رؤيته في المعاد قال نعم جهرة كما ترى الشمس والقمر ليلة البدر ففسر رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنيين على خلاف ما ادعيت والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة فرسول الله صلى الله عليه وسلم في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبه هؤلاء المشبهون في دعواك وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله يوم القيامة فقلت ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً [النساء 153] أخذتهم الصاعقة وقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] فأخذتهم الصاعقة وقالوا أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً {21}

ص: 407

[الفرقان 21] فادعيت أن الله تعالىا أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية فيقال لهذا المريسي تقرأ كتاب الله تعالى وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافًا فقالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] ولم يقولوا حتى نرى الله في الآخرة ولكن في الدنيا وقد سبق من الله القول بأنه لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] أبصار أهل الدنيا فأخذتهم الصاعقة بظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم لم تصبهم تلك الصاعقة ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه إذ سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم لاتضارون في رؤيته فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة كما رويت أيها المريسي عنه وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه فقال عز من قائل

ص: 408

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22، 23] وقال للكفار كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين 15] إلى أن قال وقد فسرنا أمر الرؤية وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرًا في صدر هذا الكتاب أيضًا فالتمسوها هناك وأعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي وضلال تأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى

ص: 409

وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار مثل حديث جرير وأبي هريرة وأبي سعيد المشهورين الطويلين وهذه في الصحيحين

ص: 410

ومثل حديث صهيب في قوله تعالى لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26]

ص: 411

وحديث أبي موسى وجابر في الورود وهذه في

ص: 412

صحيح مسلم وحديث ابن عمر في الدجال واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذه الألفاظ في الصحيح وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع

ص: 413

وحديث عبادة في الدجال وحديث ابن الحسين عن

ص: 414

بعض الصحابة وحديث ابن عباس وحديث

ص: 415

أنس في يوم المزيد وحديث عمار بن ياسر الذي فيه

ص: 416

أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وحديثًا عن ابن عمر في النظر وهذه الأحاديث في السنن والمسانيد

ص: 417

وذكر الآثار عن الصديق وحذيفة وأبي

ص: 418

موسى وابن أبي

ص: 419

ليلى والضحاك وعامر بن سعد في تفسير الزيادة

ص: 420

أنها النظر إلى وجه الله تعالى وذكر قول أبي موسى فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة وذكر أيضًا النظر إليه عن

ص: 421

عمار وانس والضحاك وعكرمة

ص: 422

وكعب وعمر بن عبد العزيز والذي تركه من ذلك أكثر

ص: 423

مما رواه ثم قال أبو سعيد فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه من مشايخنا ولم يزل المسلمون قديمًا وحديثًا يروونها ويؤمنون بها لايستنكرونها ولا ينكرونها ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم وأجزل ثواب الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم

ص: 424

القيامة حتى ما يعدلون به شيئًا من نعيم الجنة قال وقد كلمت بعض أولئك المعطلة وذكر كلامًا طويلاً في تقرير الرؤية والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال وقال بعضهم إنا لانقبل هذه الآثار ولانحتج بها قلت أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنًا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولاأثر وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لايستدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار والأسانيد على مافيها من الاختلاف وهي السبب إلى ذلك

ص: 425

والنهج الذي درك عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجًا بها واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله تعالى ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم واقتبسوا الهدي في سبيلهم وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي بها القوم لأنفسهم إمامًا فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم بل أضل وأجهل ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على

ص: 426

ماتروى فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين وقال الله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فقال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا هنا ضللتم عن سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس لشيء محدود موصوف عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نَعْدُ ولكن الله تبارك وتعالى قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {53} [المؤمنون 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما

ص: 427

هم عليه والمجهول عندهم ماخالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفين كل فرقة منكن تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه والمجهول ماخالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بيّن في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن نرد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيضين بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ماخالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا هذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعمكم فأنى تهتدون قلت كلام السلف والأئمة كثير في مسألة الرؤية وتقرير وجودها بالسمع وتقرير جوازها بالعقل وتقرير أن نفي جوازها

ص: 428

مستلزم للتعطيل وقد نبه السلف ومتكلمة الصفاتية على ماهو معلوم بالمعقول أنه من قال غنه لا يمكن رؤيته فقد لزم أن يعطله ويجعله معدومًا لأنه إذا كان موجودًا جازت رؤيته ثم للناس هنا طريقان أحدهما وهي طريقة أبي محمد ابن كلاب وغيره كأبي الحسن بن الزاغوني أن كل ما هو قائم بنفسه فإنه تجوز رؤيته ولم يلزموا ذلك في سائر الأعراض والصفات والثانية وهي طريقة أبي الحسن الشعري ومن اتبعه وقد سلكها القاضي أبو يعلى وغيره أن كل موجود تصح رؤيته سواء كان قائمًا بنفسه أو قائمًا بغيره وقد قرروا ذلك بطرق منها ما هو غير بين ويرد عليه أسئلة والتزموا لأجل ذلك لوازم يظهر فسادها وقد بينا في غير هذا الموضع كيف تقرير الطريقة العقلية في ذلك على وجه يفيد المقصود ولكن نشير هنا إشارة فنقول

ص: 429

معلوم أن الرؤية تتعلق بالموجود دون المعدوم ومعلوم أنها أمر وجودي محض لايسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة شيء من المذوق وكالأكل والشرب الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق وإذا كانت أمرًا وجوديًّا محضًا ولا تتعلق إلا بموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته ومالا يمكن رؤيته إما أن يكون موجودًا محضًا أو متضمنًا أمرًا عدميًّا والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببًا له ولا يكون شرطًا أو جزءًا من السبب إلا أن يتضمن وجودًا فكيف ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلاً عليه ومستلزمًا له ونحو ذلك وهذا من الأمور البينة عند التأمل ومن قال من العلماء إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة أو شرط علة فإنما يقول ذلك في قياس الدلالة

ص: 430

ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم لايقول أحد إن نفس العدم هو المقتضي للوجود ولايقول إن الوصف المركب من وجود وعدم هما جميعًا مقتضيان للوجود المحض وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية والمصحح للرؤية والفارق بين ما تجوز رؤيته وبين ما لاتجوز إما أن يكون وجودًا محضًا فلا حاجة بنا إلى تعيينه سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس أوبالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع لكن المقصود أنه أمور وجودية وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود إذ وجوده هو الوجود الواجب ووجود كل ما سواه هو من وجوده وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود وحينئذ فيكون الله وله المثل الأعلى أحقّ بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لانستطيع التحديق في شعاع الشمس بل كما

ص: 431

لايطيق الخفاش أن يراها لا لامتناع رؤيتها بل لضعف بصره وعجزه كما قد لايستطاع سماع الأصوات العظيمة جدًّا لا لكونها لا تسمع بل لضعف السامع وعجزه ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع لا لكون ذلك المر مما يمتنع رؤيته وسماعه ولهذا وردت في الأخبار في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وغيره بان الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ماعجزوا عنه وتمام بسط هذا وتقريره له موضع آخر وإنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بدائه العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ترون ربكم كما

ص: 432

ترون الشمس والقمر فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورًا في الدنيا وغنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بدائه العقول وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون مااتفق أهل العقول على أنه من

ص: 433

الممتنع في بدائه العقول بل يقولون إن المعلوم ببدائه العقول أنه لايرى إلا ماهو متحيز أو قائم بمتحيز ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائمًا بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني آدم من جميع الطوائف إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم فإن موافقيهم من الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن ما لا يكون متحيزًا ولا حالاً في متحيز لا يمكن رؤيته حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي

ص: 434

حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع والمعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لافوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك الجهمية في وجود موجود يكون كذلك فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم تمكن رؤية هذا الموجود ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده كما قد ذكرنا أن قولهم هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم لا داخل العالم ولا خارجه

ص: 435

وهذا أيضًا مما عظم فيه إنكار المدعين للجمع بين الشريعة والفلسفة كالقاضي أبي الوليد بن رشد الحفيد فإنه قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وقال ما ذكرناه عنه إلى قوله ولذلك اضطررنا نحن أيضًا إلى وضع قول في موافقة الحكم للشريعة قال وإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن الذي بقى علينا من هذا الجزء ومن المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا

ص: 436

الجزء أعني في الجزء المتقدم يعني جزء التنزيه فإنه تكلم في التنزيه بعد تكلمه في الصفات الثبوتية وقال فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء المتقدم لقوله تعالى لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] ولذلك أنكرها المعتزلة وردّت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم والسبب في وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين وجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى إلى رد الشرع المنقول وأعلوا الأحاديث

ص: 437

أنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله تعالى لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجج مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في

ص: 438

دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وإنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزًا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة أعني في مكان ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضًا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون

ص: 439

المبصر ذا ألوان ضرورة والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الأبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع علوم المناظر والهندسة وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطًا في وجود العالم وإن كلن كذلك قلنا لهم وكذلك يظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب منها بالشاهد على أصلكم وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بـ الاقتصاد أن

ص: 440

يعاند هذه المقدمة أعني أن كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة وذلك انه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته ليست تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته فقط والخيال منه هو في جهة إذا كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة

ص: 441

وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عنهم في ذلك حجتان إحداهما وهي أشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء لا يخلو أن يرى من جهة انه متلون أو من جهة انه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الوجوه ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي ما هو غير جسم وباطل أن يرى من قبل أنه ملون إذ لو كان كذلك لما رئي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان ذلك كذلك لما رئي الجسم قالوا وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب فلم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي من قبل

ص: 442

المرئي بذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون ولذاك ما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذا كله خلاف ما يعقل وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن ترى وهذا كله خروج عن الطبع وعما يمكن أن يعقله الإنسان فإنه من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محسوس هذه غير محسوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعًا كما ليس يمكن

ص: 443

أن يعود اللون صوتًا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما فقد يجب أن يُسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلابد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه الأصوات هو بصر فقط أو سمع فقط فإن قالوا هو سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا أنه بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرًا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعًا فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معًا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسب يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة

ص: 444

وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وهي هذه الطريقة وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهو أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات والذات هي نفس الوجود المشترك لجميع الموجودات فإذاً الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما

ص: 445

أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه ولكان بالجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدًا فلا يكون فرق بين مدرك السمع وبين مدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيًّا أخذ أنه مدرك بذاته ولولا النشوء على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل

ص: 446

الهجينة التي هي ضحكة عند من عني بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودًا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا لايليق أيضًا الإفصاح به للجمهور فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرّب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لايجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من

ص: 447

ذلك بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب لهم المثال به إذ كان النور هو اشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني أن تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذاً متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل إنه نور وإن له حجابًا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا في حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفّروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل

ص: 448

وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضربت مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفًا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه السلام إنا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعًا واحدًا في

ص: 449

التعليم فهو كمن جعلهم شرعًا واحدًا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها قلت قد عرف أن هذا الرجل يرى رأي الفلاسفة وأن ما أخبرت به الرسل في الإيمان بالله واليوم الآخر أكثره أمثال

ص: 450

مضروبة وهذا من أفسد الآراء وهو قول حذاق المنافقين الزنادقة وإن كانوا قد لايعلمون أن ذلك نفاقًا وزندقة بل يحسبونه كمال التحقيق والمعرفة كما يحسب ذلك هؤلاء المتفلسفة وليس هذا الموضع موضع بيان لذلك وإنما المقصود أنه مع كونه في الباطن يرى رأي الفلاسفة والمعتزلة في الرؤية وأنها مزيد علم كما يرى نحوًا منه طائفة من متأخري الأشعرية فقد علم انه لايمكن إثبات الرؤية التي أخبر بها الشارع مع نفي ما يقولونه إنه الجسم بل إثباتها مستلزم لما يقولون إنه الجسم والجهة فقد تبين أنه من جمع بين هذين فإنه مكابر للمعقول والمحسوس وهذا مما قد بينه بالدليل فيقبل منه وأما زعمه أنها في الباطن مزيد علم فهو لم يذكر عليه دليل حجة وقد بين فيما تقدم أنه لاحجة له على أصل

ص: 451

ذلك وهو نفي كونه جسمًا إلا إثبات أن النفس الناطقة ليست بجسم وبين فساد مااحتج به المتكلمون على أنه ليس بجسم بحجج واضحة ومعلوم أن الأصل الذي بنى عليه هو هذا النفي وهي مسألة النفس أضعف بكثير وأن جمهور العقلاء يضحكون مما يقوله هؤلاء في النفس من الصفات السلبية أكثر مما يضحكون ممن يثبت رؤية مرئي ليس هو في اصطلاحهم بجسم ولا في جهة كما قد بيناه في غير هذا الموضع وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة وأيضًا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية وإن لم يُسلك في ذلك ما ذكره من المسالك الضعيفة فإن تلك المسالك الضعيفة إنما ضعفت لأن أصحابها أثبتوا رؤية ما ليس في جهة ولا هو متحيز ولا حال في متحيز فاحتاجوا لذلك أن يحذفوا من الرؤية الشروط التي لا تتم الرؤية بدونها

ص: 452

لاعتقادهم امتناع تلك الشروط في حق الله تعالى فأما إذا قيل إن الرؤية المعروفة يصح تعلقها بكل قائم بنفسه وإن شُرط فيها أن يكون المرئي بجهة من الرائي وأن يكون متحيزًا وقائمًا بمتحيز كانت الأدلة العقلية على إمكان هذه الرؤية مالا يمكن العقلاء أن يتنازعوا في جوازها وإنما ينفيها من نفاها لظنه أن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه على اصطلاحهم ليس بجسم ولا متحيز ولا حال في المتحيز ونحو ذلك من الصفات السلبية التي ابتدعوها مع مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول والمقصود أن المنازعين للمؤسس يقولون له نحن نثبت بالكتاب والسنة والإجماع ونثبت بالأدلة العقلية الصريحة إمكان رؤية الرب ونثبت بالضرورة وبالنظر أن الرؤية لا تتعلق إلا بما يكون في اصطلاحهم في جهة وإلا بما يكون متحيزًا أو حالاً في المتحيز وإذا ثبت أن الرؤية لا تتعلق إلا بمتحيز أو حال في المتحيز مع أن المصحح لها هو الوجود وكماله ثبت أنه ليس في الموجودات ما لايكون متحيزًا ولا حالاً في المتحيز بل ثبت امتناع وجود ذلك وهذا يبقي هذه الصفة في النفس وفي الملائكة وفي الرب سبحانه وتعالى كما تقدم من الوجوه وكما ذكروه من الضرورة العقلية

ص: 453

الوجه التاسع أن يقال قد أثبت بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله تعالى وما اتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع أن الله تعالى عز وجل فوق العالم وثبت أيضًا بالكتاب والسنة والإجماع أنه استوى على العرش فالعلو على العالم معروف بالفطرة والمعقول وبالشرعة والمنقول وأمل الاستواء فإنما علم بالسمع المنقول وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النفاة والمثبتة يقولون هذا لا يمكن إلا أن يكون جسمًا متحيزًا فيكون التحيز من لوازم علوه على العرش كما قد يقول ذلك أهل الفطر السليمة إذا بين لهم معنى الكلام وهذا يقتضي أن المعقول والمنقول يستلزم ذلك وهذه المقدمة الثانية قد قررها المؤسس ومتأخرو أصحابه في غير موضع والأولى قد قررها عامة الناس من المثبتين للصفات وسائر أهل الملل وسائر أهل الفطر السليمة حتى أئمة أصحابه وإذا ثبت هذا في واجب الوجود امتنع أن يكون غيره من النفس وغيرها موصوفًا بهذه السلوك لأن أحدًا لم يقل ذلك من

ص: 454

العقلاء لأن الفطرة والشرعة تقتضي ذلك فيها أيضًا فإنهم يعلمون بهذه الطرق أن جميع الأمور داخلة في العالم وجزء منه يمتنع أن تكون لا داخلة فيه ولا خارجة منه

ص: 455

فصل ثم قال الرازي ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطاطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى

ص: 456

قال أبو عبد الله الرازي وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فإنه ذكر مراتب تكوين الجسد في قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} [المؤمنون 12] فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر [المؤمنون 14] وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح بالبدن ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر [المؤمنون 14] فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية تأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ونهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة قلت والكلام على هذا من وجوه

ص: 457

أحدها أن هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة له أشبه بكلام أهل الجهل والضلالة ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل والعلم والبيان وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق وما أحسن ماقال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج الثاني أن يقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يُستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن مايروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحقيقة الثابتة بالعقل والدين وهو رأس هؤلاء الدهرية ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه فهو منقطع عن هؤلاء الصابئة المبدلين

ص: 458

الثالث أنه لو نقل واحد في هذا الباب شيئًا من الإسرائيليات عن المتقدمين لم تقم به حجة إن لم يكن ذلك ثابتًا بنقل نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم وأما ما يذكره لنا أهل الكتابين ومن أسلم منهم عن الأنبياء المتقدمين فليس لنا تصديقه ولا تكذيبه إن لم يكن فيما علمناه مايدل على صدقه أو كذبه كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمَنَّا بِاللهِ

ص: 459

وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا الآية [البقرة 136] وفي سنن أبي داود عن ابن أبي نملة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماحدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلاً

ص: 460

لم تصدقوه وإن كان حقًّا لم تكذبوه وروى البخاري أيضًا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزِلَ على رسوله أحدث الكتب عهدًا بالرحمن تقرؤونه محضًا لم يشب وقد أخبركم ربكم أن أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه وكتبوا بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلاً ألا نهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل

ص: 461

عليكم وروى البخاري أيضًا عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق

ص: 462

هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب فإذا كان أهل الكتاب الذي أنزله الله تعالى والذي وجب علينا أن نؤمن بما فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وقال قولوا آمنا بالله ورسله إذا رووا لنا شيئًا من ذلك لم نصدقه إن لم نعلم من غير ذلك الوجه أنهم صادقون وهم يقرؤون ذلك بلسان الأنبياء ثم يترجمونه لنا بالعربية فهؤلاء الذين قرؤوا كتب الصابئة من الفلاسفة وغيرهم بلغتهم اليونانية وغيرها ثم ترجموها بالعربية كيف نقبل ذلك منهم والمنقول عنهم ليسوا أنبياء ولا ممن يصدقون لو

ص: 463

شافهونا ولو كانـ ـوا من علماء أهل الكتابين لم يقبل ما يقولونه فكيف وهم من الصابئة المبدلين المتكلمين في العلم الإلهي بما يخالف ما جاءت به الرسل عليهم السلام وهم أشد تبديلاً وتغييرًا من أهل الكتابين بشيء كثير فكيف في كلام مرسل لم يوجد في كتبهم وإنما نقل عنهم نقلاً مطلقًا الوجه الرابع أن جميع العقلاء الذين خبروا كلام أرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبًا في معرفة العلم الإلهي وأكثر الناس اضطرابًا وضلالاً فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس والغلط في ذلك قليل نادر وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد وفيه باطل وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيُرتقى ولا سمين فينتقل

ص: 464

هو قليل كثير الضلالة عظيم المشقة يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال وهذا المصَنّّف هو القائل لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن

ص: 465

هذا بمنزلة أن يستدل الرجل في مسائل الحلول والتثليب بكلام بطرس صاحب

ص: 466

الرسائل التي عند النصارى وهو ممن غير دين المسيح وبدله وقد اعترف أساطين الفلسفة بأن العلم الإلهي لاسبيل لهم إلى العلم واليقين فيه وإنما يؤخذ فيه بالأولى والأخلق الأحرى وممن ذكر ذلك عنهم صاحب هذا الكتاب أبو عبد الله

ص: 467

الرازي في كتابه الذي سماه المطالب العالية فإذا كانوا معترفين بأنه ليس عندهم علم ولا يقين في العلم الإلهي كيف يستدل بكلامهم فيه الوجه الخامس أن يقال له لم تقبل هذه الوصية التي نقلتها عن الذي ائتممت به من أئمة الضلال وذلك أنه قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة

ص: 468

أخرى وهذا يناسب ترتيب تعاليمه حيث ينقل أتباعه من درجة إلى درجة كما ينقلهم من المنطق والرياضي إلى الطبيعي ثم إلى الإلهي الذي لهم فجعل ذلك معلقًا على إرادة الشرع في المعارف الإلهية وأنت جعلت ما تذكره من النفي في هذا الباب اعتقادًا واجبًا على جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم بل كفّرت في الكتاب من خالفك فلو تركت الماس على ما هم عليه إلا من أراد أن يشرع في معارفك لكنت متابعًا لهذا الإمام المضل لكنك ابتدأت بخطاب ذلك الملوك والعامة وغيرهم ممن لم يُرد الشروع في معارفك الإلهية

ص: 469

الوجه السادس أن يقال ما معنى قوله فليستحدث لنفسه فطرة أخرى وهم مع ذلك قد نصوا على أن روم نقل الطباع من ردي الأطماع شديد الامتناع فكيف يحدثون فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة فهذا غير مقدور للبشر فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك وهذا هو الذي يصلح أن يريده فهذا أمر تبديل فطرة الله التي فطر عليها عباده وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله وشرعته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى مابدلوه وحرفوه وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله تعالى التي فطر عباده عليها وغيروا منها ما

