المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - جـ ٣

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم

وهؤلاء النفاة يوافقون فرعون في هذا التكذيب لموسى الوجه السادس أن القول الذي يسمونه مذهب المشبهة بل التشبيه الصريح لايوجد إلا في أهل الكتب الإلهية كاليهود والمسلمين كما ذكر الرازي عن مشبهة اليهود ومشبهة المسلمين وأما من ليس له كتاب فلا يعرف عنه شيء من التشبيه الذي يعير أهله بأنه تشبيه أو الذي يقول منازعوهم إنه تشبيه ومن المعلوم‌

‌ أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم

فإن الله لم يبعث رسولاً ولم يُنزل كتابًا إلا بالتوحيد كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 36] وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ

ص: 72

آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال تعالى شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} [الشورى 13] وقال تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه [الشورى 21] وقال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} [المؤمنون 51-52] ولم يحدث في أهل الكتاب وأتباع الرسل من العرب وبني إسرائيل وغيرهم شرك إلا مأخوذ من غير أهل الكتاب كما ابتدع عمرو بن لحي بن قَمَعَة سيد خزاعة الشرك في العرب الذين كانوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وسلم ابتدعه لهم

ص: 73

بمكة بأوثان نقلها من الشام من البلقاء التي كانت إذ ذاك دار الصابئة للمشركين سلف أبي معشر وذويه وكذلك بنو إسرائيل عبد من عبد منهم الأوثان كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه تعالى وتقدس وإنما حَدَث فيهم هذا في جيرانهم الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه فإذا كان أصل المذهب الذي سموه مذهب التشبيه لا يعرف إلا عمن هو من أهل كتابٍ منزل من السماء وأهل الكتاب لم يكونوا هم الذين ابتدعوا الشرك أولاً عُلم أن الشرك لم يبتدعه أولاً القوم الذين سماهم أهل التشبيه

ص: 74

الوجه السابع أنه إذا كان الإشراك متضمنًا لما سماه تشبيهًا فمن المعلوم أن المرسلين كلهم ليس فيهم من تكلم بنقض هذا المذهب ولا نهى الناس عن هذا الذي سماه تشبيهًا فليس في القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا عن المرسلين المتقدمين ولا في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب ولا في الأحاديث المأثورة عن أحد من المرسلين أنهم نهوا المشركين أو غيرهم أن يقولوا إن الله تعالى فوق السموات أو فوق العرش أو فوق العالم أو أن يصفوه بالصفات الخبرية التي يسميها هؤلاء تشبيهًا ولا ذموه ولا أنكروه ولا تكلموا بما هو عند هؤلاء توحيد وتنزيه ينافي هذا التشبيه عندهم أصلاً ثبت أن المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه كلهم كانوا مقررين لهذا الذي سموه تشبيهًا وذلك يقتضي أنه

ص: 75

حق فهذا النقل الذي نقله أبو معشر واحتج به الرازي إن كان حقًّا فهو من أعظم الحجج على صحة مذهب خصومهم الذين سموهم مشبهة وإن لم يكن حقًّا فهو كذب فهم إما كاذبون مفترون وإما مخصومون مغلوبون كاذبون مفترون في نفس المذهب الذي انتصروا عليه الوجه الثامن أن الشرك كان فاشيًا في العرب ولم يُعلم أحد منهم كان يعتقد أن الوثن على صورة الله تعالى وقبلهم كان في أمم كثيرة وله أسباب معروفة مثل جعل الأوثان صورًا لمن يعظمونه من الأنبياء والصالحين وطلاسم لما يعبدونه من الملائكة والنجوم ونحو ذلك ولم يعرف عن أحد من هؤلاء المشركين أنه اعتقد أن الوثن صورة الله والشرك في أيام الإسلام ما زال بأرض الهند والترك فاشيًا والهند فلاسفة وهم من أعظم سلف أبي معشر ومع هذا فليس في الهند والترك من يقول هذا فَعُلم أن هذا أول مفتر الوجه التاسع لو كان هذا من أسباب الشرك فمن المعلوم أن غيره من أسباب الشرك أعظم وأكثر وأن الشرك في غير هؤلاء الذين سماهم مشبهة أكثر فإن كان الشرك في

ص: 76

بعض مثبتة هذه الصفات عيبًا فالشرك في غيرهم أكثر وأكثر وكان الطعن والعيب على نفاة الصفاة بما يوجد فيهم من الشرك أعظم وأكبر الوجه العاشر قوله فَثَبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المُشَبِّهة كلام مجمل فإن من الفرع ما يكون لازمًا لأصله فإذا كان الأصل مستلزمًا لوجود الفرع الفاسد كان فساد الفرع وعدمه دليلاً على فساد الأصل وعدمه ومن الفروع ما يكون مستلزمًا للأصل لا يكون لازمًا له وهوالغالب فلا يلزم من فساده وعدمه فساد الأصل وعدمه ولكن يلزم من فساده وعدمه فساد هذا الفرع وعدمه فالأول كما قال الله تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} [إبراهيم 24-26] فالكلمتان كلمة الإيمان واعتقاد التوحيد وكلمة الكفر واعتقاد الشرك فلا ريب أن الاعتقادات توجب

ص: 77

الأعمال بحسبها فإذا كان الاعتقاد فاسدًا أورث عملاً فاسدًا ففساد العمل وهو الفرع يدل على فساد أصله وهو الاعتقاد وكذلك الأعمال المحرمة التي تورث مفاسد كشرب الخمر الذي يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء فهذه المفاسد الناشئة من هذا العمل هي فرع لازم للأصل ففسادها يدل على فساد الأصل وهكذا كل أصل فهو علة لفرعه وموجب له أما القسم الثاني فالأصل الذي يكون شرطًا لا يكون علة كالحياة المصححة للحركات والإدراكات وأصول الفقه التي هي العلم بأجناس أدلة الفقه وصفة الاستدلال ونحو ذلك فهذه الأصول لا تستلزم وجود الفروع وإذا كان الفرع فاسدًا لم يوجب ذلك فساد أصله إذ قد يكون فساده من جهة أخرى غير جهة الأصل وذلك نظير تولد الحيوان بعضه من بعض فالوالدان أصل للولد والله تعالى وتقدس يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فالكافر يلد

ص: 78

المؤمن والمؤمن يلد الكافر وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اعتقاد ثبوت الصفات بل اعتقاد التشبيه المحض ليس موجبًا لعبادة الأصنام ولا داعيًا إليه وباعثًا عليه أكثر ما في الباب أن يقال اعتقاد أن الله تعالى وتقدس مثل البشر يمكن معه أن يجعل الصنم على صورة الله تعالى بخلاف من لم يعتقد هذا الاعتقاد فإنه لا يُجْعَل الصنم على صورة الله تعالى فيكون ذلك الاعتقاد شرطًا في اتخاذ الصنم على هذا الوجه وهذا القدر إذا صح لم يوجب فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة فإن كل باطل في العالم من الاعتقادات والإرادات وتوابعها هي مشروطة بأمور صحيحة واعتقادات صحيحة ولم يدل فساد هذه الفروع المشروطة على فساد تلك الأصول التي هي شرط لها فإن الإنسان لا يصدر منه عمل إلا بشرط كونه حيًّا قادرًا شاعرًا ولم يدل فساد ما يفعله من الاعتقادات والإرادات على فساد هذه الصفات والذين أشركوا بالله تعالى وتقدس وعبدوا معه إلهًا آخر كانوا يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويق4ولون هم شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أن الله يملكهم كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك وقد قال تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم

ص: 79

مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقد اخبر عنهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وقال قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال عكرمة يؤمنون أنه

ص: 80

رب كل شيء وهم يشركون به فإذا كانوا إنما أشركوا به لاعتقادهم أنه رب كل شيء ومليكه وأن هذه الشفعاء والشركاء ملكه وآمنوا بأنه رب كل شيء ثم اعتقدوا مع ذلك أن عبادة هذه الأوثان تنفعهم عنده فهل يكون ما ابتدعوه من الشرك الذي هو فرع مشروط بذلك الأصل قادحًا في صحة ذلك الإيمان والإقرار الحق الذي قالوه الوجه الحادي عشر أن الذين أشركوا بالله تعالى حقيقة من عباد الشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين والذين اتخذوا أوثانًا لهذه المعبودات إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم وجود الشمس والقمر والكواكب والملائكة

ص: 81

والأنبياء واعتقادهم ما تفعله من الخير تشبيهًا فهل يكون ذلك قادحًا في وجودها وفي اعتقاد ما هي متصفة به أم لا فإن كان ذلك فلزم أبا معشر والرازي أن يقدحوا في العلوم الطبيعية والرياضية ويقدحوا في الملائكة والنبيين وفن لم يكن كذلك ما ذكره من الحجة باطلاً الوجه الثاني عشر قوله فَثَبَت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة يقال له الثُّبوت إنما يكون بذكر حجة عقلية أو سمعية وهب أن ما ذكره أبو معشر إنما هو خبر عن أمم متقدمين لم يذكرهم ولم يذكر إسناده في معرفة ذلك وليس أبو معشر ممن يحتج بنقله في الدين بإجماع أئمة الدين فإنه لم يكن كافرًا منافقًا كان فاجرًا فاسقًا وقد قال الله تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] فلو قدر أن هذا النقل نقله بعض أئمة التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان هذا عنده خبرًا مرسلاً لا يثبت به حكم في فرع من الفروع فكيف

ص: 82

والناقل له مثل أبي معشر عن أمم متقدمة فهذا خبر في غاية الانقطاع ممن لا تُقبلُ روايته فهل يَحْسن بذي عقل أو دين أن يُثبت بهذا شيئًا في أصل الدين ومن العجب العجيب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي توارثها عن أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين واتفق على صحتها جميع العارفين فقدح فيها قدحًا يشبه قدح الزنادقة المنافقين ثم يحتج في أصل الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين بالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال ونعوذ بالله من شرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون والله سبحانه وتعالى أعلم

ص: 83

فصل قال الرازي الفصل الثاني في تقرير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهة قلت لم يذكر في هذا الفصل حجة تدل على مطلوبه دلالة ظاهرة فضلاً عن أن تكون نصًّا بل إما أن يكون ما ذكره عديم الدلالة على مطلوبه وذلك يتبين بذكر حججه قال الحجة الأولى قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 1-4] قال واعلم أنه قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله هذه السورة إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة يجب أن تكون من

ص: 84

المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثَبَت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً

ص: 85

قلت كون هذه السورة من المحكمات وكون كل مذهب يخالفها باطلاً هو حق لا ريب فيه بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وعليها اعتمد

ص: 86

الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام وهي على نقيض مطلوب

ص: 87

الجهمية أدل منها على مطلوبهم كما قررناه في موضعه وربما نذكر منه هنا ما ييسره الله لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته مثل آية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يُذكر في غيرها من اسمه الأحد

ص: 88

الصمد ومثل نفي الأصول والفروع والنظراء جميعًا وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم فأثبته الله لنفسه ردًّا عليهم وهذا أبلغ في كونه محكمًا من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يَرِد عليه نفي ولا إثبات وقد قال وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً {60} [الفرقان 60] وقال تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} [الرعد 30] وكذلك قول فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] هذا أبلغ في كون موسى صرح له بأن إلهه فوق السموات حتى قصد تكذيبه بالفعل من الإخبار عن ذلك بلفظ موسى وكذلك مسألة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون من رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر صحوًا ليس دونه سحاب فقالوا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤيته كما لا تضارون في

ص: 89

رؤية الشمس والقمر وسائر ما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة مع ورودها على سؤال السائل وجوابه بهذا التصريح هو من أبلغ ما يكون في إثبات هذه الرؤية وأبعد عن التشابه كما يظنه الرازي وغيره ممن يحرف الرؤية عن حقيقتها اتباعًا للمريسي وغيره من الجهمية وإن كان الرازي في

ص: 90

الظاهر مقرًّا بالرؤية فإن إقراره بها كإقرار المريسي وذويه بألفاظها ثم يحرفون الكلم عن مواضعه ثم قال الرازي فنقول إن قوله تعالى أَحَدٌ يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أَحَدٌ مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية قال وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين

ص: 91

ينكرون الجوهرالفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لابد أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكلما تميز فيه شيء عن شيء فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لايسار ويساره موصوف بأنه يسار لايمين فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله موصوفًا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزًا أصلاً وذلك ينفي كونه جوهرًا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فإنه لا يمكنهم الاستدلال

ص: 92

على نفي كونه تعالى جوهرًا من هذا الاعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به أيضًا نفي الضد والند ولو كان الله تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثْلاً له وذلك ينفي كونه أحدًا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لايكون في شيء من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصًّا بحيز وجهة فإن كان منقسمًا كان جسمًا وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن كان جوهرًا ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلاً فثبت أن قوله أَحَدٌ يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة أصلاً

ص: 93

قلت هذا الاستدلال هو معروف قديمًا من استدلال الجهمية النافية فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لايجعل القديم واحدًا فقط فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة

ص: 94

وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد ومبنى ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكَلِم عن مواضعه وقد ذكر تلبيسهم وتحريفهم وإلحادهم أئمة السلف والخلف وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية فقالت الجهمية

ص: 95

لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولا نقول ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلاً في ذلك فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكَرَب وليف وسَعَف

ص: 96

وخُوص وجُمَّار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علمًا فعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا لا متى ولا كيف قال وسمى الله رجلاً كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة

ص: 97

المخزومي فقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقد كان الذي سماه وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة وقد سماه وحيدًا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء هو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودًا بشيء يقال إنه من صفاته فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب

ص: 98

والتجزئة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون النوع مركب من الجِنْس والفصل ويستلزم أيضًا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن

ص: 99

الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسوله وهذا أصل تعظيم يجب معرفته فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدر ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم أو يقال ليس فيه

ص: 100

كثرة حد ولا كثرة كم أو يقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل ولا تركيب الأجسام ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره ولو قامت به الصفات لكان معه غيره وأنه ليس بجسم إذ الجسم مركب مؤلف منقسم

ص: 101

وهذا تعديد ينافي التوحيد أو يقولون أيضًا إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعددًا في ذاته وذلك خلاف التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين والعلم الذي يعلم له هذا علم التوحيد وهذا عندهم أول الأصول الخمسة التي هي عندهم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وانفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن هنا أخذ محمد بن التومرت هذا اللقب وسمى

ص: 102

طائفته الموحدين ووضع لهم المرشدة المتضمنة لمثل عقيدة المعتزلة وغيرهم من الجهمية في التوحيد ولم يذكر اعتقاد الصفاتية كابن كلاب والأشعري فضلاً عن اعتقاد السلف والأئمة لكن ذكر في القدر مذهب أهل الإثبات وهذا

ص: 103

الذي ذكر يشبه قول حسين النجار وضرار بن عمرو وكان حفص الفَرد من أصحاب النجار وكان برغوث من

ص: 104

أصحاب ضرار وذاك خصم الشافعي

ص: 105

وهذا من خصوم أحمد وذهب حسين النجار وطائفة من المعتزلة إلى أن معنى الواحد هو الذي لا شبيه له كما يقول فلان واحد دهره وقد يقولون التوحيد يجمع المعنيين جميعًا فالأول نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه فإن نفي الصفات عندهم هو نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه والتوحيد ينافي التشبيه والتجسيم وجماع قولهم إن التوحيد يجمع ثلاث معان أنه واحد في نفسه لا صفة له وقَدْر فليس بمركب

ص: 106

ولا محدود ولا موصوف بصفة تقوم به وهو أيضًا واحد لا شبيه له فهذان نفي التجسيم والتشبيه والثالث أنه واحد في أفعاله لا شريك له وهذا الثالث هو متفق عليه بين المسلمين لكن الناس يقولون هذا التوحيد لايتم للقدرية الذين يجعلون بعض العالم مفعولاً لغير الله ويجعلون من يفعل كفعل الله فإن هذا إثبات شريك له في الملك ثم إن المعتزلة وغيرهم من الجهمية وإن وافقهم بقية المسلمين على نفي التشبيه فإنهم يدخلون في اسم التشبيه كل من أثبت لله صفة كما هو معروف عنهم ولذلك نقله عنهم الأئمة كما ذكره الإمام أحمد في الرد عليهم فقال في وصف الجهم وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث

ص: 107

رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئًا وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة

ص: 108

ووضع دين الجهمية وأكثر الشيعة المتأخرين على هذا التوحيد ونفي القَدر وأمل الشيعة المتقدمون الذين أدركوا زمن الأئمة فكان

ص: 109

جمهورهم على الإثبات وغالب الإمامية مُصرِحون بالتجسيم قلت أصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن عمرًا هو الإمام الأول الذي ابتدع دين المعتزلة هو وواصل بن عطاء

ص: 110

وأما الذين اتبعوه من أصحاب أبي حنيفة فهم من جنس الذين قاموا بأمر محنة المسلمين على دين الجهمية لما دَعُوا الناس إلى القول بخلق القرآن وغيره من أقوال الجهمية وهم مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دُواد قاضي القضاة وأمثالهم ولما أدخلت الجهمية هذا النفي الذي ابتدعوه في مسمى التوحيد أظهر المسلمون خلافهم من الأئمة والفقهاء وأهل الحديث والكلام كما وروى أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ

ص: 111

الإسلام الأنصاري عن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرًا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل

ص: 112

على باطل وكان المثبتة من أهل الكلام يخالفونهم في مسمى الواحد وكذلك الصفاتية وقد تقدم كلام أبي محمد ابن كُلَاّب في معنى الواحد وأنه قال في كتاب التوحيد في معنى قول القائل إن الله واحد وفي معنى قولنا مطلقًا للشيء إنه واحد فقال ومعنى قولنا الله واحد أنه منفرد بنفسه لا يدخله غيره وقال في معنى مطلق قولنا إنه واحد إنه قد يقال ذلك لما هو أشياء كثيرة مجتمعة وهو أجسام متماثلة كما يقال إنسان واحد وقولنا للخالق واحد لا على هذا المنهاج لأجل أنه المنفرد بنفسه الذي لا يدخله غيره قال وقد كان الله واحدًا قبل خلقه فلم تداخله الأشياء حين خلقها ولم يُدَاخلها ولو كان ذلك كذلك لم يكن واحدًا قال ول كان داخلاً فيها لكان حكمه حكمها ولو كانت داخلة فيه كان كذلك ومن زعم أنها فيه أو هو فيها

ص: 113

لزمه أن يحكم فيه بحكم المخلوق إذ كان في المخلوق أو المخلوق فيه فلما استحال في ربنا أن يداخل المخلوقين فيكون بعضاً لهم أو يداخلوه فيكونوا بعضاً له لم نجد منزلة ثالثة غير أنه بائن بخلق الأشياء فهي غير داخلة فيه ولا مماسة له ولا هو داخل فيها ولا مماس لها ولولا أن ذلك كذلك كان حكمه حكمها فإن قالوا فيعتقبه الطول والعرض قيل لهم هذا محال لأنه واحد لا كالآحاد عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات كما أنه كبير عليم لا كالعلماء كذلك هو واحد عظيم لا كالآحاد العظماء فإن قلت العظيم لا يكون إلا متجزيًا قيل لك والعليم لا يكون إلا متجزيًا وكذلك السميع والبصير لأنك تقيس على المخلوقات قال ابن فورك وحكى حاكون عن ابن كلاب أنه

ص: 114

لا يصح أن يضبط بالوهم شيء واحد أراد أنه إن كان قديماً فلابد من صفات وإن كان محدثاً فمن أعراض قلت هذا الكلام يقال إبطالاً لمذهب الجهمية ونحوهم من الفلاسفة والمعتزلة أن الواحد لا صفة له فيقال لهم فيمتنع على هذا القول أن يكون في الوجود واحد كما سنبين إن شاء الله مخالفة قولهم للغة والعقل والشرع ولكن كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد والتوحيد بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك كما سنذكره لكن مع تفسيرهم إياه بما ينفي التجسيم والتشبيه لم يلتزموا أن ذلك ينفي الصفات بل عندهم تفسير الواحد بذلك لا ينافي ثبوت الصفات القائمة به وهذا من مواقع النزاع بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من الجهمية فإن هؤلاء يزعمون أن نفي الصفات داخل في مسمى الواحد وأما الصفاتية فينكرون ذلك

ص: 115

قال الأستاذ أبو المعالي قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبوبكر ولو قلت الواحد هو الشيء كان كافيًا ولم يكن في الحد تركيب وفي قول القائل الشيء الذي لاينقسم نوع تركيب قال الأستاذ أبو المعالي يقال للقاضي التركيب في الحدود وهو أن يأتي الحاد بوصف زائد يستغنى عنه وقد

ص: 116

لا تفهم من الشيء المطلق ما تفهم من المقيد وليس يفهم من الشيء ما يفهم من الواحد الذي لاينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء المقصود من التحديد والإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشيء المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم قال منازعوه ويقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء فهما أمران متلازمان فلابد من التعرض لهما ثم قال أبوالمعالي ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة تردد بين معان فقد يراد به الشيء لايقبل وجود القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الأشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد أنه لا ملجأ وملاذ سواه وهذه المعاني

ص: 117

متحققة في وصف القديم سبحانه وتعالى وقال الأستاذ أبوبكر بن فورك إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الوصول والفصل قال الأنصاري إشارة إلى وحدة الإله فإن الجوهر

ص: 118

واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية والإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلاً ولا وصلاً قال فإن قال قائل الوحدانية ترجع إلى صفة إثبات أم هي من الأوصاف التي تفيد النفي قلنا قال بعض المتكلمين المقصد من الواحد انتفاء ماعدا الموجود الفرد وربما يميل القاضي أبوبكر إلى هذا وقال الجُبَّائي كونه واحدًا ثابت لا للنفس ولا للمعنى وطرد ذلك شاهدًا وغائبًا والذي يدل عليه كلام

ص: 119

القاضي أن الاتحاد صفة إثبات ثم هي صفة النفس قال أبو المعالي فإن قيل أوضحوا معنى التوحيد قيل مراد المتكلمين من إطلاق هذه اللفظة اعتقاد الوحدانية والحكم بذلك وأبو المعالي كثيرًا مايقول قال الموحدون ويعني بهم هؤلاء وسلك سبيله ابن التومرت في لفظ الموحدين لكن لم يذكر في مرشدته الصفات الثبوتية كما يذهب إليه أبو المعالي ونحوه لكن اقتصر على الصفات السلبية وعلى الأحكام

ص: 120

وهذه طريقة المعتزلة والنجارية ونحوهم وكذلك قد وافق هؤلاء في تفسير الواحد بهذه المعاني الثلاثة طائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم قال القاضي

ص: 121

أبويعلى في المعتمد كما ذكر ابن الباقلاني وأما الواحد والفرد والوتر فمعناه استحالة التجزئة والانقسام والتبعيض عليه فقال ونفي الشريك عنه ونفي الثاني عنه فيما لم يزل ونفي المِثْل عنه تعالى وعن صفاته الأزلية فجعل في هذا الموضع اسم الواحد يعم هذه المعاني الثلاثة وأما في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ففسر الواحد بما لا شريك له وجعل هذه المعاني ثلاثة أقوال فقال وأما وصفه بأنه واحد فمعناه الذي لا شريك له القهار يقهر كل جبار والحد والواحد بمعنى واحد وقيل معناه شيء وكل شيء واحد وكل واحد شيء فإذا قيل للجملة إنها واحدة فإنه يُقدّر فيها حكم الواحد الذي لاينقسم وقيل المراد به نفي النظير كقولهم فلان واحد زمانه

ص: 122

لكن كثير ممن يفسر الواحد بعدم التجزي يريد بذلك ما يعرفه الناس من معنى التجزي وهو انفصال جزء عن الآخر كما يعنون بلفظ المنقسم انفصال قسم من قسم وليس هذا فقط هو المعنى الذي يريده نفاة الجسم بقولهم ليس بمنقسم ولا متجزي فإن هذا المعنى لا يشترطون فيه وجود هذا الانفصال ولا إمكان وجوده وهذا الاصطلاح قول أبي الوفاء بن عقيل في كتاب الكفاية باب في نفي الولد والتجزية وهو سبحانه واحد لا يتجزأ لقوله تعالى لَمْ يَلِدْ لأنه لو كان والدًا لكان متجزأ لأن الولد هو انفصال جزأ من الوالد قال سبحانه وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً [] الزخرف 15] يعني ولدًا قال لأن التجزي لا يجوز إلا على المركبات وقد أفسدنا التركيب حيث أفسدنا كونه جسمًا قال ونخص هذا بدلالة أخرى فنقول إن الإيلاد تحلل والتحلل لا يجوز إلا على ذات مستحيلة تتعاقب عليها الأزمان وتتغالب فيها الطباع تأخذ من الأغذية حظًّا وتعيد منها فضلاً والقديم سبحانه ذات لا يداخله شيء ولا يُداخل شيئًا ولا يتصل بشيء ولا ينفصل عنه شيء لأنه واحد والتجزي والانقسام لا يتصور إلا على آحاد التأمت بالاجتماع فتوحدت

ص: 123

وتفككت بالانقسام فتعددت ألا ترى أن العلل والأحكام والعقول والعلوم لما لم توصف بالتركيب لم يتسلط عليها التجزئة وكذلك قال أبو الوفاء بن عقيل في باب نفي التشبيه وهو سبحانه غير مُشَبه بالأشياء فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على صفة من صفات الموجودات قال سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] معناه ليس مثله شيء والكاف زائدة والدلالة على أنه ليس بجسم ولا مشبه للأشياء أنه لو كان جسمًا لكان مؤلفًا لأن حقيقة الجسم هو المؤتلف ولهذا أدخلت عليه العرب التزايد فيقال هذا أجسم ويراد به أكثر أجزأ وأكبر جثة ولو كان مؤلفًا لاحتاج إلى مؤلف كما احتاجت سائر الأجسام ويُجاز عليه ما يجوز عليها من التجزي والانقسام والتفكك والالتيام ولو جوزنا قِدم غائب مع كونه جسمًا لاقتبسنا من العلم بحدث هذا الجسم الحاضر حدث الغائب ولأن المشبه للشيء ما سد مسده وقام مقامه فلو أشبه

ص: 124

هذه الأشياء الموجودة أو شيئًا مناه لسد مسده وقام مقامه في القدم والإحداث والصفة والاختراع وإلى غير ذلك من صفات القديم سبحانه ولنه لو كان يشبهها من وجه من الوجوه لاحتاج إلى ما احتاجت إليه من الأمكنة التي يقوم بها ويتحول إليها وكذلك لوجب قدم الأمكنة لوجود قدم الكائنات وفي ذلك إما قدم العالم أو حدث القديم وكلاهما محال فما أدى إليه محال قلت وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء الأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون قال

ص: 125

أبو عبد الله بن الهيصم الفصل الرابع وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله جل عن قولهم أقانيم ثلاثة رب واحد وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص وقال بعضهم إنها الخواص قال وقال أهل التوحيد إن الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا أقانيم ثلاثة قال والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شيء من أفعال الربوبية إليهما لأن الحياة والكلام لا يفعلان وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب والابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناول مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله وهذا هو

ص: 126

وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك ثم يقال لهم وإذ قد كان الله عندنا وعندكم موصوفًا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفًا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له وما لكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا قلت مذهب النصارى لكونه متناقضًا في نفسه لا يعقل إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وإن كان الآخرون من النصارى

ص: 127

لا يقولون ذلك فإن عندهم كل إله من الأقانيم إله يدعى ويعبد مع قولهم عن الثلاثة إله واحد وبعض الإله ليس هو إلهًا ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح فإن كان متحدًا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن الروح القدس إله وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك ويقولون أيضًا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضًا وإذا عُرِفَ أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك وإن كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيًا وإثباتًا ولهذا قال الإمام أحمد فيهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام

ص: 128

ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما فإن الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ولا يتبعض وينقسم بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المُعَضَّى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك ولا ينفصل منه بعض كما ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من فضلاته وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف كما قال الصحابة والتابعون في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه وأكثرالناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة

ص: 129

والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما وذلك متفق على نفيه بين المسلمين اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار فبنو آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا هو عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء ولا يمكن أيضًا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء وهذا عندهم نفي الكم والمساحة وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودًا مطلقًا مجردًا عن الصفات والمقادير وهم في ذلك متناقضون عند

ص: 130

جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفى الصفات كان متناقضًا عند جماهير العقلاء ومن أثبت من الصفاتية الصفات الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية وسائر النفاة والمثبتة كما هو قول ابن كلاب والأشعري وغيرهما ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها وهم متناقضون في ذلك عند هؤلاء ولهذا لما صنف القاضي أبو يعلى كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله أحمده حمدًا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وأبرأ إليه من التجسيم والتشبيه وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على مايقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي

ص: 131

ولهذا صار في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلاً إلى النفي كرزق الله التميمي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم وإما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجلّ

ص: 132

وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم وطوائف آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني

ص: 133

والقاضي أبي الحسين وأبي وإن كانوا يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته وأما التشبيه فهو اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل والمتشابهان هما المتماثلان وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه وبينهم نزاع في إمكان التشابه الذي هو التماثل من وجه دون وجه وهل التشابه الذي هو التماثل بنفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات وهذا التشبيه أيضًا منتف عن الله وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم كما قال الإمام أحمد

ص: 134

المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه وكما قال إسحاق وأبو نعيم ومحققو المتكلمين على أن هذا التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي بها يقوم أحدهما مقام الآخر وأما التشبيه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة كما يقال للصورة المرسومة في الحائط إنها تشبه الحيوان ويقال هذا يشبه هذا في كذا وكذا وإن كانت الحقيقتان مختلفتين

ص: 135

ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فإن مقتضى هذا كونه معدومًا ومنهم طوائف يطلقون هذا لكن من هؤلاء من يريد بنفي التشابه نفي التماثل فلا يكون بينهما خلاف معنوي إذ هم متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه كما دَلّ على ذلك القرآن كما قد بيناه في غير هذا الموضع كما يعلم أيضًا بالعقل وأما النفاة من الجهمية وأشباههم فلا يريدون بذلك إلا نفي الشبه بوجه من الوجوه وهذا عند كل من حقق هذا المعنى لا يصلح إلا للمعدوم وقد قرر ذلك غير واحد من أئمة المتكلمين حتى أبو عبد الله الرازي كما سنذكر كلامه في ذلك وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة من معناه ما هو متفق على نفيه بين

ص: 136

المسلمين ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم يمثلونه بالأجسام المخلوقة وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة الذين يقولون هو جسم لا كالأجسام فهذا هو مورد النزاع بين أئمة أهل الكلام وغيرهم وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات مايستلزمه كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المُبْتَدعة المتنازع فيها لا نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد الاستفسار والتفصيل فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني والمقصود هنا أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون وإن كان فيها ما هو داخل في

ص: 137

التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم موحدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئًا فقد وحده ومن عبد من دونه شيئًا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال الذي يزعم هؤلاء المتكلمون أنه يقر أنه لاإله إلا هو ويثبتون بما توهموه من دليل التمانع وغيره لكان مشركًا وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداء ونزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص

ص: 138

الدين له فإنهم كانوا يقرون بأن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن كما في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وفي قوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال ابن عباس تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره فهذا الشرك المذكور في القرآن في مواضع كثيرة المضاد للإخلاص والتوحيد كما في حديث جابر وابن

ص: 139

عمر وسعد وغيرهم وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع والتوحيد الذي جاء به الرسول يتناول التوحيد في العلم والقول وهو وصفه بما يوجب أنه في نفسه أحد صمد لا يتبعض ويتفرق فيكون شيئين وهو واحد متصف بصفات تختص به ليس

ص: 140

له فيها شبيه ولاكفؤ والتوحيد في الإرادة والعمل وهو عبادته وحده لا شريك له وقد أنزل الله سورتي الإخلاص قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} [الكافرون 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] الواحدة في توحيد العمل ولهذا كان القول فيها لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} [الكافرون 2] وهي جملة إنشائية فعلية والأخرى في توحيد العلم وهي قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] ولهذا كان القول فيها جملة خبرية اسمية والكلام إما إنشاء وإما إخبار فالإخبار يكون عن العلم والإنشاء يكون عن الإرادة ولهذا قال الله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {163} [البقرة 163] وقال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ {108} [الأنبياء 108] وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد [الكهف 110] وقال وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ [النحل 51] وقال أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص 5-6] وفي القرآن من نفي

ص: 141

الألوهية عن غيره من المخلوقات وإثباتها له وحده ما لا يحصى إلا بكُلفة كقوله فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً {9} [المزمل 9] رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً {14} هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً {15} [الكهف 14-15] لَاّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً {22} [الإسراء 22] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد 19] إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} [الصافات 35] ونحو ذلك ممايتضمن وحدانية في الإلهية فلا يجوز أن يكون إله معبود إلا هو والإلهية تتضمن استحقاقه للعبادة والدعاء لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول إن الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدًا ويفضلهم على النصارى في التوحيد فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم وأنهم مشركون

ص: 142

لا موحدون فقلت الفلاسفة الذين تذكرهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون وإما صابئون يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله وكتبهم مشحونة بهذا ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكون صابئة أو هم علماء الصابئة وهل كان نمرود وقومه وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم وهل عبدت الكواكب وبنيت لها الهياكل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم حتى الذين كانوا متظاهرين بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك وجميع الرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين

ص: 143

وغيرهم والعلماء على تنوع أصنافهم من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات وإن اختلفوا في الصابئين فلتنوعهم ولهذا كان للفقهاء فيهم طريقان أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين للشافعي وأحمد والطريق الثاني أنهم صنفان فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا هذا هو المختار عندهم

ص: 144

وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبهًا بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك قال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ [التوبة 30] كالذين قالوا الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون فإنهم كانوا قبل النصارى قلت وأما التوحيد الذي يذكر عن الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية المعتزلة لما يقولونه توحيدًا وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك وأما النصارى فهم لا يقولون عن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولاً متناقضًا حيث يجعلون الثلاثة واحدًا ويجعلون الواحد هو المتحد

ص: 145

بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تميز واحد عن غيره وهذا الكفر دون كفر الفلاسفة بكثير وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به وفساد هذا وتناقضه أعظم حتى لقد قال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهذا يتبين بما نقوله وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا اصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعًا وعقلاً ولغة أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شيء دون شيء إذ القرآن وغيره من الكلام العربي متطابق

ص: 146

على ما هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها وزائدة عليها وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدًا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء وسيأتي بيان هذا ونذكر ما في اللغة من ذكر الواحد مع كونه موصوفًا ذا مقدار بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار كقوله تعالى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [الزمر 6] وقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقال وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وسئل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أَوَ لكلكم ثوبان وقال لا يصلِّ أحدكم

ص: 147

في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وسيأتي بسط هذا إن شاء الله وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولايحاط به وإن سماه المسمي جسمًا وأيضًا فإن التوحيد إثبات لشيء هو واحد فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدًا ولهذا فسر ابن كلاب وغيره الواحد بأنه المنفرد عن غيره المباين له وهذا المعنى داخل في معنى الواحد في الشرع وإن

ص: 148

لم يكن إياه ولذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي التوحيد ومعناه وأما الشرع فنقول مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم يُعرّف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي

ص: 149

العنيد فيما افترى على الله في التوحيد وذكر أن بعض من كان بنواحيه ممن أظهر معارضة السنة والآثار بكلام بشر المريسي وصنف في ذلك إلى أن قال افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه منشئًا لكلام المريسي مدلسًا على الجهال بما فهم أن يحكى ويرى من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار أن مذهب جهم والمريسي في التوحيد كبعض

ص: 150

اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل والزيادة والنقصان وكاختلافهم في التشيع والقدر ونحوها كيلا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي وأكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة

ص: 151

والقدرية

ص: 152

قال وقد أخطأ المعارض محجة السبيل وغلط غلطًا كثيرًا في التأويل لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم والمريسي وجهم وأصحابهما لم يشك أحد منهم في إكفارهم سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي أنه سمع

ص: 153

وكيعًا يكفر الجهمية وكتب إلى علي بن خشرم أن ابن المبارك يخرج الجهمية من عداد المسلمين

ص: 154

وسمعت يحيى بن يحيى وأبا توبة وعلي بن المديني

ص: 155

يكفرون الجهمية ومن يدعي أن القرآن مخلوق فلا يقيس الكفر ببعض اختلاف هذه الفرق إلا امرؤ جهل العلم ولم يوفق فيه لفهم فادعى المعارض أن الناس قد تكلموا في الإيمان وفي التشيع والقدر ونحوه ولا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير الصواب إذ جميع خلق الله تدرك بالحواس الخمس اللمس والشم والذوق والبصر بالعين والسمع والله بزعم المعارض لايدرك بشيء من هذه الخمس قال قلنا لهذا المعارض الذي لا يدري كيف تناقض أما قولك لا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير

ص: 156

الصواب فقد صدقت وتفسير التوحيد عند الأمة وصوابه قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاء بها مخلصًا دخل الجنة

ص: 157

وأمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله من قالها فقد وحد الله وكذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل بالتوحيد في حجته فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حدثنا

ص: 158

أبو بكر بن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد

ص: 159

عن أبيه عن جابر فهذا تأويل التوحيد وصوابه عند الأمة فمن أدخل الحواس الخمس أيها المعارض في صواب التأويل من أمة محمد ومن غيرها فأشر إليه غير ما ادعيتم فيه من الكذب على ابن عباس من رواية بشر المريسي ونظرائه

ص: 160

ولمن تأول في التوحيد الصواب لقد تأولت أنت فيه غير الصواب إذ ادعيت أن الله لا يدرك ولن يدرك بشيء من هذه الحواس الخمس إذ هو في دعواك لا شيء والله مكذب من ادعى هذه الدعوى في كتابه إذ يقول عز وجل وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء 164] وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ [البقرة 174] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فأخبر في كتابه أن موسى أدرك منه الكلام بسمعه وهوأحد الحواس عندك وعندنا ويدرك في الآخرة بالنظر إليه بالأعين وهي الحاسة الثانية كما قال الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23]

ص: 161

وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر جهرًا لا تضارون في رؤيته وروى عنه عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فذاك الناطق من قول الله وهذا الصحيح المشهور من

ص: 162

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي حواس بأبْيَن من هذا فلذلك قلنا إن المعارض قد تأول فيه غير الصواب وروى أبو عبد الرحمن السلمي فيما صنفه في ذم الكلام ما ذكره أيضًا من طريق شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي في تصنيفه المشهور في ذلك قال أبو عبد الرحمن سمعت أبا نصر أحمد بن حامد السجزي يقول سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس ابن سُرَيج ما التوحيد قال

ص: 163

توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وهذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله الواحد وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم لعدمه منافٍ لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد الصمد وأنه العلي العظيم وأنه الكبير المتعال وأنه استوى على العرش وأنه يصعد إليه ويعرج إليه ويوقف عليه وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر وأنه يكلم عباده وأنه السميع البصير وقوله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] إذ هو لا يكون

ص: 164

له قَدْر في نفسه وإنما قدره عندهم في القلوب وكذلك لا يكون له في نفسه عظمة وإنما عظمته في النفوس وذلك يظهر بالكلام على حجته وذلك من وجوه أحدها أنه قال الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية يقال له هذا يقتضي أن شيئًا مما يقال له جسم لا يوصف بالوحدة حيث قلت إن الجسم مركب وذلك ينافي الوحدة ومعلوم أن هذا خلاف ما في الكتاب والسنة وخلاف لغة العرب قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم وحواء خلقت من ضلع آدم القُصيراء من جسده خلقت لم تخلق من روحه حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وجسد آدم جسم

ص: 165

من الأجسام وقد سماها الله نفسًا واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد فوصفه بأنه واحد أولى ومع هذا فهو جسم من الأجسام وقال تعالى يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] فوصف المرأة بأنها واحدة وهذا جسم موصوف بالوحدة حيث لم يكن لها نظير في كونه بنتاً لهذا الميت وقال تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ [التوبة 6] وقال تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف 36] الآيات وقال تعالى قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] والفرد

ص: 166

والوِتر من جنس لفظ الواحد وقد قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] وقال تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً {80} [مريم 80] وقال تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء إلى قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص 25-26] وقد قال تعالى بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف 19] وقال تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات 12] وقال تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف 32] وقال وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [النساء 20] وقال تعالى أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة 266] وقال تعالى وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى في موضعين

ص: 167

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أو لكلكم ثوبان وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء بل في الصحيح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحدكم في ثوب واحد وليس على عاتقه منه شيء وفي الصحيح عن عمر بن أبي سَلمة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به وفي حديث المتلاعنين الذي

ص: 168

في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب وفي الصحيح عن سليمان بن صُرَد قال استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها

ص: 169

لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفي حديث إبراهيم اللهم أنت واحد في السماء وأنا واحد في الأرض وفي الصحيحين عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهمايعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وفي

ص: 170

السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا غضب أحدكما وهو قائم فليجلس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا وفي الصحيحين عن

ص: 171

النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن احدهم إذا أتى أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقنا فقُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وهو في البخاري من حديث أبي برزة أن النبي

ص: 172

صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أوكلما غزونا غزوة خلف أحدهم له نَبِيب كَنَبِيبِ التَّيْسِ وفي الصحيحين عن

ص: 173

أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي

ص: 174

صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى وفي لفظ البخاري إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه وفي لفظ مسلم ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع

ص: 175

أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه فإذا تنخع أحدكم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته وفي صحيح البخاري عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن إذا هَمَّ أحدكم بالأمر

ص: 176

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل وفيهما أنه قال لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه وفي رواية لأن يأخذ أحدكم وفي الصحيحين قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيح أيضًا أنه قال لا يبولن أحدكم في

ص: 177

الماء الدائم ثم يغتسل منه وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أتى أحدكم الغائط

ص: 178

فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها وفي الصحيح أنه قال إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بِصَنِفَةِ إزاره الحديث وفيهما إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه وفيهما

ص: 179

لا يقولن أحدكم اسْقِ ربك وَضِّئ ربك وفيهما أنه قال بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسِّي وفيهما لا يَمْشي أحدكم في نعل واحد وفيهما إذا شرب

ص: 180

الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا وفيهما أنه قال مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع وفيهما أنه قال إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في داره وفي الصحيحين لو اطلع في بيتك احد ولم تأذن له

ص: 181

فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح وفي الصحيحين عن أبي بكر قال قلت يا رسول الله ونحن في

ص: 182

الغار لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا وفي الصحيح أيضًا أن الصحابة قالوا يا رسول الله أينطلق أحدنا إلى منى ومَذَاكِيره تقطر منيًّا وفي الصحيحين أيضًا أنه قال لا يضربن أحدكم امرأته ضرب العبد ثم يجامعها بالليل وفي الصحيحين أنه قال لايزال أحدكم في صلاته مادامت الصلاة تحبسه وفيهما أيضًا أنه قال إن الملائكة تصلي على أحدكم

ص: 183

ما دام في مصلاه ما لم يحدث وفي الصحيحين عنه أنه قال لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده وفيهما أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه خير له من أن يمتلئ شعرًا وفيهما أنه قال السفر قطعة من العذاب

ص: 184

يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه وفي الصحيحين أنه قال يكون كنز أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حَمْحَمةٌ لا أُلفينَّ أَحَدَكُم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة

ص: 185

لها ثُغاءٌ لاأُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح لا أُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاع تخفق لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت وفيهما أنه قال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه

ص: 186

قبل الإمام وفيهما أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وفيهما أنه قال لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب وفيهما أنه قال إذا صلى

ص: 187

أحدكم للناس فليخفف وفيهما أنه قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة وفيهما أنه قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة بعشر أمثالها الحديث وفيهما أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد وفيهما أنه قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل

ص: 188

عليه في المال والخلق فلينظر إلى من أسفل منه وفيهما في حديث داود فذهب الذئب بابن أحدهما وفيهما أنه قال نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده وفيهما إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وفي لفظ إذا

ص: 189

أصبح أحدكم صائمًا وفيه فإن شاتمه أو قاتله أحد فليقل إني صائم وفيهما عن أبي هريرة اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد وفيهما عنه أنه قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه وفي مسلم إذا ثُوب

ص: 190

بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس

ص: 191

الوجه الثاني أن الاستدلال بالقرآن إنما يكون بحمله على لغة العرب التي أنزل بها بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} [الشعراء 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص بل لا يحمله إلا على تلك اللغة فإذا كان أهل الكلام من قد اصطلح في لفظ الواحد والأحد والجسم وغير ذلك من الألفاظ على معانٍ عنوها بها إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرًا له لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو بل يضع القرآن على مواضعه التي بينهاالله لمن خاطبه القرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفًا للكلم عن مواضعه ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها كما أن من المتكلمين من يقول الأحد هو الذي لا ينقسم وكل جسم منقسم ويقول الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء

ص: 192

وغيره لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته وهي لغة العرب عمومًا ولغة قريش خصوصًا ومن المعلوم المتواتر في اللغة الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون درهم واحد ودينار واحد ورجل واحد وامرأة واحدة وشجرة واحدة وقرية واحدة وثوب واحد وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد فيقولون رجل واحد ورجلان اثنان وثلاثة رجال وأربعة رجال وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لايوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام وتحريف هؤلاء للفظ الواحد كتحريفهم للفظ المثل كما نذكره إن شاء الله الوجه الثالث أن أهل اللغة قالوا اسم الأحد لم يجئ اسمًا في الإثبات إلا لله لكنه مستعمل في النفي والشرط والاستفهام كقوله تعالى في نفس السورة التي ذكرها

ص: 193

وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] وكقوله تعالى فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً {110} [الكهف 110] وقال وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً {21} قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً {22} [الجن 19-22] وقال تعالى قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً {37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً {38} [الكهف 37-38] وقال وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} [الليل 19] وقال تعالى وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} [الحجر 65] وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امْرَأَتَكَ [هود 81] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أغير من الله وفي السنن من غير وجه أنه قال لا أُلِفْيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه المر من أمري مما أمرت به

ص: 194

أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم كتاب الله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كتبت له مائةُ حسنة وحُطَّ عنه مائة سيئةٍ وكانت له حِرزًا من الشيطان يَومهُ حتى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه وفي الصحيحين أن

ص: 195

النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطب الناس فقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمسلمين وإنها لم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي ولاتحل لأحد بعدي وإنما أحلّت لي ساعة من نهار وفي رواية فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إنما أَحلّها الله لرسوله ولم يُحِلَّها لك وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال أُحِلَّت لنا الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلنا وقال

ص: 196

النابغة وقفتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلها عَيَّتْ جَوابًا وما بالرَّبْع من أَحَدِ

ص: 197

إلا الأَوارِيَّ لَأْياً ما أُبَيِّنُها والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلُومَةِ الجلدِ

ص: 198

فلو كان لفظ الأحد لايقع على جسم أصلاً لكان التقدير ولم يكن ما ليس بجسم كفوًا له وهذا عنده ليس إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فيكون المعنى لم يكن الجوهر الفرد كفوًا له وأما سائر الموجودات فلم ينف مكافأتها له ولا أشرك بربي ما ليس بجسم ولن يجيرني من الله ما ليس بجسم ومعلوم أن عامة ما يعلم من المخلوقات القائمة بأنفسها هي أجسام كأجسام بني آدم وغيرهم والأرواح تدخل في مسمى ذلك عند عامة المسلمين وإن لم تدخل عند بعضهم ومن المعلوم أن الله لم ينه عن أن يشرك به ما ليس بجسم فقط بل نهيه عن أن يشرك به الأجسام أيضًا لاسيما وعامة ما أشرك به من الأوثان والشمس والقمر والنجوم إنماهي أجسام وفي السنن حديث أبي بكر الصديق لما استأذنه أبو برزة في قتل بعض الناس فقال إنها لم تكن لأحد بعد

ص: 199

رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لن يدخل

ص: 200

أحدًا منكم عمله الجنة وفي لفظ لن ينجو أحد منكم بعمله وفيهما أنه قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يَتْبَعني رجل مَلَكَ بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سُقُوفها ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفِاتٍ وهو ينتظر أولادها وفيهما أنه قال ما منكم

ص: 201

من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان وفي الصحيح أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا وفي الصحيح أنه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة الوجه الرابع أن قوله لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا

ص: 202

من جوهرين هذا إنما يتم على رأي المُثْبِتين للجوهر الفرد وإلا فنفاته عندهم الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من الجواهر المنفردة وهذا المصنف قد صرح في أشرف كتبه عنده أن هذه المسألة متعارضة من الجانبين وهو لماأقام أدلته على إثبات الجوهر الفرد في هذا الكتاب في مسألة المعاد وزعم أنها قاطعة ثم ذكر المعارضات قال في الجواب أما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في

ص: 203

كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضًا نختار التوقف فإذًا لا حاجة بنا إلى الجواب عما ذكروه فإذا كان أذكى المتأخرين من الأشعرية النافية للصفات الخبرية وإمامهم وهو أبو المعالي وأذكى متأخري المعتزلة

ص: 204

وهو أبو الحسين وابن الخطيب إمام مُتَّبعيه توقفوا في كون الجسم هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تنقسم أم ليس مركبًا منها كانت هذه المقدمة التي استدل بها مما لايعلم صحتها أفاضل الطوائف المتبوعين الموافقين له فقوله بتسليمهم ذلك حجة فاسدة وأقل ما في ذلك أن هذه المقدمة ممنوعة فلا يُسلم له منازعوه أن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين والنزاع في ذلك بين أهل الكلام بعضهم مع بعض وبين المتفلسفة أيضًا مشهور وهولم يذكر حجة على كونه مركبًا فلا يكون قد ذكر دليلاً أصلاً فإن قيل نفاة الجوهر الفرد يقولون إنه يقبل التقسيم والتجزيء إلى غير غاية فما من جزء إلا وهو يحتمل التقسيم فيكون عدم الوحدة في الجسم أبلغ على قولهم قيل هؤلاء إن قالوا إن لفظ الواحد لا يقال إلا على ما لا يقبل القسمة وعندهم كل شيء قابل للقسمة فهذا اللفظ عندهم ليس له مسمى معلوم متفق عليه أصلاً إذ مورد النزاع فيه من الخفاء والنزاع ما لا يصلح أن يكون اللفظ مختصًّا به إذ

ص: 205

اللفظ المشهور بين العامة والخاصة لا يكون مسماه ما قد تنازع الناس في إثباته ولا يعلم إلا بدقيق النظر إن سلم ثبوته وأيضًا فهؤلاء يصرحون بأن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من جوهرين ولا من جواهر وإذا كانوا يصفونه بالوحدة ويمنعون أن يكون مركبًا لا من جوهرين امتنع أن تصح هذه الحجة على أصلهم فهذه الوجوه الأربعة تبين بطلان ما ذكره من دلالة اسم الأحد على نفي كونه جسمًا الوجه الخامس أن الجسم إما أن يكون مركبًا من الجواهر المنفردة وأقل ما يتركب منه جوهران أو لا يكون فإن كان الأول صحيحًا أبطلت الحجة الثانية التي ذكرها على نفي كونه جوهرًا فإنها مبنية على أن الجسم ليس أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وإن كان باطلاً فَسَدت هذه الحجة التي نفى بها كونه جسمًا فثبت بطلان إحدى الحجتين وبقيت الحجة الثالثة التي ذكرها لنفي الجوهر الفرد وسنتكلم عليها إن شاء الله وذلك أن الجسم إن كان أقله مركبًا من جوهرين فالجوهر

ص: 206

ليس بمنقسم بل هو فرد فلا تصح تلك الحجة وإن لم يكن أقله مركبًا من جوهرين بَطَلت هذه الحجة فبطلت إحدى الحجتين إما التي نفى بها التجسيم أو التي نفى بها الجوهر ويلزم من بطلان إحداهما بطلان الأخرى الوجه السادس أن يقال ما ذكرته في منع الجوهر الفرد وأن كل متحيز فهو منقسم قد اعترفت بأن هذه الحجة مكافئة لنظيرها ولم تعلم الحق في ذلك ثم يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد هذا لا يصح على قول هؤلاء فإنهم يقولون الجسم واحد في نفسه كماأنه واحد في الحس وهو واحد متصل ليس مركبًا من الجواهر المنفردة فيصفونه بالوحدة وإن قالوا إنه قابل للانقسام فقبوله للانقسام عندهم لا يمنع وصفه بالوحدة عندهم وتسميتهم إياه واحدًا بل يصفون بالوحدة ما هو أبلغ من ذلك فيقولون أحد بالجنس وواحد بالنوع وواحد بالشخص

ص: 207

الوجه السابع أن يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد لم تذكر على هذا دليلاً أصلاً لا بينة ولا شبهة وهو لم يذكر قبل هذا إلا أن الجسم مركب من جوهرين وقال وذلك ينافي الوحدة وتلك أيضًا دعوى لم تُقِمْ عليها دليلاً ولو ثبت ذلك في ما هو مركب بالفعل لم يثبت فيما هو قابل للقسمة فإن هذا ليس فيه من التعدد ما في ذلك المركب فكيف إذا لم تذكر حجة على شيء من ذلك فأين هذا الثبوت الذي أحال عليه والشيء لا يقال فيه ثبت إلا إذا كان معلومًا بالبديهة أو قد أقيمت عليه حجة الوجه الثامن أن طوائف كثيرة من أبناء جنسك من المتكلمين من الأولين والآخرين يقولون إنه لا موجود إلا جسم أو ما قام به أو لا موجود إلا الجسم فقط وأنه

ص: 208

لا يعقل موجود إلا كذلك فهؤلاء عندهم إذا فسرت الحد بما ليس بجسم ولا جوهر يقولون لك فسرته بالمعدوم مثل أن تفسره بما ليس بخالق ولا مخلوق أو تفسره بما ليس بقديم ولا محدث فتحتاج أولاً أن تثبت وجود موجود غير الجسم ليمكنك تفسير لفظ الأحد به وإذا كان حجتك موقوفة على هذه المقدمة فلو ثبتت هذه المقدمة استغنيت عن هذه الأدلة التي ذكرت أنها سمعية لا تتم الوجه التاسع أن يكون لفظ الحد لا يقال على الجسم والجوهر ليس نصًّا في اللغة ولا ظاهرًا بل إن كان صحيحًا فإنما يُعلم بهذه المقدمات الخفية التي فيها نزاع عظيم بين أهل الأرض ومعلوم أن إفهام المخاطَبِين بمثل هذه الطريق لا يجوز وليس هذا من البلاغ المبين الذي وصف الله به الرسول وقد وصف كتابه بأنه بيان للناس وليس هذا من البيان في شيء لاسيما والقوم كانوا يستعملون لفظ الواحد والأحد في كلامهم وهم لا يعلمون إلا الجسم أو ما قام به لا يطلقون هذا اللفظ إلا على ذلك فإذا قصد بهذا الفظ أن يبين لهم أن معناه ما لا يكون جسمًا كانوا قد خوطبوا بنقيض معنى لغتهم ولو فرض أن لغتهم لا تنفي هذا فهي لا تدل عليه

ص: 209

بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام الظاهر بل بلزوم خفي لا يصلح مثله لدلالة اللفظ فإنه يحتاج أن يقال لهم لفظ الأحد والواحد ينفي العدد فهذا ظاهر ثم يقال لهم وكل ما ترونه وتعلمونه من الموجودات فليس هو واحدًا لأنه يمينه ليست بيساره وأعلاه ليس هوأسفله وكل ما تميز منه شيء عن شيء فليس هو بواحد ولا أحد ومعلوم أن هذا لا يخطر ببال عامة الخلق بل لا يتصورونه إلا بعد كُلْفَة وشدة وإذا تصوروه أنكرته فطرتهم وأنكروا أن يكون هذا هو لسانهم الذي خوطبوا به واستلزم ذلك أن يقال الشمس ليست واحدة والقمر ليس واحدًا وكل كوكب من هذه الكواكب ليس واحدًا وكل سماء من السموات ليست واحدة وكل إنسان ليس بواحد وكل عين ويد ورجل وحاجب وأنف وسن وشفة ورأس وشجرة وورقة وثمرة وغير ذلك ليس بواحد إذ هذا جميعه يميز جانب منه عن جانب وأعلاه عن أسفله الوجه العاشر أن هذه الحجة يحتج بها نفاة الصفات بأسرها الذين يقولون ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة فإن تعدد

ص: 210

الصفات يمنع أن يكون الموصوف بها أحدًا وينافي الوحدة لأن هناك عددًا من الصفات والوحدة تنافي العدد ولهذا احتج الجهمية المحضة بهذه الحجة كما ذكره الإمام أحمد وغيره وهذا المستدل هو ممن يثبت الصفات في الجملة ويقول بإثبات الصفات السبع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة فإن كانت هذه الحجة صحيحة لزم إبطال مذهبه ذاك وإن كانت باطلة لزم بطلان هذا الاستدلال وما كان جوابه عن استدلال نفاة الصفات مطلقًا بها كان جوابًا لمنازعيه في إثبات العلو وما يتبعه بل ذلك يبطل استدلاله بذلك على المجسمة المحضة

ص: 211

الوجه الحادي عشر أن يقال أعظم الناس نفيًا للصفات غلاة الفلاسفة والقرامطة وأئمتهم من المشركين الصابئين وغيرهم وهم لابد إذا أثبتوا الصانع أن يثبتوا وجوده ويثبتوا أنه واجب الوجود غير ممكن الوجود وأنه ابتدع العالم سواء قالوا إنه علة أو والدٌ أو غير ذلك فمسمى الوجود إن كان هو مسمى الوجوب لزم أن يكون كل موجود واجبًا بنفسه وهو خلاف المشهود بالإحساس وإن كان هذا المسمى ليس هذا المسمى ففيه معنيان وجود ووجوب وليس الوجوب مجرد عدم إذ هو توكيد الوجود والعدم المحض لا يؤكد الوجود فإن كان لفظ الأحد والواحد يمنع تعدد المعاني المفهومة الثبوتية بالكلية كما يزعم ابن سينا وذووه من مرتدة العرب المُتَّبِعِينَ لمرتدة الصابئة أنه إذا كان واحدًا من كل وجه فليس فيه تعدد من جهة الصفة ولا من جهة القَدْرِ ويعبر عن ذلك بأنه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم لزم أن يكون الوجوب والوجود والإبداع معنى واحدًا وهو معلوم الفساد بالبديهة وإن كان هو في نفسه

ص: 212

متسمًا بالأحد والواحد مع ثبوت هذه المعاني المتعددة علم أن هذا الاسم لا يُوجِب نفي الصفات بل هو سبحانه أحد واحد لا شبيه له ولا شريك وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه وكذلك هوأيضًا ذات وهو قائم بنفسه باتفاق الخلائق كلهم وسائر الذوات وكل ما هو قائم بنفسه يشاركه في هذا الاسم ومعناه كما يشاركه في اسم الوجود ومعناه وهو سبحانه يتميز عن سائر الذوات وسائر ما هو قائم بنفسه بما هو مختص به من حقيقته التي تميز بها وانفرد واختص عن غيره كما تميز بوجوب وجوده وخصوص تلك الحقيقة ليس هو المعنى العام المفهوم من القيام بالنفس ومن الذوات كما أن خصوص وجوب الوجود ليس هو المعنى العام المفهوم من الوجود فسواء سمى المُسمي هذا تعدادًا أو تركيبًا أو لم يسمه هو ثابت في نفس الأمر لا يمكن دفعه والحقائق الثابتة لا تُدفع بالعبارات المجملة المبهمة وإن شنع بها الجاهلون الوجه الثاني عشر قوله إن مُثْبِتَةَ الجوهر الفرد يمكنهم الاحتجاج بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا فردًا من وجه

ص: 213

آخر وهو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثالاً له وذلك ينفي كونه أحدًا وأكدوا هذا الوجه بقوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له يقال هذه الدلالة المشتركة بين جميع الناس نفاة الجوهر وغيرهم فكل أحد يمكنه من ذلك ما أمكن هؤلاء وأيضًا فالمطلوب بهذا الدليل وهو نفي كونه جوهرًا فردًا أمر متفق عليه بين الخلائق كلهم بل هو معلوم بالضرورة العقلية أن رب السموات والأرض ليس في القدر بقدر الجوهر الفرد فإنه عند مُثْبِتيه أمر لا يُحسه أحد من حقارته فهو أصغر من

ص: 214

الذرة والهباءة وغير ذلك فكيف يَخْطُر ببال أحد أن رب العالمين بهذا القدر حتى يحتاج هذا إلى دليل على نفيه ولا ريب أن كونه واحدًا يمنع أن يكون له شبيه وكذلك قوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] يمنع الكفؤ فيمتنع أن يكون من الجواهر المتماثلة لكن هذه الدلالة إنما تتم إذا كانت الجواهر المنفردة متماثلة في حقائقها الوجه الثالث عشر قوله وإذا ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات

ص: 215

يقال له هذا مما يُنَازِعُك فيه كثير من أصحابك وغيرهم من متكلمي الصفاتية ويقولون قد يكون في الجهة ما ليس بجسم وهذا هو الذي سلمته لهم في أشرف كتبك وهو نهاية العقول قال المسألة الثالثة في أنه تعالى ليس في الجهة وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسمًا هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفي الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل

ص: 216

الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات متى ثبت ذلك ثبت أنه لايلزم من نفي كون الشيء جسمًا نفي اختصاصه بالحيز والجهة قال وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي

ص: 217

الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الحيز والجهة ثم احتج على ذلك بما تكلمنا عليه في موضعه لما ذكرناه فهذا الكلام وإن كان لمن قال بالأول أن يقول يلزم من نفي كون الشيء جسمًا أو قائمًا بجسم نفي اختصاصه بالحيز والجهة لكن المقصود هنا أن كثيرًا من الصفاتية أهل الكلام كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وغيرهم من أئمة الصفاتية المتكلمين من يقول ليس بجسم ولا جوهر ويقول مع ذلك إنه فوق العرش كما قرروه في كتبهم لكن منهؤلاء من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلق لفظ الجهة ولفظ الحيز وهذا قول طوائف من الفقهاء أهل المذاهب الأربعة ومن الصوفية وأهل الحديث وغيرهم

ص: 218

يجمعون بين نفي الجسم وبين كونه نفسه فوق العرش فصل قال الرازي لو كان مركبًا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدًا مطلقًا قلت هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى وقد قدمنا أن لفظ الجوارح

ص: 219

والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيديه وخلق عَدْناً بيديه لكان الله محتاجًا في الفعل إلى يد وذلك ينافي كونه صمدًا وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول والكلام على هذا من وجوه أحدها أن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه قال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا عبد الله بن صالح

ص: 220

حدثني ليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم

ص: 221

عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لقد قالت الملائكة يا ربنا منا الملائكة المقربون ومنا حملة العرش ومنا الكرام الكاتبون ونحن نسبح الله الليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر خلقت بني آدم فجعلت لهم الدنيا

ص: 222

وجعلتهم يأكلون ويشربون ويستريحون فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة فقال لن أفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة فقال لن لأفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك فقال لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان

ص: 223

وقد روى نحو هذا عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أظنه مرسلاً

ص: 224

وقال الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن

ص: 225

مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد قال عبد الله بن عمر خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدْن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان

ص: 226

وقال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن

ص: 227

عطاء بن السائب عن ميسرة قال إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده

ص: 228

وقال حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن

ص: 229

زُرَيع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس

ص: 230

عن كعب قال لم يخلق الله بيده غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ثم قال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون

ص: 231

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة أن موسى يقال له أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ وكتب لك التوراة بيده وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده وأما الفعل باليد غير الخلق فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضته الأرض والسموات وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما كقوله يَطْوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يَطْوي الأرض بيده الأخرى وفي رواية مسلم بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون

ص: 232

أين المتكبرون وقوله تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يَتَكَفَّؤُهَا الجبَّارُ بيده كما يَتَكَفَّأُ أحدكم خُبْزَتَهُ في السفر نُزُلاً لأهل الجنَّةِ وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق وقال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ

ص: 233

يَسِيرٌ {70} [الحج 70] وقال تعالى مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 22-23] ثم لم تدل كتابته لذلك على أنه محتاج إلى الكِتَاب والكُتَّاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه فَخَلْقُه ما يَخْلُقُه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك الوجه الثاني أن يقال إنه سبحانه الغني الصمد القادر وقد خلق ماخلقه من أمر السموات والأرض والدنيا والآخرة بالأسباب التي خلقها وجعل بعض المخلوقات سببًا لبعض كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] وقال تعالى وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ [البقرة 164] وقال تعالى وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} [ق 9] وقال تعالى يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل 11] وقال تعالى فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل 60]

ص: 234

فإذا كان خلقه بعض المخلوقات ببعض لا يوجب حاجته إلى مخلوقاته ولا ينافي كونه صمدًا غنيًّا عن غيره فكيف يكون خلقه لآدم بيده وقبضه الأرض والسموات بيده موجبًا لحاجته إلى غيره ومن المعلوم أن فعل الفاعل بيده أبعد عن الحاجة إلى الغير من فعله بمصنوعاته الوجه الثالث أن هذه الحجة من جنس حجة الجهمية المحضة على نفي الصفات فإن قولهم لو كان له علم وقدرة وحياة وكلام لكان محتاجًا في أن يعلم ويقدر ويتكلم إلى علم وقدرة وكلام بمنزلة قول هذا القائل لو كان له يد لكان محتاجًا في الفعل على اليد وذلك ينافي كونه صمدًا فما كان جوابه لأولئك كان جوابًا له عن هؤلاء لا سيما أن هذا أوكد لأنه قد تقدم أنه قادر على الخلق والفعل بيده وبغير يده ولا يجوز أن يقال إنه عالم بلا علم وقادر بلا قدرة فإن كان ثبوت الصفات موجبًا حاجته إليها فالحاجة في هذه أقوى وإن لم تكن موجبة حاجته إليها بطلت الحجة الوجه الرابع أن الغني الصمد هو غني عن مخلوقاته ومصنوعاته لايصح أن يقال هو غني عن نفسه وذاته كما تقدم وصفاته تعالى ليست خارجة عن ذاته فوجود الصفات والفعل بها كوجود الذات والفعل بها وقد تقدم الكلام على ما في

ص: 235

هذا من الألفاظ المجملة مثل الافتقار والجزء وغير ذلك وبينا أن ذلك مثل قول القائل واجب الوجود بنفسه وبنفسه فعل ونحو ذلك من العبارات الوجه الخامس أن المخلوق إذا صح تسميته بأنه غني وأنه صمد مع ما له من الصفات ولا ينافي ذلك إطلاق هذا الاسم كيف يصح أن يقال إن تسمية الخالق بهذه الأسماء ينافي هذه الصفات

ص: 236

فصل قال الشيخ رحمه الله للناس في أن الله فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والصوفية والفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهما أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوقات والخالق وبين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني وهو المشهور عن السلف وأئمة الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه

ص: 237

وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك فصل للناس في حملة العرش قولان أحدهما أن حملة العرش يحملون العرش ولا يحملون من فوقه والثاني أنهم يحملون العرش ومن فوقه كما تقدم حكاية القولين فيذكر ما يقوله الفريقان في جواب هذه الحجة

ص: 238

فإنهم ينازعونه في المقدمتين جميعًا فيقال من جهة الأولين لانسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل من فوقه فالمقدمة الأولى ممنوعة وذلك أن من حمل السقف لايجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدًا عليه وإلا فالهواء والطير وغير ذلك مما هو فوق السقف ليس محمولاً لما يحمل السقف وكذلك السموات فوق الأرض وليست الأرض حاملة السموات وكل سماء فوقها سماء وليست السفلى حاملة للعليا فإذا لم يجب في المخلوقات أن يكون الشيء حاملاً لما فوقه بل قد يكون وقد لا يكون لم يلزم أن يكون العرش حاملاً للرب تعالى إلا بحجة تبين ذلك وإذا لم يكن العرش حاملاً لم يكن حملة العرش حاملة لما فوقه بطريق الأولى الوجه الثاني أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجًا إليهم فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئًا

ص: 239

من الأفعال إلا بذلك فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم فيه مقامان مشكلان أحدهما مسألة حلول الحوادث والثانية تأثير المخلوق فيه وجواب المسألة الأولى مذكور في غير هذا الموضع وجواب السؤال الثاني أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو فلا حول ولا قوة إلا به وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه فيعود المر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سبحانه وتعالى الغني عما سواه وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني

ص: 240

عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولايقدر أن ينزل ولايصعد ولاياتي ولا يجيء ولايقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته من كونه لايقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورًا أخرى ودبر أمر السموات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى في غيره يخلقه بها فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} [الذاريات 58] قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي وصاحبه وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن

ص: 241

كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر مع خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يُضل بها لو كان من يعمل لله لقطع قشرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة

ص: 242

ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض وكيف تنكر أيها النفاخ أن عرشه يُقِلُّه والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أن الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة فكيف تقله الأرض في دعواك ولايقله العرش الذي هو أعظم منها

ص: 243

وأوسع وأدخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم العرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما تورد عليك حصائد لسانك فإنك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك وقد حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح أنه قال أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة العرش فقالوا ربنا لما خلقتنا فقال خلقتكم لحمل عرشي قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك فقال لهم إني خلقتكم لذلك

ص: 244

قال قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك قال فقال خلقتكم لحمل عرشي قال فيقولون ذلك مرارًا قال فقال لهم قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فيحملكم والعرش قوة الله

ص: 245

قال أفلا تدري أيها المعارض أن حملة العرش لم يحملوا العرش ومن عليه بقوتهم وبشدة أسرهم إلا بقوة الله وتأييده وقال في كتابه حدثني محمد بن بشار بندار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي

ص: 246

قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن

ص: 247

عتبة عن جُبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه

ص: 248

عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالراكب

ص: 249

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في كتاب الرد على

ص: 252

الجهمية عن عدة مشايخ منهم ابن بشار قال فيه عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جُهِدَتِ الأنفس وضاعت العيال ونُهِكَتِ الأموالُ وهلكت الأنعام فاسْتَسْقِ الله لنا فإنانستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لايستشفع به على احد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكبِ قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه

ص: 253

وعرشه فوق سمواته وساق الحديث وقوله في الحديث بأن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه أي الله هو الذي يفعل لا يشفع إلى غيره في أن يفعل وهذا كما يقوله بعض الشعراء مخاطبًا للنبي صلى الله عليه وسلم شفيعي إليك الله لا شيء غيره وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارًا للجهمية وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعًا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق

ص: 254

عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيحتمل أن يكون منقطعًا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولاً بين أهل العلم خالفًا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية مُتَلَقين لذلك بالقبول حتى قد رواه الإمام أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقات

ص: 255

المتصلة الإسناد رواه عن بندار كما رواه الدارمي وأبو داود سواء وكذلك رواه عن أبي موسى محمد بن المثنى بهذا الإسناد مثله سواء فقال حدثنا محمد بن بشار ثنا وهب يعني ابن جرير ثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد

ص: 256

ابن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال يا رسول الله جُهِدت الأنفس وجاعت العيال ونُهِكَت الموال وهَلَكَت الأنعام فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من جميع خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله على عرشه وعرشه على سمواته وسمواته على أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه لَيَئِطّ به أَطِيطَ الرَّحْل بالرَّاكب قال ابن خزيمة قرئ على أبو موسى وأنا أسمع أن وهبًا حدثهم بهذا الإسناد مثله سواء وممن احتج به الحافظ أبومحمد بن حزم في مسألة

ص: 257

استدارة الأفلاك مع أن أبا محمد هذا من أعلم الناس لا يقلد غيره ولا يحتج إلا بما تثبت عنده صحته وليس هذا الموضع وهؤلاء يحتجون في معارضة ذلك من الحديث بما هو عند أهله من الرأي السخيف الفاسد الذي يحتج به قياسو الجهمية كاحتجاج أبي القاسم المؤرخ في حديث أملاه في التنزيه بحديث أسنده عن عوسجة وهذا

ص: 258

الحديث مما يعلم صبيان أهل الحديث أنه كَذِب مختلق وأنه مفترى وأنه لم يروه قط عالم من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث ولا دونوه في شيء من دواوين الإسلام ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب كماثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين فمن رد تلك الأحاديث المتلقاة بالقبول واحتج في نقضها بمثل هذه الموضوعات فإنما سلك سبيل من لا عقل له ولا دين وكان في ذلك ممن يتبع الظن وما تهوى النفس وهو من المقلدين لقوم لا علم لهم بحقيقة حالهم كما قال

ص: 259

تعالى وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} [الشورى 14] وروى أيضًا عثمان بن سعيد قال ثنا عبد الله بن رجاء ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن

ص: 260

خليفة قال أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة فَعَظَّم الرب وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقْعُدُ عليه فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع ومد أصابعه الأربعة وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد إذا ركبه من يثقله

ص: 261

وقال أيضًا موسى بن إسماعيل ثنا حماد وهو

ص: 262

ابن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال إن ربكم ليس عنده

ص: 263

ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالمس أول النهار فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات

ص: 264

العرش والملائكة

ص: 265

وأصحاب هذا القول فيستشهدون بما روي عن طائفة في تفسير قوله تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ [الشورى 5] قال عثمان بن سعيد في رده على الجهمية ثنا عبد الله ابن صالح المصري حدثني الليث وهو ابن سعد حدثني

ص: 266

خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن زيد بن أسلم حدثه عن عطاء بن يسار قال أتى رجل كعبًا وهو في نفر فقال يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار فأعظم القوم قوله فقال كعب دعوا الرجل فإن كان جاهلاً تعلم وإن كان عالمًا ازداد علمًا ثم قال كعب أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ثم جعل ما بين كل سماءين كما بين

ص: 267

السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك وجعل بين كل أرضين كما بين السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك ثم رفع العرش فاستوى عليه فما في السموات سماء إلا لها أطيط كأطيط الرّحل العُلا في أول ما يرتحل من ثُقل الجبار فوقهن وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا دافعها لا يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار فوقهن فلو كان هذا القول منكرًا في دين الإسلام عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه

ص: 268

وقد ذكر ذلك القاضي أبو يعلى الأزجي فيما خرجه من أحاديث الصفات وقد ذكره عن طريق السنة عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبو المغيرة حدثتنا عبدة بنت خالد بن معدان عن أبيها خالد بن معدان أنه

ص: 269

كان يقول إن الرحمن سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش قال القاضي وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في

ص: 270

تاريخه بإسناده حدثنا عن ابن مسعود وذكر فيه فإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيه ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين

ص: 271

يحملون العرش وذكر الخبر اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره وأن ثُقْلَه يحصل بذات الرحمن إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته قال على طريقته في مثل ذلك لأنا لا نثبت ثقلاً من جهة المماسة والاعتماد والوزن لأن ذلك من صفات الأجسام ويتعالى عن ذلك وإنما نثبت ذلك صفة لذاته لا على وجه المماسة كما قال الجميع إنه عال على الأشياء لا على وجه التغطية لها وإن كان في حكم الشاهد بأن العالي على الشيء يوجب تغطيته قال وقيل إنه تتجدد له صفة يثقل بها على العرش ويزول في حال كما تتجدد له صفة الإدراك عند خلق المدركات وتزول عند عدم المدركات فإن قيل ذلك محمول على ثقل عظمته وهيبته في قلوبهم وما يتجدد لهم في بعض الأحوال من

ص: 272

ذكر عظمته وعزته كما يقال الحق ثقيل مر وليس المراد به ثقل الأجسام وقال سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] قال القاضي قيل هذا غلط لأن الهيبة والتعظيم مصاحب لهم في جميع أحوالهم ولا يجوز مفارقتها لهم ولهذا قال سبحانه يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {20} [الأنبياء 20] وما ذكره من قول القائل الحق ثقيل وكلام فلان ثقيل فإنما لم يحمل على ثقل ذات لأنها معانٍ والمعاني لا توصف بالثقل والخفة وليس كذلك هنا لأن الذات ليست معاني ولا أعراضًا فجاز وصفها بالثقل وأما قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] فقد فسره أهل النقل أن المراد به ثقل الحكم ولأن الكلام ليس بذات قال فإن قيل يحمل على أنه يخلق في العرش ثقلاً على كواهلهم وجعل لذلك أمارة لهم في بعض الأحوال إذا قام المشركون قيل هذا غلط لأنه يُفضي أن يَثْقل عليهم بكفر

ص: 273

المشركين ويخفف عنهم بطاعة المطيعين وهذا لا يجوز لما فيه من المؤاخذة بفعل الغير وليس كذلك إذا حملناه على ثقل الذات لأنه لا يفضي إلى ذلك لأن ثقل ذاته عليهم تكليف لهم وله أن يُثقِّل عليهم في التكليف ويخفف قلت المقصود هنا التنبيه على أصل كلام الناس في ذلك وأما الكلام في الخفة والثقل ونحو ذلك فربما نتكلم عليه إن شاء الله في موضعه فإن طوائف من المتفلسفة يقولون السموات ليست خفيفة ولا ثقيلة قالوا لن الجسم الثقيل هو الذي يتحرك إلى أسفل وهو الوسط والخفيف هو الذي يتحرك على فوق من الوسط والأفلاك مستديرة لا تتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل فلذلك لم نصفها بثقل ولا خفة كما لم يصفوها بشيء من الطبائع الأربعة وهذا النزاع قد يكون لفظيًّا وقد

ص: 274

يكون معنويًّا إذا اصطلحوا على أنهم لا يسمون خفيفًا وثقيلاً إلَاّ ما هو كذلك فهو نزاع لفظي وأما النزاع في كون أجسام السموات يمكن صعودها وانخفاضها لولا أن الله يمسكها بقدرته كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [فاطر 41] وقال وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 25] فهذا نزاع معنوي وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث كُرَيْبٍ عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث

ص: 275

أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال مازلت على الحال الذي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته وفي رواية سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته فالمقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن كما ذكره وغاية ما يمكن من المعدود وغاية ما يمكن من القول والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر

ص: 276

عدد خلقه وزنة عرشه الوجه الثالث أن يقال هذه المسألة تدل على نقيض مطلوبك فإنه أثبت أن العرش له حملة وأنه يحمل مع ذلك اليوم ويوم القيامة وظاهر هذا الخطاب أنه على العرش وأن العرش يُحْمَل مع ذلك سواء دلّ الخطاب على أن حملة العرش يحملونه أم لم يدل على ذلك فإن دل على ذلك أيضًا فقد دل على ما هو أبلغ من نقيض مطلوبه ثم إذا خالف هو هذه الآية يحتاج إلى تأويلها أو تفويضها فلا تكون الآيات المثبتة للعرش ولحملته أو لحمل الملائكة لما فوقه تنفي كونه على العرش هذا تعليق على الدليل ضد موجبه ومقتضاه ولكن قوله يلزم الافتقار من باب التعارض فيحتاج إلى الجمع بين موجب الآية وبين هذا الدليل لا تكون

ص: 277

الآية لأجل ما يقال أنه يعارضها تدل على نقيض مدلولها هذا لا يقوله عاقل الوجه الرابع في تقرير ذلك ثم إن قوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر 7] وقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} [الحاقة 17] يوجب أن لله عرشًا يحمل ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه وآخرون يكونون حوله وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية إما ثمانية أملاك وإما ثمانية أصناف وصنوف وهذا إلى مذهب المثبتة أقرب منه إلى قول النافية بلا ريب الوجه الخامس أن العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه وكالسقف بالنسبة إلى ما تحته فإذا كان القرآن قد جعل لله عرشًا وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة

ص: 278

إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش الوجه السادس أن إضافة العرش مخصوصة إلى الله لقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] يقتضي أنه مضاف إلى الله إضافة تخصه كما في سائر المضافات إلى الله كقوله بيت الله وناقة الله ونحو ذلك وإذا كان العرش مضافًا إلى الله في هذه الآية إضافة اختصاص وذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله من النسبة ما ليس لغيره فما يذكره الجهمية من الاستيلاء والقدرة وغير ذلك أمر مشترك بين العرش وسائر المخلوقات وهذه الآيات التي احتج بها تنفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك وتوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره كقوله عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] وهذا إما أن يدل على قول المثبتة أو هو إلى الدلالة عليه أقرب وأيهما كان فقد دلت الآية على نقيض مطلوبه وهو الذي ألزمناه فلم يذكر آية من كتاب الله على مطلوبه إلا وهي لا دلالة فيها بل دلالتها على نقيض مطلوبه أقوى

ص: 279

قال الرازي الحجة الثالثة عشرة لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لأنه على القول بأنه مستقر على العرش يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده والأقرب إلى العقول أن تكون تهيئة مكان نفسه مقدمًا على تهيئة مكان العبيد لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش لقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي قلت الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا والحمد لله الذي جعل لرسوله منه سلطانًا نصيرًا والحمد لله الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ينصرهم بسلطان الحجة وسلطان القدرة وهو الذي يؤتي رسله

ص: 280

والمؤمنين به حجة على من خالفهم وجادلهم فيه بالباطل كما قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] فإن هذا الرجل وأمثاله لا يحتجون بحجة إلا وهي عليهم لا لهم لكن يزيد فيهم ذلك من يكون الله قد أيده بروح منه وكتب في قلبه الإيمان وجعل في قلبه من نور يفهم دقيق ذلك وأما جليله فيفهمه جمهور الناس وهذه من جليل ذلك وذلك أنه لا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب أن العرش خلق قبل السموات والأرض الوجه الأول فقول هذا المحتج لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لا يضرهم بل ينفعهم فإن الأمر في الترتيب

ص: 281

ذلك ما كان وقول المثبتة يستلزم تقديم خلق العرش فهكذا وقع ولله الحمد وإن لم يكن مستلزمًا هذا الترتيب بطلت هذه الحجة فهي باطلة على التقديرين وأما قوله لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش فيقال هذا لم يعلمه أحد لا من الأولين ولا من الآخرين ولا قاله أحد يعرف بالعلم وأما احتجاجه على تقدم خلق السموات بقوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي فهنا إنما ذكر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض فأين قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] من قوله ثم خلق العرش فهذا لا يخفى على أحد فليس في كتاب الله ما يوهم تأخر خلق العرش فضلاً عن أن يدل فلا دلالة في القرآن على خلق السموات قبل العرش الوجه الثاني أن القرآن يدل على أن خلق العرش قبل خلق السموات والأرض بهذه الآية التي ذكرها وبغيرها فإن

ص: 282

قوله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] يقتضي أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ولم يذكر أنه خلقه حينئذ ولو كان خلقه حينئذ لكان قد ذكر خلقه ثم استواءه عليه ولأن ذكره للاستواء عليه دون خلقه دليل على أنه كان مخلوقًا قبل ذلك ولأنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين وأهل الكتاب أن الخلق كان في ستة أيام وقد قال تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود 7] فأخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان حينئذٍ على الماء وفي الصحيح عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولا شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض

ص: 283

قال البخاري في كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة باب قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود 7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {129} [التوبة 129] عن عمران بن الحصين قال إني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وفد بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل من ناس أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى

ص: 284

يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكان ذلك مناسبًا في العقل لأن يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده كان ثابت بالآية التي تلاها وبغيرها من الآيات والأحاديث واتفاق المسلمين دليل على مذهب منازعه دون مذهبه الوجه الرابع أنه لو فرض أن الله خلق العرش بعد السموات والأرض لم يكن في هذا ما ينافي أن يكون عليه كما أنه خلق السموات بعد الأرض فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 29] بعد قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت 11] بعد

ص: 285

قوله أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10} [فصلت 9-10]

ص: 286

قال الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه فصل ثم قال أبوعبد الله الرازي في تأسيسه الفصل الرابع في إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك وقد ذكر على ذلك ثمانية براهين مع أن بعضها مبني على ما تقدم من نفي أنه جسم فإنه قرر أن ذلك يستلزم نفي أن يكون على العرش وأكثرها غير مبني على ذلك وهذا الفصل يتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق السموات وأن الرسول لم يعرج به إليه وأنه لا يَصْعد إليه

ص: 287

شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا ترفع الأبصار أو الرؤوس أو الأيدي إليه في الدعاء بل لا تتوجه القلوب إلى فوق قصدًا للتوجه إليه أصلاً لا في دعاء ولا عبادة ولا غير ذلك ويتضمن أنه ليس فوق العالم رب ولا إله وليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف وأن ما فوق العرش وما تحت الأرض السابعة سواء في ذلك فكما أنه ليس في جوف الأرض فليس فوق العرش بل منهم من يقول إنه في كل مكان أو في كل موجود إما بمعنى أن تدبيره فيهم إما بمعنى أن ذاته في كل مكان أو أن ذاته هي كل موجود وأما ما فوق العرش فليس هناك شيء لأنه هو ليس هناك عندهم وليس فوق العالم موجود آخر مخلوق حتى يقال إنه فيه بمعنى التدبير أو بذاته أو بمعنى أن وجوده وجوده فهذه أقوال الجهمية متكلمهم

ص: 288

ومتعبدهم لكن ثَمَّ طائفة تقول هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر كذلك الأشعري في المقالات عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني

ص: 289

وإخوانهم فقال إنهم يقولون إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك مستوٍ على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ [الفجر 22] وهذا في نفاة الجسم يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إِنه لا نهاية له ومتكلمو الجهمية إلى النفي المطلق أقرب إذ الكلام قد يصف الموجود بصفة المعدوم ويشبه ذلك وأما عبادهم فلهم قصد وإرادة فيمن يعبدونه والقصد لا يتوجه إلى العدم المحض فلهذا كثيرًا ما يجعلونه

ص: 290

هو في كل مكان أو يجعلونه هو الوجود كله والعامة منهم إلى هذا أقرب لأنه لا تخرج القلوب أن تعبد شيئًا موجودًا وبنو آدم قد أشركوا بالله فعبدوا ما شاء الله من المخلوقات فإذا ذكر لهم ما يقتضي عبادة كل شيء كما فعلته الاتحادية لم ينفروا عن هذا نفورهم عن أن تعطل قلوبهم عن عبادة شيء من الأشياء بالكلية فهؤلاء يشركون شركًا ظاهرًا وأما أولئك فالجحود المحض أغلب على قلوبهم ولهذا يوجد فيهم من الاستكبار عن العبادة وقسوة القلوب ما لا يوجد في الآخرين وكل واحد من الاستكبار والإشراك ينافي الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فإن الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له فمن عبد الله وغيره فقد أشرك به كما كان مشركو العرب وغيرهم ومن

ص: 291

امتنع عن عبادة الله كفرعون ونحوه فهو جاحد وهو اكفر من هؤلاء وإن كان مشركًا حيث له آلهة يعبدها ولما كان الإسلام هو دين الله العام الذي اتفق عليه الأولون والآخرون من جميع عباد الله المؤمنين كما قال نوح عليه السلام فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} [يونس 72] عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} [البقرة 131] وقال مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 67] وقال قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} [الأنعام 161] وقال وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {132} [البقرة 132] وقال يوسف عليه السلام تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {101} [يوسف 101] كما قال إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم

ص: 292

بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {40} [يوسف 37-40] وقال موسى عليه السلام يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ {84} [يونس 84] وقال إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة 44] وقالت بلقيس رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} [النمل 44] وقد قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء 125] وقال تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ

ص: 293

عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {112} [البقرة 111-112] وهذا عام في الأولين والآخرين كما قال سبحانه أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83} قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84} وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} [آل عمران 83-85] وقال تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ [آل عمران 18-19] ثم قال وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} [آل عمران 19-20] وقوله إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران 19] فيه بيان أنهم اختلفوا

ص: 294

في دين الله الذي هو الإسلام من بعد ما جاءهم العلم حملهم على الاختلاف البغي وهذا كما قال شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} [الشورى 13-15] واختلاف أهل الكتاب في دين الله الذي هو الإسلام قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ومن ذلك أن اليهود يغلب عليهم الاستكبار والقسوة فهم يعرفون الحق ولا يتبعونه وبذلك وصفهم الله في القرآن ومن فسد من أهل العلم والكلام كان فيه شبه منهم ولهذا يوجد في متكلمة الجهمية من المعتزلة ونحوهم شبه كثير حتى أن من أحبار اليهود من يقرر الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويوجد فيهم من التكذيب بالقدر والصفات وتأويل ما في التوراة وغير

ص: 295

ذلك مما فيه مضاهاة للمعتزلة وأما النصارى فيغلب عليهم الإشراك والجهل فهم يتعبدون ويرحمون لكن بضلال وإشراك وبذلك وصفهم الله في القرآن ولهذا يوجد في متعبدة الجهمية من الاتحادية وغيرهم منهم شبه كثير حتى قد رأيت من هؤلاء الاتحادية من أخذ كلام النصارى النسطورية يزنه بكلامهم وحتى إن من النصارى من

ص: 296

يأخذ فصوص الحكم لابن عربي فيعظمه تعظيمًا شديدًا ويكاد يغشى عليه من فرحه به ولهذا يوجد في شيوخ الاتحادية موالون للنصارى ولعلهم يوالونهم أكثر من المسلمين وإذا كان كذلك فينبغي أن يعلم أن الكلام في هذا الفصل مقصود لنفسه وفيه ينفصل أهل التوحيد من أهل الإلحاد فإن القول بأن الله فوق العرش هو مما اتفقت عليه الأنبياء كلهم وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل وقد اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف وجميع طوائف الصفاتية تقول بذلك من الكلابية وقدماء

