الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المملكة العربية السعودية
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
الأمانة العامة
بيان
تلبيس الجهمية
في تأسيس بدعهم الكلامية
تأليف شيخ الإسلام
أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني
(ت 728هـ)
الجزء الثالث
الجسم - الحد - الجهة - الفوقية - اليد
الحيز - الرؤية
حققه
د. أحمد معاذ حقي
فصل وقد وصف الله تعالى نفسه بالاستواء على
العرش والواجب إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى القعود والمماسة والحلول ولا على معنى العلو والرفعة ولا على معنى الاستيلاء والعلم وقد قال أحمد في رواية حنبل نحن
نؤمن أن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد قال فقد أطلق القول في ذلك من غير كيفية الاستواء وقد علق القول في موضع آخر فقال في رواية المَرُّوذي يروى عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله تعالى قال على العرش
بحد قال قد بلغني ذلك وأعجبه قال القاضي وهذا محمول على أن الحد راجع إلى العرش لا إلى الذات ولا إلى الاستواء وقصد أن يبين أن العرش مع عظمته محدود قلت وهذا الذي قاله القاضي في الاستواء هنا هو الذي يقوله أئمة الأشعرية المتقدمين وهو قريب من قول أبي محمد بن
كُلَاّب وأبي العباس القلانسي وغيرهم من أهل الحديث والفقه ولهذا قال خلافًا لمن قال من المعتزلة معناه
الاستيلاء والغلبة وخلافًا لمن قال من الأشعرية معناه العلو عن طريق الرتبة والعظمة والقدرة وهذا قول بعض
الأشعرية لا أئمتهم المتقدمون قال وخلافاً للكَرَّامية
والمجسمة معناه المماسة للعرش بالجلوس
عليه ثم إنه قال في الحجة والذي يبين صحة ما ذكرنا أنه مقالة السلف من أهل اللغة وغيرهم فذكر ابن قتيبة في كتاب مختلف الحديث الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] استقر كما قال تعالى فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون 28] أي استقررت وذكر ابن بطة عن ابن
الأعرابي قال أرادني ابن أبي داود أن أطلب في بعض لغات العرب ومعانيها الرحمن على العرش استولى فقلت والله ما يكون هذا ولا أصبته وقال يزيد بن
هارون من زعم أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن
عبد الوهاب قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد والقاضي في هذا الكتاب ينفي الجهة عن الله كما قد صرح بذلك في غير موضع كما ينفي أيضًا هو وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره
التحيز والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض
ونحو ذلك ثم رجع عن نفي الجهة والحد وقال بإثبات ذلك كما ذكر قوليه جميعًا فقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث الأوعال
فإذا ثبت أنه تعالى على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كَرَّام وابن
منده الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو على العرش فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا الله تعالى فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجاً منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولامعه ولا بعده ولأن العوام لايفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم
قال واحتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها فدل على أنه في مكان قلت وهذا الكلام من القاضي وابن منده ونحوهما يقتضي أن الجهة المثبتة أمر وجودي ولهذا حكوا عن النفاة أنه ليس في جهة ولا خارجًا منها وأنها غيره وفي كلامه الذي سيأتي ما يقتضي أن الجهة والحد هي من الله تعالى وهو ما حاذى لذات العرش فهو الموصوف بأنه جهة وحد ثم ذكر أن ذلك من صفات الذات ثم قال وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي وقد ذُكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك
نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال احمد هكذا هو عندنا قال ورأيت بخط أبي إسحاق ثنا أبو بكر احمد بن نصر الرفاء قال سمعت أبا بكر بن أبي داود قال سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله
تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات الستة بل هو خارج العالم مميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز ولهذا يسمى البواب حدادًا لأنه يمنع غيره
من الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا ثم قال ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالتين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته هو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق
والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي جمع به بين كلامي أحمد وأثبت الحد والجهة من ناحية العرش والتحت دون الجهات الخمس يخالف ما فَسَّر به كلام أحمد أولاً من التفسير المطابق لصريح ألفاظه حيث قال فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما يقال على جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لايعلمه إلا هو والثاني أنه صفة يَبِين بها عن غيره ويتميز فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع
من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه فهذا القول الوسط من أقوال القاضي الثلاثة هو المطابق لكلام أحمد وغيره من الأئمة وقد قال إنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لايعلمه إلا هو ولو كان مراد أحمد رحمه الله الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلومًا لعباده فإنهم قد عرفوا أن حده من هذه الجهة هو العرش فعلم أن الحد الذي لا يعلمونه مطلق لا يختص بجهة العرش وروى شيخ الإسلام في ذم
الكلام ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله قال لإسحاق بن إبراهيم
وهو الإمام المشهور المعروف بابن راهوية ما تقول في قوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وقال حرب أيضًا قال إسحاق بن إبراهيم لايجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقول الله تعالى لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ {23} [الأنبياء 23] ولايجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر
المخلوقين وذلك أنه يمكن أن يكون الله عز وجل موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى سماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما يشاء كما
يشاء وروى شيخ الإسلام عن محمد بن إسحاق الثقفي سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال دخلت يومًا على طاهر بن عبد الله وأظنه عبد الله بن طاهر
وعنده منصور بن طلحة فقال لي منصور يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة قلت ونؤمن به إذا أنت لا تؤمن أن لك ربًّا في السماء فلا تحتاج أن تسألني عن هذا فقال ابن طاهر ألم أنهك عن هذا الشيخ وروي عن محمد بن حاتم سمعت
إسحاق بن راهوية يقول قال لي عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها أو قال ترونها في النّزول ما هي قال أيها الأمير هذه الأحاديث جاءت مجيء الأحكام الحلال والحرام ونقلها العلماء ولا يجوز أن ترد هي كما جاءت بلا كيف فقال عبد الله بن طاهر صدقت ما كنت أعرف وجوهها حتى الآن وفي رواية قال رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا مع هذه عدولاً وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع فقال له شفاك الله كما شفيتني أو كما قال وروى أيضًا شيخ الإسلام ما ذكره أبومحمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على
الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد ابن الحسن الشيباني رجلاً في التجهم فتاب
فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب قال شيخ الإسلام لشرح مسألة البينونة في كتاب الفاروق باب أغنى عن تكريره هاهنا قال شيخ الإسلام وسألت يحيى بن
عمار عن أبي حاتم بن حبان البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سِجسْتَان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله
فأخرجناه من سجستان قلت وقد أنكره طائفة من أهل الفقه والحديث ممن يسلك في الإثبات مسلك ابن كُلَاّب والقلانسي وأبي الحسن ونحوهم في هذه المعاني ولا يكاد يتجاوز ما أثبته أمثال هؤلاء مع ماله من معرفة بالفقه والحديث كأبي حاتم هذا وأبي سليمان الخطابي وغيرهما ولهذا يوجد للخطابي وأمثاله من الكلام ما يظن أنه متناقض حيث يتأول تارة ويتركه
أخرى وليس بمتناقض فإن أصله أن يثبت الصفات التي في القرآن والأخبار الموافقة له أو ما في الأخبار المتواترة دون ما في الأخبار المحضة أو دون ما في غير المتواترة وهذه طريقة ابن عقيل ونحوه وهي إحدى طريقي أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وهم مع هذا يثبتونها صفات معنوية