ص: 470

غيروا ولهذا قيل إن أرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم إدراكاتهم وحركاتهم قولهم وعملهم من هذا وهذا كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل لهم وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ [البقرة 58] فدخلوا الباب يزحفون على

ص: 471

أستاهم وقالوا حبة في شعرة وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود وأن الجعد ابن درهم ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك

ص: 472

عنهم وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبيلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل أرسطو وذويه وظهر في ذلك الزمان الخرمية وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل

ص: 473

والنفس وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان وهم كانوا كثيرًا يميلون إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا وذكر ابن

ص: 474

سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر وظهر بذلك تصديق ما اخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يارسول الله اليهود والنصارى قال فمن وروى

ص: 475

البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لاتقوم الساعة حتى تأخذ أمتي ما أخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع فقيل يارسول الله كفارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك

ص: 476

ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كلما ظهر نورها انطفت البدع وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورًا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج

ص: 477

والتشيع ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلاً وكفرًا كفرهم من جنس كفر

ص: 478

فرعون بل شر منه الوجه السابع أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها وبذلك جاءتهم الرسل لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها ولا بتغيير تلك الفطرة كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {30} مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {31} مِنَ الَّذِينَ

ص: 479

فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ {32} [الروم 30 - 32] وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وهم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا امة واحدة كما قال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة 213] ولهذا يوجد بين هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى لأن أهل الكتاب اقرب إلى الهدى من الصابئين فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك ما لا يوجد منه في أهل الكتابين وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولئك أعظم وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم

ص: 480

والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ماهم في الحقيقة متصفون به كما قال تعالى فيهم إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ [غافر 56] وقال تعالى وتقدس فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {83} فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ {84} فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر 83 - 85] وقال تعالى وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ {124} [الأنعام 124] وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل وخطاب القرآن لهم كثير جدًّا فإنهم أئمة لأتباعهم وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً {64} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {65} يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً {68} [الأحزاب 64- 68] وكان

ص: 481

فرعون موسى من أكابر ملوك هؤلاء وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن مافيه عبرة وكذلك مشركو قريش الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم وكان من أئمة الكفر الوحيد الذي قال الله تعالى فيه

ص: 482

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً {12} وَبَنِينَ شُهُوداً {13} إلى قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ {18} فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ {19} [المدثر 11 - 19] فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى وجعله كلام البشر وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال وذلك من تبديل دين الله

ص: 483

فصل قال أبو عبد الله الرازي المقدمة الثانية اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشيء واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال فظهر فساد قول من يقول لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله سبحانه وتعالى وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية قلت نفي النظير والمثل الكفء والسمي ونحو ذلك عن

ص: 484

الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبَيَنَّا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وانه يستلزم كون الشيء الواحد موجودًا معدومًا قديمًا محدثًا خالقًا مخلوقًا واجبًا ممكنًا والحجج الثلاثة التي ذكرها الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله وإن كانت هذه المقدمة في نفسها حقًّا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح فإن هذا الرجل كثيرًا مايقول الحق ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة وكثيرًا مايقول ماليس بحق وكثيرًا ما يتناقض وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى ولكن أراد أن يثبت أنه لايجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه فأثبت سلب هذا العموم لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم لانتقاض هذه

ص: 485

القضية العامة الكلية ولايلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله فإنه إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود إذ نفي الوجوب لاينفي الوجود ولو ثبت أن في الموجودات ما لانظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإنما استفاد بها قوله فثبت فساد قول من يقول إنه لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لايقوله من يجزم بقول ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة وما أعلم أحدًا يقوله ممن يذكر له قول لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك وذلك أن المنازعين له عندهم يُعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعًا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير

ص: 486

ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير فإن هذا يكون تعليقًا لعقله على وجود نظيره ويكون عاقلاً له إذا كان له نظير ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعًا عنده والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناع هذا لم يجوز أن يكون له في نفسه وجود فضلاً عن أن يجوّز وجود نظير له وغن كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله له إلى وجود نظير لكن قد يقول هذا من لايعلم امتناعه ولا إمكانه ويقول أنا لا أعقل شيئًا إلا شيئًا له نظير فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها وتحقيق الأمر أن لفظ النظير إن أراد به هذا القائل أني لا أعقل شيئًا إن لم يكن له نظير من كل وجه فهذا لا ينفعه فإنه يسلم أن الله تعالى ليس له نظير من كل وجه وإن قال إن لم يكن له نظير من بعض الوجوه بمعنى أن يكون بينه وبين غيره مشابهة في شيء فالرازي لم يقم دليلاً على إفساد هذا بل قد سلم في كتبه أن هذا يقوله كل أحد قال في كتابه نهاية العقول وهو اجل ماصنفه في الكلام في المسألة الثالثة في

ص: 487

أن مخالف الحق من أهل الصلاة يكفر أولا قال قال أبو الحسن الأشعري في أول كتاب مقالات الإسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء ضلل بعضهم بعضًا فصاروا فرقًا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم قال فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين قال فأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال لاأرد شهادة كل أهل الأهواء والأقوال إلا الخطابية فإنهم يعتقدون حل

ص: 488

الكذب وأما أبو حنيفة فقد حكى الحاكم صاحب

ص: 489

المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدًا من أهل القبلة وحكى الرازي عن الكرخي

ص: 490

وغيره مثل ذلك قال وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال قال وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول أكفر من يكفرني فكل مخالف يكفرنا نكفره وإلا فلا قال والذي نختاره أنا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة وهذا الذي اختاره آخرًا خلاف ماذكره في تأسيسه ومحصله من

ص: 491

تكفير المجسمة دون غيرهم والمقصود هنا أنه ذكر حجج من كفر المشبهة وتكلم عليها فقال وأما تكفير المشبهة فقد كفرهم أصحابنا والمعتزلة من وجوه إلى أن قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن

ص: 492

يكون هو أن يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس مشبهًا لخلقه من كل الوجوه أو ليس كذلك والأول باطل لأن أحدًا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك ولايجوز أن يجمعوا على تكفير من لاوجود له بل المشبه الذي يثبت الإله على صفة يشبهه معها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسمًا مخصوصًا بحيزٍ معين فإنه يشتبه عليه بالأجسام المحدثة فثبت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن هذا قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلاً بكون الله تعالى وتقدس شبيهًا بخلقه من كل الوجوه فلا شك في

ص: 493

كفره لكن المجسمة لايقولون بذلك فلا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولايلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق قال وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله تعالى شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه فهذا لايقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود وشيء وعالم وقادر والحيوانات أيضًا كذلك وذلك لايوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى الإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه قلت هذا الكلام منه تسليم لأن كون الله شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين لاتفاقهم على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر وعلى هذا فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه لاشتراكهما في الوجود

ص: 494

والشيئية فقوله بعد هذا لايجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه إن عنى به شبيهًا به من كل وجه فقد ذكر أن أحدًا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك وإن عنى به شبيهًا من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا محل وفاق بين المسلمين وإن أراد نوعًا من التشبيه فهو لم يذكر في هذه المقدمة تفصيلاً ولم يوضح سبيلاً ومن العجب انه ذكر في نهايته على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة وأنه ليس هو الذي يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس شبيهًا بخلقه من كل الوجوه فإن هذا لم يذهب إليه عاقل فتعين أن يكون هو الذي يثبت الإله على صفة يشبهه معها بخلقه ثم ذكر هو إجماع المسلمين على كون الله شبيهًا بخلقه من بعض الوجوه

ص: 495

فالذي ذكر أولئك إجماع المسلمين على تكفير قائله ذكر هو إجماع المسلمين على القول به وهذا الذي قرره في نهاية العقول في علم الأصول الذي صنفه بعد هذا الكتاب وقرر في أوله أن علم أصول الدين أجل العلوم وأشرفها وأعلاها وأنهاها قال ثم إن جماعة من الأفاضل الذين لايوجد أمثالهم غلا على تباين الأعصار ونوادر الأدوار لما طال اقتراحهم لدي وكثر إلحاحهم علي في تصنيف كتاب في أصول الدين يشتمل على نهايات الأفكار العقلية وغايات المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى على نحو ملتمسهم وأوردت فيه من الدقائق والحقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين

ص: 496

والمخالفين وإن كتابي يتميز على سائر الكتب المصنفة في هذا المعنى بثلاثة أمور أحدها الاستقصاء في الأسئلة والأجوبة والتعمق في بحار المشكلات على وجه ربما يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب فإني أوردت من كل كلام زبدته ومن كل بحث نقاوته حتى إني إذا لم أجد لأصحاب ذلك المذهب كلامًا يعول عليه ويلتفت إليه في نصرة مذهبهم وتقرير مقالتهم استنبطت من نفسي أيضًا ما يمكن أن يقال في تقرير ذلك المذهب وتحرير ذلك المطلب وإن كنا نرد بالعاقبة كل رأي ونزيف كل رؤية سوى مااختاره أهل السنة والجماعة ونبين بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة أن ذلك

ص: 497

الذي يجب له الانقياد بالسمع والطاعة وثانيهما استنباط الأدلة الحقيقية والبراهين اليقينية المفيدة للعلم الحقيقي واليقين التام لا الإلزامات التي منتهى المقصود من إيرادها مجرد التعجيز والإفحام وثالثها الترتيب العجيب والتلفيق الأنيق الذي يوجب التزامه على ملتزمه إيراد جميع مداخل الشكوك والشبهات والاجتناب عن الحشو والإطناب وهذا كله لايعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوعه على مجامع مباحث العقلاء من المحققين والمبطلين والموافقين والمخالفين حتى يمكن بعد ذلك فهم مافيه من الأدلة العقلية والشكوك العويصة القوية فإني قلما تكلمت في المبادئ والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفًا إلى

ص: 498

تلخيص النهايات والغايات قال ولما خرج الكتاب على هذا الوجه سميته نهاية العقول في دراية الأصول ليكون الاسم موافقًا للمسمى واللفظ مطابقًا للمعنى وجعلته خالصًا لوجه الله تعالى الكريم وطلب مرضاته والفوز العظيم بثوابه والهرب من اليم عذابه وسألت الله تعالى أن يعظم لي الانتفاع به وللمسلمين في الدارين ويجعله سبب السعادة في المنزلتين إنه قريب مجيب فهذا وصفه لكلامه في هذا الكتاب الذي صنفه بعد هذا وقد نقض فيه ماذكر في هذا الكتاب في اسم المشبهة وتكفيرهم وذكر اتفاق المسلمين على إثبات التشبيه من بعض الوجوه وإذا كانوا متفقين عليه كيف يكون صاحبه هو المشبه المذموم في قول