ص: 297

الأشعرية وأئمتهم والكرامية وقدماء الشيعة من الإمامية وغيرهم بخلاف لفظ الجسم والمتحيز فإن هذا لم يثبته السلف والأئمة مطلقًا ولا نفوه مطلقًا وإن كان فيما أثبتوه ما يوافق ما قد يعنيه مثبتو ذلك وفيما نفوه ما قد يوافق بعض قول نفاة ذلك وذلك أن الله سبحانه له الأسماء الحسنى كما سمى نفسه بذلك وأنزل به كتبه وعلمه من شاء من خلقه كاسمه الحي والعليم والرحيم والحكيم والأول والآخر والعلي والعظيم والكبير ونحو ذلك وهذه الأسماء كلها أسماء مدح وحمد تدل على ما يحمد به ولا يكون معناها مذمومًا وهي مع ذلك قد تستلزم معاني إذا أخذت مطلقة وسميت بأسمائها عمت المحمود والمذموم مثل اسمه الرحيم فإنه يستلزم الإرادة فإذا أخذت الإرادة

ص: 298

مطلقًا وقيل المريد فالمريد قد يريد خيرًا يحمد عليه وقد يريد شرًّا يُذم عليه وكذلك اسمه الحكيم والصادق وغيرهما يتضمن أنه متكلم فإذا أخذ الكلام مطلقًا وقيل متكلم فالمتكلم قد يتكلم بصدق وعدل وقد يتكلم بكذب وظلم وكذلك الاسم الأول يدل على أنه متقدم على كل شيء فإذا أخذ معنى التقدم وقيل قديم فإنه يقال على ما تقدم على غيره وإن تقدم غيره عليه كالعرجون القديم والإفك القديم وكذلك اسم الحق بل وسائر الأسماء تدل على أنه بحيث يجده الواجدون فإذا أخذ لفظ الموجود مطلقًا لم يدل إلا على أنه يجده غيره لم يدل على أنه حق في نفسه وإن لم يكن ثم غيره يجده وكذلك إذا قيل ذات أو ثابت ونحو ذلك لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على

ص: 299

خصوصية وكذلك اسم العلي والعظيم والكبير يدل على أنه فوق العالم وأنه عظيم وكبير وذلك يستلزم أنه مباين للعالم متحيز عنه بحده وحقيقته فإذا أخذ اسم المتحيز ونحوه لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على ما يمدح به الرب ويتميز به عن غيره وقد قال من قال من العلماء إن مثل أسمائه الخافض الرافع والمعز المذل والمعطي المانع والضار النافع لا يذكر ولا يدعى بأحد الاسمين الذي هو مثل الضار والنافع والخافض لأن الاسمين إذا ذكرا معًا دلّ ذلك على عموم قدرته وتدبيره وأنه لا رب غيره وعموم خلقه وأمره فيه مدح له وتنبيه على أن ما فعله من ضرر خاص ومنع خاص فيه حكمة ورحمة بالعموم وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح والله له الأسماء الحسنى ليس له مثل السوء قط فكذلك أيضًا الأسماء التي فيها عموم وإطلاق لما يحمد ويذم لا توجد في أسماء الله تعالى الحسنى

ص: 300

لأنها لا تدل على ما يحمد الرب به ويمدح لكن مثل هذه الأسماء ومثل تلك ليس لأحد أن ينفي مضمونها أيضًا فيقول ليس بضار ولاخافض أو يقول ليس بمريد ولا متكلم ولا بائن عن العالم ولا متحيز عنه ونحو ذلك لأن نفي ذلك باطل وإن كان إثباته يثبت على الوجه المتضمن مدح الله وحمده وإذا نفاها نافٍ فقد تقابل ذلك النفي بالإثبات ردًّا لنفيه وإن لم تذكر مطلقة في الثناء والدعاء والخبر المطلق فإن هذا نوع تقييد يقصد به الرد على النافي المعطل وهذا في الإثبات والنفي جميعًا فمن العيوب والنقائص ما لا يَحْسن أن يثنى على الله به ابتداء لكن إذا وصفه به بعض المشركين نفي ذلك ردًّا لقولهم كمن يقول إن الله فقير ووالد ومولود أو ينام ونحو ذلك فيُنفى عن الله الفقر والولادة

ص: 301

والنوم وغير ذلك فهذا أصل في التفريق بين ما ذكر من أسماء الله وصفاته مطلقًا وما لا يذكر إلا مقيدًا إما مقرونًا بغيره وإما لمعارضة مبطل وصف الله بالباطل فـ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] ومما ينبغي أن يعلم أن المبطل إذا أراد أن ينفي ما أثبته القرآن أو يثبت ما نفاه لم يصادم لفظ القرآن إلا إذا أفرط في الجهل مثل من ينكر من الجهمية إطلاق القول بأن الله كلم موسى تكليمًا أو أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ونحو ذلك وقد يقول إنما أنكرت إطلاقه لأن مطلقه عنى به معنى فاسدًا ويكون المطلق لم يعن غير ما عناه الله ورسوله ومنهم من لا يمكنه منع إطلاق اللفظ فيطلق من التصريف ماجاء به نص آخر وما هو من لوازم هذا النص مثل أن يقول يقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا يقال الله ولا الرب

ص: 302

على العرش استوى أولا يقال هو مستوٍ فإذا قيل لأحد هؤلاء فقد قال في الآية الأخرى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وقال اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد 2] بقي حائرًا كما يروى أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء أحب أن تقرأ هذا الحرف وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164} [النساء 164] ليكون موسى هو الذي كلم الله ولا يكون في الكلام دلالة على أن الله كلم أحدًا فقال له وكيف تصنع بقوله وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف 143]

ص: 303

وإذاكان ألفاظ النصوص لها حرمة لا يمكن المظهر للإسلام أن يعارضها فهم يعبرون عن المعاني التي تنافيها بعبارات أخرى ابتدعوها ويكون فيها اشتباه وإجمال كما قال الإمام أحمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ومن هذا الباب قول هذا المؤسس ونحوه ممن فيه تجهم إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك فإن المقصود الذي يُورِدُه على منازعه بهذا الكلام أنه ليس على العرش ولا فوق العالم كما يذكره في سائر كلامه ويحرف النصوص الدالة على ذلك ولكن لم يترجم للمسألة

ص: 304

بنفي هذا المعنى الخاص الذي أثبتته النصوص بل عمد إلى معنى عام مجمل يتضمن نفي ذلك وقد يتضمن أيضًا نفي معنى باطل فنفاهما جميعًا نفى الحق والباطل فإن قول القائل ليس في جهة ولا حيز يتضمن نفيه أنه ليس داخل العالم ولا في أجواف الحيوانات ولا الحشوش القذرة هذا كله حق ويتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق العالم وهذا باطل وكان في نفيه نفي الحق والباطل ولهذا كان أهل الإثبات على فريقين منهم من يقول بل هو في جهة وحيز لأنه فوق العرش وهذا مما دخل في عموم كلام النافي والنافية الكلية السالبة تناقض بإثبات معين كما في قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [الأنعام 91] ومقصود هذا المثبت جهة معينة وحيزًا معينًا وهو ما فوق العرش ومنهم من لا يطلق أنه في جهة ولا في حيز إمالأن

ص: 305

هذا اللفظ لم ترد به النصوص وإما لأنه مطلق لا يبين المقصود الحق وهو أنه على العرش وفوق العالم وإما لأن لفظه لا يُفْهِمُ أو يُوهم معنى فاسدًا مثل كونه قد أحاط به بعض المخلوقات فإن كثيرًا من عامة النفاة وإن كان مشهورًا عند الناس بعلم أو مشيخة أو قضاء أو تصنيف قد يظن أن قول من قال إنه في السماء أو في جهة معناه أن السموات تحيط به وتحوزه وكذلك إذا قال متحيز يظن أن معناه الحيز اللغوي وهو كونه تحيز في بعض مخلوقاته حتى إنهم ينقلون ذلك عن منازعهم إما عمدًا أو خطأ وربما صغروا الحيز حتى يقولوا إن الله في هذه البقعة أو هذا الموضع ونحو ذلك من الأكاذيب المفتراة وأيضًا فمن المثبتة الضُّلال من يقول إن الله متحيز بهذا

ص: 306

الاعتبار مثل من يقول إنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في الطواف أو في بعض سكك المدينة وأن مواضع الرياض هي مواضع خطواته ونحو ذلك مما فيه من وصفه بالتحيز أمر باطل مبني على أحاديث موضوعة ومفتراة ولهذا الإجمال والاشتراك الذي يوجد في الأسماء نفيًا وإثباتًا تجد طوائف من المسلمين يتباغضون ويتعادون أو يختصمون أو يقتتلون على إثبات لفظ ونفيه والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه لأن اللفظ فيه إجمال واشتراك يحتمل معنى حقًّا ومعنى باطلاً فالمثبت يفسره بالمعنى الحق والنافي يفسره بالمعنى الباطل

ص: 307

ثم المثبت ينكر على النافي بأنه جحد من الحق والنافي ينكر على المثبت أنه قال على الله الباطل وقد يكون احدهما أو كلاهما مخطئًا في حق الآخر وسبب ذلك مع اشتراك اللفظ نوع جهل أو نوع ظلم ولا حول ولا قوة إلا بالله وإذا كان القول بأن الله فوق العرش وفوق العالم ولوازم هذا القول الذي يلزمه بالحق لا بالباطل هو قول سلف الأمة وأئمتها وعامة الصفاتية لم يكن رد هذا المؤسس ونحوه على طائفة أو طائفتين بل على هؤلاء كلهم وقد ذكرنا بعض ما يعرف به مذاهبهم في غير هذا الموضع فإن المقصود الأكبر هنا إنماهو النظر العادل فيما ذكره من دلائل الطرفين ليحكم بينهما بالعدل وأما ما للمثبتة من الحجج التي لم يذكرها هو وذكر القائلون بالإثبات فلم يكن ذلك هو المقصود لكن

ص: 308

الكلام يُحْوِجُ إلى ذكر بعضه فينبه على ذلك فمن ذلك طائفة هذا المؤسس وهم أبو الحسن الأشعري وأتباعه فإن قدماءهم جميعهم وأئمتهم الكبار كلهم متفقون على أن الله فوق العرش ينكرون ماذكره هذا المؤسس وطائفة معه كأبي المعالي وأبي حامد من نفي ذلك أو تأويل آيات القرآن كقوله ثم استوى بمعنى استولى وقد ذكرت قبل ذلك

ص: 309

لفظ أبي الحسن الأشعري في كتاب الإبانة حيث قال فإِنْ قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والحرورية

ص: 310

والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن ذلك معتصمين وبما كان يقول

ص: 311

أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا إنا نقر بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئًا وان الله عز وجل فرد أحد صمد لاإله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من

ص: 312

في القبور وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ وأن لله علماً كما قال عز وجل أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله تعالى قدرة وقوة كماقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ

ص: 313

مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال سبحانه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} [يس 82]

ص: 314

وأنه لايكون في الأرض شيء من خير ولا شر إلا ماشاء الله وأن الأشياء تكون بمشية الله وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله عز وجل ولا يستغني عن الله ولا يقدر على الخروج من علم الله وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة له كما قال سبحانه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96} [الصافات 96] وأن العباد لايقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون كما قال سبحانه لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ

ص: 315

يُخْلَقُونَ {20 { [النحل 20] وكما قال عز وجل أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} [الطور 35] وهذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تعالى مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف 178] وأن الله سبحانه وتعالى يقدرأن يصلح الكافرين ويَلْطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكن أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأن الله خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره وخيره وشره وحلوه ومره ونعلم أن ما أصابنا

ص: 316

لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأنا لا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا إلا ماشاء الله وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كم الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا وندين بأن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كمايرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا وأعلم بذلك موسى

ص: 317

أن لايراه في الدنيا ونرى أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة وما أشبهها مستحلاً لها كان كافرًا إذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانًا وندين بأن الله يقلب القلوب وأن القلوب بين إصبعين من أصابعه

ص: 318

وأنه يضع السموات علي إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بأن لا ننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا

ص: 319

بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان والحوض حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَدِين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بماأثنى الله عليهم ونتولاهم

ص: 320

ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله

ص: 321

وجهه قتله قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد

ص: 322

لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب سبحانه وتعالى يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافًا لماقاله أهل الزيغ والتضليل

ص: 323

ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال سبحانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وغيره وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن

ص: 324

المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن

ص: 325

رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهم المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن

ص: 326

رسم السحر كائن موجود في الدنيا ونؤمن بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه

ص: 327

ويخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال الله عز وجل مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في الأطفال أطفال المشركين إن الله سبحانه يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية

ص: 328

بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم إليه صائرون وما كان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين

ص: 329

ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الهواء وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ونتكلم عن مسألة رؤية الله بالأبصار وعلى القرآن ثم قال باب ذكر الاستواء وذكر ما قد نبه عنه قريبًا الذي أوله فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال سبحانه وتعالى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى

ص: 330

الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وقال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] فأكذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال سبحانه أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] والسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يعني جميع السماء بقوله السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 16] ولم يرد أن القمر يملؤهن

ص: 331

جميعًا وأنه فيهن جميعًا ورأينا المسلمين جميعًا إذا دعوا يرفعون أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق فذهبوا في الاستواء إلى الاستيلاء ولو كان هذا كما قالوه كان لافرق بين العرش والأرض السابعة

ص: 332

السفلى لأن الله تعالى قادر على كل شيء ثم قال أبو الحسن الأشعري باب الكلام في الوجه والعينين والبصر قال الله تبارك وتعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] فأخبر سبحانه أن له وجهًا لا يفنى ولا يلحقه الهلاك وقال تعالى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] فأخبر عن العينين ولله تعالى ذكره عين ووجه كما قال لا يحد ولا يكيف وقال سبحانه وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه 39] وقال الله

ص: 333

تعالى وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً {134} [النساء 134] وقال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] فأخبر عن سمعه ورؤيته وبصره قال ونفت الجهمية أن يكون له وجه كما قال وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر ووافقوا النصارى لأن النصارى لم تثبت لله سمعًا ولا بصرًا إلا على معنى أنه عالم وكذلك قالت الجهمية قال وحقيقة قول الجهمية أنهم قالوا إن

ص: 334

الله عالم ولا نقول سميع بصير على غير معنى عالم وكذلك قول النصارى وقالت الجهمية إن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر وإنما قصدوا إلى تعطيل التوحيد والتكذيب فقالوا سميع بصير لفظًا ولم يحصلوا تحت قولهم معنى ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا أن الله غير سميع ولا بصير ولا عالم ولكن خوف السيف منعهم من إظهار كفرهم وكشف زندقتهم وهذا قول المعتزلة الجهال قال وزعم شيخ منهم مقدم عندهم أن علم الله هو سبحانه وأن الله علم

ص: 335

فنفى العلم من حيث أوهم أنه يثبته حتى التزم أن يقول يا علم اغفر لي إذا كان علم الله هو الله وكان الله على قياسه علمًا وقدرة وهو أبو الهذيل تعالى الله عما

ص: 336

يقولون علوًا كبيرًا ومن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل وجهًا قيل له نقول ذلك خلافًا لما قاله المبتدعون وقد دل على صحة ذلك قوله سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وإن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل يدين قيل له نعم نقول ذلك لقوله سبحانه وتعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن

ص: 337

الله خلق آدم بيديه وغرس شجرة طوبى بيده وقال سبحانه وتعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلتا يديه يمين وقال سبحانه لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} [الحاقة 45] وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا وكذا بيدي وهو يعني به النعمة وإذا كان الله سبحانه خاطب العرب بلغتها وما تجده مفهومًا في كلامها ومعقولاً في خطابها ولا يجوز أن تقول في خطابها

ص: 338

فعلت بيدي وتعني به النعمة بطا أن يكون معنى قوله بيديَّ النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل لي عليه يدان يعني له عليه نعمتان ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها ودفع ذلك دفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد نعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يحتج بها وأن لا يقرأ القرآن

ص: 339

ولا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن رجع في تفسير قوله بيديَّ يعني نعمتي إلى الإجماع فليس المسلمون على ما ادعاه من ذلك متفقين وإن رجع إلى اللغة أن يقول معنى نعمتي أن يقول القائل بيديَّ نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ويقال لأهل البدع لم زعمتم أن معنى قوله بيديَّ نعمتي أزعمتم ذلك إجماعًا أو لغة فلا يجدون في ذلك إجماع ولا في لغة فإن قالوا قلنا ذلك من

ص: 340

القياس قيل لهم من أين وجدتم في القياس أن قول الله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لا يكون معناه إلا نعمتي ومن أين يمكن أن يعلم العقل أن يفسر لفظة كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال سبحانه أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء 82] ولولا أن القرآن بلسان العرب ما جاز أن تتدبره

ص: 341

ولا أن تعرف العرب معانيه إذا سمعته فلما كان من لايحسن كلام العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم علموه لأنه بلسانهم نزل قال وقد اعتل معتل بقول الله عز وجل وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] قال الأيدي القوة فوجب أن يكون معنى قوله بيدي أي بقدرتي قيل لهم هذا التأويل فاسد من وجوه أحدها أن الأيد ليس بجمع اليد لأن جمع يد أيدي وجمع اليد التي هي نعمة أيادي والله عز وجل لم

ص: 342

يقل بأيدي ولا قال بأيادي وإنما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فبطل أن يكون معنى قوله بيدي معنى قوله بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] وأيضًا فلو أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا مناقض لقول مخالفينا ومجانب لمذاهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة الله عز وجل فكيف يثبتون قدرتين وأيضًا فلو كان الله عز وجل عنى بقوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس لعنه الله في ذلك مزية والله عز وجل أراد أن يرى فضل آدم عليه السلام إذ خلقه بيديه دونه فلو كان خالقًا لإبليس بيده كما خلق

ص: 343

آدم بيده لم يكن لتفضيله على إبليس بذلك وجه وكان إبليس محتجًّا على ربه عز وجل أن يقول وأنا أيضًا خلقتني بيدك كما خلقت آدم بها فلما أراد تفضيله عليه بذلك قال له توبيخًا على استكباره على آدم أن يسجد له مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص 75] فدل ذلك على أنه ليس معنى الآية القدرة إذْ كان الله عز وجل قد خلق الأشياء جميعها

ص: 344

بقدرته وأنه إنما أراد إثبات يدين لم يشارك إبليس لعنه الله آدم عليه السلام في أنه خلق بهما قال وليس يخلو قوله عز وجل لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات جارحتين أو يكون معنى ذلك إثبات قدرتين أو يكون معناه معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين ولا يوصفان

ص: 345

إلا كما وصف الله ولا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز أن يقول القائل عملت بيديّ وهو يعني نعمتي ولا يجوز أن يعني عندنا ولا عند خصومنا جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله عز وجل بيدي إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين ولا يوصفان إلا أن يقال إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجًا عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت وأيضًا فلو كان معنى قوله بيدي نعمتي لكان

ص: 346

لا فضيلة لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله قد ابتدأ إبليس بنعمة على قولهم كما ابتدأ بذلك لآدم فليس تخلو النعمتان أن يكون عنى بهما بدن آدم أو تكونا عرضين خلقا في آدم فإن عنى بذلك بدن آدم فالأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كان الأبدان عندهم جنسًا واحدًا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ماحصل في جسد آدم وكذلك إن كان عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس فهذا يوجب أنه

ص: 347

لا فضيلة لآدم على إبليس في ذلك والله عز وجل إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز وجل قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لم يعن نعمتي ويقال لهم ماأنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله يدي يدين ليستا نعمتين فإن قالوا لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة قيل لهم ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم

ص: 348

يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقصين وإن أثبتم حيًّا لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي أخبر الله عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين

ص: 349

ولا كالأيدي وكذلك يقال لم تجدوا مدبرًا حكيمًا إلا إنسانًا وأثبتم الباري مدبرًا حكيمًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف للشاهد فإن قالوا فإذا أثبتم لله يدين لقوله سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فلم لا أثبتم له أيدي لقوله سبحانه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] قيل لهم

ص: 350

قد أجمع على بطلان قول من قال ذلك فوجب أن يكون الله عز وجل ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل قد دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحًا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره

ص: 351

ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أولنا بها ذكر الأيدي على الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقة لا يزول عنها إلا بحجة فإن قال قائل إذا ذكر الله الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يكون ذكر الأيدي ويريد به يدًا واحدة قيل له ذكر الله عز وجل أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على

ص: 352

بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقال من قال يد واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف ظاهره فإن قال قائل ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] على المجاز قيل له حكم كلام الله على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ألا ترون أنه إذاكان ظاهر كلام عموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم بغير حجة فكذلك قوله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ظاهره من إثبات الأيدي ولايجوز أن يعدل به عن

ص: 353

ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا بغير حجة فلو كان ذلك جائزًا لجاز مدع أن يدعي أن ماظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه وأنه محال أن يكون مجازًا بغير حجة بل واجب أن يكون لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] إثبات يدين لله تعالى في غير نعمتين إذْ كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم فعلت بيدي وهو يعني نعمتي

ص: 354

قلت وهذا القول الذي ذكره الأشعري في الإبانة ونصره ذكره في كتاب المقالات الكبير الذي فيه مقالات الإسلاميين ومقالات الطوائف غير الإسلاميين وكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين أنه قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة فقال بعد أن ذكر مقالات الشيعة ثم الخوارج ثم المعتزلة ثم المجسمة ثم الجهمية ثم الضرارية ثم

ص: 355

البكرية ثم قوم من النساك ثم قال هذه حكاية قول

ص: 356

جملة أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وأن له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن الله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ

ص: 357

إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير 29] وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقالوا إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا

ص: 358

صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علمهم وخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولن إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهم مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله سبحانه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم

ص: 359

عن الله محجوبون قال الله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل ربه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًّا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان

ص: 360

ويقرون بأن الله مقلب القلوب ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله تعالى حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله

ص: 361

ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون

ص: 362

الله ينزلهم حيث شاء ويقولن أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في

ص: 363

القدر والمناظرة فيما يناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون بأن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدًا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبابكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًّا رضي الله عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 364

ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كماقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر

ص: 365

عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال تعالى وأن السحركائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم ويقولون إن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله

ص: 366

وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً كانت أو حرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ بالقرآن

ص: 367

وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمر بيد الله ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والكبر والفخر والإزراء على الناس والعجب

ص: 368

ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول إليه ونذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير ثم قال وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان وهو ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري تعالى لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا

ص: 369

ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى ويقولون أسماء الله وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال إن علمه غيره كما قالت الجهمية ولا يقال إن علمه هوهو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات ولا يقولون العلم هو القدرة ولا يقولون غير القدرة ويزعمون أن الصفات قائمة بالله وأن الله لم يزل راضيًا عمن يعلم أنه يموت مؤمنًا ساخطًا على من يموت كافرًا وكذلك قوله في الولاية والعداوة والمحبة وكان يزعم أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقوله في القدر كما حكينا عن أهل السنة والحديث وكذلك قوله في أهل الكبائر وكذلك

ص: 370

قوله في رؤية الله بالأبصار وكان يزعم أن الباري سبحانه وتعالى لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستوٍ على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء تعالى وقال أيضًا أبو الحسن الأشعري في باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو تحمل العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول أنه في مكان دون مكان قلت وكان قد ذكر في شرح اختلاف الناس في

ص: 371

التجسيم فقال فاختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك يتناهى غير أن مساحته أكثر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم ثم قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب

ص: 372

قال وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية فهاتان هما الفرقتان قال وقال قائلون هو جسم خارج عن جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بلون ولا طعم ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه في كل مكان

ص: 373

دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له وقال من ينتحل الحديث أن العرش لم يمتلئ به وأنه يقعد نبيه عليه السلام معه على العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم

ص: 374

ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه

ص: 375

بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل فقال قائلون الحملة تحمل الباري وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل ويحمله الحملة وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه على العرش وإنه مباين

ص: 376

منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الله بكل مكان وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على مالم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ للأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن في كتاب الإبانة هو الذي يذكره من ينقل مذهبه جملة ويرد بذلك على الطاعنين فيه كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى

ص: 377

الشيخ أبي الحسن الأشعري والذي ذكره الأشعري في كتاب المقالات هو الذي ذكره أبو بكر بن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبوالحسن في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم وما أبان في آخره أنه هو يقول بجميع ذلك وأن أبا محمد عبد الله بن سعيد يقول بذلك وبأكثر منه وهكذا ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في عامة كتبه مثل التمهيد والإبانة وكتابه الذي سماه كتاب الرد على من نسب إلى الأشعري خلاف قوله بعد فصول ذكرها قال وكذلك قولنا في جميع المروي عن رسول اله صلى الله عليه وسلم في صفات الله تعالى إذا ثبتت بذلك الرواية من إثبات اليدين اللتين نطق بهما

ص: 378

القرآن والوجه والعينين قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وقال تعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال في قصة إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] قال وروي في الحديث من رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال قال إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور فأثبت له العينين

ص: 379

قال وهذا حديث غير مختلف في صحته عند العلماء بالحديث وهو في صحيح البخاري وقال عليه السلام فيما يروى من الأخبار المشهورة وكلتا يديه يمين ونقول إن الله تعالى يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام والملائكة كما نطق بذلك القرآن وأنه ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى أو مستغفر فيغفر له الحديث وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قد بينا دين الأئمة وأهل السنة وأن هذه الصفات تُمَرُّ كما جاءت بغير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير كما روي عن

ص: 380

ابن شهاب وغيره وروى الثقات عن مالك أن سائلاً سأله

ص: 381

عن قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة قال فمن تجاوز هذا المروي من الأخبار عن التابعين ومن بعدهم من السلف الصالحين وأئمة الحديث فقد تعدى وضل وابتدع في الدين ما ليس منه وذكر باقي الكتاب وهذا لفظه فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة وأن الله فوق العرش وأن له وجهًا ويدين وتقرير ما ورد من النصوص الدالة على أنه فوق العرش وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين ونحو ذلك علم أن هذا الرازي ونحوه هم المخالفون

ص: 382

لأئمتهم في ذلك وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه وكذلك نقل الناس مذهبهم كما قال الإمام أبوبكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف

ص: 383

المتأخرين في الاستواء قول الطبري يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير وأبي محمد

ص: 384

عبد الله بن أبي يزيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه

ص: 385

أعني القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصًّا وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه قال القاضي أبو بكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان ولا كون فيه ولا مماسة قال أبو عبد الله القرطبي في كتاب شرح الأسماء الحسنى هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد

ص: 386

الأوائل وقاله الأستاذ أبوبكر بن فورك في شرح أوائل الأدلة له وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي

ص: 387

وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولاً وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات

ص: 388

وقال هذا القرطبي في تفسيره الكبير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس 3] هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً قال والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم المتأخرين تنزيه الباري عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون وذلك

ص: 389

مستلزم للتحيز والتغير والحدوث هذا قول المتكلمين قال وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم يعني في اللغة والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وكذا قالت أم سلمة رضي الله

ص: 390

عنها وهذا القدر كاف قال والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار وذكر كلام الجوهري وغيره

ص: 391

وأما نقل مذاهب سلف الأمة وأئمتها وسائر الطوائف فروى أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد صحيح من الأوزاعي قال كنا والتابعون

ص: 392

متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق سماواته ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته وقال أبو بكر النقاش صاحب

ص: 393

التفسير والرسالة حدثنا أبو العباس السراج سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام

ص: 394

والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة

ص: 395

له وأئمتنا كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان ن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن

ص: 396

سلمة وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهوية الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء

ص: 397

وقال الإمام أبو عمر الطلمنكي في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد 4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أيضًا قال أهل السنة في قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز

ص: 398

وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال وهذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد ولا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله

ص: 399

تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة قال وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله تعالى وذكر بعض الآيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم

ص: 400

عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة 7] هو على العرش وعلمه في كل مكان وماخالفهم في ذلك من يحتج بقوله وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة وتزعم أن من أقر بها مشبه وهم

ص: 401

عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله فهم أئمة الجماعة قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصفهاني أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين فذكر عقيدة قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلاكيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز وجل بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة

ص: 402

ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأنه سميع بصيرعليم خبير متكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر قال ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة

ص: 403

المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لايحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي سألت أبي

ص: 404

وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار قالا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع

ص: 405

جهاته إلى أن قالا وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علمًا وهذا مشهور عن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم من وجوه وقد ذكره عنه الشيخ نصر المقدسي في كتاب

ص: 406

الحجة له وقال نصر في هذا الكتاب إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فأذكر مذاهبهم وما اجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن

ص: 407

بلغني قوله من غيرهم فذكر جُمَل اعتقاد أهل السنة وفيه وأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن 28] ونقل أقوال السلف من القرون الثلاثة ومن نقل أقوالهم في إثبات أن الله تعالى فوق العرش يطول ولا يتسع له هذا الموضع ولكن نبهنا عليه ولم يكن هذا عندهم من جنس مسائل النزاع التي يسوغ فيها الاجتهاد بل ولا كان هذا عندهم من جنس

ص: 408

مسائل أهل البدع المشهورين في الأمة كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة بل كان إنكار هذا عندهم أعظم عندهم من هذا كله وكلامهم في ذلك مشهور متواتر ولهذا قال الملقب بإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة فيما رواه عنه الحاكم من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة

ص: 409

كما روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم يدورون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويَدُورون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا

ص: 410

وعن عباد بن العوام الواسطى من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد قال كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء

ص: 411

وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعى من هذه الطبقة وهو إمام البصرة إذ ذاك علمًا ودينًا أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شرٌّ قولاً من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وهم قالوا ليس عليه شيء وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب الإمام

ص: 412

المشهور قال سمعت حماد بن زيد وهو الإمام الكبير المشهور وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وعن عاصم بن علي بن عاصم

ص: 413

شيخ أحمد والبخاري قال ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا وقال أحمد بن حنبل ثنا سريح ابن النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك

ص: 414

ابن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله

ص: 415

ابن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا وكذلك قال الإمام أحمد وغيره وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الجامع

ص: 416

الصحيح في كتاب خلق الأفعال باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله قال وقال وهب بن جرير الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى قال وقال حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله

ص: 417

قال وقال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سمواته على العرش وقال لرجل منهم أتظنك خال منه فَبُهِت الآخر وقال من قال لاإله إلا هو مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي

ص: 418

وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا قال أبو عبد الله البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل

ص: 419

ما يشاء وقال وحديث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي قال وقال ضمرة بن ربيعة عن صدقة سمعت

ص: 420

سليمان التيمى يقول لو سئلت أين الله تبارك وتعالى لقلت في السماء فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء لقلت على الماء فإن قال فأين كان عرشه قبل الماء لقلت لا اعلم وروى عن يزيد بن هارون أنه ذكر أبا بكر الأصم والمريسي فقال هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالا الدم

ص: 421

قال وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضي أو عدل فصلِّ خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة قال وقال وكيع بن الجراح الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهم والجهمية شر هذه

ص: 422

الأصناف قال البخاري وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار وكلام السلف والأئمة في هذا الباب أعظم وأكثر من أن يذكر هنا إلا بعضه كلهم مطبقون على الذم والرد على من نفى

ص: 423

أن يكون الله فوق العرش كلهم متفقون على وصفه بذلك وعلى ذم الجهمية الذين ينكرون ذلك وليس بينهم في ذلك خلاف ولا يقدر أحد أن ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفًا واحدًا يخالف ذلك لم يقولوا شيئًا من عبارات النافية إن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا أنه داخل العالم ولا خارجه ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه في كل مكان أو أنه ليس في مكان أو أنه لا تجوز الإشارة غليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة بأن يكون فوق العرش لا نصًّا ولا ظاهرًا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم وإذا كان كذلك فليعلم أن الرازي ونحوه من الجاحدين لأن يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الأمة لسان صدق ومخالفون لعامة من يثبت الصفات من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين مثل الكرامية والكلابية والأشعرية الذين هم

ص: 424

الأشعري أئمة أصحابه ولكن الذين يوافقونه على ذلك هم المعتزلة والمتفلسفة المنكرون للصفات وطائفة من الأشعرية وهم في المتأخرين منهم أكثر منهم في المتقدمين وكذلك من اتبع هؤلاء من الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الحديث وحينئذ فيذكر ما يُتكلم به على حججه ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الرازي الفصل الرابع في إقامة الحجج والبراهين على أن الله ليس بمختص بحيز ولا جهة بمعنى أنه يشار بالحس أنه هاهنا أو هناك ويدل

ص: 425

عليه وجوه البرهان الأول وذلك أنه لم يخل إما أن يكون منقسمًا أو غير منقسم فإن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وإن لم يكن منقسمًا كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء وأيضًا فإن من ينفي الجوهر الفرد يقول إن كل ما كان مشارًا إليه بأنه هاهنا أو هناك فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا فثبت بأن القول بأنه مشار إليه بحسب الحس يفضي إلى هذين الباطلين فوجب أن يكون القول به باطلاً فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى واحد منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا

ص: 426

قوله العظيم يجب أن يكون مركبًا منقسمًا وذلك ينافي كونه أحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل وأيضًا لِمَ لا يجوز أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر قوله إنه حقير وذلك على الله محال قلت الذي لا يمكن أن يشار غليه ولا يحس به يكون كالعدم فيكون أشد حقارة فإذا جاز هذا فلم لا يجوز ذلك والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا

ص: 427

إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد أو جزء لا يتجزأ مع كونه جبلاً وذلك شك في البديهات فثبت أنه لابد من التزام التركيب والانقسام وإما أن لا يحصل فوقها شيء آخر ولا على يمينها ولا على يسارها ولا من تحتها فحينئذ يكون نقطة غير منقسمة وجزءًا لا يتجزأ وذلك باتفاق العقلاء باطل فثبت أن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب بل هو مبني على التقسيم الدائر بين النفي والإثبات قال واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف

ص: 428

أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فزعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة ولا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل أما قولهم الذي لا يحس ولا يشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أما إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم

ص: 429

يلزم وصفه بالحقارة يقال هذه الحجة مع كل من قال إنه فوق العرش وقال مع ذلك إنه غير مؤلف ولا مركب ممن يثبت له معنى الجسم كمن ذكره من الكرامية وممن ينفي عنه معنى الجسم كالكلابية وأئمة الأشعرية ومع كل طائفة ممن يوافقها من الفقهاء والصوفية وغيرهم وإن كان عامة أهل السنة وأئمة الدين وأهل الحديث لا يقولون هو جسم ولا يقولون ليس بجسم وهو قد نصها وهي أيضًا مع من نقل عنه أنه يُوصَفُ بالتركب والتأليف يرجع إلى قوله والكلام عليها من وجوه أحدها أن يقال قد تقدم أن لفظ المنقسم لفظ مجمل بحسب الاصطلاحات فالمنقسم في اللغة العربية التي نزل بها

ص: 430

القرآن هو ما فصل بعضه عن بعض كقسمة الماء وغيره بين المشتركين كما قال الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر 28] وقال تعالى لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر 44] وقال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف 32] وقال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف 32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنا قاسم أقسم بينكم وهذا هو حقيقة المقسوم بدليل صحة نفي اللفظ عما ليس كذلك كما في الحديث الصحيح قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يُقْسَم وكما في قوله أيما ميراث قسم في الجاهلية

ص: 431

فهو على ما قسم وأيما مال أدركه الإسلام فهو على قَسْم الإسلام

ص: 432

وكما قال لا يَقْتَسِمْ ورثتي دينارًا ولا درهمًا وتقول الفقهاء العقار إما أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة فإن كان كالرحى الصغيرة والحانوت الصغير التي لا تحتمل القسمة ففي ثبوت الشفعة فيه نزاع مشهور بين الفقهاء وإن كان يحتمل القسمة كالأرض البيضاء الكبيرة ونحو ذلك ثبتت فيه الشفعة بالاتفاق وكذلك يقولون في باب القسمة إن

ص: 433

المال إما أن يحتمل القسمة وإِما أن لا يحتملها فالذي لا يحتمل القسمة كالعبد الواحد والفرس الواحد وكالجوهرة والإناء الواحد ونحو ذلك فهذا الباب باب القسمة وما فيه من المسائل كقولهم القسمة هل هي إفراز الحقوق وتمييز الأنصباء أم هي بيع وقولهم مالا يمكن قسمته إذا طلب أحد الشريكين بيعه ليقسم الثمن هل يجبر الآخر على البيع وقولهم إذا كان في القسمة ضرر على أحد الشريكين فهل يجبر الممتنع فيها ونحو ذلك ومن ذلك قولهم في المضاربة والغنيمة ونحوها هل يملك الربح أو المغنم بالظهور أو لا يملك إلا بالقسمة وقولهم باب قَسْم الصدقة والغنائم والفيء وأمثال ذلك مما

ص: 434

لا يحصيه إلا الله إنما يريد الخاصة من العلماء والعامة من الناس بلفظ القسمة هنا تفصيل الشيء بعضه عن بعض بحيث يكون هذا في حيز وهذا في حيز منفصل عنه ليتميز أحدهما عن الآخر تميزًا يمكن به التصرف في احدهما دون الآخر وإذا كان هذا المعنى هو الظاهر في لغة الناس وعادتهم بلفظ القسمة فقوله بعد ذلك إما أن يكون منقسمًا أو لا يكون يختار فيه المنازع جانب النفي فإن الله ليس بمنقسم وليس هو شيئين أو أشياء كل واحد منها في حيز منفصل عن حيز الآخر كالأعيان المقسومة وما نعلم عاقلاً يقول ذلك وما كان منقسمًا بهذا المعنى فهو اثنان كل منهما قائم بنفسه ولم يقل أحد من الناس إن الله أو إن خالق العالم هما اثنان متميزان كل منهما قائم بنفسه إلا ما يحكى عن بعض الثنوية من قولهم إن أصل العالم النور والظلمة القديمان

ص: 435

لكن هؤلاء لا يقولون بتساويهما في الصفات وأيضًا فهؤلاء لا يسمون كلاًّ منهما الله أو رب العالمين ولا يسمون اثنيهما باسم واحد فلم يقل أحد من العقلاء إن مسمى الله أو رب العالمين هو منقسم الانقسام المعروف في نظر الناس وهو أن يكون عينان لكل منهما حيز منفصل عن حيز الآخر وأيضًا فلم يقل أحد إن الله كان واحدًا ثم إنه انفصل وانقسم حتى صار بعضه في حيز وبعضه في حيز فهذا المعنى المعروف من لفظ المنقسم منتف باتفاق العقلاء وهو مناف لأن يكون رب العالمين واحدًا منافاة ظاهرة ولكن لا يلزم من بطلان هذا بطلان مذهب المنازع الذي يقول إن الله واحد

ص: 436

ليس هو اثنين منفصلين كل منهما في حيز منفصل عن حيز الآخر وقد يريد بعض الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض وإن كان في ذلك فساد تنهى عنه الشريعة كالحيوان الحي والآنية ونحو ذلك فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرًا من الأجسام ليس منقسمًا بهذا الاعتبار فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلاً عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه وهذا واضح وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله تعالى قسمته لكن العباد لا يقدرون على قسمته كالجبال وغيرها ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك كما لا يجوز أن يقال إنه يمكن عدمه أو موته أو نومه وأنه قادر على ذلك فإنه واحد لا إله إلا هو وهذه القسمة تجعله اثنين منفصلين كل منهما في حيز آخر وهذا ممتنع على الله وذلك ظاهر ولا نزاع بين المسلمين بل بين العقلاء في ذلك وإنما تنازع الناس في كثير من الأجسام هل يمكن

ص: 437

قسمتها وتفريقها أم لا يمكن كأرواح بني آدم والملائكة بل كالعرش وغيره وقد خالف كثير من الفلاسفة المسلمين في أن الأفلاك تقبل الانقسام والتفريق أو لا تقبلها فالناس تنازعوا في كون بعض الأجسام تقبل الانقسام الذي هو تفريق بعض الجسم عن بعض فأما الخالق تعالى وتقدس فما علمنا أحدًا منهم يصفه بذلك ولو وصفه واصف بذلك لم يكن ما ذكره الرازي حجة على بطلان قوله كما سنذكره وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول الذي هو وجود الانقسام المعروف ولا بالمعنى الثاني الذي هو إمكان هذا الانقسام فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد

ص: 438

من الأجسام كقوله تعالى وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك جسم واحد ومتحيز واحد وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسمًا بالمعنى الأول فإن المنقسم بالمعنى الأول لا يكون إلا عددًا اثنين فصاعدًا كالماء إذا اقتسموه وكالأجزاء المقسومة التي لكل باب من جهنم منها جزء مقسوم وإذا كان هذا فيما يقبل القسمة كالإنسان والذي يقدر البشر على قسمته وما لايقبل القسمة أولى بذلك وهذا ظاهر محسوس بديهي لا نزاع فيه فإن أحدًا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيجعل في حيزين منفصلين أولا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية الكبر والعظم

ص: 439

ولا ريب أن الرازي ونحوه ممن يحتج بمثل هذه الحجة لا يفسرون الانقسام هنا بهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدًا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار ور يلزم من كونه جسمًا أو متحيزًا أو فوق العالم أو غير ذلك أن يكون منقسمًا بهذا الاعتبار وإن قال أريد بالمنقسم أن ما في هذه الجهة منه غير ما في هذه الجهة كما نقول إن الشمس منقسمة يعني أن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر والفلك منقسم بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي وهذا هو الذي أراده فهذا مما يتنازع الناس فيه فيقال له قولك إن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وتقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبًا وتبين

ص: 440

أنه لا حجة أصلاً على امتناع ذلك بل تبين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والحيز والغير والافتقار من الإجمال وان المعنى الذي يقصدونه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبًا أو ممكنًا وأن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة وتبين أن كل أحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبًا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وأنه ألزم الفلاسفة مثل ذلك فقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسمًا أو مركبًا بهذا

ص: 441

الاعتبار فإنه لا يكون واحدًا ولا يكون أحدًا فإن الأحد هو الذي لا ينقسم خلافا لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدًا كقوله وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك وتحرير هذا المقام هو الذي يقطع الشغب والنزاع فإن هذه الشبهة من أكبر أو أكبر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته وهو عند التحقيق من أفسد الخيالات ولاحول ولاقوة إلا بالله فإن الإشراك قد ضل به كثير من الناس كما قال الخليل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ

ص: 442

إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس [إبراهيم 35-36] وإذا شرح الله صدر العبد للإسلام يتعجب غاية العجب ممن ضل عقله حتى أشرك كما روي أن بعض الناس قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لهم عقول يعني لمشركي قريش فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم عقول أمثال الجبال ولكن كادها باريها وروي أن خالد بن الوليد

ص: 443

لما هدم العزى وكانت عند عرفات قال يا رسول الله عجبت من أبي وعقله كان يجيء إلى هذه العزى فيسجد لها وينسك لها ويحلق لها رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك عقول كادها باريها ولهذا يعترف المشركون بالضلال يوم القيامة كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] قال تعالى عن قوم

ص: 444

عاد الذين كانوا من أعظم بني آدم وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {26} [الأحقاف 26] وهذه الشبهة وإن تنوعت عباراتها هي التي ذكرها الأئمة أنها أصل كلام الجهمية كما ذكر الإمام أحمد حيث قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرًا كثيرًا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل التِّرْمِذ

ص: 445

وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم السُّمَنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهًا قال جهم نعم فقالوا هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا

ص: 446

قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مَجَسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ذلك أن زنادقة

ص: 447

النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسُّمَني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا

ص: 448

قال فهل وجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان فهذا الذي حكاه الإمام أحمد من مناظرة السُّمَنية المشركين للجهم هو كما ذكره أهل المقالات والكلام عنهم أنهم لا يقرون من العلوم إلا بالحسيات ولكن قد يقول بعض الناس إنهم أرادوا بذلك أن ما لا يدركه الإنسان بحسه فإنه

ص: 449

لا يعلمه حتى يقولوا عنهم إنهم ينكرون المتواترات والمجربات والبديهات وهذا والله أعلم غلط عليهم كما غلط هؤلاء في نقل مذهب السوفسطائية فزعموا أن فرقة من الناس تنكر وجود شيء من الحقائق ومن المعلوم أن أمة يكون لهم عقل يفارقون به المجانين لا يقولون هذا ولكن قد تقع السفسطة في بعض الأمور وبعض الأحوال وتكون كما فسرها بعض الناس أن السفسطة هي كلمة معربة وأصلها