قال الخطابي في الرسالة الناصحة له ومما يجب أن يعلم في هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لايجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي قد ثبتت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في جملتها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله صلى الله عليه وسلم فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى
أن لله تعالى مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه لفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في روايته كخلاف البينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا معًا وقد تحتمل
هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أن يجد ربه عز وجل بمكانه الأول من الإجابة في الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه تعالى في المذنبين من أمته كل ذلك يشفعه فيهم ويشفعه بمسألته لهم قال ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن الله حدًّا وكان أعلى ما احتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك نعرف ربنا بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا
الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو نزلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية قد رويت لنا أنه قيل له أتعرف ربنا بجد فقال نعم نعرف ربنا بجد بالجيم لا بالحاء وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال إن له تعالى حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أحوجنا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي أرأيت إن قال جاهل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجيءْ ذكر
الرأس لم يجز القول به قلت أهل الإثبات المنازعون للخطابي وذويه يجيبون عن هذا بوجوه أحدها أن هذا الكلام الذي ذكره إنما يتوجه لو قالوا إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شيء من الموصوفات كما يوصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها الحد وإنماالحد ما يتميز به الشيء عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف من لفظ الحد في الموجودات فيقال حد الإنسان وحد كذا وهي الصفات المميزة له ويقال حد الدار والبستان وهي جهاته وجوانبه المميزة له ولفظ الحد في هذا أشهر في اللغة والعرف العام ونحو ذلك ولما كان الجهمية يقولون
ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها ويجحدون قدره حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي عالم قدير قد عرفنا حقيقته وماهيته ويقولون إنه لايباين غيره بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولون لا داخل العالم ولا خارجه ولا كذا ولا كذا أو يجعلوه حالاً في المخلوقات أو وجود المخلوقات فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه وذكر الحد لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد فلما سألوا أمير المؤمنين في كل شيء عبد الله بن المبارك بماذا نعرفه قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فذكروا له لازم ذلك الذي تنفيه الجهمية وبنفيهم له ينفون ملزومه
الذي هو موجود فوق العرش ومباينته للمخلوقات فقالوا له بحد قال بحد وهذا يفهمه كل من عرف ما بين قول المؤمنين أهل السنة والجماعة وبين الجهمية الملاحدة من الفرق الوجه الثاني قوله سبيل هؤلاء أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس فيقولون له لو وفيت أنت ومن اتبعته باتباع هذه السبيل لم تحوجنا نحن وأئمتنا إلى نفي بدعكم بل تركتم موجب الكتاب والسنة في النفي والإثبات أما في النفي فنفيتم عن الله أشياء لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا إمام من أئمة المسلمين بل والعقل لايقضي بذلك عند التحقيق وقلتم إن العقل نفاها فخالفتم الشريعة بالبدعة والمناقضة المعنوية وخالفتم العقول الصريحة وقلتم ليس
هو بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شيء من شيء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدْر أويكون له قَدْر لا يتناهى وأمثال ذلك ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة مع اتفاق السلف على ذم من ابتدع ذلك وتسميتهم إياهم جهمية وذمهم لأهل هذا الكلام وأما في الإثبات فإن الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصفه رسوله بصفات فكنتم أنتم الذين تزعمون أنكم من أهل السنة