ص: 499

المسلمين وذكر أن القائلين بالجسم واختصاص الله تعالى بالمكان وإن غناهم متكلم بلفظ التشبيه فلا حجة على تكفيرهم وقد ذكر في هذا الكتاب ضد هذين القولين في اسم التشبيه وفي تكفير المشبه مع أن الحجج التي ذكرها في هذا الكتاب من جانب منازعه قوية عظيمة توافق مارجع إليه في نهايته فقال في القسم الرابع وقد جعله ثلاثة فصول قال الفصل الثاني في أن المجسم هل يوصف بأنه مشبه أم لا قال المجسمة إنا وإن قلنا إنه جسم مختص بالحيز والجهة غلا أنا نعتقد أنه بخلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته وذلك يمنع من القول بالتشبيه فإن إثبات المساواة في بعض الأمور لايوجب إثبات التشبيه ويدل على ذلك أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ولم يقل أحد بأن ذلك يوجب التشبيه فالأول قال سبحانه وتعالى في صفة نفسه إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] وقال في صفة الإنسان

ص: 500

فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2} [الإنسان 2] والثاني قال وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود 37] وقال في الإنسان تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة 83] والثالث قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وفي الإنسان ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ [الحج 10] وقال في نفسه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً [يس 71] وفي الإنسان يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] الرابع قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال في الإنسان لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف 13] الخامس قال في صفة نفسه الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ [الحشر 23] ووصف الخلق بذلك فقال إخوة يوسف يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ [يوسف 78] وقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35]

ص: 501

السادس سمى نفسه بالعظيم ثم وصف العرش به فقال رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {26} [النمل 26] السابع وصف نفسه بـ الحفيظ العليم ووصف يوسف نفسه بهما فقال إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55} [يوسف 55] وقال فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ {101} [الصافات 101] وقال في آية أخرى بِغُلَامٍ عَلِيمٍ {28} [الذاريات 28] الثامن سمى تحيتنا سلامًا فقال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ [الأحزاب 44] وسمى نفسه سلامًا وكان يقول صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام

ص: 502

التاسع المؤمن قال تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات 9] ووصف نفسه تعالى به فقال السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر 23] العاشر الحكم فقال أَلَا لَهُ الْحُكْمُ [الأنعام 62] ووصفنا به فقال فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا [النساء 35] الحادي عشر الراحم الرحيم وهو ظاهر

ص: 503

الثاني عشر الشكور فقال إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ {34} [فاطر 34] الثالث عشر العلي والإنسان يسمى بذلك منهم علي رضي الله عنه الرابع عشر الكبير قال عن نفسه وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ {23} [سبأ 23] وقال إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً [يوسف 78] وقال حكاية عن المرأتين وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ {23} [القصص 23] والخامس عشر الحكيم والله تعالى وصف نفسه في كتابه به فقال تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ {42} [فصلت 42] السادس عشر الشهيد قال في حق الخلق فَكَيْفَ إِذَا

ص: 504

جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء 41] وقال في حق نفسه أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {53} [فصلت 53] السابع عشر الحق قال الله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [طه 114] وقال وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء 105] الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان 26] وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ [الفرقان 33] وهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [الفتح 28] الثامن عشر الوكيل قال تعالى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} [الأنعام 102] وقد يوصف الخلق بذلك فيقال فلان وكيل فلان التاسع عشر المولى قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ {11} [محمد 11] ثم قال تعالى في حقنا وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ [النساء 33] والنبي صلى الله عليه وسلم

ص: 505

قال من كنت مولاه فعلي مولاه العشرون الولي قال تعالى إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [المائدة 55] وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وقال تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ

ص: 506

وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة 71] الحادي والعشرون الحي قال الله تعالى اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} [آل عمران 2] وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] الثاني والعشرون الواحد قال تعالى قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام 19] ويقع هذا الوصف على أكثر الأشياء فيقال ثوب واحد وإنسان واحد الثالث والعشرون التواب قال الله تعالى إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً {16} [النساء 16] وسمى الخلق به فقال إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ [البقرة 222]

ص: 507

الرابع والعشرون الغني قال الله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد 38] وقال إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء [التوبة 93] وقال النبي صلى الله عليه وسلم خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم الخامس والعشرون النور قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [النور 35] وقال يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم [الحديد 12]

ص: 508

السادس والعشرون الهادي قال تعالى وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [القصص 56] وقال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ {7} [الرعد 7] السابع والعشرون المستمع قال تعالى فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ {15} [الشعراء 15] وقال لموسى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى {13} [طه 13] الثامن والعشرون القديم قال تعالى حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ {39} [يس 39] قال واعلم أنه لانزاع في أن لفظ الموجود والشيء والواحد والذات والمعلوم والمذكور والعالم والقادر والحي والمريد والسميع والبصير والمتكلم والباقي واقع على الحق سبحانه وتعالى وعلى خلقه فثبت بما ذكرناه أن المشابهة من بعض الوجوه لاتوجب أن يكون قائله موصوفًا

ص: 509

بأنه شبه الله بالخلق وبأنه مشبه ونحن لانثبت المشابهة بينه وبين خلقه إلا في بعض الأمور والصفات لأنا نعتقد أنه وإن كان جسمًا إلا أنه بخلاف سائر الجسام في ذاته وحقيقته فثبت أن إطلاق اسم المشبهة على هذه الطائفة كذب وزور وهذا جملة كلامهم في هذا الباب قال واعلم أن حاصل هذا الكلام من جانبنا أنا قد دللنا في القسم الأول من هذا الكتاب على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان الباري جسمًا لزم أن يكون مثلاً لهذه الأجسام في تمام الماهية وحينئذ فيكون القول بالتشبيه لازمًا ولما لم يدل الدليل على أن الأشياء المتساوية في

ص: 510

الموجودية والعالمية والقادرية فإنه لا يجب تماثلها في تمام الماهية فظهر الفرق قلت قد ذكر ماذكر في حجج الذين سماهم مجسمة مع تقصير فيها فإنها حجج كثيرة جدًّا ومع هذا فلم يمكنه أن يمنعهم ثبوت التشبيه من بعض الوجوه كما قرره ولا أمكنه أن يمنع أن هذا ثابت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين لكن ادعى أن التجسيم يوجب إثبات مثل لله في تمام ماهيته وذلك ليس تشبيهًا في بعض الأمور بل هوة مماثلة في كمال الحقيقة والماهية قلت ولا ريب أن من أثبت لله مثلاً في كمال حقيقته فهو مشبه بل هو أعظم من أن يقال مشبه بل هو جاعل لله تعالى كفوًا وشبهًا وندًّا قال فالأشياء المشتركة في الموجودية والعالمية والقادرية لايجب تماثلها في تمام الماهية قلت وهذا حق فإن اشتراك الشيئين في كونهما موجودين أو عالمين

ص: 511

أو قادرين لايوجب استواءهما في حقيقتهما والغرض انه في هذا الكتاب أيضًا قد اعترف بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء فضلاً عن المسلمين لكن خصومه المجسمة إنما عابهم بإثباتهم المشابهة في تمام الماهية وهذا مورد النزاع بينه وبينهم وسنذكر إن شاء الله تعالى مايجب الحكم بالقسط بينه وبينهم إذا انتهينا إلى ذكر حججه التي أحال عليها ونبين أن الأجسام كلها هل هي مستوية في تمام ماهيتها وكمال حقيقتها أم لا إذ هذا ليس موضع الكلام في ذلك وهذا الفصل وإن كان ذكره في آخر الكتاب فذكرناه في هذا الموضع لنبين اعترافه واعتراف سائر الخلق بما قامت عليه الأدلة الشرعية والعقلية من ثبوت المشابهة من بعض الأمور وأن ذلك لايستلزم التماثل في الحقيقة وظهر بذلك ما في هذا اللفظ من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والمقصود هنا أن لفظ الشبيه والنظير فيه إجمال كبير واشتراك في اللفظ وإجمال في المعنى فإن أراد بما نفاه بهذه

ص: 512

المقدمة نفي الشبيه من كل وجه فهذا محل وفاق ولاينفعه ذلك وإن أراد به نفي الشبيه من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا متفق على ثبوته فلم يرد نفيه ولم يقم دليلاً على نفيه والقول الذي ذكره عن بعض منازعيه لا يمكننا عقل موجود لامتصل ولا منفصل إلا إذا وجدنا له نظيرًا قد ذكرنا أنه لايقوله من يعلم امتناع موجود لا متصل ولا منفصل ولايقوله من يعلم إمكانه وإنما يقوله الواقف الذي يطلب للشيء نظيرًا وقد ذكر هذا الرازي أنه لايطلب أحد من العقلاء نظيرًا من كل وجه وذكر أن الشبيه من بعض الوجوه ثابت للرب سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين فضلاً عن أن يكون ثابتًا لغيره وهذا المنازع له لايطلب إلا نظيرًا من بعض الوجوه فإذا كان مطلوبه حاصلاً باتفاق المسلمين لم يكن قوله فاسدًا فأحد الأمرين لازم إما أن لايكون قال أحد هذا القول أو يكون

ص: 513

هذا القول حقًّا مسلمًا بالاتفاق وعلى التقديرين فلا تصح مناظرة قائله فإن قيل هذا المنازع طلب نظيرًا في مورد النزاع وهو أني لا أثبت موجودًا لاداخل العالم ولا خارجه إن لم يكن له شبيه من هذا الوجه والمخالفون له لايثبتون المشابهة من هذا الوجه قيل هذا حق وهو تشبيه من وجه مخصوص لكن المصنف لم يثبت جواز وجود موجود بدون هذا التشبيه الخاص إذ لو أثبت ذلك لكان قد أثبت جواز موجود لايكون داخل العالم ولاخارجه وذلك لو أثبته كان له مغنيًا عن هذه المقدمة بل ادعى أنه لايجب في الوجود الشبيه والنظير لكل موجود ولفظ الشبيه مجمل كما قد ذكره هو وإذا كانت الدعوى مجملة تحتمل مورد النزاع وما هو اعم منه وما هو أخص منه لم تكن إقامة الدليل عليها دافعة للخصم وهذا بين وأما حججه فإنه قال الحجة الأولى أن بديهة العقل لاتستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفًا له في تلك الخصوصية وإذا لم يكن هذا

ص: 514

مدفوعًا في بدائه العقول علمنا أنه لايلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء وعلى هذا وجوه الأول إن عدم استبعاد البديهة لايقتضي عدم استبعاد العلم النظري وكذلك كونه غير مدفوع في بديهة العقل لا يقتضي أنه لايكون مدفوعًا في نظره فإن حاصل هذا أنه لا يعلم بالبديهة امتناع هذا وفرق بين أن لايعلم بالبديهة امتناعه وبين أن يعلم بالبديهة إمكانه وإذا لم يعلم بالبديهة امتناعه لم يجز أن يقال فعلمنا أنه لايلزم من عدم نظير الشيء عدم الشيء فإن هذا لم يعلم مما ذكره إنما أفاد ماذكره عدم العلم البديهي بوجود موجود لانظير له لم يعدم وجود علم بإمكانه ولو كان قد قال نعلم بالبديهة أن الشيء قد يكون موجودًا ولا يكون له نظير ونعلم بالبديهة إمكان وجود شيء لانظير له لكان الدليل تامًّا لكن هو لم يذكر إلا الإمكان الذهني دون الخارجي والإمكان الذهني ليس فيه علم لا بالامتناع ولا بالإمكان ولكن العلم بالإمكان الخارجي فيه بالإمكان الثاني أن الذي ادعاه أنه لايستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ماسواه مخالفًا له في تلك

ص: 515

الخصوصية وهذا إثبات للمخالفة في الخصوصية وإن كانت المشابهة ثابتة في غير الخصوصية بحيث يكون بينهما قدر مشترك وقدر مميز والمنازع له لم ينف وجود هذا بل قد حكى الإجماع على أن أحدًا من العقلاء لم يثبت المشابهة من كل وجه فلا يفيده هذا الوجه الثالث أن المنازع له الذي ذكره في هذه المقدمة طلب إثبات شيء يكون لاداخل العالم ولا خارجه وذكر أنه لا يقر بهذا إلا إذا علم المشابهة في هذا فإن لم يقم دليلاً على أن وجود موجود لايقتضي وجود شبيه له من هذا الوجه إما دليلاً يخص هذا الوجه أو دليلاً يعم هذا الوجه وغيره لم يكن قد استدل وهذا الدليل إنما فيه جواز المخالفة في تلك الخصوصية ولايلزم من جواز المخالفة في تلك الخصوصية جواز المخالفة في كونه لاداخل العالم ولاخارجه ثم قال الحجة الثانية هي أن وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود مايشابهه أو لايتوقف والأول باطل لأنهما لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم

ص: 516

فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بدائه العقول يقال هذه الحجة أفسد من التي قبلها من وجوه أحدها أن هذه إنما تنفي وجوب التشابه الموجب للاستواء في جميع اللوازم وهذا هو التماثل وقد حكى الإجماع على أن أحدًا من العقلاء لايثبت لله مثلاً يشاركه في جميع اللوازم ولا ريب أن انتفاء هذا ظاهر وإذا كان أحدًا من العقلاء لم يقل بهذا لم ينفعه في دفع ماذكره عن منازعه الذي طل التشابه في صفة واحدة لا في جميع اللوازم الوجه الثاني أنه كثيرًا مايحتج بمثل هذه الحجة في كتبه وهي من الأغاليط ولايميز بين دور التقدم والتأخر

ص: 517

وبين دور التفاوت وذلك أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر لأن العلة متقدمة للمعلول فيلزم أن يكون كل منهما علة للآخر ومعلولاً له فيلزم تقدمه عليه وتأخره عنه وذلك يستلزم تقدمه على نفسه بدرجتين وتأخره عن نفسه بدرجتين ويستلزم كونه علة لنفسه ومعلولاً لنفسه لأنه يكون علة علته ومعلول معلوله جميعًا ولايمتنع أن يكون كل من الشيئين مقارنًا للآخر بحيث لايوجد إلا معه كالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة ونحو ذلك وهذا دور

ص: 518

الشروط فيجوز أن يكون وجود كل من الأمرين شرطًا في وجود الآخر بحيث لايوجد إلا معه فهذا جائز ليس بممتنع فقوله وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه إن أراد بالتوقف توقف المعي بحيث يكون كل منهما موجودًا مع الآخر فلم قال إن هذا ممتنع قوله لأن التشابه يقتضي الاستواء في اللوازم فيلزم من توقف جود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول يقال غايته أنه توقف كل منهما على وجود الآخر وهذا أول المسألة وهو توقف الشيء على وجود مايشبهه فلم قلت إن هذا محال إذا أريد بالتوقف وجوب وجوده معه لا وجوب وجوده به ومعلوم أن هذا لايقتضي وقف الشيء على نفسه وأن هذا ليس بمحال في بدائه العقول بل المحال أن يكون وجود كل منهما بوجود الآخر وفرق بين كون وجوده معه

ص: 519

أو وجوده به فهذه الحجة كما قال الإمام أحمد رحمه الله في هؤلاء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم الوجه الثالث أن يقال نختار القسم الثاني وهو أن وجود الشيء لايتوقف على وجود مايشبهه بل يجوز وجوده بدونه لكن لم قلت إذا كان وجوده لايتوقف على النظير أنه لايجب أن يكون له نظير وإن لم يتوقف عليه وجوده كمعلولي العلة الواحدة لا يتوقف أحدهما على الآخر بأن كان وجود احدهما مستلزمًا لوجود الآخر وأيضًا فالمنازع الذي ذكرته لايمكننا أن نعقل وجود موجود لايكون متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه إلا إذا وجدنا له نظيرًا فإنما نفى عقل نفسه فلم قلت إنه إذا جاز وجود هذا الموجود يمكن عقلنا له وهذا لا يحصل إلا إذا ثبت انه يمكن أن يعقل كل ماجاز وجوده وهذا لم تذكر عليه حجة ثم قال الحجة الثالثة هو أن تعين كل شيء من حيث إنه

ص: 520

هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بدائه العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث إنه هو ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لايوجب القول بعدم الشيء يقال هذه الحجة أفسد من غيرها وهي أيضًا أغلوطاته فإنه لم يذكر فيها مايدل على مطلوبه لوجوه أحدها أن إثبات نظير الشيء وشبهه ومثله يقتضي أن يكون عين أحدهما ليس عين الآخر إذ لو كانت عينُه عينَه لم يكن مثله ونظيره بل كان هو إياه وإذا كان نفس إثبات النظير يقتضي التغاير في التعيين صار وجود النظير مستلزمًا لامتناع كون احدهما عين الآخر وثبوت اللازم لايقتضي عدم الملزوم فكون عين الشيء يمتنع أن يكون لغيره لايقتضي نفي ذلك كما لايقتضي ثبوته وإذا لم يكن مقتضيًا لثبوت النظير ولا نفيه لم يكن فيه إلا عدم الدليل على وجوب النظير وعدم الدليل ليس دليل العدم فتبين أن ماذكره لايمنع وجوب النظير كما

ص: 521

لايوجب ثبوت النظير ولكن غايته أنه لايدل على ثبوت النظير لكن قد يقول هو إذا كان تعينه يمتنع أن يكون لغيره فلا يقتضي وجود التعين وجوده ولا عدمه فيقال هذه الحجة لم تفد غير ماهو معروف بدونها من أنه يمكن العقل أن يتصور وجود الشيء الذي ليس له نظير وأن ذلك ممكن فإن هذه الحجة ليس فيها إقامة دليل خاص على نفي الحاجة إلى النظير وإنما غايتها وجود عين الشيء من غير نظير ولو قال قائل قد يكون وجود الشيء موقوفًا على نظيره لكون وجوده مشروطًا بوجود النظير أو وجود الغير كالأمور المتضايقة وأنتم لم تقيموا دليلاً على نفي وجوب التلازم فإنه ليس في حجه ماينفي التلازم لكان قوله صحيحًا لكن يقال نحن نتصور إمكان وجوده بدون التلازم فلا حاجة إلى حجته يبين ذلك أنه يكون امتناع كون عين الشيء حاصلاً في غيره يمنع وجوب الشبيه أو النظير فإن ذلك يستلزم أن يكون إثبات الشيء مستلزمًا لعدمه لأن إثبات التشابه والتناظر والتساوي يقتضي ثبوت التغاير في التعيين وأن عين احدهما ليست عين الآخر فلو كان هذا التغاير في التعيين مانعًا من وجوب مشابه لكان لازم الشيء بل بعض معناه مانعًا من وجوبه فإن اللازم

ص: 522

لا يمنع وجوب الملزوم ولا يوجب وجوده الوجه الثاني إن كون تعين الشيء ممتنع الحصول في غيره لايقتضي عدم نظير ذلك التعين في الثاني وإنما يقتضي عدم نفس ذلك التعين في الثاني والمنازع إنما يثبت نظير التعين في الثاني لانفس التعين فلم قلت إن نظير ذلك التعين غير واجب فإن قلت يلزم أن يكون لكل تعين نظيرًا قيل له كل من التعينين نظير الآخر الوجه الثالث أن تعين الشيء في اقتضائه لنفي وجوب المثل كما هو في اقتضائه لنفي وجود المثل ثم من المعلوم أنه إذا كان امتناع حصول التعين في الغير يقتضي نفي المثل وجب أن لايكون لشيء من الأشياء نظير ولا شبيه ولا مثل فإنه ما من شيء إلا له عين مخصوصة يمتنع حصولها في غيره فإن كان عدم حصول عين الشيء في غيره يقتضي عدم مثله ونظيره فليس في الوجود ماله نظير وشبيه وهذا من أبطل الأشياء وإذا لم يكن تعين الشيء مانعًا من وجود النظير لم يكن مانعًا من وجوب النظير فإنه لايدل على هذا ولا هذا

ص: 523

فصل قال الرازي المقدمة الثالثة أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة انه على صورة إنسان شاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهؤلاء لايجوزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول عنهم أنه على صورة نور من الأنوار قال وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس

ص: 524

على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة واعلم أن كثيرًا من هؤلاء يمنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم لا يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم

ص: 525

إن هذا المذهب يحتمل وجوهًا ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد متناه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضًا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم بينهم اختلاف في ذلك قلت هذا الكلام فيه تقصير كثير في معرفة مذاهب الناس وتحقيقها وذلك أن القائلين بأن الله تعالى فوق العرش والقائلين بالصفات الخبرية وهم السلف وأهل الحديث وأئمة الأمة وجماهيرها وجمهور الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وجمهور المشهورين بالإمامة في الفقه والتصوف في الأمة من جميع الطوائف جمهورهم لايقول هو جسم ولا ليس بجسم لما في اللفظين من الإجمال والاشتراك

ص: 526

المشتمل على الحق والباطل ومنهم طوائف يقولون هو جسم وطوائف يقولون ليس بجسم ثم إن كثيرًا من أئمة السنة والحديث أو أكثرهم يقولون إنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه بحد ومنهم من لم يطلق لفظ الحد وبعضهم أنكر الحد وممن ذكر ما عنده في ذلك من مذاهب أهل الحديث والكلام وإن كان بمقالات أهل الكلام أخبر أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين الذي من أول ما ذكره فيه أخذ الرازي وغيره

ص: 527

مذهبه في عدم تكفير أهل الصلاة قال أبو الحسن هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لايردون من ذلك شيئًا وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن اله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كما قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة

ص: 528

والخوارج وأقروا أن لله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله تعالى القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم لايقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولايقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسي عليه السلام سأل الله تعالى الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعل دكا فأعلمه بذلك أنه لايراه في الدنيا بل يراه في الآخرة وذكر مذهبهم في باب الإيمان والوعيد والأسماء

ص: 529

والأحكام إلى أن قال ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير فلم يرض بالشر وإن كان مريدًا له وذكر مذهبهم في الصحابة والخلافة والتفضيل ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له كما جاء في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له ويأخذون

ص: 530

بالكتاب والسنة كما قال تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لايتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء كما

ص: 531

قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وذكر مذهبهم في الأمراء والصلاة خلفهم وترك الخروج عليهم وأشياء غير ذلك ثم قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب ثم قال فأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان يعني ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الله لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وذكر غير ذلك قال وكان يزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء

ص: 532

ثم قال ذكر قول زهير الأثري فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله تعالى بكل مكان وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف ويزعم أن القرآن كلام محدث غير مخلوق وأن القرآن يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وأن إرادة الله ومحبته قائمتان بالله تعالى ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد ويقول في القدر بقول المعتزلة وذكر قوله في الإيمان أنه موافق لقول المرجئة

ص: 533

قال وأما أبو معاذ التومني فإنه يوافق زهيرًا في أكثر أقواله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله حدث غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في إرادته ومحبته وقال في باب اختلاف الناس في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو يحمله العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من

ص: 534

ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول بأنه في مكان دون مكان قال وقال قائلون هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بطعم ولا لون ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وانه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وان مكانه هو العرش وانه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحدَّه وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له قال وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلئ به وأنه يُقْعِد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على

ص: 535

العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وانه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولانقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وانه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ماوجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن

ص: 536

قال واختلف الناس في حملة العرش ماالذي تحمل قال قائلون الحملة تحمل الباري تعالى وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وان العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل قال الأشعري وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة قال وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه تعالى على العرش وإنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل ببينونة ليست على العزلة والبينونة من صفات الذات قال أبو الحسن الأشعري واختلفوا يعني

ص: 537

الأمة في العين واليد والوجه على أربع مقالات فقالت المجسمة له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب ويذهبون إلى الجوارح والأعضاء وقال أصحاب الحديث لسنا نقول في ذلك إلا ماقال الله تعالى أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف وقال عبد الله بن كلاب أطلق العين واليد والوجه خيرًا لأن الله تعالى أطلق ذلك ولاأطلق غيره فأقول هي صفات لله تعالى كما قال في العلم والقدرة والحياة إنها صفات وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وتأولت اليد بمعنى النعمة وقوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله تعالى أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [الزمر 56] أي في أمر الله وقالوا نفس الباري هي هو وكذلك ذاته هي هو وتأولوا قوله الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 2] على وجهين أحدهما أنه السيد والآخر أنه المصمود إليه بالحوائج

ص: 538

قال وأما الوجه فإن المعتزلة قالت فيه قولين قال بعضهم وهو أبو الهذيل وجه الله هو الله تعالى وقال غيره معنى قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن 27] أي يبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجهًا يقال إنه هو الله تعالى أو لا يقال ذلك فيه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار على تسع عشرة مقالة فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز بعضهم عليه الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانًا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن أصحاب مضر

ص: 539

وكهمس وحكي عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله تعالى يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقد قال قائلون إنا نرى الله تعالى في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في

ص: 540

النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة

ص: 541

قال وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة قال واختلفوا أيضًا في ضرب آخر فقال قائلون نرى جسمًا محدودًا مقابلاً لنا في مكان دون مكان وقال زهير الأثري ذات الباري في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه تعالى وتقدس بلا كيف وكان يقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة إلى مكان لم يكن خاليًا منه وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ولم تكن خالية منه قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا فقال قائلون هي إدراك له بالأبصار وهو يدرك الأبصار وقال قائلون يرى الله تعالى بالأبصار ولايدرك بالأبصار واختلفوا في ضرب آخر فقال قائلون نرى الله جهرة ومعاينة

ص: 542

قال قائلون لا يرى الله جهرة ولا معاينة ومنهم من يقول أحدق إليه إذا رأيته ومنهم من يقول لا يجوز التحديق إليه وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق حاسة يوم القيامة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها وندرك ماهو بتلك الحاسة وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها ويكلم خلقه فيها وقال الحسين النجار يجوز أن يحول الله تعالى العين إلى القلب ويجعل لها قوة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له أي

ص: 543

علمًا له قال وأجمعت المعتزلة على أن الله تعالى لا يرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة إن الله تعالى يرى بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها وأنكر ذلك الفوطي وعباد وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية

ص: 544

إن الله لايرى بالأبصار في الدنيا والآخرة ولايجوز ذلك عليه واختلفوا في الرؤية لله تعالى بالأبصار وهل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محالة على مقالتين فقال قائلون يجوز أن يرى الله تعالى في الآخرة بالأبصار وقال قائلون إنه بيانًا قال نقول إنه يرى بالأبصار وقال قائلون نقول

ص: 545

بالأخبار المروية وبما جاء في القرآن أنه مرئي بالأبصار في الآخرة بيانًا يراه المؤمنون قال وكل المجسمة إلا نفرًا يسيرًا يقولون بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لايقول بالتجسيم قال واختلفوا هل يقال إن الباري تعالى لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا أم لايقال ذلك على مقالتين فقال قائلون لم يزل الله تعالى عالمًا قادرًا حيًّا وزعم كثير من المجسمة أن الباري كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد ثم أراد وإرادته عندهم حركته فإذا أراد تكون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك وليست الحركة غيره وكذلك قالوا في قدرته وعلمه وسمعه وبصره إنها معان وليست غيره وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم وقال قائلون إن حركة الباري غيره واختلف القائلون إن الباري يتحرك على

ص: 546

مقالتين فزعم هشام أن حركة الباري هي فعله الشيء وكان يأبى أن يكون الباري يزول مع قوله يتحرك وأجاز عليه السكاك الزوال وقال لايجوز عليه الطفر وحكي عن رجل كان يعرف بأبي شعيب أن الباري يسر بطاعة أوليائه

ص: 547

وينتفع بها وبإنابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم إياه قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ الأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان وقال أيضًا اختلف المعتزلة في المكان فقال قائلون الباري بكل مكان بمعنى أنه مدبر لكل مكان وأن تدبيره في كل مكان والقائلون بهذا القول جمهور المعتزلة أبو الهذيل والجعفران

ص: 548

والإسكافي

ص: 549

والجبائي وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل وهو قول هشام الفوطي وعباد بن سليمان وأبي زفر وغيرهم من المعتزلة قال وقالت المعتزلة في قول الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

ص: 550

اسْتَوَى {5} [طه 5] يعنى استولى قال أبو الحسن وهذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون أن الباري تعالى ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قلت هذا الذي أحال عليه ذكره في قول المعتزلة فقال هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض ولا أجزاء

ص: 551

وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين ولاشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناهٍ ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الحواس ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ولا تحل به العاهات وكل ماخطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ولم يزل أولاً سابقًا متقدمًا للمحدثات موجودًا قبل المخلوقات ولم يزل عالمًا قادرًا حيًّا ولا يزال كذلك لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع شيء لا كالأشياء عالم قادر حي لا كالعلماء

ص: 552

القادرين الأحياء وأنه قديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق لم يخلق الخلق على مثال سبق وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب منه لايجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولايصل إليه الأذى والآلام ليس بذي غاية فيتناهى ولايجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء قال أبو الحسن فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف من الشيع وإن كانوا للجملة التي يظهرونها ناقضين ولها تاركين ثم ذكر من اختلافهم في مسائل الصفات ما ليس هذا موضع حكايته كلامًا طويلاً

ص: 553

قلت فهذا هو قوله قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محدود ولاذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفت المجسمة فيما بينهم من التجسيم وهل للباري تعالى وتقدس قدر من الأقدار وفي مقداره على ست عشرة مقالة فقال هشام بن الحكم إن الله جسم محدود عريض عميق طويل طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقدارًا في طوله وعرضه وعمقه ولا يتجاوزه في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه وطعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد

ص: 554

قال وحكى عنه ابن الراوندي أنه يزعم أن الله يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات ولولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه أنه قال إنه جسم لا كالأجسام ومعنى ذلك أنه شيء موجود قال وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونًا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضُا أو عميقا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصفه هشام غير أنه تعالى على العرش مماس له دون ما سواه

ص: 555

قال أبو الحسن واختلفوا في مقدار الباري تعالى بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري عز وجل جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك المقدار وقال بعضهم هو تعالى في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكى عن هشام بن الحكم أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري تعالى نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف

ص: 556

والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لايقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب وقال بعضهم إن معبودهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به قال وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان

ص: 557

إن الله جسم وإنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لايشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكي عن الجواربي أنه كان يقول أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ماسوى ذلك وكير من الناس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله تعالى الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 2] المصمت الذي ليس بأجوف قال وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله تعالى على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحمًا ودمًا وأنه نور

ص: 558

ساطع يتلألأ بياضًا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وأن له وفرة سوداء قال أبو الحسن وممن قال بالتجسيم من ينكر أن يكون الباري صورة وقد ذكر أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي في كتاب الآراء والديانات وهو ممن يذهب مذهب

ص: 559

المعتزلة في توحيدهم وعدلهم فقال في كتابه باب قول الموحدين والمشبهين زعمت المعتزلة بأجمعها والخوارج بأسرها وأكثر الزيدية وكثير من الشيع والمرجئة سوى أصحاب الحديث من أهل الإرجاء أن الله ليس بجسم ولا صورة ولا جوهر ولا جزء ولا عرض وليس يشبه شيئًا من ذلك وقال هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن

ص: 560

الخليل السكاك ويونس بن عبد الرحمن ومن قال بقولهم من الشيع إن الله تعالى جم لا كالأجسام هذه جملة اجتمع هشام بن الحكم وأصحابه عليها فاجتمعت حكاية المخالفين لهذا القول عنه إلا ما أومأ إليه الراوندي في كتابه الذي احتج به لمذهب هشام في الجسم فزعم أنه تعالى وتقدس يشبه الخلق من جهة دون جهة والذي صح عندي من قول هشام بعد ذلك عمن وافقه من أصحابه بعد في الحكاية عنه أنه كان يزعم أن الله تعالى بعد حدوث الأماكن في مكان دون مكان وأنه يجوز أن يتحرك وسمع قومًا من أصحابه يحكون عنه أنه يزعم أنه نور وقال آخرون منهم إنه كان يزعم أنه متناهى الذات واختلف

ص: 561

الحاكون من مخالفي هشام عن هشام فحكوا عن ضروبًا من الأقاويل مختلفة لا تليق به وما رأيت أصحابه يدفعونها عنه فمن ذلك أن الجاحظ ذكر عن النظام أن هشامًا قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبوده بشبر نفسه سبعة أشبار وحكى أبو عيسى الوراق في كتابه

ص: 562

على المشبهة عن كثير من مخالفي هشام أنه كان يزعم أن القديم على هيئة السبيكة وقال بعضهم إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وحكى بعضهم كما قلت إنه سبعة أشبار قال وحكى بعضهم أنه ذو صورة وحكوا عنه غير ذلك أيضًا مما رأيت أصحاب هشام يدفعونه عنه وينكرونه

ص: 563

ويزعمون أنه لم يزد على قوله جسم لا كالأجسام وإنما أراد بذلك إثباته وأنه نور لقول تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور 35] وينفون عنه المساحة والذرع والشبر والتحديد قال وسمعت ذلك من غير واحد منهم ممن ينتحل القول بالجسم وناظرونا به وقد وجدت الأمر على ما حكاه الوراق من ذلك وقد أضاف قوم القول بالجسم وإلى أبي جعفر الأحول المعروف بشيطان الطاق الذي يسميه

ص: 564

أصحابه مؤمن الطاق واسمه محمد بن النعمان وإلى هشام بن سالم المعروف بالجواليقي وإلى أبي مالك الحضرمي قال وليس من هؤلاء أحد جرد القول بالجسم ولكنهم كانوا يقولون هو نور على صورة الإنسان وينكرون قول القائل بالجسم فقاس من حكى ذلك عنهم عليهم وحكى من طريق القياس إذ كان الحاكي لذلك يعتقد أن الصور لاتكون إلا للأجسام فغلط عليهم وكذا غلط كثير من أهل الكلام وذكر أن هشام بن سالم وأبا جعفر الأحول أمسكا بعد قولهما بالصورة عن الكلام في الله تعالى رجعا إلى تأويل آية

ص: 565

من القرآن فرويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] قال فإذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا فأمسكا عن الكلام في ذلك والخوض فيه حتى ماتا وأقام على القول بالصورة من أقام عليه من أتباعهما قال النوبختي وأقول أن هذا الذي ذكره الوراق قد روي وقد رأيت نفرًا من أصحاب هشام بن سالم يزعمون أنه لم يزل يناظر على القول بالصورة إلى أن مات قال أبو عيسى وأما علي بن إسماعيل بن ميثم فإن

ص: 566

أصحابه ومخالفيه مختلفون في الإخبار عنه فبعضهم يزعم أنه كان يقول بالجسم والصورة وبعضهم يزعم أنه كان لايقول بالصورة وبعضهم يزعم أنه كان يقول بالصورة ولا يقول بالجسم قال ولا ثبت عندي في ابن ميثم أنه قال بالصورة ولا بالجسم قال أبو عيسى في هذا الباب وقد حكى ذلك لي كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد المصري وداود الجواربي في خلق كثير من العامة وأصحاب الحديث قالوا الله تعالى في صورة وأعضاء قال أبو عيسى وبلغني عن داود الجواربي أنه قال أعفوني عن الفرج

ص: 567

واللحية واسألوني عما وراء ذلك أو قال عما شئتم وقد حكى كثير من المتكلمين عن داود ومقاتل أنهما قالا إن معبودهم جسم ولحم ودم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي حكاية أخرى أنه كان يقول إنه أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وذكر أن مقاتل بن سليمان كان يأبى هذا القول الأخير وحكى إبراهيم النظام في كتابه عن المشبهة أن قومًا لا أدري هم من الملة أم ليسوا من الملة زعموا أن معبودهم جسم فضاء وأن الأجسام كلها فيه وحكى أن آخرين قالوا هو فضاء وليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان وهو نفسه المكان وحكى الجاحظ في كتابه عن المشبهة أن

ص: 568

بعضهم قال هو جسم في مكانه إلا أنه فاضل عن الأماكن خلا أن له نهاية لازمة قال وزعم بعضهم أنه ذاهب في الجهات الست لا إلى نهاية وهو ليس بجسم وهذا أيضًا قول ما علمت أن أحدًا من أهل الصلاة قال به ولا كان شيء منه وهذه أقاويل أهل الملة قال النوبختي وللفلاسفة القدماء في الباري أقوال مظلمة غير بينة وكان عنايتهم بغير أمر الديانات وكان أكثر كلامهم في أمور الطبيعة والنفس والفلك والكون والفساد والجواهر والأعراض وقد زعم أرسطاطاليس على ما قرأناه في مقالة اللام التي فسرها ثامسطيوس أن الله تعالى

ص: 569

جوهر أزلي بسيط غير مركب ليس بجسم ولا تجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وسماه مرة عقلاً وطبيعة تارة وقال في موضع آخر منها إنه يعقل ذاته ويعلم ذاته وسائر الأشياء التي هو علة لها وذكر فرفوريوس في رسالته التي زعم أنه يحكي فيها مذاهب أرسطاطاليس في الباري والمبادئ أنه يصف الله تعالى بأنه خير وأنه حكيم وأنه قوي وزعم

ص: 570

أفلاطون في كتابه كتاب النواميس أن أشياء لاينبغي للإنسان أن يجهلها منها أن له صانعًا وأن صانعه يعلم أفعاله فأثبت لله العلم بأفعاله وزعم قوم من فلاسفة دهرنا أن أفلاطون إنما وضع هذا على سبيل التأديب للناس وبحسب السنة وما كان يذهب إليه لا على الاعتقاد قال وهذا ظن من هؤلاء القوم فأما قول أفلاطون فهو ما ذكره في كتابه في تفسير سمع الكنان وأن الله تعالى إنما يعرف بالسلب فيقال إنه لاشبه له ولا مثال إلا

ص: 571

الشمس وحدها فإنه كما أن الشمس تفوق جميع الأشياء التي في العالم كذلك تفوق العلة الأولى جميع الموجودات وتفضلها فضلاً يجوز كل قياس قال وكما أن الشمس تدبر جميع الأشياء على طريقة واحدة وقال أبو الحسن الأشعري أيضًا اختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق فالفرقة الأولى هشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر مثل ما تقدم عن هشام وزاد أنهم لم يعينوا طولاً غير الطول وإنما

ص: 572

قالوا طوله مثل عرضه على المجاز دون التحقيق وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث بالمكان بأن تحرك الباري فحدث المكان بحركته فكان فيه وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه لجسم ذاهب جاء يتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال فقلت له فأيما أعظم إلهك أو هذا الجبل قال وأومأت إلى جبل أبي قبيس قال فقال هذا الجبل يوفي عليه أي هو أعظم منه قال وذكر أيضًا ابن الراوندي أن هشام بن الحكم كان يقول إن بين إلهه وبين الأجسام المشاهدة تشابهًا

ص: 573

بجهة من الجهات لولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه خلاف هذا انه كان يقول إنه جسم وأبعاض لايشبهها ولاتشبهه غير أن هشام بن الحكم في بعض كتبه كان يزعم أن الله تعالى إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض ولولا ملابسته لما وراء ما هنالك لما درى ما هناك وزعم أن بعضه يرى وهو شعاعه وأن الثرى محال على بعضه ولو زعم هشام أن الله يعلم ما تحت الثرى بغير اتصال ولا خبر ولا قياس كان قد ترك تعلقه بالمشاهدة وقال بالحق وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل زعم مرة أنه كالبلورة وزعم مرة أنه كالسبيكة وزعم مرة أنه غير صورة وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام

ص: 574

قال وزعم أبو عيسى الوراق أن بعض أصحاب هشام أجابه مرة غلى أن الله تعالى وتقدس على العرش مماس له وأنه لايفضل على العرش ولا يفضل العرش عنه قال والفرقة الثانية من الرافضة الإمامية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله تعالى وتقدس على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن ربهم تعالى وتقدس على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسمًا والفرقة الرابعة منهم الهشامية أصحاب هشام بن

ص: 575

سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحمًا ودمًا ويقولون هو نور ساطع يتلألأ ضياءً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه تعالى وتقدس وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان

ص: 576

قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فكانوا يقولون ما حكينا عنهم من التشبيه قال أبو الحسن واختلف الرافضة في حملة العرش هل يحملون العرش أم يحملون الباري تعالى وتقد س وهم فرقتان فرقة يقال لهم اليونسية أصحاب يونس بن

ص: 577

عبد الرحمن القمي مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون الباري واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكُرْكِي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والباري يستحيل أن يكون محمولاً قال أبو الحسن الأشعري واختلفت الروافض في إرادة الله تعالى وهم أربع فرق الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله تعالى حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله تعالى ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله

ص: 578

تعالى وتقدس إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراده والفرقة الثانية ومنهم أبو مالك الحضرمي وعلي بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله تعالى غيره وهي حركة الله تعالى كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم وهم القائلون بالاعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله تعالى ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله تعالى لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله تعالى لتكوين الشيء هو الشيء وإرادته لأفعال عباده هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم نافون أن يكون الله تعالى أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن لله تعالى إرادة فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا

ص: 579

فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها وذكر عنهم في القول بأن الله حي عالم قادر سميع بصير إله وغير ذلك مقالات يطول وصفها جمهورها يقتضي وصفه بالحركة والتحول كما في الإرادة وقال أبو الحسن الأشعري مقالات المرجئة في التوحيد فقال قائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وقال قائلون منهم بالتشبيه وهم ثلاث فرق فقالت الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب مقاتل بن سليمان إن الله تعالى جسم وإن له جمة وإنه على صورة الإنسان وإنه لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه وقالت الفرقة الثانية أصحاب داود

ص: 580

الجواربي مثل ذلك غير أنهم قالوا أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وقالت الفرقة الثالثة منهم هو جسم لا كالجسام فقد ذكر الأشعري أن القول بأن الله تعالى فوق العرش وثبوت الصفات الخبرية هو قول أهل السنة وأصحاب الحديث وذكر أن ذلك قول ابن كلاب وأصحابه وقوله وذكر التنازع في نفي هذه الصفات وإثباتها بين فرق الأمة فنفيُ الجسم وهذه الصفات هو قول المعتزلة والخوارج وطائفة من المرجئة ومتأخري الشيعة وإثبات الجسم وهذه الصفات قول جمهور الإمامية المتقدمين وطائفة من المرجئة وغيرهم

ص: 581

وهو مع هذا لم يذكر تفصيل أقوال أئمة الإسلام وسلف الأمة وعلماء الحديث وإنما ذكر قولاً مجملاً ولهم في هذا الباب من الأقوال المفصلة وعندهم في ذلك من النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما هو معروف عند أهله وقد ذكر الأشعري عشرة أصناف فقال واختلف المسلمون عشرة أصناف الشيع والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية وهم النجارية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان ومعلوم أن أئمة الأمة وسلفها ليسوا في شيء من هذه

ص: 582

الطوائف إلا في أهل الحديث والعامة وهؤلاء مع جمهور الشيع والمرجئة والكلابية والأشعرية من أهل الإثبات لأن الله تعالى فوق العرش والصفات الخبرية وإن كان فيهم من يثبت الجسم وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وأما نفي ذلك مطلقًا فإنما ذكره عن المعتزلة والخوارج وأما الضرارية والبكرية والنجارية فتوافقهم في بعض ذلك وتوافق أهل الإثبات في بعض ذلك وهذه المقالة التي نسبها هو إلى المعتزلة هي المشهورة في كلام الأئمة وعلماء الحديث بمقالة الجهمية فإن الأئمة نسبوها إلى من أحدث هذه المقالات وابتدعها ودعا الناس إليها والمعتزلة إنما أخذوها

ص: 583

عنه كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ ذلك عن الجهم قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب عمرو ابن عبيد هم المعتزلة فإنه أول المعتزلة هو وواصل بن عطاء وإنما كان شعار المعتزلة أولاً هو المنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد وبه اعتزلوا الجماعة ثم دخلوا بعد ذلك في إنكار القدر وأما إنكار الصفات فإنما ظهر بعد ذلك وكذلك حكاية ذلك عن الخوارج إنما يكون عن متأخرة الخوارج الموجودين بعد حدوث هذه المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك أما قدماء الخوارج الذين كانوا على عهد الصحابة والتابعين فماتوا قبل حدوث هذه الأقوال المضافة إلى المعتزلة والجهمية وذلك أن مقالات هؤلاء ونحوهم إنما نقلها من كتب المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك لم يقف هو على شيء

ص: 584

من كلام الخوارج والمعتزلة يستكثر بالخوارج لموافقتهم لهم في إنفاذ الوعيد ونفي الإيمان والخروج على الأئمة والأمة ولكن الأشعري كان بمقالات المعتزلة أعلم منه بغيرها لقراءته عليهم أولاً وعلمه بمصنفاتهم وكثيرًا ما يحكي قول الجبائي عنه مشافهة وقد ذكر مقال جهم في كتابه فقال ذكر قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط وأنه لافعل لأحد في الحقيقة إلا لله تعالى وحده وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله تعالى إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارًا منفردًا بذلك كما خلق له طولاً كان به طويلاً ولونًا كان به

ص: 585

متلونًا قال وكان الجهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتل جهم بمرو قتله سلم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية قال ويحكى عنه أنه كان يقول لاأقول إن الله تعالى شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء قال وكان يقول إن علم الله تعالى محدث فيما حكى عنه ويقول بخلق القرآن وأنه لايقال إن الله لم يزل عالمًا بالأشياء قبل أن تكون وكذلك قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة

ص: 586

له بعد الخطبة أما بعد فإن كثيرًا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على رأيهم تأويلاً لم ينزل الله به سلطانًا ولا أوضح به برهانًا ولا نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين فخالفوا رواية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله تعالى بالأبصار وقد جاءت بذلك الروايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وان الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرًا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ {25} [المدثر 25] فزعموا أن القرآن كقول

ص: 587

البشر وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرًا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر وزعموا أن الله تعالى يشاء ما لايكون ويكون ما لايشاء خلافًا لما أجمع عليه المسلمون من أن الله ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وردًّا لقول الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] فأخبر الله أنا لانشاء شيئًا إلا قد شاء الله أن نشاءه ولقوله وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ [البقرة 253] وقوله وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة 13] وقوله تعالى فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ {16} [البروج 16] ولقوله سبحانه وتعالى خبرًا عن شعيب أنه قال وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللهُ [الأعراف 89] ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا

ص: 588

قولهم وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس وأنه يكون من الشر ما لايشاء الله كما قالت المجوس ذلك وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردًّا لقول الله تعالى قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاء اللهُ [الأعراف 188] وانحرافًا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على أعمالهم دون ربهم عز وجل فأثبتوا لأنفسهم غنى عن الله عز وجل ووصفوا أنفسهم بالقدرة على ما لم يصفوا الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله تعالى فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقوالهم ومالوا إلى أضاليلهم وقنطوا الناس من رحمة الله وأيّسوهم من روح الله سبحانه وتعالى وحكموا

ص: 589

على العصاة بالنار والخلود خلافًا لقول الله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ [النساء 48] وزعموا أن من دخل النار لا يخرج منها خلافًا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا فيها فصاروا حممًا ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] ولقوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] ونفوا ماروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 590

من قوله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا قال وأنا ذاكر ذلك بابًا بابًا إن شاء الله تعالى قال فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفوا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون

ص: 591

قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول أحمد بن حنبل نضر الله وجه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المناهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهّم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا أنَّا نقر باله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول

ص: 592

الله صلى الله عليه وسلم ولانرد من ذلك شيئًا وأن الله عز وجل واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجها كما قال عز وجل وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال عز وجل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين بلا كيف كما قال عز وجل تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله تعالى غيره كان ضالا وأن الله تعالى علمًا كما قال تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه

ص: 593

وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله قدرة وقوة كما قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك عنه كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن كما قد قال سبحانه وتعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {40} [النحل 40] وأنه لايكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى وذكر الكلام في مسائل القدر وخلق الأفعال إلى أن قال ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا

ص: 594

وندين بأن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله عز وجل كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لايراه في الدنيا ونرى ألا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبهها مستحلاًّ لها إذا كان غير معتقد لتحريمها كان كافرًا ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام

ص: 595

إيمانًا وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 596

وندين بأن لاننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله عز وجل يخرج من النار قومًا بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان حق والحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله عز وجل يوقف العباد بالموقف ويحاسب

ص: 597

المذنبين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونثني عليهم بما أثنى الله تعالى عليهم ونتولاهم ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وان الله سبحانه وتعالى أعز به الإسلام والدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ثم عثمان نضر الله وجهه وأن

ص: 598

الذين قاتلوه قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لايوازنهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما أثبتوه ونقلوه خلافًا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعوّل فيما اختلفنا فيه على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله تعالى بدعة لم يأذن الله تعالى بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم

ص: 599

القيامة كما قال تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف يشاء كما قال تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال عز وجل ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8، 9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وفاجر وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج ونرى المسح على

ص: 600

الخفين في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى رأي الخوارج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما للمدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله تعالى ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرًا وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار

ص: 601

مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال تعالى الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله تعالى

ص: 602

يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وماكان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الأهواء وقال وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ومما بقى منه مما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ثم ذكر من دلائل ذلك وحججه ما قد يُذكر بعضه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما ذكره الرازي من الأدلة وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد

ص: 604

فيما افترى على الله تعالى في التوحيد قال فيه باب الحد والعرش وادعى المعارض أيضًا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحدٌ من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله تعالى لاشيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لاشيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لامحالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لايعلمه غيره ولا

ص: 605

يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله تعالى ولمكانه أيضًا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن صالح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن مبارك

ص: 606

فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لاشيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله تعالى وجحد آيات الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء

ص: 607

قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة دليل على أنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لايجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله فحدثنا أحمد بن منيع البغدادي الأصم

ص: 608

حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحدًا في

ص: 609

السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين في كفره يومئذ كان أعلم بالله الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض وقد اتفقت

ص: 610

الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحِنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه تعالى يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله فيها حرفًا بعد حرف وشيئًا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتوك ستره وافتضاحه في مصره وفي سائر الأمصار الذين

ص: 611

سمعوا بذكره وذكر الكلام في الصفات وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روي عن

ص: 612

علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز وجل قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] قال الخلال أخبرنا الحسن بن صالح العطار حدثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال كنا عند أبي

ص: 613

عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] وتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء قال الخلال وأخبرنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر

ص: 614

الأثرم حدثنا محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال الخلال

ص: 615

أخبرنا حرب بن إسماعيل قال قلت لإسحاق يعني ابن راهوية على العرش بحد قال نعم بحد وذكر عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد

ص: 616

وقد ذكر أيضًا حرب بن إسماعيل في آخر كتابه في المسائل كلها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدي بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والشام والحجاز وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن

ص: 617

منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم إن الإيمان قول وعمل إلى أن قال وخلق الله سبع سموات بعضها فوق بعض وقد تقدم حكاية قوله إلى قوله لأن الله تبارك وتعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لايخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد الله تعالى أعلم بحده والله تعالى على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره ولكن هذا اللفظ يحتمل أن يعود فيه الحد إلى العرش بل ذلك أظهر فيه

ص: 618

قال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل رأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر بن أبي داود سمعت

ص: 619

أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تعالى حد فقال نعم لايعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين وروى الخلال أيضًا في كتاب السنة أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئًا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] قال أخبرني

ص: 620

عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لاتدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه ليس من الله تعالى شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] وكان الله تعالى قبل أن يكون شيء والله تعالى الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير

ص: 621

فهو في هذا الكلام أخبر أنه بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فنفى أن تحيط به صفة العباد أو حدهم وكذلك قال لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحدّ ولاغاية فبين أن الأبصار لاتدرك له حدًّا ولا غاية وقال أيضًا ولا يدركه صفة واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله تعالى شيء محدود كما قال بعد هذا ولايبلغ أحد حد صفاته فنفى في هذا الكلام كله أن يكون وصف العباد أو حد العباد يبلغه أو يدركه كما لاتدركه أبصارهم قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله تعالى يرى وأن

ص: 622

الله تعالى يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاءت به الرسل حق ونعلم أن ما ثبت عن الرسول صلى اله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ولا نرد على قوله ولا نصف الله تبارك وتعالى بأعظم مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وقال حنبل في موضعٍ آخر ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء

ص: 623

فيعبد الله تعالى بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولايبلغ الواصفون صفته وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه تعالى ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا حيًّا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفاته وصف بها نفسه لاتدفع

ص: 624

ولاترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قال إبراهيم لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً {42} [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يُعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن لايصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة

ص: 625

وقال أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بها قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لاننكر ذلك ولا نرده قلت له والمشبهة ما

ص: 626

يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ور نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء به والنهي عما نهى

ص: 627

وأسماؤه وصفاته منه غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير وقال الخلال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يُقدِّرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكرنا من كلامهم في

ص: 628

غير هذا الموضع ما يبين ذلك وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان فحكي عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين وهذه طريقة الروايتين والوجهين ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى ونفى علم العباد به كما ظنه موجَبُ ما نقله حنبل وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان أو تأول نفي الحد بمعنى آخر والنفي هو طريقة القاضي أبي يعلى أولاً في المعتمد وغيره فإنه كان ينفي الحد والجهة وهو قوله الأول قال فصل وقد وصف الله نفسه بالاستواء على العرش

ص: 629