ص: 450

يونانية سوفسقيا ومعناها الحكمة المموهة فإن لفظ سوفيا يدل في لغتهم على الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة فلما كان من القضايا ما يعلم بالبرهان ومنه ما يثبت بالقضايا المشهورة وبعضها يناظر فيه بالحجج المسلمة وبعضها تتخيله النفس وتشعر به فيحركها وإن لم

ص: 451

تكن صادقة وهي القضايا الشعرية ومنها ما يكون باطلاً لكن يشبه الحق فهذه الحكمة المموهة هي المسماة بالسفسطة عند هؤلاء وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع فهؤلاء السمنية يكون قولهم إن مالا يدرك بالحواس لا يكون له حقيقة ثم الرجل قد يعلم ذلك بحواسه وقد يعلم ذلك بإِخبار من عَلِم ذلك بحواسه ويدل على ذلك أن هؤلاء قوم موجودون فالرجل منهم لابد أن يقر بوجود أبويه وجده وولادته وحوادث بلده الموجودة قبله وما يحتاج إليه من أخبار الناس والبلاد وهذه الأمور كلها لا يعلمها أحدهم إلا بالخبر فإنه لا يدرك بحسه ولادته وإحبال أبيه لأمه ونحو ذلك لكن المخبرون يعلمونها بالإحساس ولا يتصور أن يعيش في العالم أمة يكذبون بكل ما لا يحسونه بل هذا يلزم أن بعضهم لا يزال غير مصدق لبعض في معاملاتهم واجتماعاتهم والإنسان

ص: 452

مدني بالطبع لا يعيش إلا مع بني جنسه ومن لم يقر إلا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه وإذا كان مقصودهم أن مالا يحس به لم يكن موجودًا كان من الجواب السديد لهم أن يقال لهم إلهي سبحانه يمكن إحساسه فتمكن رؤيته وسماع كلامه وقد كلم في الدنيا بعض خلقه وسوف يكلم عباده ويرونه في الدار الآخرة فإن كانوا ينكرون العلم والإقرار بكل ما لا يحسه الإنسان أمكنه أن يقرر عليهم العلم بالخبريات

ص: 453

والمجربات والبديهيات وغير ذلك وإن كانوا يقولون إن كل موجود فلابد أن يمكن إحساسه فهذا الذي قالوه هو مذهب الصفاتية كلهم الذين يقرون بأن الله يرى في الدار الآخرة وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها لكنه هنا ضل فظن أن الله لا يمكن إحساسه ولا رؤيته واحتاج حينئذ إلى إثبات موجود لا يمكن إحساسه فزعم أن روح بني آدم كذلك لا يمكن إحساسها بشيء من الحواس وقاس وجود الله على وجود الروح من هذا الوجه وهذه هي الطريقة التي سلكها هذا المؤسس في أول تأسيسه حيث أثبت وجود مالا يكون داخل العالم ولاخارجه بما قال من قال من الفلاسفة وموافقيهم من المسلمين إن الروح الذي في بني آدم لا داخل العالم ولاخارجه ولا يمكن إحساسها فقول جهم هو قول هؤلاء كما قال تعالى

ص: 454

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] وقال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {50} وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {51} كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {52} أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {53} [الذاريات 50-53] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 112] قال الإمام أحمد وجد الجهم ثلاث آيات من القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا واتبعه على قوله

ص: 455

رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بوصفين مختلفين وفي نسخة لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون

ص: 456

وفي نسخة ولا له نور ولا له جسم ليس هو معلوم أو معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي يكون لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئًا أو قال لا يأتون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق

ص: 457

فقلنا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا أو قال لا تأتون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنالهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يتكلم ولا يكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر

ص: 458

وفي نسخة إنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله ثم ذكر أحمد الكلام في مناظرتهم في القرآن والرؤية والصفات والعرش ونحو ذلك وكان الأئمة كالإمام أحمد والفضيل بن عياض

ص: 459

وغيرهما إذا أرادوا أن يذكروا ما يستحقه الله من التنزيه ذكروا سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن وأنها مستوفية كل ما ينفى في هذا الباب ولهذا لما ناظرت الجهمية الإمام أحمد كأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث وغيره من البصريين والبغداديين وذكروا الجسم وملازمه ذكر لهم أحمد سورة الإخلاص فإن ما فيها من التنزيه هو الحق دون ما ادخلوه في لفظ الجسم من الزيادات الباطلة وذلك أن مايذكرونه يدور على أصلين نفي التشبيه ونفي التجسيم الذي هو التركيب والتأليف ولهذا يذكر من العقائد التي ينفى فيها التنزيه الاعتقاد السليم من التشبيه والتجسيم

ص: 460

فأصل كلامهم كله يدور على ذلك ولا ريب أنهم نزهوا الله بنفي هذين الأمرين عن أمور كثيرة يجب تنزيهه عنها وما زادوه من التعطيل فإنما قصدوا به التنزيه والتقديس وإن كانوا في ذلك ضالين مضلين وسورة الإخلاص تستوفي الحق من ذلك فإن الله يقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 1-2] وهذان الاسمان الأحد والصمد لم يذكرهماالله إلا في هذه السورة وهما ينفيان عن الله ماهو منزه عنه من التشبيه والتمثيل ومن التركيب والانقسام والتجسيم فإن اسمه الأحد ينفي المثل والنظير كما تقدم الكلام على ذلك في أدلته السمعية وبيّنا أن الأحد في أسماء الله ينفي عنه أن يكون له مثل في شيء من الأشياء فهو أحد في كل ما هو له واسمه الصمد ينفي عنه التفرق والانقسام والتمزق وما يتبع ذلك من تركيب ونحوه فإن اسم الصمد يدل على الاجتماع وكذلك كل واحد من معنييه اللذين يتناولهما هذا الاسم

ص: 461

وهو أن الصمد هو السيد الذي كمل سؤدده ويصمد إليه في الأمور والصمد هو الذي لا جوف له كما يقال الملائكة صمد والآدمي أجوف والمصمت ضد الأجوف فإن اسم السيد يقتضي الجمع والقوة ولهذا يقال السواد هو اللون الجامع للبصر والبياض اللون المفرق للبصر ويقال للحليم السيد لأن نفسه تجتمع فلا تتفرق ولا تتميز من الغيظ والواردات عليها وكذلك هو الذي يصبر على الأمور

ص: 462

والصبر يقتضي الجمع والحبس والضم وضده الجزع الذي يقتضي التفرق وكذلك التعزي والتعزز وعززته فتعزى أو هو لا يتعزى هو ضد الجزوع فإن التعزز والتعزي يقتضي الاجتماع والقوة والجزع يقتضي التفرق والضعف والإنسان له في سؤدده وعزته حالان أحدهما أن يستغني بنفسه عن غيره ويعز نفسه عن غيره فلا يحتاج إلى الغير الذي يحتاج إليه غيره لغناه ولايخاف منه لعزته والثاني أن يكون هو قد احتاج إليه غيره ويكون قد أعز غيره فغلبه وأعزه فمنعه فيكون الناس قد صمدوا له أي قصدوه وأجمعوا له وهذا هو الصمد السيد وذلك إنما يكون من كمال سؤدده وصمديته التي تنافي تفرقه وتمزقه وضعفه ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد ليس كما تقول طائفة من الناس أن الصمد في

ص: 463

اللغة إنما هو السيد ويتعجبون مما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الصمد هو الذي لا جوف له فإن أكثر الصحابة والتابعين فسروه بهذا وهم أعلم

ص: 464

باللغة وبتفسير القرآن ودلالة اللفظ على هذا أظهر من دلالتها على السؤددة وذلك أن لفظ ص م د يدل على الاجتماع والانضمام المنافي للتفرق والخلو والتجويف كما يقال صمد المال وصمده تصمدًا إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض ومنه في الاشتقاق الأكبر الصمت والتصمت فإن التاء والدال أخوان متقاربان في المخرج والاشتقاق الأكبر هو ما يكون فيه الكلمتان قد اشتركت في جنس الحرف

ص: 465

فالكلمتان اشتركتا في الصاد والتاء والتاء والدال أخوان يقال صمت صماتًا وصموتًا وأصمت وإصماتًا وهو جمع وضم ينافي الانفتاح والتفريج ولهذا يقال للعظام ونحوها من الأجسام منها أجوف ومنها مُصْمَت فظهر أن اسم الأحد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه عنه من التشبيه ومماثلة غيره له في شيء من الأشياء واسمه الصمد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه من الانقسام والتفرق ونحو ذلك مما ينافي كمال صمديته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما ما تزيده المعطلة على ذلك من نفي صفاته التي وصف بها نفسه التي يجعلون نفيها تنزيهًا وإثباتها تشبيهًا ومن نفي حده وعلوه على عرشه وسائر صفاته التي وصف بها نفسه يجعلون نفيها تنزيهًا ويجعلون إثبات ذلك إثباتًا لانقسامه

ص: 466

وتفرقه الذي يسمونه تجسيمًا وتركيبًا فهذا باطل وليتدبر هذا المقام فإنه من أعظم الأشياء منفعة في أعظم أصول الدين الذي جاءت به هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن وفيه عظم اضطراب الخلائق وكثر فيه تعارض الحجج وتفرق الطوائف وإذا كانت هذه الشبهة ونحوها هي أصل ضلال الأولين والآخرين لما فيها من ألفاظ المُشْبَهة المُجْمَلة كما قال الإمام أحمد في وصف الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة قال فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم فطريق حل مثلها وأمثالها ما تقدم من الكلام على الألفاظ المتشابهة المجملة التي فيها

ص: 467

والتي أحدثوها وليس لها أصل في كتب الله ولهذا كان هؤلاء من الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر 35] إذ السلطان هو كتاب الله فمن جادل بغير سلطان من الله كان ممن ذمه الله في الكتاب قال الله تعالى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35] قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {56} [غافر 56] فإن هذه الألفاظ المُشْتَبِهة متى استفسر عن معانيها وفُصِّلَت زال ما في حجتهم من الاشتباه وتبين أنها حجة داحضة وإن كان هؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] وقال تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ {35} [الشورى 34-35]

ص: 468

الوجه الثاني أن قوله من ينفي الجوهر يقول إن كل ما كان يشار إليه بحسب الحس بأنه هاهنا أو هناك فلابد لأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا إنما يريد هؤلاء بكونه منقسمًا أنه يمكن أن يتميز في نفسه بعضه عن بعض أو يتميز منه شيء عن شيء أو العقل يميز منه شيئًا من شيء وليس لهذا التميز حد يُوقَفُ عنده لا يقولون إن فيه انقسامًا غير هذا بل يقولون إنه واحد في نفسه كما أنه واحد في الحس ويقولون إن الجسم منقسم إلى بسيط وإلى مركب وأما مثبتوه فلهم قولان أحدهما أنه أيضًا واحد في نفسه وفي الحس ولكنه قسمته تنتهي إلى حد والثاني أن

ص: 469

فيه أجزاء موجودة فالمشار إليه بحسب الحس لايفضي إلى الأمرين جميعًا بل على أنه إن كان منقسمًا كما ذكر لم يفض إلى شيئين بل غايته أن يفضي إلى ما ذكره من التركيب الذي تقدم الكلام عليه وإن لم يكن منقسمًا وذلك عنده لايكون إلا على مثبتة الجوهر الفرد أفضى إلى أن يكون في غاية الحقارة وهذا الجوهر الفرد إما أن يكون منتفيًا في نفس الأمر وإما أن يكون ثابتًا فلا يقول العاقل إن رب العالمين بقدره فلم يبق ما يقال إلا ما ذكره من الانقسام والتركيب وقد تقدم الكلام عليه وثبت أنه لا يفضي إلى هذين الأمرين جميعًا بل إنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط لكن يفضي إلى هذا على تقدير وإلى هذا على تقدير آخر فظهر أن كونه يشار إليه بالحس لا يفضي إلى الأمرين اللذين ذكرهما وإنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط الوجه الثالث السؤال الذي أورده وهو أنه لم لا يجوز أن

ص: 470

يكون غير منقسم ولا يكون بقدرالجوهر الفرد بل يكون واحدًا عظيمًا منزهًا عن التركيب والتأليف والانقسام وهذا ليس قول من ذكره من الكرامية فقط بل إذا كان هو قول من يقول إنه فوق العرش وهوجسم فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس بجسم بطريق الأولى والأحرى فإن نفي التركيب والانقسام على القول بنفي الجسم أظهر من نفيه على القول بثبوت الجسم فإذًا على ما ذكره هذا السؤال يورده على كل من يقول إنه فوق العرش ويقول مع ذلك إنه ليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف لا يحصون من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم بل قد ذكر الأشعري أن هذا قول أهل السنة وأصحاب الحديث فقال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه

ص: 471

الأشياء وأنه على العرش وقد تقدم قوله في ذلك وقول غيره وهؤلاء طوائف عظيمة وهم أجلّ قدرًا عند المسلمين ممن قال إنه ليس على العرش فإن نفاة كونه على العرش لا يعرف منهم إلا من هو مأبون في عقله ودينه عند الأمة وإن كان قد تاب من ذلك بل غالبهم أو عامتهم حصل منهم نوع ردة عن الإسلام وإن كان منهم من عاد إلى الإسلام كما ارتد عنه قديمًا شيخهم الأول جهم بن صفوان وبقي أربعين يومًا شاكًّا في ربه

ص: 472

لا يقر بوجوده ولا يعبده وهذه ردة باتفاق المسلمين وكذلك ارتد هذا الرازي حين أمر بالشرك وعبادة الكواكب والأصنام وصنف في ذلك كتابه المشهور وله غير ذلك بل من هو أجل منه من هؤلاء بقي مدة شاكًّا في ربه غير مقر بوجوده حتى آمن بعد ذلك وهذا كثير غالب فيهم ولاريب أن هذا أبعد العالمين عن العقل والدين فإذا كان هؤلاء يناظرون ويخاطبون ويستعد لرد قولهم الباطل لما احتيج إلى ذلك فالذين هم أولى بالعقل والدين منهم أولى منهم بذلك ونحن نورد من كلامهم ما تبين به أن جانبهم أقوى من جانب النفاة وليس لنا غرض في تقرير ما جمعوه من النفي والإثبات في هذا المقام بل نبين أنهم في ذلك أحسن حالاً من نفاة أنه على العرش فيما جمعوه من النفي والإثبات وقد أجاب

ص: 473

هؤلاء عما ألزمهم به النفاة من التجسيم الذي هو التركيب والانقسام كقول القاضي أبي بكر فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهًا ويدًا قيل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وقوله مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا فإن

ص: 474

فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لاتعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة قلنا لا يجب هذا كمالا يجب إذا لم يعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله ولا يجب في كل شيء كان قائماً بنفسه أن يكون

ص: 475

جوهرًا لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك قال وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضًا واعتلوا بالوجود فإن قال قائل أتقولون إنه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16}

ص: 476

[الملك 16] قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله وقال أبو الحسن الأشعري يقال لهم ما أنكرتم أن يكون الله عنى بقوله بِديَّ يدين ليستا نعمتين فإن قالوا

ص: 477

لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعْتِلَالِكُمْ ناقضين وإن أثبتم حيًّا

ص: 478

لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي خبر الله عنْهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي وكذلك يقال لهم لم تجدوا حكيمًا قديرًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فيه فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد الوجه الرابع قوله عن المنازع لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى وحده منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا قوله العظيم يجب أن يكون منقسمًا وذلك ينافي

ص: 479

كونه واحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد

ص: 480

يقال له هؤلاء قد يقولون لا هو عينه ولا هو غيره كما عرف من أصولهم أن غيرالشيء ما جاز مفارقته له وأن صفة الموصوف وبعض الكل لا هو هو ولا هو غيره فطائفة هذا المؤسس هم ممن يقولون بذلك وحينئذ فلا يلزم إذا لم يكن عينه أن يكون مغايرًا له فلا يفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد وإذا جاز أن يقولوا إن هذا الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم جاز أيضًا أن يقال إن الذي له قَدْر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه فلا يكون المشار إليه هو عين الآخر فإن قيل فهذا يقتضي أن يكون كل جسم غير مركب ولا منقسم والغرض في هذا السؤال وخلافه فإن هذا السؤال فرق فيه بين العظيم الشاهد والعظيم الغائب وان الشاهد منقسم بخلاف الغائب

ص: 481

قيل هذا الجواب هو مبني على أن غير الشيء ما جاز مفارقته له وكل مخلوق فإن الله سبحانه قادر على أن يفرق بعضه عن بعض وإذا جاز مفارقة بعضه لبعض جاز أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أن علمه وقدرته لما كان قيام هبه جائزًا لا واجبًا كان عرضًا أي عارضًا للموصوف لا لازمًا له والرب تعالى لا يجوز أن يفارقه شيء من صفاته الذاتية ولا يجوز أن يتفرق بل هو أحد صمد إذا كان كذلك لم يلزم عند هؤلاء أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أصلوه الوجه الخامس أنهم قد ألزموا المنازع مثلما ذكره وقالوا إذا كان حيًّا عالمًا قادرًا ولم يعقل في الشاهد من يكون كذلك إلا جسمًا منقسمًا مركبًا وقد أثبته المنازع حيًّا عالمًا قادرًا ليس بجسم منقسم مركب فكذلك يجوز أن يكون إذا كان عظيمًا وكبيرًا وعليًّا ولم يعقل في الشاهد عظيم وكبير وعليٌّ إلا

ص: 482

ما هو جسم مركب منقسم لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا إلا إذا كان وجب أن يكون كل حي عليم قدير جسمًا مركبًا منقسمًا وكذلك يقولون لمن يقول إن حياته وعلمه وقدرته أعراض وكذلك يقول هؤلاء لمن يسلم إثبات الصفات فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص ولم يكن عندك عرضًا فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا ولا فرق بين البابين بحال فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم ومن القائم بغيره أنه عرض وأن القائم بنفسه لابد أن يتميز منه شيء عن شيء والقائم بغيره لابد أن يحتاج إلى محله فإذا أثبت قائمًا بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه في ذلك فكذلك لزمه أن يثبت قائمًا بنفسه يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم وجماع الأمر أنه سبحانه قائم بنفسه متميز عن غيره وله أسماء وهو موصوف بصفات فإن كان كونه عظيمًا وكبيرًا موجبًا لأن يكون كغيره من العظماء الكبراء في وجوب الانقسام

ص: 483

الممتنع عليه فكذلك كونه حيًّا عالمًا قادرًا وله حياة وعلم وقدرة وسنتكلم على قوله إن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب وأما ما ذكره من التقسيم فيقال له في الوجه السادس أن ما ذكرته من التقسيم يَرِدُ نظيره في كل ما يثبت للرب فإنه يقال إذا أشرناإلى صفة أو معنى أو حكم كعلمه وقدرته أو عالميته أو قادريته أو وجوبه ووجوده أو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً ونحو ذلك فإما أن تكون الصفة أو المعنى أو الحكم الآخر هو إياه أو هو غيره فإن كان هو إياه لزم أن يكون كونه حيًّا هو كونه عالمًا وكونه عالمًا هو كونه قادرًا وكونه موجودًا هو كونه فاعلاً وكونه فاعلاً هو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وهذا يفضي إلى تجويز جعل المعاني المختلفة معنى واحدًا وأن يكون كل عرض وصفة قامت بموصوف صفة واحدة وهذا شك في البديهيات فهذا نظير ما ألزموه للمنازع فإنه يجب الاعتراف بثبوت معنيين ليس المفهوم من أحدهما هو

ص: 484

المفهوم الآخر وهذا قد قررناه فيما تقدم فإن كان ثبوت هذه المعاني يستلزم التركيب والانقسام كان ذلك لازمًا على كل تقدير وإن لم يكن مستلزمًا للتركيب والانقسام لم يكن ما ذكره مستلزمًا للتركيب والانقسام فإن مدار الأمر على ثبوت شيئين ليس أحدهما هو الآخر وهذا موجود في الموضعين وهذا يتقرر بالوجه السابع وهو أن يقال المراد بالغيرين إما أن يكون ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر أو ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فإن كان المراد بالغيرين هو الأول لم يجب أن يكون ما فوق المشار إليه غيره إلا إذا جاز وجود أحدهما دون الآخر وهذا ممتنع في حق الله تعالى بالاتفاق وبأنه واجب الوجود بنفسه على ما هو عليه كما هو مقرر في موضعه ثم قد يقال في سائر المعاني إنه يجوز وجود أحدهما دون

ص: 485

الآخر فيجوز حصول الوجود دون الوجوب أو دون الفاعلية أو دون العلم والعناية ودون كونه حيًّا عالمًا قادرًا ونحو ذلك وإن كان المراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر كالإحساس بأحدهما دون الآخر كما ذكر من جَوَّزَ الإشارة إلى نقطة دون ما فوقها فيقال لا ريب في جواز العلم ببعض المعاني الثابتة لله دون الآخر كماقد يعلم وجوده دون وجوبه ويعلم وجوبه دون كونه فاعلاً ويعلم ذلك دون العلم بكونه حيًّا أو عالمًا أو قادرًا أو غير ذلك وإذا كانت المغايرة ثابتة بهذا المعنى على كل تقدير وعند كل أحد ولا يصح وجود موجود إلا بها وإن كان واحدًا محضًا كان بعد هذا تسمية ذلك تركيبًا أو تأليفًا أو غير تركيب ولا تأليف نزاعًا لفظيًّا لايقدح في المقصود الوجه الثامن أن يقال اصطلاح هؤلاء أجود فإنه إذا ثبت أن الموجودات تنقسم إلى مفرد ومؤلف أو إلى بسيط ومركب أو إلى واحد وعدد علم أن في الموجودات ما ليس بمركب ولا مؤلف ولا عدد وهذه المعاني لا يخلو منها شيء من الموجودات فعلم أن هذه المعاني لا تنافي كون الشيء واحدًا ومفردًا فيما إذا كان مخلوقًا فكيف ينافي كون الخالق واحدًا

ص: 486

فردًا غير مركب ولا مؤلف فهذا الاعتبار المعروف الذي فطر الله عليه عباده يوضح هذا أنا قد قدمنا أن اسمه الأحد ينفي أن يكون له مِثل في شيء من الأشياء فهوينفي التشبيه الباطل واسمه الصمد ينفي أن يجوز عليه التفرق والانقسام وما في ذلك من التركيب والتجسيد وذلك لأنه سبحانه وصف نفسه بالصمدية كما وصف بالأحدية وهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] في جميع صفاته بل هو كامل في جميع نعوته كما لا يشبهه فيها شيء فهو كامل الصمدية كما أنه كامل الأحدية والواحد من الخلق قد يوصف بأنه واحد كما قال

ص: 487

وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء 11] وكما في ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ويوصف بالأحد مقيدًا أو مطلقًا كقوله فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل 58] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ويوصف أيضًا بالصمد وكما قال يحيى بن أبي كثير الملائكة صمد والآدميون جوف وكما قال الشاعر

ص: 488

أَلَا بَكَّرَ النَّاعي بخير بني أشد بعمرو بن مسعودٍ وبالسيدِ الصمد وكما قال فأنت السيِّدُ الصَّمَدُ

ص: 489

وكذلك لما في العبد من معنى الوحدة ومعنى الصمدية مع أنه جسم من الأجسام فعلم أن كون الموجود جسمًا لا يمنع أن يكون واحدًا وأن يكون أحد الأجسام وأن يكون صمدًا مع أن كونه جسمًا لا يمنع أن يكون حيًّا عالمًا قادرًا لكن العبد ليس له الكمال الذي يستحقه الله في شيء من صفاته ولاقريب من ذلك فالله تعالى إذا وصف أنه واحد صمد عالم قادر كان في ذلك على غاية الكمال الذي لا يماثله في شيء منه شيء من الأشياء لكن إذا كان ما ذكروه من المعاني التي يجعلونها كثرة وعددًا وتركيبًا ثابتة لكل موجود وذلك لا يمنع أن يكون المخلوق واحدًا فكيف يمتنع ذلك أن يكون الإله الذي ليس كمثله شيء أحدًا وذلك يظهر بالوجه التاسع وهو أن هذه المعاني التي يعلم

ص: 490

القلب أن أحدها ليس هو الآخر أمر لابد منه كما قد علم على كل تقدير ونفي هذه نفي لكل موجود وهو غاية السفسطة ونهايتها وذلك يجمع كل كفر وضلال ويخالف كل حس وعقل فهذا التميز إن أوجب أن تكون الحقيقة في نفسها فيها نوع من التميز لم يكن هذا منافيًا لما هو الواجب والواقع من الوحدانية فإن ذلك إذا لم ينف أن يكون كثير من المخلوقات واحدًا فأن لا ينفي ذلك في الخالق أولى وأحرى مع أن أحديته لها من الخصائص ما لا يجوز مثله لشيء من المخلوقات فإنه لا مثل له في شيء من الأشياء وأما غيره فله الأمثال قال الله تعالى وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] قال فتعلمون أن خالق الأزواج واحد وإن قيل كما يقوله بعض الناس إن هذا الامتياز

ص: 491

والتعدد الذهني لا يوجب أن يكون كذلك في الخارج وجعلوا هذا مثل الاتحاد الذي في المعاني الكلية فإنه كما أن الذهن يدرك إنسانية واحدة وجسمًا واحدًا كليًّا عامًّا أو مطلقًا يطابق الأفراد الموجودة في الخارج مع أنه ليس في الخارج شيء إلا موجود بعينه لا يوجد فيها ما هو كلي عام ولكن لما بين الحقائق من التشابه والتماثل يوجد في هذا نظير ما يوجد في هذا فهو باعتبار النوع لا باعتبار العين بل هو نظيره باعتبار العين فإذا كان هذا التشبيه والتمثيل الموجود في الخارج أوجب للذهن إدراك معنى عام كلي يجمع الأمرين وإن لم يكن في الخارج عامًّا كليًّا فكذلك ما يوجد في العين الواحدة مما يظن أنه أجزاء كم وكيف قد يقال للذهن هو الذي يفرق تلك ويميز بعضها عن بعض وإلا فهي في

ص: 492

نفسها واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ولا تركيب فالذهن هو الذي يأخذ الشيء الواحد فيفصله ويركبه بعد التفصيل كما أنه هو الذي يأخذ الشيئين فيمثل أحدهما بالآخر ويجعلهما واحدًا بعد التمثيل فما يذكر من التشبيه والتمثيل الذي يعود إلى معنى عام كلي يشتركان فيه وما يذكر من الأجزاء والصفات الذي يعود إلى معان تتميز في الذهن فيركبها ويؤلفها هو الذي عليه مدار باب التشبيه والتمثيل وباب التجسيم الذي هو التركيب وفي أحدهما يجعل الذهن العدد واحدًا وفي الآخر يجعل الواحد عددًا لكن باعتبارين صحيحين لا يخالف ما هو عليه الحقيقة في نفس الآخر لهذا تغلط الأذهان هنا كثيرًا لأن بين ما في الأذهان وما في الأعيان مناسبة ومطابقة وهو من وجه مطابقة العلم للمعلوم ومخالفة من وجه وهوأن ما في النفس من العلم ليس مساويًا للحقيقة الخارجة فلأجل ما بينهما

ص: 493

من الائتلاف والاختلاف كثر بين الناس الائتلاف والاختلاف ومن فهم ما يجتمعان فيه ويفترقان زاحت عنه الشبهات في هذه المحارات والغرض في هذا الوجه الذي يقال في مواقع الإجماع بين الخلائق التي لابد من إثبات شيء منها لكل عاقل في كل موجود يقال في مواقع النزاع بين مثبتة الصفات ونفاتها ولهذا يقال ما من أحد ينفي صفة من الصفات التي وردت بها النصوص أو يتأولها على خلاف مفهومها فرارًا من محذور ينفيه إلا ويلزمه فيما أثبته نظير مافر منه فيما نفاه فسبحان من لا ملجأ منه إلا إليه اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك

ص: 494

وهذا القدر وإن كان فيه رد على الطائفتين فيما نفته بغير حق فلا يضر في هذا المقام فإن المقصود هنا حاصل به وهو أن هؤلاء المثبتة لعلو الله على عرشه مع نفيهم ما ينفونه يلزمون نفاة العلو على العرش بأعظم مما يلزمونهم به الوجه العاشر قوله أن نقول إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل بناء على البرهان

ص: 495

القطعي وهو ما ذكره من التقسيم فيقال له كل برهان قطعي يستعملونه في حق الله تعالى فلابد وان يتضمن نوعًا من قياس الغائب على الشاهد فإنهم إنما يمكنهم استعمال القياس الشمولي الذي هو القياس

ص: 496

المنطقي الذي لابد فيه من قضية كلية سواء كانت القضية جزئية حملية أو كانت شرطية متصلة تلازمية أو كانت شرطية منفصلة عنادية تقسيمية فإنه إذا قيل الواحد لا يصدر

ص: 497

عنه إلا واحد وقيل لو كان يشار إليه بالحس لكان إما منقسمًا أو غير منقسم أو لو كان فوق العرش لكان إما كذا وإما كذا ولكان جسمًا أو غير ذلك فلابد في جميع ذلك من قضية كلية وهو أن كل واحد بهذه المثابة وأن كل ما كان مشارًا إليه بالحس لا يخرج عن القسمين وان كل ما كان فوق شيء فإما أن يكون كذا وكذا ولابد أن يدخلوا الله تعالى في هذه القضايا العامة الكلية ويحكمون عليه حينئذ بما يحكمون به على سائر الأفراد الداخلة في تلك القضية ويشركون بينها وبينه في ذلك ومشاركته لتلك الأفراد في ذلك الحكم المطلق والمعلق على شرط ومشابهته لها في ذلك هو القياس بعينه

ص: 498

ولهذا لما تنازع الناس في مسمى القياس فقيل قياس الشمول أحق بذلك من قياس التمثيل كما يقوله ابن حزم وطائفة وقيل بل قياس التمثيل أحق باسم القياس من قياس الشمول كما يقوله أبو حامد وأبو محمد المقدسي وطائفة

ص: 499

وقيل بل اسم القياس يتناول القسمين جميعًا حقيقة كان هذا القول أصوب فما من أحد يقيس غائبًا بشاهد إلا ولابد أن يدخلهما في معنى عام كلي كما في سائر أقيسة التمثيل وما من أحد يدخل الغائب والشاهد في قياس شمول تحت قضية كلية إلا ولابد أن يشرك بينهما ويشبه أحدهما بالآخر في ذلك فقول القائل لو كان عظيمًا مشارًا إليه لكان منقسمًا لأنا لا نعلم عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك أو لا نعقل عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك هو كقوله لأن كل عظيم فإذا أشرنا فيه إلى نقطة فإما أن تكون هي ما فوقها وتحتها أولا تكون هي ذلك فإنه

ص: 500

في الموضعين لابد أن يتصور عظيمًا مطلقًا مشارًا إليه ويُشْرك بين العظيم الشاهد المشار إليه وبين العظيم الغائب المشار إليه في ذلك لكن قوله لا يعقل أبلغ من قوله لانعلم أو لم نشهد لأن قوله لا نعلم أو لم نشهد إنما ينفي ما قد علمه وشهده دون ما لم يعلمه ويشهده بعد وقله لا يعقل ينفي أن يكون معقولاً في وقت من الأوقات ومتى لم يعقل العظيم المشار إليه إلا كذلك فالبرهان الشمولي إنما هو بناء على ما تصوره المستدل به وعَقَلَه في معنى العظيم المشار إليه فإن فرضية النقطة في ذلك العظيم المشار إليه وقوله إما أن تكون هي الأخرى أو لاتكون إنما فرض ذلك وقَدَّره فيما عقله وعلمه فارتسم في ذهنه وهو الذي يعقله من معنى العظيم المشار إليه فإن جاز أن يثبت الغائب على

ص: 501

خلاف ما يعقل بطل هذا البرهان وكان لمنازعه أن يُثبت واحدًا عظيمًا مشارًا إليه منزهًا عن التركيب وإن كان ذلك على خلاف ما يعقل من معنى العظيم المشار إليه وإن كان لا يثبت الغائب إلا على ما يعقل بطلت مقدمة الكتاب وبطل قوله إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه وبإثبات موجودين ليس أحدهما متصل بالآخر ولا منفصلاً عنه وهذا كلام في غاية الإنصاف لمن فهمه فإنا لم نقل إن هذا البرهان باطل لكن قلنا صحة مثل هذا البرهان يستلزم صحة مذهب الذي يقول إنه خارج العالم ويمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن كان البرهان صحيحًا صح قوله إنه فوق العرش وإن كان البرهان باطلاً لم يدل على أنه ليس فوق العرش

ص: 502

وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر وهو أن يقال ما قاله المنازع في مقدمة الكتاب مثل قوله الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ومنهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وتقريره لما ذكره عن معلم الصابئة المبدلين أرسطو حيث قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى

ص: 503

فيقال له قولك إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أولا يحصل هذا هو العقل الذي يهتدي به إلى معرفة الجسمانيات فإن الكلام في النقطة والخط وما يتبع ذلك من علم الهندسة وهو متعلق بمقادير الأجسام فإن كان مثل هذا الدليل حقًّا في أمر الربوبية بطلت تلك المقدمة التي قررت فيها أنه لا ينظر في الأمور الإلهية بالعقل الذي به تعرف الجسمانيات وإذا بطلت صح قول منازعك أن وجود موجود لا داخل العالم ولاخارجه ممتنع ومتى بطلت كان قول منازعك معلومًا بالبديهة والفطرة الضرورية التي لا معارض لها حيث لم يعلم فسادها إلا إذا بطل حكم العقل الذي به تعرف الجسمانيات في أمر الربوبية وإذا كان هذا الدليل لما أنه متعلق بالجسمانيات لا يجوز الاستدلال بمثله في أمر الربوبية فقد بطل هذا الدليل ولم يكن

ص: 504

لك طريق إلى إفساد قول من يقول إنه فوق العالم وفوق العرش وإنه مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف أو يقول ليس بجسم كما ذكرنا القولين فيما تقدم يوضح ذلك الوجه الثاني عشر هو أن علوه وكونه فوق العرش هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى والعلم والقول في صفات الموصوف يتبع العلم والقول في ذاته فإن كان مثل هذا الدليل حجة في صفاته نفيًا وإثباتًا كان حجة مثل حجة في ذاته نفيًا وإثباتًا لأن العلم بالصفة دون العلم بالموصوف محال فإذا قال لو كان فوق العرش لكان منقسمًا مركبًا مؤلفًا فإنما هو حكم على ذاته بأنها لا تكون فوق العرش إلا إذا كانت منقسمة مركبة مؤلفة والعلم بذلك ليس أظهر في العقل من العلم بأنه إذا كان موجودًا لم يكن إلا داخل العالم

ص: 505

أو خارجه فإن جميع ما ذكره من الحجج في معارضة قولهم إذا كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارجه هو بعينه يقال في قوله إذا كان فوق العرش مشارًا إليه فإما أن يكون منقسمًا وإما أن يكون حقيرًا بل تلك يقال فيها إنا نعلم بالاضطرار أنه فوق العالم ونعلم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه فهاتان قضيتان معينتان ونعلم بالاضطرار أن الموجودين فإما أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر بحيث هو كالعرض في الجسم وإما أن يكون مباينًا عنه ونعلم بالاضطرار أن وجود موجود لا يكون داخلاً في الآخر ولا خارجًا عنه محال فهذان علمان عامان مطلقان فإن جاز دفع هذه بأن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من

ص: 506

الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال فقول القائل إذا كان فوق العرش فإما أن يكون منقسمًا مركبًا وإما أن يكون بقدر الجوهر الفرد أولى بالدفع أن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال وكون الشيء الذي فوق غيره والذي يشار إليه بالحس لابد أن يكون منقسمًا أو حقيرًا هو من حكم الحس والخيال قطعًا يقرر ذلك الوجه الثالث عشر وهو أنك وسائر الصفاتية تثبتون رؤية الرب بالأبصار كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنك وطائفة معك تقولون إنه يرى لا في جهة ولا مقابلاً للرائي ولا فوقه ولا في شيء من جهاته الست وجمهور عقلاء بني آدم من مثبتة الصفاتية ونفاتها يقولون إن فساد هذا معلوم بالبديهة والحس ومن المعلوم أن كونه فوق

ص: 507

العرش غير منقسم ولا حقير أظهر للعقل من كونه مرئيًّا بالأبصار لا في شيء من الجهات الست فإن هذا مبني على أصلين كلاهما تدفعه بديهة العقل والفطرة أحدهما إثبات موجود لا في شيء من الجهات ولا داخل العالم ولا خارجه ولهذا كان عامة سليمي الفطرة على إنكار ذلك والثاني إثبات رؤية هذا بالأبصار فإن هذا يخالفك فيه من وافقك على الأول فإن كونه موجودً أيسر من كونه مرئيًّا فإذا كنت تجوز رؤية شيء بالأبصار لا مقابل للرائي ولا في شيء من جهاته الست فكيف تنكر وجود موجود فوق العالم وليس بمركب ولا بجزء حقير وهو إنما فيه إثبات وجوده على خلاف الموجود المعتاد من بعض الوجوه وذلك فيه إثباته على خلاف الموجود المعتاد من وجوه أعظم من ذلك ودليل ذلك أن جميع فطر بني آدم السليمة تنكر ذلك أعظم

ص: 508

من إنكار هذا وأن المخالفين لك في ذلك أعظم من المخالفين لك في هذا فإن كون الرب فوق العالم اظهر في فطر الأولين والآخرين من كونه مرئيًّا بل العلم بالرؤية عند كثير من المحققين إنما هو سعي محض أما العلم بأنه فوق العالم فإنه فطري بديهي معلوم بالأدلة العقلية وأما دلالة النصوص عليه فلا يحصيها إلا الله وما وقع في هذا من الغلط يكشفه الوجه الرابع عشر هو أن معرفة القلوب وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها أن ربها فوق العالم ودلالة الكتاب والسنة على ذلك وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها وكلام السلف في ذلك أعظم من كونه تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة أو أن رؤيته بالأبصار جائزة ويَشْهد لهذا أن الجهمية أول ما ظهروا في الإسلام في أوائل المائة الثانية وكان حقيقة قولهم في الباطن تعطيل هذه الصفات كلها كما ذكر ذلك الأئمة لايصفونه إلا بالسلوب المحضة التي لا تنطبق إلا على المعدوم وقد ذكر هذا

ص: 509

المؤسس أن جهمًا ينفي الأسماء كلها أن تكون معانيها ثابتة لله تعالى وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى أو أن يتكلم بالقرآن أو غيره أو يكون فوق العرش أو أن يكون موصوفًا بالصفات التي جاءت بها الكتب وعُلمت بدليل من الدلائل العقلية وغيرها لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس إلا ما هو

ص: 510

أبعد عن أن يكون معروفًا مستيقنًا من الدين عند العامة والخاصة وأقرب إلى أن يكون فيه شبهة ولهم فيه حجة ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية والشرعية والقياسية وغير ذلك فهذا شأن كل من أراد أن يُظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم فإن شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداء ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة فإنهم لا يتمكنون ومما عليه العلماء أن مبدأ الرفض كان من الزنادقة

ص: 511

المنافقين ومبدأ التَّجهم كان من الزنادقة المنافقين بخلاف رأي الخوارج والقدرية فإنه إنما كان من قوم فيهم إيمان لكن جهلوا وضلوا ولهذا لما نبغت القرامطة الباطنية وهم يتظاهرون بالتجهم والرفض جميعًا وهم في الباطن من أعظم بني آدم كفرًا وإلحادًا حتى صار شعارهم الملاحدة عند الخاص والعام وهم كافرون بما جاءت به الرسل مطلقًا ومن أعظم الناس منافقة لجميع الناس من أهل الملل المسلمين واليهود

ص: 512

والنصارى وغير أهل الملل وضعوا الرأي الذي لهم والتدبير على سبع درجات سموا آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وكان من وصيتهم لدعاتهم أن المسلمين إذا أتيتهم فلا تأت هؤلاء الذين يقولون الكتاب والسنة فإنهم صعاب عليك لا يستجيبون لك ولكن ائتهم من جهة التشيع فأظهر الموالاة لآل محمد والتعظيم لهم والانتصار لهم والمعاداة لمن ظلمهم واذكر من ظلم الأولين لهم ما أمكن فإن ذلك يوجب أن يستجيب لك خلق عظيم وبذلك يمكنك القدح في دينهم أخيرًا ثم ذكر درجات دعوته درجة

ص: 513

درجة كيف تُدْرِجُ الناس فيها بحسب استعدادهم وموافقتهم له بما يطول وصفه هنا

ص: 514

وإنما الغرض التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل والأقرب إلى موافقة الناس إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين وهذا مما يفعله بعض أهل الحق أيضًا في دعوة الناس إلى الحق شيئًا بعد شيء بحسب ما تقتضيه الشريعة وما يناسب حاله وحال أصحابه

ص: 515

وإذا كان كذلك فالجهمية الذين كان باطن أمرهم السلب والتعطيل لما نبغوا لم يكونوا يظهرون للناس إلا ما هو أقل إنكارًا عليهم فأظهروا القول بأن القرآن مخلوق وأظهروا القول بأن الله لايرى وكانت مسألة القرآن عندهم أقوى ولهذا أفسدوا من أفسدوه من ولاة الأمور في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون وأخيه أبي إسحاق المعتصم

ص: 516

والواثق جعلوا هذه المسألة يمتحنون بها الناس

ص: 517

وأظهروا أن مقصودهم إنما هو توحيد الله تعالى وحده لأنه هو الخالق وكل ما سواه مخلوق وأن من جعل شيئًا ليس هو الله تعالى وقال إنه غير مخلوق فقد أشرك وقال بقول النصارى ونحو ذلك فصار كثير ممن لم يعرف حقيقة أمرهم يظن أن هذا من الدين ومن تمام التوحيد فضلوا وأضلوا وكانوا يتظاهرون بأن الله لا يرى لكن لم يجعلوا هذه المسألة المحنة لأنه لا يظهر فيها من شبهة التوحيد العامة بما يظهر في أن كل ما سوى الله مخلوق وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقهم وان المقصود بقولهم إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول وبهذا تتعطل سائر الصفات من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءت به الكتب الإلهية وفيه أيضًا قدح في نفس الرسالة فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله فإذا قدح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحًا في رسالة المرسلين فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحًا عظيمًا

ص: 518

في كثير من أصلي الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لكن كثيرًا من الناس لا يعلمون ذلك كما أن كثيرًا من الناس لا يعلمون باطن حال القرامطة لأنهم إنما يظهرون موالاة آل محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن كل مؤمن يجب عليه أن يواليهم وإن أظهروا شيئًا من التشيع الباطل الذي يوافقهم عليه الشيعة الذين ليسوا زنادقة ولا منافقين لكن فيهم جهل وهوى تلبس عليهم فيه بعض الحق كما أن هؤلاء الجهمية وافقهم بعض العلماء والأمراء في بعض ما يظهرونه من لم يكن من الزنادقة المنافقين لكن كان فيهم جهل وهوى تلبس به عليهم نفاقهم العظيم قال الله تعالى في صفة المنافقين لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا

ص: 519

زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر الله أن المنافقين لا يزيدون المؤمنين إلا خبالاً وإنهم يوضعون خلالهم أي يبتغون بينهم ويطلبون لهم الفتنة قال الله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر أن في المؤمنين من يستجيب للمنافقين ويقبل منهم فإذا كان هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان استجابة بعض المؤمنين لبعض المنافقين فيما بعده أولى ولهذا استجاب لهؤلاء الزنادقة المنافقين طوائف من المؤمنين في بعض ما دعوهم إليه حتى أقاموا الفتنة وهذا موجود في الزنادقة الجهمية والزنادقة الرافضة والزنادقة الجامعة للأمرين وأعظمهم القرامطة والمتفلسفة ونحوهم فإن متقدمي الرافضة لم يكونوا جهمية بخلاف المتأخرين

ص: 520

منهم فإنه غلب عليهم التجهم ولهذا كانت الشيعة المتقدمون خيرًا من الخوارج الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما كثير من متأخري الرافضة فقد صار شرًّا من الخوارج بكثير بل فيهم من هو من أعظم الناس نفاقًا بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفوقهم أو دونهم ولهذا قال

ص: 521

البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهودي والنصراني ولايسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم قال وقال عبد الرحمن بن مهدي هما ملتان فاحذروهم الجهمية والرافضة إذا عرف ذلك فالجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق وأظهروا أن الله لا يرى في الآخرة ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وإنما كان العلماء يعلمون هذا منهم بالاستدلال والتوسم كما يعلم المنافقون في لحن القول قال

ص: 522

الله تعالى وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد 30] فأقسم سبحانه وتعالى أن المنافقين لتعرفنهم في لحن القول وهذا كما قال حماد بن زيد الإمام الذي هو من أعظم أئمة الدين القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله وقال أيضًا سليمان بن حرب سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عباد بن العوام الواسطي كلمت بشر المريسي

ص: 523

وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عبد الرحمن بن مهدي ليس في أصحاب الهواء شر من أصحاب جهم يَدُورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا وقال أيضًا أصحاب جهم يريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا

ص: 524

وقال عاصم بن علي ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربًا وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا هكذا وجدت هذا عنه في كتاب خلق الأفعال للبخاري والأول رواه ابن أبي حاتم عن عاصم بن علي بن عاصم في كتاب

ص: 525

الرد على الجهمية وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحدًا يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة والله لقد فررت إلى اليمن حين تكلم أبو العباس ببغداد بهذا فرارًا من هذا الكلام

ص: 526

وقال وكيع بن الجراح من كذب بحديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله

ص: 527

إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فهو جهمي فاحذروه قال وكيع أيضًا لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل وقال الحسن بن موسى الأشيب وذكر الجهمية فنال

ص: 528

منهم ثم قال أُدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له سمعلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك

ص: 529

فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية الجهمي إذا غلا قال ليس ثم شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هم اثنان خالق خير وخالق شر فضرب عنقه وصلبه ومثل هذا كثير من كلام السلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية وخلق القرآن ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك أن الله ليس على العرش ويجعلون هذا منتهى قولهم وأن ذلك تعطيل للصانع وجحود للخالق إذ كانوا لا يتظاهرون بذلك بين المؤمنين كما كانوا يظهرون مسألة الكلام والرؤية لأنه قد استقر في قلوب المسلمين بالفطرة الضرورية التي خلقوا عليها وبماجاءتهم به الرسل من البينات والهدى وبما اتفق عليه أهل الإيمان من ذلك مما لا يمكن الجهمية إظهار خلافه وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فهذا يبين أن الاعتراف بأن الله فوق العالم في العقل والدين

ص: 530

أعظم بكثير من الاعتراف بأن الله يرى في الآخرة وأن القرآن غير مخلوق فإذا كان هؤلاء الشرذمة الذين فيهم من التجهم ما فيهم مثل الرازي وأمثاله يقرون بأن الله يرى كان إقرارهم بأن الله فوق العالم أولى وأحرى فإنه لا يَرِد على مسألة العلو سؤال إلا ويَرِد على مسألة الرؤية ما هو أعظم منه ولا يمكنهم أن يجيبوا لمن يناظرهم في مسالة الرؤية بجواب إلا أجاب من يناظرهم في مسألة العرش بخير منه فإن نفاة الرؤية قالوا إن أحد حججهم الواحد منا لايرى إلا ما يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي والله يستحيل أن يكون كذلك فيستحيل أن يكون مرئيًّا لنا قالوا واحترزنا بقولنا أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من العلوم

ص: 531

الضرورية الحاصلة بالتجربة وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها احتجوا بهذه الحجة وبحجة الموانع وهو أنه لو صحت رؤيته لوجبت رؤيته الآن لارتفاع موانع الرؤية وثبوت شروطها وهي صحة الحاسة وحضور المرئي وأن لا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية ولا تكون الحجب حاصلة وزعموا أن هذه الشروط متى وجدت وجبت الرؤية وإذا انتفى بعضها امتنعت الرؤية قال الرازي وهاتان الطريقتان يعني حجة الموانع

ص: 532

وحجة المقابلة عليهما تعويل المعتزلة في العقليات يعني في مسألة نفي رؤية الله تعالى وقال في الجواب عن هذه الحجة من وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى أن المقابلة ليست شرطًا لرؤيتنا لهذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام الثاني سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فلم قلتم إنها تكون شرطًا في صحة رؤية الله تعالى فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه

ص: 533

الأشياء فلا يلزم من اشتراط في رؤية نوع من جنس اشتراط رؤية نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين الله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي لا يقال ليس في الأمة أحد قال إنه يصح أن يكون مرئيًّا مع أنه يستحيل منا رؤيته فيكون مردودًا بالإجماع لأنا نقول إنا لا نسلم أن أحدًا من الأمة لم يقل بذلك فإن أصحاب المقالات قد حكوا ذلك عن جماعة وهو قد ذكر قبل في مسألة كون الله سميعًا بصيرًا من

ص: 534

دعوى الضرورة في هذه الأمور ومن مقابلة الدعوى بالمنع ما هو أعظم مما يكون في مسألة العرش فإن قيل هذا يبين أن مسألة العلو أظهر في الفطرة والشريعة من مسألة الرؤية فلأي شيء هؤلاء أقروا بهذه وأنكروا تلك قيل أن سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن وإنكار الرؤية ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو كما تقدم فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأصحابهما فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين بسبب ظهور الخلاف

ص: 535

فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضًا في إنكار أن الله فوق العرش كما تقدم ذكره من كلامهم لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم ومباحثهم في مسألة حدوث العالم والكلام في الأجسام والأعراض هو من الكلام الذي ذمه الأئمة والسلف حتى قال محمد بن خويز منداد أهل البدع والهواء عند مالك

ص: 536

وأصحابه هم أهل الكلام فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعريًّا كان أو غير أشعري وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل

ص: 537

الفاسدة وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة مالا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة ونحوهم فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي

ص: 538

هاشم بن أبي علي الجبائي وكان من أذكياء العالم وكان هو وأبو الحسن الأشعري كلاهما تلميذًا لأبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار ولا يكفرون أحدًا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة فناقض المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإٍِن

ص: 539

كان يخالفه في كثير من المسائل وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على

ص: 540

العرش وهذا عكس الواجب ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم حتى يقول قائلهم من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله أو نحو هذا الكلام ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم وصاروا يفزعون منهم ويجنبون عنهم ويستطيلون على إخوانهم المؤمنين وبسبب ما وقع في أهل الإيمان والسيف وأهل العلم والقلم أديلت عليهم الأعداء كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [آل عمران 155] حتى إن بعض الأعيان الذي كان في باطنه ميل إلى الفلسفة والاعتزال ولا يتظاهر بذلك درس مسألة

ص: 541

الرؤية من جانب المثبتين وذكر حجتهم فيها ولا ريب أن ذلك يُظْهر من استطالة المعتزلة عليهم ما يشفي به قلبه ولهذا صار كثير من أهل العلم والحديث يصف أقوال هؤلاء بأن فيها نفاقًا وتناقضًا حيث يوافقون أهل السنة والجماعة على شيء من الحق ويخالفونهم فيما هو أولى بالحق منهم ويفسرون ما يوافقون فيه بما يحيله عن حقيقته وهذا كله لما وقع من الاشتباه عندهم في هذه المسائل ولما تعارض عندهم من الدلائل والله هو المسئول أن يغفر لجميع المؤمنين ويصلح لهم أمر الدنيا والآخرة والدين إنه على كل شيء قدير وهذا القدر الذي يوجد في هؤلاء قد يوجد من جنسه في منازعيهم من أهل الإثبات بحيث يَعْظُم اهتمامهم لما ينازعون فيه إخوانهم الذين يوافقونهم في أكثر الإثبات من أدقِّ

ص: 542

مسائل القرآن والصفات وغير ذلك بحيث يوالون على ذلك ويعادون عليه مع إعراضهم عمن هم أبعد من هؤلاء عن الحق والسنة حتى يفضي بكثير منهم الجهل والظلم إلى أن يحب أولئك ويثني عليهم لما يرى فيهم من نوع خير أو أنه لا يبغضهم ولا يذمهم مع أنه يبغض هؤلاء ويذمهم وهذا من جهله بحقيقة أحوال الناس ومراتب الحق عند الله ومن ظلمه حيث يكون غضبه لنفسه لما يناله من أذى هؤلاء أحيانًا أعظم من غضبه لربه فيما فعله أولئك والدين إنما يقوم بالعلم والعدل المضاد للجهل والظلم وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله والله تعالى يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين على ما يحبه ويرضاه الوجه الخامس عشر قوله واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فإنهم زعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة فلا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل

ص: 543

يقال قولك عن الحنابلة إنهم يقولون بالتأليف والتركيب ويعبرون بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض أتعني به أنهم يطلقون هذا اللفظ أم تعني به أنهم يثبتون الصفات المستلزمة لهذا المعنى فإن عنيت الأول فلم نعلم أحد من الحنابلة يطلق هذا اللفظ كله وإن كنت أنت اطلعت على أحد منهم يقول هذا اللفظ فهذا ممكن لكن يكون هؤلاء طائفة قليلة منهم والذي بلغنا من ذلك أن لفظ البعض جاء في كلام طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وهو مذكور في كتب السنة جاء عن عبيد بن

ص: 544

عمير من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه ورواه عنه حماد بن سلمة وصرح به ورواه سفيان الثوري وأظنه اختصربعضه ورواه سفبان بن عيينة فكنى عنه وكذلك

ص: 545

في خبر مسألة رؤية محمد ربه شيء يشبه ذلك من كلام

ص: 546

عكرمة عن ابن عباس ثم ذلك ليس مختصًّا بالحنابلة ولا هو فيهم أكثر منه في

ص: 547

غيرهم بل يوجد في الشافعية والمالكية والحنفية والصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام من الإمامية وغيرهم من يطلق من هذه الألفاظ أمورًا لا يصل إليها أحد من الحنابلة فما من نوع غلو يوجد في بعض الحنابلة إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه وهذا موجود في كتب المقالات وكتب السنة وكتب الكلام وفي طوائف بني آدم المعروفين وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع وبينا سبب ذلك أن الإمام أحمد له من الكلام في أصول الدين وتقرير ما جاءت به السنة والشريعة في ذلك ما هو عليه جماعة المؤمنين وإظهار دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك والرد على أهل الأهواء والبدع المخالفين للكتاب والسنة في ذلك أعظم مما لغيره لأنه ابتلى بذلك أكثر مما ابتلى به غيره ولأنه اتصل إليه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم والأئمة بعدهم أعظم مما

ص: 548

اتصل إلى غيره فصار له من الصبر واليقين الذي جعلهما الله تعالى سببًا للإمامة في الدين بقوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24} [السجدة 24] ما جعله الله له من الإمامة في أصول الدين السّنية الشرعية ما أنعم الله به عليه وفضله به فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء

ص: 549

ولهذا مازال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة مُتَّبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فإنهم يقولون نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة بل لأنه أظهر من السنة التي

ص: 550

اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهره غيره فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه وظهور المخالفين للسنة وقلة أنصار الحق وأعوانه حتى كانوا يشبهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة وعمر يوم

ص: 551

السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم

ص: 552

حروراء ونحو ذلك

ص: 553

فيما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقامت فيه مقامهم وكذلك سائر أئمة الدين كل منهم يخلف الأنبياء والمرسلين بقدر ما قام به من ميراثهم وما خلفهم فيه من دعوتهم والله يرضى عن جميع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وإن كان يعني بالتركيب والتأليف واعترافهم بالأجزاء والأبعاض هو إثباتهم للصفات التي ورد بها الكتاب والسنة مثل الوجه واليدين ونحو ذلك فهذا قول جميع سلف الأمة وأئمتها وجميع المشهورين بلسان الصدق فيها من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وهو قول الصفاتية قاطبة من الكلابية والكرامية والأشعرية وقد ذكر محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له هذه المسألة وأثبت صفة الوجه

ص: 554

واليد فقوله عن الكرامية إنهم لا يثبتون ذلك إن أراد به بعضهم فلعله يكون وإلا فلا ريب أن فيهم من يثبت هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد التي يسميها هو الجوارح والأبعاض ويطلقون أيضًا لفظ الجسم إما لفظًا وإما لفظًا ومعني وأما الحنبلية فلا يعرف فيهم من يطلق هذا اللفظ لكن فيهم من ينفيه وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وهوالذي كان عليه الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وإن كانوا مع ذلك يثبتون ما جاءت به النصوص مما يسميه المنازعون تجسيمًا وتشبيهًا بل يقولون إثبات هذه المعاني أحق بمعنى التجسيم ممن يثبت

ص: 555

لفظه دون معناه وكذلك قوله عن الكرامية إنهم زعموا أنه غير متناهٍ فهذا إنما هو قول بعضهم كما تقدم ذكره لذلك وأن منهم من يقول هو متناهٍ ثم إن كلا من القولين ليس من خصائص الكرامية بل النزاع في ذلك مشهور عن غيرهم وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من النزاع فيما ذكره الأشعري في المقالات وكذلك قولهم لا يقبل القسمة هذا اللفظ قد يطلقه طوائف منهم ومن غيرهم وقد لا يطلقه طوائف لما فيه من الإجمال والتناقض فالذي يقال على الكرامية بإثباتهم واحدًا فوق العرش لا ينقسم أو يشار إليه ولا ينقسم يقال على غيرهم ففي الطوائف الأربعة من الفقهاء كثير ممن يقول نحو ذلك وكذلك

ص: 556

ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه يقولون نحو ذلك فإن كان كل من قال إنه فوق العرش وقال إنه ليس بجسم أو أثبت له هذه الصفات التي وردت بها النصوص كالوجه واليد وقال مع ذلك إِنه ليس بجسم يرد عليه ذلك فإنه يلزمه أنه يشار إليه بحسب الحس وأنه واحد لا ينقسم هذه القسمة التي زعمها ولهذا نجد في هذه الطوائف منازعة بعضهم لبعض في ذلك كما يوجد في أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وكذلك يوجد في أصحاب الأشعري من يتنازعون في ذلك فنفاة الجهة منهم يقولون إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون إن الله تعالى فوق العرش وإِنه ليس بجسم متناقضون وكذلك

ص: 557

نفاة الصفات الخبرية يقولون إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون ومثبتة العلو منهم والصفات الخبرية يقولون إن نفاة ذلك منهم يتناقضون حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوق كالعلم والقدرة والحياة قالوا وليس هو بعرض في حق الخالق ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه ويقولون ليس بجسم في حق الخالق وكذلك أصحاب الإمام أحمد فطائفة منهم كابن عقيل وصدقة بن الحسين وأبي الفرج بن الجوزي قد يقولون إن ابن حامد والقاضي أبا يعلى

ص: 558

وأبا الحسن بن الزاغوني ونحوهم متناقضون حيث ينفون الجسم ويثبتون هذه الصفات وجمهورهم يقول بل هؤلاء هم المتناقضون الذين يثبتون الشيء تارة وينفونه أخرى كما هو معروف من حالهم واجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد أعظم من اجتماعهما في لوازمه وملزوماته فإن كان كل منهما في وقتين فالأول أعظم وكذلك إن كانا في وقت واحد وأماإن كان الأول في وقتين والثاني في وقت واحد فهذا أبلغ من وجه وهذا أبلغ من وجه ويقولون إن أولئك متناقضون حيث يسلمون ثبوت الصفات التي هي فينا أعراض ويمنعون ثبوت الصفات التي هي فينا أجسام الوجه السادس عشر قوله فلا جرم صار

ص: 559

قول الكرامية على خلاف بدهية العقل يقال هذا العقل الذي هذا على خلاف بديهته إما أن يكون حكمه وشهادته في الربوبية مقبولاً أو مردودًا فإن لم يكن مقبولاً لم يضر هؤلاء ولا غيرهم مخالفته فإنه بمنزلة الشاهد الفاسق الذي قال الله تعالى فيه إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] وإن كان حكمه وشهادته مقبولاً كان هذا المنازع وموافقوه أعظم مخالفة له من هؤلاء كما قد تقدم بيان ذلك وإذا كان مخالفة قولهم لبديهة العقل أعظم من قول هؤلاء لم يجب على هؤلاء أن يرجعوا عن القول الذي هو أقل مخالفة لبديهة العقل بل يكون الواجب على هذا التقدير على الطائفتين الاعتراف بما في بديهة العقل فيعترفون جميعًا بأنه فوق

ص: 560

العالم ويمتنع أن يكون لا داخله ولا خارجه وحينئذ يكون مشارًا إليه بحسب الحس وحينئذ يكون فيه ما سماه تأليفًا وانقسامًا وإن لم يكن هو المعروف من التأليف والانقسام فإن المعروف من ذلك يجب تنزيه الله تعالى عنه كما نزه عنه نفسه في سورة الإخلاص كما تقدم التنبيه عليه بقوله تعالى الله الصمد فإن الصمد فيه من معنى الاجتماع والقوة والسؤدد ما ينافي الانقسام والافتراق الوجه السابع عشر أنه ورد من جهة المنازع تشبيه بالمعدوم وذلك أن النفاة كثيرًا ما يصفون أهل الإثبات بالتشبيه والتجسيم الذي هو التأليف ومن المعلوم أنهم أحق بالتشبيه الباطل حيث يشبهونه بالمعدومات والناقصات وهم يجمعون بين التمثيل والتعطيل بينما هو قول المشركين الذين هم

ص: 561

بربهم يعدلون وقول الكافرين الذين هم لربهم جاحدون وذلك أنهم يقولون إن كل ما هو عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ونحو ذلك فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه متحيز والمتحيزات كلها متماثلة ويقولون كل ما هو فوق شيء فإنه من جنس واحد متماثل لأنه متحيز والمتحيزات متماثلة ويقولون كل ما له سمع وبصر فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه من المتحيزات التي هي متماثلة وهذا كله قول الجهمية المعتزلة وغيرهم وقد سلك الرازي ذلك في قوله إن الأجسام متماثلة لكن قصده به نفي العلو على العرش ونفي الصفات الخبرية وأما المعتزلة ونحوهم من الجهمية الذين ابتدعوا هذا القول أولاً فمقصودهم به النفي المطلق وكل ذلك بناء على أن جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا في كل ما هو موصوف به حتى إن غاليتهم من الملاحدة والجهمية يقولون كل ما يقال له حي

ص: 562

وعالم وقادر فهو جنس واحد متماثل هؤلاء جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا وندًّا في كل ما له من الأسماء والصفات حتى لزم من ذلك أن يكون كل جسم عدلاً لله ومثلاً وكفوًا حتى البقة والبعوضة وأن يكون كل حي عَدْلاً لله وكفوًا وسميًّا وكل ذلك بناء على أن كل ما هو مسمى بهذه الأسماء موصوف بهذه الصفات فإنه جنس واحد متماثل وهذا من أعظم العدل بالله وجعل الأنداد لله ثم إنهم نفوا ذلك عن الله فجحدوه بالكلية وعطلوه فصاروا مشركين معطلين ولهذا جوز الاتحادية منهم عبادة كل شيء وجعلوا كل شيء عابدًا ومعبودًا وجوزوا كل شرك في العالم فجمعوا جميع ما عليه المشركون من الأقوال والأفعال فهذا تمثيلهم وعدلهم بالله وإشراكهم به وتشبيههم إياه بخلقه فيما لله من صفات الإثبات وأما عدلهم وتمثيلهم فيما يصفونه به من السلوب فهم

ص: 563

يعدلونه بالمعدوم تارة وبالمنقوصات أخرى فإنهم تارة يصفونه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم فيكونون عادلين به المعدومات وقد قدمنا فيما مضى أن الله سبحانه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيًّا وأما الصفة السلبية التي لا تتضمن ثبوتًا فلا يوصف بها إلا المعدوم وبينَّا أيضًا أن كل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح لله تعالى لأن تلك الصفة لا مدح فيها بحال إذ المعدوم المحض لا يمدح بحال وما ليس فيه مدح فإن الله لا يوصف به سبحانه وتعالى بل له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ولما ذكرناه أيضًا فيما تقدم وأما تمثيلهم له وعدلهم إياه بالمنقوصات القبيحات من المخلوقات فقولهم إنه لا يتكلم وإن وصفوه بالكلام ظاهرًا موافقة للمؤمنين فمعناه عندهم أنه خلق كلامًا في غيره

ص: 564

وكذلك قولهم إنه ليس له سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك وإذا كان كذلك ظهر ما ذكر من جهة المنازع فإن المنازع قلب عليهم القضية وقال إذا ألزمتمونا أن نجعله كالجوهر الفرد فأنتم جعلتموه كالمعدوم وذلك أنه لما قال إنه لا يمكن أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر لأن ذلك حقير وذلك على الله محال فقال المنازع أنتم قلتم لا يمكن الإحساس به أو الإشارة إليه بحال والذي لا يمكن الإحساس به ولا الإشارة إليه يكون كالمعدوم فيكون أشد حقارة فإذا جاز وصفكم بهذا فلم لا يجوز الأول وهو كلام قوي جدًّا والمنازع وأصحابه يعلمون صحة هذا الكلام لأنهم يقرون في مسألة الرؤية أن كل موجود يجوز أن يحس بالحواس الخمس ويلتزمون على ذلك أن الله يجوز أن يحس به

ص: 565

بالحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وأن مالا يحس به بالحواس الخمس لا يكون إلا معدومًا فعامة السلف والصفاتية على أن الله يمكن أن يُشْهد ويُرى ويحس به وأول من نفى إمكان إحساسه الجهم بن صفوان لما ناظره السُّمنية المشركون الوجه الثامن عشر أنه قال في الجواب أما قولهم الذي لا يُحَس ولا يُشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أماإذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة

ص: 566

يقال له هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت أثبت تنزيهه عن الحيز بهذه الحجة التي جعلت من مقدماتها أنه ليس بحقير بقدر الجوهر الفرد فقيل لك ما لا يمكن الإشارة إليه وإحساسه أحقر من الجوهر الفرد وقد وصفته بذلك فلا يكون وصفه بقدر الجوهر الفرد محالاً على أصلك فقلتَ أما كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم إذا كان له حيز ومقدار وأما إذا كان منزهًاعن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة فيقال لك الكلام إنما هو في تنزيهه عن الحيز والمقدار فأنت تنفي ذلك ومنازعك يثبته وهو محل النزاع فإذا كان جوابك مبنيًّا على محل النزاع كنت قد صادرت منازعك على المطلوب حتى جعلت المطلوب مقدمة في إثبات نفسه والمقدمة لابد أن

ص: 567

تكون معلومة أو مسلمة فتكون قد طلبت منه تسليم الحكم قبل الدلالة عليه وادعيت علمه قبل حصول علمه وقد صادرته عليه وطلبت منه أن يسلمه لك بلا حجة وإيضاح هذا أن العلم بكونه إذا وصفته بأنه لا يُحس ولا يُشار إليه ليس بأحقر من الجوهر الفرد إما أن يقف على العلم بكونه ليس بذي حيز ومقدار أو لا يتوقف فإن توقف عليه لم يصح هذا الجواب حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ومقدار حتى يتم الجواب عما أُورد على الحجة فإذا كان جواب الحجة لا يتم حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ولا مقدار ولا يثبت ذلك حتى يتم جواب الحجة لم يكن واحدًا منهما حتى يكون الآخر قبله وذلك دور ممتنع وإن كان العلم بكونه ليس أحقر من الجوهر الفرد إذا وصف بأنه لا يحس ولا يشار إليه لا يقف على العلم بأنه ليس بذي حيز

ص: 568

ومقدار لم يصح هذا الجواب وهو قولك كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره بل كان الجواب أن يقال لا يلزم أن يكون أحقر من الجوهر الفرد سواء قيل إِنه ذو حيز ومقدار أو لم يقل ذلك لكنه لو قال ذلك لظهر أن كلامه باطل فإنه يعلم بالحس والضرورة أن كل ما كان ذا حيز ومقدار قيل إنه لا يحس ولا يشار إليه فإنه أصغر من الجوهر الفرد ومما يوضح الأمر في ذلك أن هذا السؤال الذي ذكره من جهة المنازع هو من باب المعارضة فإنه لما ذكر حجته على أنه ليس بذي جهة بأن ذلك يستلزم التركيب والحقارة قال له المعارض ما ذكرته من أنه لا يمكن إحساسه والإشارة إليه يستلزم أن يكون معدومًا وذلك أبلغ في الحقارة من الجوهر الفرد فقال له قولك يستلزم من الحقارة أعظم مما ألزمت به أهل الإثبات فأجاب عن المعارضة بمنع الحكم وأن صحته ملازمة لصحة قول المنازع وهذا من أفسد الأجوبة فإن المعارض يقول بل هو عندي ذو حيز ومقدار فلم قلت إنه ليس كذلك وهل النزاع إلا فيه وقولك أما إذا لم يكن ذا حيز ومقدار لم يلزم وصفه بالحقارة يقال لك من الذي سلم لك ذلك وهل النزاع إلا فيه وهذه الحجة التي ذكرتها إنما أقمتها

ص: 569

على نفي ذلك وهي لاتتم إلا بالجواب على المعارضة فكيف تجيب عن المعارضة المستلزمة لنقيض مذهبك بنفس مذهبك وهل هذا إلا بمنزلة أن يقدح المعترض في دليلك بأنه يستلزم نقيض مذهبه فإن قيل هو لم يجب عن المعارضة بنفس مذهبه لكن قال صحة المعارضة مبنية على نقيض مذهبه وهو لا يقول ذلك فهو يقول للمعترض مالم تثبت نقيض قولي لا تصح معارضتك وهو في هذا الباب في مقام المنع والمعترض يستدل وللمستدل الأول أن يمنعه بعض المقدمات ويجعل سند منعه أنه لا يقول بذلك فهو ذكر ذلك لإبداء سند المنع لا حجة للمنع فإن المانع المطالب بالدليل ليس عليه حجة فيقال المعترض لم يبن دليله على هذا بل ذكر أن ما لا يحس ولا يشارإليه معدوم أحقر من الجزء الذي لا يتجزأ فادعيت أن هذا إنما يلزم إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة فهذا الملزوم إنما تقول إنه لازم لدليله

ص: 570

أن دليله مستلزم لهذا فمتى صح دليله هذا فهذا القدر ينفعه ولا يضره لأنه يكون دليله حينئذ قد دل على شيئين على أنك جعلته أحقر من الجوهر الفرد وجعلته معدومًا وأنه ذو حيز ومقدار فيدل على صحة مذهبه وعلى أن مذهبك يستلزم أن الله معدوم هذا بإقراره أن دليله يستلزم صحة ذلك وإن قلت إن دليله يتوقف على صحة هذا بمعنى أنه لم يثبت أن الله ذو حيز ومقدار لم يثبت أنه إذا كان لايحس ولا يشار إليه أنه أصغر من الجوهر الفرد فهذا لم تثبته بل ادعيته دعوى ساذجة فلا تكون قد أجبت عن المعارضة وهو المطلوب وذلك أنه لا يسلم أنا إذا علمنا أن الشيء لا يحس ولا يشار إليه لم يعلم أنه معدوم حتى يعلم قبل ذلك أنه ذو حيز ومقدار بل قد يكون العلم بأنه ذو حيز ومقدار بعد ذلك أو قبله أو معه إذا كانا متلازمين وهذا لازم على أصلك وأصل أصحابك لزومًا قويًّا فإنكم

ص: 571

أنتم وسائر الصفاتية تسلمون أن كل موجود فإنه يمكن أن يحس وأن الذي لا يمكن إحساسه هو المعدوم وكثير من أهل السنة والحديث يقولون بأنه يلمس أيضًا وأنتم تريدون أنه يدرك بالحواس الخمس وأنتم تثبتون هذا مثل إثبات أنه ذو حيز ومقدار ولم يكن العلم بذلك موقوفًا على العلم بأنه ذو حيز ومقدار وإذا كنت قد قلت إن كونه موصوفًا بأنه أحقر من الجوهر الفرد فإذا كان لا يحس ولا يشار إليه فقد لزمك إما أن يكون معدومًا أو يكون ذا حيز ومقدار وإذا قلت إنه يحس بطل ما ذكرته هنا من أنه لا يحس ولا يشار إليه وهذا الذي يورده المنازع حُمِّد في النظر الصحيح في المناظرة العادلة فإِنه يظهر به من تناقض منازعه وضعف

ص: 572

حجة ما يدفعه به عنه ويظهر به من صحة حجته ما ينفع الناظر والمناظر وهذا يتقرر بالوجه التاسع عشر وهو أن هؤلاء المنازعين له الذين ينتصر لهم المؤسس يقولون إنه تجوز رؤيته بل يجوزون كونه مدركًا بإدراك اللمس بل يجوزون كونه مدركًا بغير ذلك من الحواس مع قولهم إنه ليس فوق العرش ولا يمكن أن يكون مشارًا إليه بالحس ولا يمكن أن يحس به لا ريب أنهم متناقضون في ذلك غاية التناقض فإن من المعلوم أن إدراك اللمس به أبعد من كونه مشارًا إليه بالحس أو كونه في جهة فإن لمس الإنسان قائمًا بذاته التي هي في جهة معينة فإدراكه الشيء بلمسه يقتضي من الاتصال به والملاصقة وكونه في جهة من اللامس وغير ذلك مالا يقتضيه مجرد كونه ترفع إليه الأيدي أو الأعين فإن من المعلوم أنا نشير إلى كل شيء من الموجودات التي نراها ومع هذا فلا يمكننا أن نلمس منها إلا بعضها فإذا جاز كونه باللمس فلأن يجوز كونه مشارًا إليه باليد والعين أولى وأحرى

ص: 573

وكذلك كل ما يلمسه فلا يكون إلا في جهة وكثيرًا ما يكون الشيء في جهة ولا يمكننا لمسه فكيف يجوز إثبات لمسه مع منع كونه في جهة أليس هذا تناقضاً محضاً بل هذا نفي الشيء مع إثبات ما هوأبلغ منه وتحريم الشيء مع استحلال ما هو أعظم منه كما قال ابن عمر يستفتوني في دم البعوضة وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كما قال تعالى قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ [البقرة 217] وهو بمنزلة من يقول إن الله لا يرى ولكن يُصافح ويُعانق وكذلك قولهم إنه يرى وقولهم إنه يتعلق به إدراك اللمس مع قولهم لا يمكن أن يحس به تناقض ظاهر وإذا كان ذلك تناقضًا منهم ومن المعلوم أن مسألة الرؤية ثابتة بالنصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع سلف الأمة وأئمتها فتكون صحتها مستلزمة لكونه يحس وذلك مستلزم لبطلان ما

ص: 574

قالوه في هذه المسألة فإن قيل دليلهم العقلي في الرؤية ضعيف قيل لا نسلم أنه ضعيف ثم إن كان ضعيفًا فليس هو بأضعف مما ذكروه في هذه المسألة فإن كان أضعف ظهر تناقضهم في النفي والإثبات في هاتين المسألتين الوجه العشرون أنهم قد قرروا في هاتين المسألتين هنا وهناك أن ما لا يمكن أن يشار إليه ويحس به يكون معدومًا وقرر هناك أن كل موجود فإنه يصح أن يرى وأن يلمس فيحس به ويلمس وهو أبلغ من الإشارات الحسية إليه وأن الله يصح أن يرى وأن يتعلق به إدراك اللمس فإن كل واحد من الرؤية واللمس مشترك بين الجوهر والأعراض فيتعلق بالله تعالى وهذا يوجب أن يكون الله يمكن أن يشار إليه ويمكن أن يحس به خلاف ماذكره هنا كما تقدم وقرر هنا أن ما كان كذلك فإنه يكون ذا حيز ومقدار وأنه يلزمه أن يكون منقسمًا مركبًا الانقسام والتركيب العقلي الذي ألزم به مخالفه هنا وهذا

ص: 575

يقتضي أنه من لوازم أصولهم التي هم معترفون فيها بالأصل وبلازم الأصل لم يلزمهم إياه غيرهم بالدليل بل هم اعترفوا به أن يكون الله له حيز ومقدار وأنه مركب مؤلف له أجزاء وأبعاض وهذا هو الذي أنكره في هذا الموضع وليس هذا من جنس ما يلزم الرجل غيره شيئًا بالحجة لكن هذا أقر بأن الله سبحانه وتعالى موصوف بوصف وأقر في موضع آخر أنه إذا كان موصوفًا بذلك الوصف لزم أن يكون كذا وكذا فمجموع الإقرارين أقر فيهما بما ذكرناه الوجه الحادي والعشرون أنه اعترف هنا أنه يكون أشد حقارة من الجوهر الفرد وأن يكون معدومًا إذا كان ذا حيز ومقدار وقلنا إنه لا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس وقد ذكر هنا أنه لا يمكن أن يشار إِليه ولا يمكن أن يحس به فلزم أن يكون معدومًا أحقر من الجوهر الفرد ولا ريب أن هذه حقيقة قولهم وقد اعترف هو بمقدمات ذلك لكن مفرقة لم يجمعها في موضع واحد إذ لو جمعها لم يخفَ عليه وهذا شأن المبطل الوجه الثاني والعشرون أن منازعه يقول قد ثبت بالفطرة الضرورية وبالضرورة الشرعية واتفاق كل عاقل سليم

ص: 576

الفطرة من البرية أن رب العالمين فوق خلقه وأن من قال إنه ليس فوق السموات رب يعبد ولا هناك إله يصلى له ويسجد وإنما هناك العدم المحض فإنه جاحد لرب العالمين مالك يوم الدين فإن اعتقد أنه مقر به وهذا يقتضي كما قلت أنه ذو حيز ومقدار وكلما كان ذا حيز ومقدار وهو لا يمكن الإشارة الحسية إليه ولا يمكن الإحساس به فإنه معدوم كما اعترف به وكما

ص: 577

هو معروف في الفطر وهو أحقر من الجوهر الفرد بلا ريب فثبت أن قولك يستلزم أن الباري معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد وهذا مما اتفق علماء السلف وأئمة الدين أن قول الجهمية أنه ليس فوق العرش ولا داخل العالم ولا خارجه يتضمن أنه معدوم لا حقيقة له ولا وجود وقد صرحوا بذلك في غير موضع وكذلك هو في جميع الفطر السليمة وإن أردت أن تلزمه عدمه من غير بناء على المقدار فيقال الوجه الثالث والعشرون أنه إذا عرض على الفطر السليمة التي لم تقلد مذهبًا تتعصب له شيء لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس به ولا هو في شيء من الجهات الست فإن الفطرة تقضي بأن هذا لا يكون موجودًا إلا أن يكون معدومًا وهذا قبل أن يخطر بفكر الإنسان الحيز والمقدار نفيًا وإثباتًا ثم بعد ذلك إذا علم أن الموجود أو أن هذا لا يكون إلا ذا حيز ومقدار كان ذلك لازمًا آخر يقرر مذهب المنازع لهذا المؤسس

ص: 578

الوجه الرابع والعشرون أن المنازعين له في مسألة الرؤية قالوا لهم ما ذكرتموه من الحجة يقتضي كون الباري مدركًا بإدراك اللمس وذلك لأنا من حيث اللمس نميز بين الطويل والأطول كما أن نميز من حيث البصر بين الطويل والأطول فإن اقتضى ذلك كون الأجسام مرئية اقتضى أن تكون ملموسة ولا شك أنا ندرك من حيث اللمس الفرق بين الحرارة والبرودة فإن إدراك اللمس معلق بالأجسام والأعراض فيعود ما ذكرتموه من الرؤية بتمامه في اللمس فيلزمكم تعلق اللمس للباري تعالى وأنه باطل بالضرورة وقال في الجواب إن أصحابنا التزموا ذلك ولا طريق إلا ذلك

ص: 579

وقال أيضًا قولهم لو كان الوجود علة لصحة رؤية الحقائق لصح منا رؤية الطعوم والعلوم وذلك معلوم الفساد بالضرورة قلنا دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة وذكر أيضًا أن المخالفين له في مسألة الرؤية يدعون العلم الضروري بوجوب الرؤية عند الشروط النهائية وامتناعها عند عدمها وهو ماإذا كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرًا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرًا جدًّا ولا لطيفًا ولا يكون بين المرئي والرائي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلاً للرائي أو في حكم المقابلة فتارة يَدَّعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد

ص: 580

الاختيار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة وقال في الجواب أما دعوى العلم الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور فلا نزاع فيه وأما العلم الضروري بعدمه عند عدمها ففيه كل النزاع قال فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تَغيُّرها عن مجاريها فإن الإنسان كما يستبعد أن يأخذ الحديدة المحماة بيده ولا يجد حرارتها فكذلك يستبعد أن يذهب إلى جَيْحُون فيجد ماءه بالكلية دمًا أو عسلاً ويرى

ص: 581

شخصًا شابًّا قويًّا مع أن ذلك الشخص حدث في تلك اللحظة من غير أب وأم على ذلك الوجه ويرى طفلاً رضيعًا مع أن ذلك الطفل كان مولودًا قبل ذلك بمائة ألف سنة على تلك الحال وليس استبعاد ما ذكروه بأقوى من هذه الأمور استبعادًا مع أن شيئًا من ذلك ليس بممتنع وكذا فيما ذكروه

ص: 582

قال واعلم أن تجويز انخراق العادات لازم على الفلاسفة أو المسلمين والمتكلمين وبين ذلك إلى أن قال فليس لأبي الحسين إلا دعوى الضرورة في أول المسألة وليس لنا في مقابلتها إلا المنع فإذا كانت هذه ثلاث قضايا ادعى منازعوه فيها العلم الضروري وهو يثبتها لإثبات رؤية موجود لا داخل العالم ولا خارجه كيف ينكر على منازعه فيما ادعاه من العلم البديهي بأن الموجود إذا كان خارج العالم لم يكن إلا منقسمًا أو حقيرًا مع أن هذا أظهر بوجوده

ص: 583

فصل قال الرازي البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصًّا بالحيز والجهة وذلك أنه لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان محتاجًا في وجوده إلى ذلك الحيز وتلك الجهة وذلك محال فكونه في الحيز والجهة محال بيان الملازمة أن الحيز والجهة أمر موجود والدليل عليه وجوه أحدها أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون

ص: 584

الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهيات وجب كونها أمورًا موجودة لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك الثاني هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات فإن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت بالإشارة والعدم المحض والنفي الصِّرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة

ص: 585

الحسية الثالث أن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز فالمتروك مغاير لا مَحَالة للمطلوب والمُنْتَقَل عنه مغاير للمُنْتَقَل إليه فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيز والجهة أمر موجود ثم إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة فثبت أنه تعالى لو كان مختصًّا بالجهة والحيز لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه الأول أن المفتقر في وجوده إلى الغير يكون في وجوده بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وكل ذلك في حق واجب الوجود

ص: 586

لذاته محال الثاني أن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لما بينا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر ويمكن وصفه بالزائد والناقص وكلما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته فلو كان الله مفتقرًا إليه لكان مفتقرًا إلى الممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بأن يكون ممكنًا لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودًا في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه في الحيز والجهة فإن قيل لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة

ص: 587

إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه تعالى كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الله تعالى مختصًّا بالحيز والجهة والجواب أما قوله الحيز والجهة ليس أمرًا موجودًا فجوابه أنا قد بينا بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك وأما قوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز

ص: 588

كونه منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو مباينًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لانزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لايكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة وهو كون الشيء بحيث يصح أن يشار إليه بأنه هاهنا أو هناك وهذا هو مراد الخصم من قولهم إنه تعالى مباين عن العالم أو منفرد عنه وممتاز عنه إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز

ص: 589

أمرًا موجودًا ويقتضي أن المتحيز يحتاج إلى الحيز قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق يقال هذه الحجة وغيرها من الحجج كلها مبنية على أن القول بكونه فوق العرش يستلزم أن يكون متحيزًا كما قدمه في الحجة الأولى فقد تقدم أن هذا فيه نزاع مشهور بين الناس من مثبتة الصفات ونفاتها فإن كثيرًا من الصفاتية من الكلابية والأشعرية وغيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون ليس بجسم وهو فوق العرش وقد يقولون ليس بمتحيز وهو فوق العرش إذا كان المراد بالمتحيز الجسم أو الجوهر الفرد

ص: 590

وكثير منهم من الكرامية والشيعة والفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون هو فوق العرش وهو جسم وهو متحيز ولكن منهم من يقول ليس بمركب ولا منقسم ولا ذي أجزاء وأبعاض ومنهم من لا ينفي ذلك وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم فألفاظهم فيها أنه فوق العرش وفيها إثبات الصفات الخبرية التي يعبر هؤلاء المتكلمون عنها بأنها أبعاض وأنها تقتضي التركيب وال انقسام وقد ثبت عن أئمة السلف أنهم قالوا لله حد وأن ذلك لايعلمه غيره وأنه مباين لخلقه وفي ذلك لأهل الحديث والسنة

ص: 591

مصنفات وهذا هو معنى التحيز عند من تكلم به من الأولين فإن هؤلاء كثيرًا ما يكون النزاع بينهم لفظيًّا لكن أهل السنة والحديث فيهم رعاية لألفاظ النصوص وألفاظ السلف وكثير من مبتغي ذلك يؤمن بألفاظ لا يفهم معانيها وقد يؤمن بلفظ ويكذب بمعنى آخر غايته أن يكون فيه بعض معنى اللفظ الذي آمن به ولهذا يطعن كثير من أهل الكلام في نحو هؤلاء الذين يتكلمون بألفاظ متناقضة لا يفهمون التناقض فيها لكن وجود هذا وأمثاله في أهل الكلام أكثر منه في أهل الحديث بأضعاف

ص: 592

مضاعفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب وإذا كان كذلك فالجواب عن هذه الحجة وأمثالها مبني على مقامين المقام الأول مقام من يقول إنه نفسه تعالى فوق العرش ويقول إنه ليس بجسم ولا متحيز كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري وكثير من الصفاتية فقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم وهو كثير فيهم فاش ظاهر منتشر والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية وقد تكلمنا بين الطائفتين فيما تقدم بما ينبه على حقيقة الأمر وتبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية وأعظم تناقضًا من هؤلاء وأن هؤلاء لا يع أحدهم في نظره ولا مناظرته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارًا مما ألزموه إياه من التناقض لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار فيكون الذي وقع فيه من

ص: 593

التناقض ومخالفة الفطرة والضرورة العقلية أعظم مما فر منه مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء أناأجد حرارتها وألمها فيقال له النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألمًا وإن كنت لا تجد حين وقوفك على الرمضاء بل تجدها حين تباشرها فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات وبقي ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين زيادة على ذلك ولهذا كان من هؤلاء المثبتة ممن له في الأمة من الثناء ولسان الصدق ما ليس لمن هو من أولئك وإن كان قد يذمه من وجه آخر فليس الغرض بيان صوابهم مطلقًا ولكن بيان أن طريقهم أقل

ص: 594

خطأ وطريق الأولين أعظم ضلالة فهذا أحد المقامين وقد تقدم بيانه فلا نعيده وأما المقام الثاني فهو مقام من يسلم له أنه فوق العرش وهو متحيز وله حد ونهاية ويطلق عليه أيضًا لفظ الجهة فإن أهل الإثبات متنازعون في إثبات لفظ الجهة وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كما أنهم متنازعون في اسم الحد أيضًا وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فنقول وعلى هذا التقدير فالكلام على هذا من وجوه الأول أن كلام هذا وغيره في حيز هل هو أمر وجودي أو عدمي أو إضافي مضطرب متناقض فإنه وإن كان قد قرر هنا أنه وجودي فقد قرر في غير هذا الموضع أنه عدمي ويكفي نقض كلامه بكلامه فإنا قد اعتمدنا هذا مرات فإن هذا موجود

ص: 595

في عامة هؤلاء تحقيقًا لقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [النساء 82] بخلاف الحق الذي يصدق بعضه بعضًا فقد ذكر في البرهان الرابع بعد هذا نقيض هذا فقال الوجه الرابع فيه أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية فيكون حكمها واحدًا وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين وقال فإن قيل لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى قلنا هذا باطل لوجهين أحدهما أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء

ص: 596

الصرف والعدم المحض فلم يكنْ هناك فوق ولا تحت الثاني أنه لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورًا موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك فهذا تصريح بأنها مختلفة في الحقائق وأنها خلاء صِرْف وفراغ محض وهذا يناقض ما ذكره هنا ومن لم يكنْ لسانه وراء قلبه كان كلامه كثير التقلب والتناقض وذكر في نهايته في مسألة حدوث العالم لما ذكر نزاع المنازع في أن الكون والحصول في الحيز أمر زائد على ذات الجسم وذكر أسئلتهم على دليله ثم قال وإن سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الحصول في الحيز زائد على ذات الجسم لكن معنا مايدل على نفي ذلك وهو أمور ثلاثة

ص: 597

الأول وهو أن الحصول أمر نسبي والأمور النسبية تستدعي وجود أمرين لتتحقق بينهما تلك النسبة فلو كان الحصول في الحيز أمرًا ثبوتيًّا للزم أن يكون الحيز أمرًا ثبوتيًا وهو باطل لأنه لو كان موجودًا لكان إما أن يكون حالاً في الجسم أو لا يكون حالاً فيه فإن كان حالاً في الجسم لم يكن الجسم حالاً فيه فلا يكون حيزًا للجسم وإن لم يكن حالاً فيه فإما أن يكون ذا حيز أو لا يكون والأول يقتضي التسلسل ثم ذكر الثاني والثالث وليس هذا ذكر موضعهما ثم إنه في الجواب سلَّم أن الحيز ليس أمرًا وجوديًّا وأجاب عما ذكروه فقال قوله الحصول في الحيز أمر نسبي

ص: 598

فوجوده في الخارج يستدعي وجود الحيز في الخارج قلنا هذا باطل بالعلم فإنه نسبة أو ذو نسبة بين العالم والمعلوم ثم إنا نعلم به المحالات ولا وجود لها في أنفسها مع أن النسبة المسماة بالعلم حاصلة موجودة فعلمنا أن وجود النسبة لا يقتضي وجود كل واحد من المنتسبين وقال في نهايته في آخر هذه الطريقة واعلم أن هذه الطريقة مبنية على جواز خروج كل جسم عن حيزه وقد دللنا على ذلك بما مر ويمكن أن يستدل عليه بوجوه أُخر منها أن نقول لو وجب حصول جسمين في حيز لكان الحيز الذي حصل فيه الجسم الآخر إما أن يكون مخالفًا للحيز الأول أو لا يكون فإن كان مخالفًا له كان أمرًا ثبوتيًّا لأن العدم الصِّرْف والنفي المحض لا يتصور فيه الاختلاف لأن المعقول في الاختلاف أن تكون حقيقته غير قائمة مقام الحقيقة الأخرى وذلك يستدعي حقائق متعينة في أنفسها وذلك في العدم محال ولما بطل ذلك ثبت أن الأحياز لو كانت

ص: 599

متخالفة لكانت أمورًا وجودية وهي إما أن يكون مشارًا إليها أو لا يكون والقسم الأول على قسمين إما أن تكون حالة في الأجسام فحينئذ يستحيل حصول الجسم فيها وإلا لزم الدور أو لا تكون حالة في الأجسام مع أنه يمكن الإشارة إليها وذلك هو المتحيز فيكون الحيز متحيزًا وكل متحيز فله حيز وللحيز حيز آخر ولزم التسلسل وإن لم يكن الحيز مشارًا إليه استحال حصول الجسم المشار إليه فيه قال فثبت أن الحيز نفي محض وأنه إذا كان كذلك استحال أن يخالف حيزًا وقال أيضًا في نهايته في الحجة الثانية على حدوث العالم وهو أنه ممكن وكل ممكن محدث وقرر إمكانه بوجوه منها الكلام الذي حكيناه عنه قبل هذا في تقرير أن

ص: 600

واجب الوجود لا يقال لا ينفي في ضمن الكلام على حجته على نفي الجسم وكون كل حيز هل يكون واجب الوجود أم لا فهي طريقة الفلاسفة التي قررها واستضعفها وفي ضمنها سؤال أورده وهو أنالا نسلم أن الوجوب أمر ثبوتي فيقال في الجواب قوله لا نُسلّم أن الوجوب أمر ثبوتي قلنا يدل عليه أمران وذكر أحدهما ثم قال الثاني أن المعقول من الوجوب استحقاق الوجود والعلم الضروري حاصل فإن استحقاق الوجود وصف ثبوتي كما أن العلم الضروري حاصل فإن حصول الجسم في الجهة أمر ثبوتي بل هاهنا أولى لأن حصول الجسم بالجهة عبارة عن انتساب مخصوص للجسم إلى الجهة والجهة أمر تقديري

ص: 601

لا وجود له فإذا كان العلم الضروري حاصلاً هناك مع هذا الإشكال فهاهنا مع عدم ذلك الإشكال أولى وقال أيضًا في نهايته في مسألة الجهة بعينها ما سنذكره عنه في آخر هذه الحجج وهو قوله لو كان الله حاصلاً في الحيز لكان إما أن يكون واجبًا أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز كان حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر هذه الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أمورًا وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضًا ولو كانت الأحياز أمورًا وجودية لكان إما أن تُمْكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسمًا فيكون الباري الحال فيه منقسمًا أو لا يكون منقسمًا فيكون ذلك

ص: 602

الشيء مختصًّا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إليه أي الحيز الذي حصل الباري فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه وكذلك قال في التأسيس في هذه الحجة الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن كلَّ ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي بل قد يقال إن المسمى بالجهة والحيز منه ما يكون وجوديًّا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية ولها جهات وجودية

ص: 603

وهو ما فوقها وما تحتهاونحو ذلك ومنه ما يكون عدميًّا مثل ما وراء العالم فإن العالم إذا قيل إنه في حيز أو جهة فليس هو في جهة وجودية وحيز وجودي لأن ذلك الوجودي هو من العالم أيضًا والكلام في جهة جميع المخلوقات وحيزها ولأن ذلك يفضي إلى التسلسل وهو لم يقم دليلاً على أن كل ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي وإذا لم يثبت ذلك لم يجب أن يقال إن الباري إذا كان في حيز وجهة كان في أمر وجودي وذلك لأن الأدلة التي ذكرها إنما تدل لو دلت على وجود تلك الأمور المعينة المسماة بالحيز والجهة فلم قلت إن كل ما يسمى بالحيز أو الجهة يكون موجودًا الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن الحيز لا يطلق إلا على المعدوم ولا يطلق على الموجود بحال وهذا قول كثير من المتكلمين الذين يفرقون بين الحيز والمكان ويقولون

ص: 604

العالم في حيز وليس في مكان وما في العالم في مكان والحيز عندهم هو تقدير المكان بمنزلة ما قبل خلق العالم ليس بزمان ولكنه تقدير الزمان وإذا كان أمرًا مقدورًا ومفروضًا لا وجود له في نفسه بطل ما ذكره لكن يحتاج على الجواب عن وجوهه الثلاث فأما الوجه الأول فإنه احتجاج بقول المنازع له إنه يجب أن يكون الله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات فإن كان قول المخالف حقًّا فقد صح مذهبه الذي تستدل على إبطاله ولم تسمع منه الدلالة على ذلك وإن كان باطلاً لم يدل على أن الحيز أمر وجودي فعلى التقديرين لا تكون هذه الحجة مقبولة لأنها إما أن تكون باطلة أو تكون مستلزمة لصحة قول المنازع فإن قال أنا ألزم المنازع بها قيل له فغاية ما في الباب أن تكون حجة جدلية احتججت فيها بكذب خصمك وهذا لا يكون برهانًا قاطعًا على أن الحيز أمر وجودي ثم يقال لك أنت من أين تعلم أو تفيد الناس الذين يسترشدون منك ولا يتقلدون مذهبًا أن الحيز أمر وجودي فإن

ص: 605

كنت تعلم ذلك وتعلمه لقول خصمك لزم صحته وبطل مذهبك وإن لم تحتج بقول خصمك الذي تدفعه عنه بَطُلَتْ هذه الحجة أن تكون طريقًا لك إلى العلم أو إلى التعليم والإرشاد وكان غايتها ذكر تناقض الخصم وللخصم عنها أجوبة لا نحتاج إلى ذكرها هنا وأما قوله في الوجه الثاني أن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الإشارة فيقال له إن كانت الإشارة إلى ما فوقنا من العالم وما تحتنا منه فلا ريب أن هذا موجود لكن ليس ذلك هو مسمى الحيز والجهة الذي ينازعونك في أن الله فيه فإنهم لم يقولوا إن الله في جوف العالم وإنما قالوا هو خارج العالم فإن كانت الإشارة إلى ما فوق العالم وماتحته فلا نسلم أن أحدًا يشير إلى ما تحت العالم أصلاً وأما ما فوق العالم فالله هو الذي فوق العالم فالإشارة إلى ماهناك إشارة إليه سبحانه وتعالى ولا نسلم أنه يشار إلى شيء موجود فوق العالم غير الله تعالى فلم تحصل إلى شيء معدوم بحال ولم يشر أحدٌ إلى جهة عدمية بحال بل المشار إليه ليس هو الجهة التي ينازع فيها المنازعون وأما قوله في الوجه الثالث إن الجوهر إذا انتقل من حيز

ص: 606

إلى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب فيقال إن كان الانتقال في أجسام العالم الموجودة فهذه أمور وجودية وإن كان فيما ليس كذلك فلا نسلم أن هناك شيئاً يكون متروكًا ومطلوبًا أصلاً بل الأحياز الموجودة قد لا يكون المنتقل فيها طالبًا لحيز دون حيز بل قصده شيء آخر فكيف يجب أن يكون كل منتقل ومتحرك طالبًا لحيز وجودي يكون فيه وتاركًا لحيز وجودي انتقل عنه الوجه الرابع أن يقال لا ريب أن الجهة والحيز من الأمور التي فيها إضافة ونسبة فإنه يقال هذا جهة هذا وحيزه والجهة أصلها الوجه الذي يتوجه إليها الشيء كما يقال عِدَة ووعد وزِنَة ووزن وجهة ووجهة والوجهة من ذلك كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] وأما الحيز فإنه فيعل من حازه يحوزه إذا جمعه وضمه وتحيز تفعيل كما أن يحوز يفعل كما قال تعالى وَمَن

ص: 607

يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ [الأنفال 16] فالمقاتل الذي يترك مكانًا وينتقل إلى آخر لطائفة تفيء إلى العدو فاجتمع إليها وانضم إليها فقد تحيز إليها وإذا كان كذلك فالجهة تضاف تارة على المتوجه إليها كما يقال في الإنسان له ست جهات لأنه يمكنه التوجه إلى النواحي الست المختصة به التي يقال إنها جهاته والمصلي يصلي إلى جهة من الجهات لأنه يتوجه إليها وهنا تكون الجهة ما يتوجه إليها المضاف وتارة تكون الجهة ما يتوجه منها المضاف كما يقول القائل إذا استقبل الكعبة هذه جهة الكعبة وكما يقول وهو بمكة هذه جهة الشام وهذه جهة اليمن وهذه جهة المشرق وهذه جهة المغرب كما يقال هذه ناحية الشام وهذه ناحية اليمن والمراد هذه الجهة والناحية التي يتوجه منها أهل الشام وأهل اليمن فأما الحيز فلفظه في اللغة يقتضي أنه ما يحوز الشيء ويجمعه ويحيط به ولذلك قد يقال على الشيء المنفصل عنه كداره وثوبه ونحو ذلك وقد يقال لنفس جوانبه وأقطاره إنها

ص: 608

حيزه فيكون حيزه بعضًا منه وهذا كما أن لفظ الحدود التي تكون للأجسام فإنهم تارة يقولون في حدود العقار حده من جهة القبلة ملك فلان ومن جهة الشرق ملك فلان ونحو ذلك فهنا حد الدار هو حيزها المنفصل عنها وقد يقال حدها من جهة القبلة ينتهي إلى ملك فلان ومن جهة الشرق ينتهي إلى ملك فلان فحدها هنا آخر المحدود ونهايته وهو متصل ليس منفصلاً عنه وهو أيضًا حيزه وقد جاء في كتاب الله تعالى في موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة 187] والحدود هنا هي نهايات المحرمات وأولها فلا يجوز قربان شيء من المحرم وفي موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة 229] والحدود هنا نهايات الحلال فلا يجوز تعدي الحلال

ص: 609

وإذا كان هذا هو المعروف من لفظ الجهة والحيز في الموجودات المخلوقة فنقول إذا قيل إن الخالق سبحانه في جهة فإما أن يراد في جهة له أو جهة لخلقه فإن قيل في جهة له فإما أن تكون جهة يتوجه منها أو جهة يتوجه إليها وعلى التقديرين فليس فوق العالم شيء غير نفسه فهو جهة نفسه سبحانه لا يتوجه منها إلى شيء موجود خارج العالم ولايتوجه إليها من شيء موجود خارج العالم وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه إليه ومن قال إن العالم هناك ليس في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق ومن قال إنه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحًا ومن قال إنه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه غليها أو يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان فلا ريب أن هذا عدم محض وأما الحيز فقد يحوز المخلوق جوانبه وحدود ذاته وقد يحوزه غيره فمن قال إن الباري فوق العالم كله يحوزه شيء موجود ليس هو داخلاً في مسمى ذاته فقد كذب فإن كل ما هو خارج عن نفس الله التي تدخل فيها صفاته فإنه من العالم ومن

ص: 610

قال إن حيزه هو نفس حدود ذاته ونهايتها فهنا الحيز ليس شيئًا خارجاً عنه وعلى كل تقدير فمن قال إنه فوق العالم لم يقل إنه في حيز موجود خارج عن نفسه ولا في جهة موجودة خارجة عن نفسه وإذا كان صاحب المذهب يصرح بنفي ذلك فالاحتجاج على أنه ليس في حيز موجود احتجاج في غير محل النزاع فلا يضر ذلك المنازع الوجه الخامس قوله الأحياز الفوقانية مخالفة بالحقيقة للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات يقال له الذي اتفق عليه أهل الإثبات أن الله فوق العالم ويمتنع أن لا يكون فوق العالم سواء قدر أنه في التحت أو غير

ص: 611

ذلك بل كون الله تعالى هو العلي الأعلى المتعالي فوق العالم أمر واجب ونقيضه وهو كونه ليس فوق العالم ممتنع فثبوت علوه بنفسه على العالم واجب ونقيض هذا العلم ممتنع هذا هو الذي اتفق عليه أهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الفطر السليمة المقرة بالصانع وأما ما ذكره من قول القائل يجب أن يكون مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والحياز فهؤلاء يريدون بذلك أنه يجب أن يكون فوقنا ويمتنع أن يكون تحتنا أو عن يميننا أو عن شمائلنا وهم لا يعنون بذلك أنه يكون متصلاً برؤوسنا بل يعنون أنه فوق الخالق فالعبد يتوجه إليه هناك لا يتوجه إليه من تحت رجليه أو عن يمينه أو عن شماله وقد قلنا إن الجهة فيها معنى الإضافة فالعبد يتوجه إلى ربه بقلبه إلى جهة العلو لا إلى جهة السفل واليمين واليسار كما قال ابن عباس وعكرمة في قوله تعالى عن إبليس ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} [الأعراف 17] قال ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم

ص: 612

وهم لا يريدون بذلك أنه من جهة العلو الموجودة في العالم دون جهة اليمين واليسار والتحت بل ليس هو فيما على رأس العبد من الأجسام ولا فيما عن يمينه ولا فيما عن شماله فهذه الأجسام المختلطة بالعبد من جهاته الست ليس شيء منها مما يجب أن يكون الله فيه وما أعلم أحدًا قط يقول إنه يجب أن يكون في شيء موجود منفصل عنه سواء كان ذلك فوق العبد أو تحته فالرب يجب عندهم أن يكون فوق العالم وهي الجهة التي هي فوق ولايجوز أن يكون فوق العالم وغيره بالنسبة إليه سواء

ص: 613

وأما أن القوم يثبتون وراء العالم أمورًا وجودية يقولون يجب أن يكون الله في واحد منها دون سائرها فهذا ما علمنا أحدًا قاله وإن قاله أحد تكلم معه بخصوصه ولا يجعل هذا قول أهل العلم والإيمان الذين يقولون إن الله فوق العرش ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا أن الجهة نوعان إضافية متغيرة وثابتة لازمة حقيقة فالأولى هي بحسب الحيوان فإن كل حيوان له ست جهات جهة يؤمها هي أمامه وجهة يخلفها وهي خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي يساره وجهة فوقه وجهة تحته وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته وليس لها صفة لازمة ثابتة وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقة هي جهتا العلو والسفل فقط فالعلو مافوق العالم والسفل سجين وأسفل السافلين وهو أسفل العالم وقعره وجوفه وإذا كان الأمر كذلك لزم من مباينة الله للعالم أن يكون

ص: 614

فوقه وليس هناك شيء آخر يجوز أن يكون جهة لله تعالى لا يمين العالم ولا يساره ولا تحته وكلام هؤلاء خارج باعتبار جهاتهم الإضافية المتنقلة لا باعتبار الجهة اللازمة الحقة الوجه السادس أن يقال هَبْ أن وراء العالم ست جهات وقالوا يجب اختصاصه بالعلو دون غيره كما أنه يجب أن يكون فوقنا فالاختصاص في الأمور النسبية والإضافية قد يكون لمعنى فيه وفي العالم أو لمعنى فيه لا في العالم أو في العالم لا فيه لا لمعنى في أمر وجودي غيرهما وقوله يمتنع أن يكون في سائر الجهات والحياز المعنى فيه سبحانه وهو أنه العلي الأعلى وهو الظاهرالذي لا يكون فوقه شيء فالحاصل أن وجوب علوه هو لمعنى فيه سبحانه يستحق به أن يكون هو الأعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فلا يجوز أن يكون في جهة تنافي علوه وظهوره وذلك لا يوجب أن تكون الجهة وجودية لأن العلو والظهور نسبة بينه وبين الخلق فإذا قيل يجب أن يكون فوقهم وأن يكون عاليًا

ص: 615

عليهم ولا يجوز غير ذلك لم يكن فيما يقتضي أن يسبق ذلك ثبوت محل وجودي له بحيث لو فرض أن وراء العالم ست جهات وأن العالم كالإنسان الذي له ست جهات لكان إذاقيل يجب أن يكون الله فوقه ولا يكون عن يمينه ولا عن يساره إنما هو إيجاب لنسبة خاصة وإضافة خاصة له إلى العالم لا يقتضي ذلك أن يكون هناك أمور وجودية فضلاً عن أن تكون مختلفة الحقائق الوجه السابع أن وجود كونه فوق العالم أمر مشروط بوجود العالم فإنه قبل خلق العالم لا يقال إنه فوقه ولا إنه ليس فوقه إذ العلو والفوقية هي من الأمور التي فيها نسبة وإضافة وإن كان الناس قد تنازعوا هل علوه وفوقيته واستواؤه على العرش من الصفات الذاتية التي وجبت له بنفس ذاته وإن كان

ص: 616

فيه إضافة ظهر حكمها بخلق العالم والعرش كما يقولون في المشيئة والعلم أو هو من الصفات الفعلية وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه أو هو إضافة محضة بينه وبين العرش أم متضمن لأمرين من ذلك أو للأمور الثلاثة فلا ريب أن وجود العلو على العرش الاستواء عليه

ص: 617

إنما هو بعد خلقه ولو قدر أن العالم أو العرش خلق في حيز آخر لكان الله سبحانه وتعالى عاليًا عليه ومستويًا عليه حيث خلق كما أنه سبحانه إذا كان مع عبده بعلمه وقدرته أو نصره وتأييده وغير ذلك فحيث كان العبد كان مع الله وإذا كان كذلك لم يكن لبعض الأحياز حقيقة يتميز بها عن حيز آخر لأجلها يستحق أن يكون الله فيه وإنما وجوب اختصاصه هو تابع لوجوب علوه ولاستوائه وعلوه واستواؤه على عرشه ينافي أن لا يكون عاليًا عليه فما يفرض من سفول وتياسر ونحو ذلك مما ينافي العلو كان منتفيًا لأن أحد النقيضين ينفي الآخر لا لصفة ثابتة لأحد الحيزين دون الآخر الوجه الثامن قوله ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق يقال لا نسلم ذلك ولم يذكر على ذلك حجة فالمنع المجرد يكفي هذه الدعوى ثم يقال اختصاص الشيء بوجوب كونه فوق الآخر دون كونه عن يمينه ويساره قد يكون لمعنى في الأعلى أو لمعنى في الأسفل أو لمعنى فيهما وهكذا كل أمر فيه إضافة بين أمرين

ص: 618

كالحب والقدرة ونحو ذلك قد يكون لمعنى في المضاف وقد يكون لمعنى في المضاف إليه وقد يكون لمعنى فيهما كالحب والقدرة ونحو ذلك يقتضي معنى في المحب والمحبوب وكذلك القدرة ولذلك يختصان بشيء دون شيء وأما العلم فيقتضي معنى في العالِم لا يقتضي معنى في المعلوم فإن العلم يتعلق بكل شيء لا يختص بموجود دون معدوم ولا بممكن دون ممتنع فالاختصاص فيه إنما هو في العالم لا في المعلوم وكذلك القول ونحوه وأما العلو فقد يكون لمعنى في العالي كصعود الإنسان على السطح فإنه هو الذي تحرك حركة أوجبت علوه والسطح لم يتغير فالرجل يكون تارة فوقه وتارة تحته لتحوله هو دون السطح والطير إذا حاذى الإنسان وكان فوق رأسه ثم نزل حتى صار تحت مكان هو فيه كان الطير فوقه تارة وتحته أخرى لتحول الطير دون تحوله هو وإذا كانت الأمور الإضافية لاتستلزم وجود معنى في غير المضاف والمضاف إليه وإن جاز وجود ذلك لكن نفس المعنى في أحدهما قد يكفي في الصفات الذاتية التي فيها إضافة عارضة لها فكيف يكون في الإضافات المحضة فالعلو سواء كان صفة ثبوتية مستلزمًا للإضافة أو كان فعلاً مستلزمًا للإضافة أو كان فيه الأمران أو كان إضافة محضة يكفي في تحققه وجود معنى في العالي تارة وفي السافل أخرى من غير

ص: 619

اختلاف في حقيقة الأحياز يوضح هذا الوجه التاسع أن الأحياز التي لا ريب في وجودها كالهواء والسطوحات ونحوها قد يعلو عليها الحيوان وتعلو عليه أخرى وتكون تارة عن يمينه وتارة عن شماله مع أن حقائقها في جميع هذه الأحوال سواء لم يتجدد لها باختلاف الحال في كونه عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة صفة أصلاً فإذا كانت الأحياز التي عُلِمَ وجودها ولا يزال حكم الجهات يختلف فيها بكونها عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة وهي مع ذلك لا يحدث فيها شيء من التغير فكيف يقال إنه لولا كون الأحياز التي هي الفوق والتحت واليمين واليسار مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة فوق ومما يوضح ذلك الوجه العاشر وهو أن رأس الإنسان ينبغي أن يكون مختصًّا بجهة فوق بالنسبة إلى سائر بدنه ويده اليمنى يجب أن تكون مختصة بجهته اليمنى ويده اليسرى يجب أن تكون مختصة بجهته اليسرى وصدره وبطنه يجب أن بجهة أمامه وظهره يجب أن يختص بجهة خلفه وأسفل قدميه يجب أن يختص بجهة تحته ومع هذا الوجوب المعلوم بالإحساس ليس ذلك لاختلاف حقائق الجهات التي اختصت بها

ص: 620

هذه الأعضاء ولا لاختلاف صفاتها بل هذا الاختصاص لا يؤثر في الجهات شيئًا أصلاً وإنما الاختصاص لمعنى في الإنسان نفسه لا لمعنى في الجهات الوجه الحادي عشر أنه إذا قدر أن الحيز والجهة أمر موجود لم نسلم المقدمة الثانية وهو قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه والذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك أن وجود موجود مستغن عن الله ممتنع فإن كل ما سواه مفتقر إليه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وقوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قياس شمول عام عدل الله فيه بأحقر المخلوقات فإن الأجسام الضعيفة من المواد والحيوان كالحجر والمدر والبعوضة ونحوها إذا كانت في مكان أو حيز فلا ريب

ص: 621

أنها قد تكون محتاجة إليه وهو مستغن عنها لكن قياس الله الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء الصمد الذي يفتقر إليه كل شيء بالمخلوقات الضعيفة المحتاجة عدل لها برب العالمين ومن عدلها برب العالمين فإنه في ضلال مبين وذلك أن أعظم الأمكنة العرش ولا خلاف بين المسلمين الذين يقولون إنه مستو عليه أو مستقر أو متمكن عليه والذين لا يقولون ذلك أن العرش مفتقر إلى الله والله غني عن العرش ولا يقول أحد ممن يتظاهر بالإسلام أن الله يفتقر إلى العرش أو إلى غير العرش بل هم متفقون على أن الله بقدرته الذي يمسك العرش وحملة العرش وسائر المخلوقات هذا مع ما جاء في الآثار من إثبات مكانه تعالى كالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تعالى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني

ص: 622

وفي شعر حسان تعالى علوًا فوق عرشٍ إلهنا وكان مكان الله أعلى وأرفعا

ص: 624

فقوله إن الحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قضية عامة ضرب بها مثلاً في قياس شمولي ليس معه فيه إلا مجرد تمثيل الخالق بالمخلوق الضعيف الفقير وإن كان من الجنس الحقير وهؤلاء الجهمية دائمًا يشركون بالله ويعدلون به ويضربون له الأمثال بأحقر المخلوقات بل بالمعدومات كما قدمنا التنبيه عليه غير مرة فلما رأوا أن المستوي على الفلك أو الدابة أو السرير يستغني عن مكانه قالوا يجب أن يكون الله أيضًا يستغني عن مكانه تشبيهًا له بهذا المخلوق العاجز الضعيف ولما رأوا أن الحجر والمدر والشجر والأنثى والذكر يستغني عنه حيزه ومكانه قالوا فرب الكائنات مُشَبَّه بهذه المتحيزات في افتقاره إلى ما هو مستغن عنه تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ثم يقال له في الوجه الثاني عشر إن كثيرًا مما سمى مكانًا وحيزًا وجهة للإنسان يكون مفتقرًا إليه بل ولغير الإنسان أيضًا فمن قال إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي

ص: 625

الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي كبطانة قميص اللابس كان كثير من الأمكنة محتاجًا إلى الممكن كاحتياج القميص إلى لابسه واستغناء صاحبه عنه وكذلك الحيز قد ذكرنا أنه يراد به حدود الشيء المتصلة به التي تحوزه وهو جوانبه وتلك تكون داخلة فيه فلا تكون مستغنية عنه مع حاجته إليها وقديرا دبه الشيء المنفصل عنه الذي يحيط به كالقميص المخيط وهذا قد يكون مفتقرًا إلى الإنسان كقميصه وقد يكون مستغنيًا عنه وإن كان مستغنيًا عن الإنسان لكن الإنسان لا يحتاج إلى حيز معين خارج عن ذاته بحال بل وكذلك جميع الموجودات حيزها إما حدودها المحيطة بها ونهاياتها وهي منها فتلك لا توصف بالاستغناء عنها وإما ما يحيط بها منفصلاً عنها فليس في المخلوقات مايحتاج إلى حيز بعينه وأما الجهة فهي لا تكون جهة إلا بالتوجه فهي مفتقرة في كونها جهة إلى المتوجه والمتوجه لا يفتقر إلى جهة بعينها

ص: 626

بحال وإذا كانت المخلوقات لا تفتقر إلى حيز موجود وجهة موجودة أو مكان موجود بعينه وإن كان فيها ما يفتقر إلى نوع ذلك على البدل وما يسمى لها مكانًا قد يفتقر إليها وكذلك ما يسمى حيزًا لها متصلاً أو منفصلاً قد يكون مفتقرًا إليها وكذلك الجهة مفتقر إليها في معنى كونها جهة كان دعوى افتقار المتحيزات للحيز مع استغناء الحيز عنه في حق المخلوقات ليس على إطلاقه بل إطلاق ذلك دعوى باطلة فكيف في حق الخالق الغني عن كلما سواه المفتقر إليه كل ما سواه الوجه الثالث عشر قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في الجهة يقال له الأجسام كلها حاصلة في الحيز كما ذكرته أفتقول إنه يستحيل عقلاً حصول كل جسم في غير جهة وجودية فهذا لا يقوله عاقل بل يعلم ببديهة العقل أن كل جسم يمكن حصوله في غير جهة وجودية منفصلة كما أن العالم حاصل في غير جهة وجودية وما علمنا عاقلاً قال إن كل جسم يجب أن يكون

ص: 627

حاصلاً في حيز وجودي منفصل عنه وإذا كان كذلك كان قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في جهة التي قد قدم إنها وجودية قول معلوم الفساد ببديهة العقل متفق على فساده بين العقلاء وهذا ليس مما يخفي على من تأمله وإنما الرجل غلط أو خالط في المقدمتين فإنه قد سمع وعلم أن الجسم لا يكون إلا متحيزًا فلابد لكل جسم من حيز ثم سمى حيزه جهة وقد قرر قبل هذا أن الجهة أمر وجودي فركب أن كل جسم يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه وهذا الغلط نشأ من جهة ما في لفظ الحيز والجهة من الإجمال والاشتراك فيأخذ أحدهما بمعنى ويسميه بالآخر ثم يأخذ من ذلك الآخر المعنى الآخر فيكون بمنزلة من قال المشترى قد قارن زحل وهذا هو المشترى الذي اشترى العبد وقد قارن البائع فيكون البائع هو زحل أو يقول هذه

ص: 628

الثريا والثريا قد نكحها سهيل وقارنها فتكون هذه الثريا قد قارنها سهيل ونحو ذلك ومن المعلوم أن الجهة التي نصر أنها وجودية وهي مستغنية عن الحاصل فيها ليست هي الحيز الذي يجب لكل جسم يوضح ذلك الوجه الرابع عشر وهو أنه قال إن

ص: 629

المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز مستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك يقتضي أن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وجهة فيكون محتاجًا إلى الحيز والجهة وقد قرر أن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه فيكون الحيز والجهة مستغنيًا عن الحيز المتوجه وذلك يقتضي أن المتحيزات بأسرها مفتقرة إلى أحيازها وأن أحيازها التي يستحيل عقلاً حصولها في غيرها مستغنية عنها ومن المعلوم لكل عاقل أن تحيز الجسم أمر قائم به محتاج إليه ليس هو مستغنيًا عن الجسم وهذا هو الذي يستحيل عقلاً حصول المتحيز بدونه فإنه يستحيل حصول متحيز بدون تحيز وكل جسم متحيز وحصول المتحيز بدون التحيز محال وهو مثل حصول الجسم أو حصول المقدور بدون تَقَدُّر أو حصول المميز بدون التميز وأما كون المتحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وراء هذا التحيز فالعقل يعلم

ص: 630

خلاف ذلك فيعلم أن المتحيز لا يفتقر إلى حيز وجهة غير هذا التحيز الذي قام به فظهر أنه ناقض مايعلم بالعقل خلافه بأن العقل يعلم افتقار المتحيز إلى حيز منفصل عنه بل يفتقر إلى حيز هو نهايته التي تُحيط به فقلب القضية وجعل الحيز المنفصل الذي هو للجهة مستغنيًا عن المتحيز والمتحيز يستحيل عقلاً حصوله بدونه وظهر ببطلان المقدمتين بطلان المقدمة الأولى من الحجة وهو قوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره ونتكلم على الثانية فنقول الوجه الخامس عشر قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره لفظ مجمل قد تقدم الكلام على نظيره غير مرة وهو أن لفظ الغير عند كثير من الصفاتية أو أكثرهم منهم أصحابك هو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود أو ما جاز وجود أحدهما دون الآخر وعند كثير من نفاة الصفات ومثبتيها ما جاز العلم

ص: 631

بأحدهما دون الآخر فما الذي تريد بلفظ الغير في قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره إن أردت به لكان مفتقرًا إلى ما يجوز وجوده دونه فهذا باطل فليس في الموجودات ما يجوز وجوده دون الله وعلى هذا التقدير فيمتنع افتقار الله إلى غيره لامتناع الغير الذي يجوز وجوده دونه كما يمتنع افتقاره إلى مثله لامتناع مثله ويمتنع خوفه من نده لامتناع نده فالفقر والحاجة إلىما يستغنى عنه محال هذا إن أراد وجود ذلك الغير دونه وإن أراد وجود الله دون ذلك الغير فيكون المعنى أنه مفتقر إلى الغير الذي يجوز وجود الله دونه وهذا جمع بين النقيضين فإنه إذا كان هو سبحانه موجودًا دونه لم يكن مفتقرًا إليه وإذا كان مفتقرًا إليه لم يكن سبحانه موجودًا دونه فقول القائل

ص: 632

إنه مفتقر إلى الغير الذي يوجد دونه مثل قوله مفتقرًا إلى ما هو سبحانه وتعالى مستغن عنه وذلك مثل قول القائل يفتقر لا يفتقر ويستغني لا يستغني وكذلك إن أراد بالغير ما يجوز مفارقته لله بزمان أو مكان أو وجود فالحيز الذي هو من لوازم وجوده كالصفة الذاتية اللازمة له لا يفارقه في زمان ولا مكان وقد ذكرنا أن الحيز الوجودي يراد به حد الشيء المتحيز الذي يحوزه ويراد به شيء منفصل عنه يحوزه والله ليس هو بل ولا غيره من المخلوقات مفتقرًا إلى حيز وجودي بالمعنى الثاني وأما الحيز الوجودي بالمعنى الأول فهذا لايجوز أن يفارق المتحيز لا في زمان ولا في مكان ولا وجود إلا إذا فرق ذلك المتَحيز وحينئذ فلا يكون هو إياه مع أن الله سبحانه صمد لا يجوز عليه التفرق والانقسام فإن أراد بالغير هذا المعنى كان التقدير لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ما هو لازم لذاته لا يجوز مفارقته له ولا انفصاله عنه وهكذا حكم جميع الصفات الذاتية فيكون المعنى كما لو قيل لو كان له صفة ذاتية لكان مفتقرًا إليها افتقار الموصوف إلى الصفة وهذا من

ص: 633

شبه نفاة الصفات التي يبطلها هذا المؤسس نفسه كما تقدم الكلام عليه وهذا أحد الوجوه التي ذكرها في حجة نفاة الصفات في نهايته فقال الثالث أن عالمية الله وقادريته لو كانت لأجل صفات قائمة به لكان الباري محتاجًا إلى تلك الصفات لكن الحاجة على الله محال فبطل القول باتصاف ذاته بالصفات فقوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ذلك مثل هذه سواء إذا فهم أن الحيز الذي يلزم المتحيز هو أمر لازم له ليس شيئًا منفصلاً عنه وأن المتحيز لا يفتقر إلى حيز موجود منفصل عنه بضرورة العقل والحس واتفاق العقلاء وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحجة غير مرة وهي مثل قولهم يستلزم التركيب والكثرة الموجبة لافتقاره إلى أجزائه

ص: 634

وقد قال هو قولهم يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات المخصوصة في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه فأين المحال قال وأيضًا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا ويلزمكم أيضًا في الصورة المرتسمة في ذاته من المعقولات ما ألزمتمونا ونحن قد بينا أن هذه الأمور ليست غيرًا له بهذا الاصطلاح فلا يصح أن يقال هو مفتقر إلى غيره وأما إن أراد بالغيرين ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فنقول ثبوت هذه المعاني في حق الله تعالى متفق عليه بين

ص: 635

العقلاء معلوم بضرورة العقل فلابد منه في كل موجود فإنه يعلم شيئاً ثم يعلم شيئاً آخر فإن كان ثبوت هذه الأمور مستلزم حاجة الله إلى الغير فهذا اللازم على كل تقدير ولكل العقلاء وحينئذ فلا يكون محذورًا بهذا التفسير فظهر أن قوله لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير إما منع الملازمة أو منع انتفاء اللازم وذلك بسبب اشتراك لفظ الغير بضرورةالعقل واتفاق العقلاء فإن الغير إن عنى به مايجوز مفارقته في وجود أو زمان أو مكان منعت المقدمة الأولى وهو قوله لكان مفتقرًا إلى غيره فإن الحيز الوجودي الذي يلزمه ليس مما تجوز مفارقته له وإن عنى بالغير ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فثبوت هذا في حق الله معلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء وإن كان فيهم من لا يسميه غير فالمقصود هنا

ص: 636

المعنى دون الألفاظ فتكون المقدمة الثانية باطلة بضرورة العقل واتفاق العقلاء الوجه السادس عشر يقال له ما تعني قولك لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير فإن الافتقار المعروف عند الإطلاق أن يكونَ الشيء محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه كافتقار العبد إلى الله وأما الشيئان اللذان لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر كالموصوف وصفته اللازمة أو المقدرة وقدرة اللازم له وكالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة والعلو والسفل ونحو ذلك فهذه الأمور لا توصف بافتقار أحدهما إلى الآخر دون العكس لكن إذا قيل كل منهما مفتقر إلى الآخر كان بمنزلة قول القائل الشيء مفتقر إلى نفسه والمعنى أن أحدهما لا يوجد إلا مع الآخر كما أن الشيء لا يكون موجودًا إلا بنفسه فإذا كان مخلوقًا كان الفاعل له لنفسه والفاعل لأحدهما هو الفاعل للآخر وإذا كان ذلك هو الخالق لم يكن سبحانه مفتقرًا إلى غير ذاته وإنما المعنى أنه واجب الوجود بنفسه ووجوده لازم لزومًا لا يمكن عدمه وأحد هذه الأمور لازم للآخر لزومًا يمكن معه عدمه

ص: 637

وإذا كان هذا المعنى هو الذي يمكن أن يراد بلفظ الافتقار هنا فيكون المعنى لو كان له صفة ذاتية لازمة له أو لو كان له تحيز لازم لكان ملازمًا له لا ينفك عنه وحينئذ فيتحد اللازم والملزوم ويكون هذا من باب تحصيل الحاصل كما لو قيل لو كان واجبًا بنفسه لكان مفتقرًا إلى نفسه والمعنى أن نفسه لازمة لنفسه لزمًا لا يمكن عدمه فإنما تغلط الأذهان هنا وتحصل الشبهة عند كثير من الناس والوهم في قلوبهم لما في لفظ الافتقار إلى الغير من المحذور وهؤلاء عمدوا إلى هذا اللفظ فاستعملوه في غير المعنى المعروف في اللغة وسموا لزوم صفاته له افتقارًا إلى الغير فلما عبروا عن المعاني الصحيحة بل المعاني التي يعلم بضرورة العقل ثبوتها في نفس الأمر بل لا يستريب في ثبوتها أحد من العقلاء مادام عاقلاً عبروا عنها بالعبارات المشتركة المجملة التي قد تستعمل في معانٍ فاسدة يجب تنزيه الباري سبحانه وتعالى عنها كان هذا الاشتراك مما أشركوا فيه بين الله وبين خلقه وهو من نوع شركهم وعدلهم بالله حيث أشركوا بين المعاني الواجبة لله والممتنعة عليه في لفظ واحد ثم نفوا به

ص: 638

ما يجب لله وكانوا مشركين معطلين في اللفظ كما كانوا مشركين معطلين في المعاني كما تقدم التنبيه على ذلك غير مرة بمنزلة من سمى رحمان اليمامة الرحمن وجعل يقول للناس أنا كافر بالرحمن يوهمهم أن رحمان اليمامة هو كافر بالرحمن الذي على العرش أو بمنزلة من سمى الأوثان آلهة والإله وجعل يقول للمؤمنين قد عبدت الإله ودعوت الإله وإنما يعني به الوثن أو بمنزلة الله اللات

ص: 639

والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهو يعني الكفر بالله فهذا المثل نظير ما فعلوه من تسميته لما أثبته الله لنفسه بأسمائه وآياته بأسماء باطلة من المفتقر والغير ونحو ذلك ثم جعل يقول ينزه الله تعالى عن أن يكون مفتقرًا إلى الغير وهو مثل من يسمي نبيه محمدًا مذممًا ثم يقول العنوا مذممًا وهو صلى الله عليه وسلم محمد وليس بمذمم والله سبحانه الغني بما لَه من الأسماء والصفات وليس بمفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه وإن سموه هم مفتقرًا إلى غيره إذا ثبتت له هذه الصفات كما سمى المشركون محمدًا مذممًا لما دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وهذا حال فريق ممن خالف سلطان الله الذي بعث به رسله

ص: 640

وسمى سبحانه الأشياء بما تستحقه من الأسماء من أهل الكفر والبدع التي تشتمل على ما هو من الإيمان وما هو من الكفر فإنهم يسمون الأشياء بأسماء تتضمن حمدًا وذمًّا ونفيًا وإثباتًا وتلك الأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وذلك مثل تسمية الكفار النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا وساحرًا وكاهنًا ومجنونًا وذلك لنوع شبهة قد أزاحها بما أظهره من البينات فلما رأوا القرآن كلامًا موزونًا شبهوه بالشعر الموزون ورأوا الرسول يخبر بالغيوب عن روح ينزل إليه بها

ص: 641

فشبهوه بالكاهن الذي يخبر بكلمة فيكذب معها مائة كذبة عن روح شيطاني ينزل عليه بها ورأوه يزيل ما في النفوس من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة إلى الصحيح الذي فطر الله النفوس عليه فشبهوه بالساحر الذي يغير الأمر في إدراكاتهم وحركاتهم حتى يعتقدوا الشيء بخلاف ما هو عليه ويحبوا ما أبغضوه ويبغضوا ما أحبوه ورأوه قد أتى بما يخالف عاداتهم الفاسدة وما يذمونه عليه فشبهوه بالمجنون الذي يخرج عما يعرف في العقل ويأتي ما يذم عليه

ص: 642

كذلك يسمي أهل البدع من اتبع سبيله الذي قال الله حكاية عنه قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} [يوسف 108] بأسماء باطلة كتسمية الرافضة لهم ناصبة مع محبتهم أهل البيت وموالاتهم تشبيهًا لهم بمن يبغضهم ويعاديهم لاعتقادهم أن لا ولاية لهم إلا بالبراءة من الصحابة وزعموا أنهم كانوا يعادونهم وكتسمية القدرية لهم مُجْبِرَة مع كونهم يعتقدون أن

ص: 643

العبد فاعل حقيقة وله إرادة وقدرة وتشبيهًا بمن يسلب العبد الفعل ويجعله كالجمادات التي لا إرادة لها لما اعتقدوا أن الله خالق كل شيء وهو خالق العبد وصفاته وأفعاله وكذلك تسمية الجهمية لهم مشبهة مع كونهم يعتقدون

ص: 644

أن الله ليس كمثله شيء في صفة من صفاته أصلاً تشبيهًا لهم بالممثلة الذين يجعلون الله من جنس المخلوقات لمااعتقدوا أن الله موصوف بصفات الإثبات التي جاءت بها النبوات وأما في الذم فتسمية الكفار أصنامهم الإله وتسميتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وما في ذلك لها من معنى الهيبة والعزة والتقدير وكذلك تسمية أهل البدع لأنفسهم بأسماء لا يستحقونها كما تسمي الخوارج أنفسهم المؤمنين دون بقية أهل القبلة ويسمون دارهم دار الهجرة وكذلك الرافضة تسمي أهلها المؤمنين وأولياء الله دون بقية أهل القبلة وكذلك الجهمية ونحوها يسمون أنفسهم الموحدين ويسمون نفي الصفات توحيد الله

ص: 645

وتسمي المعتزلة ذلك توحيدًا وتسمي التكذيب بالقدر عدلاً وتسمي القتال في الفتنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك تسمية الصابئة لعلومهم أو أعمالهم الحكمة أو الحكمة الحقيقية أو المعارف اليقينية مع أن فيها من الجهل والشبه والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال وكذلك تسمية الاتحادية أنفسهم أهل الله وخاصة الله والمحققين وهم من أعظم الناس عداوة لله وأبعد

ص: 646

الناس عن التحقيق وما من اسم من هذه الأسماء الباطلة في الحمد والذم إلا ولابد لأصحابه من شبهة يشتبه فيها الشيء بغيره بل قد يفعل المبطلون أعظم من ذلك كتسمية بعض الزنادقة المتفقرة المسجد إِسطبل البطالين وهذا كثير فيمن يسمي الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وتلك كلها أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وإنما فعلوها لنوع من الشبه التي هي قياس فاسد كشبه الجهمية وقاسهم أنه لو كان لله صفات لازمة لكان مفتقرًا إلي غيره فسموه لأجل ما هو به مستحق الحمد والثناء والمجد وهو الغني الصمد سموه لأجل ذلك مفتقرًا إلى الغير وهذا منهم باطل ما أنزل الله به من سلطان الوجه السابع عشر قوله المفتقر في وجوده إلى الغير

ص: 647

يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال يقال إذا كان الشيء مفتقرًا إلى شيء آخر مستغن عنه وأنه يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الثاني عدم الأول أو لا وجود للأول إلا بالثاني وما كان كذلك فإنه ممكن لذاته لكن إذا كان الثاني غير مستغن عن الأول بل كان الثاني مفتقرًا إلى الأول بحيث يلزم من عدم الأول عدمه لم يمكن أن يجعل الأول ممكنًا لافتقاره إلى الثاني بأولى من أن يجعل الثاني ممكنًا لافتقاره إلى الأول وحينئذ يجب دخولهما جميعًا في وجوب الوجود إذا ثبت أن كلا منهما حاجته على الآخر كحاجة الآخر إليه فكيف والموصوف هنا المستلزم للصفة وذلك يظهر بالوجه الثامن عشر وهو أنه قد عرف أن الغير هنا لا يعني الغير المنفصل عنه بل ما تغاير في العلم وأن الافتقار المراد به التلازم فيكون المعنى أن الموصوف

ص: 648

مستلزم الصفة ومعنى افتقاره إليها أنه لا يكون له حقيقة أو لا يكون على ما هو عليه إلا بها وأنه يلزم من عدمها عدمه لكن تلك الصفة أيضًا يلزم من عدم الموصوف عدمها ولا حقيقة لها ولا وجود إلا بالموصوف وكونها مستلزمة الموصوف وهوافتقارها إلى الموصوف أبلغ من كون الموصوف مستلزمًا لها وإذا كان كذلك كان الموصوف واجبًا للوجود ولم يكن يفتقر إلى شيء منفصل عنه ولكن معنى حاجته استلزامه للصفة التي هي مستلزمة له وهذا حق وهوغير منافٍ لوجوب الوجود بل لا يكون وجود واجب ولا غير واجب إلا كذلك الوجه التاسع عشر أنه لو فرض أن ذاته مستلزمة لشيء منفصل عنه من حيز أو غيره لكان بحيث يلزم من عدم ذلك اللازم لذاته المنفصل عنه عدم الملزوم الذي هو ذاته ثم لم يقل أحد من الخلائق بأن رب العالمين مفتقر لأجل ذلك إلى ما يكون منفصلاً عنه ولا على قول القائل بالتعليل والتوليد الذين منهم خرج التكلم بواجب الوجود فإنهم يقولون إنه علة تامة مستلزم

ص: 649

لوجود معلوله الذي هو العالم الذي تولد عنه ومع هذا فهو واجب الوجود ليس بممكن الوجود ولا يفتقر إلى غيره الوجه العشرون قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لأنه يمكن تقديره بالذراع والشبر وما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالمفتقر إليه أولى أن يكون ممكنًا يقال له قد تقدم أن الحيز الوجودي الذي يقال إن ذات الله مستلزمة له ليس هو شيئًا منفصلاً عنه حتى يقال إنه مركب من الأجزاء والأبعاض أم ليس بمركب وهذا الوجه إنما هو إقامة دليل على حيز وجودي منفصل عن الله تعالى مثل العرش والمنازعون له يقولون إن ذات الله ليست مستلزمة لوجود حيز وجودي منفصل عنه وإنما قد يقول من يقول منهم إنه يكون على العرش

ص: 650

أو يأتي في ظلل من الغمام أو كان قبل أن يخلق العرش في عماء وهو السحاب الرقيق لكن لم يقولوا إن ذلك لازم له بل هو من الأمور الجائزة عليه فلا يكون مفتقرًا إليه الوجه الحادي والعشرون أنه إذا قال قائل إنه لابد من حيز وجودي غير ذاته كغمام أو غيره أو الخلاء عند من يتخيل أنه موجود فإنه قد يقول لا نسلم أن ما ذكره من تقديره ومساحته يدل على إمكانه فإن هذه هي الأدلة الدالة على إمكان ذوات المقدار وقد تقدم بيان بطلانه وأنه لم يقم على ذلك حجة لما ذكر من أدلته على أن كل متحيز وكل جسم فهو ممكن الوجه الثاني والعشرون أنه إذا قدر أن ذلك ممكن لذاته فإنه لايكون إلا مفتقرًا إلى الله لأن كل ما سواه مفتقر إليه وغايته أن تكون حقيقة الرب مستلزمة له ويكون افتقاره إليه كما يقال من افتقار الموصوف إلى صفته وأكثر ما يقال إنه مفتقر إليه كافتقار العلة إلى معلولها الذي هو مفتقر غليها يعني أن العلة لا تكون

ص: 651

موجودة إلا بوجود معلولها ومعلولها هو مفتقر إليها فجعل العلة الموجبة بنفسها مفتقرة على معلولها حاصله أن وجوده لا يكون إلى مع وجوده وهذا لا يوجب أن يكون واجب الوجود ممكنًا الوجه الثالث والعشرون قوله والمفتقر على الممكن بذاته أولى أن يكونَ ممكنًا لذاته فيقال إذا كان معنى الفقر ما يعود إليه حاصل كلامك وأن معناه أن الواجب بنفسه مستلزم لوجود ما هو ممكن بذاته وهو الواجب لذلك الممكن وهو مع حاجته إليه هو الموجب فيكون حقيقة الأمر أن الواجب بنفسه أوجب أو أوجد ما يحتاج إليه وهذا لا يوجب أن يكون محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه ولا أن يكون ممكنًا بل لا يوجب حاجته إلى ما هو غيره لأن ذاته هي الموجبة لكل مايحتاج إليه فلا حاجة به إلى غيره بحال هذا مع تسميتنا هذه المعاني حاجة وافتقارًا على ما زعمته ولكن لو كان محتاجًا إلى ممكن مستغن عنه بوجه من الوجوه كان فيه إمكان أما إذا كان ذلك الأمر محتاجًا إليه من كل وجه غير مستغن عنه فالحاجة إلى مالا يقوم إلا بنفسه كالحاجة إلى نفسه وذلك لا ينافي وجوبه بنفسه بل حقيقة الواجب بنفسه أن لا يستغني عن نفسه ولا يكون إلا بنفسه سميت ذلك فقرًا إلى نفسه أو لم تسمه وهذه الحجة لأمور قد

ص: 652

تقدم الكلام عليها فلهذا نختصر الكلام عليها هاهنا الوجه الرابع والعشرون قوله في الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين يقال له هؤلاء إذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلاً وأبدّا فليس ذلك عندهم شيئاً خارجاً عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجًا عنه بل هو منه وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات كما أنه كذلك في سائر المتحيزات فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك

ص: 653

ثم إن هذه الحجة التي ذكرها من لزوم إثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات وقد ذكرها هو في نهايته فقال في حجتهم الرابع الصفات القديمة لابد وأن تكون مساوية للذات القديمة في القدم وذلك يقتضي تماثلهما وأجاب عن ذلك بأجوبة صحيحة بين فيها أن الاشتراك في القدم لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة ولا يستحيل أن يكون للذات صفات قديمة لكن هذا الموضع لا يحتاج إلى ذلك فإن احتج على نفي قديم غير الله بإجماع المسلمين فيكون الجواب في الوجه الخامس والعشرين وهو أن المسلمين لم يجمعوا على أنه ليس لله صفة قديمة بل عامة

ص: 654

أهل القبلة على إثبات ذلك ولكن أجمعوا على أنه ليس فيما هو خارج عن مسمى الله وهو الأمور المخلوقة شيء قديم فأين هذا من هذا فهذا الإجماع إنما يلزم لو قيل إن هناك حيزًا وجوديًّا خارجًا عن مسمى الله تعالى يختص له أزلا وأبدًا الوجه السادس والعشرون أن احتجاجك في هذا بالإجماع لا يصح فإنك قد حكيت نزاع المسلمين في أن الباري هل هو متحيز ومختص بحيز وجهة وقررت أن الحيز أمر وجودي فتكون قد حكيت نزاع المسلمين في ثبوت حيز قديم مع الله بل قد يقال حكيت اختلافهم في ثبوت حيز قديم وجودي غير الله وإذا حكيت اختلافهم في ذلك لم يجز أن تحكي إجماعهم على نفي قديم غير الله تعالى وتقرير هذا في الوجه السابع والعشرين أن يقال هذه الحجة من أولها مبنية على أن الحيز أمر وجودي وبذلك أبطلت المنازع لك في أن الباري متحيز فلا يخلو إما أن يكون الحيز وجوديًّا أم لا فإن كان الحيز وجوديًّا فقد ثبت تنازع الأمة في ثبوت قديم غير الله معه لأن النزاع في تحيزه معلوم مشهور وأنت إنما قصدت الرد على المخالف في ذلك وإن لم يكن

ص: 655

الحيز وجوديًّا بطلت الحجة من أصلها وعلى التقديرين لا يصح أن تحتج بالإجماع على نفي قديم غير الله تعالى مع حكايتك الخلاف في أن الله متحيز وبنائك الحجة على أن الحيز أمر وجودي بل إن كان ما ذكرته من النزاع نقلاً صحيحًا وما ذكرته من الحجة صحيحة فقد ثبت أن في الأمة من يقول بثبوت قديم غير الله وإن لم يكن صحيحًا بطل الاستدلال من أوله الوجه الثامن والعشرون أن هذا اللفظ بعينه لا ينقل عن سلف الأمة حتى يحتج بمضمون اللفظ ولكن لما علم من مذهب الأمة أن الله خالق كل شيء وأن العالم محدث ذكر هذا اللفظ نقلاً لمذهبهم بالمعنى وإذا كان كذلك لم يكن هذا متناولاً لموارد النزاع بين الأمة الوجه التاسع والعشرون أنه أورد من جهة المنازع أنه لا يعني بكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا أنه مباينٌ عن العالم منفردٌ عنه ممتازٌ عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجودًا آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير وهذا كلام جيد قوي كما قد بيناه فيما مضى أن الحيز لا خلاف بين الناس أنه قد يراد به ما ليس بخارج عن

ص: 656

مسمى الذات وأن هؤلاء المنازعين له لا يقولون إن مع الباري موجودًا هو داخل في مسمى نفسه أو موجودًا مستغنيًا عنه فضلاً عن أن يكون الرب مفتقرًا إليه بل كل ما سواه فإنه محتاج إليه وقد قرر لهم ذلك بالعالم فقال والذي يدل على صحة ما ذكرنا أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى ههنا فلم لا يجوز مثله في كون الباري مختصًّا بالحيز والجهة وهذا كلام سديد وهو قياس من باب الأولى ومثل هذا القياس يستعمل في حق الله تعالى وكذلك ورد به الكتاب والسنة واستعمله سلف الأمة وأئمتها كقوله تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الروم 39] وقوله أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات 153]

ص: 657

وقوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ {59} لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {60} [النحل 58-60] وقوله وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ {62} [النحل 62] فإن الله أخبر أنهم إذا لم يرضوا لأنفسهم أن يكون مملوك أحدهم شريكه ولم يرضوا لأنفسهم أن يكون لهم البنات فربهم أحق وأولى بأن ينزهوه عما لا يرضوه لأنفسهم للعلم بأنه أحق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم وهذا كما يقول المسلم للنصراني كيف تنزه البتريك عن أن يكون له ولد وأنت تقول إن لله ولدًا وكذلك هنا

ص: 658

هو ينزه العالم المتحيز أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود ولا ينزه الرب المعبود إذا كان فوق العرش أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود والخالق أحق بالغنى من المخلوق فتنزيهه عن الشريك والولد والحاجة كل ذلك واجب له فإذا نزه بعض الموجودات عن شيء من ذلك كان تنزيهه الباري عنه أولى وأحرى ولم يجب عن هذا القياس والمثل الذي ضربوه له بالعالم بجواب صحيح بل قال قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في هذا الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما

ص: 659

كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق فيقال له أنت وجميع الخلق تسلمون أن كون العالم في حيز وجهة لا يستلزم احتياجه إلى حيز موجود مستغن عن العالم فإن هذا لم يقله عاقل فإنه يستلزم التسلسل وإذا كان قد علم بالعقل والاتفاق أن العالم يستغني في تحيزه عن حيز موجود خارج عنه فخالق العالم أولى أن يكون مستغنيًا عن ذلك ومن قال إنه في تحيزه يكون مفتقرًا إلى شيء موجود خارج عنه فلم يكفه أن عدله بالمخلوق بل فضل المخلوق بالاستغناء عليه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما قوله أيضًا في الجواب قد بينا بالبراهين القاطعة أن الأحياز أشياء موجودة فلا يبقى في

ص: 660

صحتها شك فيقال له قد تبين أن هذه من أضعف الشبه مع أنك مبطل لها كما تقدم ثم ما ذكرته في نهايتك في ذلك منقوض عليك في العالم فما كان جوابك فيه كان جواب منازعك هنا فإنك ضربت لله أمثالاً أوجبت فيها أنه محتاج مع وصفك لمن هو دونه بالغنى عما جعلته محتاجًا إليه ويكفيك ضلالاً أنك لو أشركت بالله وجعلته مثل المخلوقات لنجوت من هذا الضلال الذي أوجبت فيه حاجة رب العالمين إلى غيره إذا كان فوق العالم بل هذه الحال التي سلكتها أسوأ من حال المشركين في هذا المقام حيث أغنيت المخلوق عما أحوجت إليه الخالق هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد 4] ومثله في هذه المناظرة كما وقع بين اثنين واحد من المثبتة الذين يُثَبِّتُهم الله بالقول الثابت وآخر من النفاة قال النافي للمثبت إذا قلتم أن الله فوق العالم أو فوق العرش لزم أن يكون محتاجًا إلى العرش أو يكون محمولاً له محتاجًا إليه

ص: 661

كما إذا كان أحدنا على السطح فقال له المثبت السماء فوق الأرض وليست محتاجة إليها وكذلك العرش فوق السموات وليس محتاجًا إليها فإذا كان كثير من الأمور العالية فوق غيرها ليس محتاجًا إليها فكيف يجب أن يكون خالق الخلق الغني الصمد محتاجًا إلى ما هو عال عليه وهو فوقه مع أنه هو خالقه وربه ومليكه وذلك المخلوق في بعض مخلوقاته مفتقر في كل أموره إليه فإذا كان المخلوق إذا علا على كل شيء غني عنه لم يجب أن يكون محتاجًا إليه فكيف يجب على الرب إذا علا على كل شيء من مخلوقاته وذلك الشيء مفتقر إليه أن يكون الله محتاجًا إليه الوجه الثلاثون أنه قال في الاعتراض لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى

ص: 662

فقال في الجواب أماقوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز والجهة كونه تعالى منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو بائنًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لا نزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله عن الجهة لا يكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل فيقال له هذا الذي ذكرته ليس دليلاً على أن المخالفة في الحقيقة والماهية لا تقتضي الجهة فإن قولك إن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وليس ذلك بالجهة إنما يكون حجة لو ثبت أن الحيز والجهة أمر وجودي فإن الكلام هنا إنما هو في الامتياز والمباينة التي من الأمور الموجودة لا بين الموجود والمعدوم فإن المعدوم ليس شيئاً في الخارج حتى يحتاج إلى التمييز بينه وبين غيره وليس له

ص: 663

حقيقة وماهية حتى يميز بينه وبين غيره ولو فرض أنه محتاج إلى التمييز بينه وبين غيره فالكلام هناك وفي المباينة التي بين موجودين وهي المباينة بين الله وبين العالم وإذا كان كذلك كان احتجاجه بالمباينة التي بين الله وبين الجهة على المباينة بين الموجودين يكون بالحقيقة لا بالجهة إنما يصح إذا كانت الجهة أمرًا وجوديًّا وهذا هو محل النزاع الذي نازعه فيه المنازع على أن الجهة المضافة إلى الله تعالى ليست أمرًا موجودًا فإنه لا معنى لكون الباري في الجهة إلا كونه مباينًا للعالم ممتازًا عنه منفردًا وهو لا يقتضي وجود أمر سوى ذات الله فإذا احتج على أن المباينة التي بين الله تعالى وبين العالم إنما هي بالحقيقة ومباينة الشيء بالحقيقة لا يقتضي الجهة كمباينة الرب للجهة كان قد سلم أن الجهة أمر وجودي في هذا الجواب وهذه مصادرة على المطلوب حيث جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه والمنازع يقول لا أسلم أن الجهة أمر موجود حتى يقال إن الله تعالى مباين لشيء موجود بغير جهة فإن النزاع ما وقع إلا في وجودها وهذا أول المسألة فكيف يحتج في وجوده بدليل محتج فيه بوجوده وهذا

ص: 664

ظاهرلا يخفى على من تدبره وظهر أنه لم يذكر حجة على أن المخالفة بالحقيقة لا تقتضي الجهة الوجه الحادي والثلاثون أن يقال المعلوم من المباينة والامتياز بالحقيقة والماهية لا يخلو عن الجهة وذلك أنه إما أن يكون بين جوهرين وجسمين وما يقوم بهما وكل منهما مباين للآخر بالجهة وإما أن يكون بين عرضين بجوهر واحد وعين واحدة كطعمه ولونه وريحه وعلمه وقدرته أو بين العين وبين صفاتها وأعراضها كالتمييز بين الجسم وبين طعمه ولونه وريحه وهذان الموضعان لا يخلو الأمران عن الجهة أيضًا فإن الجوهر هو في الحيز بنفسه بخلاف العرض الذي فيه فإنه قائم في الحيز تبعًا لغيره وأما الصفتان والعرضان فهما أيضًا قائمان بمتحيز وإن كان أحدهما لا يتميز عن الآخر بمحله فليس في الأشياء الموجودة التي يعلم تباينها وتمايزها ما تخلو عن الجهة والحيز فإن قيل فأحد العرضين مباين الآخر بحقيقته مع اتفاق محلهما فبقال الوجه الثاني والثلاثون وهو أن كل شيئين قائمين

ص: 665

بأنفسهما لا يباين أحدهما الآخر إلا بالجهة وذلك أن الموجودات كلها الواجب والممكن إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره فالقائمات بأنفسها لا تتميز بعضها عن بعض إلا بالجهة وأما القائم بغيره فإنه تبع في الوجود للقائم بنفسه يوضح ذلك أن القائم بغيره هو محتاج إلى محل ومكان وأيضًا فقد يقال الأعراض نوعان أحدهما مالا تشترط له الحياة وهو قسمان أحدهما الأكوان وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فهذه لا تتميز وتتباين إلا بالجهة والحيز وإن كان تبعًا للمحل فلا يفرق بين الحركة والسكون ولا بين الاجتماع والافتراق إلا بالحيز والجهة فإن الحركة انتقال في حيز بعد حيز والسكون دوام في حيز واحد

ص: 666

والاجتماع يكون بتلاقي الحيزين والافتراق يكون بتباينهما والثاني الطعوم والألوان والروايح وهذه هي الصفات فهذه الأمور لا تدرك بشيء واحد بل تتميز بحواس مختلفة فالذي يتميز به هذا غير الذي يتميز به هذا فحقائقها لا تظهر إلا بإدراكها وإدراكها من أجناس في أحياز متباينة فامتياز الأحياز التي لإدراكاتها تقوم مقام امتياز أحيازها والقسم الثاني ما تشترط له الحياة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فهذه أيضًا متباينة قد يحصل بين آثارها من تباين المحال ما يقوم مقام تباين محالها وقد يقال هذه الأعراض كلها مفروضة الإضافة إلى الغير وذلك الغيرالذي هي مضافة إليه متباين بجهته فهي متباينة بالإضافة إلى ما تتباين جهته وظهر أنه ليس في الموجودات ما يباين غيره بمجرد حقيقته المجردة عن الجهة

ص: 667

من كل وجه بل لابد من شيء يظهر تحصل به الوجه الثالث والثلاثون أن يقال لا نسلم أنه إذا قيل هذا مباين لهذا وممتاز عنه أو منفرد عنه فإنه لا يراد به إلا أن حقيقته ليست مثل حقيقته بل المراد بذلك أن هذا في ناحية عن هذا وأنه منفصل عنه بحيث يكون حيزه غير حيزه هذا هو المعروف من هذا وأما الاختلاف في الحقيقة فمعناه عدم المماثلة فإن الحقائق إما مختلفة وإما متماثلة ومن المعلوم أنه إذا قيل إن الله مباين للعالم أو ممتاز عنه ومنفرد عنه لم يرد به أن الله ليس مثل العالم وهذا كما قيل لابن مبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذه المباينة لا يراد بها عدم المماثلة بل يراد بها أنه منفصل عنه وتصور ذلك بديهي ظاهر وما يعلم في المواضع التي يستعمل فيها لفظ مباينة الشيء لغيره وامتيازه عنه وانفراده عنه إلا ويكون ذلك مع انفصال أحدهما عن الآخر حتى إذا ضمن ذلك المفاضلة وعدم المماثلة مثل أن يقال هذا متميز عن هذا بكذا وكذا وهذا منفرد عن أقرانه بكذا وكذا ففي هذه المواضع كلها يوجد معنى

ص: 668

الانفصال والتمييز بالحيز والجهة ودليل ذلك أنه لا يعرف أن يقال اللون منفرد عن الطعم ومباين له مع أن أحدهما ليس مثل الآخر فعلم أن المخالفة التي مضمونها عدم المماثلة فهي متضمنة الانفصال الوجه الرابع والثلاثون أن يقال المختلفان في الحقيقة هما اللذان لا يتماثلان فالمماثلة ضد المخالفة والاختلاف ضد التماثل وعدم التماثل لابد أن يستلزم صفات حقيقية ثبوتية اختلفا بها وإلا فالعدم المحض لا يوجب امتياز أحدهما عن الآخر فإذن التباين بمعنى الاختلاف في الحقيقة يقتضي أمورًا ثبوتية خالف بهما أحدهما الآخر مخالفة تنفي تماثله وإذا كان المراد بالمباينة ذلك لم يجز العلم بها إلا بعد العلم بأن الشيئين ليسا متماثلين وذلك لا يكون إلا بعد العلم بأمور ثبوتية تنفي مماثلتهما كما يعلم الطعم واللون والريح فيعلم أنها ليست متماثلة والعلم بأن الخالق مباين للمخلوق وأنه ممتاز عنه وأنه منفرد عنه يحصل قيل العلم بان الله لا مثيل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد

ص: 669

يحصل العلم بأنه ليس مماثلاً للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم ممتاز عنه منفرد عنه فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم دون هذه علم أنها أيضًا ثابتة وإن كانت تلك أيضًا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون له المباينة بالصفة والكيفية وأما المباينة بمجرد الصفة والكيفية فلا تكون إلا بما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال ومن ها هنا يتبين لنا الوجه الخامس والثلاثون وهو أن المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام للأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحياز وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين

ص: 670

المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما يتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقَدْر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس مباينة الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة العرض للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لاسيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله غني عن العالمين كما تقدم ومن هاهنا جعله كثير من الجهمية حالاً في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل هو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته على

ص: 671

العالم ما يجب تنزيه الله عنه وهؤلاء قد زعمواأنهم نزهوه عن الحيز والجهة فلا يكون مفتقرًا إلى غيره فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً {91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً {92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95} [مريم 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته وأن ذلك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد وإذا كلن هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش إنهم جعلوه معدومًا ووصفوه بصفة المعدوم

ص: 672

يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولايجب أن يكون موجودًا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذه حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين الوجه السادس والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر وذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة الني تسمى المباينة بالحقيقة والكيفية والمباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية وإن كانت مباينته

ص: 673

لهذين أعظم ممايعلم من مباينة المخلوق للمخلوق إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلته للمخلوق وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع يوضح ذلك الوجه السابع والثلاثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهي ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم ذلك فإن المباينة بالجهة والحيز تقتضي أن تكون عين أحدهما مغايرة لعين الآخر وهذا فيه رفع الاتحاد وإثبات مخالفة وكذلك اختلاف الصفة والقدر ترفع المماثلة وتثبت المباينة والمخالفة وهو إن كان قد قال إن المباينة يُعنى بها المباينة بالجهة والمخالفة في الحقيقة وقد ذكر أنها في المعنى الأول أظهر فإنها تستلزم الاختلاف في الحقيقة حيث كانت فإن الشيئين المتماثلين لايتصور أن يتماثلا حتى يرتفع التباين في العين بل لابد أن تكون عين أحدهما ليست عين الآخر وان يكون له ما يخصه من أحوال كالعرضين المتماثلين بل السوادين إذا حل أحدهما في محل بعد الآخر فإن زمان هذا غير زمان الآخر ولهذا يقال المباينة تكون

ص: 674

بالزمان وتكون بالمكان وتكون بالحقيقة والمقصود هنا أن المباينة مستلزمة لرفع المماثلة فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء في أمر من الأمور وجب أن تكون له المباينة التامة بكل وجه فيكون مباينًا للخلق بصفته وقدره بحقيقته وجهته وبقدمه الذي يفارق به الكائنات في زمانها فتكون الأشياء مباينة له بمكانها وزمانها وحقيقتها وهو سبحانه مباين لها بأزله وأبده وظهروه وبطونه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهومباين لها بصفاته سبحانه وتعالى يؤيد هذا أن المثبتة للصور أعظم تنزيهًا لله عن مماثلة الخلق من نفاتها لأن الأمور السلبية لا ترفع المماثلة بل الأعدام متماثلة وإنما يرتفع التماثل بالأمور الوجودية فكل من كان أعظم إثباتًا لما توجبه أسماء الله وصفاته كان رفعه المماثلة عن الله أعظم وظهر أن هؤلاء الجهمية الذين يزعمون أنهم يقصدون تنزيهه عن المشابهة هو الذين جعلوا له أمثالاً وأندادًا فيما أثبتوه وفيما نفوه كما تقدم بيان ذلك والله أعلم

ص: 675

أما قولنا إنه يمتنع أن يكون غير متناه من جميع الجوانب فيدل عليه وجوه الأول أن وجود بُعدٍ لا نهاية له محال والدليل عليه أن فَرْضَ بُعْدٍ غير متناه يُفضي إلى المحال فوجب أن يكون محالاً وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا إذا فرضنا بعدًا غير متناه وفرضنا بعدًا آخر متناهيًا موازيًا له ثم زال الخط المتناهي من الموازة إلى المسامتة فنقول هذا يقتضي أن يحصل من الخط الأول الذي هو غير متناه نقطة هي أول نقط المسامتة وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتًا للخط الغير متناهي ثم صار مسامتًا له فكانت هذه المسامتة حادثة في

ص: 677

أول أوان حدوثها لابد وأن تكون مع نقطة معينة فتكون تلك النقطة هي أول نقطة المسامتة لكن كون الخط غير متناه يمنع من ذلك لأن المسامتة مع النقطة الفوقانية تحصل قبل المسامتة مع النقطة التحتانية فإذا كان الخط غير متناه فلا نقطة فيه إلا وفوقها نقطة أخرى وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الأولى مع نقطة معينة فثبت أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير متناه نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل وهذا المحال إنما لزم من فَرْضِنَا أن ذلك الخط غير متناه فوجب أن يكون في ذلك محالاً فثبت أن القول بوجود بعد غير متناه محال الوجه الثاني وهو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير

ص: 678

متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع الوجه الثالث أنه لو كان غير متناه من جميع الجوانب لوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزاء ذاته وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل وأما القسم الثاني وهو أن نقول إنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب فهو أيضًا باطل لوجهين أحدهما أن البرهان الذي ذكرناه على امتناع بعد غير

ص: 679

متناه قائم سواء قيل من كل الجوانب أو من بعض الجوانب الثاني أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الذي فرض أنه متناه إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الجانب الآخر وذلك يقتضي أن ينقلب الجانب المتناهي غير متناهٍ والجانب الغير متناه متناهيًا وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى وهو محال وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية فنقول أن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بينا الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلاالشيء الممتد في

ص: 680

الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كانت جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه متناه من كل الجوانب فهذا أيضًا باطل من وجهين أحدهما أن كل ما كلن متناهيًا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكلما كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه الثاني أنه لما كان متناهيًا من جميع الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله وأيضًا فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فلو فرض حيز خال لكان قادرًا على أن يخلق فيه جسمًا وعلى

ص: 681

هذا التقدير يكون هذا الجسم فوق الله تعالى وذلك عند الخصم محال فثبت أنه لو كان في جهة لم يخل الأمر عن أحد هذه الأقسام الثلاثة وثبت أن كل واحد منها باطل محال فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة محال فإن قيل ألستم تقولون إنه غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه شيء غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول فإن كان مرادكم ذلك فقد ارتفع

ص: 682

النزاع بيننا وإن كان مرادكم هذا الوجه الثاني فحينئذ يتوجه عليكم ماذكرناه من الدليل ولا ينقلب ذلك علينا لأنا لا نقول إنه غير متناه بهذا التفسير حتى يلزمنا ذلك الإلزام فظهر الفرق وبالله التوفيق يقال هذه الحجة هي من جنس قولهم لو كان فوق العرش لكان إما أن يكون أصغر منه أو بِقَدْرِه أو أكبر منه ببعد متناه أو غير متناه وهذه الحجج من حجج الجهمية قديمًا كما ذكر ذلك الأئمة وذكروا أن جهمًا وأتباعه هم أول من أحدث في الإسلام هذه الصفات السلبية وإبطال نقيضها مثل قولهم ليس فوق العالم ولا هو داخل العالم ولا خارجه وليس في مكان دون مكان وليس بمتحيز ولا جوهر ولا جسم ولا له نهاية ولا حد ونحو هذه العبارات فإن هذه

ص: 683

العبارات جميعها وما يشبهها لا تؤثر عن أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة الدين المعروفين ولا يروى بها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا توجد في شيء من كتب الله المنزلة من عنده بل هذه هي من أقوال الجهمية ومن الكلام الذي اتفق السلف على ذمه لما أحدثه من أحدثه فحيث ورد في كلام السلف ذم الجهمية كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك وحيث ورد عنهم ذم الكلام والمتكلمين كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك فإن ذلك لما أحدثه المبتدعون كثر ذم أئمةالدين لهم وكلامهم في ذلك كثير قد صنف فيه مصنفات حتى إن أعيان هذه العبارات وأمثالها ذكرها السلف والأئمة فيما أنكروه على الجهمية وأهل الكلام المحدث وقد قدمنا ما وصفه الإمام أحمد من مذهب جهم حيث قال وتأول القرآن على غير تأويله وكَذَّبَ بأحاديث النبي

ص: 684

صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئاً وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه ولا هو في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولايوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا له غاية ولا

ص: 685

منتهي ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو سمع كله هو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بصفتين مختلفتين فليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولاشمال ولاهو خفيف ولا ثقيل ولاله لون ولاله جسم وليس بمعقول وكلما خطر بقلبك أنه شيء تعرفه فالله بخلافه وقال أيضًا الإمام أبوسعيد عثمان بن سعيد في كتابه المعروف الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهم العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال باب الحد والعرش وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية

ص: 686

ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك منها أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لا شيء ليس له حد وغاية ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولاغاية وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد

ص: 687

أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضَا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك يم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك

ص: 688

قال فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة

ص: 689

دليل على أنها لو لم تؤمن أن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله ثم قال وثنا أحمد بن منيع البغدادي حدثنا

ص: 690

أبو معاوية عن شيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن

ص: 691

حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تُعِدُّه لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء

ص: 692

فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض فقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في

ص: 693

السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم قد عرفوه بذلك إذاحَزَبَ الصبي شيء رفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية وقدمنا أيضًا قوله في ضمن رده على الجهمي المنكر لاستواء الله على العرش قال وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغر أو كبر وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن كان الله أصغر فقد صيرتم العرش

ص: 694

أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر من خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل عليه لله لقطع ثمرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البقاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحتمله العرش عظمًا ولا قوة ولا حملة العرش احتملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه بشدة أسرهم ولكنهم حملوه بقدرته ومشيئته وإرادته وتأييده لولا ذلك ما أطاقوا حمله

ص: 695

وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقل على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة وإذا عرفت أصل هذا الكلام فجميع السلف والأئمة الذين بلغهم ذلك أنكروا ما فيه من هذه المعاني السلبية التي تنافي ما جاء به الكتاب والسنة ثم من كان من السلف أخبر بحال الجهمية مثل الذين كانوا يباشرونهم من السلف والأئمة الذين بالعراق وخراسان إذ

ص: 696

ذاك فإنهم كانوا أخبر بحقيقة أمرهم لمجاورتهم لهم فإنهم قد يتكلمون بنقيض ما نفوه وقد يتوقف بعضهم عن إطلاق اللفظ مثل لفظ الحد فإن المشاهير بالإمامة في السنة أثبتوه كما ذكره عثمان بن سعيد عنهم وسمَّى ابن المبارك وذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب ذم الكلام بإسناد ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق في مسائله عنهما وعن غيرهما قال قلت لإسحاق بن إبراهيم ما تقول في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وذكر أيضًا ما ذكره ابن أبي

ص: 697

حاتم بإسناده أن هشام بن عبيد الله الرازي القاضي صاحب محمد بن الحسن حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب وقال شيخ الإسلام شرح مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق يعني تصنيفه باب أغنى عن تكريره هنا وقال شيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام وأهله في أثناء

ص: 698

الطبقة الثامنة وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان هذا مع أن هؤلاء الذين يذكر شيخ الإسلام أقوالهم من أئمة الحديث والفقه والتصوف وغيرهم وقد ذكر عنهم ذم الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم على ما أحدثوه مما يخالف طريقة أهل السنة والحديث وذكر الخلال في كتاب

ص: 699

السنة ما تقدم من رواية حرب عن إسحاق بن إبراهيم أن الله عزوجل وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه من ذلك قوله يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] في آيات كلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش وأعلى شيء فيه وأثبته قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال وأنا أبوبكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال قال إسحاق بن

ص: 700

راهوية قال الله تبارك وتعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي السموات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علمًا وما تسقط من ورقة إلا يعلمهاولاحبة في ظلمات البر والبحر إلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه ولايعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره ثم قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روى علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22]

ص: 701

قال الخلال وأنا محمد بن علي الوراق ثنا أبوبكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد ابن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا

ص: 702

وقال ثنا الحسن بن صالح العطار ثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال

ص: 703

كنا عند أبي عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك 16] تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء وقولهم ما معنى قول ابن المبارك وقوله لا أعرفه قد يكون لا أعرف حقيقة مراده لكن للمعنى الظاهر من اللفظ شواهد وهو النصوص التي تدل على أن الله تنتهي إليه الأمور وأنه في السماء ونحو ذلك وقد يكون لا أدري من أين قال ذلك لكن له شواهد وقال الخلال أنا يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد

ص: 704

ابن حنبل قيل له والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان قال نعم على عرشه لا يخلو شيء من علمه وقال أخبرني عبد الملك الميموني أنه سأل أبا عبد الله

ص: 705

ما تقول فيمن يقول إن الله ليس على العرش قال كلامهم كله يدور على الكفر وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كمايظنه بعض الناس فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة وقد رواه الخلال في كتاب السنة أخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي

ص: 706

نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله عز وجل منه وله وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو لايدرَك وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علمه وقدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله قبل أن يكون شيء والله الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير

ص: 707

وذلك أن لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان يراد به حقيقة الشيء نفسه ويراد به القول الدال عليه المميز له وبذلك يتفق الحد الوصفي والحد القدري كلاهما يراد به الوجود العيني والوجود الذهني فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف وأتبع ذلك بقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحد ولا غاية وهذا التفسير الصحيح للإدراك به أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته ثم قال وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] وهو عالم الغيب والشهادة ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء وقال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى

ص: 708

أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث قال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولاكيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولانرد على الله قوله ولايوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء

ص: 709

قال وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن

ص: 710

بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كَنَفَهُ عليه هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولاحد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطالة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بضير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك

ص: 711

الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولايحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي

ص: 712

وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال أبو عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تبارك وتعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عمانهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا

ص: 713

الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى وزاد علي بن عيسى عن حنبل قال وسمعت أبا عبد الله يقول ماأحد أشد حدثًا على أهل البدع والخلاف من حماد بن سلمة ولا أروى لأحاديث الرؤية والرد على القدرية والمعتزلة منه قال وسمعت أبا عبد الله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم كله ينكرون الآثار وما ظننتهم هكذا حتى سمعت مقالتهم وكذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أحد أئمة المدينة المشاهير على عهد مالك بن

ص: 714

أنس وهم مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون هذا قال في كلامه المشهور عنه الذي رواه ابن بطة وغيره بأسانيد صحيحة قال وقد سئل فيما

ص: 715

جحدته الجهمية أما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلَّت الألسُن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره وردت عظمته العقول فلم تجد مساغًا فرجعت خاسئة وهي حسيرة فإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير فإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو وكيف يُعرف قدر من لم يبدأ ولايموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قَدْرَه واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين

ص: 716

منه الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرًا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولابصر ولما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] اعرف رحمك الله غنَاك عن تكلف صفة مالم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم يُعْرف قدرما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزجر به عن شيء من معصيته فأما الذي جحد ما وصف الرب تعمقًا وتكلفًا قد

ص: 717

استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فَعَمِي عن البيِّن بالخفي بجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظر الله إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينَضرون إلى أن قال وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة

ص: 718

الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدًا وقال المسلمون يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون من رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك وقال رسول الله لا تمتلئ النار حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض وقال لثابت بن قيس بن

ص: 719

شماس لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة وقال فيما بلغنا إن الله ليضحك من أزلكم وقُنُوطِكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك قال

ص: 720

نعم قال لا نَعْدِم من ربٍّ يَضْحكُ خيرًا في أشباه لهذا مما لم نحصه وقال الله تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11]

ص: 721

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] وقال مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 67] فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي أُلقي في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولاتتجاوز ما قد حُدّ لك فإن من

ص: 722

قوام الدين معرفة المعروف وإنكارالمنكر فما بَسَطَتْ عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذُكِرَ أصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصِفَته من ربك ما وصف من نفسه عيبًا ولاتَكلَّفن لما وُصِفَ لك من ذلك قدرًا وما أَنْكَرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربيك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولاتصفه بلسانك اصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تَكَلُّفك معرفة مالم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها فكما أعظمت ماجحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ماوصف الواصفون مما لم يصف منها فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مَرِضَ من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم ولا يكلف صفة قدره

ص: 723

ولاتسمية غيره من الرب مؤمن وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدًا ولا يتكلفون صفة ما لم يسم تعمقًا لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] وهب الله لنا ولكم حكمًا وألحقنا بالصالحين

ص: 724

فصل والكلام على هذه الحجة من مقامين أحدهما منع المقدمة الأولى والثاني منع الثانية أما الأول فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية وأئمة الأشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة وغيرهم وأهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم أمم لا يحصيهم إلا الله ومن هؤلاء أبو حاتم ابن حبان وأبوسليمان الخطابي البُسْتِيّان قال أبو سليمان الخطابي في الرسالة الناصحة لما تكلم على الصفات ومما يجب أن يعلم من هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي

ص: 725

قد ثبتت بصحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في حكمها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى أن لله مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه اللفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في الرواية كخلاف البينة للبينة إذا تعارضت البينتان سقطتا معَا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أنه يجد ربه بمكانه الأول من الإجابة في

ص: 726

الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه في المذنبين من أمته كل ذلك يُشَفّعه ويُشَفِّعه بمسألتهم فيهم قلت هذا في حديث المعراج من رواية شريك ولكن غلط الخطابي في ذلك فاشتبه عليه حديث المعراج بحديث الشفاعة ولكن في حديث الشفاعة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا ذكر ذلك ثلاث مرات وهذا في الصحيح من رواية قتادة عن أنس وأما تلك اللفظة فهي في حديث المعراج من رواية شريك وليس هذا موضع الكلام في ذلك قال الخطابي ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن

ص: 727

لله حدًّا وكان أعلى مااحتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك أنعرف الله بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله لاتؤخذ إلا من كتاب الله تعالى أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو سفلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تُدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية عن ابن المبارك قد رويت لنا أنه قيل له أنعرف الله بجد فقال نعم بجد بالجيم دون الحاء قال وزعم بعضهم أن يقال إن له حدًّا لا كالحدود كما تقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أَحْوجنا أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فيلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب أو في السنة حتى نقول حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي

ص: 728

أرأيت إن قال قائل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجئ ذكر الر أس لم يجز القول به قلت وممن أنكر الحد أبو الحارث وكان القاضي أبو يعلى ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به وكذلك لفظ الجهة وقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات في كلامه على حديث العباس بن عبد المطلب

ص: 729

والاستواء على العرش فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على العرش قد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث قال والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقال قائل هذا بمثلبة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن

ص: 730

العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان قال وإذا ثبت استواؤه ثبت أنه على العرش وأنه في جهة فهل الاستواء من صفات الذات قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات وأنه موصوف بها في القدم وإن لم يكن هناك عرش موجود لتحقق وجود ذلك منه في

ص: 731

الثاني لأنهم قد قالوا خالق ورازق موصوف به فيما لم يزل ولا مخلوق ولا مرزوق لتحقق الفعل من جهته وقد تقول العرب سيف قطوع وخبز مشبع وماء مروٍ وإن لم يوجد منه القطع لتحقق الفعل منه واستدل بعض أصحابنا بأنه موصوف في الأزل بالربوبية ولا مربوب وبالألوهية ولا مألوه وعلى قياس هذا النزول إلى السماء والمجيء في ظلل من الغمام ووضع القدم في النار فإن قيل فقد قال أحمد في رواية حنبل هو على العرش كيف شاء وكما شاء وصفات الذات لا تدخل تحت المشيئة قيل راجعة إلى خلق العرش لا إلى الاستواء عليه قلت وفي هذا نزاع بين الأصحاب وغيرهم ليس هذا موضعه

ص: 732

قال القاضي وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي فقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال القاضي ورأيت بخط أبي إسحاق أنا أبوبكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر عن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين

ص: 733

قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو تعالى ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد له حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يَبِينُ بها عن غيره ويتميز ولهذا سمي البواب حدادًا لأنه يمنع غيره عن الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص

ص: 734

صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا فهو رجوع منه إلى القول بإثبات الحد لكن اختلف في ذلك كلامه فقال هنا ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام والميمنة والميسرة وكان الفرق

ص: 735

بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ماحاذاه من الذات وأنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في الميمنة والميسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي ذكره في تفسير كلام أحمد ليس بصواب بل كلام أحمد كما قال أولاً حيث نفاه نفي تحديد الْحَادِّ له وعلمه بحده وحيث أثبته أثبته في نفسه ولفظ الحد يقال على حقيقة المحدود صفة أو قدرًا أو مجموعهما ويقال على العلم والقول الدال على المحدود

ص: 736

وأما ما ذكره القاضي من إثبات الحد من نهاية العرش فقط فهذا قد اختلف فيه كلامه وهو قول طائفة من أهل السنة والجمهور على خلافه وهو الصواب والمقصود أن نفاة الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يقولون إنه على العرش يقولون لا نسلم أنه إذا كان هو بنفسه فوق العرش أنه يلزم أن يوصف بتناهي المقدار كما لا يستلزم أن يوصف بالانقسام وكذلك لا يستلزم أن يوصف عندهم بعدم التناهي الذي هو بعد لا يتناهى كما لا يوصف عندهم بعدم الانقسام الذي هو جزء لا ينقسم وكذلك لا يستلزم ذلك عندهم أن يوصف بأنه أكبر من العرش في المقدار والمساحة أو أصغر أو بقدره فإنهم يقولون هذه اللوازم كلها إنما تلزم إذا فرض أن فوق

ص: 737

العرش ما هو جسم أما إذا كان الذي فوق العرش ليس بجسم فإنه يمتنع أن يستلزم لوازم الجسم لأن الانقسام أو التناهي والتحديد ونحو ذلك هي لازمة للجسم وملزومة له فلا يكون متناهيًا محدودًا مقسومًا إلا مايكون جسمًا ولا يكون جسمًا إلا ما جاز أن يوصف بالانقسام أو بقبول التناهي والتحديد وعدم ذلك قالوا لمنازعيهم من النفاة فإذا اتفقنا على أنه ليس بجسم أو إذا قام الدليل على أنه ليس بجسم وقد علمنا بالفطرة والضرورة العقلية والأدلة المتواترة السمعية واتفاق سلف الأمة وخيرالبرية أنه فوق العرش كان التقدير أن الذي فوق العرش ليس بجسم وحينئذ فقول القائل إما أن يكون متناهيًا أو ذاهبًا في الجهات إلى غير غاية وإما أن يكون منقسمًا أو جوهرًا فردًا كل ذلك باطل لأن هذه اللوازم إنما تكون إذا كان الذي على العرش جسمًا أما إذا كان غير جسم ولا متحيز فلا يلزم شيء من هذه اللوازم

ص: 738

وقالوا هذه اللوازم والتقسيم كله من حكم الوهم والخيال وباب الربوبية لايجوز أن يحكم فيه بحكم الوهم والخيال كما قد قرره هذا المؤسس في مقدمة الكتاب ولا ريب أن قولهم هذا أصح من قول منازعيهم من النفاة لما قيل لهم إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحاثين وإماأن يكون أحدهما بحيث الآخر وإماأن يكون مباينًا عنه بالجهة فقالوا ليس بكذا ولا كذا فنفوا الطريقين جميعًا وقالوا إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس فقيل لهم هذا أحقر من الجوهر الفرد فقالوا في جواب ذلك إنما يلزم لو كان جسمًا أو لو كان موصوفًا بالحيز والمقدار

ص: 739

وقالوا هذا من حكم الوهم والخيال أو من حكم الحس والوهم فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين وأنهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء وأنه إن كان كثيرًا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض ويصفهم بالتناقض في ذلك فالنفاة أعظم تناقضًا منهم وأعظم مخالفة لمايعلم بالاضطرار في العقل والدين وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضًا فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين

ص: 740

وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذين احتجوا به على أن الله تعالى على العرش وما احتجوا به في ذلك من الآيات التي يحتج بها على إثبات الحد فقال باب ذكرالاستواء فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقد قال عز وجل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وهذه الآيات هي التي استشهد بها

ص: 741

الإمام أحمد لقول ابن المبارك وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك فهذا الرازي

ص: 742

وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتهاعلى أن الله متحيز في جهة وأن له حدًا وقد تقدم تمام قول الأشعري قال أيضًا وقد قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال سبحانه ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] وكل هذا يدل على

ص: 743

أنه في السماء مستو على عرشه قال والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه عز وجل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه قال وقال سبحانه وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وقال عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى قال وقال سبحانه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ

ص: 744

[آل عمران 55] وقال سبحانه وتعالى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء وقال ومن دعا المسلمين جميعًا إذا هو رَغِبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش أو يا من احتجب بالعرش أو بسبع سموات وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم تستلزم أن يكون جسمًا متحيزًا

ص: 745

قال وقال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن الشبهة وإدخال الشك على من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً وترك أجناسًا لم يعمهم بالآية قال فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون

ص: 746

غيرهم وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه وتعالى قد يحتجب عن شيء دون شيء وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش لأن النفاة يقولون الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسمًا وهوقد احتج بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش قال وقال الله عز وجل ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48]

ص: 747

قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا جل عمايقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل

ص: 748

فاحتجاجه بقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ [الأنعام 62] وقوله وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقوله وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ [الكهف 48] وقوله نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه فإذًا نتكلم على حجته في هذا المقام فإنه يقال له قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان لا يخلو إما يكون متناهيًا من جميع الجوانب أو بعضها أو غير متناه من جميعها يعارضونه بأن يقولوا هذه الحجة ترد عليك أيضًا بأن يقال ولو كان موجودًا أو قائمًا بنفسه كان متناهيًا أو غير متناهٍ فإن قلت نحن نقول هو موجود في غيرجهة ولا حيز أصلاً وهوغير متناه في ذاته بمعنى أن ذاته بمعنى أن ذاته يمتنع أن يكون لها طرف ونهاية وحد

ص: 749

يقال لك إذا عقل موجود لا نهاية له بهذا التفسير فلأن يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مساحة لانهاية لها فإنه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفِطرَ تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لاداخل العالم ولا خارجه فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لاتقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش وإذا قال قائل هذه الفوقية أوهذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنه لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الإقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الإقرار بأنه ليس ذا مساحة مقدار لاينافي الإقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما

ص: 750

يناسب ذاته ومنافاة الإقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيًا وأما المقام الثاني فكلام من لاينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظًا أو معنى أو لايتعرض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين وحيث ائتموا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعل كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق ولا وافقوهم أيضًا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك أو عزموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال قوله وأما القسم الثالث وهوأن يقال كل متناه من كل الجوانب فهذا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيًا من جميع الجوانب كانت

ص: 751

حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكل مل كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه فيقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكرته من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانًا واضحًا ونحن نحيل على ماذكرناه هناك كما أحال هو عليه وأما الوجه الثاني فقوله إنه لما كان متناهيًا من جميع

ص: 752

الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحيازٌ خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى ويكون قادرًا على أن يخلق فيها جسمًا فوقه فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرًا وجوديًّا وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادهما في غير موضع من كتبك وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرًا وجوديًّا وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك وظهر صحة قوله سبحانه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا النص أيضًا يدل على أنه ليس فوق

ص: 753

الله شيء وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئًا وكل موجود فإنه يسمى شيئًا فقد اتفق الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزًا وغيره وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى حتى إنه يقول ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناهٍ أن لا يكون وراءه أحياز موجودة فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو ويمكن أن يخلق مثلَهُ عالماً آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعروفة

ص: 754

التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والإيجاب فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحيازٌ خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلاً من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن لله شريكًا من خلقه أو أن له ولدًا لا يرضى مثله لنفسه فيقال له المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة وأما قوله هو قادرعلى خلق الجسم في الحيز الفارغ فيكون ذلك الجسم فوقه فيقال لك هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه كما لا يصح أنة يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء كما أنه إذا وجب أن يكون الأول و

ص: 755

الآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعًا ظهر فيه امتناع أن يكون قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم بل هم باقون أبدًا وإن كانوا متحيزين فلا حد ولا نهاية لآخرهم وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأماكنها ولهذا لما أراد جهم أن يَطْرُد دليله في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار

ص: 756

ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد وإن كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيًا لم يجب أن يكون فوقه شيء إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية وقد تقدم إبطاله لذلك وأيضًا فيقال له أنت لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلاً وأما قولك لا يكون هو فوق جميع الأشياء بل تكون الحياز أشد فوقية فهذا تمسك بإطلاق لفظ مع أنك لا تقول بمعناه فهو عندك أيضًا ليس فوقه شيء من الأشياء فضلاً عن أن تكون فوقه جميعها إلا بمعنى القدرة والتدبير وهذا المعنى يثبته المنازع مع إثباته لهذه الفوقية الأخرى فيكون قد

ص: 757

أثبت ما تثبته من صفات الكمال ويثبت كمالاً آخر لم تثبته أنت وأيضًا فتلك الأحياز ليست شيئًا أصلاً لأن الأشياء هي الموجودة ولا موجود إلا الله وخلقه وهو فوق خلقه وإذا لم تكن أشياء لم يصح أن يكون شيء فوقه وكان هو فوق كل شيء وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة إلا أن الخصم لا يقول به والخصم يقول ذلك ممتنع لامتناع أن يكون شيء موجود فوق الله فإن سلمت له هذه العلة كان ذلك جوابًا لك وإن لم تسلمها لم يكن مذهبه صحيحًا فلا تحتج به وقد تقدم كلامك على إبطال مثل هذه الحجة وهي الإلزامات المختلفة المآخذ وأيضًا فلو قال قائل بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لاسيما وعندك أن النقص على الله تعالى لم يعلم امتناعه بالعقل وإنما علمته بالإجماع لاسيما إن احتج

ص: 758

بظاهر قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وبقوله كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء لاسيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر

ص: 759

والتدبير وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا بهذا وهذاالمعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئًا آخر أو لم يخلقه فإذا لم يكن هذا مستحيلاً على أصلك لم يصح احتجاجك باستحالته عند المنازع الذي ينازعك في المسألة بل قد يقول لك إذا لم يكن ما يمنع جواز ذلك إلا هذا فعليك أن تقول به لأن هذا ليس بمانع عندك الوجه الثاني أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا إنه فوق العرش منهم من قال إنه ملاق للعرش ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدًا غير متناهٍ وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول إنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قال قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن

ص: 760

الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفوا فيما بينهم في التجسيم وهل للباري قدر من الأقدار وفي مقداره على ستة عشر مقالة فذكرقول هشام إنه جسم أن له مقدارًا وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسَّة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون قال ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية

ص: 761

إنه يدرك بالحواس قال وحُكِي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونُا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضًا أو عميقًا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط فإن هذا يزعم أنه لايرى إلا اللون قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مماس له دون

ص: 762

ما سواه قال واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه مجسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهن مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك القدر وقال بعضهم هو في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه

ص: 763

وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا قطب وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تَحُل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم وقول بعضهم إنه ليس بجسم كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناهٍ وعن آخرين أنه بقدر العالم وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولاً أنه لا نهاية لمساحته وذكر أيضًا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني

ص: 764

أنه فوق العرش وبكل مكان وقال فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك على عرشه أنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف فيقال له إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لانهاية لذاته ومساحته مع قولهم إنه جسم ومع قولهم إنه ليس بجسم فما حجتك عليهم وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول إنه فوق العرش وكذلك ذكر أبو الحسن الأشعري لما ذكر اختلاف الناس هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان فقال قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لانهاية له أن هاتين الفرقتين أنكرتا القول إنه في مكان دون مكان

ص: 765

فأخبر أن القائلين بأنه لا نهاية له ينكرون أن يكون في مكان دون مكان فلا يقولون إنه فوق العرش لكن هذا المؤسس إن لم يبطل قول هؤلاء بالحجة وإلا خصموه فإنه ينكر أن يكون الله فوق العرش ويوافقهم على إطلاق القول بأنه لا نهاية له ولا حد ولا غاية وإن كان يفسر ذلك بتفسير آخر لكن نفي قولهم لابد له من حجة فأما الوجه الأول الذي ذكره فيقولون له لا نسلم أن الخط المتناهي يمكنه أن يسامت غير المتناهي فقولك زال عن الموازاة إلى المسامتة فرع إمكان ذلك والمحال المذكور إنما لزم من فرض مسامتة خط متناه لخط غير متناهٍ فلزم من ذلك أن يحصل في المتناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل لكن قولك إن هذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه ممنوع بل يقال هذا المحال إنما لزم من فرض مسامتة المتناهي لغير المتناهي فالإحالة كانت بفرض مسامتته له لا بفرض وجود غير المتناهي لِمَ قلت أن الأمر ليس كذلك وقد يقول لك أحد الفريقين من هؤلاء نحن نقول إنه غير

ص: 766

متناه وإنه غير جسم وحينئذ لا يمكن أن يفرض فيه خطوط ونقط فلابد من إقامة دليل على امتناع شيء ليس بجسم غير متناهٍ فإن أقمت دليلاً على ذلك بطل ما ذكرته في القسم الثالث من وجود أحياز خالية فوق الباري لأنه إذا وجب عندك تناهي الأبعاد وإن لم تكن أجسامًا وجب تناهي الأحياز فلم يجب أن يكون فوق الباري حيز ولا بعد كما ألزمتهم إياه في القسم الثالث وأما الوجه الثاني الذي احتججت به عليهم فقولك إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع يقولون لك أكثر ما يمكنك دعوى الإجماع على أن دليله امتناع بعد لا يتناهى ولايلزم من الإجماع على الحكم أن يكونوا مجمعين على دليل معين وأيضًا فلا يلزم من بطلان هذا الدليل بطلان سائر الأدلة كيف وقد ذكرت أنه مجمع عليه والإجماع من أعظم الأدلة إذ صحة الإجماع ليست موقوفة على إحالة أبعاد لا تتناهى

ص: 767

بدليل أن سلف الأمة وأئمتها يعترفون أن الإجماع حجة من غير أن يبنوا ذلك على أداة فيها هذه المقدمة التي قد لاتخطر ببال أكثرهم وقد يقول هؤلاء هَبْ إنْ قام دليل تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق الباري وهذا يقوله مثبتة الجسم ونفاته كما تقدم ذكر القولين لهم وأما الوجه الثالث قولك لو كان غير متناه من جميع الجوانب أوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزائه وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل فإن أردت أن ليس في المكلفين من العقلاء من يقوله فقد قاله منهم طوائف كما ذكرناه عن الأشعري أنه نقل ذلك عن

ص: 768

طائفتين ممن يقول إنه ليس مساحة طائفة تقول إنه جسم وطائفة تنفي الجسم وأيضًا فطوائف من الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم وطوائف أخر يقولون إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقل الأشعري عن زهير وأبي معاذ وأيضًا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحًا لا مزيد عليه حتى يجعلوه عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجوده عين وجوده وهذا وإن كان من أعظم الكفر فالغرض أن إخوانه من الذين يقولون إن الله ليس فوق العرش قد قالوا هذا كله وما هو أكثر منه فلابد أن يرد قولهم بطرقه التي يسلكها وإلا لم يكن قوله أصح من قولهم بل

ص: 769

قولهم أقرب إلى العقل من قوله إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولهم في الجواب عن المخالطة من الكلام ما هو مع كونه باطلاً أقرب إلى العقل من كلامه مثل قولهم إنه بمنزلة الشعاع للشمس الذي لا يتنجس بما يلاقيه وبمنزلة الفضاء والهواء الذي لا يتأثر بما يكون فيه ونحو هذا من المثال التي يضربونها لله فهم مع كونهم جعلوا لله ندًّا وعدلاً ومثلاً وسميًّا في كثير من أقوالهم إن لم يكونوا أمثل منه فليسوا دونه بكثير وأما إن أردت أن العقل يبطل هذا القول فلم تذكر على بطلانه حجة عقلية أكثر ما ذكرت قولٌ تنفر عنه النفوس أو ما يتضمن نوع نقص وأنت تقول ليس في العقل ما ينفي عن الله النقص وإنما نفيته بإجماع فهذا الوجه في جانب من يقول بالقسم الثالث وأما القسم الثاني وهو التناهي من جهة دون جهة فما علمت به قائلاً فإن قال هذا أحد فإنه يقول إنه فوق العرش ذاهبَا إلى غير نهاية فهو متناه من جهة العالم غير متناه من الجهة الأخرى وهذا لم يبلغني أن أحدًا قاله ونقل الأشعري

ص: 770

يقتضي أن هذا لم يقله أحد بل كل من قال بعدم نهايته أنكر أن يكون فوق العرش الوجه الثالث أن يقال فَرْضُ بعد غير متناه لا يخلو إما أن يكون محالاً فإن كان محالاً بطل ما ذكر مما ذكرته في القسم الثالث من تجويز أحياز خالية فوقه إذاكان متناهيًا من جميع الجهات فإنه إذا وجب تناهي الأبعاد لم يجب أن يكون فوق العالم بعد فضلاً عن أن يكون فوق الباري بعد وإذا فرض ما ذكرته في القسم الثالث وهو أحد الوجهين نفي الوجه الأول وهو كون كل ماله قدر مخصوص يجب أن يكون محدثًا وقد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية وإذا بطل الوجهان بطل ما ذكرته على فساد القسم الثالث وإن كان فرض بعد غير متناه ممكناً ثبت إمكان القسم الأول وبطل ما ذكرته من الحجة على إحالة ذلك فقد ظهر على التقديرين أن ما ذكرته ليس بدليل صحيح الوجه الرابع أن القسم الثاني وهو أنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب وإن كنا لم نعلم به قائلاً فلم تذكر دليلاً على إبطاله ولا استدللت على

ص: 771

إبطاله بنص أو إجماع فأما الدليل الذي ذكرته على امتناع بعد غير متناه فقد تقدم القول عليه مع أن تلك الوجوه لا تصلح هنا كما صلحت هناك أما الوجه الأول وهو امتناع وجود المسامتة وعدمها إذا قدر مسامتة غير المتناهي للمتناهي فإنه مع ما تقدم فيه إذا كان متناهيًا من بعض الجهات أمكن فرض المسامتة في تلك الجهة وحينئذ فتسامت النقطة الفوقانية من تحت الجهة قبل التحتانية لكن هذا لا يحصل إلا عند فرض مسامتٍ من الجهة التي لا تتناهى وأما الوجه الثالث وهو لزوم مخالطة ذاته للقاذورات فهذا لا يلزم إذا قيل إنه متناه من جانب الخلق دون الجانب الآخر فإنه حينئذ لا يكون مخالطًا لهم فبطل هذا الوجه هنا بطلاناً ظاهرًا وأما بطلان إقامة الدليل على تناهي العالم فقد تقدم الكلام عليه مع أن العالم في بقائه فيه متناه من أوله غير متناه من آخره ففيه تناه من وجه دون وجه لكن هذا ليس هو المتناهي في الجهة والمقدار والبعد

ص: 772

والفرض أن الوجوه الثلاثة هي في هذا القسم فيها نوع نقص عن ذلك القسم وأما الوجه الثاني وهو قولك إن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الآخر إماأن يتساويا في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الآخر وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان فيقال لك مشاركة الشيء لغيره في حقيقته لا يقتضي مساواته له في المقدار كالمقادير المختلفة من الفضة والذهب وسائر الأجسام المتماثلة في الحقيقة فإنها تتماثل في الحقيقة مع اختلاف المقادير وحينئذٍ فهذه الأمور إنما يجوز على بعضها ما يجوز على بعض فيما تماثلت فيه وهو الصفة والكيفية وأماما يتعلق بالمقدار فليس الكبير في ذلك كالصغير ولايجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر بل للصغير أحكام لا تصح في الكبير وللكبير أحكام لا تصح على الصغير مثل شغل الحيز

ص: 773

الذي بقدره وغير ذلك وإذا كان كذلك فالبعد الذي يتناهى من أحد جانبيه دون الآخر وإنما تماثلت حقيقة الجانبين في الصفة والكيفية فلم تتماثل في المقدار لأن أحدهما أكبر من الآخر قطبًا فلا يلزم أن يجوز على غير المتناهي من النقص والفصل وأيضًا فإن لزم أن يحوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فقولك ذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى هذا هو بعينه الدليل على امتناع كونه متناهيًا وهوأن المتناهي يقبل الزيادة والنقصان وقد قيل لك أن هذا ممنوع فيما وجوبه بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه كما نقول إن معلوماته أكثر من مقدوراته ومقدوراته أكثر من مخلوقاته ومراداته وهذا وإن لم يكن نظير ذلك والغرض التنبيه على تقدم الكلام في مثل هذا وأيضًا فلم تذكر دليلاً على امتناع الفصل والوصل والزيادة والنقصان فإن اعتصمت في ذلك بإجماع كانت الحجة سمعية وإن قنعت بنفور النفوس عن ذلك فنفور النفوس على

ص: 774

قولك أعظم مع أن هذا ليس حجة عندك وقولك وأما القسم الثاني وهوالقول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية فنقول إن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بيناه يقال لك قد تقدم الكلام على إبطال حجة التركيب بما يظهر به فسادها لكل عاقل لبيب فقولك الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختصة بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء يخالف الجانب

ص: 775

الآخرة في الحقيقة والماهية فيقال لك هذه حجة تماثل الأجسام وقد تقدم أنها من أبطل ما في العالم من الكلام وهي منشؤها من كلام المعتزلة والجهمية كما ذكره الأشعري وغيره كما أن الأولى من كلام الفلاسفة والصابئة وهي أيضًا من حجج المعتزلة والجهمية وقد تبين أن المقدار صفة للشيء المقدر المحدود وليس هو عين الشيء المقدر المحدود وتبين أيضًا أنه لو كان المقدار هو الذات لم يجب أن تكون المقدورات متساويات فإن بينها اختلافًا في صفات ذاتيات لها وهي مختلفة في تلك الصفات الذاتيات وإن كانت مشتركة في أصل

ص: 776

المقدار الذي جعلته الذات وغايتها أن تكون بمنزلة الأنواع المشتركة في الجني المتمايزة بالفصول وأيضًا فأنت وسائر الصفاتية بل وجميع العباد يثبتون لله معاني ليست متماثلة بل هذا واجب في كل موجود مثل إثبات أنه موجود بنفسه ومبدع بنفسه ومبدع لغيره وأنه عالم وأنه قادر وأنه حي وهذه حقائق مختلفة فالقول في اقتضائها للتركيب كالقول في اختلاف الجانبين كذلك كما تقدم ذلك وأما حجة تساوي الأبعاد وتماثلها فهذه الحجة إن صحت فهي كافية في نفي كونه كذلك سواء قيل إنه متناه أو غير متناه والحجة المستقلة بنفسها في المطلوب لا تصلح أن تجعل دليل بعض مقدمات دليل المطلوب لأن هذا تطويل وعدول عن سواء السبيل الوجه الخامس أنه أورد اعتراضًا من جهة المنازع بقوله فإن قيل ألستم تقولون إنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتموه علينا وقال في الجواب قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على

ص: 777

وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته منقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله عنينا به التفسير الأول فيقال المعقول المعروف إذا قيل هذا لا يتناهى أو لا حد له ولاغاية ولا نهاية أن يكون موجودًا أو مقدر الوجود ويكون ذلك الموجود أو المقدر ليس له حد ولا نهاية ولا منقطع بل لا يفرض له حد ومنقطع إلا وهو موجود بعده كما يقال في وجود الباري وبقائه فيما لم يزل ووجوده وبقائه فيما لا يزال بل في وجود أهل الجنة في الجنة فيما لم يزل فإنه لا ينتهي ذلك إلى حد إلا ويكون بعده شيء كما أن وجود الباري لا يقدر له حد ووقت إلا وهو موجود قبله وكذلك إذا

ص: 778

قدر أجسام وأبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى قبله وكذلك إذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى منها شيء أو يقدر فيها مقطع إلا وهي تكون موجودة بعده وكذلك ما يقدر في الذهن إلى حد ومقطع إلا ويقدر بعده شيء آخر وكذلك ما يقدر في الذهن منعدم التناهي من العلل وغيرها لتبين فساده هو من هذا الباب فالغرض أن الشيء الذي يوصف بعدم التناهي إما حقيقة وإما مقدارًا ممتنعٌ وإما تقديرًا غير ممتنع أو غير معلوم الامتناع كلها مشتركة في ذلك فأما وصف الشيء بأنه غير متناه بمعنى أن ليس له حقيقة تقبل التناهي وتقبل عدم التناهي فوصف هذا بأنه غير متناه مثل صفة المعدوم بأنه غير متناهٍ لأنه لا يمكن له نهاية وحد وطرف ولا يمكن أن يقال وذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه كما لا يقبل أن يوصف بالحياة وعدمها ولا بالعلم وعدمه ولا بالقدرة وعدمها

ص: 779

ولهذا يفرق من يفرق بين العدم المحض وعدم الصفة عما من شأنه أن يقبلها فإن الأعمى والأصم ونحو ذلك لا يوصف به المعدوم المحض ولايقال أيضًا للعدم المحض إنه جاهل أو عاجز أويثبت له أنه لا عالم ولا قادر بل كل صفة تستلزم الثبوت يمتنع أن يوصف بها المعدوم فإذا قيل الأعمى والأصم كان ذلك نفيًا للسمع والبصر عما يقبله لا عن المعدوم الذي يمتنع أن يوصف بثبوت فَفَرْقٌ بين نفي الصفة التي يمكن ثبوتها للموصوف في الذهن أوفي الخارج ونفي الصفة التي لا يكون لا في الذهن ولا في الخارج ثبوتها للموصوف فإذا قيل المعدوم لا يتناهى أو المعدوم غير متناهٍ كان المعنى أن المعدوم ليس له حقيقة تكون متناهية أو غير متناهية كما ليس له حقيقة تقبل أن تكون حية أوغير حية أو عالمة أو غير عالمة أو قادرة أو غير قادرة فإذا قيل قول القائل في الله إنه غير متناهٍ بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بالنهاية وعدمها كان ذلك بمنزلة قول القائل إن الله ليس بأصم ولا ميت ولا جاهل بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بهذه الصفات وعدمها فيكون المعنى حينئذ أنه لا يقال أصم ولايقال غير أصم ولا يقال ميت ولا يقال غير ميت وهذا شر من أقوال الملاحدة الذين يمتنعون من إثبات الأسماء

ص: 780

الحسنى له ونفيها فإن أولئك يقولون لا نقول حي ولا غير حي بل يسلبون أضدادها فيقولون هو ليس بميت ولا جاهل وإن كان هذا الذي قالوه يستلزم عدمه كما تقدم لكن ليس ظهور عدمه في ذلك كظهوره في قول القائل لا يوصف بالموت ولا بعدمه ولا بالعجز ولابعدمه كما لا يوصف بالقدرة ولا بعدمها ولا بالحياة ولا عدمها بمعنى أن ذلك لا يجوز أن يوصف لشيء من ذلك لا نفيًا ولا إثباتًا فإن هذا حال المعدوم المحض وإذا كان كذلك فقول القائل أنا أقول إن الله غير متناهٍ في ذاته بمعنى أن ذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه لأن ذلك من عوارض ذات المقدار كما لا يوصف بالطول وعدمه ولا بالقصر وعدمه ولا بالاستدارة والتثليث والتربيع وعدم ذلك لأن ذلك من عوارض المقدار وهو التجسيم والتحيز جمع بين النقيضين لأن قوله غير متناه في ذاته يفهم المقدار الذي لا يتناهى وهو البعد الذي لا يتناهى كما إذا قيل إنه لا نهاية له في أزله أفهم ذلك البقاء الذي لا يتناهى

ص: 781

والأزل الذي لا يتناهى وهو عَمْرُ الله الذي لا يتناهى كما يحلف به فيقال لعَمْرُ الله كما حلف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك وقولهم بعد ذلك لا يقبل الوصف بالتناهي وعدمه نفي لما أثبتوه من كون غير متناهٍ وكذلك قوله امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد وهذا يفهم منه أن ذاته غير متناهية فلا نهاية لها وهو إنما أراد أن ذاته لا يجوز إثبات النهاية لها ولا سلبها عنها وهذا الثاني صفة المعدوم فالحاصل أنهم في هذا المقام إماأن يفسروا سلب النهاية بما هو صفة المعدوم أو بما يستلزم وجودًا غير متناه في نفسه فإن قالوا إن وجود ذلك الموجود غير متناه في نفسه فهذا قول من

ص: 782

يقول إن ذات الله لا نهاية لها وإن قالوا إن ذاته لايجوز أن يعتقد أو يقال فيها إنها متناهية أو أنها غير متناهية لأنها لا تقبل الاتصاف بذلك فهذا صفة المعدوم سواء فأحد الأمرين لازم إما تمثيل ربهم بالمعدوم وإما القول بأبعاد لا نهاية لها وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية إنهم لما قالوا إن الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود لا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائمًا مترددون بين الإشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم ولهذا لما كان صاحب الفصوص ونحوه من القسم الأول جعلوه نفس الموجودات وجوزوا كل شرك في العالم وجعلوه نفس العابد والمعبود والناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وقالوا ما عبد أحد إلا الله ولا يمكن أحد أن يعبد إلا الله بل لا يتصور أن يكون العابد والمعبود عندهم

ص: 783

إلا الله ولما كان صاحب التأسيس ونحوه من القسم الثاني جعلوه كالمعدومات المحضة ولهذا يقال فيهم متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا وهذا هو نهاية التعطيل ومتصوفتهم يعبدون كل شيء وهذا نهاية الإشراك ولهذا ذكر علماء الإسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الإسلام هم الجهمية وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي إدراك نهايته ونفي الإحاطة به كما قال تعالى لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال فالله

ص: 784

أكبر وكذلك قوله وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً {110} [طه 110] سواء كان الضمير عائدًا على الله أو على ما بين أيديهم فإن ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وغير ذلك وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره

ص: 785

وقد قال سبحانه وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} [الزمر 67] فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوي السماء بيمينه كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن

ص: 786

مسعود كلها في الصحيحين ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان وقال أيضًا في الآية الأخرى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [الأنعام 91] فالآية الأولى في الأصل الأول من الإسلام وهو التوحيد والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين فإنهم لايقدرون الله حق

ص: 787

قدره فلا يقبض عندهم أرضًا ولا يطوي السماء بيمينه بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم فإن الكلام إنما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين وقد قال في الآية الأخرى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] وقال إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ {6} [الانشقاق 6] وقال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقال أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ {53} [الشورى 53] وإذا كان منتهى المخلوقات غليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهي إليها امتنع أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ولا يكون غاية ومالا يوصف بالنهاية لا ينتهي إليه أصلاً فإنه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه ثم ينتهي

ص: 788

إليه بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية فإنه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد لاسيما الاتحادية منهم من يقول إنه في كل مكان كما لا يتصور عندهم أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء وليس هذا موضع تقرير ذلك وإنما الغرض هنا أن قوله الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف ما يعرف إطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلاً إلا إذا كان معدومًا أو كان ذاهبًا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد الوجه السادس أن هذا الوجه معارض بما اختص الله به سبحانه من الحقيقة والصفات فإن الاختصاص بالوصف كالاختصاص بالقدر فهو مختص بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك بحيث له صفات مخصوصة يمتنع لتصافه بأضدادها ونقائضها ويقال فيها نظير ما قاله في المقدار بأن يقال إما أن تكون الصفات متناهية أو غير متناهية من وجه دون وجه

ص: 789

فإن كانت متناهية فكل متناه يستدعي مخصصًا ويقبل الزيادة والنقص كما قدره في المقدار وإن لم تكن متناهية لزم وجود صفات لا نهاية لها وفرض وصف لا نهاية له كفرض قدر لا نهاية له فإن الصفة لابد لها من محل ويلزم من عدم تناهيها عدم تناهي محلها وأيضًا فإن كل صفة متميزة عن الأخرى فيكون للصفات عدد فإما أن يكون عدد الصفات يتناهى أو لا يتناهى فإن تناهى لزم الأول وإن لم يتناه لزم الثاني وإذا كان له أعداد لا تتناهى فهو كمقدار لا يتناهى فكلما يحتج له على امتناع مقدار لا يتناهى يحتج به على امتناع عدد صفات لا تتناهى إذ ما يفرض من المسامتة وعدمها في المقدار يفرض من المطابقة وعدمها في الأعداد وهذا الوجه يمكن أن يلزم به كل أحد فإنه لابد من الاعتراف بموجود له خاصية يتميز بها عما سواه إذ وجُودٌ ليست له خاصة تميزه ممتنع والكليات مع كونها موجودة في الأذهان فتميز ما في نفس زيد عما في نفس عمرو فإنها من الصفات القائمة بالأذهان وإذا كان لكل موجود خاصة يتميز بها سواء كان واجبًا بذاته أو كان ممكنًا فالقول في اختصاصه بتلك الخاصة كالقول في اختصاصه بقدر

ص: 790

فصل قال الرازي البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز هو أنه لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أولا مع وجوب أن يحصل فيه والقسمان باطلان فكما القول بأنه تعالى حاصل في الجهة محالاً وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب لوجوه الأول أن ذاته مساوية لذوات سائر الأجسام من كونه حاصلاً في الحيز ممتدًا في الجهة وإذا أثبت التساوي من هذا الوجه ثبت التساوي في تمام الذات على ما بيناه في البرهان الأول في نفي كونه حسمًا وإذا ثبت التساوي مطلقًا فكل ما صح على أحد المتساويين وجب أن يصح على الآخر ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز وجب أن

ص: 791

لا يجب في تلك الذات حصولها في ذلك الحيز وهو المطلوب الثاني أنه لو وجب حصوله في تلك الجهة وامتنع حصوله في سائر الجهات لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات فحينئذ تكون الجهات شيئًا موجوداً فإذا كان الله واجب الحصول في الجهة أزلاً وأبدًا التزموا قديمًا آخر مع الله تعالى في الأزل وذلك محال الثالث أنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام في حيز معين على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجه عنه وعلى هذا التقدير لا يتمشى دليل حدوث الأجسام في ذلك فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الجسام ل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا الرابع هو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها

ص: 792

متساوية يكون حكمها واحدًا وذلك يمنع القول بأن الله تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين فإن قالوا لما لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أزلي قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك لا فوق ولا تحت فبطل قولكم الثاني لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أموراً موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك الثالث هو أنه لو جاز أن تختص ذات الإله تعالى ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية في

ص: 793

العقل لجاز اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الأوقات دون بعض على سبيل الوجوب مع كونها متساوية في العقل وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن الصانع ولجاز أيضًا اختصاص عدم القديم ببعض الأوقات على سبيل الوجوب وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات الصانع وباب إثبات وجوبه وقدمه الرابع أنه لو حصل في حيز معين مع كونه لا يمكنه الخروج منه لكان كالمفلوج الذي لا يمكنه أن يتحرك أو كالمربوط الممنوع من الحركة وذلك نقص والنقص على الله محال

ص: 794

وأما القسم الثاني وهو أن يقال إنه تعالى حصل في الحيز مع جواز كونه حاصلاً فيه فنقول إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فالفاعل يتقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لايكون أزليًّا وإذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم وقوع الانقلاب في ذاته تعالى وهو محال والكلام على هذه الحجة على قول من يطلق الحيز والجهة ومن لا يطلق ذلك على مذهب مثبتة الجسم ونفاته مع قولهم إنه على العرش سواء فإنه يمكن أن يقال لو كان فوق العرش أو كان عالياً على العرش لكانت فوقيته وعلوه إما واجباً وإما جائزاً وساق الحجة والجواب عنها أن يعرف أن لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء

ص: 795

منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلاً عنه كما ذكرنا أن لفظ الحيز والحد في المخلوقات يراد به ما ينفصل عن المحدود ويحيط به ويراد به نهاية الشيء وجوانبه فإن كلاهما يجوزه وقد يراد بالحيز أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان وكذلك الجهة قد يعني بها أمر وجودي منفصل عنه فقد يعني بها ما لا يقتضي موجوداً غيره بل يكون إما أمراً عدميًّا وإما نسبيًّا وإضافيًّا وإذا كان في الألفاظ اشتراك فمن مسمى ذلك ما يكون واجباً ومنه ما يكون جائزاً والاستفصال يكشف حقيقة الحال وحينئذ فالكلام عليها من وجوه الأول أن يقال ما تعني بقولك لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع الوجوب أو مع عدم الوجوب أتعني بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهي نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئاً موجوداً

ص: 796

منفصلاً عنه كالعرش وكذلك الجهة أتريد بالجهة أمراً موجوداً منفصلاً عنه أم تريد بالجهة كونه بحيث يشار إليه ويمكن الإحساس به وإن لم يكن هناك موجود غيره فإن أراد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز وإن أراد بالجهة كونه يشار إليه من غير وجود شيء منفصل عنه لم نسلم أن ذلك غير واجب وبهذا التفصيل يظهر الجواب عما ذكره من الوجوه أما قوله لايجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز فكذلك هذا فيقال له بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهوعدمي لكن لا يجب أن يكون عين تحيز هذا وعين حيزه الذي هو نهايته كما لا يجب أن يكون عين هذا هو عين الآخر فإن حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه والشيئان المتماثلان لا يجب أن يكون أحدهما عين الآخر فإن هذا لا يقوله عاقل وهذا معلوم بالاضطرار لا نزاع فيه هذا لو سلم أن الأجسام متماثلة فكيف وقد تقدم أن هذا قول باطل

ص: 797

وكذلك قوله في الثاني لو وجب حصوله في تلك الجهة لكانت مخالفة لغيرها فتكون موجودًا فيكون مع الله قديم آخر يقال له ثبوت صفة قديمة ليس ممتنعًا على الله كما اتفق عليه الصفاتية أو لا نسلم أنه ممتنع والقدر الحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل موجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله ما يكون شيئًا منفصلاً عنه بل القديم شيء يكون داخلاً في مسماه ليس خارجًا عنه وقوله في الوجه الثالث لو جاز دعوى وجوب اختصاص شيء بجهة معينة جاز أن يدعى في بعض الأجسام حصوله في حيز بعينه على سبيل الوجوب وحينئذ لا يتمشى

ص: 798

دليل حدوث الأجسام بل يلزمه تجويز قدم بعضها يقال له كل جسم فإنه مختص بحيز وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخلة في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي منفصل عنه فذاك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعانٍ أُخَر ومع أن المنازعين له الذين يقولون هو جسم أو له حد وقدر ينازعونه في حدوث كل ما كان جسمًا أوله حد فقد يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف أو حدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك وقوله في الوجه الرابع الأحياز متساوية وذلك يمنع الاختصاص ببعضها على التعيين يقال له الأحياز

ص: 799

المتساوية التي تدعي فيها التساوي هي ماكانت منفصلة عن المتحيز كما ذكر من الخلاء والفراغ وأما الحيز الذي هو داخل في مسمى المتحيز وهو جانبه وحده ونهايته فهذا تابع للمتحيز وهذه الأحياز مختلفة باختلاف المتحيزات فحيز كل متحيز وهو حده ونهايته وجانبه يتبع حقيقته وهذا ظاهر فحيز الذهب ذهب وحيز الفضة فضة بهذا الاعتبار وقوله في الوجه الخامس المختص بحيز معين يكون كالمربوط المفلوج يقال له هذا إنما يقال إذا كان في حيز وجودي منفصل عنه أما ما هو داخل في مسمى نفسه وهو حده ونهايته فلا يلزم ذلك فيه كما لا يلزم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم العدم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم بعض الشيء الوجه الثاني أن يقال إذا أراد القائل بأنه متحيز وأراد بالحيز

ص: 800

أمرًا موجودًا منفصلاً عنه كالغمام والعرش فإنه قد يقول حصوله فيه على سبيل الجواز وبذلك يظهر الجواب عن قوله ذلك الاختصاص لا يكون إلا بجعل جاعل هو الفاعل المتقدم على التخصيص فيلزم أن لا يكون ذات الله في الحيز أزليًّا فإن هذا يسلم على هذا التقدير بأن حصول ذاته فوق العرش ليس أزليًّا بل كان الله قبل أن يكون مستويًا على العرش سواء قيل أن الاستواء أمر نسبي إضافي أو قيل إنه من صفات الأفعال وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه فعلى التقديرين إنما حصل الاستواء بخلقه للعرش وخلقه للعرش بمشيئته واختياره وأما قوله إذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم الانقلاب في ذاته يقال له هذا ممنوع فإنه إذا كان في الأزل مبرءًا عن حيز وجودي كالعرش والغمام ثم صار بعد أن

ص: 801

خلق العرش والعالم فوقه لم يكن ممتنعاً فإن تجدد النسب والإضافات عليه جائز باتفاق العقلاء وأما إن قيل إن الاستواء فعل وأنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا كما هو المعروف من مذاهب السلف وأهل الحديث فهذا مبني على مسألة الحركة وحلول الحوادث وقد تقدم كلامه بأن هذا لم يقم دليل عقلي على نفيه وأن جميع الطوائف يلزمهم القول به وليس ذلك انقلاب في ذات الله بحال كما تقدم وهو إنما ادعى لزوم الانقلاب لأنه أخذ لفظ الحيز بالاشتراك فقدر أنه يصير متحيزًا بعد أن لم يكن متحيزًا ومعلوم أن هذا يوجب انقلاب ذاته فإن ضرورة صير المتحيز متحيزًا توجب الانقلابات لكن هذا التحيز هو القسم الأول وهو التحيز اللازم للمتحيز الذي يمتنع انفصاله عنه والمراد بالحيز في هذا المتحيز إماأمر عدمي أو إضافي أو المراد به جوانب المتحيز ونهايته فلو كان في الأزل مبرءاً عن هذا ثم صار موصوفًا به لزم الانقلاب ونظيره في المخلوقات أن يصير ما ليس بجسم جسمًا وهذا عند قوم ممتنع وعند قوم قد

ص: 802

يقلب الله الأعراض أجسامًا وذلك انقلاب بلا نزاع أما إذا أريد بالحيز أمرًا موجودًا منفصلاً عنه فلا يلزم بكونه فوقه وعليه أن تنقلب ذاته بوجه من الوجوه فإن الناس في كونه فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والفقهاء والصوفية من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق أو بين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حدوث الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئُهُ وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر هو أن ليس في الأدلة

ص: 803

العقلية ما يحيل ذلك الوجه الثالث أن يقال تحيزه واجب ويجزم بذلك بناءً على أن نقس العرش ليس بحيز بل الحيز تقدير المكان ومن قال بذلك فهم في جواز الحركة عليه على قولين فمن قال بالامتناع يقول إنه لما خلق العرش تجددت بينه وبين العرش نسبة ولم يتغير عما كان موصوفًا به إن وصفه بأنه متحيز فإنا قد ذكرنا للقائلين بأنه على العرش في ذلك قولان وقد يقول إن حصوله في الحيز المعين واجب ومن قال ذلك يجيب عن أوجهه الخمسة أما الوجه الأول فمبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم أن هذا باطل وأما قوله في الوجه الثاني أنه لو وجب حصوله في الجهة وامتنع حصوله في غيرها لكانت تلك الجهة مخالفة لغيرها في الحقيقة فتكون موجودة فيكون مع الله قديم غيره تعالى يقال له هؤلاء لا يقولون إن الحيز الذي يجب لله أمرًا

ص: 804

موجودًا منفصلاً عنه بل هو عندهم أمر عدمي بينه وبين الله نسبة وإضافة إذ هو تقدير المكان وذلك لا يقتضي وجود موجود غيره كما أنه لما كان في الأزل لا في زمان لا في تقدير الزمان لم يقتضِ ذلك وجود قديم آخر مع الله ومن قال إن تقدير الزمان وتقدير المكان وجوديان قال بقدمهما جميعًا كما يقول ذلك طائفة من الصابئة ومن اتبعهم ثم قد يقولون إن ذلك لازم لواجب الوجود نفسه وقد يقولون عن القدماء خمسة الزمان والمكان والنفس والهيولى وواجب الوجود

ص: 805

بنفسه كما يقول ذلك بعض الصابئين ومن اتبعهم كديمقراطيس والغرض أن المسلمين الذين يقولون ليس مع الله قديم منفصل عنه موجود لا يقولون إن الحيز موجود وقد تقدم

ص: 806

الدليل على ذلك وقد قال هو بعد هذا إنه قل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وذلك ينافي قوله إن الأحياز وجودية وأما قوله ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم فسيأتي الكلام عليه وهؤلاء يقولون قوله في الوجه الثالث لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا فهم يجيبون بجوابين أحدهما أن الأجسام مختلفة بالحقيقة فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصًّا بمثل تلك الصفة كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصًّا بغيره

ص: 807

الثاني أنهم إذا قالوا بأن بعض الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة كما لا ينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة وأن الموصوفات كلها ليست محدثة بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات ويقولون قوله في الوجه الرابع إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها فهم يقولون ليس الاختصاص لمعنى فيها بل هو لمعنى في نفسه وهو امتناع الحركة عليه الانتقال عنه كما يوافقهم هو على ذلك وأيضًا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه وأما السؤال الذي أوردهم من جهتهم لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى وجوابه بأنه قبل خلق العالم

ص: 808

ما كان إلا الخلاء الصرف وبأنه لو كان الفوقاني متميزًا عن التحتاني لكانت وجودية فإنهم يقولون كونه فوق العالم إنما يظهر إذا خلق العالم فإنه لما خلقه وهو على علو يستحقه بنفسه وخلق العالم بصفة التحت وجب أن يكون فوق العالم لمعنى في نفسه وفي العالم لا لمعنى وجودي في الحيز وإن لم يكن قبل خلق العالم ولا فوق العالم إلا العدم المحض والخلاء الصرف فالاختصاص بالحيز لامتناع الحركة عليه عندهم ووجوب علوه لمعنى في نفسه وفي العالم وكذلك قوله في الثالث لو جاز اختصاص ذات الإله ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية يلزم استغناؤها عن الصانع فيقولون هذا بناء على أن الأحياز أمور وجودية وليس الأمر كذلك بل هي أمور عدمية

ص: 809

وقوله في الخامس أنه يكون كالمفلوج الذي لا يمكنه الحركة وهو نقص وهو على الله محال فيقال أنت تقول إن نفي النقص عن الله لا يعلم بالعقل وأنت أيضًا تقول لا يجوز عليه الحركة وقد تقدم الكلام على هذا في آخر حجة من نفي الجسم وهو برهان الحركة وبينا أن ما وصف به قول منازعيه يلزمه مثله أو أكثر الوجه الرابع قول من لا يوجب حصوله في حيز معين خارج عنه وجوديًّا كان أو عدميًّا بل ذلك عنده على سبيل الجواز مطلقاً وهو قول كل من يقول إنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض بعد أن لم يكن مستويًا عليه ويقول إنه استوى إلى السماء وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي إلى سائر ما جاءت به النصوص من ذلك وعلى قول هؤلاء لا يجب حصوله في حيز معين وتكون ذاته مستلزمة للحيز المطلق لا لحيز معين وإذا حصل في حيز معين جاز أن يكون حاصلاً

ص: 810

فيه ولم يجب وأما قوله إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلابجعل جاعل وتخصيص مخصص وما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له أما اختصاصه بحيز دون حيز فهو الذي يفتقر إلى جعل جاعل وأما أصل التحيز فمن لوازم ذاته كالقدرة والفعل فإن القدرة على كل شيء من لوازم ذاته وأما تخصيص بعض المقدورات فتتبع مشيئته واختياره وعلى هذا فنقول حصوله في حيز معين دون غيره بمشيئته واختياره وذلك لأن هذا هو الفعل والتصرف والحركة كما يقولون إنه ما زال متكلمًا إذا شاء كذلك يقولون ما زال فاعلاً بنفسه إذا شاء وعلى هذا فحصول ذاته في الأزل يكون أزليًّا لأنه من لوازم ذاته لكن تعيين حيز دون حيز هو تابع لمشيئته واختياره وذلك أن الأحياز ليست أمورًا

ص: 811

وجودية بل هي أمور عدمية فليس الأمر إلا مجرد كونه يفعل بنفسه ويتصرف وتقدم الفاعل على هذا الفعل بقدم الذات كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم لا يوجب ذلك تقدمًا بالزمان وعلى هذا فيقال الوجه الخامس قولك لو حصل في شيء من الأحياز والجهات لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أو لا مع الوجوب فيقال أتريد بالوجوب وجوب الحيز المطلق أو وجوب حيز معين فإن أردت الأول فالوجوه الخمسة المذكورة لا تنفي ذلك وإن أردت الثاني فقوله إن هذا يلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا يقال هذا ممنوع قوله ما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه وما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له التقدم في مثل هذا

ص: 812

لا يوجب أن يكون بزمان يفصل بين الفعل والفاعل كما تقول حركت يدي فتحرك ثوبي أو تحرك خاتمي ونحو ذلك فحركة اليد متقدمة على حركة الخاتم والكم ومع هذا فزمانهما واحد فكذلك إذا كان هذا التخصيص جائزًا وهو بمشيئته واختياره لم يمنع ذلك أن يكون متقدمًا على فعله تقدمًا بغير الزمان وهذا القدر وإن كان الفلاسفة يقولونه في تقدمه على العالم فهؤلاء لم يقولوه في ذلك بل قالوه في تقدمه على هذا الفعل القائم بنفسه والتحيز المعين وهم يقولون ذلك في سائر ما يضاف إليه من أعيان الأقوال وأعيان الأفعال القائمة بنفسه التي يمكن أن يقول ويفعل غيرها مما يكون بمشيئته واختياره وهذا قول طوائف كثيرة من منازعيه معروف عنهم من أهل الكلام وأهل الحديث والصوفية وغيرهم

ص: 813