والحديث دع الجهمية والمعتزلة تارة تنفونها وتحرفون نصوصها أو تجعلونها لا تعلم إلا أماني وهذان مما عاب الله تعالى به أهل الكتاب قبلنا وتارة تقرونها إقرارًا تنفون معه ما أثبتته النصوص من أن يكون النصوص نفته وتاركين من المعاني التي دلت عليه مالا ريب في دلالتها عليه مع ما في جمعهم بين الأمور المتناقضة من مخالفة صريح
المعقول فأنت وأئمتك في هذا الذي تقولون إنكم تثبتونه إما أن تثبتوا ما تنفونه فتجمعوا بين النفي والإثبات وإما أن تثبتوا ما لا حقيقة له في الخارج ولا في النفس وهذا الكلام تقوله النفاة والمثبتة لهؤلاء كمثل الأشعري والخطابي والقاضي أبي يعلى وغيرهم من الطوائف ويقول أهل المُثْبِتَة كيف سوغتم لأنفسكم هذه الزيادات في النفي وهذا التقصير في الإثبات على ما أوجبه الكتاب والسنة وأنكرتم على أئمة الدين ردهم لبدعة ابتدعها الجهمية مضمونها إنكار وجود الرب تعالى وثبوت حقيقته وعبروا عن ذلك بعبارة فأثبتوا تلك العبارة ليبينوا ثبوت المعنى الذي نفاه أولئك فأين في الكتاب والسنة أنه يحرم رد الباطل بعبارة
مطابقة له فإن هذا اللفظ لم نثبت به صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة بل بينا به ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته لخلقه وثبوت حقيقته ويقولون لهم قد دل الكتاب والسنة على معنى ذلك كما تقدم احتجاج الإمام أحمد لذلك بما في القرآن مما يدل على أن الله تعالى له حد يتميز به عن المخلوقات وأن بينه وبين الخلق انفصالاً ومباينة بحيث يصح معه أن يعرج الأمر إليه ويصعد إليه ويصح أن يجيء وهو يأتي كما سنقرر هذا في موضعه فإن القرآن يدل على المعنى تارة بالمطابقة وتارة
بالتضمن وتارة بالالتزام وهذا المعنى يدل عليه القرآن تضمنًا أو التزامًا ولم يقل أحد من أئمة السنة إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لايفهم معناها بل من فهم معاني النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره وهذه نكت لها بَسْط له موضع آخر
وممن نفى لفظ الحد أيضًا من أكابر أهل الإثبات أبو نصر السِّجْزِي قال في رسالته المشهورة إلى أهل زَبِيد وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته وأن الأمكنة غير خالية من علمه وهو بذاته تعالى فوق العرش
بلا كيف بحيث لا مكان وقال أيضًا فاعتقاد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكَرَّامية ومن تابعهم على القول بالمماسة ضُلاّل وقال وليس من قولنا إن الله فوق العرش تحديد له وإنما التحديد يقع للمحدثات فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه وتعالى فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد لاتفاقنا أن الله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان قال وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه وتعالى على مكان وقد علم أن الأمكنة محدودة فإن كان فيها
بزعمهم كان محدودًا وعندنا أنه مباين للأمكنة ومن حلها وفوق كل محدَث فلا تحديد لذاته في قولنا هذا لفظه وأما قول الرازي وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينًا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانًا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام
كالفرع على مذهب المشبهة فالكلام على هذا من وجوه أحدها أنه من العجب أن يذكر عن أبي معشر ما يذم به عبادة الأوثان وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم الأمر في عبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وقد قيل إنه صنفه لأم الملك علاء الدين محمد
ابن تكش أبي جلال الدين وأنها أعطته عليه ألف دينار وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب والتوصل بذلك إلى الرئاسة وغيرها من المآرب وقد ذكر فيه عن أبي معشر أنه عبد القمر وأن في عبادته ومناجاته من الأسرار والفوائد ما ذكر فمن تكون هذه حاله في الشرك وعبادة الأوثان كيف يصلح أن يذم أهل التوحيد الذين يعبدون الله تعالى لايشركون به شيئًا ولم يعبدوا لا شمسًا ولا قمرًا ولا كوكبًا ولا وثنًا بل يرون الجهاد لهؤلاء المشركين الذين ارتد إليهم أبو معشر والرازي وغيرهما مدة وإن كانوا رَجَعوا عن هذه الردة إلى الإسلام فإن سرائرهم عندالله لكن لا نزاع بين المسلمين أن الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان من مسلم وأن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه كفر وردة إذا كان من مسلم
فأهل التوحيد وإخلاص الدين لله تعالى وحده الذين يرون جهاد هؤلاء المشركين ومن ارتد إليهم من أعظم الواجبات وأكبر القربات كيف يصلح أن يعيبهم بعض المرتدين إلى المشركين بأنهم يوافقون المشركين على أصل الشرك وهؤلاء لا يؤمنون بالله وبما أَنْزَل إلى أنبيائه وماأشبه حال هؤلاء بقوله تعالى قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إلى قوله عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60} [المائدة 59-60] فإن هؤلاء النفاة الجهمية منهم من عبد الطاغوت وأمر بعبادته ثم هؤلاء يَعيِبون من آمن بالله ورسوله يوضح ذلك أن هذا الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوشا البابلي ومثل طمطم الهندي ومثل
ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية ومعلوم أن الكلدانيين والكشدانيين من أهل بابِل وغيرهم أتباع
نمرود بن كنعان البابلي وغيره وأهل الهند هم أعظم المم شركًا وهم أعداء إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فكيف يكون أتباع هؤلاء المشركين أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام مُعيِّرين بأتباع المشركين لأهل الملة الحَنِيفِيَّة الذين اتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم في إثبات صفات الله وأسمائه وعبادته فإن هؤلاء الجهمية ينكرون حقيقة خلة إبراهيم لله تعالى وتكليمه كما أنكره سلفهم أعداء الخليل وأعداء الكليم
وأول من أظهر في الإسلام التجهم وهذا المذهب الذي نصره الرازي وأبو معشر ونحوهما هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري وخطب الناس يوم النحر فقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مُضَحٍ بالجعد ابن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليمًا تعالى الله عما يقول الجعد علوًا كبيرًا ثم نزل فذبحه
فهذا أول الجهمية نفاة الصفات في هذه الأمة هو مكذب بحقيقة ما خص الله به إمام الحنفاء المخلصين الذين يعبدون الله ولا يشركون به شيئًا وكليم الله الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه والله تعالى يفضل هذين الرسولين ويخصهما في مثل قوله تعالى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى {18} صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى {19} [الأعلى 18-19] وقوله أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى {36} وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى {37} [النجم 36-37] وهما اللذان رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فوق الأنبياء كلهم في السماء السادسة والسابعة فرأى أحدهما في السادسة ورأى الآخر في السابعة وقد جاءت الأحاديث التي في الصحيح بعلو هذا وعلو هذا فإذا كان سلف الجهمية ومخاطبو الكواكب هم من أعظم المشركين المعادين لرسل الله تعالى الآمرين بعبادة الله تعالى
وحده لا شريك له كيف يصلح لهم أن يعيبوا أهل الإيمان بالله ورسوله والذين يقرون بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له يقرون بتوحيد الله العلمي القولي كالتوحيد الذي ذكره في سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} [الإخلاص 1-3] قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ {6} [الكافرون 1-6] كيف يصلح لأولئك الذين أشركوا وائتموا بالمشركين في نقيض التوحيد من هذين الوجهين فأمروا بعبادة غير الله ودعائه ورغبوا في ذلك وعظموا قدره وجهَّلوا من ينكر ذلك وينهي عنه وأنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته وحقيقة عبادته مالا يتم الإيمان والتوحيد إلا به كيف يصلح لهؤلاء أب يعيبوا أولئك باتباع المشركين ويجعلوا موافقيهم على هذا الكفر أعظم قدرًا من أولئك المؤمنين الذين ليس لهم نصيب من قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إلى قوله نَصِيراً [النساء 51-52]
فإن سبب نزول هذه الآية ما فعله كعب بن الأشرف رئيس اليهود من تقديمه لدين المشركين على دين المؤمنين لما كان بينه وبين المؤمنين من العداوة فمن آمن بالجبت
هو السحر والطاغوت وهو ما عظم بالباطل من دون الله تعالى مثل رؤساء المشركين وله من علوم المسلمين ماله ففيه شبيه من أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ [النساء 51] الذين يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء 51] وإذا كان هؤلاء يتعصبون لأولئك المشركين وينصرونهم ويذمون المؤمنين ويعيبونهم ألم يكن لهم نصيب من قوله تعالى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً {51} [النساء 51] فيكون لهم نصيب من قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً {52} [النساء 52] وتمام الكلام في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً {61} [النساء 60-61] وهذه الآية مطابقة لحال هؤلاء كما بيناه في غير موضع
الوجه الثاني أن الاستدلال في توحيد الله تعالى الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه بمثل كلام أبي معشر المنجم ونقله عن الأمم المتقدمة يليق بمثل الرازي وذويه أترى أبي معشر لو كان من علماء أهل الكتاب المسلمين كمن أسلم من الصحابة والتابعين ونقل لنا شيئًا عن الأنبياء المتقدمين أكان يجوز لنا في الشريعة تصديق ذلك الخبر إذا لم نعلم صدقه من جهة أخرى إذا كان الناقل لنا إنما أخذه عن أهل الكتاب وفي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه
وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه فكيف وأبو معشر الناقل لذلك وإنما خبرة الرجل بكلام الصابئة المشركين عباد
الكواكب ونحوهم وهم من أقل الناس خبرة ومعرفة بالتوحيد الذي بعث الله به رسله وبحال أهله المؤمنين مع الكفار المشركين الوجه الثالث أن هذه الحكاية تقتضي أن الناس كانوا قبل ابتداع الشرك على المذهب الذي سماه مذهب المشبهة وأنهم كانوا حينئذ يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنًا كما ذكره فيكون هذا الاعتقاد هو مذهب القوم في الدهر الأقدم قبل عبادة الأوثان ثم إنه بسبب هذا الاعتقاد استحسنوا عبادة الأوثان ومعلوم أن الناس كانوا قبل الشرك على دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي دين الإسلام العام الذي لا يقبل الله من احد غيره كما قال تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [يونس 19] وقال تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ [البقرة 213] وقد ثبت عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في حديث الشفاعة عن نوح قول أهل الموقف له وأنت أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض وقد قال تعالى وَلَقَدْ
بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] فإذا كان الله تعالى قد بعث في كل أمة رسولاً يدعوها إلى عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت ونوح أول من بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض علم أنه لم يكن قبل قوم نوح مشركون كما قال ابن العباس وإذا كان كذلك وأولئك على الإسلام ومذهبهم هو المذهب الذي سماه مذهب المشبهة ثَبَتَ بموجب هذه الحكاية أن هذا هو مذهب الأنبياء والمرسلين والمسلمين من كل أمة الوجه الرابع أن في هذه الحكاية أنهم اشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة وقد ذكر الله تعالى قول المشركين في كتابه الذين جعلوا معه إلهًا آخر فلم يذكر أنهم كانوا يعتقدون أنهم يعبدون الله إذا عبدوا الأوثان ولكن ذكر أنهم اتخذوا هذه الأوثان شفعاء وذكر أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولكن في هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إن عباد الأوثان ما عبدوا إلا الله تعالى
وأن عابد الوثن هو العابد لله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم عن صاحب الفصوص وذويه وهو من رؤساء هؤلاء الجهمية وأئمتهم الوجه الخامس أن عبادة الأوثان إنما هي مشهورة ومعروفة
عن نفاة الصفات من الفلاسفة الصابئين سلف أبي معشر والرازي وذويهم مثل النمرود بن كنعان وقومه أعداء الخليل عليه الصلاة والسماء وأتباعه وأولياء رهط أبي معشر ومثل فرعون عدو موسى كليم الرحمن عز وجل وأتباعه وأولياء الجهمية نفاة الصفات ومن يدخل فيهم من الاتحادية والقرامطة
وكما صرح بعضهم بموالاته فرعون وتعظيمه كما فعل صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي صنفه
للقرامطة وكما فعله صاحب الفصوص وذووه ومن لم يصرح بموالاة فرعون ولم يعتقد موالاته فإنه موافق له فيما كذب فيه موسى حيث قال يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] قاله خلائق من العلماء وممن قال ذلك أبو الحسن الأشعري إمام طائفة الرازي قال فرعون كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات