الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهؤلاء النفاة يوافقون فرعون في هذا التكذيب لموسى الوجه السادس أن القول الذي يسمونه مذهب المشبهة بل التشبيه الصريح لايوجد إلا في أهل الكتب الإلهية كاليهود والمسلمين كما ذكر الرازي عن مشبهة اليهود ومشبهة المسلمين وأما من ليس له كتاب فلا يعرف عنه شيء من التشبيه الذي يعير أهله بأنه تشبيه أو الذي يقول منازعوهم إنه تشبيه ومن المعلوم
أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتاب وإنما كان من غيرهم
فإن الله لم يبعث رسولاً ولم يُنزل كتابًا إلا بالتوحيد كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل 36] وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ
آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال تعالى شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} [الشورى 13] وقال تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه [الشورى 21] وقال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ {52} [المؤمنون 51-52] ولم يحدث في أهل الكتاب وأتباع الرسل من العرب وبني إسرائيل وغيرهم شرك إلا مأخوذ من غير أهل الكتاب كما ابتدع عمرو بن لحي بن قَمَعَة سيد خزاعة الشرك في العرب الذين كانوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وسلم ابتدعه لهم
بمكة بأوثان نقلها من الشام من البلقاء التي كانت إذ ذاك دار الصابئة للمشركين سلف أبي معشر وذويه وكذلك بنو إسرائيل عبد من عبد منهم الأوثان كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه تعالى وتقدس وإنما حَدَث فيهم هذا في جيرانهم الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه فإذا كان أصل المذهب الذي سموه مذهب التشبيه لا يعرف إلا عمن هو من أهل كتابٍ منزل من السماء وأهل الكتاب لم يكونوا هم الذين ابتدعوا الشرك أولاً عُلم أن الشرك لم يبتدعه أولاً القوم الذين سماهم أهل التشبيه
الوجه السابع أنه إذا كان الإشراك متضمنًا لما سماه تشبيهًا فمن المعلوم أن المرسلين كلهم ليس فيهم من تكلم بنقض هذا المذهب ولا نهى الناس عن هذا الذي سماه تشبيهًا فليس في القرآن عن محمد صلى الله عليه وسلم ولا عن المرسلين المتقدمين ولا في التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب ولا في الأحاديث المأثورة عن أحد من المرسلين أنهم نهوا المشركين أو غيرهم أن يقولوا إن الله تعالى فوق السموات أو فوق العرش أو فوق العالم أو أن يصفوه بالصفات الخبرية التي يسميها هؤلاء تشبيهًا ولا ذموه ولا أنكروه ولا تكلموا بما هو عند هؤلاء توحيد وتنزيه ينافي هذا التشبيه عندهم أصلاً ثبت أن المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه كلهم كانوا مقررين لهذا الذي سموه تشبيهًا وذلك يقتضي أنه
حق فهذا النقل الذي نقله أبو معشر واحتج به الرازي إن كان حقًّا فهو من أعظم الحجج على صحة مذهب خصومهم الذين سموهم مشبهة وإن لم يكن حقًّا فهو كذب فهم إما كاذبون مفترون وإما مخصومون مغلوبون كاذبون مفترون في نفس المذهب الذي انتصروا عليه الوجه الثامن أن الشرك كان فاشيًا في العرب ولم يُعلم أحد منهم كان يعتقد أن الوثن على صورة الله تعالى وقبلهم كان في أمم كثيرة وله أسباب معروفة مثل جعل الأوثان صورًا لمن يعظمونه من الأنبياء والصالحين وطلاسم لما يعبدونه من الملائكة والنجوم ونحو ذلك ولم يعرف عن أحد من هؤلاء المشركين أنه اعتقد أن الوثن صورة الله والشرك في أيام الإسلام ما زال بأرض الهند والترك فاشيًا والهند فلاسفة وهم من أعظم سلف أبي معشر ومع هذا فليس في الهند والترك من يقول هذا فَعُلم أن هذا أول مفتر الوجه التاسع لو كان هذا من أسباب الشرك فمن المعلوم أن غيره من أسباب الشرك أعظم وأكثر وأن الشرك في غير هؤلاء الذين سماهم مشبهة أكثر فإن كان الشرك في
بعض مثبتة هذه الصفات عيبًا فالشرك في غيرهم أكثر وأكثر وكان الطعن والعيب على نفاة الصفاة بما يوجد فيهم من الشرك أعظم وأكبر الوجه العاشر قوله فَثَبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المُشَبِّهة كلام مجمل فإن من الفرع ما يكون لازمًا لأصله فإذا كان الأصل مستلزمًا لوجود الفرع الفاسد كان فساد الفرع وعدمه دليلاً على فساد الأصل وعدمه ومن الفروع ما يكون مستلزمًا للأصل لا يكون لازمًا له وهوالغالب فلا يلزم من فساده وعدمه فساد الأصل وعدمه ولكن يلزم من فساده وعدمه فساد هذا الفرع وعدمه فالأول كما قال الله تعالى ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} [إبراهيم 24-26] فالكلمتان كلمة الإيمان واعتقاد التوحيد وكلمة الكفر واعتقاد الشرك فلا ريب أن الاعتقادات توجب
الأعمال بحسبها فإذا كان الاعتقاد فاسدًا أورث عملاً فاسدًا ففساد العمل وهو الفرع يدل على فساد أصله وهو الاعتقاد وكذلك الأعمال المحرمة التي تورث مفاسد كشرب الخمر الذي يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء فهذه المفاسد الناشئة من هذا العمل هي فرع لازم للأصل ففسادها يدل على فساد الأصل وهكذا كل أصل فهو علة لفرعه وموجب له أما القسم الثاني فالأصل الذي يكون شرطًا لا يكون علة كالحياة المصححة للحركات والإدراكات وأصول الفقه التي هي العلم بأجناس أدلة الفقه وصفة الاستدلال ونحو ذلك فهذه الأصول لا تستلزم وجود الفروع وإذا كان الفرع فاسدًا لم يوجب ذلك فساد أصله إذ قد يكون فساده من جهة أخرى غير جهة الأصل وذلك نظير تولد الحيوان بعضه من بعض فالوالدان أصل للولد والله تعالى وتقدس يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فالكافر يلد
المؤمن والمؤمن يلد الكافر وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اعتقاد ثبوت الصفات بل اعتقاد التشبيه المحض ليس موجبًا لعبادة الأصنام ولا داعيًا إليه وباعثًا عليه أكثر ما في الباب أن يقال اعتقاد أن الله تعالى وتقدس مثل البشر يمكن معه أن يجعل الصنم على صورة الله تعالى بخلاف من لم يعتقد هذا الاعتقاد فإنه لا يُجْعَل الصنم على صورة الله تعالى فيكون ذلك الاعتقاد شرطًا في اتخاذ الصنم على هذا الوجه وهذا القدر إذا صح لم يوجب فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة فإن كل باطل في العالم من الاعتقادات والإرادات وتوابعها هي مشروطة بأمور صحيحة واعتقادات صحيحة ولم يدل فساد هذه الفروع المشروطة على فساد تلك الأصول التي هي شرط لها فإن الإنسان لا يصدر منه عمل إلا بشرط كونه حيًّا قادرًا شاعرًا ولم يدل فساد ما يفعله من الاعتقادات والإرادات على فساد هذه الصفات والذين أشركوا بالله تعالى وتقدس وعبدوا معه إلهًا آخر كانوا يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويق4ولون هم شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أن الله يملكهم كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك وقد قال تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم
مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقد اخبر عنهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وقال قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال عكرمة يؤمنون أنه
رب كل شيء وهم يشركون به فإذا كانوا إنما أشركوا به لاعتقادهم أنه رب كل شيء ومليكه وأن هذه الشفعاء والشركاء ملكه وآمنوا بأنه رب كل شيء ثم اعتقدوا مع ذلك أن عبادة هذه الأوثان تنفعهم عنده فهل يكون ما ابتدعوه من الشرك الذي هو فرع مشروط بذلك الأصل قادحًا في صحة ذلك الإيمان والإقرار الحق الذي قالوه الوجه الحادي عشر أن الذين أشركوا بالله تعالى حقيقة من عباد الشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين والذين اتخذوا أوثانًا لهذه المعبودات إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم وجود الشمس والقمر والكواكب والملائكة
والأنبياء واعتقادهم ما تفعله من الخير تشبيهًا فهل يكون ذلك قادحًا في وجودها وفي اعتقاد ما هي متصفة به أم لا فإن كان ذلك فلزم أبا معشر والرازي أن يقدحوا في العلوم الطبيعية والرياضية ويقدحوا في الملائكة والنبيين وفن لم يكن كذلك ما ذكره من الحجة باطلاً الوجه الثاني عشر قوله فَثَبَت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة يقال له الثُّبوت إنما يكون بذكر حجة عقلية أو سمعية وهب أن ما ذكره أبو معشر إنما هو خبر عن أمم متقدمين لم يذكرهم ولم يذكر إسناده في معرفة ذلك وليس أبو معشر ممن يحتج بنقله في الدين بإجماع أئمة الدين فإنه لم يكن كافرًا منافقًا كان فاجرًا فاسقًا وقد قال الله تعالى وتقدس يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] فلو قدر أن هذا النقل نقله بعض أئمة التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان هذا عنده خبرًا مرسلاً لا يثبت به حكم في فرع من الفروع فكيف
والناقل له مثل أبي معشر عن أمم متقدمة فهذا خبر في غاية الانقطاع ممن لا تُقبلُ روايته فهل يَحْسن بذي عقل أو دين أن يُثبت بهذا شيئًا في أصل الدين ومن العجب العجيب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي توارثها عن أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين واتفق على صحتها جميع العارفين فقدح فيها قدحًا يشبه قدح الزنادقة المنافقين ثم يحتج في أصل الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين بالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال ونعوذ بالله من شرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال الرازي الفصل الثاني في تقرير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهة قلت لم يذكر في هذا الفصل حجة تدل على مطلوبه دلالة ظاهرة فضلاً عن أن تكون نصًّا بل إما أن يكون ما ذكره عديم الدلالة على مطلوبه وذلك يتبين بذكر حججه قال الحجة الأولى قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ {3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 1-4] قال واعلم أنه قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله هذه السورة إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة يجب أن تكون من
المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثَبَت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلاً
قلت كون هذه السورة من المحكمات وكون كل مذهب يخالفها باطلاً هو حق لا ريب فيه بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وعليها اعتمد
الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام وهي على نقيض مطلوب
الجهمية أدل منها على مطلوبهم كما قررناه في موضعه وربما نذكر منه هنا ما ييسره الله لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته مثل آية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يُذكر في غيرها من اسمه الأحد
الصمد ومثل نفي الأصول والفروع والنظراء جميعًا وإلا فاسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الاسم فأثبته الله لنفسه ردًّا عليهم وهذا أبلغ في كونه محكمًا من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يَرِد عليه نفي ولا إثبات وقد قال وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً {60} [الفرقان 60] وقال تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} [الرعد 30] وكذلك قول فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] هذا أبلغ في كون موسى صرح له بأن إلهه فوق السموات حتى قصد تكذيبه بالفعل من الإخبار عن ذلك بلفظ موسى وكذلك مسألة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون من رؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر صحوًا ليس دونه سحاب فقالوا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤيته كما لا تضارون في
رؤية الشمس والقمر وسائر ما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة الصريحة المتواترة مع ورودها على سؤال السائل وجوابه بهذا التصريح هو من أبلغ ما يكون في إثبات هذه الرؤية وأبعد عن التشابه كما يظنه الرازي وغيره ممن يحرف الرؤية عن حقيقتها اتباعًا للمريسي وغيره من الجهمية وإن كان الرازي في
الظاهر مقرًّا بالرؤية فإن إقراره بها كإقرار المريسي وذويه بألفاظها ثم يحرفون الكلم عن مواضعه ثم قال الرازي فنقول إن قوله تعالى أَحَدٌ يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أَحَدٌ مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية قال وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين
ينكرون الجوهرالفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لابد أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكلما تميز فيه شيء عن شيء فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لايسار ويساره موصوف بأنه يسار لايمين فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله موصوفًا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزًا أصلاً وذلك ينفي كونه جوهرًا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فإنه لا يمكنهم الاستدلال
على نفي كونه تعالى جوهرًا من هذا الاعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به أيضًا نفي الضد والند ولو كان الله تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثْلاً له وذلك ينفي كونه أحدًا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لايكون في شيء من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصًّا بحيز وجهة فإن كان منقسمًا كان جسمًا وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن كان جوهرًا ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلاً فثبت أن قوله أَحَدٌ يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة أصلاً
قلت هذا الاستدلال هو معروف قديمًا من استدلال الجهمية النافية فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لايجعل القديم واحدًا فقط فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة
وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلاً في مسمى التوحيد ومبنى ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكَلِم عن مواضعه وقد ذكر تلبيسهم وتحريفهم وإلحادهم أئمة السلف والخلف وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية فقالت الجهمية
لنا لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولا نقول ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلاً في ذلك فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكَرَب وليف وسَعَف
وخُوص وجُمَّار واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق له علمًا فعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالمًا قادرًا مالكًا لا متى ولا كيف قال وسمى الله رجلاً كافرًا اسمه الوليد بن المغيرة
المخزومي فقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقد كان الذي سماه وحيدًا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة وقد سماه وحيدًا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا لا تكونون موحدين أبدًا حتى تقولوا قد كان الله ولا شيء هو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودًا بشيء يقال إنه من صفاته فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب
والتجزئة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون النوع مركب من الجِنْس والفصل ويستلزم أيضًا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن
الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسوله وهذا أصل تعظيم يجب معرفته فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدر ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم أو يقال ليس فيه
كثرة حد ولا كثرة كم أو يقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل ولا تركيب الأجسام ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره ولو قامت به الصفات لكان معه غيره وأنه ليس بجسم إذ الجسم مركب مؤلف منقسم
وهذا تعديد ينافي التوحيد أو يقولون أيضًا إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعددًا في ذاته وذلك خلاف التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين والعلم الذي يعلم له هذا علم التوحيد وهذا عندهم أول الأصول الخمسة التي هي عندهم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وانفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن هنا أخذ محمد بن التومرت هذا اللقب وسمى
طائفته الموحدين ووضع لهم المرشدة المتضمنة لمثل عقيدة المعتزلة وغيرهم من الجهمية في التوحيد ولم يذكر اعتقاد الصفاتية كابن كلاب والأشعري فضلاً عن اعتقاد السلف والأئمة لكن ذكر في القدر مذهب أهل الإثبات وهذا
الذي ذكر يشبه قول حسين النجار وضرار بن عمرو وكان حفص الفَرد من أصحاب النجار وكان برغوث من
أصحاب ضرار وذاك خصم الشافعي
وهذا من خصوم أحمد وذهب حسين النجار وطائفة من المعتزلة إلى أن معنى الواحد هو الذي لا شبيه له كما يقول فلان واحد دهره وقد يقولون التوحيد يجمع المعنيين جميعًا فالأول نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه فإن نفي الصفات عندهم هو نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه والتوحيد ينافي التشبيه والتجسيم وجماع قولهم إن التوحيد يجمع ثلاث معان أنه واحد في نفسه لا صفة له وقَدْر فليس بمركب
ولا محدود ولا موصوف بصفة تقوم به وهو أيضًا واحد لا شبيه له فهذان نفي التجسيم والتشبيه والثالث أنه واحد في أفعاله لا شريك له وهذا الثالث هو متفق عليه بين المسلمين لكن الناس يقولون هذا التوحيد لايتم للقدرية الذين يجعلون بعض العالم مفعولاً لغير الله ويجعلون من يفعل كفعل الله فإن هذا إثبات شريك له في الملك ثم إن المعتزلة وغيرهم من الجهمية وإن وافقهم بقية المسلمين على نفي التشبيه فإنهم يدخلون في اسم التشبيه كل من أثبت لله صفة كما هو معروف عنهم ولذلك نقله عنهم الأئمة كما ذكره الإمام أحمد في الرد عليهم فقال في وصف الجهم وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئًا وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة
ووضع دين الجهمية وأكثر الشيعة المتأخرين على هذا التوحيد ونفي القَدر وأمل الشيعة المتقدمون الذين أدركوا زمن الأئمة فكان
جمهورهم على الإثبات وغالب الإمامية مُصرِحون بالتجسيم قلت أصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن عمرًا هو الإمام الأول الذي ابتدع دين المعتزلة هو وواصل بن عطاء
وأما الذين اتبعوه من أصحاب أبي حنيفة فهم من جنس الذين قاموا بأمر محنة المسلمين على دين الجهمية لما دَعُوا الناس إلى القول بخلق القرآن وغيره من أقوال الجهمية وهم مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي دُواد قاضي القضاة وأمثالهم ولما أدخلت الجهمية هذا النفي الذي ابتدعوه في مسمى التوحيد أظهر المسلمون خلافهم من الأئمة والفقهاء وأهل الحديث والكلام كما وروى أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ
الإسلام الأنصاري عن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرًا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل
على باطل وكان المثبتة من أهل الكلام يخالفونهم في مسمى الواحد وكذلك الصفاتية وقد تقدم كلام أبي محمد ابن كُلَاّب في معنى الواحد وأنه قال في كتاب التوحيد في معنى قول القائل إن الله واحد وفي معنى قولنا مطلقًا للشيء إنه واحد فقال ومعنى قولنا الله واحد أنه منفرد بنفسه لا يدخله غيره وقال في معنى مطلق قولنا إنه واحد إنه قد يقال ذلك لما هو أشياء كثيرة مجتمعة وهو أجسام متماثلة كما يقال إنسان واحد وقولنا للخالق واحد لا على هذا المنهاج لأجل أنه المنفرد بنفسه الذي لا يدخله غيره قال وقد كان الله واحدًا قبل خلقه فلم تداخله الأشياء حين خلقها ولم يُدَاخلها ولو كان ذلك كذلك لم يكن واحدًا قال ول كان داخلاً فيها لكان حكمه حكمها ولو كانت داخلة فيه كان كذلك ومن زعم أنها فيه أو هو فيها
لزمه أن يحكم فيه بحكم المخلوق إذ كان في المخلوق أو المخلوق فيه فلما استحال في ربنا أن يداخل المخلوقين فيكون بعضاً لهم أو يداخلوه فيكونوا بعضاً له لم نجد منزلة ثالثة غير أنه بائن بخلق الأشياء فهي غير داخلة فيه ولا مماسة له ولا هو داخل فيها ولا مماس لها ولولا أن ذلك كذلك كان حكمه حكمها فإن قالوا فيعتقبه الطول والعرض قيل لهم هذا محال لأنه واحد لا كالآحاد عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات كما أنه كبير عليم لا كالعلماء كذلك هو واحد عظيم لا كالآحاد العظماء فإن قلت العظيم لا يكون إلا متجزيًا قيل لك والعليم لا يكون إلا متجزيًا وكذلك السميع والبصير لأنك تقيس على المخلوقات قال ابن فورك وحكى حاكون عن ابن كلاب أنه
لا يصح أن يضبط بالوهم شيء واحد أراد أنه إن كان قديماً فلابد من صفات وإن كان محدثاً فمن أعراض قلت هذا الكلام يقال إبطالاً لمذهب الجهمية ونحوهم من الفلاسفة والمعتزلة أن الواحد لا صفة له فيقال لهم فيمتنع على هذا القول أن يكون في الوجود واحد كما سنبين إن شاء الله مخالفة قولهم للغة والعقل والشرع ولكن كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد والتوحيد بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك كما سنذكره لكن مع تفسيرهم إياه بما ينفي التجسيم والتشبيه لم يلتزموا أن ذلك ينفي الصفات بل عندهم تفسير الواحد بذلك لا ينافي ثبوت الصفات القائمة به وهذا من مواقع النزاع بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من الجهمية فإن هؤلاء يزعمون أن نفي الصفات داخل في مسمى الواحد وأما الصفاتية فينكرون ذلك
قال الأستاذ أبو المعالي قال أصحابنا الواحد هو الشيء الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبوبكر ولو قلت الواحد هو الشيء كان كافيًا ولم يكن في الحد تركيب وفي قول القائل الشيء الذي لاينقسم نوع تركيب قال الأستاذ أبو المعالي يقال للقاضي التركيب في الحدود وهو أن يأتي الحاد بوصف زائد يستغنى عنه وقد
لا تفهم من الشيء المطلق ما تفهم من المقيد وليس يفهم من الشيء ما يفهم من الواحد الذي لاينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء المقصود من التحديد والإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشيء المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم قال منازعوه ويقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشيء فهما أمران متلازمان فلابد من التعرض لهما ثم قال أبوالمعالي ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة تردد بين معان فقد يراد به الشيء لايقبل وجود القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الأشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد أنه لا ملجأ وملاذ سواه وهذه المعاني
متحققة في وصف القديم سبحانه وتعالى وقال الأستاذ أبوبكر بن فورك إنه سبحانه واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الوصول والفصل قال الأنصاري إشارة إلى وحدة الإله فإن الجوهر
واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية والإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلاً ولا وصلاً قال فإن قال قائل الوحدانية ترجع إلى صفة إثبات أم هي من الأوصاف التي تفيد النفي قلنا قال بعض المتكلمين المقصد من الواحد انتفاء ماعدا الموجود الفرد وربما يميل القاضي أبوبكر إلى هذا وقال الجُبَّائي كونه واحدًا ثابت لا للنفس ولا للمعنى وطرد ذلك شاهدًا وغائبًا والذي يدل عليه كلام
القاضي أن الاتحاد صفة إثبات ثم هي صفة النفس قال أبو المعالي فإن قيل أوضحوا معنى التوحيد قيل مراد المتكلمين من إطلاق هذه اللفظة اعتقاد الوحدانية والحكم بذلك وأبو المعالي كثيرًا مايقول قال الموحدون ويعني بهم هؤلاء وسلك سبيله ابن التومرت في لفظ الموحدين لكن لم يذكر في مرشدته الصفات الثبوتية كما يذهب إليه أبو المعالي ونحوه لكن اقتصر على الصفات السلبية وعلى الأحكام
وهذه طريقة المعتزلة والنجارية ونحوهم وكذلك قد وافق هؤلاء في تفسير الواحد بهذه المعاني الثلاثة طائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم قال القاضي
أبويعلى في المعتمد كما ذكر ابن الباقلاني وأما الواحد والفرد والوتر فمعناه استحالة التجزئة والانقسام والتبعيض عليه فقال ونفي الشريك عنه ونفي الثاني عنه فيما لم يزل ونفي المِثْل عنه تعالى وعن صفاته الأزلية فجعل في هذا الموضع اسم الواحد يعم هذه المعاني الثلاثة وأما في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ففسر الواحد بما لا شريك له وجعل هذه المعاني ثلاثة أقوال فقال وأما وصفه بأنه واحد فمعناه الذي لا شريك له القهار يقهر كل جبار والحد والواحد بمعنى واحد وقيل معناه شيء وكل شيء واحد وكل واحد شيء فإذا قيل للجملة إنها واحدة فإنه يُقدّر فيها حكم الواحد الذي لاينقسم وقيل المراد به نفي النظير كقولهم فلان واحد زمانه
لكن كثير ممن يفسر الواحد بعدم التجزي يريد بذلك ما يعرفه الناس من معنى التجزي وهو انفصال جزء عن الآخر كما يعنون بلفظ المنقسم انفصال قسم من قسم وليس هذا فقط هو المعنى الذي يريده نفاة الجسم بقولهم ليس بمنقسم ولا متجزي فإن هذا المعنى لا يشترطون فيه وجود هذا الانفصال ولا إمكان وجوده وهذا الاصطلاح قول أبي الوفاء بن عقيل في كتاب الكفاية باب في نفي الولد والتجزية وهو سبحانه واحد لا يتجزأ لقوله تعالى لَمْ يَلِدْ لأنه لو كان والدًا لكان متجزأ لأن الولد هو انفصال جزأ من الوالد قال سبحانه وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً [] الزخرف 15] يعني ولدًا قال لأن التجزي لا يجوز إلا على المركبات وقد أفسدنا التركيب حيث أفسدنا كونه جسمًا قال ونخص هذا بدلالة أخرى فنقول إن الإيلاد تحلل والتحلل لا يجوز إلا على ذات مستحيلة تتعاقب عليها الأزمان وتتغالب فيها الطباع تأخذ من الأغذية حظًّا وتعيد منها فضلاً والقديم سبحانه ذات لا يداخله شيء ولا يُداخل شيئًا ولا يتصل بشيء ولا ينفصل عنه شيء لأنه واحد والتجزي والانقسام لا يتصور إلا على آحاد التأمت بالاجتماع فتوحدت
وتفككت بالانقسام فتعددت ألا ترى أن العلل والأحكام والعقول والعلوم لما لم توصف بالتركيب لم يتسلط عليها التجزئة وكذلك قال أبو الوفاء بن عقيل في باب نفي التشبيه وهو سبحانه غير مُشَبه بالأشياء فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على صفة من صفات الموجودات قال سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] معناه ليس مثله شيء والكاف زائدة والدلالة على أنه ليس بجسم ولا مشبه للأشياء أنه لو كان جسمًا لكان مؤلفًا لأن حقيقة الجسم هو المؤتلف ولهذا أدخلت عليه العرب التزايد فيقال هذا أجسم ويراد به أكثر أجزأ وأكبر جثة ولو كان مؤلفًا لاحتاج إلى مؤلف كما احتاجت سائر الأجسام ويُجاز عليه ما يجوز عليها من التجزي والانقسام والتفكك والالتيام ولو جوزنا قِدم غائب مع كونه جسمًا لاقتبسنا من العلم بحدث هذا الجسم الحاضر حدث الغائب ولأن المشبه للشيء ما سد مسده وقام مقامه فلو أشبه
هذه الأشياء الموجودة أو شيئًا مناه لسد مسده وقام مقامه في القدم والإحداث والصفة والاختراع وإلى غير ذلك من صفات القديم سبحانه ولنه لو كان يشبهها من وجه من الوجوه لاحتاج إلى ما احتاجت إليه من الأمكنة التي يقوم بها ويتحول إليها وكذلك لوجب قدم الأمكنة لوجود قدم الكائنات وفي ذلك إما قدم العالم أو حدث القديم وكلاهما محال فما أدى إليه محال قلت وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء الأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون قال
أبو عبد الله بن الهيصم الفصل الرابع وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله جل عن قولهم أقانيم ثلاثة رب واحد وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص وقال بعضهم إنها الخواص قال وقال أهل التوحيد إن الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا أقانيم ثلاثة قال والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شيء من أفعال الربوبية إليهما لأن الحياة والكلام لا يفعلان وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب والابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناول مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله وهذا هو
وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك ثم يقال لهم وإذ قد كان الله عندنا وعندكم موصوفًا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفًا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له وما لكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا قلت مذهب النصارى لكونه متناقضًا في نفسه لا يعقل إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وإن كان الآخرون من النصارى
لا يقولون ذلك فإن عندهم كل إله من الأقانيم إله يدعى ويعبد مع قولهم عن الثلاثة إله واحد وبعض الإله ليس هو إلهًا ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح فإن كان متحدًا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن الروح القدس إله وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك ويقولون أيضًا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضًا وإذا عُرِفَ أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك وإن كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيًا وإثباتًا ولهذا قال الإمام أحمد فيهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام
ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما فإن الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ولا يتبعض وينقسم بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المُعَضَّى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك ولا ينفصل منه بعض كما ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من فضلاته وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف كما قال الصحابة والتابعون في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه وأكثرالناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة
والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما وذلك متفق على نفيه بين المسلمين اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار فبنو آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا هو عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء ولا يمكن أيضًا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء وهذا عندهم نفي الكم والمساحة وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودًا مطلقًا مجردًا عن الصفات والمقادير وهم في ذلك متناقضون عند
جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفى الصفات كان متناقضًا عند جماهير العقلاء ومن أثبت من الصفاتية الصفات الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية وسائر النفاة والمثبتة كما هو قول ابن كلاب والأشعري وغيرهما ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها وهم متناقضون في ذلك عند هؤلاء ولهذا لما صنف القاضي أبو يعلى كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله أحمده حمدًا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وأبرأ إليه من التجسيم والتشبيه وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على مايقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي
ولهذا صار في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلاً إلى النفي كرزق الله التميمي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم وإما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجلّ
وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم وطوائف آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني
والقاضي أبي الحسين وأبي وإن كانوا يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته وأما التشبيه فهو اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل والمتشابهان هما المتماثلان وهما ما سد أحدهما مسد صاحبه وقام مقامه وناب منابه وبينهم نزاع في إمكان التشابه الذي هو التماثل من وجه دون وجه وهل التشابه الذي هو التماثل بنفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات وهذا التشبيه أيضًا منتف عن الله وإنما خالف فيه المشبهة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم كما قال الإمام أحمد
المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه وكما قال إسحاق وأبو نعيم ومحققو المتكلمين على أن هذا التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي بها يقوم أحدهما مقام الآخر وأما التشبيه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة كما يقال للصورة المرسومة في الحائط إنها تشبه الحيوان ويقال هذا يشبه هذا في كذا وكذا وإن كانت الحقيقتان مختلفتين
ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فإن مقتضى هذا كونه معدومًا ومنهم طوائف يطلقون هذا لكن من هؤلاء من يريد بنفي التشابه نفي التماثل فلا يكون بينهما خلاف معنوي إذ هم متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه كما دَلّ على ذلك القرآن كما قد بيناه في غير هذا الموضع كما يعلم أيضًا بالعقل وأما النفاة من الجهمية وأشباههم فلا يريدون بذلك إلا نفي الشبه بوجه من الوجوه وهذا عند كل من حقق هذا المعنى لا يصلح إلا للمعدوم وقد قرر ذلك غير واحد من أئمة المتكلمين حتى أبو عبد الله الرازي كما سنذكر كلامه في ذلك وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة من معناه ما هو متفق على نفيه بين
المسلمين ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم يمثلونه بالأجسام المخلوقة وأما المعنى الخاص الذي يعنيه النفاة والمثبتة الذين يقولون هو جسم لا كالأجسام فهذا هو مورد النزاع بين أئمة أهل الكلام وغيرهم وهو الذي يتناقض سائر الطوائف من نفاته لإثبات مايستلزمه كما يتناقض مثبتوه مع نفي لوازمه ولهذا كان الذي عليه أئمة الإسلام أنهم لا يطلقون الألفاظ المُبْتَدعة المتنازع فيها لا نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد الاستفسار والتفصيل فيثبت ما أثبته الكتاب والسنة من المعاني وينفي ما نفاه الكتاب والسنة من المعاني والمقصود هنا أن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله وهو المذكور في الكتاب والسنة وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ليس هو هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها هؤلاء المتكلمون وإن كان فيها ما هو داخل في
التوحيد الذي جاء به الرسول فهم مع زعمهم أنهم موحدون ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله بل التوحيد الذي يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئًا فقد وحده ومن عبد من دونه شيئًا من الأشياء فهو مشرك به ليس بموحد مخلص له الدين وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال الذي يزعم هؤلاء المتكلمون أنه يقر أنه لاإله إلا هو ويثبتون بما توهموه من دليل التمانع وغيره لكان مشركًا وهذه حال مشركي العرب الذين بعث الرسول إليهم ابتداء ونزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص
الدين له فإنهم كانوا يقرون بأن الله وحده هو الذي خلق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في القرآن كما في قوله وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان 25] وفي قوله قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {84} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ {85} قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {86} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ {87} قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {88} سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ {89} [المؤمنون 84-89] وقال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ {106} [يوسف 106] قال ابن عباس تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره فهذا الشرك المذكور في القرآن في مواضع كثيرة المضاد للإخلاص والتوحيد كما في حديث جابر وابن
عمر وسعد وغيرهم وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع والتوحيد الذي جاء به الرسول يتناول التوحيد في العلم والقول وهو وصفه بما يوجب أنه في نفسه أحد صمد لا يتبعض ويتفرق فيكون شيئين وهو واحد متصف بصفات تختص به ليس
له فيها شبيه ولاكفؤ والتوحيد في الإرادة والعمل وهو عبادته وحده لا شريك له وقد أنزل الله سورتي الإخلاص قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} [الكافرون 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] الواحدة في توحيد العمل ولهذا كان القول فيها لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} [الكافرون 2] وهي جملة إنشائية فعلية والأخرى في توحيد العلم وهي قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} [الإخلاص 1] ولهذا كان القول فيها جملة خبرية اسمية والكلام إما إنشاء وإما إخبار فالإخبار يكون عن العلم والإنشاء يكون عن الإرادة ولهذا قال الله تعالى وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {163} [البقرة 163] وقال قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ {108} [الأنبياء 108] وقال قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد [الكهف 110] وقال وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ [النحل 51] وقال أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ {5} وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص 5-6] وفي القرآن من نفي
الألوهية عن غيره من المخلوقات وإثباتها له وحده ما لا يحصى إلا بكُلفة كقوله فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ {213} [الشعراء 213] وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً {9} [المزمل 9] رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً {14} هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً {15} [الكهف 14-15] لَاّ تَجْعَل مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً {22} [الإسراء 22] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد 19] إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ {35} [الصافات 35] ونحو ذلك ممايتضمن وحدانية في الإلهية فلا يجوز أن يكون إله معبود إلا هو والإلهية تتضمن استحقاقه للعبادة والدعاء لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها ولهذا خاطبني بعض الأعيان من الفضلاء المتفلسفين وأخذ يقول إن الفلاسفة يوحدون وأنهم من أعظم الناس توحيدًا ويفضلهم على النصارى في التوحيد فبينت له أن الأمر ليس كذلك بل النصارى في التوحيد خير منهم وأنهم مشركون
لا موحدون فقلت الفلاسفة الذين تذكرهم إما مشركون يوجبون الشرك ويوالون عليه ويعادون وإما صابئون يسوغون الشرك ويجوزون عبادة ما سوى الله وكتبهم مشحونة بهذا ولهذا كان أحسن أحوالهم أن يكون صابئة أو هم علماء الصابئة وهل كان نمرود وقومه وفرعون وقومه وغير هؤلاء إلا منهم وهل عبدت الكواكب وبنيت لها الهياكل وأصنامها إلا برأي هؤلاء المتفلسفة بل وهل عبد الصالحون وعكف على قبورهم ومثلت صورهم إلا بآرائهم حتى الذين كانوا متظاهرين بالإسلام منهم قد صنفوا في الإشراك بالله وعبادة الكواكب والأصنام وذكروا ما في هذا الشرك من الفوائد وتحصيل المقاصد وبالاضطرار يعلم من عرف دين الرسل محمد وغيره أنهم إنما بعثوا بالنهي عن هذا الإشراك وجميع الرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل 36] وقال تعالى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ {45} [الزخرف 45] وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ {25} [الأنبياء 25] وقد اتفق المسلمون على أن دين أهل الكتاب من اليهود والنصارى خير من دين من لا كتاب له من المشركين والصابئين
وغيرهم والعلماء على تنوع أصنافهم من الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأرباب المقالات وإن اختلفوا في الصابئين فلتنوعهم ولهذا كان للفقهاء فيهم طريقان أحدهما أن في كونهم من أهل الكتاب قولين للشافعي وأحمد والطريق الثاني أنهم صنفان فمن تدين منهم بدين أهل الكتاب كان منهم وإلا فلا هذا هو المختار عندهم
وأما الشرك الذي في النصارى فإنما ابتدعوه تشبهًا بأولئك فكان فيهم قليل من شرك أولئك قال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ [التوبة 30] كالذين قالوا الملائكة أولاد الله كما يقوله هؤلاء المتفلسفة الصابئون فإنهم كانوا قبل النصارى قلت وأما التوحيد الذي يذكر عن الفلاسفة من نفي الصفات فهو مثل تسمية المعتزلة لما يقولونه توحيدًا وهذا في التحقيق تعطيل مستلزم للتمثيل والإشراك وأما النصارى فهم لا يقولون عن ثم إلهين متباينين بل يقولون قولاً متناقضًا حيث يجعلون الثلاثة واحدًا ويجعلون الواحد هو المتحد
بالمسيح دون غيره مع عدم إمكان تميز واحد عن غيره وهذا الكفر دون كفر الفلاسفة بكثير وتكلمت في ذلك بكلام بعد عهدي به وفساد هذا وتناقضه أعظم حتى لقد قال عبد الله بن المبارك إنا لنحكي قول اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية وهذا يتبين بما نقوله وهو أن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا اصل لها في الكتاب والسنة وكلام السلف والأئمة باطل بلا ريب شرعًا وعقلاً ولغة أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب ولا يرى منه شيء دون شيء إذ القرآن وغيره من الكلام العربي متطابق
على ما هو معلوم بالاضطرار من لغة العرب وسائر اللغات أنهم يصفون كثيرًا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسمًا إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض عند من يجعلها غيرها وزائدة عليها وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدًا امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء وسيأتي بيان هذا ونذكر ما في اللغة من ذكر الواحد مع كونه موصوفًا ذا مقدار بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار كقوله تعالى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [الزمر 6] وقال ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] وقال وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وسئل النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أَوَ لكلكم ثوبان وقال لا يصلِّ أحدكم
في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وسيأتي بسط هذا إن شاء الله وأما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة إنه أمر لا يعقل ولا له وجود في الخارج وإنما هو أمر مقدر في الذهن ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولايحاط به وإن سماه المسمي جسمًا وأيضًا فإن التوحيد إثبات لشيء هو واحد فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها ويتميز بها عما سواه حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية ولا مجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدًا ولهذا فسر ابن كلاب وغيره الواحد بأنه المنفرد عن غيره المباين له وهذا المعنى داخل في معنى الواحد في الشرع وإن
لم يكن إياه ولذلك أهل الإثبات من أهل السنة والحديث يصنفون كتب التوحيد يضمنونها ثبوت الصفات التي أخبر بها الكتاب والسنة لأن تلك الصفات في كتابه تقتضي التوحيد ومعناه وأما الشرع فنقول مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم يُعرّف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي
العنيد فيما افترى على الله في التوحيد وذكر أن بعض من كان بنواحيه ممن أظهر معارضة السنة والآثار بكلام بشر المريسي وصنف في ذلك إلى أن قال افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه منشئًا لكلام المريسي مدلسًا على الجهال بما فهم أن يحكى ويرى من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار أن مذهب جهم والمريسي في التوحيد كبعض
اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل والزيادة والنقصان وكاختلافهم في التشيع والقدر ونحوها كيلا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي وأكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة
والقدرية
قال وقد أخطأ المعارض محجة السبيل وغلط غلطًا كثيرًا في التأويل لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم والمريسي وجهم وأصحابهما لم يشك أحد منهم في إكفارهم سمعت محبوب بن موسى الأنطاكي أنه سمع
وكيعًا يكفر الجهمية وكتب إلى علي بن خشرم أن ابن المبارك يخرج الجهمية من عداد المسلمين
وسمعت يحيى بن يحيى وأبا توبة وعلي بن المديني
يكفرون الجهمية ومن يدعي أن القرآن مخلوق فلا يقيس الكفر ببعض اختلاف هذه الفرق إلا امرؤ جهل العلم ولم يوفق فيه لفهم فادعى المعارض أن الناس قد تكلموا في الإيمان وفي التشيع والقدر ونحوه ولا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير الصواب إذ جميع خلق الله تدرك بالحواس الخمس اللمس والشم والذوق والبصر بالعين والسمع والله بزعم المعارض لايدرك بشيء من هذه الخمس قال قلنا لهذا المعارض الذي لا يدري كيف تناقض أما قولك لا يجوز لأحد أن يتأول في التوحيد غير
الصواب فقد صدقت وتفسير التوحيد عند الأمة وصوابه قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جاء بها مخلصًا دخل الجنة
وأمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله من قالها فقد وحد الله وكذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل بالتوحيد في حجته فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد
عن أبيه عن جابر فهذا تأويل التوحيد وصوابه عند الأمة فمن أدخل الحواس الخمس أيها المعارض في صواب التأويل من أمة محمد ومن غيرها فأشر إليه غير ما ادعيتم فيه من الكذب على ابن عباس من رواية بشر المريسي ونظرائه
ولمن تأول في التوحيد الصواب لقد تأولت أنت فيه غير الصواب إذ ادعيت أن الله لا يدرك ولن يدرك بشيء من هذه الحواس الخمس إذ هو في دعواك لا شيء والله مكذب من ادعى هذه الدعوى في كتابه إذ يقول عز وجل وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء 164] وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ [البقرة 174] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فأخبر في كتابه أن موسى أدرك منه الكلام بسمعه وهوأحد الحواس عندك وعندنا ويدرك في الآخرة بالنظر إليه بالأعين وهي الحاسة الثانية كما قال الله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23]
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر جهرًا لا تضارون في رؤيته وروى عنه عدي بن حاتم الطائي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان فذاك الناطق من قول الله وهذا الصحيح المشهور من
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي حواس بأبْيَن من هذا فلذلك قلنا إن المعارض قد تأول فيه غير الصواب وروى أبو عبد الرحمن السلمي فيما صنفه في ذم الكلام ما ذكره أيضًا من طريق شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي في تصنيفه المشهور في ذلك قال أبو عبد الرحمن سمعت أبا نصر أحمد بن حامد السجزي يقول سمعت أبي يقول قلت لأبي العباس ابن سُرَيج ما التوحيد قال
توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك وهذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله الواحد وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم لعدمه منافٍ لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد الصمد وأنه العلي العظيم وأنه الكبير المتعال وأنه استوى على العرش وأنه يصعد إليه ويعرج إليه ويوقف عليه وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر وأنه يكلم عباده وأنه السميع البصير وقوله وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] إذ هو لا يكون
له قَدْر في نفسه وإنما قدره عندهم في القلوب وكذلك لا يكون له في نفسه عظمة وإنما عظمته في النفوس وذلك يظهر بالكلام على حجته وذلك من وجوه أحدها أنه قال الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيًا للجسمية يقال له هذا يقتضي أن شيئًا مما يقال له جسم لا يوصف بالوحدة حيث قلت إن الجسم مركب وذلك ينافي الوحدة ومعلوم أن هذا خلاف ما في الكتاب والسنة وخلاف لغة العرب قال الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء 1] ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم وحواء خلقت من ضلع آدم القُصيراء من جسده خلقت لم تخلق من روحه حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم وجسد آدم جسم
من الأجسام وقد سماها الله نفسًا واحدة علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] فإن الوحيد مبالغة في الواحد فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد فوصفه بأنه واحد أولى ومع هذا فهو جسم من الأجسام وقال تعالى يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] فوصف المرأة بأنها واحدة وهذا جسم موصوف بالوحدة حيث لم يكن لها نظير في كونه بنتاً لهذا الميت وقال تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ [التوبة 6] وقال تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف 36] الآيات وقال تعالى قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] والفرد
والوِتر من جنس لفظ الواحد وقد قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] وقال تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً {80} [مريم 80] وقال تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء إلى قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص 25-26] وقد قال تعالى بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف 19] وقال تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات 12] وقال تعالى وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف 32] وقال وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً [النساء 20] وقال تعالى أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البقرة 266] وقال تعالى وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى في موضعين
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد فقال أو لكلكم ثوبان وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء بل في الصحيح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحدكم في ثوب واحد وليس على عاتقه منه شيء وفي الصحيح عن عمر بن أبي سَلمة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد مشتملا به وفي حديث المتلاعنين الذي
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب وفي الصحيح عن سليمان بن صُرَد قال استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها
لذهب عنه الذي يجد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفي حديث إبراهيم اللهم أنت واحد في السماء وأنا واحد في الأرض وفي الصحيحين عن ابن عباس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهمايعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة وفي
السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا غضب أحدكما وهو قائم فليجلس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أحدكم إذا قام إلى الصلاة فإنما يناجي ربه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا وفي الصحيحين عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لو أن احدهم إذا أتى أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقنا فقُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس وهو في البخاري من حديث أبي برزة أن النبي
صلى الله عليه وسلم إذا أصبح يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أوكلما غزونا غزوة خلف أحدهم له نَبِيب كَنَبِيبِ التَّيْسِ وفي الصحيحين عن
أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا تنخم أحدكم فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه وليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى وفي لفظ البخاري إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه وفي لفظ مسلم ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخع
أمامه أيحب أن يستقبل فيتنخع في وجهه فإذا تنخع أحدكم وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته وفي صحيح البخاري عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن إذا هَمَّ أحدكم بالأمر
وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل وفيهما أنه قال لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه وفي رواية لأن يأخذ أحدكم وفي الصحيحين قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيح أيضًا أنه قال لا يبولن أحدكم في
الماء الدائم ثم يغتسل منه وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أتى أحدكم الغائط
فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها وفي الصحيح أنه قال إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بِصَنِفَةِ إزاره الحديث وفيهما إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه وفيهما
لا يقولن أحدكم اسْقِ ربك وَضِّئ ربك وفيهما أنه قال بئس ما لأحدكم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسِّي وفيهما لا يَمْشي أحدكم في نعل واحد وفيهما إذا شرب
الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا وفيهما أنه قال مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع وفيهما أنه قال إذا استأذن أحدكم أخاه أن يغرز خشبة في داره وفي الصحيحين لو اطلع في بيتك احد ولم تأذن له
فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح وفي الصحيحين عن أبي بكر قال قلت يا رسول الله ونحن في
الغار لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا وفي الصحيح أيضًا أن الصحابة قالوا يا رسول الله أينطلق أحدنا إلى منى ومَذَاكِيره تقطر منيًّا وفي الصحيحين أيضًا أنه قال لا يضربن أحدكم امرأته ضرب العبد ثم يجامعها بالليل وفي الصحيحين أنه قال لايزال أحدكم في صلاته مادامت الصلاة تحبسه وفيهما أيضًا أنه قال إن الملائكة تصلي على أحدكم
ما دام في مصلاه ما لم يحدث وفي الصحيحين عنه أنه قال لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو بعده وفيهما أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَه خير له من أن يمتلئ شعرًا وفيهما أنه قال السفر قطعة من العذاب
يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه وفي الصحيحين أنه قال يكون كنز أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حَمْحَمةٌ لا أُلفينَّ أَحَدَكُم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة
لها ثُغاءٌ لاأُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح لا أُلفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقَاع تخفق لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت وفيهما أنه قال أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه
قبل الإمام وفيهما أنه قال لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وفيهما أنه قال لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس أو تغرب وفيهما أنه قال إذا صلى
أحدكم للناس فليخفف وفيهما أنه قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة وفيهما أنه قال إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة بعشر أمثالها الحديث وفيهما أنه قال يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد وفيهما أنه قال إذا نظر أحدكم إلى من فضل
عليه في المال والخلق فلينظر إلى من أسفل منه وفيهما في حديث داود فذهب الذئب بابن أحدهما وفيهما أنه قال نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه وينصح لسيده وفيهما إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وفي لفظ إذا
أصبح أحدكم صائمًا وفيه فإن شاتمه أو قاتله أحد فليقل إني صائم وفيهما عن أبي هريرة اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم قال لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد وفيهما عنه أنه قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه وفي مسلم إذا ثُوب
بالصلاة فلا يسع إليها أحدكم وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل احد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قام أحدكم يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس
الوجه الثاني أن الاستدلال بالقرآن إنما يكون بحمله على لغة العرب التي أنزل بها بل قد نزل بلغة قريش كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ {195} [الشعراء 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص بل لا يحمله إلا على تلك اللغة فإذا كان أهل الكلام من قد اصطلح في لفظ الواحد والأحد والجسم وغير ذلك من الألفاظ على معانٍ عنوها بها إما من المعنى اللغوي أو أعم أو مغايرًا له لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو بل يضع القرآن على مواضعه التي بينهاالله لمن خاطبه القرآن بلغته ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفًا للكلم عن مواضعه ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها كما أن من المتكلمين من يقول الأحد هو الذي لا ينقسم وكل جسم منقسم ويقول الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة حتى يدخل في ذلك الهواء
وغيره لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته وهي لغة العرب عمومًا ولغة قريش خصوصًا ومن المعلوم المتواتر في اللغة الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون درهم واحد ودينار واحد ورجل واحد وامرأة واحدة وشجرة واحدة وقرية واحدة وثوب واحد وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد فيقولون رجل واحد ورجلان اثنان وثلاثة رجال وأربعة رجال وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها فكيف يجوز أن يقال إن الوحدة لايوصف بها شيء من الأجسام وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام وتحريف هؤلاء للفظ الواحد كتحريفهم للفظ المثل كما نذكره إن شاء الله الوجه الثالث أن أهل اللغة قالوا اسم الأحد لم يجئ اسمًا في الإثبات إلا لله لكنه مستعمل في النفي والشرط والاستفهام كقوله تعالى في نفس السورة التي ذكرها
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] وكقوله تعالى فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً {110} [الكهف 110] وقال وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً {19} قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً {20} قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً {21} قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً {22} [الجن 19-22] وقال تعالى قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً {37} لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً {38} [الكهف 37-38] وقال وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} [الليل 19] وقال تعالى وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ {65} [الحجر 65] وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امْرَأَتَكَ [هود 81] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أغير من الله وفي السنن من غير وجه أنه قال لا أُلِفْيَنَّ أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه المر من أمري مما أمرت به
أو نهيت عنه فيقول بيننا وبينكم كتاب الله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كتبت له مائةُ حسنة وحُطَّ عنه مائة سيئةٍ وكانت له حِرزًا من الشيطان يَومهُ حتى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه وفي الصحيحين أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطب الناس فقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلَّط عليها رسوله والمسلمين وإنها لم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي ولاتحل لأحد بعدي وإنما أحلّت لي ساعة من نهار وفي رواية فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إنما أَحلّها الله لرسوله ولم يُحِلَّها لك وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال أُحِلَّت لنا الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلنا وقال
النابغة وقفتُ فيها أُصَيْلالاً أسائلها عَيَّتْ جَوابًا وما بالرَّبْع من أَحَدِ
إلا الأَوارِيَّ لَأْياً ما أُبَيِّنُها والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلُومَةِ الجلدِ
فلو كان لفظ الأحد لايقع على جسم أصلاً لكان التقدير ولم يكن ما ليس بجسم كفوًا له وهذا عنده ليس إلا الجوهر الفرد عند من يقول به فيكون المعنى لم يكن الجوهر الفرد كفوًا له وأما سائر الموجودات فلم ينف مكافأتها له ولا أشرك بربي ما ليس بجسم ولن يجيرني من الله ما ليس بجسم ومعلوم أن عامة ما يعلم من المخلوقات القائمة بأنفسها هي أجسام كأجسام بني آدم وغيرهم والأرواح تدخل في مسمى ذلك عند عامة المسلمين وإن لم تدخل عند بعضهم ومن المعلوم أن الله لم ينه عن أن يشرك به ما ليس بجسم فقط بل نهيه عن أن يشرك به الأجسام أيضًا لاسيما وعامة ما أشرك به من الأوثان والشمس والقمر والنجوم إنماهي أجسام وفي السنن حديث أبي بكر الصديق لما استأذنه أبو برزة في قتل بعض الناس فقال إنها لم تكن لأحد بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لن يدخل
أحدًا منكم عمله الجنة وفي لفظ لن ينجو أحد منكم بعمله وفيهما أنه قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يَتْبَعني رجل مَلَكَ بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها ولا أحد بنى بيوتًا ولم يرفع سُقُوفها ولا أحد اشترى غنمًا أو خَلِفِاتٍ وهو ينتظر أولادها وفيهما أنه قال ما منكم
من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ترجمان وفي الصحيح أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا وفي الصحيح أنه قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة الوجه الرابع أن قوله لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا
من جوهرين هذا إنما يتم على رأي المُثْبِتين للجوهر الفرد وإلا فنفاته عندهم الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من الجواهر المنفردة وهذا المصنف قد صرح في أشرف كتبه عنده أن هذه المسألة متعارضة من الجانبين وهو لماأقام أدلته على إثبات الجوهر الفرد في هذا الكتاب في مسألة المعاد وزعم أنها قاطعة ثم ذكر المعارضات قال في الجواب أما المعارضات التي ذكروها فاعلم أنا نميل إلى التوقف في هذه المسألة بسبب تعارض الأدلة فإن إمام الحرمين صرح في
كتاب التلخيص في أصول الفقه أن هذه المسألة من محارات العقول وأبو الحسين البصري وهو أحذق المعتزلة توقف فيها فنحن أيضًا نختار التوقف فإذًا لا حاجة بنا إلى الجواب عما ذكروه فإذا كان أذكى المتأخرين من الأشعرية النافية للصفات الخبرية وإمامهم وهو أبو المعالي وأذكى متأخري المعتزلة
وهو أبو الحسين وابن الخطيب إمام مُتَّبعيه توقفوا في كون الجسم هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تنقسم أم ليس مركبًا منها كانت هذه المقدمة التي استدل بها مما لايعلم صحتها أفاضل الطوائف المتبوعين الموافقين له فقوله بتسليمهم ذلك حجة فاسدة وأقل ما في ذلك أن هذه المقدمة ممنوعة فلا يُسلم له منازعوه أن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين والنزاع في ذلك بين أهل الكلام بعضهم مع بعض وبين المتفلسفة أيضًا مشهور وهولم يذكر حجة على كونه مركبًا فلا يكون قد ذكر دليلاً أصلاً فإن قيل نفاة الجوهر الفرد يقولون إنه يقبل التقسيم والتجزيء إلى غير غاية فما من جزء إلا وهو يحتمل التقسيم فيكون عدم الوحدة في الجسم أبلغ على قولهم قيل هؤلاء إن قالوا إن لفظ الواحد لا يقال إلا على ما لا يقبل القسمة وعندهم كل شيء قابل للقسمة فهذا اللفظ عندهم ليس له مسمى معلوم متفق عليه أصلاً إذ مورد النزاع فيه من الخفاء والنزاع ما لا يصلح أن يكون اللفظ مختصًّا به إذ
اللفظ المشهور بين العامة والخاصة لا يكون مسماه ما قد تنازع الناس في إثباته ولا يعلم إلا بدقيق النظر إن سلم ثبوته وأيضًا فهؤلاء يصرحون بأن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبًا من جوهرين ولا من جواهر وإذا كانوا يصفونه بالوحدة ويمنعون أن يكون مركبًا لا من جوهرين امتنع أن تصح هذه الحجة على أصلهم فهذه الوجوه الأربعة تبين بطلان ما ذكره من دلالة اسم الأحد على نفي كونه جسمًا الوجه الخامس أن الجسم إما أن يكون مركبًا من الجواهر المنفردة وأقل ما يتركب منه جوهران أو لا يكون فإن كان الأول صحيحًا أبطلت الحجة الثانية التي ذكرها على نفي كونه جوهرًا فإنها مبنية على أن الجسم ليس أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وإن كان باطلاً فَسَدت هذه الحجة التي نفى بها كونه جسمًا فثبت بطلان إحدى الحجتين وبقيت الحجة الثالثة التي ذكرها لنفي الجوهر الفرد وسنتكلم عليها إن شاء الله وذلك أن الجسم إن كان أقله مركبًا من جوهرين فالجوهر
ليس بمنقسم بل هو فرد فلا تصح تلك الحجة وإن لم يكن أقله مركبًا من جوهرين بَطَلت هذه الحجة فبطلت إحدى الحجتين إما التي نفى بها التجسيم أو التي نفى بها الجوهر ويلزم من بطلان إحداهما بطلان الأخرى الوجه السادس أن يقال ما ذكرته في منع الجوهر الفرد وأن كل متحيز فهو منقسم قد اعترفت بأن هذه الحجة مكافئة لنظيرها ولم تعلم الحق في ذلك ثم يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد هذا لا يصح على قول هؤلاء فإنهم يقولون الجسم واحد في نفسه كماأنه واحد في الحس وهو واحد متصل ليس مركبًا من الجواهر المنفردة فيصفونه بالوحدة وإن قالوا إنه قابل للانقسام فقبوله للانقسام عندهم لا يمنع وصفه بالوحدة عندهم وتسميتهم إياه واحدًا بل يصفون بالوحدة ما هو أبلغ من ذلك فيقولون أحد بالجنس وواحد بالنوع وواحد بالشخص
الوجه السابع أن يقال قولك وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد لم تذكر على هذا دليلاً أصلاً لا بينة ولا شبهة وهو لم يذكر قبل هذا إلا أن الجسم مركب من جوهرين وقال وذلك ينافي الوحدة وتلك أيضًا دعوى لم تُقِمْ عليها دليلاً ولو ثبت ذلك في ما هو مركب بالفعل لم يثبت فيما هو قابل للقسمة فإن هذا ليس فيه من التعدد ما في ذلك المركب فكيف إذا لم تذكر حجة على شيء من ذلك فأين هذا الثبوت الذي أحال عليه والشيء لا يقال فيه ثبت إلا إذا كان معلومًا بالبديهة أو قد أقيمت عليه حجة الوجه الثامن أن طوائف كثيرة من أبناء جنسك من المتكلمين من الأولين والآخرين يقولون إنه لا موجود إلا جسم أو ما قام به أو لا موجود إلا الجسم فقط وأنه
لا يعقل موجود إلا كذلك فهؤلاء عندهم إذا فسرت الحد بما ليس بجسم ولا جوهر يقولون لك فسرته بالمعدوم مثل أن تفسره بما ليس بخالق ولا مخلوق أو تفسره بما ليس بقديم ولا محدث فتحتاج أولاً أن تثبت وجود موجود غير الجسم ليمكنك تفسير لفظ الأحد به وإذا كان حجتك موقوفة على هذه المقدمة فلو ثبتت هذه المقدمة استغنيت عن هذه الأدلة التي ذكرت أنها سمعية لا تتم الوجه التاسع أن يكون لفظ الحد لا يقال على الجسم والجوهر ليس نصًّا في اللغة ولا ظاهرًا بل إن كان صحيحًا فإنما يُعلم بهذه المقدمات الخفية التي فيها نزاع عظيم بين أهل الأرض ومعلوم أن إفهام المخاطَبِين بمثل هذه الطريق لا يجوز وليس هذا من البلاغ المبين الذي وصف الله به الرسول وقد وصف كتابه بأنه بيان للناس وليس هذا من البيان في شيء لاسيما والقوم كانوا يستعملون لفظ الواحد والأحد في كلامهم وهم لا يعلمون إلا الجسم أو ما قام به لا يطلقون هذا اللفظ إلا على ذلك فإذا قصد بهذا الفظ أن يبين لهم أن معناه ما لا يكون جسمًا كانوا قد خوطبوا بنقيض معنى لغتهم ولو فرض أن لغتهم لا تنفي هذا فهي لا تدل عليه
بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام الظاهر بل بلزوم خفي لا يصلح مثله لدلالة اللفظ فإنه يحتاج أن يقال لهم لفظ الأحد والواحد ينفي العدد فهذا ظاهر ثم يقال لهم وكل ما ترونه وتعلمونه من الموجودات فليس هو واحدًا لأنه يمينه ليست بيساره وأعلاه ليس هوأسفله وكل ما تميز منه شيء عن شيء فليس هو بواحد ولا أحد ومعلوم أن هذا لا يخطر ببال عامة الخلق بل لا يتصورونه إلا بعد كُلْفَة وشدة وإذا تصوروه أنكرته فطرتهم وأنكروا أن يكون هذا هو لسانهم الذي خوطبوا به واستلزم ذلك أن يقال الشمس ليست واحدة والقمر ليس واحدًا وكل كوكب من هذه الكواكب ليس واحدًا وكل سماء من السموات ليست واحدة وكل إنسان ليس بواحد وكل عين ويد ورجل وحاجب وأنف وسن وشفة ورأس وشجرة وورقة وثمرة وغير ذلك ليس بواحد إذ هذا جميعه يميز جانب منه عن جانب وأعلاه عن أسفله الوجه العاشر أن هذه الحجة يحتج بها نفاة الصفات بأسرها الذين يقولون ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة فإن تعدد
الصفات يمنع أن يكون الموصوف بها أحدًا وينافي الوحدة لأن هناك عددًا من الصفات والوحدة تنافي العدد ولهذا احتج الجهمية المحضة بهذه الحجة كما ذكره الإمام أحمد وغيره وهذا المستدل هو ممن يثبت الصفات في الجملة ويقول بإثبات الصفات السبع من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة فإن كانت هذه الحجة صحيحة لزم إبطال مذهبه ذاك وإن كانت باطلة لزم بطلان هذا الاستدلال وما كان جوابه عن استدلال نفاة الصفات مطلقًا بها كان جوابًا لمنازعيه في إثبات العلو وما يتبعه بل ذلك يبطل استدلاله بذلك على المجسمة المحضة
الوجه الحادي عشر أن يقال أعظم الناس نفيًا للصفات غلاة الفلاسفة والقرامطة وأئمتهم من المشركين الصابئين وغيرهم وهم لابد إذا أثبتوا الصانع أن يثبتوا وجوده ويثبتوا أنه واجب الوجود غير ممكن الوجود وأنه ابتدع العالم سواء قالوا إنه علة أو والدٌ أو غير ذلك فمسمى الوجود إن كان هو مسمى الوجوب لزم أن يكون كل موجود واجبًا بنفسه وهو خلاف المشهود بالإحساس وإن كان هذا المسمى ليس هذا المسمى ففيه معنيان وجود ووجوب وليس الوجوب مجرد عدم إذ هو توكيد الوجود والعدم المحض لا يؤكد الوجود فإن كان لفظ الأحد والواحد يمنع تعدد المعاني المفهومة الثبوتية بالكلية كما يزعم ابن سينا وذووه من مرتدة العرب المُتَّبِعِينَ لمرتدة الصابئة أنه إذا كان واحدًا من كل وجه فليس فيه تعدد من جهة الصفة ولا من جهة القَدْرِ ويعبر عن ذلك بأنه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم لزم أن يكون الوجوب والوجود والإبداع معنى واحدًا وهو معلوم الفساد بالبديهة وإن كان هو في نفسه
متسمًا بالأحد والواحد مع ثبوت هذه المعاني المتعددة علم أن هذا الاسم لا يُوجِب نفي الصفات بل هو سبحانه أحد واحد لا شبيه له ولا شريك وليس كمثله شيء بوجه من الوجوه وكذلك هوأيضًا ذات وهو قائم بنفسه باتفاق الخلائق كلهم وسائر الذوات وكل ما هو قائم بنفسه يشاركه في هذا الاسم ومعناه كما يشاركه في اسم الوجود ومعناه وهو سبحانه يتميز عن سائر الذوات وسائر ما هو قائم بنفسه بما هو مختص به من حقيقته التي تميز بها وانفرد واختص عن غيره كما تميز بوجوب وجوده وخصوص تلك الحقيقة ليس هو المعنى العام المفهوم من القيام بالنفس ومن الذوات كما أن خصوص وجوب الوجود ليس هو المعنى العام المفهوم من الوجود فسواء سمى المُسمي هذا تعدادًا أو تركيبًا أو لم يسمه هو ثابت في نفس الأمر لا يمكن دفعه والحقائق الثابتة لا تُدفع بالعبارات المجملة المبهمة وإن شنع بها الجاهلون الوجه الثاني عشر قوله إن مُثْبِتَةَ الجوهر الفرد يمكنهم الاحتجاج بهذه الآية على نفي كونه جوهرًا فردًا من وجه
آخر وهو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مِثالاً له وذلك ينفي كونه أحدًا وأكدوا هذا الوجه بقوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ولو كان جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد كفوًا له يقال هذه الدلالة المشتركة بين جميع الناس نفاة الجوهر وغيرهم فكل أحد يمكنه من ذلك ما أمكن هؤلاء وأيضًا فالمطلوب بهذا الدليل وهو نفي كونه جوهرًا فردًا أمر متفق عليه بين الخلائق كلهم بل هو معلوم بالضرورة العقلية أن رب السموات والأرض ليس في القدر بقدر الجوهر الفرد فإنه عند مُثْبِتيه أمر لا يُحسه أحد من حقارته فهو أصغر من
الذرة والهباءة وغير ذلك فكيف يَخْطُر ببال أحد أن رب العالمين بهذا القدر حتى يحتاج هذا إلى دليل على نفيه ولا ريب أن كونه واحدًا يمنع أن يكون له شبيه وكذلك قوله وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] يمنع الكفؤ فيمتنع أن يكون من الجواهر المتماثلة لكن هذه الدلالة إنما تتم إذا كانت الجواهر المنفردة متماثلة في حقائقها الوجه الثالث عشر قوله وإذا ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات
يقال له هذا مما يُنَازِعُك فيه كثير من أصحابك وغيرهم من متكلمي الصفاتية ويقولون قد يكون في الجهة ما ليس بجسم وهذا هو الذي سلمته لهم في أشرف كتبك وهو نهاية العقول قال المسألة الثالثة في أنه تعالى ليس في الجهة وقبل الخوض في الاستدلال لابد من البحث عما لا يكون جسمًا هل يعقل حصوله في الجهة أم لا فإن لم يعقل حصوله كانت الدلالة على نفي الجسمية كافية في نفي الجهة قال وزعم من أثبت الجهة ونفي الجسمية أنا نعلم بالضرورة اختصاص الأكوان بالجهات المخصوصة مثل
الكون القائم بأعلى الجدار والكون القائم بأسفله ولا يضرنا في ذلك ما يقال الأكوان إنما تحصل في الجهات على طريق التبعية لمحلها لأنا نقول الحصول في الجهة أعم من الحصول في الجهة بالاستقلال أو التبعية وتسليم الخاص يتضمن تسليم العام فإذا سلمتم اختصاص الأكوان بالجهات متى ثبت ذلك ثبت أنه لايلزم من نفي كون الشيء جسمًا نفي اختصاصه بالحيز والجهة قال وإذا ثبت ذلك وجب علينا بعد الفراغ من نفي
الجسمية عن الله إقامة الدليل على نفي حصوله في الحيز والجهة ثم احتج على ذلك بما تكلمنا عليه في موضعه لما ذكرناه فهذا الكلام وإن كان لمن قال بالأول أن يقول يلزم من نفي كون الشيء جسمًا أو قائمًا بجسم نفي اختصاصه بالحيز والجهة لكن المقصود هنا أن كثيرًا من الصفاتية أهل الكلام كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وغيرهم من أئمة الصفاتية المتكلمين من يقول ليس بجسم ولا جوهر ويقول مع ذلك إنه فوق العرش كما قرروه في كتبهم لكن منهؤلاء من يطلق لفظ الجهة ومنهم من لا يطلق لفظ الجهة ولفظ الحيز وهذا قول طوائف من الفقهاء أهل المذاهب الأربعة ومن الصوفية وأهل الحديث وغيرهم
يجمعون بين نفي الجسم وبين كونه نفسه فوق العرش فصل قال الرازي لو كان مركبًا من الجوارح والأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدًا مطلقًا قلت هذه الحجة كان يمكن أن يذكرها في اسم الله كما ذكرها في الاسم الصمد إذ مضمونها الاحتجاج بما في أسمائه من الدلالة على الغنى على عدم هذه الصفات لكن لما كانت من جنس الحجة التي قبلها لم يذكرها إلا في الاسم الصمد لظهور دلالته على الغنى وقد قدمنا أن لفظ الجوارح
والأعضاء مما لا يقولها الصفاتية فمضمون حجته أنه لو كان الله خلق آدم بيديه وكتب التوراة بيديه وخلق عَدْناً بيديه لكان الله محتاجًا في الفعل إلى يد وذلك ينافي كونه صمدًا وهذا قد ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة المتفق على صحتها المتلقاة بالقبول والكلام على هذا من وجوه أحدها أن ثبوت ما أثبته الدليل من هذه الصفات لم يوجب حاجة الرب إليها فإن الله سبحانه قادر أن يخلق ما يخلقه بيديه وقادر أن يخلق ما يخلقه بغير يديه وقد وردت الأثارة من العلم بأنه خلق بعض الأشياء بيديه وخلق بعض الأشياء بغير يديه قال عثمان بن سعيد الدارمي ثنا عبد الله بن صالح
حدثني ليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم
عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لقد قالت الملائكة يا ربنا منا الملائكة المقربون ومنا حملة العرش ومنا الكرام الكاتبون ونحن نسبح الله الليل والنهار ولا نسأم ولا نفتر خلقت بني آدم فجعلت لهم الدنيا
وجعلتهم يأكلون ويشربون ويستريحون فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة فقال لن أفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة فقال لن لأفعل ثم عادوا فاجتهدوا المسألة بمثل ذلك فقال لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان
وقد روى نحو هذا عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أظنه مرسلاً
وقال الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن
مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد قال عبد الله بن عمر خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدْن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان
وقال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن
عطاء بن السائب عن ميسرة قال إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده
وقال حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن
زُرَيع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس
عن كعب قال لم يخلق الله بيده غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ثم قال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة أن موسى يقال له أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده وفي لفظ وكتب لك التوراة بيده وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده وأما الفعل باليد غير الخلق فقد ثبت بالكتاب والسنة قبضته الأرض والسموات وقد تواترت بذلك الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما كقوله يَطْوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يَطْوي الأرض بيده الأخرى وفي رواية مسلم بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون
أين المتكبرون وقوله تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يَتَكَفَّؤُهَا الجبَّارُ بيده كما يَتَكَفَّأُ أحدكم خُبْزَتَهُ في السفر نُزُلاً لأهل الجنَّةِ وهذا كما أنه سبحانه وتعالى قد كتب في اللوح المحفوظ وفي غيره ما كتبه من مقادير الخلائق وقال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ {70} [الحج 70] وقال تعالى مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22} لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 22-23] ثم لم تدل كتابته لذلك على أنه محتاج إلى الكِتَاب والكُتَّاب خوف النسيان والغلط مع أن الكتاب أمر منفصل عنه فَخَلْقُه ما يَخْلُقُه بيديه أولى أن لا يدل على حاجته إلى ذلك الوجه الثاني أن يقال إنه سبحانه الغني الصمد القادر وقد خلق ماخلقه من أمر السموات والأرض والدنيا والآخرة بالأسباب التي خلقها وجعل بعض المخلوقات سببًا لبعض كما قال تعالى وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] وقال تعالى وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ [البقرة 164] وقال تعالى وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ {9} [ق 9] وقال تعالى يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل 11] وقال تعالى فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل 60]
فإذا كان خلقه بعض المخلوقات ببعض لا يوجب حاجته إلى مخلوقاته ولا ينافي كونه صمدًا غنيًّا عن غيره فكيف يكون خلقه لآدم بيده وقبضه الأرض والسموات بيده موجبًا لحاجته إلى غيره ومن المعلوم أن فعل الفاعل بيده أبعد عن الحاجة إلى الغير من فعله بمصنوعاته الوجه الثالث أن هذه الحجة من جنس حجة الجهمية المحضة على نفي الصفات فإن قولهم لو كان له علم وقدرة وحياة وكلام لكان محتاجًا في أن يعلم ويقدر ويتكلم إلى علم وقدرة وكلام بمنزلة قول هذا القائل لو كان له يد لكان محتاجًا في الفعل على اليد وذلك ينافي كونه صمدًا فما كان جوابه لأولئك كان جوابًا له عن هؤلاء لا سيما أن هذا أوكد لأنه قد تقدم أنه قادر على الخلق والفعل بيده وبغير يده ولا يجوز أن يقال إنه عالم بلا علم وقادر بلا قدرة فإن كان ثبوت الصفات موجبًا حاجته إليها فالحاجة في هذه أقوى وإن لم تكن موجبة حاجته إليها بطلت الحجة الوجه الرابع أن الغني الصمد هو غني عن مخلوقاته ومصنوعاته لايصح أن يقال هو غني عن نفسه وذاته كما تقدم وصفاته تعالى ليست خارجة عن ذاته فوجود الصفات والفعل بها كوجود الذات والفعل بها وقد تقدم الكلام على ما في
هذا من الألفاظ المجملة مثل الافتقار والجزء وغير ذلك وبينا أن ذلك مثل قول القائل واجب الوجود بنفسه وبنفسه فعل ونحو ذلك من العبارات الوجه الخامس أن المخلوق إذا صح تسميته بأنه غني وأنه صمد مع ما له من الصفات ولا ينافي ذلك إطلاق هذا الاسم كيف يصح أن يقال إن تسمية الخالق بهذه الأسماء ينافي هذه الصفات
فصل قال الشيخ رحمه الله للناس في أن الله فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والصوفية والفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهما أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوقات والخالق وبين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حلول الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني وهو المشهور عن السلف وأئمة الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه
وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئه وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر أنه ليس في الأدلة العقلية ما يحيل ذلك فصل للناس في حملة العرش قولان أحدهما أن حملة العرش يحملون العرش ولا يحملون من فوقه والثاني أنهم يحملون العرش ومن فوقه كما تقدم حكاية القولين فيذكر ما يقوله الفريقان في جواب هذه الحجة
فإنهم ينازعونه في المقدمتين جميعًا فيقال من جهة الأولين لانسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل من فوقه فالمقدمة الأولى ممنوعة وذلك أن من حمل السقف لايجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدًا عليه وإلا فالهواء والطير وغير ذلك مما هو فوق السقف ليس محمولاً لما يحمل السقف وكذلك السموات فوق الأرض وليست الأرض حاملة السموات وكل سماء فوقها سماء وليست السفلى حاملة للعليا فإذا لم يجب في المخلوقات أن يكون الشيء حاملاً لما فوقه بل قد يكون وقد لا يكون لم يلزم أن يكون العرش حاملاً للرب تعالى إلا بحجة تبين ذلك وإذا لم يكن العرش حاملاً لم يكن حملة العرش حاملة لما فوقه بطريق الأولى الوجه الثاني أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجًا إليهم فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئًا
من الأفعال إلا بذلك فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم فيه مقامان مشكلان أحدهما مسألة حلول الحوادث والثانية تأثير المخلوق فيه وجواب المسألة الأولى مذكور في غير هذا الموضع وجواب السؤال الثاني أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو فلا حول ولا قوة إلا به وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه فيعود المر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سبحانه وتعالى الغني عما سواه وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني
عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولايقدر أن ينزل ولايصعد ولاياتي ولا يجيء ولايقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته من كونه لايقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورًا أخرى ودبر أمر السموات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى في غيره يخلقه بها فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ {58} [الذاريات 58] قال عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على المريسي وصاحبه وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغير أو كبير وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن
كان الله أصغر فقد صيرتم العرش أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر مع خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يُضل بها لو كان من يعمل لله لقطع قشرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البَقْبَاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحمله العرش عِظَمًا ولاقوة
ولا حملة العرش حملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه ولكنهم حملوه بقدرته وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضَعفوا عن حمله واستكانوا وجَثَوا على رُكَبِهم حتى لُقّنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقلّ به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات والأرض وكيف تنكر أيها النفاخ أن عرشه يُقِلُّه والعرش أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة فكيف تنكر هذا وأنت تزعم أن الله في الأرض في جميع أمكنتها والأرض دون العرش في العظمة والسعة فكيف تقله الأرض في دعواك ولايقله العرش الذي هو أعظم منها
وأوسع وأدخل هذا القياس الذي أدخلت علينا في عظم العرش وصغره وكبره على نفسك وعلى أصحابك في الأرض وصغرها حتى تستدل على جهلك وتفطن لما تورد عليك حصائد لسانك فإنك لا تحتج بشيء إلا هو راجع عليك وآخذ بحلقك وقد حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح أنه قال أول ما خلق الله حين كان عرشه على الماء حملة العرش فقالوا ربنا لما خلقتنا فقال خلقتكم لحمل عرشي قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك فقال لهم إني خلقتكم لذلك
قال قالوا ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك قال فقال خلقتكم لحمل عرشي قال فيقولون ذلك مرارًا قال فقال لهم قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فيحملكم والعرش قوة الله
قال أفلا تدري أيها المعارض أن حملة العرش لم يحملوا العرش ومن عليه بقوتهم وبشدة أسرهم إلا بقوة الله وتأييده وقال في كتابه حدثني محمد بن بشار بندار حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي
قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن
عتبة عن جُبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه
عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فوق عرشه فوق سمواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالراكب
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في كتاب الرد على
الجهمية عن عدة مشايخ منهم ابن بشار قال فيه عن جُبير بن محمد بن جُبير بن مُطْعِم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جُهِدَتِ الأنفس وضاعت العيال ونُهِكَتِ الأموالُ وهلكت الأنعام فاسْتَسْقِ الله لنا فإنانستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لايستشفع به على احد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته هكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه لَيَئِطُّ به أَطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكبِ قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه
وعرشه فوق سمواته وساق الحديث وقوله في الحديث بأن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه أي الله هو الذي يفعل لا يشفع إلى غيره في أن يفعل وهذا كما يقوله بعض الشعراء مخاطبًا للنبي صلى الله عليه وسلم شفيعي إليك الله لا شيء غيره وهذا الحديث قد يطعن فيه بعض المشتغلين بالحديث انتصارًا للجهمية وإن كان لا يفقه حقيقة قولهم وما فيه من التعطيل أو استبشاعًا لما فيه من ذكر الأطيط كما فعل أبو القاسم المؤرخ ويحتجون بأنه تفرد به محمد بن إسحاق
عن يعقوب بن عتبة عن جبير ثم يقول بعضهم ولم يقل ابن إسحاق حدثني فيحتمل أن يكون منقطعًا وبعضهم يتعلل بكلام بعضهم في ابن إسحاق مع أن هذا الحديث وأمثاله وفيما يشبهه في اللفظ والمعنى لم يزل متداولاً بين أهل العلم خالفًا عن سالف ولم يزل سلف الأمة وأئمتها يروون ذلك رواية مصدق به راد به على من خالفه من الجهمية مُتَلَقين لذلك بالقبول حتى قد رواه الإمام أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه في التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بأحاديث الثقات
المتصلة الإسناد رواه عن بندار كما رواه الدارمي وأبو داود سواء وكذلك رواه عن أبي موسى محمد بن المثنى بهذا الإسناد مثله سواء فقال حدثنا محمد بن بشار ثنا وهب يعني ابن جرير ثنا أبي سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة وعن جبير بن محمد
ابن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ فقال يا رسول الله جُهِدت الأنفس وجاعت العيال ونُهِكَت الموال وهَلَكَت الأنعام فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من جميع خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله على عرشه وعرشه على سمواته وسمواته على أرضه هكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه لَيَئِطّ به أَطِيطَ الرَّحْل بالرَّاكب قال ابن خزيمة قرئ على أبو موسى وأنا أسمع أن وهبًا حدثهم بهذا الإسناد مثله سواء وممن احتج به الحافظ أبومحمد بن حزم في مسألة
استدارة الأفلاك مع أن أبا محمد هذا من أعلم الناس لا يقلد غيره ولا يحتج إلا بما تثبت عنده صحته وليس هذا الموضع وهؤلاء يحتجون في معارضة ذلك من الحديث بما هو عند أهله من الرأي السخيف الفاسد الذي يحتج به قياسو الجهمية كاحتجاج أبي القاسم المؤرخ في حديث أملاه في التنزيه بحديث أسنده عن عوسجة وهذا
الحديث مما يعلم صبيان أهل الحديث أنه كَذِب مختلق وأنه مفترى وأنه لم يروه قط عالم من علماء المسلمين المقتدى بهم في الحديث ولا دونوه في شيء من دواوين الإسلام ولا يستجيز أهل العلم والعدل منهم أن يورد مثل ذلك إلا على بيان أنه كذب كماثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين فمن رد تلك الأحاديث المتلقاة بالقبول واحتج في نقضها بمثل هذه الموضوعات فإنما سلك سبيل من لا عقل له ولا دين وكان في ذلك ممن يتبع الظن وما تهوى النفس وهو من المقلدين لقوم لا علم لهم بحقيقة حالهم كما قال
تعالى وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} [الشورى 14] وروى أيضًا عثمان بن سعيد قال ثنا عبد الله بن رجاء ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن
خليفة قال أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة فَعَظَّم الرب وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وإنه ليقْعُدُ عليه فما يفضل منه إلا قدر أربع أصابع ومد أصابعه الأربعة وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد إذا ركبه من يثقله
وقال أيضًا موسى بن إسماعيل ثنا حماد وهو
ابن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله الفهري أن ابن مسعود قال إن ربكم ليس عنده
ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالمس أول النهار فينظر فيها ثلاث ساعات فيطلع فيها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين يحملون العرش وسرادقات
العرش والملائكة
وأصحاب هذا القول فيستشهدون بما روي عن طائفة في تفسير قوله تعالى تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ [الشورى 5] قال عثمان بن سعيد في رده على الجهمية ثنا عبد الله ابن صالح المصري حدثني الليث وهو ابن سعد حدثني
خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن زيد بن أسلم حدثه عن عطاء بن يسار قال أتى رجل كعبًا وهو في نفر فقال يا أبا إسحاق حدثني عن الجبار فأعظم القوم قوله فقال كعب دعوا الرجل فإن كان جاهلاً تعلم وإن كان عالمًا ازداد علمًا ثم قال كعب أخبرك أن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ثم جعل ما بين كل سماءين كما بين
السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك وجعل بين كل أرضين كما بين السماء الدنيا والأرض وكثفهن مثل ذلك ثم رفع العرش فاستوى عليه فما في السموات سماء إلا لها أطيط كأطيط الرّحل العُلا في أول ما يرتحل من ثُقل الجبار فوقهن وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب فيحتمل أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا دافعها لا يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من قوله من ثقل الجبار فوقهن فلو كان هذا القول منكرًا في دين الإسلام عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه
وقد ذكر ذلك القاضي أبو يعلى الأزجي فيما خرجه من أحاديث الصفات وقد ذكره عن طريق السنة عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي ثنا أبو المغيرة حدثتنا عبدة بنت خالد بن معدان عن أبيها خالد بن معدان أنه
كان يقول إن الرحمن سبحانه ليثقل على حملة العرش من أول النهار إذا قام المشركون حتى إذا قام المسبحون خفف عن حملة العرش قال القاضي وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة في
تاريخه بإسناده حدثنا عن ابن مسعود وذكر فيه فإن مقدار كل يوم من أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيه ثلاث ساعات فيطلع منها على ما يكره فيغضبه ذلك فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش يجدونه يثقل عليهم فيسبحه الذين
يحملون العرش وذكر الخبر اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره وأن ثُقْلَه يحصل بذات الرحمن إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته قال على طريقته في مثل ذلك لأنا لا نثبت ثقلاً من جهة المماسة والاعتماد والوزن لأن ذلك من صفات الأجسام ويتعالى عن ذلك وإنما نثبت ذلك صفة لذاته لا على وجه المماسة كما قال الجميع إنه عال على الأشياء لا على وجه التغطية لها وإن كان في حكم الشاهد بأن العالي على الشيء يوجب تغطيته قال وقيل إنه تتجدد له صفة يثقل بها على العرش ويزول في حال كما تتجدد له صفة الإدراك عند خلق المدركات وتزول عند عدم المدركات فإن قيل ذلك محمول على ثقل عظمته وهيبته في قلوبهم وما يتجدد لهم في بعض الأحوال من
ذكر عظمته وعزته كما يقال الحق ثقيل مر وليس المراد به ثقل الأجسام وقال سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] قال القاضي قيل هذا غلط لأن الهيبة والتعظيم مصاحب لهم في جميع أحوالهم ولا يجوز مفارقتها لهم ولهذا قال سبحانه يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {20} [الأنبياء 20] وما ذكره من قول القائل الحق ثقيل وكلام فلان ثقيل فإنما لم يحمل على ثقل ذات لأنها معانٍ والمعاني لا توصف بالثقل والخفة وليس كذلك هنا لأن الذات ليست معاني ولا أعراضًا فجاز وصفها بالثقل وأما قوله تعالى إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً {5} [المزمل 5] فقد فسره أهل النقل أن المراد به ثقل الحكم ولأن الكلام ليس بذات قال فإن قيل يحمل على أنه يخلق في العرش ثقلاً على كواهلهم وجعل لذلك أمارة لهم في بعض الأحوال إذا قام المشركون قيل هذا غلط لأنه يُفضي أن يَثْقل عليهم بكفر
المشركين ويخفف عنهم بطاعة المطيعين وهذا لا يجوز لما فيه من المؤاخذة بفعل الغير وليس كذلك إذا حملناه على ثقل الذات لأنه لا يفضي إلى ذلك لأن ثقل ذاته عليهم تكليف لهم وله أن يُثقِّل عليهم في التكليف ويخفف قلت المقصود هنا التنبيه على أصل كلام الناس في ذلك وأما الكلام في الخفة والثقل ونحو ذلك فربما نتكلم عليه إن شاء الله في موضعه فإن طوائف من المتفلسفة يقولون السموات ليست خفيفة ولا ثقيلة قالوا لن الجسم الثقيل هو الذي يتحرك إلى أسفل وهو الوسط والخفيف هو الذي يتحرك على فوق من الوسط والأفلاك مستديرة لا تتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل فلذلك لم نصفها بثقل ولا خفة كما لم يصفوها بشيء من الطبائع الأربعة وهذا النزاع قد يكون لفظيًّا وقد
يكون معنويًّا إذا اصطلحوا على أنهم لا يسمون خفيفًا وثقيلاً إلَاّ ما هو كذلك فهو نزاع لفظي وأما النزاع في كون أجسام السموات يمكن صعودها وانخفاضها لولا أن الله يمسكها بقدرته كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [فاطر 41] وقال وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم 25] فهذا نزاع معنوي وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث كُرَيْبٍ عن ابن عباس عن جويرية بنت الحارث
أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال مازلت على الحال الذي فارقتك عليها قالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته وفي رواية سبحان الله عدد خلقه سبحان الله رضا نفسه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله مداد كلماته فالمقصود بالحديث نهاية ما يمكن من الوزن كما ذكره وغاية ما يمكن من المعدود وغاية ما يمكن من القول والمحبوب هو كلام الرب ورضاه وذكر
عدد خلقه وزنة عرشه الوجه الثالث أن يقال هذه المسألة تدل على نقيض مطلوبك فإنه أثبت أن العرش له حملة وأنه يحمل مع ذلك اليوم ويوم القيامة وظاهر هذا الخطاب أنه على العرش وأن العرش يُحْمَل مع ذلك سواء دلّ الخطاب على أن حملة العرش يحملونه أم لم يدل على ذلك فإن دل على ذلك أيضًا فقد دل على ما هو أبلغ من نقيض مطلوبه ثم إذا خالف هو هذه الآية يحتاج إلى تأويلها أو تفويضها فلا تكون الآيات المثبتة للعرش ولحملته أو لحمل الملائكة لما فوقه تنفي كونه على العرش هذا تعليق على الدليل ضد موجبه ومقتضاه ولكن قوله يلزم الافتقار من باب التعارض فيحتاج إلى الجمع بين موجب الآية وبين هذا الدليل لا تكون
الآية لأجل ما يقال أنه يعارضها تدل على نقيض مدلولها هذا لا يقوله عاقل الوجه الرابع في تقرير ذلك ثم إن قوله الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ [غافر 7] وقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ {17} [الحاقة 17] يوجب أن لله عرشًا يحمل ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية فإن الملك هو مجموع الخلق فهنا دلت الآية على أن لله ملائكة من جملة خلقه يحملون عرشه وآخرون يكونون حوله وعلى أنه يوم القيامة يحمله ثمانية إما ثمانية أملاك وإما ثمانية أصناف وصنوف وهذا إلى مذهب المثبتة أقرب منه إلى قول النافية بلا ريب الوجه الخامس أن العرش في اللغة السرير بالنسبة إلى ما فوقه وكالسقف بالنسبة إلى ما تحته فإذا كان القرآن قد جعل لله عرشًا وليس هو بالنسبة إليه كالسقف علم أنه بالنسبة
إليه كالسرير بالنسبة إلى غيره وذلك يقتضي أنه فوق العرش الوجه السادس أن إضافة العرش مخصوصة إلى الله لقوله وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] يقتضي أنه مضاف إلى الله إضافة تخصه كما في سائر المضافات إلى الله كقوله بيت الله وناقة الله ونحو ذلك وإذا كان العرش مضافًا إلى الله في هذه الآية إضافة اختصاص وذلك يوجب أن يكون بينه وبين الله من النسبة ما ليس لغيره فما يذكره الجهمية من الاستيلاء والقدرة وغير ذلك أمر مشترك بين العرش وسائر المخلوقات وهذه الآيات التي احتج بها تنفي أن يكون الثابت من الإضافة هو القدر المشترك وتوجب اختصاصاً للعرش بالله ليس لغيره كقوله عَرْشَ رَبِّكَ [الحاقة 17] وهذا إما أن يدل على قول المثبتة أو هو إلى الدلالة عليه أقرب وأيهما كان فقد دلت الآية على نقيض مطلوبه وهو الذي ألزمناه فلم يذكر آية من كتاب الله على مطلوبه إلا وهي لا دلالة فيها بل دلالتها على نقيض مطلوبه أقوى
قال الرازي الحجة الثالثة عشرة لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لأنه على القول بأنه مستقر على العرش يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده والأقرب إلى العقول أن تكون تهيئة مكان نفسه مقدمًا على تهيئة مكان العبيد لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش لقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي قلت الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا والحمد لله الذي جعل لرسوله منه سلطانًا نصيرًا والحمد لله الذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ينصرهم بسلطان الحجة وسلطان القدرة وهو الذي يؤتي رسله
والمؤمنين به حجة على من خالفهم وجادلهم فيه بالباطل كما قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] فإن هذا الرجل وأمثاله لا يحتجون بحجة إلا وهي عليهم لا لهم لكن يزيد فيهم ذلك من يكون الله قد أيده بروح منه وكتب في قلبه الإيمان وجعل في قلبه من نور يفهم دقيق ذلك وأما جليله فيفهمه جمهور الناس وهذه من جليل ذلك وذلك أنه لا خلاف بين المسلمين وأهل الكتاب أن العرش خلق قبل السموات والأرض الوجه الأول فقول هذا المحتج لو كان مستقرًّا على العرش لكان الابتداء بتخليق العرش أولى من الابتداء بتخليق السموات لا يضرهم بل ينفعهم فإن الأمر في الترتيب
ذلك ما كان وقول المثبتة يستلزم تقديم خلق العرش فهكذا وقع ولله الحمد وإن لم يكن مستلزمًا هذا الترتيب بطلت هذه الحجة فهي باطلة على التقديرين وأما قوله لكن من المعلوم أن تخليق السموات مقدم على تخليق العرش فيقال هذا لم يعلمه أحد لا من الأولين ولا من الآخرين ولا قاله أحد يعرف بالعلم وأما احتجاجه على تقدم خلق السموات بقوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وكلمة ثم للتراخي فهنا إنما ذكر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض فأين قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] من قوله ثم خلق العرش فهذا لا يخفى على أحد فليس في كتاب الله ما يوهم تأخر خلق العرش فضلاً عن أن يدل فلا دلالة في القرآن على خلق السموات قبل العرش الوجه الثاني أن القرآن يدل على أن خلق العرش قبل خلق السموات والأرض بهذه الآية التي ذكرها وبغيرها فإن
قوله خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] يقتضي أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ولم يذكر أنه خلقه حينئذ ولو كان خلقه حينئذ لكان قد ذكر خلقه ثم استواءه عليه ولأن ذكره للاستواء عليه دون خلقه دليل على أنه كان مخلوقًا قبل ذلك ولأنه قد ثبت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين وأهل الكتاب أن الخلق كان في ستة أيام وقد قال تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود 7] فأخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان حينئذٍ على الماء وفي الصحيح عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كان الله ولا شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض
قال البخاري في كتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة باب قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء [هود 7] وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {129} [التوبة 129] عن عمران بن الحصين قال إني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وفد بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فأعطنا فدخل من ناس أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى
يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قبلنا جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكان ذلك مناسبًا في العقل لأن يكون العرش مكانًا له والسموات مكان عبيده كان ثابت بالآية التي تلاها وبغيرها من الآيات والأحاديث واتفاق المسلمين دليل على مذهب منازعه دون مذهبه الوجه الرابع أنه لو فرض أن الله خلق العرش بعد السموات والأرض لم يكن في هذا ما ينافي أن يكون عليه كما أنه خلق السموات بعد الأرض فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة 29] بعد قوله هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت 11] بعد
قوله أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10} [فصلت 9-10]
قال الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه فصل ثم قال أبوعبد الله الرازي في تأسيسه الفصل الرابع في إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك وقد ذكر على ذلك ثمانية براهين مع أن بعضها مبني على ما تقدم من نفي أنه جسم فإنه قرر أن ذلك يستلزم نفي أن يكون على العرش وأكثرها غير مبني على ذلك وهذا الفصل يتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق السموات وأن الرسول لم يعرج به إليه وأنه لا يَصْعد إليه
شيء ولا ينزل من عنده شيء ولا ترفع الأبصار أو الرؤوس أو الأيدي إليه في الدعاء بل لا تتوجه القلوب إلى فوق قصدًا للتوجه إليه أصلاً لا في دعاء ولا عبادة ولا غير ذلك ويتضمن أنه ليس فوق العالم رب ولا إله وليس هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف وأن ما فوق العرش وما تحت الأرض السابعة سواء في ذلك فكما أنه ليس في جوف الأرض فليس فوق العرش بل منهم من يقول إنه في كل مكان أو في كل موجود إما بمعنى أن تدبيره فيهم إما بمعنى أن ذاته في كل مكان أو أن ذاته هي كل موجود وأما ما فوق العرش فليس هناك شيء لأنه هو ليس هناك عندهم وليس فوق العالم موجود آخر مخلوق حتى يقال إنه فيه بمعنى التدبير أو بذاته أو بمعنى أن وجوده وجوده فهذه أقوال الجهمية متكلمهم
ومتعبدهم لكن ثَمَّ طائفة تقول هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر كذلك الأشعري في المقالات عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني
وإخوانهم فقال إنهم يقولون إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك مستوٍ على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ [الفجر 22] وهذا في نفاة الجسم يشبه قول بعض مثبتة الجسم الذين يقولون إِنه لا نهاية له ومتكلمو الجهمية إلى النفي المطلق أقرب إذ الكلام قد يصف الموجود بصفة المعدوم ويشبه ذلك وأما عبادهم فلهم قصد وإرادة فيمن يعبدونه والقصد لا يتوجه إلى العدم المحض فلهذا كثيرًا ما يجعلونه
هو في كل مكان أو يجعلونه هو الوجود كله والعامة منهم إلى هذا أقرب لأنه لا تخرج القلوب أن تعبد شيئًا موجودًا وبنو آدم قد أشركوا بالله فعبدوا ما شاء الله من المخلوقات فإذا ذكر لهم ما يقتضي عبادة كل شيء كما فعلته الاتحادية لم ينفروا عن هذا نفورهم عن أن تعطل قلوبهم عن عبادة شيء من الأشياء بالكلية فهؤلاء يشركون شركًا ظاهرًا وأما أولئك فالجحود المحض أغلب على قلوبهم ولهذا يوجد فيهم من الاستكبار عن العبادة وقسوة القلوب ما لا يوجد في الآخرين وكل واحد من الاستكبار والإشراك ينافي الإسلام الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه فإن الإسلام أن تعبد الله وحده لا شريك له فمن عبد الله وغيره فقد أشرك به كما كان مشركو العرب وغيرهم ومن
امتنع عن عبادة الله كفرعون ونحوه فهو جاحد وهو اكفر من هؤلاء وإن كان مشركًا حيث له آلهة يعبدها ولما كان الإسلام هو دين الله العام الذي اتفق عليه الأولون والآخرون من جميع عباد الله المؤمنين كما قال نوح عليه السلام فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} [يونس 72] عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} [البقرة 131] وقال مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلَا نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران 67] وقال قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} [الأنعام 161] وقال وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {132} [البقرة 132] وقال يوسف عليه السلام تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {101} [يوسف 101] كما قال إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم
بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {40} [يوسف 37-40] وقال موسى عليه السلام يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ {84} [يونس 84] وقال إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ [المائدة 44] وقالت بلقيس رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {44} [النمل 44] وقد قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ [النساء 125] وقال تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَاّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {112} [البقرة 111-112] وهذا عام في الأولين والآخرين كما قال سبحانه أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83} قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84} وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} [آل عمران 83-85] وقال تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ [آل عمران 18-19] ثم قال وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} [آل عمران 19-20] وقوله إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلَاّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران 19] فيه بيان أنهم اختلفوا
في دين الله الذي هو الإسلام من بعد ما جاءهم العلم حملهم على الاختلاف البغي وهذا كما قال شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ {13} وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {14} فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {15} [الشورى 13-15] واختلاف أهل الكتاب في دين الله الذي هو الإسلام قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع ومن ذلك أن اليهود يغلب عليهم الاستكبار والقسوة فهم يعرفون الحق ولا يتبعونه وبذلك وصفهم الله في القرآن ومن فسد من أهل العلم والكلام كان فيه شبه منهم ولهذا يوجد في متكلمة الجهمية من المعتزلة ونحوهم شبه كثير حتى أن من أحبار اليهود من يقرر الأصول الخمسة التي للمعتزلة ويوجد فيهم من التكذيب بالقدر والصفات وتأويل ما في التوراة وغير
ذلك مما فيه مضاهاة للمعتزلة وأما النصارى فيغلب عليهم الإشراك والجهل فهم يتعبدون ويرحمون لكن بضلال وإشراك وبذلك وصفهم الله في القرآن ولهذا يوجد في متعبدة الجهمية من الاتحادية وغيرهم منهم شبه كثير حتى قد رأيت من هؤلاء الاتحادية من أخذ كلام النصارى النسطورية يزنه بكلامهم وحتى إن من النصارى من
يأخذ فصوص الحكم لابن عربي فيعظمه تعظيمًا شديدًا ويكاد يغشى عليه من فرحه به ولهذا يوجد في شيوخ الاتحادية موالون للنصارى ولعلهم يوالونهم أكثر من المسلمين وإذا كان كذلك فينبغي أن يعلم أن الكلام في هذا الفصل مقصود لنفسه وفيه ينفصل أهل التوحيد من أهل الإلحاد فإن القول بأن الله فوق العرش هو مما اتفقت عليه الأنبياء كلهم وذكر في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل وقد اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها من جميع الطوائف وجميع طوائف الصفاتية تقول بذلك من الكلابية وقدماء
الأشعرية وأئمتهم والكرامية وقدماء الشيعة من الإمامية وغيرهم بخلاف لفظ الجسم والمتحيز فإن هذا لم يثبته السلف والأئمة مطلقًا ولا نفوه مطلقًا وإن كان فيما أثبتوه ما يوافق ما قد يعنيه مثبتو ذلك وفيما نفوه ما قد يوافق بعض قول نفاة ذلك وذلك أن الله سبحانه له الأسماء الحسنى كما سمى نفسه بذلك وأنزل به كتبه وعلمه من شاء من خلقه كاسمه الحي والعليم والرحيم والحكيم والأول والآخر والعلي والعظيم والكبير ونحو ذلك وهذه الأسماء كلها أسماء مدح وحمد تدل على ما يحمد به ولا يكون معناها مذمومًا وهي مع ذلك قد تستلزم معاني إذا أخذت مطلقة وسميت بأسمائها عمت المحمود والمذموم مثل اسمه الرحيم فإنه يستلزم الإرادة فإذا أخذت الإرادة
مطلقًا وقيل المريد فالمريد قد يريد خيرًا يحمد عليه وقد يريد شرًّا يُذم عليه وكذلك اسمه الحكيم والصادق وغيرهما يتضمن أنه متكلم فإذا أخذ الكلام مطلقًا وقيل متكلم فالمتكلم قد يتكلم بصدق وعدل وقد يتكلم بكذب وظلم وكذلك الاسم الأول يدل على أنه متقدم على كل شيء فإذا أخذ معنى التقدم وقيل قديم فإنه يقال على ما تقدم على غيره وإن تقدم غيره عليه كالعرجون القديم والإفك القديم وكذلك اسم الحق بل وسائر الأسماء تدل على أنه بحيث يجده الواجدون فإذا أخذ لفظ الموجود مطلقًا لم يدل إلا على أنه يجده غيره لم يدل على أنه حق في نفسه وإن لم يكن ثم غيره يجده وكذلك إذا قيل ذات أو ثابت ونحو ذلك لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على
خصوصية وكذلك اسم العلي والعظيم والكبير يدل على أنه فوق العالم وأنه عظيم وكبير وذلك يستلزم أنه مباين للعالم متحيز عنه بحده وحقيقته فإذا أخذ اسم المتحيز ونحوه لم يدل إلا على القدر المشترك لم يدل على ما يمدح به الرب ويتميز به عن غيره وقد قال من قال من العلماء إن مثل أسمائه الخافض الرافع والمعز المذل والمعطي المانع والضار النافع لا يذكر ولا يدعى بأحد الاسمين الذي هو مثل الضار والنافع والخافض لأن الاسمين إذا ذكرا معًا دلّ ذلك على عموم قدرته وتدبيره وأنه لا رب غيره وعموم خلقه وأمره فيه مدح له وتنبيه على أن ما فعله من ضرر خاص ومنع خاص فيه حكمة ورحمة بالعموم وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح والله له الأسماء الحسنى ليس له مثل السوء قط فكذلك أيضًا الأسماء التي فيها عموم وإطلاق لما يحمد ويذم لا توجد في أسماء الله تعالى الحسنى
لأنها لا تدل على ما يحمد الرب به ويمدح لكن مثل هذه الأسماء ومثل تلك ليس لأحد أن ينفي مضمونها أيضًا فيقول ليس بضار ولاخافض أو يقول ليس بمريد ولا متكلم ولا بائن عن العالم ولا متحيز عنه ونحو ذلك لأن نفي ذلك باطل وإن كان إثباته يثبت على الوجه المتضمن مدح الله وحمده وإذا نفاها نافٍ فقد تقابل ذلك النفي بالإثبات ردًّا لنفيه وإن لم تذكر مطلقة في الثناء والدعاء والخبر المطلق فإن هذا نوع تقييد يقصد به الرد على النافي المعطل وهذا في الإثبات والنفي جميعًا فمن العيوب والنقائص ما لا يَحْسن أن يثنى على الله به ابتداء لكن إذا وصفه به بعض المشركين نفي ذلك ردًّا لقولهم كمن يقول إن الله فقير ووالد ومولود أو ينام ونحو ذلك فيُنفى عن الله الفقر والولادة
والنوم وغير ذلك فهذا أصل في التفريق بين ما ذكر من أسماء الله وصفاته مطلقًا وما لا يذكر إلا مقيدًا إما مقرونًا بغيره وإما لمعارضة مبطل وصف الله بالباطل فـ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ {180} وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ {181} وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {182} [الصافات 180-182] ومما ينبغي أن يعلم أن المبطل إذا أراد أن ينفي ما أثبته القرآن أو يثبت ما نفاه لم يصادم لفظ القرآن إلا إذا أفرط في الجهل مثل من ينكر من الجهمية إطلاق القول بأن الله كلم موسى تكليمًا أو أن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ونحو ذلك وقد يقول إنما أنكرت إطلاقه لأن مطلقه عنى به معنى فاسدًا ويكون المطلق لم يعن غير ما عناه الله ورسوله ومنهم من لا يمكنه منع إطلاق اللفظ فيطلق من التصريف ماجاء به نص آخر وما هو من لوازم هذا النص مثل أن يقول يقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا يقال الله ولا الرب
على العرش استوى أولا يقال هو مستوٍ فإذا قيل لأحد هؤلاء فقد قال في الآية الأخرى إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وقال اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الرعد 2] بقي حائرًا كما يروى أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء أحب أن تقرأ هذا الحرف وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً {164} [النساء 164] ليكون موسى هو الذي كلم الله ولا يكون في الكلام دلالة على أن الله كلم أحدًا فقال له وكيف تصنع بقوله وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف 143]
وإذاكان ألفاظ النصوص لها حرمة لا يمكن المظهر للإسلام أن يعارضها فهم يعبرون عن المعاني التي تنافيها بعبارات أخرى ابتدعوها ويكون فيها اشتباه وإجمال كما قال الإمام أحمد فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم ومن هذا الباب قول هذا المؤسس ونحوه ممن فيه تجهم إقامة البراهين على أنه ليس بمختص بحيز وجهة بمعنى أنه يصح أن يشار إليه بالحس أنه هاهنا وهناك فإن المقصود الذي يُورِدُه على منازعه بهذا الكلام أنه ليس على العرش ولا فوق العالم كما يذكره في سائر كلامه ويحرف النصوص الدالة على ذلك ولكن لم يترجم للمسألة
بنفي هذا المعنى الخاص الذي أثبتته النصوص بل عمد إلى معنى عام مجمل يتضمن نفي ذلك وقد يتضمن أيضًا نفي معنى باطل فنفاهما جميعًا نفى الحق والباطل فإن قول القائل ليس في جهة ولا حيز يتضمن نفيه أنه ليس داخل العالم ولا في أجواف الحيوانات ولا الحشوش القذرة هذا كله حق ويتضمن أنه ليس على العرش ولا فوق العالم وهذا باطل وكان في نفيه نفي الحق والباطل ولهذا كان أهل الإثبات على فريقين منهم من يقول بل هو في جهة وحيز لأنه فوق العرش وهذا مما دخل في عموم كلام النافي والنافية الكلية السالبة تناقض بإثبات معين كما في قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى [الأنعام 91] ومقصود هذا المثبت جهة معينة وحيزًا معينًا وهو ما فوق العرش ومنهم من لا يطلق أنه في جهة ولا في حيز إمالأن
هذا اللفظ لم ترد به النصوص وإما لأنه مطلق لا يبين المقصود الحق وهو أنه على العرش وفوق العالم وإما لأن لفظه لا يُفْهِمُ أو يُوهم معنى فاسدًا مثل كونه قد أحاط به بعض المخلوقات فإن كثيرًا من عامة النفاة وإن كان مشهورًا عند الناس بعلم أو مشيخة أو قضاء أو تصنيف قد يظن أن قول من قال إنه في السماء أو في جهة معناه أن السموات تحيط به وتحوزه وكذلك إذا قال متحيز يظن أن معناه الحيز اللغوي وهو كونه تحيز في بعض مخلوقاته حتى إنهم ينقلون ذلك عن منازعهم إما عمدًا أو خطأ وربما صغروا الحيز حتى يقولوا إن الله في هذه البقعة أو هذا الموضع ونحو ذلك من الأكاذيب المفتراة وأيضًا فمن المثبتة الضُّلال من يقول إن الله متحيز بهذا
الاعتبار مثل من يقول إنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق فيصافح المشاة ويعانق الركبان وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في الطواف أو في بعض سكك المدينة وأن مواضع الرياض هي مواضع خطواته ونحو ذلك مما فيه من وصفه بالتحيز أمر باطل مبني على أحاديث موضوعة ومفتراة ولهذا الإجمال والاشتراك الذي يوجد في الأسماء نفيًا وإثباتًا تجد طوائف من المسلمين يتباغضون ويتعادون أو يختصمون أو يقتتلون على إثبات لفظ ونفيه والمثبتة يصفون النفاة بما لم يريدوه والنفاة يصفون المثبتة بما لم يريدوه لأن اللفظ فيه إجمال واشتراك يحتمل معنى حقًّا ومعنى باطلاً فالمثبت يفسره بالمعنى الحق والنافي يفسره بالمعنى الباطل
ثم المثبت ينكر على النافي بأنه جحد من الحق والنافي ينكر على المثبت أنه قال على الله الباطل وقد يكون احدهما أو كلاهما مخطئًا في حق الآخر وسبب ذلك مع اشتراك اللفظ نوع جهل أو نوع ظلم ولا حول ولا قوة إلا بالله وإذا كان القول بأن الله فوق العرش وفوق العالم ولوازم هذا القول الذي يلزمه بالحق لا بالباطل هو قول سلف الأمة وأئمتها وعامة الصفاتية لم يكن رد هذا المؤسس ونحوه على طائفة أو طائفتين بل على هؤلاء كلهم وقد ذكرنا بعض ما يعرف به مذاهبهم في غير هذا الموضع فإن المقصود الأكبر هنا إنماهو النظر العادل فيما ذكره من دلائل الطرفين ليحكم بينهما بالعدل وأما ما للمثبتة من الحجج التي لم يذكرها هو وذكر القائلون بالإثبات فلم يكن ذلك هو المقصود لكن
الكلام يُحْوِجُ إلى ذكر بعضه فينبه على ذلك فمن ذلك طائفة هذا المؤسس وهم أبو الحسن الأشعري وأتباعه فإن قدماءهم جميعهم وأئمتهم الكبار كلهم متفقون على أن الله فوق العرش ينكرون ماذكره هذا المؤسس وطائفة معه كأبي المعالي وأبي حامد من نفي ذلك أو تأويل آيات القرآن كقوله ثم استوى بمعنى استولى وقد ذكرت قبل ذلك
لفظ أبي الحسن الأشعري في كتاب الإبانة حيث قال فإِنْ قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والحرورية
والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن ذلك معتصمين وبما كان يقول
أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين وجملة قولنا إنا نقر بالله سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئًا وان الله عز وجل فرد أحد صمد لاإله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لاريب فيها وأن الله يبعث من
في القبور وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له وجهًا كما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وان له يدين كما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال سبحانه لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وان له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالاًّ وأن لله علماً كما قال عز وجل أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وقال سبحانه وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] ونثبت لله تعالى قدرة وقوة كماقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئًا إلا وقد قال له كن فيكون كما قال سبحانه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {82} [يس 82]
وأنه لايكون في الأرض شيء من خير ولا شر إلا ماشاء الله وأن الأشياء تكون بمشية الله وأن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله الله عز وجل ولا يستغني عن الله ولا يقدر على الخروج من علم الله وأنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدرة له كما قال سبحانه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {96} [الصافات 96] وأن العباد لايقدرون أن يخلقوا شيئًا وهم يخلقون كما قال سبحانه لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ {20 { [النحل 20] وكما قال عز وجل أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ {35} [الطور 35] وهذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تعالى مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف 178] وأن الله سبحانه وتعالى يقدرأن يصلح الكافرين ويَلْطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكن أراد أن يكونوا كافرين كما علم وأن الله خذلهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره وخيره وشره وحلوه ومره ونعلم أن ما أصابنا
لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأنا لا نملك لأنفسنا ضرًّا ولا نفعًا إلا ماشاء الله وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه ونقول إن القرآن كم الله غير مخلوق وأن من قال بخلق القرآن كان كافرًا وندين بأن الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كمايرى القمر ليلة البدر ويراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل الله الرؤية في الدنيا وأن الله تجلى للجبل فجعله دكًّا وأعلم بذلك موسى
أن لايراه في الدنيا ونرى أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعموا أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة وما أشبهها مستحلاً لها كان كافرًا إذا كان غير معتقد لتحريمها ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانًا وندين بأن الله يقلب القلوب وأن القلوب بين إصبعين من أصابعه
وأنه يضع السموات علي إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وندين بأن لا ننزل أحدًا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارًا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرجوا الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار قومًا بعد ما امتحشوا
بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان والحوض حق والبعث بعد الموت حق وأن الله يوقف العباد بالموقف ويحاسب المؤمنين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم للروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونَدِين بحب السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ونثني عليهم بماأثنى الله عليهم ونتولاهم
ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم عثمان بن عفان نضر الله
وجهه قتله قاتلوه ظلمًا وعدوانًا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة ونشهد للعشرة بالجنة الذين شهد
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونتولى سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكف عما شجر بينهم وندين الله أن الأئمة الأربعة راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب سبحانه وتعالى يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافًا لماقاله أهل الزيغ والتضليل
ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من عباده كيف يشاء كما قال سبحانه وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] وكما قال ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى {8} فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى {9} [النجم 8-9] ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وغيره وكذلك سائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج وأن
المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافًا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهم المدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرًا من الرؤيا في المنام ونقول إن لذلك تفسيرًا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وأن
رسم السحر كائن موجود في الدنيا ونؤمن بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر بأن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه
ويخبطه خلافًا لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة 275] وكما قال الله عز وجل مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ {4} الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ {5} مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ {6} [الناس 4-6] ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في الأطفال أطفال المشركين إن الله سبحانه يؤجج لهم نارًا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية
بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم إليه صائرون وما كان وما يكون وما لايكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين
ونرى مفارقة كل داعية لبدعة ومجانبة أهل الهواء وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه وما لم نذكره بابًا بابًا وشيئًا شيئًا ونتكلم عن مسألة رؤية الله بالأبصار وعلى القرآن ثم قال باب ذكر الاستواء وذكر ما قد نبه عنه قريبًا الذي أوله فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال سبحانه وتعالى بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى
الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وقال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ {36} أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر 36-37] فأكذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وقال سبحانه أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16} [الملك 16] والسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يعني جميع السماء بقوله السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح 16] ولم يرد أن القمر يملؤهن
جميعًا وأنه فيهن جميعًا ورأينا المسلمين جميعًا إذا دعوا يرفعون أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق فذهبوا في الاستواء إلى الاستيلاء ولو كان هذا كما قالوه كان لافرق بين العرش والأرض السابعة
السفلى لأن الله تعالى قادر على كل شيء ثم قال أبو الحسن الأشعري باب الكلام في الوجه والعينين والبصر قال الله تبارك وتعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] فأخبر سبحانه أن له وجهًا لا يفنى ولا يلحقه الهلاك وقال تعالى تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] فأخبر عن العينين ولله تعالى ذكره عين ووجه كما قال لا يحد ولا يكيف وقال سبحانه وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه 39] وقال الله
تعالى وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً {134} [النساء 134] وقال تعالى لموسى وهارون إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى {46} [طه 46] فأخبر عن سمعه ورؤيته وبصره قال ونفت الجهمية أن يكون له وجه كما قال وأبطلوا أن يكون له سمع وبصر ووافقوا النصارى لأن النصارى لم تثبت لله سمعًا ولا بصرًا إلا على معنى أنه عالم وكذلك قالت الجهمية قال وحقيقة قول الجهمية أنهم قالوا إن
الله عالم ولا نقول سميع بصير على غير معنى عالم وكذلك قول النصارى وقالت الجهمية إن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر وإنما قصدوا إلى تعطيل التوحيد والتكذيب فقالوا سميع بصير لفظًا ولم يحصلوا تحت قولهم معنى ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا أن الله غير سميع ولا بصير ولا عالم ولكن خوف السيف منعهم من إظهار كفرهم وكشف زندقتهم وهذا قول المعتزلة الجهال قال وزعم شيخ منهم مقدم عندهم أن علم الله هو سبحانه وأن الله علم
فنفى العلم من حيث أوهم أنه يثبته حتى التزم أن يقول يا علم اغفر لي إذا كان علم الله هو الله وكان الله على قياسه علمًا وقدرة وهو أبو الهذيل تعالى الله عما
يقولون علوًا كبيرًا ومن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل وجهًا قيل له نقول ذلك خلافًا لما قاله المبتدعون وقد دل على صحة ذلك قوله سبحانه وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وإن سألنا فقال أتقولون إن لله عز وجل يدين قيل له نعم نقول ذلك لقوله سبحانه وتعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن
الله خلق آدم بيديه وغرس شجرة طوبى بيده وقال سبحانه وتعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كلتا يديه يمين وقال سبحانه لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ {45} [الحاقة 45] وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا وكذا بيدي وهو يعني به النعمة وإذا كان الله سبحانه خاطب العرب بلغتها وما تجده مفهومًا في كلامها ومعقولاً في خطابها ولا يجوز أن تقول في خطابها
فعلت بيدي وتعني به النعمة بطا أن يكون معنى قوله بيديَّ النعمة وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل لي عليه يدان يعني له عليه نعمتان ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها ودفع ذلك دفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد نعمة إلا من جهة اللغة فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يحتج بها وأن لا يقرأ القرآن
ولا يثبت اليد نعمة من قبلها لأنه إن رجع في تفسير قوله بيديَّ يعني نعمتي إلى الإجماع فليس المسلمون على ما ادعاه من ذلك متفقين وإن رجع إلى اللغة أن يقول معنى نعمتي أن يقول القائل بيديَّ نعمتي وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ولن يجد إلى ذلك سبيلاً ويقال لأهل البدع لم زعمتم أن معنى قوله بيديَّ نعمتي أزعمتم ذلك إجماعًا أو لغة فلا يجدون في ذلك إجماع ولا في لغة فإن قالوا قلنا ذلك من
القياس قيل لهم من أين وجدتم في القياس أن قول الله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لا يكون معناه إلا نعمتي ومن أين يمكن أن يعلم العقل أن يفسر لفظة كذا وكذا مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم 4] وقال سبحانه أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء 82] ولولا أن القرآن بلسان العرب ما جاز أن تتدبره
ولا أن تعرف العرب معانيه إذا سمعته فلما كان من لايحسن كلام العرب لا يحسنه وإنما يعرفه العرب إذا سمعوه علم أنهم علموه لأنه بلسانهم نزل قال وقد اعتل معتل بقول الله عز وجل وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] قال الأيدي القوة فوجب أن يكون معنى قوله بيدي أي بقدرتي قيل لهم هذا التأويل فاسد من وجوه أحدها أن الأيد ليس بجمع اليد لأن جمع يد أيدي وجمع اليد التي هي نعمة أيادي والله عز وجل لم
يقل بأيدي ولا قال بأيادي وإنما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فبطل أن يكون معنى قوله بيدي معنى قوله بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات 47] وأيضًا فلو أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا مناقض لقول مخالفينا ومجانب لمذاهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة الله عز وجل فكيف يثبتون قدرتين وأيضًا فلو كان الله عز وجل عنى بقوله لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس لعنه الله في ذلك مزية والله عز وجل أراد أن يرى فضل آدم عليه السلام إذ خلقه بيديه دونه فلو كان خالقًا لإبليس بيده كما خلق
آدم بيده لم يكن لتفضيله على إبليس بذلك وجه وكان إبليس محتجًّا على ربه عز وجل أن يقول وأنا أيضًا خلقتني بيدك كما خلقت آدم بها فلما أراد تفضيله عليه بذلك قال له توبيخًا على استكباره على آدم أن يسجد له مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص 75] فدل ذلك على أنه ليس معنى الآية القدرة إذْ كان الله عز وجل قد خلق الأشياء جميعها
بقدرته وأنه إنما أراد إثبات يدين لم يشارك إبليس لعنه الله آدم عليه السلام في أنه خلق بهما قال وليس يخلو قوله عز وجل لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين أو يكون معنى ذلك إثبات جارحتين أو يكون معنى ذلك إثبات قدرتين أو يكون معناه معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين ولا يوصفان
إلا كما وصف الله ولا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين لأنه لا يجوز أن يقول القائل عملت بيديّ وهو يعني نعمتي ولا يجوز أن يعني عندنا ولا عند خصومنا جارحتين ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فكيف يثبتون قدرتين وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله عز وجل بيدي إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين ولا يوصفان إلا أن يقال إنهما يدان ليستا كالأيدي خارجًا عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت وأيضًا فلو كان معنى قوله بيدي نعمتي لكان
لا فضيلة لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك على مذاهب مخالفينا لأن الله قد ابتدأ إبليس بنعمة على قولهم كما ابتدأ بذلك لآدم فليس تخلو النعمتان أن يكون عنى بهما بدن آدم أو تكونا عرضين خلقا في آدم فإن عنى بذلك بدن آدم فالأبدان عند مخالفينا من المعتزلة جنس واحد وإذا كان الأبدان عندهم جنسًا واحدًا فقد حصل في جسد إبليس على مذاهبهم من النعمة ماحصل في جسد آدم وكذلك إن كان عنى عرضين فليس من عرض فعله في بدن آدم من لون أو حياة أو قوة أو غير ذلك إلا وقد فعل من جنسه عندهم في بدن إبليس فهذا يوجب أنه
لا فضيلة لآدم على إبليس في ذلك والله عز وجل إنما احتج على إبليس بذلك ليريه أن لآدم في ذلك الفضيلة فدل ما قلناه على أن الله عز وجل قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] لم يعن نعمتي ويقال لهم ماأنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله يدي يدين ليستا نعمتين فإن قالوا لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة قيل لهم ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم
يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعتلالكم ناقصين وإن أثبتم حيًّا لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي أخبر الله عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين
ولا كالأيدي وكذلك يقال لم تجدوا مدبرًا حكيمًا إلا إنسانًا وأثبتم الباري مدبرًا حكيمًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف للشاهد فإن قالوا فإذا أثبتم لله يدين لقوله سبحانه وتعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فلم لا أثبتم له أيدي لقوله سبحانه مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] قيل لهم
قد أجمع على بطلان قول من قال ذلك فوجب أن يكون الله عز وجل ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين لأن الدليل قد دل على صحة الإجماع وإذا كان الإجماع صحيحًا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين لأن القرآن على ظاهره
ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة فوجدنا حجة أولنا بها ذكر الأيدي على الظاهر إلى ظاهر آخر ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقة لا يزول عنها إلا بحجة فإن قال قائل إذا ذكر الله الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يكون ذكر الأيدي ويريد به يدًا واحدة قيل له ذكر الله عز وجل أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على
بطلان قول من قال أيدي كثيرة وقال من قال يد واحدة فقلنا يدان لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف ظاهره فإن قال قائل ما أنكرتم أن يكون قوله تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس 71] على المجاز قيل له حكم كلام الله على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ألا ترون أنه إذاكان ظاهر كلام عموم فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس على حقيقة الظاهر وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم بغير حجة فكذلك قوله عز وجل خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ظاهره من إثبات الأيدي ولايجوز أن يعدل به عن
ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا بغير حجة فلو كان ذلك جائزًا لجاز مدع أن يدعي أن ماظاهره العموم فهو على الخصوص وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه وأنه محال أن يكون مجازًا بغير حجة بل واجب أن يكون لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] إثبات يدين لله تعالى في غير نعمتين إذْ كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم فعلت بيدي وهو يعني نعمتي
قلت وهذا القول الذي ذكره الأشعري في الإبانة ونصره ذكره في كتاب المقالات الكبير الذي فيه مقالات الإسلاميين ومقالات الطوائف غير الإسلاميين وكتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين أنه قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة فقال بعد أن ذكر مقالات الشيعة ثم الخوارج ثم المعتزلة ثم المجسمة ثم الجهمية ثم الضرارية ثم
البكرية ثم قوم من النساك ثم قال هذه حكاية قول
جملة أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئًا والله تعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا وأن محمدًا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وأن له يدين بلا كيف كما قال لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وكما قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وأن له عينين بلا كيف كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج وأقروا أن الله علمًا كما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] وكما قال وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ
إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر 11] وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت 15] وقالوا إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله وأن الأشياء تكون بمشيئة الله كما قال الله تعالى وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير 29] وكما قال المسلمون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقالوا إن أحدًا لا يستطيع أن يفعل شيئًا قبل أن يفعله أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علم الله أو أن يفعل شيئًا علم الله أنه لا يفعله وأقروا أنه لا خالق إلا الله وأن أعمال العباد يخلقها الله وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئًا وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم ولو أصلحهم لكانوا
صالحين ولو هداهم لكانوا مهتدين وأن الله سبحانه يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علمهم وخذلهم ولم يصلحهم وطبع على قلوبهم وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ويؤمنون بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت والفقر إلى الله في كل حال ويقولن إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهم مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله سبحانه يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم
عن الله محجوبون قال الله تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ {15} [المطففين 15] وأن موسى سأل ربه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكًّا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة ولا يكفرون أحدًا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره حلوه ومره وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم والإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث والإسلام عندهم غير الإيمان
ويقرون بأن الله مقلب القلوب ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها لأهل الكبائر من أمته وبعذاب القبر وأن الحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق والمحاسبة من الله للعباد حق والوقوف بين يدي الله تعالى حق ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق ويقولون أسماء الله هي الله
ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين حتى يكون
الله ينزلهم حيث شاء ويقولن أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ويؤمنون بأن الله يخرج قومًا من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في
القدر والمناظرة فيما يناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقولون كيف ولا لم لأن ذلك بدعة ويقولون بأن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير ولم يرض بالشر وإن كان مريدًا له ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم ويقدمون أبابكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليًّا رضي الله عنهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم
ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كماقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ {16} [ق 16] ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر ويثبتون المسح على الخفين سنة ويرونه في الحضر والسفر ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر
عصابة تقاتل الدجال وبعد ذلك ويرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لايخرجوا عليهم بالسيف وأن لا يقاتلوا في الفتنة ويصدقون بخروج الدجال وأن عيسى ابن مريم يقتله ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام وأن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر كما قال تعالى وأن السحركائن موجود في الدنيا ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وموارثتهم ويقولون إن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله
وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً كانت أو حرامًا وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله بآيات تظهر عليهم وأن السنة لا تنسخ بالقرآن
وأن الأطفال أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون وأن الأمر بيد الله ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين واجتناب الكبائر والزنا وقول الزور والعصبية والكبر والفخر والإزراء على الناس والعجب
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الفقه مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق وبذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية وتفقد المأكل والمشرب فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول إليه ونذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا وبه نستعين وعليه نتوكل وإليه المصير ثم قال وأما أصحاب عبد الله بن سعيد القطان وهو ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر ما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الباري تعالى لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا عزيزًا عظيمًا جليلاً كبيرًا كريمًا مريدًا متكلمًا جوادًا
ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى ويقولون أسماء الله وصفاته لا يقال هي غيره ولا يقال إن علمه غيره كما قالت الجهمية ولا يقال إن علمه هوهو كما قال بعض المعتزلة وكذلك قولهم في سائر الصفات ولا يقولون العلم هو القدرة ولا يقولون غير القدرة ويزعمون أن الصفات قائمة بالله وأن الله لم يزل راضيًا عمن يعلم أنه يموت مؤمنًا ساخطًا على من يموت كافرًا وكذلك قوله في الولاية والعداوة والمحبة وكان يزعم أن القرآن كلام الله غير مخلوق وقوله في القدر كما حكينا عن أهل السنة والحديث وكذلك قوله في أهل الكبائر وكذلك
قوله في رؤية الله بالأبصار وكان يزعم أن الباري سبحانه وتعالى لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستوٍ على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء تعالى وقال أيضًا أبو الحسن الأشعري في باب اختلافهم في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو تحمل العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأن هاتين الفرقتين أنكرتا القول أنه في مكان دون مكان قلت وكان قد ذكر في شرح اختلاف الناس في
التجسيم فقال فاختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه جسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك يتناهى غير أن مساحته أكثر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم ثم قال وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب
قال وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تحل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية فهاتان هما الفرقتان قال وقال قائلون هو جسم خارج عن جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بلون ولا طعم ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلا على معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش وليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها قال وقال هشام بن الحكم إن ربه في كل مكان
دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه إن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له وقال من ينتحل الحديث أن العرش لم يمتلئ به وأنه يقعد نبيه عليه السلام معه على العرش قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم
ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] ولا نتقدم بين يدي الله في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجهًا كماقال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وأن له يدين كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وأن له عينين كما قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئًا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه
بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل فقال قائلون الحملة تحمل الباري وأنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولاتحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل ويحمله الحملة وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه على العرش وإنه مباين
منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات قال واختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الله بكل مكان وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على مالم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ للأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن في كتاب الإبانة هو الذي يذكره من ينقل مذهبه جملة ويرد بذلك على الطاعنين فيه كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر في كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى
الشيخ أبي الحسن الأشعري والذي ذكره الأشعري في كتاب المقالات هو الذي ذكره أبو بكر بن فورك في كتاب مقالات ابن كلاب فقال الفصل الأول في ذكر ما حكى شيخنا أبوالحسن في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث وقواعدهم وما أبان في آخره أنه هو يقول بجميع ذلك وأن أبا محمد عبد الله بن سعيد يقول بذلك وبأكثر منه وهكذا ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني في عامة كتبه مثل التمهيد والإبانة وكتابه الذي سماه كتاب الرد على من نسب إلى الأشعري خلاف قوله بعد فصول ذكرها قال وكذلك قولنا في جميع المروي عن رسول اله صلى الله عليه وسلم في صفات الله تعالى إذا ثبتت بذلك الرواية من إثبات اليدين اللتين نطق بهما
القرآن والوجه والعينين قال تعالى وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27} [الرحمن 27] وقال تعالى كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] وقال في قصة إبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وقال تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر 14] قال وروي في الحديث من رواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجال قال إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور فأثبت له العينين
قال وهذا حديث غير مختلف في صحته عند العلماء بالحديث وهو في صحيح البخاري وقال عليه السلام فيما يروى من الأخبار المشهورة وكلتا يديه يمين ونقول إن الله تعالى يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام والملائكة كما نطق بذلك القرآن وأنه ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فيعطى أو مستغفر فيغفر له الحديث وأنه عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال قد بينا دين الأئمة وأهل السنة وأن هذه الصفات تُمَرُّ كما جاءت بغير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير كما روي عن
ابن شهاب وغيره وروى الثقات عن مالك أن سائلاً سأله
عن قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] فقال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة قال فمن تجاوز هذا المروي من الأخبار عن التابعين ومن بعدهم من السلف الصالحين وأئمة الحديث فقد تعدى وضل وابتدع في الدين ما ليس منه وذكر باقي الكتاب وهذا لفظه فإذا كان قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وهو الذي ذكروا أنه اتفق عليه سلف الأمة وأهل السنة وأن الله فوق العرش وأن له وجهًا ويدين وتقرير ما ورد من النصوص الدالة على أنه فوق العرش وأن تأويل استوى بمعنى استولى هو تأويل المبطلين ونحو ذلك علم أن هذا الرازي ونحوه هم المخالفون
لأئمتهم في ذلك وأن الذي نصره ليس هو قول ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه وإنما هو صريح قول الجهمية والمعتزلة ونحوهم وإن كان قد قاله بعض متأخري الأشعرية كأبي المعالي ونحوه وكذلك نقل الناس مذهبهم كما قال الإمام أبوبكر محمد بن الحسن الحضرمي القيرواني الذي له الرسالة التي سماها برسالة الإيماء إلى مسألة الاستواء لما ذكر اختلاف
المتأخرين في الاستواء قول الطبري يعني أبا جعفر صاحب التفسير الكبير وأبي محمد
عبد الله بن أبي يزيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وهو ظاهر بعض كتب القاضي أبي بكر وأبي الحسن يعني الأشعري وحكاه عنه
أعني القاضي أبي بكر القاضي عبد الوهاب نصًّا وهو أنه سبحانه مستوٍ على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه قال القاضي أبو بكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان ولا كون فيه ولا مماسة قال أبو عبد الله القرطبي في كتاب شرح الأسماء الحسنى هذا قول القاضي أبي بكر في كتاب تمهيد
الأوائل وقاله الأستاذ أبوبكر بن فورك في شرح أوائل الأدلة له وهو قول أبي عمر بن عبد البر والطلمنكي
وغيرهما من الأندلسيين وقول الخطابي في شعار الدين ثم قال بعد أن حكى أربعة عشر قولاً وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات
وقال هذا القرطبي في تفسيره الكبير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [يونس 3] هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وأجزاء وقد بينا أقوال العلماء فيها في كتاب الأسني في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وذكرنا فيها هناك أربعة عشر قولاً قال والأكثر من المتقدمين والمتأخرين أنه إذا وجب تنزيه الباري عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة عليه عند عامة العلماء المتقدمين وقادتهم المتأخرين تنزيه الباري عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون وذلك
مستلزم للتحيز والتغير والحدوث هذا قول المتكلمين قال وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته كما قال مالك رحمه الله الاستواء معلوم يعني في اللغة والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وكذا قالت أم سلمة رضي الله
عنها وهذا القدر كاف قال والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار وذكر كلام الجوهري وغيره
وأما نقل مذاهب سلف الأمة وأئمتها وسائر الطوائف فروى أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات بإسناد صحيح من الأوزاعي قال كنا والتابعون
متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره فوق سماواته ونؤمن بما وردت السنة به من صفاته وقال أبو بكر النقاش صاحب
التفسير والرسالة حدثنا أبو العباس السراج سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام
والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة
له وأئمتنا كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان ن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن
سلمة وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهوية الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء
وقال الإمام أبو عمر الطلمنكي في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد 4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أيضًا قال أهل السنة في قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال وهذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد ولا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أن الله
تعالى في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة قال وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله في كل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله تعالى وذكر بعض الآيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم
عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ [المجادلة 7] هو على العرش وعلمه في كل مكان وماخالفهم في ذلك من يحتج بقوله وقال أبو عمر بن عبد البر أيضًا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة وتزعم أن من أقر بها مشبه وهم
عند من أقر بها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله فهم أئمة الجماعة قال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصفهاني أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين فذكر عقيدة قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلاكيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول وأنه عز وجل بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة
ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وأنه سميع بصيرعليم خبير متكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر قال ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في العقيدة
المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لايحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي سألت أبي
وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار قالا أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازًا وعراقًا ومصرًا وشامًا ويمنًا فكان من مذهبهم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع
جهاته إلى أن قالا وأن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علمًا وهذا مشهور عن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم من وجوه وقد ذكره عنه الشيخ نصر المقدسي في كتاب
الحجة له وقال نصر في هذا الكتاب إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فأذكر مذاهبهم وما اجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن
بلغني قوله من غيرهم فذكر جُمَل اعتقاد أهل السنة وفيه وأن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً {12} [الطلاق 12] وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن 28] ونقل أقوال السلف من القرون الثلاثة ومن نقل أقوالهم في إثبات أن الله تعالى فوق العرش يطول ولا يتسع له هذا الموضع ولكن نبهنا عليه ولم يكن هذا عندهم من جنس مسائل النزاع التي يسوغ فيها الاجتهاد بل ولا كان هذا عندهم من جنس
مسائل أهل البدع المشهورين في الأمة كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة بل كان إنكار هذا عندهم أعظم عندهم من هذا كله وكلامهم في ذلك مشهور متواتر ولهذا قال الملقب بإمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة فيما رواه عنه الحاكم من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة
كما روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم يدورون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويَدُورون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا
وعن عباد بن العوام الواسطى من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد قال كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعى من هذه الطبقة وهو إمام البصرة إذ ذاك علمًا ودينًا أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شرٌّ قولاً من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين أن الله على العرش وهم قالوا ليس عليه شيء وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب الإمام
المشهور قال سمعت حماد بن زيد وهو الإمام الكبير المشهور وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وعن عاصم بن علي بن عاصم
شيخ أحمد والبخاري قال ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا وقال أحمد بن حنبل ثنا سريح ابن النعمان سمعت عبد الله بن نافع الصائغ سمعت مالك
ابن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحيحة عن عبد الله
ابن المبارك أنه قيل له بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا وكذلك قال الإمام أحمد وغيره وقال الإمام أبو عبد الله البخاري صاحب الجامع
الصحيح في كتاب خلق الأفعال باب ما ذكر أهل العلم للمعطلة الذين يريدون أن يبدلوا كلام الله قال وقال وهب بن جرير الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى قال وقال حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله
قال وقال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سمواته على العرش وقال لرجل منهم أتظنك خال منه فَبُهِت الآخر وقال من قال لاإله إلا هو مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي
وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا قال أبو عبد الله البخاري نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قومًا أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل
ما يشاء وقال وحديث يزيد بن هارون عن الجهمية فقال من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي قال وقال ضمرة بن ربيعة عن صدقة سمعت
سليمان التيمى يقول لو سئلت أين الله تبارك وتعالى لقلت في السماء فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء لقلت على الماء فإن قال فأين كان عرشه قبل الماء لقلت لا اعلم وروى عن يزيد بن هارون أنه ذكر أبا بكر الأصم والمريسي فقال هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالا الدم
قال وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضي أو عدل فصلِّ خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة قال وقال وكيع بن الجراح الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهم والجهمية شر هذه
الأصناف قال البخاري وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار وكلام السلف والأئمة في هذا الباب أعظم وأكثر من أن يذكر هنا إلا بعضه كلهم مطبقون على الذم والرد على من نفى
أن يكون الله فوق العرش كلهم متفقون على وصفه بذلك وعلى ذم الجهمية الذين ينكرون ذلك وليس بينهم في ذلك خلاف ولا يقدر أحد أن ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفًا واحدًا يخالف ذلك لم يقولوا شيئًا من عبارات النافية إن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا أنه داخل العالم ولا خارجه ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه في كل مكان أو أنه ليس في مكان أو أنه لا تجوز الإشارة غليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة بأن يكون فوق العرش لا نصًّا ولا ظاهرًا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم وإذا كان كذلك فليعلم أن الرازي ونحوه من الجاحدين لأن يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الأمة لسان صدق ومخالفون لعامة من يثبت الصفات من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والمتكلمين مثل الكرامية والكلابية والأشعرية الذين هم
الأشعري أئمة أصحابه ولكن الذين يوافقونه على ذلك هم المعتزلة والمتفلسفة المنكرون للصفات وطائفة من الأشعرية وهم في المتأخرين منهم أكثر منهم في المتقدمين وكذلك من اتبع هؤلاء من الفقهاء والصوفية وطائفة من أهل الحديث وحينئذ فيذكر ما يُتكلم به على حججه ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الرازي الفصل الرابع في إقامة الحجج والبراهين على أن الله ليس بمختص بحيز ولا جهة بمعنى أنه يشار بالحس أنه هاهنا أو هناك ويدل
عليه وجوه البرهان الأول وذلك أنه لم يخل إما أن يكون منقسمًا أو غير منقسم فإن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وإن لم يكن منقسمًا كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ وذلك باطل باتفاق العقلاء وأيضًا فإن من ينفي الجوهر الفرد يقول إن كل ما كان مشارًا إليه بأنه هاهنا أو هناك فلابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا فثبت بأن القول بأنه مشار إليه بحسب الحس يفضي إلى هذين الباطلين فوجب أن يكون القول به باطلاً فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى واحد منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا
قوله العظيم يجب أن يكون مركبًا منقسمًا وذلك ينافي كونه أحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل وأيضًا لِمَ لا يجوز أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر قوله إنه حقير وذلك على الله محال قلت الذي لا يمكن أن يشار غليه ولا يحس به يكون كالعدم فيكون أشد حقارة فإذا جاز هذا فلم لا يجوز ذلك والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا
إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد أو جزء لا يتجزأ مع كونه جبلاً وذلك شك في البديهات فثبت أنه لابد من التزام التركيب والانقسام وإما أن لا يحصل فوقها شيء آخر ولا على يمينها ولا على يسارها ولا من تحتها فحينئذ يكون نقطة غير منقسمة وجزءًا لا يتجزأ وذلك باتفاق العقلاء باطل فثبت أن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب بل هو مبني على التقسيم الدائر بين النفي والإثبات قال واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف
أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فزعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة ولا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل أما قولهم الذي لا يحس ولا يشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أما إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم
يلزم وصفه بالحقارة يقال هذه الحجة مع كل من قال إنه فوق العرش وقال مع ذلك إنه غير مؤلف ولا مركب ممن يثبت له معنى الجسم كمن ذكره من الكرامية وممن ينفي عنه معنى الجسم كالكلابية وأئمة الأشعرية ومع كل طائفة ممن يوافقها من الفقهاء والصوفية وغيرهم وإن كان عامة أهل السنة وأئمة الدين وأهل الحديث لا يقولون هو جسم ولا يقولون ليس بجسم وهو قد نصها وهي أيضًا مع من نقل عنه أنه يُوصَفُ بالتركب والتأليف يرجع إلى قوله والكلام عليها من وجوه أحدها أن يقال قد تقدم أن لفظ المنقسم لفظ مجمل بحسب الاصطلاحات فالمنقسم في اللغة العربية التي نزل بها
القرآن هو ما فصل بعضه عن بعض كقسمة الماء وغيره بين المشتركين كما قال الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر 28] وقال تعالى لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ [الحجر 44] وقال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف 32] وقال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف 32] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنا قاسم أقسم بينكم وهذا هو حقيقة المقسوم بدليل صحة نفي اللفظ عما ليس كذلك كما في الحديث الصحيح قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يُقْسَم وكما في قوله أيما ميراث قسم في الجاهلية
فهو على ما قسم وأيما مال أدركه الإسلام فهو على قَسْم الإسلام
وكما قال لا يَقْتَسِمْ ورثتي دينارًا ولا درهمًا وتقول الفقهاء العقار إما أن يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة فإن كان كالرحى الصغيرة والحانوت الصغير التي لا تحتمل القسمة ففي ثبوت الشفعة فيه نزاع مشهور بين الفقهاء وإن كان يحتمل القسمة كالأرض البيضاء الكبيرة ونحو ذلك ثبتت فيه الشفعة بالاتفاق وكذلك يقولون في باب القسمة إن
المال إما أن يحتمل القسمة وإِما أن لا يحتملها فالذي لا يحتمل القسمة كالعبد الواحد والفرس الواحد وكالجوهرة والإناء الواحد ونحو ذلك فهذا الباب باب القسمة وما فيه من المسائل كقولهم القسمة هل هي إفراز الحقوق وتمييز الأنصباء أم هي بيع وقولهم مالا يمكن قسمته إذا طلب أحد الشريكين بيعه ليقسم الثمن هل يجبر الآخر على البيع وقولهم إذا كان في القسمة ضرر على أحد الشريكين فهل يجبر الممتنع فيها ونحو ذلك ومن ذلك قولهم في المضاربة والغنيمة ونحوها هل يملك الربح أو المغنم بالظهور أو لا يملك إلا بالقسمة وقولهم باب قَسْم الصدقة والغنائم والفيء وأمثال ذلك مما
لا يحصيه إلا الله إنما يريد الخاصة من العلماء والعامة من الناس بلفظ القسمة هنا تفصيل الشيء بعضه عن بعض بحيث يكون هذا في حيز وهذا في حيز منفصل عنه ليتميز أحدهما عن الآخر تميزًا يمكن به التصرف في احدهما دون الآخر وإذا كان هذا المعنى هو الظاهر في لغة الناس وعادتهم بلفظ القسمة فقوله بعد ذلك إما أن يكون منقسمًا أو لا يكون يختار فيه المنازع جانب النفي فإن الله ليس بمنقسم وليس هو شيئين أو أشياء كل واحد منها في حيز منفصل عن حيز الآخر كالأعيان المقسومة وما نعلم عاقلاً يقول ذلك وما كان منقسمًا بهذا المعنى فهو اثنان كل منهما قائم بنفسه ولم يقل أحد من الناس إن الله أو إن خالق العالم هما اثنان متميزان كل منهما قائم بنفسه إلا ما يحكى عن بعض الثنوية من قولهم إن أصل العالم النور والظلمة القديمان
لكن هؤلاء لا يقولون بتساويهما في الصفات وأيضًا فهؤلاء لا يسمون كلاًّ منهما الله أو رب العالمين ولا يسمون اثنيهما باسم واحد فلم يقل أحد من العقلاء إن مسمى الله أو رب العالمين هو منقسم الانقسام المعروف في نظر الناس وهو أن يكون عينان لكل منهما حيز منفصل عن حيز الآخر وأيضًا فلم يقل أحد إن الله كان واحدًا ثم إنه انفصل وانقسم حتى صار بعضه في حيز وبعضه في حيز فهذا المعنى المعروف من لفظ المنقسم منتف باتفاق العقلاء وهو مناف لأن يكون رب العالمين واحدًا منافاة ظاهرة ولكن لا يلزم من بطلان هذا بطلان مذهب المنازع الذي يقول إن الله واحد
ليس هو اثنين منفصلين كل منهما في حيز منفصل عن حيز الآخر وقد يريد بعض الناس بلفظ المنقسم ما يمكن الناس فصل بعضه عن بعض وإن كان في ذلك فساد تنهى عنه الشريعة كالحيوان الحي والآنية ونحو ذلك فإن أراد بلفظ المنقسم ذلك فلا ريب أن كثيرًا من الأجسام ليس منقسمًا بهذا الاعتبار فإن بني آدم يعجزون عن قسمته فضلاً عن أن يقال إن رب العالمين يقدر العباد على قسمته وتفريقه وتمزيقه وهذا واضح وقد يراد بلفظ المنقسم ما يمكن في قدرة الله تعالى قسمته لكن العباد لا يقدرون على قسمته كالجبال وغيرها ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يقال إن الله يمكن قسمته وأنه قادر على ذلك كما لا يجوز أن يقال إنه يمكن عدمه أو موته أو نومه وأنه قادر على ذلك فإنه واحد لا إله إلا هو وهذه القسمة تجعله اثنين منفصلين كل منهما في حيز آخر وهذا ممتنع على الله وذلك ظاهر ولا نزاع بين المسلمين بل بين العقلاء في ذلك وإنما تنازع الناس في كثير من الأجسام هل يمكن
قسمتها وتفريقها أم لا يمكن كأرواح بني آدم والملائكة بل كالعرش وغيره وقد خالف كثير من الفلاسفة المسلمين في أن الأفلاك تقبل الانقسام والتفريق أو لا تقبلها فالناس تنازعوا في كون بعض الأجسام تقبل الانقسام الذي هو تفريق بعض الجسم عن بعض فأما الخالق تعالى وتقدس فما علمنا أحدًا منهم يصفه بذلك ولو وصفه واصف بذلك لم يكن ما ذكره الرازي حجة على بطلان قوله كما سنذكره وإن كان غير منقسم لا بالمعنى الأول الذي هو وجود الانقسام المعروف ولا بالمعنى الثاني الذي هو إمكان هذا الانقسام فقوله وإن لم يكن غير منقسم كان في الصغر بمنزلة الجوهر الفرد ليس بلازم حينئذ فإنما يوصف بأنه واحد
من الأجسام كقوله تعالى وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك جسم واحد ومتحيز واحد وهو في جهة ومع ذلك ليس هو منقسمًا بالمعنى الأول فإن المنقسم بالمعنى الأول لا يكون إلا عددًا اثنين فصاعدًا كالماء إذا اقتسموه وكالأجزاء المقسومة التي لكل باب من جهنم منها جزء مقسوم وإذا كان هذا فيما يقبل القسمة كالإنسان والذي يقدر البشر على قسمته وما لايقبل القسمة أولى بذلك وهذا ظاهر محسوس بديهي لا نزاع فيه فإن أحدًا لم ينازع في أن الجسم العظيم الذي لم يفصل بعضه عن بعض فيجعل في حيزين منفصلين أولا يمكن ذلك فيه إذا وصف بأنه غير منقسم لم يلزم من ذلك أن يكون بقدر الجوهر الفرد بل قد يكون في غاية الكبر والعظم
ولا ريب أن الرازي ونحوه ممن يحتج بمثل هذه الحجة لا يفسرون الانقسام هنا بهذا الذي قررناه من فصل بعضه عن بعض بحيث يكون كل بعض في حيزين منفصلين أو إمكان ذلك فيه فإن أحدًا لم يقل إن الله منقسم بهذا الاعتبار ور يلزم من كونه جسمًا أو متحيزًا أو فوق العالم أو غير ذلك أن يكون منقسمًا بهذا الاعتبار وإن قال أريد بالمنقسم أن ما في هذه الجهة منه غير ما في هذه الجهة كما نقول إن الشمس منقسمة يعني أن حاجبها الأيمن غير حاجبها الأيسر والفلك منقسم بمعنى أن ناحية القطب الشمالي غير ناحية القطب الجنوبي وهذا هو الذي أراده فهذا مما يتنازع الناس فيه فيقال له قولك إن كان منقسمًا كان مركبًا وقد تقدم إبطاله وتقدم الجواب عن هذا الذي سميته مركبًا وتبين
أنه لا حجة أصلاً على امتناع ذلك بل تبين أن إحالة ذلك تقتضي إبطال كل موجود ولولا أنه أحال على ما تقدم لما أحلنا عليه وتقدم بيان ما في لفظ التركيب والحيز والغير والافتقار من الإجمال وان المعنى الذي يقصدونه بذلك يجب أن يتصف به كل موجود سواء كان واجبًا أو ممكنًا وأن القول بامتناع ذلك يستلزم السفسطة المحضة وتبين أن كل أحد يلزمه أن يقول بمثل هذا المعنى الذي سماه تركيبًا حتى الفلاسفة وأن هذا المنازع يقول مثل ذلك في تعدد الصفات وأنه ألزم الفلاسفة مثل ذلك فقول من يقول من هؤلاء ما يكون منقسمًا أو مركبًا بهذا
الاعتبار فإنه لا يكون واحدًا ولا يكون أحدًا فإن الأحد هو الذي لا ينقسم خلافا لما جاء في كتاب الله وسنة نبيه ولغة العرب من تسمية الإنسان واحدًا كقوله وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء 11] وقوله ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ونحو ذلك وتحرير هذا المقام هو الذي يقطع الشغب والنزاع فإن هذه الشبهة من أكبر أو أكبر أصول المعطلة لصفات الرب بل المعطلة لذاته وهو عند التحقيق من أفسد الخيالات ولاحول ولاقوة إلا بالله فإن الإشراك قد ضل به كثير من الناس كما قال الخليل وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ {35} رَبِّ
إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس [إبراهيم 35-36] وإذا شرح الله صدر العبد للإسلام يتعجب غاية العجب ممن ضل عقله حتى أشرك كما روي أن بعض الناس قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لهم عقول يعني لمشركي قريش فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانت لهم عقول أمثال الجبال ولكن كادها باريها وروي أن خالد بن الوليد
لما هدم العزى وكانت عند عرفات قال يا رسول الله عجبت من أبي وعقله كان يجيء إلى هذه العزى فيسجد لها وينسك لها ويحلق لها رأسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك عقول كادها باريها ولهذا يعترف المشركون بالضلال يوم القيامة كما قال تعالى فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ {94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ {95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ {96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ {99} [الشعراء 94-99] قال تعالى عن قوم
عاد الذين كانوا من أعظم بني آدم وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون {26} [الأحقاف 26] وهذه الشبهة وإن تنوعت عباراتها هي التي ذكرها الأئمة أنها أصل كلام الجهمية كما ذكر الإمام أحمد حيث قال وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرًا كثيرًا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل التِّرْمِذ
وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم السُّمَنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا ألست تزعم أن لك إلهًا قال جهم نعم فقالوا هل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا
قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا فوجدت له مَجَسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ذلك أن زنادقة
النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسُّمَني ألست تزعم أن فيك روحًا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال فهل سمعت كلامه قال لا
قال فهل وجدت له حسًّا أو مجسًّا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان فهذا الذي حكاه الإمام أحمد من مناظرة السُّمَنية المشركين للجهم هو كما ذكره أهل المقالات والكلام عنهم أنهم لا يقرون من العلوم إلا بالحسيات ولكن قد يقول بعض الناس إنهم أرادوا بذلك أن ما لا يدركه الإنسان بحسه فإنه
لا يعلمه حتى يقولوا عنهم إنهم ينكرون المتواترات والمجربات والبديهات وهذا والله أعلم غلط عليهم كما غلط هؤلاء في نقل مذهب السوفسطائية فزعموا أن فرقة من الناس تنكر وجود شيء من الحقائق ومن المعلوم أن أمة يكون لهم عقل يفارقون به المجانين لا يقولون هذا ولكن قد تقع السفسطة في بعض الأمور وبعض الأحوال وتكون كما فسرها بعض الناس أن السفسطة هي كلمة معربة وأصلها
يونانية سوفسقيا ومعناها الحكمة المموهة فإن لفظ سوفيا يدل في لغتهم على الحكمة ولهذا يقولون فيلاسوفا أي محب الحكمة فلما كان من القضايا ما يعلم بالبرهان ومنه ما يثبت بالقضايا المشهورة وبعضها يناظر فيه بالحجج المسلمة وبعضها تتخيله النفس وتشعر به فيحركها وإن لم
تكن صادقة وهي القضايا الشعرية ومنها ما يكون باطلاً لكن يشبه الحق فهذه الحكمة المموهة هي المسماة بالسفسطة عند هؤلاء وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع فهؤلاء السمنية يكون قولهم إن مالا يدرك بالحواس لا يكون له حقيقة ثم الرجل قد يعلم ذلك بحواسه وقد يعلم ذلك بإِخبار من عَلِم ذلك بحواسه ويدل على ذلك أن هؤلاء قوم موجودون فالرجل منهم لابد أن يقر بوجود أبويه وجده وولادته وحوادث بلده الموجودة قبله وما يحتاج إليه من أخبار الناس والبلاد وهذه الأمور كلها لا يعلمها أحدهم إلا بالخبر فإنه لا يدرك بحسه ولادته وإحبال أبيه لأمه ونحو ذلك لكن المخبرون يعلمونها بالإحساس ولا يتصور أن يعيش في العالم أمة يكذبون بكل ما لا يحسونه بل هذا يلزم أن بعضهم لا يزال غير مصدق لبعض في معاملاتهم واجتماعاتهم والإنسان
مدني بالطبع لا يعيش إلا مع بني جنسه ومن لم يقر إلا بما أحسه لم يمكنه الاستعانة ببني جنسه في عامة مصالحه وإذا كان مقصودهم أن مالا يحس به لم يكن موجودًا كان من الجواب السديد لهم أن يقال لهم إلهي سبحانه يمكن إحساسه فتمكن رؤيته وسماع كلامه وقد كلم في الدنيا بعض خلقه وسوف يكلم عباده ويرونه في الدار الآخرة فإن كانوا ينكرون العلم والإقرار بكل ما لا يحسه الإنسان أمكنه أن يقرر عليهم العلم بالخبريات
والمجربات والبديهيات وغير ذلك وإن كانوا يقولون إن كل موجود فلابد أن يمكن إحساسه فهذا الذي قالوه هو مذهب الصفاتية كلهم الذين يقرون بأن الله يرى في الدار الآخرة وهو مذهب سلف الأمة وأئمتها لكنه هنا ضل فظن أن الله لا يمكن إحساسه ولا رؤيته واحتاج حينئذ إلى إثبات موجود لا يمكن إحساسه فزعم أن روح بني آدم كذلك لا يمكن إحساسها بشيء من الحواس وقاس وجود الله على وجود الروح من هذا الوجه وهذه هي الطريقة التي سلكها هذا المؤسس في أول تأسيسه حيث أثبت وجود مالا يكون داخل العالم ولاخارجه بما قال من قال من الفلاسفة وموافقيهم من المسلمين إن الروح الذي في بني آدم لا داخل العالم ولاخارجه ولا يمكن إحساسها فقول جهم هو قول هؤلاء كما قال تعالى
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] وقال تعالى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {50} وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {51} كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ {52} أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ {53} [الذاريات 50-53] وقال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام 112] قال الإمام أحمد وجد الجهم ثلاث آيات من القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام 3] لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا واتبعه على قوله
رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بوصفين مختلفين وفي نسخة لا يكون شيئين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو ثقيل ولا خفيف ولا له لون
وفي نسخة ولا له نور ولا له جسم ليس هو معلوم أو معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي يكون لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئًا أو قال لا يأتون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق
فقلنا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا أو قال لا تأتون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فقلنالهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يتكلم ولا يكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منتفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر
وفي نسخة إنهم إنما يقودون قولهم إلى فرية في الله ثم ذكر أحمد الكلام في مناظرتهم في القرآن والرؤية والصفات والعرش ونحو ذلك وكان الأئمة كالإمام أحمد والفضيل بن عياض
وغيرهما إذا أرادوا أن يذكروا ما يستحقه الله من التنزيه ذكروا سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن وأنها مستوفية كل ما ينفى في هذا الباب ولهذا لما ناظرت الجهمية الإمام أحمد كأبي عيسى محمد بن عيسى برغوث وغيره من البصريين والبغداديين وذكروا الجسم وملازمه ذكر لهم أحمد سورة الإخلاص فإن ما فيها من التنزيه هو الحق دون ما ادخلوه في لفظ الجسم من الزيادات الباطلة وذلك أن مايذكرونه يدور على أصلين نفي التشبيه ونفي التجسيم الذي هو التركيب والتأليف ولهذا يذكر من العقائد التي ينفى فيها التنزيه الاعتقاد السليم من التشبيه والتجسيم
فأصل كلامهم كله يدور على ذلك ولا ريب أنهم نزهوا الله بنفي هذين الأمرين عن أمور كثيرة يجب تنزيهه عنها وما زادوه من التعطيل فإنما قصدوا به التنزيه والتقديس وإن كانوا في ذلك ضالين مضلين وسورة الإخلاص تستوفي الحق من ذلك فإن الله يقول قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} [الإخلاص 1-2] وهذان الاسمان الأحد والصمد لم يذكرهماالله إلا في هذه السورة وهما ينفيان عن الله ماهو منزه عنه من التشبيه والتمثيل ومن التركيب والانقسام والتجسيم فإن اسمه الأحد ينفي المثل والنظير كما تقدم الكلام على ذلك في أدلته السمعية وبيّنا أن الأحد في أسماء الله ينفي عنه أن يكون له مثل في شيء من الأشياء فهو أحد في كل ما هو له واسمه الصمد ينفي عنه التفرق والانقسام والتمزق وما يتبع ذلك من تركيب ونحوه فإن اسم الصمد يدل على الاجتماع وكذلك كل واحد من معنييه اللذين يتناولهما هذا الاسم
وهو أن الصمد هو السيد الذي كمل سؤدده ويصمد إليه في الأمور والصمد هو الذي لا جوف له كما يقال الملائكة صمد والآدمي أجوف والمصمت ضد الأجوف فإن اسم السيد يقتضي الجمع والقوة ولهذا يقال السواد هو اللون الجامع للبصر والبياض اللون المفرق للبصر ويقال للحليم السيد لأن نفسه تجتمع فلا تتفرق ولا تتميز من الغيظ والواردات عليها وكذلك هو الذي يصبر على الأمور
والصبر يقتضي الجمع والحبس والضم وضده الجزع الذي يقتضي التفرق وكذلك التعزي والتعزز وعززته فتعزى أو هو لا يتعزى هو ضد الجزوع فإن التعزز والتعزي يقتضي الاجتماع والقوة والجزع يقتضي التفرق والضعف والإنسان له في سؤدده وعزته حالان أحدهما أن يستغني بنفسه عن غيره ويعز نفسه عن غيره فلا يحتاج إلى الغير الذي يحتاج إليه غيره لغناه ولايخاف منه لعزته والثاني أن يكون هو قد احتاج إليه غيره ويكون قد أعز غيره فغلبه وأعزه فمنعه فيكون الناس قد صمدوا له أي قصدوه وأجمعوا له وهذا هو الصمد السيد وذلك إنما يكون من كمال سؤدده وصمديته التي تنافي تفرقه وتمزقه وضعفه ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد ليس كما تقول طائفة من الناس أن الصمد في
اللغة إنما هو السيد ويتعجبون مما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الصمد هو الذي لا جوف له فإن أكثر الصحابة والتابعين فسروه بهذا وهم أعلم
باللغة وبتفسير القرآن ودلالة اللفظ على هذا أظهر من دلالتها على السؤددة وذلك أن لفظ ص م د يدل على الاجتماع والانضمام المنافي للتفرق والخلو والتجويف كما يقال صمد المال وصمده تصمدًا إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض ومنه في الاشتقاق الأكبر الصمت والتصمت فإن التاء والدال أخوان متقاربان في المخرج والاشتقاق الأكبر هو ما يكون فيه الكلمتان قد اشتركت في جنس الحرف
فالكلمتان اشتركتا في الصاد والتاء والتاء والدال أخوان يقال صمت صماتًا وصموتًا وأصمت وإصماتًا وهو جمع وضم ينافي الانفتاح والتفريج ولهذا يقال للعظام ونحوها من الأجسام منها أجوف ومنها مُصْمَت فظهر أن اسم الأحد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه عنه من التشبيه ومماثلة غيره له في شيء من الأشياء واسمه الصمد يوجب تنزيهه عما يجب نفيه من الانقسام والتفرق ونحو ذلك مما ينافي كمال صمديته سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما ما تزيده المعطلة على ذلك من نفي صفاته التي وصف بها نفسه التي يجعلون نفيها تنزيهًا وإثباتها تشبيهًا ومن نفي حده وعلوه على عرشه وسائر صفاته التي وصف بها نفسه يجعلون نفيها تنزيهًا ويجعلون إثبات ذلك إثباتًا لانقسامه
وتفرقه الذي يسمونه تجسيمًا وتركيبًا فهذا باطل وليتدبر هذا المقام فإنه من أعظم الأشياء منفعة في أعظم أصول الدين الذي جاءت به هذه السورة التي تعدل ثلث القرآن وفيه عظم اضطراب الخلائق وكثر فيه تعارض الحجج وتفرق الطوائف وإذا كانت هذه الشبهة ونحوها هي أصل ضلال الأولين والآخرين لما فيها من ألفاظ المُشْبَهة المُجْمَلة كما قال الإمام أحمد في وصف الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة قال فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يُشَبِّهون عليهم فطريق حل مثلها وأمثالها ما تقدم من الكلام على الألفاظ المتشابهة المجملة التي فيها
والتي أحدثوها وليس لها أصل في كتب الله ولهذا كان هؤلاء من الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر 35] إذ السلطان هو كتاب الله فمن جادل بغير سلطان من الله كان ممن ذمه الله في الكتاب قال الله تعالى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ {35} [غافر 35] قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {56} [غافر 56] فإن هذه الألفاظ المُشْتَبِهة متى استفسر عن معانيها وفُصِّلَت زال ما في حجتهم من الاشتباه وتبين أنها حجة داحضة وإن كان هؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} [الرعد 13] وقال تعالى أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ {34} وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ {35} [الشورى 34-35]
الوجه الثاني أن قوله من ينفي الجوهر يقول إن كل ما كان يشار إليه بحسب الحس بأنه هاهنا أو هناك فلابد لأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسمًا إنما يريد هؤلاء بكونه منقسمًا أنه يمكن أن يتميز في نفسه بعضه عن بعض أو يتميز منه شيء عن شيء أو العقل يميز منه شيئًا من شيء وليس لهذا التميز حد يُوقَفُ عنده لا يقولون إن فيه انقسامًا غير هذا بل يقولون إنه واحد في نفسه كما أنه واحد في الحس ويقولون إن الجسم منقسم إلى بسيط وإلى مركب وأما مثبتوه فلهم قولان أحدهما أنه أيضًا واحد في نفسه وفي الحس ولكنه قسمته تنتهي إلى حد والثاني أن
فيه أجزاء موجودة فالمشار إليه بحسب الحس لايفضي إلى الأمرين جميعًا بل على أنه إن كان منقسمًا كما ذكر لم يفض إلى شيئين بل غايته أن يفضي إلى ما ذكره من التركيب الذي تقدم الكلام عليه وإن لم يكن منقسمًا وذلك عنده لايكون إلا على مثبتة الجوهر الفرد أفضى إلى أن يكون في غاية الحقارة وهذا الجوهر الفرد إما أن يكون منتفيًا في نفس الأمر وإما أن يكون ثابتًا فلا يقول العاقل إن رب العالمين بقدره فلم يبق ما يقال إلا ما ذكره من الانقسام والتركيب وقد تقدم الكلام عليه وثبت أنه لا يفضي إلى هذين الأمرين جميعًا بل إنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط لكن يفضي إلى هذا على تقدير وإلى هذا على تقدير آخر فظهر أن كونه يشار إليه بالحس لا يفضي إلى الأمرين اللذين ذكرهما وإنما يفضي إن أفضى إلى أحدهما فقط الوجه الثالث السؤال الذي أورده وهو أنه لم لا يجوز أن
يكون غير منقسم ولا يكون بقدرالجوهر الفرد بل يكون واحدًا عظيمًا منزهًا عن التركيب والتأليف والانقسام وهذا ليس قول من ذكره من الكرامية فقط بل إذا كان هو قول من يقول إنه فوق العرش وهوجسم فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس بجسم بطريق الأولى والأحرى فإن نفي التركيب والانقسام على القول بنفي الجسم أظهر من نفيه على القول بثبوت الجسم فإذًا على ما ذكره هذا السؤال يورده على كل من يقول إنه فوق العرش ويقول مع ذلك إنه ليس بجسم وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وطوائف لا يحصون من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم بل قد ذكر الأشعري أن هذا قول أهل السنة وأصحاب الحديث فقال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه
الأشياء وأنه على العرش وقد تقدم قوله في ذلك وقول غيره وهؤلاء طوائف عظيمة وهم أجلّ قدرًا عند المسلمين ممن قال إنه ليس على العرش فإن نفاة كونه على العرش لا يعرف منهم إلا من هو مأبون في عقله ودينه عند الأمة وإن كان قد تاب من ذلك بل غالبهم أو عامتهم حصل منهم نوع ردة عن الإسلام وإن كان منهم من عاد إلى الإسلام كما ارتد عنه قديمًا شيخهم الأول جهم بن صفوان وبقي أربعين يومًا شاكًّا في ربه
لا يقر بوجوده ولا يعبده وهذه ردة باتفاق المسلمين وكذلك ارتد هذا الرازي حين أمر بالشرك وعبادة الكواكب والأصنام وصنف في ذلك كتابه المشهور وله غير ذلك بل من هو أجل منه من هؤلاء بقي مدة شاكًّا في ربه غير مقر بوجوده حتى آمن بعد ذلك وهذا كثير غالب فيهم ولاريب أن هذا أبعد العالمين عن العقل والدين فإذا كان هؤلاء يناظرون ويخاطبون ويستعد لرد قولهم الباطل لما احتيج إلى ذلك فالذين هم أولى بالعقل والدين منهم أولى منهم بذلك ونحن نورد من كلامهم ما تبين به أن جانبهم أقوى من جانب النفاة وليس لنا غرض في تقرير ما جمعوه من النفي والإثبات في هذا المقام بل نبين أنهم في ذلك أحسن حالاً من نفاة أنه على العرش فيما جمعوه من النفي والإثبات وقد أجاب
هؤلاء عما ألزمهم به النفاة من التجسيم الذي هو التركيب والانقسام كقول القاضي أبي بكر فإن قيل فما الدليل على أن لله وجهًا ويدًا قيل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن 27] وقوله مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] فأثبت لنفسه وجهًا ويدًا فإن
فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لاتعقلون وجهًا ويدًا إلا جارحة قلنا لا يجب هذا كمالا يجب إذا لم يعقل حيًّا عالمًا قادرًا إلا جسمًا أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله ولا يجب في كل شيء كان قائماً بنفسه أن يكون
جوهرًا لأنا وإياكم لم نجد قائمًا بنفسه في شاهدنا إلا كذلك قال وكذلك الجواب لهم إن قالوا فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضًا واعتلوا بالوجود فإن قال قائل أتقولون إنه في كل مكان قيل له معاذ الله بل هو مستوٍ على عرشه كما أخبر في كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ {16}
[الملك 16] قال ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله وقال أبو الحسن الأشعري يقال لهم ما أنكرتم أن يكون الله عنى بقوله بِديَّ يدين ليستا نعمتين فإن قالوا
لأن اليدين إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة فإن قالوا رجعنا إلى الشاهد وإلى ما نجد فيما بيننا مخلوقًا فوجدنا ذلك إذا لم يكن نعمة في الشاهد لم يكن إلا جارحة قيل لهم إن كان رجوعكم إلى الشاهد وعليه عملتم وبه قضيتم على الله عز وجل فكذلك لم تجدوا حيًّا من الخلق إلا جسمًا ولحمًا ودمًا فاقضوا بذلك على ربكم تعالى وإلا كنتم لقولكم تاركين ولاعْتِلَالِكُمْ ناقضين وإن أثبتم حيًّا
لا كالأحياء فلم أنكرتم أن تكون اليدان التي خبر الله عنْهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي وكذلك يقال لهم لم تجدوا حكيمًا قديرًا ليس كالإنسان وخالفتم الشاهد فيه فقد نقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد الوجه الرابع قوله عن المنازع لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى وحده منزه عن التأليف والتركيب ومع كونه كذلك فإنه يكون عظيمًا قوله العظيم يجب أن يكون منقسمًا وذلك ينافي
كونه واحدًا قلنا سلمنا أن العظيم يجب أن يكون منقسمًا في الشاهد فلم قلتم إنه يجب أن يكون في الغائب كذلك فإن قياس الغائب على الشاهد من غير جامع باطل والجواب عن الأول أن نقول إنه إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل هذا بناء على البرهان القطعي وذلك لأنا إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل فإن حصل فوقها شيء آخر كان ذلك الفوقاني مغايرًا له إذ لو جاز أن يقال إن هذا المشار إليه عينه لا غيره جاز أن يقال هذا الجزء عين ذلك الجزء فيفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد
يقال له هؤلاء قد يقولون لا هو عينه ولا هو غيره كما عرف من أصولهم أن غيرالشيء ما جاز مفارقته له وأن صفة الموصوف وبعض الكل لا هو هو ولا هو غيره فطائفة هذا المؤسس هم ممن يقولون بذلك وحينئذ فلا يلزم إذا لم يكن عينه أن يكون مغايرًا له فلا يفضي إلى تجويز أن الجبل شيء واحد وإذا جاز أن يقولوا إن هذا الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم جاز أيضًا أن يقال إن الذي له قَدْر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه فلا يكون المشار إليه هو عين الآخر فإن قيل فهذا يقتضي أن يكون كل جسم غير مركب ولا منقسم والغرض في هذا السؤال وخلافه فإن هذا السؤال فرق فيه بين العظيم الشاهد والعظيم الغائب وان الشاهد منقسم بخلاف الغائب
قيل هذا الجواب هو مبني على أن غير الشيء ما جاز مفارقته له وكل مخلوق فإن الله سبحانه قادر على أن يفرق بعضه عن بعض وإذا جاز مفارقة بعضه لبعض جاز أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أن علمه وقدرته لما كان قيام هبه جائزًا لا واجبًا كان عرضًا أي عارضًا للموصوف لا لازمًا له والرب تعالى لا يجوز أن يفارقه شيء من صفاته الذاتية ولا يجوز أن يتفرق بل هو أحد صمد إذا كان كذلك لم يلزم عند هؤلاء أن يكون بعضه مغايرًا لبعض كما أصلوه الوجه الخامس أنهم قد ألزموا المنازع مثلما ذكره وقالوا إذا كان حيًّا عالمًا قادرًا ولم يعقل في الشاهد من يكون كذلك إلا جسمًا منقسمًا مركبًا وقد أثبته المنازع حيًّا عالمًا قادرًا ليس بجسم منقسم مركب فكذلك يجوز أن يكون إذا كان عظيمًا وكبيرًا وعليًّا ولم يعقل في الشاهد عظيم وكبير وعليٌّ إلا
ما هو جسم مركب منقسم لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا إلا إذا كان وجب أن يكون كل حي عليم قدير جسمًا مركبًا منقسمًا وكذلك يقولون لمن يقول إن حياته وعلمه وقدرته أعراض وكذلك يقول هؤلاء لمن يسلم إثبات الصفات فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص ولم يكن عندك عرضًا فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته لم يجب أن يكون جسمًا مركبًا منقسمًا ولا فرق بين البابين بحال فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم ومن القائم بغيره أنه عرض وأن القائم بنفسه لابد أن يتميز منه شيء عن شيء والقائم بغيره لابد أن يحتاج إلى محله فإذا أثبت قائمًا بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه في ذلك فكذلك لزمه أن يثبت قائمًا بنفسه يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم وجماع الأمر أنه سبحانه قائم بنفسه متميز عن غيره وله أسماء وهو موصوف بصفات فإن كان كونه عظيمًا وكبيرًا موجبًا لأن يكون كغيره من العظماء الكبراء في وجوب الانقسام
الممتنع عليه فكذلك كونه حيًّا عالمًا قادرًا وله حياة وعلم وقدرة وسنتكلم على قوله إن هذا ليس من باب قياس الشاهد على الغائب وأما ما ذكره من التقسيم فيقال له في الوجه السادس أن ما ذكرته من التقسيم يَرِدُ نظيره في كل ما يثبت للرب فإنه يقال إذا أشرناإلى صفة أو معنى أو حكم كعلمه وقدرته أو عالميته أو قادريته أو وجوبه ووجوده أو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً ونحو ذلك فإما أن تكون الصفة أو المعنى أو الحكم الآخر هو إياه أو هو غيره فإن كان هو إياه لزم أن يكون كونه حيًّا هو كونه عالمًا وكونه عالمًا هو كونه قادرًا وكونه موجودًا هو كونه فاعلاً وكونه فاعلاً هو كونه عاقلاً ومعقولاً وعقلاً وهذا يفضي إلى تجويز جعل المعاني المختلفة معنى واحدًا وأن يكون كل عرض وصفة قامت بموصوف صفة واحدة وهذا شك في البديهيات فهذا نظير ما ألزموه للمنازع فإنه يجب الاعتراف بثبوت معنيين ليس المفهوم من أحدهما هو
المفهوم الآخر وهذا قد قررناه فيما تقدم فإن كان ثبوت هذه المعاني يستلزم التركيب والانقسام كان ذلك لازمًا على كل تقدير وإن لم يكن مستلزمًا للتركيب والانقسام لم يكن ما ذكره مستلزمًا للتركيب والانقسام فإن مدار الأمر على ثبوت شيئين ليس أحدهما هو الآخر وهذا موجود في الموضعين وهذا يتقرر بالوجه السابع وهو أن يقال المراد بالغيرين إما أن يكون ما يجوز وجود أحدهما دون الآخر أو ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فإن كان المراد بالغيرين هو الأول لم يجب أن يكون ما فوق المشار إليه غيره إلا إذا جاز وجود أحدهما دون الآخر وهذا ممتنع في حق الله تعالى بالاتفاق وبأنه واجب الوجود بنفسه على ما هو عليه كما هو مقرر في موضعه ثم قد يقال في سائر المعاني إنه يجوز وجود أحدهما دون
الآخر فيجوز حصول الوجود دون الوجوب أو دون الفاعلية أو دون العلم والعناية ودون كونه حيًّا عالمًا قادرًا ونحو ذلك وإن كان المراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر كالإحساس بأحدهما دون الآخر كما ذكر من جَوَّزَ الإشارة إلى نقطة دون ما فوقها فيقال لا ريب في جواز العلم ببعض المعاني الثابتة لله دون الآخر كماقد يعلم وجوده دون وجوبه ويعلم وجوبه دون كونه فاعلاً ويعلم ذلك دون العلم بكونه حيًّا أو عالمًا أو قادرًا أو غير ذلك وإذا كانت المغايرة ثابتة بهذا المعنى على كل تقدير وعند كل أحد ولا يصح وجود موجود إلا بها وإن كان واحدًا محضًا كان بعد هذا تسمية ذلك تركيبًا أو تأليفًا أو غير تركيب ولا تأليف نزاعًا لفظيًّا لايقدح في المقصود الوجه الثامن أن يقال اصطلاح هؤلاء أجود فإنه إذا ثبت أن الموجودات تنقسم إلى مفرد ومؤلف أو إلى بسيط ومركب أو إلى واحد وعدد علم أن في الموجودات ما ليس بمركب ولا مؤلف ولا عدد وهذه المعاني لا يخلو منها شيء من الموجودات فعلم أن هذه المعاني لا تنافي كون الشيء واحدًا ومفردًا فيما إذا كان مخلوقًا فكيف ينافي كون الخالق واحدًا
فردًا غير مركب ولا مؤلف فهذا الاعتبار المعروف الذي فطر الله عليه عباده يوضح هذا أنا قد قدمنا أن اسمه الأحد ينفي أن يكون له مِثل في شيء من الأشياء فهوينفي التشبيه الباطل واسمه الصمد ينفي أن يجوز عليه التفرق والانقسام وما في ذلك من التركيب والتجسيد وذلك لأنه سبحانه وصف نفسه بالصمدية كما وصف بالأحدية وهو سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] في جميع صفاته بل هو كامل في جميع نعوته كما لا يشبهه فيها شيء فهو كامل الصمدية كما أنه كامل الأحدية والواحد من الخلق قد يوصف بأنه واحد كما قال
وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً [النساء 11] وكما في ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً {11} [المدثر 11] ويوصف بالأحد مقيدًا أو مطلقًا كقوله فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف 78] وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى [النحل 58] وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ {4} [الإخلاص 4] ويوصف أيضًا بالصمد وكما قال يحيى بن أبي كثير الملائكة صمد والآدميون جوف وكما قال الشاعر
أَلَا بَكَّرَ النَّاعي بخير بني أشد بعمرو بن مسعودٍ وبالسيدِ الصمد وكما قال فأنت السيِّدُ الصَّمَدُ
وكذلك لما في العبد من معنى الوحدة ومعنى الصمدية مع أنه جسم من الأجسام فعلم أن كون الموجود جسمًا لا يمنع أن يكون واحدًا وأن يكون أحد الأجسام وأن يكون صمدًا مع أن كونه جسمًا لا يمنع أن يكون حيًّا عالمًا قادرًا لكن العبد ليس له الكمال الذي يستحقه الله في شيء من صفاته ولاقريب من ذلك فالله تعالى إذا وصف أنه واحد صمد عالم قادر كان في ذلك على غاية الكمال الذي لا يماثله في شيء منه شيء من الأشياء لكن إذا كان ما ذكروه من المعاني التي يجعلونها كثرة وعددًا وتركيبًا ثابتة لكل موجود وذلك لا يمنع أن يكون المخلوق واحدًا فكيف يمتنع ذلك أن يكون الإله الذي ليس كمثله شيء أحدًا وذلك يظهر بالوجه التاسع وهو أن هذه المعاني التي يعلم
القلب أن أحدها ليس هو الآخر أمر لابد منه كما قد علم على كل تقدير ونفي هذه نفي لكل موجود وهو غاية السفسطة ونهايتها وذلك يجمع كل كفر وضلال ويخالف كل حس وعقل فهذا التميز إن أوجب أن تكون الحقيقة في نفسها فيها نوع من التميز لم يكن هذا منافيًا لما هو الواجب والواقع من الوحدانية فإن ذلك إذا لم ينف أن يكون كثير من المخلوقات واحدًا فأن لا ينفي ذلك في الخالق أولى وأحرى مع أن أحديته لها من الخصائص ما لا يجوز مثله لشيء من المخلوقات فإنه لا مثل له في شيء من الأشياء وأما غيره فله الأمثال قال الله تعالى وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {49} [الذاريات 49] قال فتعلمون أن خالق الأزواج واحد وإن قيل كما يقوله بعض الناس إن هذا الامتياز
والتعدد الذهني لا يوجب أن يكون كذلك في الخارج وجعلوا هذا مثل الاتحاد الذي في المعاني الكلية فإنه كما أن الذهن يدرك إنسانية واحدة وجسمًا واحدًا كليًّا عامًّا أو مطلقًا يطابق الأفراد الموجودة في الخارج مع أنه ليس في الخارج شيء إلا موجود بعينه لا يوجد فيها ما هو كلي عام ولكن لما بين الحقائق من التشابه والتماثل يوجد في هذا نظير ما يوجد في هذا فهو باعتبار النوع لا باعتبار العين بل هو نظيره باعتبار العين فإذا كان هذا التشبيه والتمثيل الموجود في الخارج أوجب للذهن إدراك معنى عام كلي يجمع الأمرين وإن لم يكن في الخارج عامًّا كليًّا فكذلك ما يوجد في العين الواحدة مما يظن أنه أجزاء كم وكيف قد يقال للذهن هو الذي يفرق تلك ويميز بعضها عن بعض وإلا فهي في
نفسها واحدة لا تعدد فيها ولا تكثر ولا تركيب فالذهن هو الذي يأخذ الشيء الواحد فيفصله ويركبه بعد التفصيل كما أنه هو الذي يأخذ الشيئين فيمثل أحدهما بالآخر ويجعلهما واحدًا بعد التمثيل فما يذكر من التشبيه والتمثيل الذي يعود إلى معنى عام كلي يشتركان فيه وما يذكر من الأجزاء والصفات الذي يعود إلى معان تتميز في الذهن فيركبها ويؤلفها هو الذي عليه مدار باب التشبيه والتمثيل وباب التجسيم الذي هو التركيب وفي أحدهما يجعل الذهن العدد واحدًا وفي الآخر يجعل الواحد عددًا لكن باعتبارين صحيحين لا يخالف ما هو عليه الحقيقة في نفس الآخر لهذا تغلط الأذهان هنا كثيرًا لأن بين ما في الأذهان وما في الأعيان مناسبة ومطابقة وهو من وجه مطابقة العلم للمعلوم ومخالفة من وجه وهوأن ما في النفس من العلم ليس مساويًا للحقيقة الخارجة فلأجل ما بينهما
من الائتلاف والاختلاف كثر بين الناس الائتلاف والاختلاف ومن فهم ما يجتمعان فيه ويفترقان زاحت عنه الشبهات في هذه المحارات والغرض في هذا الوجه الذي يقال في مواقع الإجماع بين الخلائق التي لابد من إثبات شيء منها لكل عاقل في كل موجود يقال في مواقع النزاع بين مثبتة الصفات ونفاتها ولهذا يقال ما من أحد ينفي صفة من الصفات التي وردت بها النصوص أو يتأولها على خلاف مفهومها فرارًا من محذور ينفيه إلا ويلزمه فيما أثبته نظير مافر منه فيما نفاه فسبحان من لا ملجأ منه إلا إليه اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ونعوذ بك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وهذا القدر وإن كان فيه رد على الطائفتين فيما نفته بغير حق فلا يضر في هذا المقام فإن المقصود هنا حاصل به وهو أن هؤلاء المثبتة لعلو الله على عرشه مع نفيهم ما ينفونه يلزمون نفاة العلو على العرش بأعظم مما يلزمونهم به الوجه العاشر قوله أن نقول إذا كان عظيمًا فلابد وأن يكون منقسمًا وليس هذا من باب قياس الغائب على الشاهد بل بناء على البرهان
القطعي وهو ما ذكره من التقسيم فيقال له كل برهان قطعي يستعملونه في حق الله تعالى فلابد وان يتضمن نوعًا من قياس الغائب على الشاهد فإنهم إنما يمكنهم استعمال القياس الشمولي الذي هو القياس
المنطقي الذي لابد فيه من قضية كلية سواء كانت القضية جزئية حملية أو كانت شرطية متصلة تلازمية أو كانت شرطية منفصلة عنادية تقسيمية فإنه إذا قيل الواحد لا يصدر
عنه إلا واحد وقيل لو كان يشار إليه بالحس لكان إما منقسمًا أو غير منقسم أو لو كان فوق العرش لكان إما كذا وإما كذا ولكان جسمًا أو غير ذلك فلابد في جميع ذلك من قضية كلية وهو أن كل واحد بهذه المثابة وأن كل ما كان مشارًا إليه بالحس لا يخرج عن القسمين وان كل ما كان فوق شيء فإما أن يكون كذا وكذا ولابد أن يدخلوا الله تعالى في هذه القضايا العامة الكلية ويحكمون عليه حينئذ بما يحكمون به على سائر الأفراد الداخلة في تلك القضية ويشركون بينها وبينه في ذلك ومشاركته لتلك الأفراد في ذلك الحكم المطلق والمعلق على شرط ومشابهته لها في ذلك هو القياس بعينه
ولهذا لما تنازع الناس في مسمى القياس فقيل قياس الشمول أحق بذلك من قياس التمثيل كما يقوله ابن حزم وطائفة وقيل بل قياس التمثيل أحق باسم القياس من قياس الشمول كما يقوله أبو حامد وأبو محمد المقدسي وطائفة
وقيل بل اسم القياس يتناول القسمين جميعًا حقيقة كان هذا القول أصوب فما من أحد يقيس غائبًا بشاهد إلا ولابد أن يدخلهما في معنى عام كلي كما في سائر أقيسة التمثيل وما من أحد يدخل الغائب والشاهد في قياس شمول تحت قضية كلية إلا ولابد أن يشرك بينهما ويشبه أحدهما بالآخر في ذلك فقول القائل لو كان عظيمًا مشارًا إليه لكان منقسمًا لأنا لا نعلم عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك أو لا نعقل عظيمًا مشارًا إليه إلا كذلك هو كقوله لأن كل عظيم فإذا أشرنا فيه إلى نقطة فإما أن تكون هي ما فوقها وتحتها أولا تكون هي ذلك فإنه
في الموضعين لابد أن يتصور عظيمًا مطلقًا مشارًا إليه ويُشْرك بين العظيم الشاهد المشار إليه وبين العظيم الغائب المشار إليه في ذلك لكن قوله لا يعقل أبلغ من قوله لانعلم أو لم نشهد لأن قوله لا نعلم أو لم نشهد إنما ينفي ما قد علمه وشهده دون ما لم يعلمه ويشهده بعد وقله لا يعقل ينفي أن يكون معقولاً في وقت من الأوقات ومتى لم يعقل العظيم المشار إليه إلا كذلك فالبرهان الشمولي إنما هو بناء على ما تصوره المستدل به وعَقَلَه في معنى العظيم المشار إليه فإن فرضية النقطة في ذلك العظيم المشار إليه وقوله إما أن تكون هي الأخرى أو لاتكون إنما فرض ذلك وقَدَّره فيما عقله وعلمه فارتسم في ذهنه وهو الذي يعقله من معنى العظيم المشار إليه فإن جاز أن يثبت الغائب على
خلاف ما يعقل بطل هذا البرهان وكان لمنازعه أن يُثبت واحدًا عظيمًا مشارًا إليه منزهًا عن التركيب وإن كان ذلك على خلاف ما يعقل من معنى العظيم المشار إليه وإن كان لا يثبت الغائب إلا على ما يعقل بطلت مقدمة الكتاب وبطل قوله إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه وبإثبات موجودين ليس أحدهما متصل بالآخر ولا منفصلاً عنه وهذا كلام في غاية الإنصاف لمن فهمه فإنا لم نقل إن هذا البرهان باطل لكن قلنا صحة مثل هذا البرهان يستلزم صحة مذهب الذي يقول إنه خارج العالم ويمتنع وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن كان البرهان صحيحًا صح قوله إنه فوق العرش وإن كان البرهان باطلاً لم يدل على أنه ليس فوق العرش
وهذا يتقرر بالوجه الحادي عشر وهو أن يقال ما قاله المنازع في مقدمة الكتاب مثل قوله الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى ومنهجًا آخر وعقلاً آخر بخلاف العقل الذي اهتدى به إلى معرفة الجسمانيات وتقريره لما ذكره عن معلم الصابئة المبدلين أرسطو حيث قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى
فيقال له قولك إذا أشرنا إلى نقطة لا تنقسم فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أولا يحصل هذا هو العقل الذي يهتدي به إلى معرفة الجسمانيات فإن الكلام في النقطة والخط وما يتبع ذلك من علم الهندسة وهو متعلق بمقادير الأجسام فإن كان مثل هذا الدليل حقًّا في أمر الربوبية بطلت تلك المقدمة التي قررت فيها أنه لا ينظر في الأمور الإلهية بالعقل الذي به تعرف الجسمانيات وإذا بطلت صح قول منازعك أن وجود موجود لا داخل العالم ولاخارجه ممتنع ومتى بطلت كان قول منازعك معلومًا بالبديهة والفطرة الضرورية التي لا معارض لها حيث لم يعلم فسادها إلا إذا بطل حكم العقل الذي به تعرف الجسمانيات في أمر الربوبية وإذا كان هذا الدليل لما أنه متعلق بالجسمانيات لا يجوز الاستدلال بمثله في أمر الربوبية فقد بطل هذا الدليل ولم يكن
لك طريق إلى إفساد قول من يقول إنه فوق العالم وفوق العرش وإنه مع ذلك ليس بمركب ولا مؤلف أو يقول ليس بجسم كما ذكرنا القولين فيما تقدم يوضح ذلك الوجه الثاني عشر هو أن علوه وكونه فوق العرش هو صفة من صفاته سبحانه وتعالى والعلم والقول في صفات الموصوف يتبع العلم والقول في ذاته فإن كان مثل هذا الدليل حجة في صفاته نفيًا وإثباتًا كان حجة مثل حجة في ذاته نفيًا وإثباتًا لأن العلم بالصفة دون العلم بالموصوف محال فإذا قال لو كان فوق العرش لكان منقسمًا مركبًا مؤلفًا فإنما هو حكم على ذاته بأنها لا تكون فوق العرش إلا إذا كانت منقسمة مركبة مؤلفة والعلم بذلك ليس أظهر في العقل من العلم بأنه إذا كان موجودًا لم يكن إلا داخل العالم
أو خارجه فإن جميع ما ذكره من الحجج في معارضة قولهم إذا كان موجودًا إما أن يكون داخل العالم وإما أن يكون خارجه هو بعينه يقال في قوله إذا كان فوق العرش مشارًا إليه فإما أن يكون منقسمًا وإما أن يكون حقيرًا بل تلك يقال فيها إنا نعلم بالاضطرار أنه فوق العالم ونعلم بالاضطرار أنه يمتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه فهاتان قضيتان معينتان ونعلم بالاضطرار أن الموجودين فإما أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر بحيث هو كالعرض في الجسم وإما أن يكون مباينًا عنه ونعلم بالاضطرار أن وجود موجود لا يكون داخلاً في الآخر ولا خارجًا عنه محال فهذان علمان عامان مطلقان فإن جاز دفع هذه بأن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من
الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال فقول القائل إذا كان فوق العرش فإما أن يكون منقسمًا مركبًا وإما أن يكون بقدر الجوهر الفرد أولى بالدفع أن يقال حقيقة الرب على خلاف ما يعقل من الحقائق وأمره ثابت على خلاف حكم الحس والخيال وكون الشيء الذي فوق غيره والذي يشار إليه بالحس لابد أن يكون منقسمًا أو حقيرًا هو من حكم الحس والخيال قطعًا يقرر ذلك الوجه الثالث عشر وهو أنك وسائر الصفاتية تثبتون رؤية الرب بالأبصار كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم إنك وطائفة معك تقولون إنه يرى لا في جهة ولا مقابلاً للرائي ولا فوقه ولا في شيء من جهاته الست وجمهور عقلاء بني آدم من مثبتة الصفاتية ونفاتها يقولون إن فساد هذا معلوم بالبديهة والحس ومن المعلوم أن كونه فوق
العرش غير منقسم ولا حقير أظهر للعقل من كونه مرئيًّا بالأبصار لا في شيء من الجهات الست فإن هذا مبني على أصلين كلاهما تدفعه بديهة العقل والفطرة أحدهما إثبات موجود لا في شيء من الجهات ولا داخل العالم ولا خارجه ولهذا كان عامة سليمي الفطرة على إنكار ذلك والثاني إثبات رؤية هذا بالأبصار فإن هذا يخالفك فيه من وافقك على الأول فإن كونه موجودً أيسر من كونه مرئيًّا فإذا كنت تجوز رؤية شيء بالأبصار لا مقابل للرائي ولا في شيء من جهاته الست فكيف تنكر وجود موجود فوق العالم وليس بمركب ولا بجزء حقير وهو إنما فيه إثبات وجوده على خلاف الموجود المعتاد من بعض الوجوه وذلك فيه إثباته على خلاف الموجود المعتاد من وجوه أعظم من ذلك ودليل ذلك أن جميع فطر بني آدم السليمة تنكر ذلك أعظم
من إنكار هذا وأن المخالفين لك في ذلك أعظم من المخالفين لك في هذا فإن كون الرب فوق العالم اظهر في فطر الأولين والآخرين من كونه مرئيًّا بل العلم بالرؤية عند كثير من المحققين إنما هو سعي محض أما العلم بأنه فوق العالم فإنه فطري بديهي معلوم بالأدلة العقلية وأما دلالة النصوص عليه فلا يحصيها إلا الله وما وقع في هذا من الغلط يكشفه الوجه الرابع عشر هو أن معرفة القلوب وإقرارها بفطرة الله التي فطرها عليها أن ربها فوق العالم ودلالة الكتاب والسنة على ذلك وظهور ذلك في خاصة الأمة وعامتها وكلام السلف في ذلك أعظم من كونه تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة أو أن رؤيته بالأبصار جائزة ويَشْهد لهذا أن الجهمية أول ما ظهروا في الإسلام في أوائل المائة الثانية وكان حقيقة قولهم في الباطن تعطيل هذه الصفات كلها كما ذكر ذلك الأئمة لايصفونه إلا بالسلوب المحضة التي لا تنطبق إلا على المعدوم وقد ذكر هذا
المؤسس أن جهمًا ينفي الأسماء كلها أن تكون معانيها ثابتة لله تعالى وكانوا في الباطن ينكرون أن يرى أو أن يتكلم بالقرآن أو غيره أو يكون فوق العرش أو أن يكون موصوفًا بالصفات التي جاءت بها الكتب وعُلمت بدليل من الدلائل العقلية وغيرها لكن ما كانوا يظهرون من قولهم للناس إلا ما هو
أبعد عن أن يكون معروفًا مستيقنًا من الدين عند العامة والخاصة وأقرب إلى أن يكون فيه شبهة ولهم فيه حجة ويكونون فيه أقل مخالفة لما يعلمه الناس من الحجج الفطرية والشرعية والقياسية وغير ذلك فهذا شأن كل من أراد أن يُظهر خلاف ما عليه أمة من الأمم من الحق إنما يأتيهم بالأسهل الأقرب إلى موافقتهم فإن شياطين الإنس والجن لا يأتون ابتداء ينقضون الأصول العظيمة الظاهرة فإنهم لا يتمكنون ومما عليه العلماء أن مبدأ الرفض كان من الزنادقة
المنافقين ومبدأ التَّجهم كان من الزنادقة المنافقين بخلاف رأي الخوارج والقدرية فإنه إنما كان من قوم فيهم إيمان لكن جهلوا وضلوا ولهذا لما نبغت القرامطة الباطنية وهم يتظاهرون بالتجهم والرفض جميعًا وهم في الباطن من أعظم بني آدم كفرًا وإلحادًا حتى صار شعارهم الملاحدة عند الخاص والعام وهم كافرون بما جاءت به الرسل مطلقًا ومن أعظم الناس منافقة لجميع الناس من أهل الملل المسلمين واليهود
والنصارى وغير أهل الملل وضعوا الرأي الذي لهم والتدبير على سبع درجات سموا آخرها البلاغ الأكبر والناموس الأعظم وكان من وصيتهم لدعاتهم أن المسلمين إذا أتيتهم فلا تأت هؤلاء الذين يقولون الكتاب والسنة فإنهم صعاب عليك لا يستجيبون لك ولكن ائتهم من جهة التشيع فأظهر الموالاة لآل محمد والتعظيم لهم والانتصار لهم والمعاداة لمن ظلمهم واذكر من ظلم الأولين لهم ما أمكن فإن ذلك يوجب أن يستجيب لك خلق عظيم وبذلك يمكنك القدح في دينهم أخيرًا ثم ذكر درجات دعوته درجة
درجة كيف تُدْرِجُ الناس فيها بحسب استعدادهم وموافقتهم له بما يطول وصفه هنا
وإنما الغرض التنبيه على أن دعاة الباطل المخالفين لما جاءت به الرسل يتدرجون من الأسهل والأقرب إلى موافقة الناس إلى أن ينتهوا إلى هدم الدين وهذا مما يفعله بعض أهل الحق أيضًا في دعوة الناس إلى الحق شيئًا بعد شيء بحسب ما تقتضيه الشريعة وما يناسب حاله وحال أصحابه
وإذا كان كذلك فالجهمية الذين كان باطن أمرهم السلب والتعطيل لما نبغوا لم يكونوا يظهرون للناس إلا ما هو أقل إنكارًا عليهم فأظهروا القول بأن القرآن مخلوق وأظهروا القول بأن الله لايرى وكانت مسألة القرآن عندهم أقوى ولهذا أفسدوا من أفسدوه من ولاة الأمور في إمارة أبي العباس الملقب بالمأمون وأخيه أبي إسحاق المعتصم
والواثق جعلوا هذه المسألة يمتحنون بها الناس
وأظهروا أن مقصودهم إنما هو توحيد الله تعالى وحده لأنه هو الخالق وكل ما سواه مخلوق وأن من جعل شيئًا ليس هو الله تعالى وقال إنه غير مخلوق فقد أشرك وقال بقول النصارى ونحو ذلك فصار كثير ممن لم يعرف حقيقة أمرهم يظن أن هذا من الدين ومن تمام التوحيد فضلوا وأضلوا وكانوا يتظاهرون بأن الله لا يرى لكن لم يجعلوا هذه المسألة المحنة لأنه لا يظهر فيها من شبهة التوحيد العامة بما يظهر في أن كل ما سوى الله مخلوق وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقهم وان المقصود بقولهم إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول وبهذا تتعطل سائر الصفات من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءت به الكتب الإلهية وفيه أيضًا قدح في نفس الرسالة فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله فإذا قدح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحًا في رسالة المرسلين فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحًا عظيمًا
في كثير من أصلي الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله لكن كثيرًا من الناس لا يعلمون ذلك كما أن كثيرًا من الناس لا يعلمون باطن حال القرامطة لأنهم إنما يظهرون موالاة آل محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن كل مؤمن يجب عليه أن يواليهم وإن أظهروا شيئًا من التشيع الباطل الذي يوافقهم عليه الشيعة الذين ليسوا زنادقة ولا منافقين لكن فيهم جهل وهوى تلبس عليهم فيه بعض الحق كما أن هؤلاء الجهمية وافقهم بعض العلماء والأمراء في بعض ما يظهرونه من لم يكن من الزنادقة المنافقين لكن كان فيهم جهل وهوى تلبس به عليهم نفاقهم العظيم قال الله تعالى في صفة المنافقين لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا
زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر الله أن المنافقين لا يزيدون المؤمنين إلا خبالاً وإنهم يوضعون خلالهم أي يبتغون بينهم ويطلبون لهم الفتنة قال الله تعالى وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة 47] فأخبر أن في المؤمنين من يستجيب للمنافقين ويقبل منهم فإذا كان هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان استجابة بعض المؤمنين لبعض المنافقين فيما بعده أولى ولهذا استجاب لهؤلاء الزنادقة المنافقين طوائف من المؤمنين في بعض ما دعوهم إليه حتى أقاموا الفتنة وهذا موجود في الزنادقة الجهمية والزنادقة الرافضة والزنادقة الجامعة للأمرين وأعظمهم القرامطة والمتفلسفة ونحوهم فإن متقدمي الرافضة لم يكونوا جهمية بخلاف المتأخرين
منهم فإنه غلب عليهم التجهم ولهذا كانت الشيعة المتقدمون خيرًا من الخوارج الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وأما كثير من متأخري الرافضة فقد صار شرًّا من الخوارج بكثير بل فيهم من هو من أعظم الناس نفاقًا بمنزلة المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفوقهم أو دونهم ولهذا قال
البخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق الأفعال ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهودي والنصراني ولايسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم قال وقال عبد الرحمن بن مهدي هما ملتان فاحذروهم الجهمية والرافضة إذا عرف ذلك فالجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق وأظهروا أن الله لا يرى في الآخرة ولم يكونوا يظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش وأنه لا داخل العالم ولا خارجه وإنما كان العلماء يعلمون هذا منهم بالاستدلال والتوسم كما يعلم المنافقون في لحن القول قال
الله تعالى وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد 30] فأقسم سبحانه وتعالى أن المنافقين لتعرفنهم في لحن القول وهذا كما قال حماد بن زيد الإمام الذي هو من أعظم أئمة الدين القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله وقال أيضًا سليمان بن حرب سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عباد بن العوام الواسطي كلمت بشر المريسي
وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء وقال عبد الرحمن بن مهدي ليس في أصحاب الهواء شر من أصحاب جهم يَدُورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا وقال أيضًا أصحاب جهم يريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا
وقال عاصم بن علي ناظرت جهميًّا فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء ربًا وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدًا أكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبو جاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهمًا فلم يثبت أن في السماء إلهًا هكذا وجدت هذا عنه في كتاب خلق الأفعال للبخاري والأول رواه ابن أبي حاتم عن عاصم بن علي بن عاصم في كتاب
الرد على الجهمية وكان إسماعيل بن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحدًا يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة والله لقد فررت إلى اليمن حين تكلم أبو العباس ببغداد بهذا فرارًا من هذا الكلام
وقال وكيع بن الجراح من كذب بحديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله
إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فهو جهمي فاحذروه قال وكيع أيضًا لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل وقال الحسن بن موسى الأشيب وذكر الجهمية فنال
منهم ثم قال أُدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له سمعلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك
فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية الجهمي إذا غلا قال ليس ثم شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هم اثنان خالق خير وخالق شر فضرب عنقه وصلبه ومثل هذا كثير من كلام السلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية وخلق القرآن ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك أن الله ليس على العرش ويجعلون هذا منتهى قولهم وأن ذلك تعطيل للصانع وجحود للخالق إذ كانوا لا يتظاهرون بذلك بين المؤمنين كما كانوا يظهرون مسألة الكلام والرؤية لأنه قد استقر في قلوب المسلمين بالفطرة الضرورية التي خلقوا عليها وبماجاءتهم به الرسل من البينات والهدى وبما اتفق عليه أهل الإيمان من ذلك مما لا يمكن الجهمية إظهار خلافه وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] فهذا يبين أن الاعتراف بأن الله فوق العالم في العقل والدين
أعظم بكثير من الاعتراف بأن الله يرى في الآخرة وأن القرآن غير مخلوق فإذا كان هؤلاء الشرذمة الذين فيهم من التجهم ما فيهم مثل الرازي وأمثاله يقرون بأن الله يرى كان إقرارهم بأن الله فوق العالم أولى وأحرى فإنه لا يَرِد على مسألة العلو سؤال إلا ويَرِد على مسألة الرؤية ما هو أعظم منه ولا يمكنهم أن يجيبوا لمن يناظرهم في مسالة الرؤية بجواب إلا أجاب من يناظرهم في مسألة العرش بخير منه فإن نفاة الرؤية قالوا إن أحد حججهم الواحد منا لايرى إلا ما يكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرائي والله يستحيل أن يكون كذلك فيستحيل أن يكون مرئيًّا لنا قالوا واحترزنا بقولنا أو لآلة الرائي عن رؤية الإنسان وجهه في المرآة أما المقدمة الأولى فهي من العلوم
الضرورية الحاصلة بالتجربة وأما المقدمة الثانية فمتفق عليها احتجوا بهذه الحجة وبحجة الموانع وهو أنه لو صحت رؤيته لوجبت رؤيته الآن لارتفاع موانع الرؤية وثبوت شروطها وهي صحة الحاسة وحضور المرئي وأن لا يكون في غاية الصغر واللطافة ويكون مقابلاً للرائي أو لآلة الرؤية ولا تكون الحجب حاصلة وزعموا أن هذه الشروط متى وجدت وجبت الرؤية وإذا انتفى بعضها امتنعت الرؤية قال الرازي وهاتان الطريقتان يعني حجة الموانع
وحجة المقابلة عليهما تعويل المعتزلة في العقليات يعني في مسألة نفي رؤية الله تعالى وقال في الجواب عن هذه الحجة من وجوه ثلاثة الأول ما بينا فيما مضى أن المقابلة ليست شرطًا لرؤيتنا لهذه الأشياء وأبطلنا ما ذكروه من دعوى الضرورة والاستدلال في هذا المقام الثاني سلمنا أن المقابلة شرط في صحة رؤيتنا لهذه الأشياء فلم قلتم إنها تكون شرطًا في صحة رؤية الله تعالى فإن رؤية الله تعالى بتقدير ثبوتها مخالفة لرؤية هذه
الأشياء فلا يلزم من اشتراط في رؤية نوع من جنس اشتراط رؤية نوع آخر من ذلك الجنس بذلك الشرط الثالث سلمنا أنه يستحيل كوننا رائين الله تعالى ولكنه لا يدل على أنه لا يرى نفسه وأنه في ذاته ليس بمرئي لا يقال ليس في الأمة أحد قال إنه يصح أن يكون مرئيًّا مع أنه يستحيل منا رؤيته فيكون مردودًا بالإجماع لأنا نقول إنا لا نسلم أن أحدًا من الأمة لم يقل بذلك فإن أصحاب المقالات قد حكوا ذلك عن جماعة وهو قد ذكر قبل في مسألة كون الله سميعًا بصيرًا من
دعوى الضرورة في هذه الأمور ومن مقابلة الدعوى بالمنع ما هو أعظم مما يكون في مسألة العرش فإن قيل هذا يبين أن مسألة العلو أظهر في الفطرة والشريعة من مسألة الرؤية فلأي شيء هؤلاء أقروا بهذه وأنكروا تلك قيل أن سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن وإنكار الرؤية ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو كما تقدم فكان الذين يناظرونهم من متكلمة إثبات الصفة كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأصحابهما فظهر من مخالفتهم لهم في هاتين المسألتين بسبب ظهور الخلاف
فيهما ما لا يظهر فيما يخفونه من المسائل ومع هذا فقد كان أولئك يخالفونهم أيضًا في إنكار أن الله فوق العرش كما تقدم ذكره من كلامهم لكن لم يأتوا في مناظرتهم بما يقطع مادة التجهم ويقلع عروقه بل سلموا لهم بعض الأصول التي بنوا عليها التجهم ومباحثهم في مسألة حدوث العالم والكلام في الأجسام والأعراض هو من الكلام الذي ذمه الأئمة والسلف حتى قال محمد بن خويز منداد أهل البدع والهواء عند مالك
وأصحابه هم أهل الكلام فكل متكلم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعريًّا كان أو غير أشعري وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل
الفاسدة وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة مالا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة ونحوهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها المعتزلة والرافضة ونحوهم فلما كان الأمر كذلك جاء بعض المتأخرين من أتباعهم فنظروا في الأصول التي وافقوا فيها الجهمية وأخذوا لوازمها وكان أبو المعالي الجويني كثير المطالعة لكتب أبي
هاشم بن أبي علي الجبائي وكان من أذكياء العالم وكان هو وأبو الحسن الأشعري كلاهما تلميذًا لأبي علي الجبائي لكن الأشعري رجع إلى مذهب الأثبات الذين يثبتون الصفات والقدر ويثبتون خروج أهل الكبائر من النار ولا يكفرون أحدًا من أهل الإيمان بذنب ولا يرون القتال في الفتنة فناقض المعتزلة في أصولهم الخمس التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة التي يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما أبو هاشم فكان على هذه الأصول مع أبيه وإٍِن
كان يخالفه في كثير من المسائل وكان أبو المعالي كثير المطالعة لكتب أبي هاشم فصار هو وغيره يقودون الأصول التي وافق قدماؤهم فيها المعتزلة فرأوا أن من لوازمها نفي أن يكون الله على العرش فتظاهروا بإنكار ذلك موافقة للمعتزلة ولم يكن الخلاف في ذلك مع المعتزلة من المسائل المشهورة لما قدمناه وأما مسألة الرؤية والقرآن فهي من شعائر المذهبين فجعلوا ينصبون الخلاف مع المعتزلة في مسألة الرؤية ويسلمون لهم نفي علو الله على
العرش وهذا عكس الواجب ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم حتى يقول قائلهم من سلم أن الله ليس في جهة وادعى مع ذلك أنه يرى فقد أضحك الناس على عقله أو نحو هذا الكلام ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم وصاروا يفزعون منهم ويجنبون عنهم ويستطيلون على إخوانهم المؤمنين وبسبب ما وقع في أهل الإيمان والسيف وأهل العلم والقلم أديلت عليهم الأعداء كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ [آل عمران 155] حتى إن بعض الأعيان الذي كان في باطنه ميل إلى الفلسفة والاعتزال ولا يتظاهر بذلك درس مسألة
الرؤية من جانب المثبتين وذكر حجتهم فيها ولا ريب أن ذلك يُظْهر من استطالة المعتزلة عليهم ما يشفي به قلبه ولهذا صار كثير من أهل العلم والحديث يصف أقوال هؤلاء بأن فيها نفاقًا وتناقضًا حيث يوافقون أهل السنة والجماعة على شيء من الحق ويخالفونهم فيما هو أولى بالحق منهم ويفسرون ما يوافقون فيه بما يحيله عن حقيقته وهذا كله لما وقع من الاشتباه عندهم في هذه المسائل ولما تعارض عندهم من الدلائل والله هو المسئول أن يغفر لجميع المؤمنين ويصلح لهم أمر الدنيا والآخرة والدين إنه على كل شيء قدير وهذا القدر الذي يوجد في هؤلاء قد يوجد من جنسه في منازعيهم من أهل الإثبات بحيث يَعْظُم اهتمامهم لما ينازعون فيه إخوانهم الذين يوافقونهم في أكثر الإثبات من أدقِّ
مسائل القرآن والصفات وغير ذلك بحيث يوالون على ذلك ويعادون عليه مع إعراضهم عمن هم أبعد من هؤلاء عن الحق والسنة حتى يفضي بكثير منهم الجهل والظلم إلى أن يحب أولئك ويثني عليهم لما يرى فيهم من نوع خير أو أنه لا يبغضهم ولا يذمهم مع أنه يبغض هؤلاء ويذمهم وهذا من جهله بحقيقة أحوال الناس ومراتب الحق عند الله ومن ظلمه حيث يكون غضبه لنفسه لما يناله من أذى هؤلاء أحيانًا أعظم من غضبه لربه فيما فعله أولئك والدين إنما يقوم بالعلم والعدل المضاد للجهل والظلم وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله والله تعالى يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين على ما يحبه ويرضاه الوجه الخامس عشر قوله واعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسعد حالاً من هؤلاء الكرامية وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض وأما هؤلاء الكرامية فإنهم زعموا أنه يشار إليه بحسب الحس وزعموا أنه غير متناه ثم زعموا أنه مع ذلك واحد لا يقبل القسمة فلا جرم صار قولهم على خلاف بديهة العقل
يقال قولك عن الحنابلة إنهم يقولون بالتأليف والتركيب ويعبرون بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض أتعني به أنهم يطلقون هذا اللفظ أم تعني به أنهم يثبتون الصفات المستلزمة لهذا المعنى فإن عنيت الأول فلم نعلم أحد من الحنابلة يطلق هذا اللفظ كله وإن كنت أنت اطلعت على أحد منهم يقول هذا اللفظ فهذا ممكن لكن يكون هؤلاء طائفة قليلة منهم والذي بلغنا من ذلك أن لفظ البعض جاء في كلام طائفة من السلف من الصحابة والتابعين وهو مذكور في كتب السنة جاء عن عبيد بن
عمير من رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه ورواه عنه حماد بن سلمة وصرح به ورواه سفيان الثوري وأظنه اختصربعضه ورواه سفبان بن عيينة فكنى عنه وكذلك
في خبر مسألة رؤية محمد ربه شيء يشبه ذلك من كلام
عكرمة عن ابن عباس ثم ذلك ليس مختصًّا بالحنابلة ولا هو فيهم أكثر منه في
غيرهم بل يوجد في الشافعية والمالكية والحنفية والصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام من الإمامية وغيرهم من يطلق من هذه الألفاظ أمورًا لا يصل إليها أحد من الحنابلة فما من نوع غلو يوجد في بعض الحنابلة إلا ويوجد في غيرهم من الطوائف ما هو أكثر منه وهذا موجود في كتب المقالات وكتب السنة وكتب الكلام وفي طوائف بني آدم المعروفين وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع وبينا سبب ذلك أن الإمام أحمد له من الكلام في أصول الدين وتقرير ما جاءت به السنة والشريعة في ذلك ما هو عليه جماعة المؤمنين وإظهار دلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك والرد على أهل الأهواء والبدع المخالفين للكتاب والسنة في ذلك أعظم مما لغيره لأنه ابتلى بذلك أكثر مما ابتلى به غيره ولأنه اتصل إليه من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم والأئمة بعدهم أعظم مما
اتصل إلى غيره فصار له من الصبر واليقين الذي جعلهما الله تعالى سببًا للإمامة في الدين بقوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24} [السجدة 24] ما جعله الله له من الإمامة في أصول الدين السّنية الشرعية ما أنعم الله به عليه وفضله به فأتباعه لا يمكنهم مع إظهار موافقتهم له من الانحراف ما يمكن غيرهم ممن لم يجد لمتبوعه من النصوص في هذا الباب ما يصده عن مخالفته ولهذا يوجد في غيرهم من الانحراف في طرفي النفي والإثبات في مسائل الصفات والقدر والوعيد والإمامة وغير ذلك أكثر مما يوجد فيهم وهذا معلوم بالاستقراء
ولهذا مازال كثير من أئمة الطوائف الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وإن كانوا في فروع الشريعة مُتَّبعين بعض أئمة المسلمين رضي الله عنهم أجمعين فإنهم يقولون نحن في الأصول أو في السنة على مذهب أحمد بن حنبل لا يقولون ذلك لاختصاص أحمد بقول لم يقله الأئمة ولا طعنًا في غيره من الأئمة بمخالفة السنة بل لأنه أظهر من السنة التي
اتفقت عليها الأئمة قبله أكثر مما أظهره غيره فظهر تأثير ذلك لوقوعه وقت الحاجة إليه وظهور المخالفين للسنة وقلة أنصار الحق وأعوانه حتى كانوا يشبهون قيامه بأمر الدين ومنعه من تحريف المبتدعين المشابهين للمرتدين بأبي بكر يوم الردة وعمر يوم
السقيفة وعثمان يوم الدار وعلي يوم
حروراء ونحو ذلك
فيما فيه تشبيه له بالخلفاء الراشدين فيما خلفت فيه الرسل وقامت فيه مقامهم وكذلك سائر أئمة الدين كل منهم يخلف الأنبياء والمرسلين بقدر ما قام به من ميراثهم وما خلفهم فيه من دعوتهم والله يرضى عن جميع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وإن كان يعني بالتركيب والتأليف واعترافهم بالأجزاء والأبعاض هو إثباتهم للصفات التي ورد بها الكتاب والسنة مثل الوجه واليدين ونحو ذلك فهذا قول جميع سلف الأمة وأئمتها وجميع المشهورين بلسان الصدق فيها من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وهو قول الصفاتية قاطبة من الكلابية والكرامية والأشعرية وقد ذكر محمد بن الهيصم في كتاب جمل الكلام له هذه المسألة وأثبت صفة الوجه
واليد فقوله عن الكرامية إنهم لا يثبتون ذلك إن أراد به بعضهم فلعله يكون وإلا فلا ريب أن فيهم من يثبت هذه الصفات الخبرية كالوجه واليد التي يسميها هو الجوارح والأبعاض ويطلقون أيضًا لفظ الجسم إما لفظًا وإما لفظًا ومعني وأما الحنبلية فلا يعرف فيهم من يطلق هذا اللفظ لكن فيهم من ينفيه وفيهم من لا ينفيه ولا يثبته وهوالذي كان عليه الإمام أحمد وسائر أئمة السنة وإن كانوا مع ذلك يثبتون ما جاءت به النصوص مما يسميه المنازعون تجسيمًا وتشبيهًا بل يقولون إثبات هذه المعاني أحق بمعنى التجسيم ممن يثبت
لفظه دون معناه وكذلك قوله عن الكرامية إنهم زعموا أنه غير متناهٍ فهذا إنما هو قول بعضهم كما تقدم ذكره لذلك وأن منهم من يقول هو متناهٍ ثم إن كلا من القولين ليس من خصائص الكرامية بل النزاع في ذلك مشهور عن غيرهم وقد ذكرنا بعض ما في ذلك من النزاع فيما ذكره الأشعري في المقالات وكذلك قولهم لا يقبل القسمة هذا اللفظ قد يطلقه طوائف منهم ومن غيرهم وقد لا يطلقه طوائف لما فيه من الإجمال والتناقض فالذي يقال على الكرامية بإثباتهم واحدًا فوق العرش لا ينقسم أو يشار إليه ولا ينقسم يقال على غيرهم ففي الطوائف الأربعة من الفقهاء كثير ممن يقول نحو ذلك وكذلك
ابن كلاب والأشعري وأئمة أصحابه يقولون نحو ذلك فإن كان كل من قال إنه فوق العرش وقال إنه ليس بجسم أو أثبت له هذه الصفات التي وردت بها النصوص كالوجه واليد وقال مع ذلك إِنه ليس بجسم يرد عليه ذلك فإنه يلزمه أنه يشار إليه بحسب الحس وأنه واحد لا ينقسم هذه القسمة التي زعمها ولهذا نجد في هذه الطوائف منازعة بعضهم لبعض في ذلك كما يوجد في أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وكذلك يوجد في أصحاب الأشعري من يتنازعون في ذلك فنفاة الجهة منهم يقولون إن أدلتهم وأئمتهم الذين يقولون إن الله تعالى فوق العرش وإِنه ليس بجسم متناقضون وكذلك
نفاة الصفات الخبرية يقولون إن مثبتيها مع نفي الجسم متناقضون ومثبتة العلو منهم والصفات الخبرية يقولون إن نفاة ذلك منهم يتناقضون حيث أثبتوا ما هو عرض في المخلوق كالعلم والقدرة والحياة قالوا وليس هو بعرض في حق الخالق ولم يثبتوا ما هو جسم في حق المخلوق كاليد والوجه ويقولون ليس بجسم في حق الخالق وكذلك أصحاب الإمام أحمد فطائفة منهم كابن عقيل وصدقة بن الحسين وأبي الفرج بن الجوزي قد يقولون إن ابن حامد والقاضي أبا يعلى
وأبا الحسن بن الزاغوني ونحوهم متناقضون حيث ينفون الجسم ويثبتون هذه الصفات وجمهورهم يقول بل هؤلاء هم المتناقضون الذين يثبتون الشيء تارة وينفونه أخرى كما هو معروف من حالهم واجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد أعظم من اجتماعهما في لوازمه وملزوماته فإن كان كل منهما في وقتين فالأول أعظم وكذلك إن كانا في وقت واحد وأماإن كان الأول في وقتين والثاني في وقت واحد فهذا أبلغ من وجه وهذا أبلغ من وجه ويقولون إن أولئك متناقضون حيث يسلمون ثبوت الصفات التي هي فينا أعراض ويمنعون ثبوت الصفات التي هي فينا أجسام الوجه السادس عشر قوله فلا جرم صار
قول الكرامية على خلاف بدهية العقل يقال هذا العقل الذي هذا على خلاف بديهته إما أن يكون حكمه وشهادته في الربوبية مقبولاً أو مردودًا فإن لم يكن مقبولاً لم يضر هؤلاء ولا غيرهم مخالفته فإنه بمنزلة الشاهد الفاسق الذي قال الله تعالى فيه إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات 6] وإن كان حكمه وشهادته مقبولاً كان هذا المنازع وموافقوه أعظم مخالفة له من هؤلاء كما قد تقدم بيان ذلك وإذا كان مخالفة قولهم لبديهة العقل أعظم من قول هؤلاء لم يجب على هؤلاء أن يرجعوا عن القول الذي هو أقل مخالفة لبديهة العقل بل يكون الواجب على هذا التقدير على الطائفتين الاعتراف بما في بديهة العقل فيعترفون جميعًا بأنه فوق
العالم ويمتنع أن يكون لا داخله ولا خارجه وحينئذ يكون مشارًا إليه بحسب الحس وحينئذ يكون فيه ما سماه تأليفًا وانقسامًا وإن لم يكن هو المعروف من التأليف والانقسام فإن المعروف من ذلك يجب تنزيه الله تعالى عنه كما نزه عنه نفسه في سورة الإخلاص كما تقدم التنبيه عليه بقوله تعالى الله الصمد فإن الصمد فيه من معنى الاجتماع والقوة والسؤدد ما ينافي الانقسام والافتراق الوجه السابع عشر أنه ورد من جهة المنازع تشبيه بالمعدوم وذلك أن النفاة كثيرًا ما يصفون أهل الإثبات بالتشبيه والتجسيم الذي هو التأليف ومن المعلوم أنهم أحق بالتشبيه الباطل حيث يشبهونه بالمعدومات والناقصات وهم يجمعون بين التمثيل والتعطيل بينما هو قول المشركين الذين هم
بربهم يعدلون وقول الكافرين الذين هم لربهم جاحدون وذلك أنهم يقولون إن كل ما هو عالم بعلم وقادر بقدرة وحي بحياة ونحو ذلك فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه متحيز والمتحيزات كلها متماثلة ويقولون كل ما هو فوق شيء فإنه من جنس واحد متماثل لأنه متحيز والمتحيزات متماثلة ويقولون كل ما له سمع وبصر فهو من جنس واحد وهو متماثل لأنه من المتحيزات التي هي متماثلة وهذا كله قول الجهمية المعتزلة وغيرهم وقد سلك الرازي ذلك في قوله إن الأجسام متماثلة لكن قصده به نفي العلو على العرش ونفي الصفات الخبرية وأما المعتزلة ونحوهم من الجهمية الذين ابتدعوا هذا القول أولاً فمقصودهم به النفي المطلق وكل ذلك بناء على أن جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا في كل ما هو موصوف به حتى إن غاليتهم من الملاحدة والجهمية يقولون كل ما يقال له حي
وعالم وقادر فهو جنس واحد متماثل هؤلاء جعلوا لله عدلاً وسميًّا وكفوًا وندًّا في كل ما له من الأسماء والصفات حتى لزم من ذلك أن يكون كل جسم عدلاً لله ومثلاً وكفوًا حتى البقة والبعوضة وأن يكون كل حي عَدْلاً لله وكفوًا وسميًّا وكل ذلك بناء على أن كل ما هو مسمى بهذه الأسماء موصوف بهذه الصفات فإنه جنس واحد متماثل وهذا من أعظم العدل بالله وجعل الأنداد لله ثم إنهم نفوا ذلك عن الله فجحدوه بالكلية وعطلوه فصاروا مشركين معطلين ولهذا جوز الاتحادية منهم عبادة كل شيء وجعلوا كل شيء عابدًا ومعبودًا وجوزوا كل شرك في العالم فجمعوا جميع ما عليه المشركون من الأقوال والأفعال فهذا تمثيلهم وعدلهم بالله وإشراكهم به وتشبيههم إياه بخلقه فيما لله من صفات الإثبات وأما عدلهم وتمثيلهم فيما يصفونه به من السلوب فهم
يعدلونه بالمعدوم تارة وبالمنقوصات أخرى فإنهم تارة يصفونه بالصفات السلبية التي لا تنطبق إلا على المعدوم فيكونون عادلين به المعدومات وقد قدمنا فيما مضى أن الله سبحانه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيًّا وأما الصفة السلبية التي لا تتضمن ثبوتًا فلا يوصف بها إلا المعدوم وبينَّا أيضًا أن كل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح لله تعالى لأن تلك الصفة لا مدح فيها بحال إذ المعدوم المحض لا يمدح بحال وما ليس فيه مدح فإن الله لا يوصف به سبحانه وتعالى بل له الأسماء الحسنى والمثل الأعلى ولما ذكرناه أيضًا فيما تقدم وأما تمثيلهم له وعدلهم إياه بالمنقوصات القبيحات من المخلوقات فقولهم إنه لا يتكلم وإن وصفوه بالكلام ظاهرًا موافقة للمؤمنين فمعناه عندهم أنه خلق كلامًا في غيره
وكذلك قولهم إنه ليس له سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ونحو ذلك وإذا كان كذلك ظهر ما ذكر من جهة المنازع فإن المنازع قلب عليهم القضية وقال إذا ألزمتمونا أن نجعله كالجوهر الفرد فأنتم جعلتموه كالمعدوم وذلك أنه لما قال إنه لا يمكن أن يكون غير منقسم ويكون في غاية الصغر لأن ذلك حقير وذلك على الله محال فقال المنازع أنتم قلتم لا يمكن الإحساس به أو الإشارة إليه بحال والذي لا يمكن الإحساس به ولا الإشارة إليه يكون كالمعدوم فيكون أشد حقارة فإذا جاز وصفكم بهذا فلم لا يجوز الأول وهو كلام قوي جدًّا والمنازع وأصحابه يعلمون صحة هذا الكلام لأنهم يقرون في مسألة الرؤية أن كل موجود يجوز أن يحس بالحواس الخمس ويلتزمون على ذلك أن الله يجوز أن يحس به
بالحواس الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس وأن مالا يحس به بالحواس الخمس لا يكون إلا معدومًا فعامة السلف والصفاتية على أن الله يمكن أن يُشْهد ويُرى ويحس به وأول من نفى إمكان إحساسه الجهم بن صفوان لما ناظره السُّمنية المشركون الوجه الثامن عشر أنه قال في الجواب أما قولهم الذي لا يُحَس ولا يُشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ قلنا كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره أماإذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة
يقال له هذه مصادرة على المطلوب فإنك أنت أثبت تنزيهه عن الحيز بهذه الحجة التي جعلت من مقدماتها أنه ليس بحقير بقدر الجوهر الفرد فقيل لك ما لا يمكن الإشارة إليه وإحساسه أحقر من الجوهر الفرد وقد وصفته بذلك فلا يكون وصفه بقدر الجوهر الفرد محالاً على أصلك فقلتَ أما كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم إذا كان له حيز ومقدار وأما إذا كان منزهًاعن الحيز والمقدار فلم يحصل بينه وبين غيره مناسبة فيقال لك الكلام إنما هو في تنزيهه عن الحيز والمقدار فأنت تنفي ذلك ومنازعك يثبته وهو محل النزاع فإذا كان جوابك مبنيًّا على محل النزاع كنت قد صادرت منازعك على المطلوب حتى جعلت المطلوب مقدمة في إثبات نفسه والمقدمة لابد أن
تكون معلومة أو مسلمة فتكون قد طلبت منه تسليم الحكم قبل الدلالة عليه وادعيت علمه قبل حصول علمه وقد صادرته عليه وطلبت منه أن يسلمه لك بلا حجة وإيضاح هذا أن العلم بكونه إذا وصفته بأنه لا يُحس ولا يُشار إليه ليس بأحقر من الجوهر الفرد إما أن يقف على العلم بكونه ليس بذي حيز ومقدار أو لا يتوقف فإن توقف عليه لم يصح هذا الجواب حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ومقدار حتى يتم الجواب عما أُورد على الحجة فإذا كان جواب الحجة لا يتم حتى يَثْبت أنه ليس بذي حيز ولا مقدار ولا يثبت ذلك حتى يتم جواب الحجة لم يكن واحدًا منهما حتى يكون الآخر قبله وذلك دور ممتنع وإن كان العلم بكونه ليس أحقر من الجوهر الفرد إذا وصف بأنه لا يحس ولا يشار إليه لا يقف على العلم بأنه ليس بذي حيز
ومقدار لم يصح هذا الجواب وهو قولك كونه موصوفًا بالحقارة إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار حتى يقال إنه أصغر من غيره بل كان الجواب أن يقال لا يلزم أن يكون أحقر من الجوهر الفرد سواء قيل إِنه ذو حيز ومقدار أو لم يقل ذلك لكنه لو قال ذلك لظهر أن كلامه باطل فإنه يعلم بالحس والضرورة أن كل ما كان ذا حيز ومقدار قيل إنه لا يحس ولا يشار إليه فإنه أصغر من الجوهر الفرد ومما يوضح الأمر في ذلك أن هذا السؤال الذي ذكره من جهة المنازع هو من باب المعارضة فإنه لما ذكر حجته على أنه ليس بذي جهة بأن ذلك يستلزم التركيب والحقارة قال له المعارض ما ذكرته من أنه لا يمكن إحساسه والإشارة إليه يستلزم أن يكون معدومًا وذلك أبلغ في الحقارة من الجوهر الفرد فقال له قولك يستلزم من الحقارة أعظم مما ألزمت به أهل الإثبات فأجاب عن المعارضة بمنع الحكم وأن صحته ملازمة لصحة قول المنازع وهذا من أفسد الأجوبة فإن المعارض يقول بل هو عندي ذو حيز ومقدار فلم قلت إنه ليس كذلك وهل النزاع إلا فيه وقولك أما إذا لم يكن ذا حيز ومقدار لم يلزم وصفه بالحقارة يقال لك من الذي سلم لك ذلك وهل النزاع إلا فيه وهذه الحجة التي ذكرتها إنما أقمتها
على نفي ذلك وهي لاتتم إلا بالجواب على المعارضة فكيف تجيب عن المعارضة المستلزمة لنقيض مذهبك بنفس مذهبك وهل هذا إلا بمنزلة أن يقدح المعترض في دليلك بأنه يستلزم نقيض مذهبه فإن قيل هو لم يجب عن المعارضة بنفس مذهبه لكن قال صحة المعارضة مبنية على نقيض مذهبه وهو لا يقول ذلك فهو يقول للمعترض مالم تثبت نقيض قولي لا تصح معارضتك وهو في هذا الباب في مقام المنع والمعترض يستدل وللمستدل الأول أن يمنعه بعض المقدمات ويجعل سند منعه أنه لا يقول بذلك فهو ذكر ذلك لإبداء سند المنع لا حجة للمنع فإن المانع المطالب بالدليل ليس عليه حجة فيقال المعترض لم يبن دليله على هذا بل ذكر أن ما لا يحس ولا يشارإليه معدوم أحقر من الجزء الذي لا يتجزأ فادعيت أن هذا إنما يلزم إذا كان منزهًا عن الحيز والمقدار فلم يلزم وصفه بالحقارة فهذا الملزوم إنما تقول إنه لازم لدليله
أن دليله مستلزم لهذا فمتى صح دليله هذا فهذا القدر ينفعه ولا يضره لأنه يكون دليله حينئذ قد دل على شيئين على أنك جعلته أحقر من الجوهر الفرد وجعلته معدومًا وأنه ذو حيز ومقدار فيدل على صحة مذهبه وعلى أن مذهبك يستلزم أن الله معدوم هذا بإقراره أن دليله يستلزم صحة ذلك وإن قلت إن دليله يتوقف على صحة هذا بمعنى أنه لم يثبت أن الله ذو حيز ومقدار لم يثبت أنه إذا كان لايحس ولا يشار إليه أنه أصغر من الجوهر الفرد فهذا لم تثبته بل ادعيته دعوى ساذجة فلا تكون قد أجبت عن المعارضة وهو المطلوب وذلك أنه لا يسلم أنا إذا علمنا أن الشيء لا يحس ولا يشار إليه لم يعلم أنه معدوم حتى يعلم قبل ذلك أنه ذو حيز ومقدار بل قد يكون العلم بأنه ذو حيز ومقدار بعد ذلك أو قبله أو معه إذا كانا متلازمين وهذا لازم على أصلك وأصل أصحابك لزومًا قويًّا فإنكم
أنتم وسائر الصفاتية تسلمون أن كل موجود فإنه يمكن أن يحس وأن الذي لا يمكن إحساسه هو المعدوم وكثير من أهل السنة والحديث يقولون بأنه يلمس أيضًا وأنتم تريدون أنه يدرك بالحواس الخمس وأنتم تثبتون هذا مثل إثبات أنه ذو حيز ومقدار ولم يكن العلم بذلك موقوفًا على العلم بأنه ذو حيز ومقدار وإذا كنت قد قلت إن كونه موصوفًا بأنه أحقر من الجوهر الفرد فإذا كان لا يحس ولا يشار إليه فقد لزمك إما أن يكون معدومًا أو يكون ذا حيز ومقدار وإذا قلت إنه يحس بطل ما ذكرته هنا من أنه لا يحس ولا يشار إليه وهذا الذي يورده المنازع حُمِّد في النظر الصحيح في المناظرة العادلة فإِنه يظهر به من تناقض منازعه وضعف
حجة ما يدفعه به عنه ويظهر به من صحة حجته ما ينفع الناظر والمناظر وهذا يتقرر بالوجه التاسع عشر وهو أن هؤلاء المنازعين له الذين ينتصر لهم المؤسس يقولون إنه تجوز رؤيته بل يجوزون كونه مدركًا بإدراك اللمس بل يجوزون كونه مدركًا بغير ذلك من الحواس مع قولهم إنه ليس فوق العرش ولا يمكن أن يكون مشارًا إليه بالحس ولا يمكن أن يحس به لا ريب أنهم متناقضون في ذلك غاية التناقض فإن من المعلوم أن إدراك اللمس به أبعد من كونه مشارًا إليه بالحس أو كونه في جهة فإن لمس الإنسان قائمًا بذاته التي هي في جهة معينة فإدراكه الشيء بلمسه يقتضي من الاتصال به والملاصقة وكونه في جهة من اللامس وغير ذلك مالا يقتضيه مجرد كونه ترفع إليه الأيدي أو الأعين فإن من المعلوم أنا نشير إلى كل شيء من الموجودات التي نراها ومع هذا فلا يمكننا أن نلمس منها إلا بعضها فإذا جاز كونه باللمس فلأن يجوز كونه مشارًا إليه باليد والعين أولى وأحرى
وكذلك كل ما يلمسه فلا يكون إلا في جهة وكثيرًا ما يكون الشيء في جهة ولا يمكننا لمسه فكيف يجوز إثبات لمسه مع منع كونه في جهة أليس هذا تناقضاً محضاً بل هذا نفي الشيء مع إثبات ما هوأبلغ منه وتحريم الشيء مع استحلال ما هو أعظم منه كما قال ابن عمر يستفتوني في دم البعوضة وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كما قال تعالى قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ [البقرة 217] وهو بمنزلة من يقول إن الله لا يرى ولكن يُصافح ويُعانق وكذلك قولهم إنه يرى وقولهم إنه يتعلق به إدراك اللمس مع قولهم لا يمكن أن يحس به تناقض ظاهر وإذا كان ذلك تناقضًا منهم ومن المعلوم أن مسألة الرؤية ثابتة بالنصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع سلف الأمة وأئمتها فتكون صحتها مستلزمة لكونه يحس وذلك مستلزم لبطلان ما
قالوه في هذه المسألة فإن قيل دليلهم العقلي في الرؤية ضعيف قيل لا نسلم أنه ضعيف ثم إن كان ضعيفًا فليس هو بأضعف مما ذكروه في هذه المسألة فإن كان أضعف ظهر تناقضهم في النفي والإثبات في هاتين المسألتين الوجه العشرون أنهم قد قرروا في هاتين المسألتين هنا وهناك أن ما لا يمكن أن يشار إليه ويحس به يكون معدومًا وقرر هناك أن كل موجود فإنه يصح أن يرى وأن يلمس فيحس به ويلمس وهو أبلغ من الإشارات الحسية إليه وأن الله يصح أن يرى وأن يتعلق به إدراك اللمس فإن كل واحد من الرؤية واللمس مشترك بين الجوهر والأعراض فيتعلق بالله تعالى وهذا يوجب أن يكون الله يمكن أن يشار إليه ويمكن أن يحس به خلاف ماذكره هنا كما تقدم وقرر هنا أن ما كان كذلك فإنه يكون ذا حيز ومقدار وأنه يلزمه أن يكون منقسمًا مركبًا الانقسام والتركيب العقلي الذي ألزم به مخالفه هنا وهذا
يقتضي أنه من لوازم أصولهم التي هم معترفون فيها بالأصل وبلازم الأصل لم يلزمهم إياه غيرهم بالدليل بل هم اعترفوا به أن يكون الله له حيز ومقدار وأنه مركب مؤلف له أجزاء وأبعاض وهذا هو الذي أنكره في هذا الموضع وليس هذا من جنس ما يلزم الرجل غيره شيئًا بالحجة لكن هذا أقر بأن الله سبحانه وتعالى موصوف بوصف وأقر في موضع آخر أنه إذا كان موصوفًا بذلك الوصف لزم أن يكون كذا وكذا فمجموع الإقرارين أقر فيهما بما ذكرناه الوجه الحادي والعشرون أنه اعترف هنا أنه يكون أشد حقارة من الجوهر الفرد وأن يكون معدومًا إذا كان ذا حيز ومقدار وقلنا إنه لا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس وقد ذكر هنا أنه لا يمكن أن يشار إِليه ولا يمكن أن يحس به فلزم أن يكون معدومًا أحقر من الجوهر الفرد ولا ريب أن هذه حقيقة قولهم وقد اعترف هو بمقدمات ذلك لكن مفرقة لم يجمعها في موضع واحد إذ لو جمعها لم يخفَ عليه وهذا شأن المبطل الوجه الثاني والعشرون أن منازعه يقول قد ثبت بالفطرة الضرورية وبالضرورة الشرعية واتفاق كل عاقل سليم
الفطرة من البرية أن رب العالمين فوق خلقه وأن من قال إنه ليس فوق السموات رب يعبد ولا هناك إله يصلى له ويسجد وإنما هناك العدم المحض فإنه جاحد لرب العالمين مالك يوم الدين فإن اعتقد أنه مقر به وهذا يقتضي كما قلت أنه ذو حيز ومقدار وكلما كان ذا حيز ومقدار وهو لا يمكن الإشارة الحسية إليه ولا يمكن الإحساس به فإنه معدوم كما اعترف به وكما
هو معروف في الفطر وهو أحقر من الجوهر الفرد بلا ريب فثبت أن قولك يستلزم أن الباري معدوم وأنه أحقر من الجوهر الفرد وهذا مما اتفق علماء السلف وأئمة الدين أن قول الجهمية أنه ليس فوق العرش ولا داخل العالم ولا خارجه يتضمن أنه معدوم لا حقيقة له ولا وجود وقد صرحوا بذلك في غير موضع وكذلك هو في جميع الفطر السليمة وإن أردت أن تلزمه عدمه من غير بناء على المقدار فيقال الوجه الثالث والعشرون أنه إذا عرض على الفطر السليمة التي لم تقلد مذهبًا تتعصب له شيء لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يشار إليه ولا يمكن أن يحس به ولا هو في شيء من الجهات الست فإن الفطرة تقضي بأن هذا لا يكون موجودًا إلا أن يكون معدومًا وهذا قبل أن يخطر بفكر الإنسان الحيز والمقدار نفيًا وإثباتًا ثم بعد ذلك إذا علم أن الموجود أو أن هذا لا يكون إلا ذا حيز ومقدار كان ذلك لازمًا آخر يقرر مذهب المنازع لهذا المؤسس
الوجه الرابع والعشرون أن المنازعين له في مسألة الرؤية قالوا لهم ما ذكرتموه من الحجة يقتضي كون الباري مدركًا بإدراك اللمس وذلك لأنا من حيث اللمس نميز بين الطويل والأطول كما أن نميز من حيث البصر بين الطويل والأطول فإن اقتضى ذلك كون الأجسام مرئية اقتضى أن تكون ملموسة ولا شك أنا ندرك من حيث اللمس الفرق بين الحرارة والبرودة فإن إدراك اللمس معلق بالأجسام والأعراض فيعود ما ذكرتموه من الرؤية بتمامه في اللمس فيلزمكم تعلق اللمس للباري تعالى وأنه باطل بالضرورة وقال في الجواب إن أصحابنا التزموا ذلك ولا طريق إلا ذلك
وقال أيضًا قولهم لو كان الوجود علة لصحة رؤية الحقائق لصح منا رؤية الطعوم والعلوم وذلك معلوم الفساد بالضرورة قلنا دعوى الضرورة في محل الخلاف غير مقبولة وذكر أيضًا أن المخالفين له في مسألة الرؤية يدعون العلم الضروري بوجوب الرؤية عند الشروط النهائية وامتناعها عند عدمها وهو ماإذا كانت الحاسة سليمة والمرئي حاضرًا ولا يكون على القرب القريب ولا على البعد البعيد ولا يكون صغيرًا جدًّا ولا لطيفًا ولا يكون بين المرئي والرائي حجب كثيفة وكان المرئي مقابلاً للرائي أو في حكم المقابلة فتارة يَدَّعون أن ذلك العلم الضروري حاصل للعقلاء بعد
الاختيار ولا حاجة فيه إلى ضرب الأمثال وتارة يثبتون بالاستدلال أن ذلك معلوم بالضرورة وقال في الجواب أما دعوى العلم الضروري بحصول الإدراك عند حضور هذه الأمور فلا نزاع فيه وأما العلم الضروري بعدمه عند عدمها ففيه كل النزاع قال فإن زعمت أنا مكابرون في هذا الإنكار حلفنا بالأيمان المغلظة أنا لما رجعنا إلى أنفسنا لم نجد العلم بذلك أكثر من العلم باستمرار الأمور العادية التي توافقنا على جواز تَغيُّرها عن مجاريها فإن الإنسان كما يستبعد أن يأخذ الحديدة المحماة بيده ولا يجد حرارتها فكذلك يستبعد أن يذهب إلى جَيْحُون فيجد ماءه بالكلية دمًا أو عسلاً ويرى
شخصًا شابًّا قويًّا مع أن ذلك الشخص حدث في تلك اللحظة من غير أب وأم على ذلك الوجه ويرى طفلاً رضيعًا مع أن ذلك الطفل كان مولودًا قبل ذلك بمائة ألف سنة على تلك الحال وليس استبعاد ما ذكروه بأقوى من هذه الأمور استبعادًا مع أن شيئًا من ذلك ليس بممتنع وكذا فيما ذكروه
قال واعلم أن تجويز انخراق العادات لازم على الفلاسفة أو المسلمين والمتكلمين وبين ذلك إلى أن قال فليس لأبي الحسين إلا دعوى الضرورة في أول المسألة وليس لنا في مقابلتها إلا المنع فإذا كانت هذه ثلاث قضايا ادعى منازعوه فيها العلم الضروري وهو يثبتها لإثبات رؤية موجود لا داخل العالم ولا خارجه كيف ينكر على منازعه فيما ادعاه من العلم البديهي بأن الموجود إذا كان خارج العالم لم يكن إلا منقسمًا أو حقيرًا مع أن هذا أظهر بوجوده
فصل قال الرازي البرهان الثاني في بيان أنه يمتنع أن يكون مختصًّا بالحيز والجهة وذلك أنه لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان محتاجًا في وجوده إلى ذلك الحيز وتلك الجهة وذلك محال فكونه في الحيز والجهة محال بيان الملازمة أن الحيز والجهة أمر موجود والدليل عليه وجوه أحدها أن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون
الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات وإذا ثبت أن هذه الأحياز مختلفة في الماهيات وجب كونها أمورًا موجودة لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك الثاني هو أن الجهات مختلفة بحسب الإشارات فإن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت بالإشارة والعدم المحض والنفي الصِّرف يمتنع تمييز بعضه عن بعض في الإشارة
الحسية الثالث أن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز فالمتروك مغاير لا مَحَالة للمطلوب والمُنْتَقَل عنه مغاير للمُنْتَقَل إليه فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الحيز والجهة أمر موجود ثم إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة فثبت أنه تعالى لو كان مختصًّا بالجهة والحيز لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه الأول أن المفتقر في وجوده إلى الغير يكون في وجوده بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وكل ذلك في حق واجب الوجود
لذاته محال الثاني أن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لما بينا أنه يمكن تقديره بالذراع والشبر ويمكن وصفه بالزائد والناقص وكلما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته فلو كان الله مفتقرًا إليه لكان مفتقرًا إلى الممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بأن يكون ممكنًا لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودًا في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين فثبت بهذه الوجوه أنه لو كان في الحيز والجهة يلزم هذه المحذورات فيلزم امتناع كونه في الحيز والجهة فإن قيل لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة
إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه تعالى كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان تعالى في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير والذي يدل على صحة ما ذكرناه أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا فلم لا يجوز مثله في كون الله تعالى مختصًّا بالحيز والجهة والجواب أما قوله الحيز والجهة ليس أمرًا موجودًا فجوابه أنا قد بينا بالبراهين القاطعة أنها أشياء موجودة وبعد قيام البراهين على صحته لا يبقى في صحته شك وأما قوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز
كونه منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو مباينًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لانزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لايكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة وهو كون الشيء بحيث يصح أن يشار إليه بأنه هاهنا أو هناك وهذا هو مراد الخصم من قولهم إنه تعالى مباين عن العالم أو منفرد عنه وممتاز عنه إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز
أمرًا موجودًا ويقتضي أن المتحيز يحتاج إلى الحيز قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق يقال هذه الحجة وغيرها من الحجج كلها مبنية على أن القول بكونه فوق العرش يستلزم أن يكون متحيزًا كما قدمه في الحجة الأولى فقد تقدم أن هذا فيه نزاع مشهور بين الناس من مثبتة الصفات ونفاتها فإن كثيرًا من الصفاتية من الكلابية والأشعرية وغيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون ليس بجسم وهو فوق العرش وقد يقولون ليس بمتحيز وهو فوق العرش إذا كان المراد بالمتحيز الجسم أو الجوهر الفرد
وكثير منهم من الكرامية والشيعة والفقهاء والصوفية وأهل الحديث يقولون هو فوق العرش وهو جسم وهو متحيز ولكن منهم من يقول ليس بمركب ولا منقسم ولا ذي أجزاء وأبعاض ومنهم من لا ينفي ذلك وأما سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم فألفاظهم فيها أنه فوق العرش وفيها إثبات الصفات الخبرية التي يعبر هؤلاء المتكلمون عنها بأنها أبعاض وأنها تقتضي التركيب وال انقسام وقد ثبت عن أئمة السلف أنهم قالوا لله حد وأن ذلك لايعلمه غيره وأنه مباين لخلقه وفي ذلك لأهل الحديث والسنة
مصنفات وهذا هو معنى التحيز عند من تكلم به من الأولين فإن هؤلاء كثيرًا ما يكون النزاع بينهم لفظيًّا لكن أهل السنة والحديث فيهم رعاية لألفاظ النصوص وألفاظ السلف وكثير من مبتغي ذلك يؤمن بألفاظ لا يفهم معانيها وقد يؤمن بلفظ ويكذب بمعنى آخر غايته أن يكون فيه بعض معنى اللفظ الذي آمن به ولهذا يطعن كثير من أهل الكلام في نحو هؤلاء الذين يتكلمون بألفاظ متناقضة لا يفهمون التناقض فيها لكن وجود هذا وأمثاله في أهل الكلام أكثر منه في أهل الحديث بأضعاف
مضاعفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب وإذا كان كذلك فالجواب عن هذه الحجة وأمثالها مبني على مقامين المقام الأول مقام من يقول إنه نفسه تعالى فوق العرش ويقول إنه ليس بجسم ولا متحيز كما يقول ذلك ابن كلاب والأشعري وكثير من الصفاتية فقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم وهو كثير فيهم فاش ظاهر منتشر والمنازعون لهم في كونه فوق العرش كالرازي ومتأخري الأشعرية وكالمعتزلة يدعون أن هذا تناقض مخالف للضرورة العقلية وقد تكلمنا بين الطائفتين فيما تقدم بما ينبه على حقيقة الأمر وتبين أن الأولين أعظم مخالفة للضرورة العقلية وأعظم تناقضًا من هؤلاء وأن هؤلاء لا يع أحدهم في نظره ولا مناظرته أن يوافق أولئك على ما سلكوه من النفي فرارًا مما ألزموه إياه من التناقض لأنه يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار فيكون الذي وقع فيه من
التناقض ومخالفة الفطرة والضرورة العقلية أعظم مما فر منه مع ما في ذلك من مخالفة القرآن والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وإن كان قد يضطر إلى نوع باطل في الأول فإنه بمنزلة قول الواقف في الرمضاء أناأجد حرارتها وألمها فيقال له النار التي فررت إليها أعظم حرارة وألمًا وإن كنت لا تجد حين وقوفك على الرمضاء بل تجدها حين تباشرها فيكون قد فر من نوع تناقض وخلاف بعض الضرورة فوقع في أنواع من التناقضات ومخالفة الضرورات وبقي ما امتاز به الأول في كلامه من الزندقة والإلحاد ومشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتباع غير سبيل المؤمنين زيادة على ذلك ولهذا كان من هؤلاء المثبتة ممن له في الأمة من الثناء ولسان الصدق ما ليس لمن هو من أولئك وإن كان قد يذمه من وجه آخر فليس الغرض بيان صوابهم مطلقًا ولكن بيان أن طريقهم أقل
خطأ وطريق الأولين أعظم ضلالة فهذا أحد المقامين وقد تقدم بيانه فلا نعيده وأما المقام الثاني فهو مقام من يسلم له أنه فوق العرش وهو متحيز وله حد ونهاية ويطلق عليه أيضًا لفظ الجهة فإن أهل الإثبات متنازعون في إثبات لفظ الجهة وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم كما أنهم متنازعون في اسم الحد أيضًا وفي ذلك نزاع بين أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فنقول وعلى هذا التقدير فالكلام على هذا من وجوه الأول أن كلام هذا وغيره في حيز هل هو أمر وجودي أو عدمي أو إضافي مضطرب متناقض فإنه وإن كان قد قرر هنا أنه وجودي فقد قرر في غير هذا الموضع أنه عدمي ويكفي نقض كلامه بكلامه فإنا قد اعتمدنا هذا مرات فإن هذا موجود
في عامة هؤلاء تحقيقًا لقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً [النساء 82] بخلاف الحق الذي يصدق بعضه بعضًا فقد ذكر في البرهان الرابع بعد هذا نقيض هذا فقال الوجه الرابع فيه أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها متساوية فيكون حكمها واحدًا وذلك يمنع من القول بأنه تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين وقال فإن قيل لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى قلنا هذا باطل لوجهين أحدهما أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء
الصرف والعدم المحض فلم يكنْ هناك فوق ولا تحت الثاني أنه لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أمورًا موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك فهذا تصريح بأنها مختلفة في الحقائق وأنها خلاء صِرْف وفراغ محض وهذا يناقض ما ذكره هنا ومن لم يكنْ لسانه وراء قلبه كان كلامه كثير التقلب والتناقض وذكر في نهايته في مسألة حدوث العالم لما ذكر نزاع المنازع في أن الكون والحصول في الحيز أمر زائد على ذات الجسم وذكر أسئلتهم على دليله ثم قال وإن سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الحصول في الحيز زائد على ذات الجسم لكن معنا مايدل على نفي ذلك وهو أمور ثلاثة
الأول وهو أن الحصول أمر نسبي والأمور النسبية تستدعي وجود أمرين لتتحقق بينهما تلك النسبة فلو كان الحصول في الحيز أمرًا ثبوتيًّا للزم أن يكون الحيز أمرًا ثبوتيًا وهو باطل لأنه لو كان موجودًا لكان إما أن يكون حالاً في الجسم أو لا يكون حالاً فيه فإن كان حالاً في الجسم لم يكن الجسم حالاً فيه فلا يكون حيزًا للجسم وإن لم يكن حالاً فيه فإما أن يكون ذا حيز أو لا يكون والأول يقتضي التسلسل ثم ذكر الثاني والثالث وليس هذا ذكر موضعهما ثم إنه في الجواب سلَّم أن الحيز ليس أمرًا وجوديًّا وأجاب عما ذكروه فقال قوله الحصول في الحيز أمر نسبي
فوجوده في الخارج يستدعي وجود الحيز في الخارج قلنا هذا باطل بالعلم فإنه نسبة أو ذو نسبة بين العالم والمعلوم ثم إنا نعلم به المحالات ولا وجود لها في أنفسها مع أن النسبة المسماة بالعلم حاصلة موجودة فعلمنا أن وجود النسبة لا يقتضي وجود كل واحد من المنتسبين وقال في نهايته في آخر هذه الطريقة واعلم أن هذه الطريقة مبنية على جواز خروج كل جسم عن حيزه وقد دللنا على ذلك بما مر ويمكن أن يستدل عليه بوجوه أُخر منها أن نقول لو وجب حصول جسمين في حيز لكان الحيز الذي حصل فيه الجسم الآخر إما أن يكون مخالفًا للحيز الأول أو لا يكون فإن كان مخالفًا له كان أمرًا ثبوتيًّا لأن العدم الصِّرْف والنفي المحض لا يتصور فيه الاختلاف لأن المعقول في الاختلاف أن تكون حقيقته غير قائمة مقام الحقيقة الأخرى وذلك يستدعي حقائق متعينة في أنفسها وذلك في العدم محال ولما بطل ذلك ثبت أن الأحياز لو كانت
متخالفة لكانت أمورًا وجودية وهي إما أن يكون مشارًا إليها أو لا يكون والقسم الأول على قسمين إما أن تكون حالة في الأجسام فحينئذ يستحيل حصول الجسم فيها وإلا لزم الدور أو لا تكون حالة في الأجسام مع أنه يمكن الإشارة إليها وذلك هو المتحيز فيكون الحيز متحيزًا وكل متحيز فله حيز وللحيز حيز آخر ولزم التسلسل وإن لم يكن الحيز مشارًا إليه استحال حصول الجسم المشار إليه فيه قال فثبت أن الحيز نفي محض وأنه إذا كان كذلك استحال أن يخالف حيزًا وقال أيضًا في نهايته في الحجة الثانية على حدوث العالم وهو أنه ممكن وكل ممكن محدث وقرر إمكانه بوجوه منها الكلام الذي حكيناه عنه قبل هذا في تقرير أن
واجب الوجود لا يقال لا ينفي في ضمن الكلام على حجته على نفي الجسم وكون كل حيز هل يكون واجب الوجود أم لا فهي طريقة الفلاسفة التي قررها واستضعفها وفي ضمنها سؤال أورده وهو أنالا نسلم أن الوجوب أمر ثبوتي فيقال في الجواب قوله لا نُسلّم أن الوجوب أمر ثبوتي قلنا يدل عليه أمران وذكر أحدهما ثم قال الثاني أن المعقول من الوجوب استحقاق الوجود والعلم الضروري حاصل فإن استحقاق الوجود وصف ثبوتي كما أن العلم الضروري حاصل فإن حصول الجسم في الجهة أمر ثبوتي بل هاهنا أولى لأن حصول الجسم بالجهة عبارة عن انتساب مخصوص للجسم إلى الجهة والجهة أمر تقديري
لا وجود له فإذا كان العلم الضروري حاصلاً هناك مع هذا الإشكال فهاهنا مع عدم ذلك الإشكال أولى وقال أيضًا في نهايته في مسألة الجهة بعينها ما سنذكره عنه في آخر هذه الحجج وهو قوله لو كان الله حاصلاً في الحيز لكان إما أن يكون واجبًا أو غير واجب والأول باطل إذ لو صح حصوله في ذلك الحيز وامتنع حصوله في سائر الأحياز كان حقيقة ذلك الحيز مخالفة لحقيقة سائر هذه الأحياز ولو كان كذلك لكانت الأحياز أمورًا وجودية لأن العدم الصرف يستحيل أن يخالف بعضه بعضًا ولو كانت الأحياز أمورًا وجودية لكان إما أن تُمْكن الإشارة الحسية إليها أو لا يمكن فإن أمكن فذلك الشيء إما أن يكون منقسمًا فيكون الباري الحال فيه منقسمًا أو لا يكون منقسمًا فيكون ذلك
الشيء مختصًّا بجهة دون جهة فيكون للحيز حيز آخر ويلزم التسلسل وإن لم يمكن الإشارة الحسية إليه أي الحيز الذي حصل الباري فيه وجب استحالة الإشارة الحسية إلى الباري لأنا نعلم بالضرورة أن ما لا يمكن الإشارة الحسية إلى جهته استحالت الإشارة الحسية إليه وكذلك قال في التأسيس في هذه الحجة الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن كلَّ ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي بل قد يقال إن المسمى بالجهة والحيز منه ما يكون وجوديًّا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإن الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجودية ولها جهات وجودية
وهو ما فوقها وما تحتهاونحو ذلك ومنه ما يكون عدميًّا مثل ما وراء العالم فإن العالم إذا قيل إنه في حيز أو جهة فليس هو في جهة وجودية وحيز وجودي لأن ذلك الوجودي هو من العالم أيضًا والكلام في جهة جميع المخلوقات وحيزها ولأن ذلك يفضي إلى التسلسل وهو لم يقم دليلاً على أن كل ما يسمى حيزًا وجهة فهو أمر وجودي وإذا لم يثبت ذلك لم يجب أن يقال إن الباري إذا كان في حيز وجهة كان في أمر وجودي وذلك لأن الأدلة التي ذكرها إنما تدل لو دلت على وجود تلك الأمور المعينة المسماة بالحيز والجهة فلم قلت إن كل ما يسمى بالحيز أو الجهة يكون موجودًا الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن الحيز لا يطلق إلا على المعدوم ولا يطلق على الموجود بحال وهذا قول كثير من المتكلمين الذين يفرقون بين الحيز والمكان ويقولون
العالم في حيز وليس في مكان وما في العالم في مكان والحيز عندهم هو تقدير المكان بمنزلة ما قبل خلق العالم ليس بزمان ولكنه تقدير الزمان وإذا كان أمرًا مقدورًا ومفروضًا لا وجود له في نفسه بطل ما ذكره لكن يحتاج على الجواب عن وجوهه الثلاث فأما الوجه الأول فإنه احتجاج بقول المنازع له إنه يجب أن يكون الله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات فإن كان قول المخالف حقًّا فقد صح مذهبه الذي تستدل على إبطاله ولم تسمع منه الدلالة على ذلك وإن كان باطلاً لم يدل على أن الحيز أمر وجودي فعلى التقديرين لا تكون هذه الحجة مقبولة لأنها إما أن تكون باطلة أو تكون مستلزمة لصحة قول المنازع فإن قال أنا ألزم المنازع بها قيل له فغاية ما في الباب أن تكون حجة جدلية احتججت فيها بكذب خصمك وهذا لا يكون برهانًا قاطعًا على أن الحيز أمر وجودي ثم يقال لك أنت من أين تعلم أو تفيد الناس الذين يسترشدون منك ولا يتقلدون مذهبًا أن الحيز أمر وجودي فإن
كنت تعلم ذلك وتعلمه لقول خصمك لزم صحته وبطل مذهبك وإن لم تحتج بقول خصمك الذي تدفعه عنه بَطُلَتْ هذه الحجة أن تكون طريقًا لك إلى العلم أو إلى التعليم والإرشاد وكان غايتها ذكر تناقض الخصم وللخصم عنها أجوبة لا نحتاج إلى ذكرها هنا وأما قوله في الوجه الثاني أن جهة الفوق متميزة عن جهة التحت في الإشارة فيقال له إن كانت الإشارة إلى ما فوقنا من العالم وما تحتنا منه فلا ريب أن هذا موجود لكن ليس ذلك هو مسمى الحيز والجهة الذي ينازعونك في أن الله فيه فإنهم لم يقولوا إن الله في جوف العالم وإنما قالوا هو خارج العالم فإن كانت الإشارة إلى ما فوق العالم وماتحته فلا نسلم أن أحدًا يشير إلى ما تحت العالم أصلاً وأما ما فوق العالم فالله هو الذي فوق العالم فالإشارة إلى ماهناك إشارة إليه سبحانه وتعالى ولا نسلم أنه يشار إلى شيء موجود فوق العالم غير الله تعالى فلم تحصل إلى شيء معدوم بحال ولم يشر أحدٌ إلى جهة عدمية بحال بل المشار إليه ليس هو الجهة التي ينازع فيها المنازعون وأما قوله في الوجه الثالث إن الجوهر إذا انتقل من حيز
إلى حيز فالمتروك مغاير لا محالة للمطلوب فيقال إن كان الانتقال في أجسام العالم الموجودة فهذه أمور وجودية وإن كان فيما ليس كذلك فلا نسلم أن هناك شيئاً يكون متروكًا ومطلوبًا أصلاً بل الأحياز الموجودة قد لا يكون المنتقل فيها طالبًا لحيز دون حيز بل قصده شيء آخر فكيف يجب أن يكون كل منتقل ومتحرك طالبًا لحيز وجودي يكون فيه وتاركًا لحيز وجودي انتقل عنه الوجه الرابع أن يقال لا ريب أن الجهة والحيز من الأمور التي فيها إضافة ونسبة فإنه يقال هذا جهة هذا وحيزه والجهة أصلها الوجه الذي يتوجه إليها الشيء كما يقال عِدَة ووعد وزِنَة ووزن وجهة ووجهة والوجهة من ذلك كما قال تعالى وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة 148] وأما الحيز فإنه فيعل من حازه يحوزه إذا جمعه وضمه وتحيز تفعيل كما أن يحوز يفعل كما قال تعالى وَمَن
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ [الأنفال 16] فالمقاتل الذي يترك مكانًا وينتقل إلى آخر لطائفة تفيء إلى العدو فاجتمع إليها وانضم إليها فقد تحيز إليها وإذا كان كذلك فالجهة تضاف تارة على المتوجه إليها كما يقال في الإنسان له ست جهات لأنه يمكنه التوجه إلى النواحي الست المختصة به التي يقال إنها جهاته والمصلي يصلي إلى جهة من الجهات لأنه يتوجه إليها وهنا تكون الجهة ما يتوجه إليها المضاف وتارة تكون الجهة ما يتوجه منها المضاف كما يقول القائل إذا استقبل الكعبة هذه جهة الكعبة وكما يقول وهو بمكة هذه جهة الشام وهذه جهة اليمن وهذه جهة المشرق وهذه جهة المغرب كما يقال هذه ناحية الشام وهذه ناحية اليمن والمراد هذه الجهة والناحية التي يتوجه منها أهل الشام وأهل اليمن فأما الحيز فلفظه في اللغة يقتضي أنه ما يحوز الشيء ويجمعه ويحيط به ولذلك قد يقال على الشيء المنفصل عنه كداره وثوبه ونحو ذلك وقد يقال لنفس جوانبه وأقطاره إنها
حيزه فيكون حيزه بعضًا منه وهذا كما أن لفظ الحدود التي تكون للأجسام فإنهم تارة يقولون في حدود العقار حده من جهة القبلة ملك فلان ومن جهة الشرق ملك فلان ونحو ذلك فهنا حد الدار هو حيزها المنفصل عنها وقد يقال حدها من جهة القبلة ينتهي إلى ملك فلان ومن جهة الشرق ينتهي إلى ملك فلان فحدها هنا آخر المحدود ونهايته وهو متصل ليس منفصلاً عنه وهو أيضًا حيزه وقد جاء في كتاب الله تعالى في موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة 187] والحدود هنا هي نهايات المحرمات وأولها فلا يجوز قربان شيء من المحرم وفي موضع تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة 229] والحدود هنا نهايات الحلال فلا يجوز تعدي الحلال
وإذا كان هذا هو المعروف من لفظ الجهة والحيز في الموجودات المخلوقة فنقول إذا قيل إن الخالق سبحانه في جهة فإما أن يراد في جهة له أو جهة لخلقه فإن قيل في جهة له فإما أن تكون جهة يتوجه منها أو جهة يتوجه إليها وعلى التقديرين فليس فوق العالم شيء غير نفسه فهو جهة نفسه سبحانه لا يتوجه منها إلى شيء موجود خارج العالم ولايتوجه إليها من شيء موجود خارج العالم وليس هناك شيء موجود غير نفسه يتوجه منه ولا يتوجه إليه ومن قال إن العالم هناك ليس في جهة بهذا الاعتبار فقد صدق ومن قال إنه جهة نفسه بهذا الاعتبار فقد قال معنى صحيحًا ومن قال إنه فوق المخلوقات كلها في جهة موجودة يتوجه غليها أو يتوجه منها خارجة عن نفسه فقد كذب وإن أريد بما يتوجه منه أو يتوجه إليه ما يراد بالحيز الذي هو تقدير المكان فلا ريب أن هذا عدم محض وأما الحيز فقد يحوز المخلوق جوانبه وحدود ذاته وقد يحوزه غيره فمن قال إن الباري فوق العالم كله يحوزه شيء موجود ليس هو داخلاً في مسمى ذاته فقد كذب فإن كل ما هو خارج عن نفس الله التي تدخل فيها صفاته فإنه من العالم ومن
قال إن حيزه هو نفس حدود ذاته ونهايتها فهنا الحيز ليس شيئًا خارجاً عنه وعلى كل تقدير فمن قال إنه فوق العالم لم يقل إنه في حيز موجود خارج عن نفسه ولا في جهة موجودة خارجة عن نفسه وإذا كان صاحب المذهب يصرح بنفي ذلك فالاحتجاج على أنه ليس في حيز موجود احتجاج في غير محل النزاع فلا يضر ذلك المنازع الوجه الخامس قوله الأحياز الفوقانية مخالفة بالحقيقة للأحياز التحتانية بدليل أنهم قالوا يجب أن يكون الله مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والأحياز أعني التحت واليمين واليسار ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة الفوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات يقال له الذي اتفق عليه أهل الإثبات أن الله فوق العالم ويمتنع أن لا يكون فوق العالم سواء قدر أنه في التحت أو غير
ذلك بل كون الله تعالى هو العلي الأعلى المتعالي فوق العالم أمر واجب ونقيضه وهو كونه ليس فوق العالم ممتنع فثبوت علوه بنفسه على العالم واجب ونقيض هذا العلم ممتنع هذا هو الذي اتفق عليه أهل الإثبات من سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل الفطر السليمة المقرة بالصانع وأما ما ذكره من قول القائل يجب أن يكون مختصًّا بجهة فوق ويمتنع حصوله في سائر الجهات والحياز فهؤلاء يريدون بذلك أنه يجب أن يكون فوقنا ويمتنع أن يكون تحتنا أو عن يميننا أو عن شمائلنا وهم لا يعنون بذلك أنه يكون متصلاً برؤوسنا بل يعنون أنه فوق الخالق فالعبد يتوجه إليه هناك لا يتوجه إليه من تحت رجليه أو عن يمينه أو عن شماله وقد قلنا إن الجهة فيها معنى الإضافة فالعبد يتوجه إلى ربه بقلبه إلى جهة العلو لا إلى جهة السفل واليمين واليسار كما قال ابن عباس وعكرمة في قوله تعالى عن إبليس ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} [الأعراف 17] قال ولم يقل من فوقهم لأنه علم أن الله من فوقهم
وهم لا يريدون بذلك أنه من جهة العلو الموجودة في العالم دون جهة اليمين واليسار والتحت بل ليس هو فيما على رأس العبد من الأجسام ولا فيما عن يمينه ولا فيما عن شماله فهذه الأجسام المختلطة بالعبد من جهاته الست ليس شيء منها مما يجب أن يكون الله فيه وما أعلم أحدًا قط يقول إنه يجب أن يكون في شيء موجود منفصل عنه سواء كان ذلك فوق العبد أو تحته فالرب يجب عندهم أن يكون فوق العالم وهي الجهة التي هي فوق ولايجوز أن يكون فوق العالم وغيره بالنسبة إليه سواء
وأما أن القوم يثبتون وراء العالم أمورًا وجودية يقولون يجب أن يكون الله في واحد منها دون سائرها فهذا ما علمنا أحدًا قاله وإن قاله أحد تكلم معه بخصوصه ولا يجعل هذا قول أهل العلم والإيمان الذين يقولون إن الله فوق العرش ولكن منشأ غلط كثير من الناس هنا أن الجهة نوعان إضافية متغيرة وثابتة لازمة حقيقة فالأولى هي بحسب الحيوان فإن كل حيوان له ست جهات جهة يؤمها هي أمامه وجهة يخلفها وهي خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي يساره وجهة فوقه وجهة تحته وهذه الجهات تتبدل وتتغير بحسب حركته وليس لها صفة لازمة ثابتة وإنما الجهة اللازمة الثابتة الحقة هي جهتا العلو والسفل فقط فالعلو مافوق العالم والسفل سجين وأسفل السافلين وهو أسفل العالم وقعره وجوفه وإذا كان الأمر كذلك لزم من مباينة الله للعالم أن يكون
فوقه وليس هناك شيء آخر يجوز أن يكون جهة لله تعالى لا يمين العالم ولا يساره ولا تحته وكلام هؤلاء خارج باعتبار جهاتهم الإضافية المتنقلة لا باعتبار الجهة اللازمة الحقة الوجه السادس أن يقال هَبْ أن وراء العالم ست جهات وقالوا يجب اختصاصه بالعلو دون غيره كما أنه يجب أن يكون فوقنا فالاختصاص في الأمور النسبية والإضافية قد يكون لمعنى فيه وفي العالم أو لمعنى فيه لا في العالم أو في العالم لا فيه لا لمعنى في أمر وجودي غيرهما وقوله يمتنع أن يكون في سائر الجهات والحياز المعنى فيه سبحانه وهو أنه العلي الأعلى وهو الظاهرالذي لا يكون فوقه شيء فالحاصل أن وجوب علوه هو لمعنى فيه سبحانه يستحق به أن يكون هو الأعلى الظاهر الذي لا يكون فوقه شيء فلا يجوز أن يكون في جهة تنافي علوه وظهوره وذلك لا يوجب أن تكون الجهة وجودية لأن العلو والظهور نسبة بينه وبين الخلق فإذا قيل يجب أن يكون فوقهم وأن يكون عاليًا
عليهم ولا يجوز غير ذلك لم يكن فيما يقتضي أن يسبق ذلك ثبوت محل وجودي له بحيث لو فرض أن وراء العالم ست جهات وأن العالم كالإنسان الذي له ست جهات لكان إذاقيل يجب أن يكون الله فوقه ولا يكون عن يمينه ولا عن يساره إنما هو إيجاب لنسبة خاصة وإضافة خاصة له إلى العالم لا يقتضي ذلك أن يكون هناك أمور وجودية فضلاً عن أن تكون مختلفة الحقائق الوجه السابع أن وجود كونه فوق العالم أمر مشروط بوجود العالم فإنه قبل خلق العالم لا يقال إنه فوقه ولا إنه ليس فوقه إذ العلو والفوقية هي من الأمور التي فيها نسبة وإضافة وإن كان الناس قد تنازعوا هل علوه وفوقيته واستواؤه على العرش من الصفات الذاتية التي وجبت له بنفس ذاته وإن كان
فيه إضافة ظهر حكمها بخلق العالم والعرش كما يقولون في المشيئة والعلم أو هو من الصفات الفعلية وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه أو هو إضافة محضة بينه وبين العرش أم متضمن لأمرين من ذلك أو للأمور الثلاثة فلا ريب أن وجود العلو على العرش الاستواء عليه
إنما هو بعد خلقه ولو قدر أن العالم أو العرش خلق في حيز آخر لكان الله سبحانه وتعالى عاليًا عليه ومستويًا عليه حيث خلق كما أنه سبحانه إذا كان مع عبده بعلمه وقدرته أو نصره وتأييده وغير ذلك فحيث كان العبد كان مع الله وإذا كان كذلك لم يكن لبعض الأحياز حقيقة يتميز بها عن حيز آخر لأجلها يستحق أن يكون الله فيه وإنما وجوب اختصاصه هو تابع لوجوب علوه ولاستوائه وعلوه واستواؤه على عرشه ينافي أن لا يكون عاليًا عليه فما يفرض من سفول وتياسر ونحو ذلك مما ينافي العلو كان منتفيًا لأن أحد النقيضين ينفي الآخر لا لصفة ثابتة لأحد الحيزين دون الآخر الوجه الثامن قوله ولولا كونها مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في جهة الفوق يقال لا نسلم ذلك ولم يذكر على ذلك حجة فالمنع المجرد يكفي هذه الدعوى ثم يقال اختصاص الشيء بوجوب كونه فوق الآخر دون كونه عن يمينه ويساره قد يكون لمعنى في الأعلى أو لمعنى في الأسفل أو لمعنى فيهما وهكذا كل أمر فيه إضافة بين أمرين
كالحب والقدرة ونحو ذلك قد يكون لمعنى في المضاف وقد يكون لمعنى في المضاف إليه وقد يكون لمعنى فيهما كالحب والقدرة ونحو ذلك يقتضي معنى في المحب والمحبوب وكذلك القدرة ولذلك يختصان بشيء دون شيء وأما العلم فيقتضي معنى في العالِم لا يقتضي معنى في المعلوم فإن العلم يتعلق بكل شيء لا يختص بموجود دون معدوم ولا بممكن دون ممتنع فالاختصاص فيه إنما هو في العالم لا في المعلوم وكذلك القول ونحوه وأما العلو فقد يكون لمعنى في العالي كصعود الإنسان على السطح فإنه هو الذي تحرك حركة أوجبت علوه والسطح لم يتغير فالرجل يكون تارة فوقه وتارة تحته لتحوله هو دون السطح والطير إذا حاذى الإنسان وكان فوق رأسه ثم نزل حتى صار تحت مكان هو فيه كان الطير فوقه تارة وتحته أخرى لتحول الطير دون تحوله هو وإذا كانت الأمور الإضافية لاتستلزم وجود معنى في غير المضاف والمضاف إليه وإن جاز وجود ذلك لكن نفس المعنى في أحدهما قد يكفي في الصفات الذاتية التي فيها إضافة عارضة لها فكيف يكون في الإضافات المحضة فالعلو سواء كان صفة ثبوتية مستلزمًا للإضافة أو كان فعلاً مستلزمًا للإضافة أو كان فيه الأمران أو كان إضافة محضة يكفي في تحققه وجود معنى في العالي تارة وفي السافل أخرى من غير
اختلاف في حقيقة الأحياز يوضح هذا الوجه التاسع أن الأحياز التي لا ريب في وجودها كالهواء والسطوحات ونحوها قد يعلو عليها الحيوان وتعلو عليه أخرى وتكون تارة عن يمينه وتارة عن شماله مع أن حقائقها في جميع هذه الأحوال سواء لم يتجدد لها باختلاف الحال في كونه عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة صفة أصلاً فإذا كانت الأحياز التي عُلِمَ وجودها ولا يزال حكم الجهات يختلف فيها بكونها عالية وسافلة ومتيامنة ومتياسرة وهي مع ذلك لا يحدث فيها شيء من التغير فكيف يقال إنه لولا كون الأحياز التي هي الفوق والتحت واليمين واليسار مختلفة في الحقائق والماهيات وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله في جهة فوق ومما يوضح ذلك الوجه العاشر وهو أن رأس الإنسان ينبغي أن يكون مختصًّا بجهة فوق بالنسبة إلى سائر بدنه ويده اليمنى يجب أن تكون مختصة بجهته اليمنى ويده اليسرى يجب أن تكون مختصة بجهته اليسرى وصدره وبطنه يجب أن بجهة أمامه وظهره يجب أن يختص بجهة خلفه وأسفل قدميه يجب أن يختص بجهة تحته ومع هذا الوجوب المعلوم بالإحساس ليس ذلك لاختلاف حقائق الجهات التي اختصت بها
هذه الأعضاء ولا لاختلاف صفاتها بل هذا الاختصاص لا يؤثر في الجهات شيئًا أصلاً وإنما الاختصاص لمعنى في الإنسان نفسه لا لمعنى في الجهات الوجه الحادي عشر أنه إذا قدر أن الحيز والجهة أمر موجود لم نسلم المقدمة الثانية وهو قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه والذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك أن وجود موجود مستغن عن الله ممتنع فإن كل ما سواه مفتقر إليه وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وقوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قياس شمول عام عدل الله فيه بأحقر المخلوقات فإن الأجسام الضعيفة من المواد والحيوان كالحجر والمدر والبعوضة ونحوها إذا كانت في مكان أو حيز فلا ريب
أنها قد تكون محتاجة إليه وهو مستغن عنها لكن قياس الله الخالق لكل شيء الغني عن كل شيء الصمد الذي يفتقر إليه كل شيء بالمخلوقات الضعيفة المحتاجة عدل لها برب العالمين ومن عدلها برب العالمين فإنه في ضلال مبين وذلك أن أعظم الأمكنة العرش ولا خلاف بين المسلمين الذين يقولون إنه مستو عليه أو مستقر أو متمكن عليه والذين لا يقولون ذلك أن العرش مفتقر إلى الله والله غني عن العرش ولا يقول أحد ممن يتظاهر بالإسلام أن الله يفتقر إلى العرش أو إلى غير العرش بل هم متفقون على أن الله بقدرته الذي يمسك العرش وحملة العرش وسائر المخلوقات هذا مع ما جاء في الآثار من إثبات مكانه تعالى كالحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب تعالى وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني
وفي شعر حسان تعالى علوًا فوق عرشٍ إلهنا وكان مكان الله أعلى وأرفعا
فقوله إن الحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه قضية عامة ضرب بها مثلاً في قياس شمولي ليس معه فيه إلا مجرد تمثيل الخالق بالمخلوق الضعيف الفقير وإن كان من الجنس الحقير وهؤلاء الجهمية دائمًا يشركون بالله ويعدلون به ويضربون له الأمثال بأحقر المخلوقات بل بالمعدومات كما قدمنا التنبيه عليه غير مرة فلما رأوا أن المستوي على الفلك أو الدابة أو السرير يستغني عن مكانه قالوا يجب أن يكون الله أيضًا يستغني عن مكانه تشبيهًا له بهذا المخلوق العاجز الضعيف ولما رأوا أن الحجر والمدر والشجر والأنثى والذكر يستغني عنه حيزه ومكانه قالوا فرب الكائنات مُشَبَّه بهذه المتحيزات في افتقاره إلى ما هو مستغن عنه تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا ثم يقال له في الوجه الثاني عشر إن كثيرًا مما سمى مكانًا وحيزًا وجهة للإنسان يكون مفتقرًا إليه بل ولغير الإنسان أيضًا فمن قال إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي
الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي كبطانة قميص اللابس كان كثير من الأمكنة محتاجًا إلى الممكن كاحتياج القميص إلى لابسه واستغناء صاحبه عنه وكذلك الحيز قد ذكرنا أنه يراد به حدود الشيء المتصلة به التي تحوزه وهو جوانبه وتلك تكون داخلة فيه فلا تكون مستغنية عنه مع حاجته إليها وقديرا دبه الشيء المنفصل عنه الذي يحيط به كالقميص المخيط وهذا قد يكون مفتقرًا إلى الإنسان كقميصه وقد يكون مستغنيًا عنه وإن كان مستغنيًا عن الإنسان لكن الإنسان لا يحتاج إلى حيز معين خارج عن ذاته بحال بل وكذلك جميع الموجودات حيزها إما حدودها المحيطة بها ونهاياتها وهي منها فتلك لا توصف بالاستغناء عنها وإما ما يحيط بها منفصلاً عنها فليس في المخلوقات مايحتاج إلى حيز بعينه وأما الجهة فهي لا تكون جهة إلا بالتوجه فهي مفتقرة في كونها جهة إلى المتوجه والمتوجه لا يفتقر إلى جهة بعينها
بحال وإذا كانت المخلوقات لا تفتقر إلى حيز موجود وجهة موجودة أو مكان موجود بعينه وإن كان فيها ما يفتقر إلى نوع ذلك على البدل وما يسمى لها مكانًا قد يفتقر إليها وكذلك ما يسمى حيزًا لها متصلاً أو منفصلاً قد يكون مفتقرًا إليها وكذلك الجهة مفتقر إليها في معنى كونها جهة كان دعوى افتقار المتحيزات للحيز مع استغناء الحيز عنه في حق المخلوقات ليس على إطلاقه بل إطلاق ذلك دعوى باطلة فكيف في حق الخالق الغني عن كلما سواه المفتقر إليه كل ما سواه الوجه الثالث عشر قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في الجهة يقال له الأجسام كلها حاصلة في الحيز كما ذكرته أفتقول إنه يستحيل عقلاً حصول كل جسم في غير جهة وجودية فهذا لا يقوله عاقل بل يعلم ببديهة العقل أن كل جسم يمكن حصوله في غير جهة وجودية منفصلة كما أن العالم حاصل في غير جهة وجودية وما علمنا عاقلاً قال إن كل جسم يجب أن يكون
حاصلاً في حيز وجودي منفصل عنه وإذا كان كذلك كان قوله والشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله لا في جهة التي قد قدم إنها وجودية قول معلوم الفساد ببديهة العقل متفق على فساده بين العقلاء وهذا ليس مما يخفي على من تأمله وإنما الرجل غلط أو خالط في المقدمتين فإنه قد سمع وعلم أن الجسم لا يكون إلا متحيزًا فلابد لكل جسم من حيز ثم سمى حيزه جهة وقد قرر قبل هذا أن الجهة أمر وجودي فركب أن كل جسم يفتقر إلى حيز وجودي منفصل عنه وهذا الغلط نشأ من جهة ما في لفظ الحيز والجهة من الإجمال والاشتراك فيأخذ أحدهما بمعنى ويسميه بالآخر ثم يأخذ من ذلك الآخر المعنى الآخر فيكون بمنزلة من قال المشترى قد قارن زحل وهذا هو المشترى الذي اشترى العبد وقد قارن البائع فيكون البائع هو زحل أو يقول هذه
الثريا والثريا قد نكحها سهيل وقارنها فتكون هذه الثريا قد قارنها سهيل ونحو ذلك ومن المعلوم أن الجهة التي نصر أنها وجودية وهي مستغنية عن الحاصل فيها ليست هي الحيز الذي يجب لكل جسم يوضح ذلك الوجه الرابع عشر وهو أنه قال إن
المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه وأما الذي يكون مختصًّا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرًا إلى الحيز والجهة فإن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز مستحيل عقلاً حصوله لا مختصًّا بالجهة وذلك يقتضي أن الشيء الذي يمكن حصوله في الحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وجهة فيكون محتاجًا إلى الحيز والجهة وقد قرر أن المسمى بالحيز والجهة أمر مستغن في وجوده عما يتمكن ويستقر فيه فيكون الحيز والجهة مستغنيًا عن الحيز المتوجه وذلك يقتضي أن المتحيزات بأسرها مفتقرة إلى أحيازها وأن أحيازها التي يستحيل عقلاً حصولها في غيرها مستغنية عنها ومن المعلوم لكل عاقل أن تحيز الجسم أمر قائم به محتاج إليه ليس هو مستغنيًا عن الجسم وهذا هو الذي يستحيل عقلاً حصول المتحيز بدونه فإنه يستحيل حصول متحيز بدون تحيز وكل جسم متحيز وحصول المتحيز بدون التحيز محال وهو مثل حصول الجسم أو حصول المقدور بدون تَقَدُّر أو حصول المميز بدون التميز وأما كون المتحيز يستحيل عقلاً حصوله في غير حيز وراء هذا التحيز فالعقل يعلم
خلاف ذلك فيعلم أن المتحيز لا يفتقر إلى حيز وجهة غير هذا التحيز الذي قام به فظهر أنه ناقض مايعلم بالعقل خلافه بأن العقل يعلم افتقار المتحيز إلى حيز منفصل عنه بل يفتقر إلى حيز هو نهايته التي تُحيط به فقلب القضية وجعل الحيز المنفصل الذي هو للجهة مستغنيًا عن المتحيز والمتحيز يستحيل عقلاً حصوله بدونه وظهر ببطلان المقدمتين بطلان المقدمة الأولى من الحجة وهو قوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره ونتكلم على الثانية فنقول الوجه الخامس عشر قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره لفظ مجمل قد تقدم الكلام على نظيره غير مرة وهو أن لفظ الغير عند كثير من الصفاتية أو أكثرهم منهم أصحابك هو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود أو ما جاز وجود أحدهما دون الآخر وعند كثير من نفاة الصفات ومثبتيها ما جاز العلم
بأحدهما دون الآخر فما الذي تريد بلفظ الغير في قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا إلى غيره إن أردت به لكان مفتقرًا إلى ما يجوز وجوده دونه فهذا باطل فليس في الموجودات ما يجوز وجوده دون الله وعلى هذا التقدير فيمتنع افتقار الله إلى غيره لامتناع الغير الذي يجوز وجوده دونه كما يمتنع افتقاره إلى مثله لامتناع مثله ويمتنع خوفه من نده لامتناع نده فالفقر والحاجة إلىما يستغنى عنه محال هذا إن أراد وجود ذلك الغير دونه وإن أراد وجود الله دون ذلك الغير فيكون المعنى أنه مفتقر إلى الغير الذي يجوز وجود الله دونه وهذا جمع بين النقيضين فإنه إذا كان هو سبحانه موجودًا دونه لم يكن مفتقرًا إليه وإذا كان مفتقرًا إليه لم يكن سبحانه موجودًا دونه فقول القائل
إنه مفتقر إلى الغير الذي يوجد دونه مثل قوله مفتقرًا إلى ما هو سبحانه وتعالى مستغن عنه وذلك مثل قول القائل يفتقر لا يفتقر ويستغني لا يستغني وكذلك إن أراد بالغير ما يجوز مفارقته لله بزمان أو مكان أو وجود فالحيز الذي هو من لوازم وجوده كالصفة الذاتية اللازمة له لا يفارقه في زمان ولا مكان وقد ذكرنا أن الحيز الوجودي يراد به حد الشيء المتحيز الذي يحوزه ويراد به شيء منفصل عنه يحوزه والله ليس هو بل ولا غيره من المخلوقات مفتقرًا إلى حيز وجودي بالمعنى الثاني وأما الحيز الوجودي بالمعنى الأول فهذا لايجوز أن يفارق المتحيز لا في زمان ولا في مكان ولا وجود إلا إذا فرق ذلك المتَحيز وحينئذ فلا يكون هو إياه مع أن الله سبحانه صمد لا يجوز عليه التفرق والانقسام فإن أراد بالغير هذا المعنى كان التقدير لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ما هو لازم لذاته لا يجوز مفارقته له ولا انفصاله عنه وهكذا حكم جميع الصفات الذاتية فيكون المعنى كما لو قيل لو كان له صفة ذاتية لكان مفتقرًا إليها افتقار الموصوف إلى الصفة وهذا من
شبه نفاة الصفات التي يبطلها هذا المؤسس نفسه كما تقدم الكلام عليه وهذا أحد الوجوه التي ذكرها في حجة نفاة الصفات في نهايته فقال الثالث أن عالمية الله وقادريته لو كانت لأجل صفات قائمة به لكان الباري محتاجًا إلى تلك الصفات لكن الحاجة على الله محال فبطل القول باتصاف ذاته بالصفات فقوله لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان مفتقرًا في وجوده إلى ذلك مثل هذه سواء إذا فهم أن الحيز الذي يلزم المتحيز هو أمر لازم له ليس شيئًا منفصلاً عنه وأن المتحيز لا يفتقر إلى حيز موجود منفصل عنه بضرورة العقل والحس واتفاق العقلاء وقد تقدم الكلام على مثل هذه الحجة غير مرة وهي مثل قولهم يستلزم التركيب والكثرة الموجبة لافتقاره إلى أجزائه
وقد قال هو قولهم يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات المخصوصة في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما نلتزمه فأين المحال قال وأيضًا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا ويلزمكم أيضًا في الصورة المرتسمة في ذاته من المعقولات ما ألزمتمونا ونحن قد بينا أن هذه الأمور ليست غيرًا له بهذا الاصطلاح فلا يصح أن يقال هو مفتقر إلى غيره وأما إن أراد بالغيرين ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فنقول ثبوت هذه المعاني في حق الله تعالى متفق عليه بين
العقلاء معلوم بضرورة العقل فلابد منه في كل موجود فإنه يعلم شيئاً ثم يعلم شيئاً آخر فإن كان ثبوت هذه الأمور مستلزم حاجة الله إلى الغير فهذا اللازم على كل تقدير ولكل العقلاء وحينئذ فلا يكون محذورًا بهذا التفسير فظهر أن قوله لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير إما منع الملازمة أو منع انتفاء اللازم وذلك بسبب اشتراك لفظ الغير بضرورةالعقل واتفاق العقلاء فإن الغير إن عنى به مايجوز مفارقته في وجود أو زمان أو مكان منعت المقدمة الأولى وهو قوله لكان مفتقرًا إلى غيره فإن الحيز الوجودي الذي يلزمه ليس مما تجوز مفارقته له وإن عنى بالغير ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر فثبوت هذا في حق الله معلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء وإن كان فيهم من لا يسميه غير فالمقصود هنا
المعنى دون الألفاظ فتكون المقدمة الثانية باطلة بضرورة العقل واتفاق العقلاء الوجه السادس عشر يقال له ما تعني قولك لكان مفتقرًا في وجوده إلى الغير فإن الافتقار المعروف عند الإطلاق أن يكونَ الشيء محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه كافتقار العبد إلى الله وأما الشيئان اللذان لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر كالموصوف وصفته اللازمة أو المقدرة وقدرة اللازم له وكالأمور المتضايقة مثل الأبوة والبنوة والعلو والسفل ونحو ذلك فهذه الأمور لا توصف بافتقار أحدهما إلى الآخر دون العكس لكن إذا قيل كل منهما مفتقر إلى الآخر كان بمنزلة قول القائل الشيء مفتقر إلى نفسه والمعنى أن أحدهما لا يوجد إلا مع الآخر كما أن الشيء لا يكون موجودًا إلا بنفسه فإذا كان مخلوقًا كان الفاعل له لنفسه والفاعل لأحدهما هو الفاعل للآخر وإذا كان ذلك هو الخالق لم يكن سبحانه مفتقرًا إلى غير ذاته وإنما المعنى أنه واجب الوجود بنفسه ووجوده لازم لزومًا لا يمكن عدمه وأحد هذه الأمور لازم للآخر لزومًا يمكن معه عدمه
وإذا كان هذا المعنى هو الذي يمكن أن يراد بلفظ الافتقار هنا فيكون المعنى لو كان له صفة ذاتية لازمة له أو لو كان له تحيز لازم لكان ملازمًا له لا ينفك عنه وحينئذ فيتحد اللازم والملزوم ويكون هذا من باب تحصيل الحاصل كما لو قيل لو كان واجبًا بنفسه لكان مفتقرًا إلى نفسه والمعنى أن نفسه لازمة لنفسه لزمًا لا يمكن عدمه فإنما تغلط الأذهان هنا وتحصل الشبهة عند كثير من الناس والوهم في قلوبهم لما في لفظ الافتقار إلى الغير من المحذور وهؤلاء عمدوا إلى هذا اللفظ فاستعملوه في غير المعنى المعروف في اللغة وسموا لزوم صفاته له افتقارًا إلى الغير فلما عبروا عن المعاني الصحيحة بل المعاني التي يعلم بضرورة العقل ثبوتها في نفس الأمر بل لا يستريب في ثبوتها أحد من العقلاء مادام عاقلاً عبروا عنها بالعبارات المشتركة المجملة التي قد تستعمل في معانٍ فاسدة يجب تنزيه الباري سبحانه وتعالى عنها كان هذا الاشتراك مما أشركوا فيه بين الله وبين خلقه وهو من نوع شركهم وعدلهم بالله حيث أشركوا بين المعاني الواجبة لله والممتنعة عليه في لفظ واحد ثم نفوا به
ما يجب لله وكانوا مشركين معطلين في اللفظ كما كانوا مشركين معطلين في المعاني كما تقدم التنبيه على ذلك غير مرة بمنزلة من سمى رحمان اليمامة الرحمن وجعل يقول للناس أنا كافر بالرحمن يوهمهم أن رحمان اليمامة هو كافر بالرحمن الذي على العرش أو بمنزلة من سمى الأوثان آلهة والإله وجعل يقول للمؤمنين قد عبدت الإله ودعوت الإله وإنما يعني به الوثن أو بمنزلة الله اللات
والعزى ومناة الثالثة الأخرى وهو يعني الكفر بالله فهذا المثل نظير ما فعلوه من تسميته لما أثبته الله لنفسه بأسمائه وآياته بأسماء باطلة من المفتقر والغير ونحو ذلك ثم جعل يقول ينزه الله تعالى عن أن يكون مفتقرًا إلى الغير وهو مثل من يسمي نبيه محمدًا مذممًا ثم يقول العنوا مذممًا وهو صلى الله عليه وسلم محمد وليس بمذمم والله سبحانه الغني بما لَه من الأسماء والصفات وليس بمفتقر إلى غيره بوجه من الوجوه وإن سموه هم مفتقرًا إلى غيره إذا ثبتت له هذه الصفات كما سمى المشركون محمدًا مذممًا لما دعاهم إلى توحيد الله وعبادته وهذا حال فريق ممن خالف سلطان الله الذي بعث به رسله
وسمى سبحانه الأشياء بما تستحقه من الأسماء من أهل الكفر والبدع التي تشتمل على ما هو من الإيمان وما هو من الكفر فإنهم يسمون الأشياء بأسماء تتضمن حمدًا وذمًّا ونفيًا وإثباتًا وتلك الأسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وذلك مثل تسمية الكفار النبي صلى الله عليه وسلم شاعرًا وساحرًا وكاهنًا ومجنونًا وذلك لنوع شبهة قد أزاحها بما أظهره من البينات فلما رأوا القرآن كلامًا موزونًا شبهوه بالشعر الموزون ورأوا الرسول يخبر بالغيوب عن روح ينزل إليه بها
فشبهوه بالكاهن الذي يخبر بكلمة فيكذب معها مائة كذبة عن روح شيطاني ينزل عليه بها ورأوه يزيل ما في النفوس من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة إلى الصحيح الذي فطر الله النفوس عليه فشبهوه بالساحر الذي يغير الأمر في إدراكاتهم وحركاتهم حتى يعتقدوا الشيء بخلاف ما هو عليه ويحبوا ما أبغضوه ويبغضوا ما أحبوه ورأوه قد أتى بما يخالف عاداتهم الفاسدة وما يذمونه عليه فشبهوه بالمجنون الذي يخرج عما يعرف في العقل ويأتي ما يذم عليه
كذلك يسمي أهل البدع من اتبع سبيله الذي قال الله حكاية عنه قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} [يوسف 108] بأسماء باطلة كتسمية الرافضة لهم ناصبة مع محبتهم أهل البيت وموالاتهم تشبيهًا لهم بمن يبغضهم ويعاديهم لاعتقادهم أن لا ولاية لهم إلا بالبراءة من الصحابة وزعموا أنهم كانوا يعادونهم وكتسمية القدرية لهم مُجْبِرَة مع كونهم يعتقدون أن
العبد فاعل حقيقة وله إرادة وقدرة وتشبيهًا بمن يسلب العبد الفعل ويجعله كالجمادات التي لا إرادة لها لما اعتقدوا أن الله خالق كل شيء وهو خالق العبد وصفاته وأفعاله وكذلك تسمية الجهمية لهم مشبهة مع كونهم يعتقدون
أن الله ليس كمثله شيء في صفة من صفاته أصلاً تشبيهًا لهم بالممثلة الذين يجعلون الله من جنس المخلوقات لمااعتقدوا أن الله موصوف بصفات الإثبات التي جاءت بها النبوات وأما في الذم فتسمية الكفار أصنامهم الإله وتسميتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وما في ذلك لها من معنى الهيبة والعزة والتقدير وكذلك تسمية أهل البدع لأنفسهم بأسماء لا يستحقونها كما تسمي الخوارج أنفسهم المؤمنين دون بقية أهل القبلة ويسمون دارهم دار الهجرة وكذلك الرافضة تسمي أهلها المؤمنين وأولياء الله دون بقية أهل القبلة وكذلك الجهمية ونحوها يسمون أنفسهم الموحدين ويسمون نفي الصفات توحيد الله
وتسمي المعتزلة ذلك توحيدًا وتسمي التكذيب بالقدر عدلاً وتسمي القتال في الفتنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكذلك تسمية الصابئة لعلومهم أو أعمالهم الحكمة أو الحكمة الحقيقية أو المعارف اليقينية مع أن فيها من الجهل والشبه والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال وكذلك تسمية الاتحادية أنفسهم أهل الله وخاصة الله والمحققين وهم من أعظم الناس عداوة لله وأبعد
الناس عن التحقيق وما من اسم من هذه الأسماء الباطلة في الحمد والذم إلا ولابد لأصحابه من شبهة يشتبه فيها الشيء بغيره بل قد يفعل المبطلون أعظم من ذلك كتسمية بعض الزنادقة المتفقرة المسجد إِسطبل البطالين وهذا كثير فيمن يسمي الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وتلك كلها أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان وإنما فعلوها لنوع من الشبه التي هي قياس فاسد كشبه الجهمية وقاسهم أنه لو كان لله صفات لازمة لكان مفتقرًا إلي غيره فسموه لأجل ما هو به مستحق الحمد والثناء والمجد وهو الغني الصمد سموه لأجل ذلك مفتقرًا إلى الغير وهذا منهم باطل ما أنزل الله به من سلطان الوجه السابع عشر قوله المفتقر في وجوده إلى الغير
يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه وكل ما كان كذلك كان ممكنًا لذاته وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال يقال إذا كان الشيء مفتقرًا إلى شيء آخر مستغن عنه وأنه يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الثاني عدم الأول أو لا وجود للأول إلا بالثاني وما كان كذلك فإنه ممكن لذاته لكن إذا كان الثاني غير مستغن عن الأول بل كان الثاني مفتقرًا إلى الأول بحيث يلزم من عدم الأول عدمه لم يمكن أن يجعل الأول ممكنًا لافتقاره إلى الثاني بأولى من أن يجعل الثاني ممكنًا لافتقاره إلى الأول وحينئذ يجب دخولهما جميعًا في وجوب الوجود إذا ثبت أن كلا منهما حاجته على الآخر كحاجة الآخر إليه فكيف والموصوف هنا المستلزم للصفة وذلك يظهر بالوجه الثامن عشر وهو أنه قد عرف أن الغير هنا لا يعني الغير المنفصل عنه بل ما تغاير في العلم وأن الافتقار المراد به التلازم فيكون المعنى أن الموصوف
مستلزم الصفة ومعنى افتقاره إليها أنه لا يكون له حقيقة أو لا يكون على ما هو عليه إلا بها وأنه يلزم من عدمها عدمه لكن تلك الصفة أيضًا يلزم من عدم الموصوف عدمها ولا حقيقة لها ولا وجود إلا بالموصوف وكونها مستلزمة الموصوف وهوافتقارها إلى الموصوف أبلغ من كون الموصوف مستلزمًا لها وإذا كان كذلك كان الموصوف واجبًا للوجود ولم يكن يفتقر إلى شيء منفصل عنه ولكن معنى حاجته استلزامه للصفة التي هي مستلزمة له وهذا حق وهوغير منافٍ لوجوب الوجود بل لا يكون وجود واجب ولا غير واجب إلا كذلك الوجه التاسع عشر أنه لو فرض أن ذاته مستلزمة لشيء منفصل عنه من حيز أو غيره لكان بحيث يلزم من عدم ذلك اللازم لذاته المنفصل عنه عدم الملزوم الذي هو ذاته ثم لم يقل أحد من الخلائق بأن رب العالمين مفتقر لأجل ذلك إلى ما يكون منفصلاً عنه ولا على قول القائل بالتعليل والتوليد الذين منهم خرج التكلم بواجب الوجود فإنهم يقولون إنه علة تامة مستلزم
لوجود معلوله الذي هو العالم الذي تولد عنه ومع هذا فهو واجب الوجود ليس بممكن الوجود ولا يفتقر إلى غيره الوجه العشرون قوله إن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض لأنه يمكن تقديره بالذراع والشبر وما كان كذلك كان مفتقرًا إلى غيره ممكنًا لذاته فالمفتقر إليه أولى أن يكون ممكنًا يقال له قد تقدم أن الحيز الوجودي الذي يقال إن ذات الله مستلزمة له ليس هو شيئًا منفصلاً عنه حتى يقال إنه مركب من الأجزاء والأبعاض أم ليس بمركب وهذا الوجه إنما هو إقامة دليل على حيز وجودي منفصل عن الله تعالى مثل العرش والمنازعون له يقولون إن ذات الله ليست مستلزمة لوجود حيز وجودي منفصل عنه وإنما قد يقول من يقول منهم إنه يكون على العرش
أو يأتي في ظلل من الغمام أو كان قبل أن يخلق العرش في عماء وهو السحاب الرقيق لكن لم يقولوا إن ذلك لازم له بل هو من الأمور الجائزة عليه فلا يكون مفتقرًا إليه الوجه الحادي والعشرون أنه إذا قال قائل إنه لابد من حيز وجودي غير ذاته كغمام أو غيره أو الخلاء عند من يتخيل أنه موجود فإنه قد يقول لا نسلم أن ما ذكره من تقديره ومساحته يدل على إمكانه فإن هذه هي الأدلة الدالة على إمكان ذوات المقدار وقد تقدم بيان بطلانه وأنه لم يقم على ذلك حجة لما ذكر من أدلته على أن كل متحيز وكل جسم فهو ممكن الوجه الثاني والعشرون أنه إذا قدر أن ذلك ممكن لذاته فإنه لايكون إلا مفتقرًا إلى الله لأن كل ما سواه مفتقر إليه وغايته أن تكون حقيقة الرب مستلزمة له ويكون افتقاره إليه كما يقال من افتقار الموصوف إلى صفته وأكثر ما يقال إنه مفتقر إليه كافتقار العلة إلى معلولها الذي هو مفتقر غليها يعني أن العلة لا تكون
موجودة إلا بوجود معلولها ومعلولها هو مفتقر إليها فجعل العلة الموجبة بنفسها مفتقرة على معلولها حاصله أن وجوده لا يكون إلى مع وجوده وهذا لا يوجب أن يكون واجب الوجود ممكنًا الوجه الثالث والعشرون قوله والمفتقر على الممكن بذاته أولى أن يكونَ ممكنًا لذاته فيقال إذا كان معنى الفقر ما يعود إليه حاصل كلامك وأن معناه أن الواجب بنفسه مستلزم لوجود ما هو ممكن بذاته وهو الواجب لذلك الممكن وهو مع حاجته إليه هو الموجب فيكون حقيقة الأمر أن الواجب بنفسه أوجب أو أوجد ما يحتاج إليه وهذا لا يوجب أن يكون محتاجًا إلى ما هو مستغن عنه ولا أن يكون ممكنًا بل لا يوجب حاجته إلى ما هو غيره لأن ذاته هي الموجبة لكل مايحتاج إليه فلا حاجة به إلى غيره بحال هذا مع تسميتنا هذه المعاني حاجة وافتقارًا على ما زعمته ولكن لو كان محتاجًا إلى ممكن مستغن عنه بوجه من الوجوه كان فيه إمكان أما إذا كان ذلك الأمر محتاجًا إليه من كل وجه غير مستغن عنه فالحاجة إلى مالا يقوم إلا بنفسه كالحاجة إلى نفسه وذلك لا ينافي وجوبه بنفسه بل حقيقة الواجب بنفسه أن لا يستغني عن نفسه ولا يكون إلا بنفسه سميت ذلك فقرًا إلى نفسه أو لم تسمه وهذه الحجة لأمور قد
تقدم الكلام عليها فلهذا نختصر الكلام عليها هاهنا الوجه الرابع والعشرون قوله في الثالث لو كان الباري أزلاً وأبدًا مختصًّا بالحيز والجهة لكان الحيز والجهة موجودين في الأزل فيلزم إثبات قديم غير الله وذلك محال بإجماع المسلمين يقال له هؤلاء إذا قالوا بأنه مختص بحيز وجودي أزلاً وأبدّا فليس ذلك عندهم شيئاً خارجاً عن مسمى الله كما أن الحيز الذي هو نهايات المتحيز وحدوده الداخلة فيه ليس خارجًا عنه بل هو منه وعلى هذا التقدير فيكون إثباتهم لقدم هذا الحيز كإثبات سائر الصفاتية للصفات القديمة من علمه وقدرته وحياته لا فرق بين تحيزه وبين قيامه بنفسه وحياته وسائر صفاته اللازمة والحيز مثل الحياة والعلم بل أبلغ منه في لزومه للذات كما أنه كذلك في سائر المتحيزات فالحيز الذي هو داخل في المتحيز الذي هو حدوده وجوانبه ونواحيه ونهاياته أبلغ في لزومه لذاته من بعض الصفات كالسمع والبصر والقدرة وغير ذلك
ثم إن هذه الحجة التي ذكرها من لزوم إثبات قديم غير الله تعالى مشهورة من حجج النفاة للصفات وقد ذكرها هو في نهايته فقال في حجتهم الرابع الصفات القديمة لابد وأن تكون مساوية للذات القديمة في القدم وذلك يقتضي تماثلهما وأجاب عن ذلك بأجوبة صحيحة بين فيها أن الاشتراك في القدم لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة ولا يستحيل أن يكون للذات صفات قديمة لكن هذا الموضع لا يحتاج إلى ذلك فإن احتج على نفي قديم غير الله بإجماع المسلمين فيكون الجواب في الوجه الخامس والعشرين وهو أن المسلمين لم يجمعوا على أنه ليس لله صفة قديمة بل عامة
أهل القبلة على إثبات ذلك ولكن أجمعوا على أنه ليس فيما هو خارج عن مسمى الله وهو الأمور المخلوقة شيء قديم فأين هذا من هذا فهذا الإجماع إنما يلزم لو قيل إن هناك حيزًا وجوديًّا خارجًا عن مسمى الله تعالى يختص له أزلا وأبدًا الوجه السادس والعشرون أن احتجاجك في هذا بالإجماع لا يصح فإنك قد حكيت نزاع المسلمين في أن الباري هل هو متحيز ومختص بحيز وجهة وقررت أن الحيز أمر وجودي فتكون قد حكيت نزاع المسلمين في ثبوت حيز قديم مع الله بل قد يقال حكيت اختلافهم في ثبوت حيز قديم وجودي غير الله وإذا حكيت اختلافهم في ذلك لم يجز أن تحكي إجماعهم على نفي قديم غير الله تعالى وتقرير هذا في الوجه السابع والعشرين أن يقال هذه الحجة من أولها مبنية على أن الحيز أمر وجودي وبذلك أبطلت المنازع لك في أن الباري متحيز فلا يخلو إما أن يكون الحيز وجوديًّا أم لا فإن كان الحيز وجوديًّا فقد ثبت تنازع الأمة في ثبوت قديم غير الله معه لأن النزاع في تحيزه معلوم مشهور وأنت إنما قصدت الرد على المخالف في ذلك وإن لم يكن
الحيز وجوديًّا بطلت الحجة من أصلها وعلى التقديرين لا يصح أن تحتج بالإجماع على نفي قديم غير الله تعالى مع حكايتك الخلاف في أن الله متحيز وبنائك الحجة على أن الحيز أمر وجودي بل إن كان ما ذكرته من النزاع نقلاً صحيحًا وما ذكرته من الحجة صحيحة فقد ثبت أن في الأمة من يقول بثبوت قديم غير الله وإن لم يكن صحيحًا بطل الاستدلال من أوله الوجه الثامن والعشرون أن هذا اللفظ بعينه لا ينقل عن سلف الأمة حتى يحتج بمضمون اللفظ ولكن لما علم من مذهب الأمة أن الله خالق كل شيء وأن العالم محدث ذكر هذا اللفظ نقلاً لمذهبهم بالمعنى وإذا كان كذلك لم يكن هذا متناولاً لموارد النزاع بين الأمة الوجه التاسع والعشرون أنه أورد من جهة المنازع أنه لا يعني بكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا أنه مباينٌ عن العالم منفردٌ عنه ممتازٌ عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجودًا آخر سوى ذات الله تعالى فبطل قولكم لو كان في الجهة لكان مفتقرًا إلى الغير وهذا كلام جيد قوي كما قد بيناه فيما مضى أن الحيز لا خلاف بين الناس أنه قد يراد به ما ليس بخارج عن
مسمى الذات وأن هؤلاء المنازعين له لا يقولون إن مع الباري موجودًا هو داخل في مسمى نفسه أو موجودًا مستغنيًا عنه فضلاً عن أن يكون الرب مفتقرًا إليه بل كل ما سواه فإنه محتاج إليه وقد قرر لهم ذلك بالعالم فقال والذي يدل على صحة ما ذكرنا أن العالم لا نزاع في أنه مختص بالحيز والجهة وكونه مختصًّا بالحيز والجهة لا معنى له إلا كون البعض منفردًا عن البعض ممتازًا عنه وإذا عقلنا هذا المعنى ههنا فلم لا يجوز مثله في كون الباري مختصًّا بالحيز والجهة وهذا كلام سديد وهو قياس من باب الأولى ومثل هذا القياس يستعمل في حق الله تعالى وكذلك ورد به الكتاب والسنة واستعمله سلف الأمة وأئمتها كقوله تعالى ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ [الروم 28] وقوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الروم 39] وقوله أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات 153]
وقوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ {59} لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {60} [النحل 58-60] وقوله وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ {62} [النحل 62] فإن الله أخبر أنهم إذا لم يرضوا لأنفسهم أن يكون مملوك أحدهم شريكه ولم يرضوا لأنفسهم أن يكون لهم البنات فربهم أحق وأولى بأن ينزهوه عما لا يرضوه لأنفسهم للعلم بأنه أحق منهم بالتنزيه عما هو عيب ونقص عندهم وهذا كما يقول المسلم للنصراني كيف تنزه البتريك عن أن يكون له ولد وأنت تقول إن لله ولدًا وكذلك هنا
هو ينزه العالم المتحيز أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود ولا ينزه الرب المعبود إذا كان فوق العرش أن يكون مفتقرًا إلى شيء موجود والخالق أحق بالغنى من المخلوق فتنزيهه عن الشريك والولد والحاجة كل ذلك واجب له فإذا نزه بعض الموجودات عن شيء من ذلك كان تنزيهه الباري عنه أولى وأحرى ولم يجب عن هذا القياس والمثل الذي ضربوه له بالعالم بجواب صحيح بل قال قوله الأجسام حاصلة في الأحياز فنقول غاية ما في هذا الباب أن يقال الأجسام تحتاج إلى شيء آخر وهذا غير ممتنع أما
كونه تعالى محتاجًا في وجوده إلى شيء آخر فممتنع فظهر الفرق فيقال له أنت وجميع الخلق تسلمون أن كون العالم في حيز وجهة لا يستلزم احتياجه إلى حيز موجود مستغن عن العالم فإن هذا لم يقله عاقل فإنه يستلزم التسلسل وإذا كان قد علم بالعقل والاتفاق أن العالم يستغني في تحيزه عن حيز موجود خارج عنه فخالق العالم أولى أن يكون مستغنيًا عن ذلك ومن قال إنه في تحيزه يكون مفتقرًا إلى شيء موجود خارج عنه فلم يكفه أن عدله بالمخلوق بل فضل المخلوق بالاستغناء عليه تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وأما قوله أيضًا في الجواب قد بينا بالبراهين القاطعة أن الأحياز أشياء موجودة فلا يبقى في
صحتها شك فيقال له قد تبين أن هذه من أضعف الشبه مع أنك مبطل لها كما تقدم ثم ما ذكرته في نهايتك في ذلك منقوض عليك في العالم فما كان جوابك فيه كان جواب منازعك هنا فإنك ضربت لله أمثالاً أوجبت فيها أنه محتاج مع وصفك لمن هو دونه بالغنى عما جعلته محتاجًا إليه ويكفيك ضلالاً أنك لو أشركت بالله وجعلته مثل المخلوقات لنجوت من هذا الضلال الذي أوجبت فيه حاجة رب العالمين إلى غيره إذا كان فوق العالم بل هذه الحال التي سلكتها أسوأ من حال المشركين في هذا المقام حيث أغنيت المخلوق عما أحوجت إليه الخالق هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الحديد 4] ومثله في هذه المناظرة كما وقع بين اثنين واحد من المثبتة الذين يُثَبِّتُهم الله بالقول الثابت وآخر من النفاة قال النافي للمثبت إذا قلتم أن الله فوق العالم أو فوق العرش لزم أن يكون محتاجًا إلى العرش أو يكون محمولاً له محتاجًا إليه
كما إذا كان أحدنا على السطح فقال له المثبت السماء فوق الأرض وليست محتاجة إليها وكذلك العرش فوق السموات وليس محتاجًا إليها فإذا كان كثير من الأمور العالية فوق غيرها ليس محتاجًا إليها فكيف يجب أن يكون خالق الخلق الغني الصمد محتاجًا إلى ما هو عال عليه وهو فوقه مع أنه هو خالقه وربه ومليكه وذلك المخلوق في بعض مخلوقاته مفتقر في كل أموره إليه فإذا كان المخلوق إذا علا على كل شيء غني عنه لم يجب أن يكون محتاجًا إليه فكيف يجب على الرب إذا علا على كل شيء من مخلوقاته وذلك الشيء مفتقر إليه أن يكون الله محتاجًا إليه الوجه الثلاثون أنه قال في الاعتراض لا معنى لكونه مختصًّا بالحيز والجهة إلا كونه مباينًا عن العالم منفردًا عنه ممتازًا عنه وكونه كذلك لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات الله تعالى
فقال في الجواب أماقوله المراد من كونه مختصًّا بالحيز والجهة كونه تعالى منفردًا عن العالم أو ممتازًا عنه أو بائنًا عنه قلنا هذه الألفاظ كلها مجملة فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها المخالفة في الحقيقة والماهية وذلك مما لا نزاع فيه ولكنه لا يقتضي الجهة والدليل على ذلك هو أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة والمباينة ليست بالجهة فإن امتياز ذات الله عن الجهة لا يكون بجهة أخرى وإلا لزم التسلسل فيقال له هذا الذي ذكرته ليس دليلاً على أن المخالفة في الحقيقة والماهية لا تقتضي الجهة فإن قولك إن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وليس ذلك بالجهة إنما يكون حجة لو ثبت أن الحيز والجهة أمر وجودي فإن الكلام هنا إنما هو في الامتياز والمباينة التي من الأمور الموجودة لا بين الموجود والمعدوم فإن المعدوم ليس شيئاً في الخارج حتى يحتاج إلى التمييز بينه وبين غيره وليس له
حقيقة وماهية حتى يميز بينه وبين غيره ولو فرض أنه محتاج إلى التمييز بينه وبين غيره فالكلام هناك وفي المباينة التي بين موجودين وهي المباينة بين الله وبين العالم وإذا كان كذلك كان احتجاجه بالمباينة التي بين الله وبين الجهة على المباينة بين الموجودين يكون بالحقيقة لا بالجهة إنما يصح إذا كانت الجهة أمرًا وجوديًّا وهذا هو محل النزاع الذي نازعه فيه المنازع على أن الجهة المضافة إلى الله تعالى ليست أمرًا موجودًا فإنه لا معنى لكون الباري في الجهة إلا كونه مباينًا للعالم ممتازًا عنه منفردًا وهو لا يقتضي وجود أمر سوى ذات الله فإذا احتج على أن المباينة التي بين الله تعالى وبين العالم إنما هي بالحقيقة ومباينة الشيء بالحقيقة لا يقتضي الجهة كمباينة الرب للجهة كان قد سلم أن الجهة أمر وجودي في هذا الجواب وهذه مصادرة على المطلوب حيث جعل الشيء مقدمة في إثبات نفسه والمنازع يقول لا أسلم أن الجهة أمر موجود حتى يقال إن الله تعالى مباين لشيء موجود بغير جهة فإن النزاع ما وقع إلا في وجودها وهذا أول المسألة فكيف يحتج في وجوده بدليل محتج فيه بوجوده وهذا
ظاهرلا يخفى على من تدبره وظهر أنه لم يذكر حجة على أن المخالفة بالحقيقة لا تقتضي الجهة الوجه الحادي والثلاثون أن يقال المعلوم من المباينة والامتياز بالحقيقة والماهية لا يخلو عن الجهة وذلك أنه إما أن يكون بين جوهرين وجسمين وما يقوم بهما وكل منهما مباين للآخر بالجهة وإما أن يكون بين عرضين بجوهر واحد وعين واحدة كطعمه ولونه وريحه وعلمه وقدرته أو بين العين وبين صفاتها وأعراضها كالتمييز بين الجسم وبين طعمه ولونه وريحه وهذان الموضعان لا يخلو الأمران عن الجهة أيضًا فإن الجوهر هو في الحيز بنفسه بخلاف العرض الذي فيه فإنه قائم في الحيز تبعًا لغيره وأما الصفتان والعرضان فهما أيضًا قائمان بمتحيز وإن كان أحدهما لا يتميز عن الآخر بمحله فليس في الأشياء الموجودة التي يعلم تباينها وتمايزها ما تخلو عن الجهة والحيز فإن قيل فأحد العرضين مباين الآخر بحقيقته مع اتفاق محلهما فبقال الوجه الثاني والثلاثون وهو أن كل شيئين قائمين
بأنفسهما لا يباين أحدهما الآخر إلا بالجهة وذلك أن الموجودات كلها الواجب والممكن إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره فالقائمات بأنفسها لا تتميز بعضها عن بعض إلا بالجهة وأما القائم بغيره فإنه تبع في الوجود للقائم بنفسه يوضح ذلك أن القائم بغيره هو محتاج إلى محل ومكان وأيضًا فقد يقال الأعراض نوعان أحدهما مالا تشترط له الحياة وهو قسمان أحدهما الأكوان وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق فهذه لا تتميز وتتباين إلا بالجهة والحيز وإن كان تبعًا للمحل فلا يفرق بين الحركة والسكون ولا بين الاجتماع والافتراق إلا بالحيز والجهة فإن الحركة انتقال في حيز بعد حيز والسكون دوام في حيز واحد
والاجتماع يكون بتلاقي الحيزين والافتراق يكون بتباينهما والثاني الطعوم والألوان والروايح وهذه هي الصفات فهذه الأمور لا تدرك بشيء واحد بل تتميز بحواس مختلفة فالذي يتميز به هذا غير الذي يتميز به هذا فحقائقها لا تظهر إلا بإدراكها وإدراكها من أجناس في أحياز متباينة فامتياز الأحياز التي لإدراكاتها تقوم مقام امتياز أحيازها والقسم الثاني ما تشترط له الحياة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فهذه أيضًا متباينة قد يحصل بين آثارها من تباين المحال ما يقوم مقام تباين محالها وقد يقال هذه الأعراض كلها مفروضة الإضافة إلى الغير وذلك الغيرالذي هي مضافة إليه متباين بجهته فهي متباينة بالإضافة إلى ما تتباين جهته وظهر أنه ليس في الموجودات ما يباين غيره بمجرد حقيقته المجردة عن الجهة
من كل وجه بل لابد من شيء يظهر تحصل به الوجه الثالث والثلاثون أن يقال لا نسلم أنه إذا قيل هذا مباين لهذا وممتاز عنه أو منفرد عنه فإنه لا يراد به إلا أن حقيقته ليست مثل حقيقته بل المراد بذلك أن هذا في ناحية عن هذا وأنه منفصل عنه بحيث يكون حيزه غير حيزه هذا هو المعروف من هذا وأما الاختلاف في الحقيقة فمعناه عدم المماثلة فإن الحقائق إما مختلفة وإما متماثلة ومن المعلوم أنه إذا قيل إن الله مباين للعالم أو ممتاز عنه ومنفرد عنه لم يرد به أن الله ليس مثل العالم وهذا كما قيل لابن مبارك بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذه المباينة لا يراد بها عدم المماثلة بل يراد بها أنه منفصل عنه وتصور ذلك بديهي ظاهر وما يعلم في المواضع التي يستعمل فيها لفظ مباينة الشيء لغيره وامتيازه عنه وانفراده عنه إلا ويكون ذلك مع انفصال أحدهما عن الآخر حتى إذا ضمن ذلك المفاضلة وعدم المماثلة مثل أن يقال هذا متميز عن هذا بكذا وكذا وهذا منفرد عن أقرانه بكذا وكذا ففي هذه المواضع كلها يوجد معنى
الانفصال والتمييز بالحيز والجهة ودليل ذلك أنه لا يعرف أن يقال اللون منفرد عن الطعم ومباين له مع أن أحدهما ليس مثل الآخر فعلم أن المخالفة التي مضمونها عدم المماثلة فهي متضمنة الانفصال الوجه الرابع والثلاثون أن يقال المختلفان في الحقيقة هما اللذان لا يتماثلان فالمماثلة ضد المخالفة والاختلاف ضد التماثل وعدم التماثل لابد أن يستلزم صفات حقيقية ثبوتية اختلفا بها وإلا فالعدم المحض لا يوجب امتياز أحدهما عن الآخر فإذن التباين بمعنى الاختلاف في الحقيقة يقتضي أمورًا ثبوتية خالف بهما أحدهما الآخر مخالفة تنفي تماثله وإذا كان المراد بالمباينة ذلك لم يجز العلم بها إلا بعد العلم بأن الشيئين ليسا متماثلين وذلك لا يكون إلا بعد العلم بأمور ثبوتية تنفي مماثلتهما كما يعلم الطعم واللون والريح فيعلم أنها ليست متماثلة والعلم بأن الخالق مباين للمخلوق وأنه ممتاز عنه وأنه منفرد عنه يحصل قيل العلم بان الله لا مثيل له وأن حقيقته مخالفة لحقيقة العالم كما أنه قد
يحصل العلم بأنه ليس مماثلاً للخلق بل مخالف له قبل العلم بأنه مباين للعالم ممتاز عنه منفرد عنه فإن باب الكيف غير باب الكم وباب الصفة غير باب القدر وإذا كانت المباينة بالقدر والجهة تعلم دون هذه علم أنها أيضًا ثابتة وإن كانت تلك أيضًا ثابتة وأنه مباين للخلق بالوجهين جميعًا بل المباينة بالجهة والقدر أكمل فإنها تكون لما يقوم بنفسه كما تكون له المباينة بالصفة والكيفية وأما المباينة بمجرد الصفة والكيفية فلا تكون إلا بما يقوم بغيره لأن عدم قيامه بنفسه يمنع أن يكون له قدر وحيز وجهة على سبيل الاستقلال ومن ها هنا يتبين لنا الوجه الخامس والثلاثون وهو أن المعلوم أن مباينة الله لخلقه أعظم من مباينة بعض الخلق بعضًا سواء في ذلك مباينة الأجسام بعضها لبعض والأعراض بعضها لبعض ومباينة الأجسام للأعراض ثم الأجسام والأعراض تتباين مع تماثلها بأحياز وجهاتها المستلزمة لتباين أعيانها وتتباين مع اختلافها أيضًا بتباين أحيازها وجهاتها مع اختلافها كالجسمين
المختلفين والعرضين المختلفين في محلين وأدنى ما يتباين به الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الحيز كالعرضين المختلفين في محل واحد فلو لم يباين الباري لخلقه إلا بمجرد الاختلاف في الحقيقة والصفة دون الجهة والحيز والقَدْر لكانت مباينته لخلقه من جنس مباينة العرض لعرض آخر حال في محله أو مباينة الجسم للعرض الحال في محله وهذا يقتضي أن مباينته للعالم من جنس مباينة الشيئين اللذين هما في حيز واحد ومحل واحد فلا تكون هذه المباينة تنفي أن يكون هو والعالم في محل واحد بل إذا كان العالم قائمًا بنفسه وكانت مباينته له من هذا الجنس كانت مباينته للعالم مباينة العرض للجسم الذي قام به ويكون العالم كالجسم وهو معه كالعرض وذلك يستلزم أن تكون مباينته للعالم مباينة المفتقر إلى العالم وإلى محل يحله لاسيما والقائم بنفسه مستغن عن الحال فيه وهذا من أبطل الباطل وأعظم الكفر فإن الله غني عن العالمين كما تقدم ومن هاهنا جعله كثير من الجهمية حالاً في كل مكان وربما جعلوه نفس الوجود القائم بالذوات أو جعلوه الوجود المطلق أو نفس الموجودات وهذا كله مع أنه من أبطل الباطل هو تعطيل للصانع ففيه من إثبات فقره وحاجته على
العالم ما يجب تنزيه الله عنه وهؤلاء قد زعمواأنهم نزهوه عن الحيز والجهة فلا يكون مفتقرًا إلى غيره فأحوجوه بهذا التنزيه إلى كل شيء وصرحوا بهذه الحاجة كما ذكرناه في غير هذا الموضع فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً {88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً {89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً {90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً {91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً {92} إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً {93} لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً {94} وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً {95} [مريم 88-95] ومع هذا فهؤلاء أقرب إلى الإثبات وإلى العلم من إثبات مباينة لا تعقل بحال وهو مباينة من قال لا داخل العالم ولا خارجه فإن هذه ليست كشيء من المباينات المعروفة التي أدناها مباينة العرض للجسم أو للعرض بحقيقته وأن ذلك يقتضي أن يكون أحدهما في الآخر أو يكونان كلاهما في محل واحد وإذا كلن هؤلاء النفاة لم يثبتوا له مباينة تعقل وتعرف بين موجودين علم أنه في موجب قولهم معدومًا كما اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذلك حقيقة قول هؤلاء الجهمية الذين يقولون إنه ليس فوق العرش إنهم جعلوه معدومًا ووصفوه بصفة المعدوم
يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولايجب أن يكون موجودًا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذه حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك فإن هذا حال الضالين الوجه السادس والثلاثون أن يقال هب أنهم أثبتوا له مباينة تعقل لبعض الموجودات فالواجب أن تكون مباينته للخلق أعظم من مباينة كل لكل فيجب أن يثبت له من المباينة أعظم من مباينة العرض للعرض ولمحله ومباينة الجوهر للجوهر وذلك يقتضي أن يثبت له المباينة بالصفة الني تسمى المباينة بالحقيقة والكيفية والمباينة بالقدر التي تسمى المباينة بالجهة أو الكمية وإن كانت مباينته
لهذين أعظم ممايعلم من مباينة المخلوق للمخلوق إذ ليس كمثله شيء في شيء مما يوصف به وأما إثبات بعض المباينات دون بعضها فهذا يقتضي مماثلته للمخلوق وأن يكون شبهه ببعض المخلوقات أعظم من شبه بعضها ببعض وذلك ممتنع يوضح ذلك الوجه السابع والثلاثون وهو أن المباينة تقتضي المخالفة في الحقيقة وهي ضد المماثلة وحيث كانت المباينة فإنها تستلزم ذلك فإن المباينة بالجهة والحيز تقتضي أن تكون عين أحدهما مغايرة لعين الآخر وهذا فيه رفع الاتحاد وإثبات مخالفة وكذلك اختلاف الصفة والقدر ترفع المماثلة وتثبت المباينة والمخالفة وهو إن كان قد قال إن المباينة يُعنى بها المباينة بالجهة والمخالفة في الحقيقة وقد ذكر أنها في المعنى الأول أظهر فإنها تستلزم الاختلاف في الحقيقة حيث كانت فإن الشيئين المتماثلين لايتصور أن يتماثلا حتى يرتفع التباين في العين بل لابد أن تكون عين أحدهما ليست عين الآخر وان يكون له ما يخصه من أحوال كالعرضين المتماثلين بل السوادين إذا حل أحدهما في محل بعد الآخر فإن زمان هذا غير زمان الآخر ولهذا يقال المباينة تكون
بالزمان وتكون بالمكان وتكون بالحقيقة والمقصود هنا أن المباينة مستلزمة لرفع المماثلة فإذا كان الله سبحانه ليس كمثله شيء في أمر من الأمور وجب أن تكون له المباينة التامة بكل وجه فيكون مباينًا للخلق بصفته وقدره بحقيقته وجهته وبقدمه الذي يفارق به الكائنات في زمانها فتكون الأشياء مباينة له بمكانها وزمانها وحقيقتها وهو سبحانه مباين لها بأزله وأبده وظهروه وبطونه فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهومباين لها بصفاته سبحانه وتعالى يؤيد هذا أن المثبتة للصور أعظم تنزيهًا لله عن مماثلة الخلق من نفاتها لأن الأمور السلبية لا ترفع المماثلة بل الأعدام متماثلة وإنما يرتفع التماثل بالأمور الوجودية فكل من كان أعظم إثباتًا لما توجبه أسماء الله وصفاته كان رفعه المماثلة عن الله أعظم وظهر أن هؤلاء الجهمية الذين يزعمون أنهم يقصدون تنزيهه عن المشابهة هو الذين جعلوا له أمثالاً وأندادًا فيما أثبتوه وفيما نفوه كما تقدم بيان ذلك والله أعلم
أما قولنا إنه يمتنع أن يكون غير متناه من جميع الجوانب فيدل عليه وجوه الأول أن وجود بُعدٍ لا نهاية له محال والدليل عليه أن فَرْضَ بُعْدٍ غير متناه يُفضي إلى المحال فوجب أن يكون محالاً وإنما قلنا إنه يفضي إلى المحال لأنا إذا فرضنا بعدًا غير متناه وفرضنا بعدًا آخر متناهيًا موازيًا له ثم زال الخط المتناهي من الموازة إلى المسامتة فنقول هذا يقتضي أن يحصل من الخط الأول الذي هو غير متناه نقطة هي أول نقط المسامتة وذلك الخط المتناهي ما كان مسامتًا للخط الغير متناهي ثم صار مسامتًا له فكانت هذه المسامتة حادثة في
أول أوان حدوثها لابد وأن تكون مع نقطة معينة فتكون تلك النقطة هي أول نقطة المسامتة لكن كون الخط غير متناه يمنع من ذلك لأن المسامتة مع النقطة الفوقانية تحصل قبل المسامتة مع النقطة التحتانية فإذا كان الخط غير متناه فلا نقطة فيه إلا وفوقها نقطة أخرى وذلك يمنع من حصول المسامتة في المرة الأولى مع نقطة معينة فثبت أن هذا يقتضي أن يحصل في الخط الغير متناه نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل وهذا المحال إنما لزم من فَرْضِنَا أن ذلك الخط غير متناه فوجب أن يكون في ذلك محالاً فثبت أن القول بوجود بعد غير متناه محال الوجه الثاني وهو أنه إذا كان القول بوجود بعد غير
متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع الوجه الثالث أنه لو كان غير متناه من جميع الجوانب لوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزاء ذاته وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل وأما القسم الثاني وهو أن نقول إنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب فهو أيضًا باطل لوجهين أحدهما أن البرهان الذي ذكرناه على امتناع بعد غير
متناه قائم سواء قيل من كل الجوانب أو من بعض الجوانب الثاني أن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الذي فرض أنه متناه إما أن يكونا متساويين في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الجانب الآخر وذلك يقتضي أن ينقلب الجانب المتناهي غير متناهٍ والجانب الغير متناه متناهيًا وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى وهو محال وأما القسم الثاني وهو القول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الثاني في الحقيقة والماهية فنقول أن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بينا الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلاالشيء الممتد في
الجهات المختص بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كانت جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية وأما القسم الثالث وهو أن يقال إنه متناه من كل الجوانب فهذا أيضًا باطل من وجهين أحدهما أن كل ما كلن متناهيًا من جميع الجوانب كانت حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكلما كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه الثاني أنه لما كان متناهيًا من جميع الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحياز خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله وأيضًا فهو تعالى قادر على خلق الجسم في الحيز الفارغ فلو فرض حيز خال لكان قادرًا على أن يخلق فيه جسمًا وعلى
هذا التقدير يكون هذا الجسم فوق الله تعالى وذلك عند الخصم محال فثبت أنه لو كان في جهة لم يخل الأمر عن أحد هذه الأقسام الثلاثة وثبت أن كل واحد منها باطل محال فكان القول بأن الله تعالى في الحيز والجهة محال فإن قيل ألستم تقولون إنه غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتمونا قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه شيء غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته مقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله تعالى عنينا به التفسير الأول فإن كان مرادكم ذلك فقد ارتفع
النزاع بيننا وإن كان مرادكم هذا الوجه الثاني فحينئذ يتوجه عليكم ماذكرناه من الدليل ولا ينقلب ذلك علينا لأنا لا نقول إنه غير متناه بهذا التفسير حتى يلزمنا ذلك الإلزام فظهر الفرق وبالله التوفيق يقال هذه الحجة هي من جنس قولهم لو كان فوق العرش لكان إما أن يكون أصغر منه أو بِقَدْرِه أو أكبر منه ببعد متناه أو غير متناه وهذه الحجج من حجج الجهمية قديمًا كما ذكر ذلك الأئمة وذكروا أن جهمًا وأتباعه هم أول من أحدث في الإسلام هذه الصفات السلبية وإبطال نقيضها مثل قولهم ليس فوق العالم ولا هو داخل العالم ولا خارجه وليس في مكان دون مكان وليس بمتحيز ولا جوهر ولا جسم ولا له نهاية ولا حد ونحو هذه العبارات فإن هذه
العبارات جميعها وما يشبهها لا تؤثر عن أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة الدين المعروفين ولا يروى بها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا توجد في شيء من كتب الله المنزلة من عنده بل هذه هي من أقوال الجهمية ومن الكلام الذي اتفق السلف على ذمه لما أحدثه من أحدثه فحيث ورد في كلام السلف ذم الجهمية كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك وحيث ورد عنهم ذم الكلام والمتكلمين كان أهل هذه العبارات داخلين في ذلك فإن ذلك لما أحدثه المبتدعون كثر ذم أئمةالدين لهم وكلامهم في ذلك كثير قد صنف فيه مصنفات حتى إن أعيان هذه العبارات وأمثالها ذكرها السلف والأئمة فيما أنكروه على الجهمية وأهل الكلام المحدث وقد قدمنا ما وصفه الإمام أحمد من مذهب جهم حيث قال وتأول القرآن على غير تأويله وكَذَّبَ بأحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف من الله شيئاً وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرًا وكان من المشبهة فأضل بشرًا كثيرًا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السابعة كما هو على العرش لا يخلو منه ولا هو في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولايوصف ولا يعرف بصفة ولا يعقل ولا له غاية ولا
منتهي ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو سمع كله هو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بصفتين مختلفتين فليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحٍ ولا جوانب ولا يمين ولاشمال ولاهو خفيف ولا ثقيل ولاله لون ولاله جسم وليس بمعقول وكلما خطر بقلبك أنه شيء تعرفه فالله بخلافه وقال أيضًا الإمام أبوسعيد عثمان بن سعيد في كتابه المعروف الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهم العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال باب الحد والعرش وادعى المعارض أنه ليس لله حد ولا غاية
ولا نهاية قال وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالاته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهمًا إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن يحاوره قد علمت مرادك منها أيها الأعجمي تعني أن الله لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأن لا شيء ليس له حد وغاية ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدًا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولاغاية وقولك لا حد له يعني أنه لا شيء قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد
أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله ولمكانه أيضَا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك يم نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك
قال فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه 5] أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء [الملك 16] يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر 10] فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله وجحد آيات الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى فوق عرشه فوق سمواته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال اعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها مؤمنة
دليل على أنها لو لم تؤمن أن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله ثم قال وثنا أحمد بن منيع البغدادي حدثنا
أبو معاوية عن شيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن
حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تُعِدُّه لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء
فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فحصين الخزاعي في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض فقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في
السماء وحدوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم قد عرفوه بذلك إذاحَزَبَ الصبي شيء رفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية وقدمنا أيضًا قوله في ضمن رده على الجهمي المنكر لاستواء الله على العرش قال وأعجب من هذا كله قياسك الله بقياس العرش ومقداره ووزنه من صغر أو كبر وزعمت كالصبيان العميان إن كان الله أكبر من العرش أو أصغر منه أو مثله فإن كان الله أصغر فقد صيرتم العرش
أعظم منه وإن كان أكبر من العرش فقد ادعيتم فيه فضلاً عن العرش وإن كان مثله فإنه إذا ضم إلى العرش السموات والأرض كانت أكبر من خرافات تكلم بها وترهات يلعب بها وضلالات يضل بها لو كان من يعمل عليه لله لقطع ثمرة لسانه والخيبة لقوم هذا فقيههم والمنظور إليه مع هذا التمييز كله وهذا النظر وكل هذه الجهالات والضلالات فيقال لهذا البقاق النفاخ إن الله أعظم من كل شيء وأكبر من كل خلق ولم يحتمله العرش عظمًا ولا قوة ولا حملة العرش احتملوه بقوتهم ولا استقلوا بعرشه بشدة أسرهم ولكنهم حملوه بقدرته ومشيئته وإرادته وتأييده لولا ذلك ما أطاقوا حمله
وقد بلغنا أنهم حين حملوا العرش وفوقه الجبار في عزته وبهائه ضعفوا عن حمله واستكانوا وجثوا على ركبهم حتى لقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستقلوا به بقدرة الله وإرادته ولولا ذلك ما استقل به العرش ولا الحملة ولا السموات والأرض ولا من فيهن ولو قد شاء لاستقل على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف على عرش عظيم أكبر من السموات السبع والأرضين السبع ولو كان العرش في السموات والأرضين ما وسعته ولكنه فوق السماء السابعة وإذا عرفت أصل هذا الكلام فجميع السلف والأئمة الذين بلغهم ذلك أنكروا ما فيه من هذه المعاني السلبية التي تنافي ما جاء به الكتاب والسنة ثم من كان من السلف أخبر بحال الجهمية مثل الذين كانوا يباشرونهم من السلف والأئمة الذين بالعراق وخراسان إذ
ذاك فإنهم كانوا أخبر بحقيقة أمرهم لمجاورتهم لهم فإنهم قد يتكلمون بنقيض ما نفوه وقد يتوقف بعضهم عن إطلاق اللفظ مثل لفظ الحد فإن المشاهير بالإمامة في السنة أثبتوه كما ذكره عثمان بن سعيد عنهم وسمَّى ابن المبارك وذكر شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب ذم الكلام بإسناد ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وإسحاق في مسائله عنهما وعن غيرهما قال قلت لإسحاق بن إبراهيم ما تقول في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وذكر أيضًا ما ذكره ابن أبي
حاتم بإسناده أن هشام بن عبيد الله الرازي القاضي صاحب محمد بن الحسن حبس رجلاً في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب وقال شيخ الإسلام شرح مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق يعني تصنيفه باب أغنى عن تكريره هنا وقال شيخ الإسلام في كتاب ذم الكلام وأهله في أثناء
الطبقة الثامنة وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن له كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان هذا مع أن هؤلاء الذين يذكر شيخ الإسلام أقوالهم من أئمة الحديث والفقه والتصوف وغيرهم وقد ذكر عنهم ذم الكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم على ما أحدثوه مما يخالف طريقة أهل السنة والحديث وذكر الخلال في كتاب
السنة ما تقدم من رواية حرب عن إسحاق بن إبراهيم أن الله عزوجل وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغير ما وصف به نفسه من ذلك قوله يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] في آيات كلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش وأعلى شيء فيه وأثبته قول الله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] قال وأنا أبوبكر المروذي ثنا محمد بن الصباح النيسابوري ثنا سليمان بن داود أبو داود الخفاف قال قال إسحاق بن
راهوية قال الله تبارك وتعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي السموات السبع وما فوق العرش أحاط بكل شيء علمًا وما تسقط من ورقة إلا يعلمهاولاحبة في ظلمات البر والبحر إلا وقد عرف ذلك كله وأحصاه ولايعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره ثم قال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له روى علي بن الحسن ابن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبد الله هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] ثم قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22]
قال الخلال وأنا محمد بن علي الوراق ثنا أبوبكر الأثرم حدثني محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد ابن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا
وقال ثنا الحسن بن صالح العطار ثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال
كنا عند أبي عبد الله قال فسألناه عن قول ابن المبارك على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ [الملك 16] تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وهو على العرش وعلمه مع كل شيء وقولهم ما معنى قول ابن المبارك وقوله لا أعرفه قد يكون لا أعرف حقيقة مراده لكن للمعنى الظاهر من اللفظ شواهد وهو النصوص التي تدل على أن الله تنتهي إليه الأمور وأنه في السماء ونحو ذلك وقد يكون لا أدري من أين قال ذلك لكن له شواهد وقال الخلال أنا يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد
ابن حنبل قيل له والله تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه بكل مكان قال نعم على عرشه لا يخلو شيء من علمه وقال أخبرني عبد الملك الميموني أنه سأل أبا عبد الله
ما تقول فيمن يقول إن الله ليس على العرش قال كلامهم كله يدور على الكفر وهذا المحفوظ عن السلف والأئمة من إثبات حد لله في نفسه قد بينوا مع ذلك أن العباد لا يحدونه ولا يدركونه ولهذا لم يتناف كلامهم في ذلك كمايظنه بعض الناس فإنهم نفوا أن يحد أحد الله كما ذكره حنبل عنه في كتاب السنة والمحنة وقد رواه الخلال في كتاب السنة أخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي
نحن نؤمن بالله عز وجل على عرشه كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله عز وجل منه وله وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو لايدرَك وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله شيء محدود ولا يبلغ علمه وقدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله قبل أن يكون شيء والله الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته فالتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير
وذلك أن لفظ الحد عند كل من تكلم به يراد به شيئان يراد به حقيقة الشيء نفسه ويراد به القول الدال عليه المميز له وبذلك يتفق الحد الوصفي والحد القدري كلاهما يراد به الوجود العيني والوجود الذهني فأخبر أبو عبد الله أنه على العرش بلا حد يحده أحد أو صفة يبلغها واصف وأتبع ذلك بقوله لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] بحد ولا غاية وهذا التفسير الصحيح للإدراك به أي لا تحيط الأبصار بحده ولا غايته ثم قال وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام 103] وهو عالم الغيب والشهادة ليتبين أنه عالم بنفسه وبكل شيء وقال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى
أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث قال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولاكيف ولا معنى ولا نرد منها شيئًا ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولانرد على الله قوله ولايوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ليس كمثله شيء
قال وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال وقال حنبل في موضع آخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن
بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كَنَفَهُ عليه هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة ولاحد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلمًا عالمًا غفورًا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطالة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بضير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك
الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولايحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فقلت له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي
وقال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود والكلام في هذا لا أحبه قال أبو عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تبارك وتعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر 7] فقد أمرنا الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عمانهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزادني أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا
الكلام وقال تبارك وتعالى اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة 255] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى وزاد علي بن عيسى عن حنبل قال وسمعت أبا عبد الله يقول ماأحد أشد حدثًا على أهل البدع والخلاف من حماد بن سلمة ولا أروى لأحاديث الرؤية والرد على القدرية والمعتزلة منه قال وسمعت أبا عبد الله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم كله ينكرون الآثار وما ظننتهم هكذا حتى سمعت مقالتهم وكذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أحد أئمة المدينة المشاهير على عهد مالك بن
أنس وهم مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون هذا قال في كلامه المشهور عنه الذي رواه ابن بطة وغيره بأسانيد صحيحة قال وقد سئل فيما
جحدته الجهمية أما بعد فقد فهمت ما سألت فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلَّت الألسُن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره وردت عظمته العقول فلم تجد مساغًا فرجعت خاسئة وهي حسيرة فإنما أمروا بالنظر والتفكير فيما خلق بالتقدير فإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو وكيف يُعرف قدر من لم يبدأ ولايموت ولا يبلى وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قَدْرَه واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين
منه الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرًا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولابصر ولما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11] اعرف رحمك الله غنَاك عن تكلف صفة مالم يصف الرب من نفسه لعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم يُعْرف قدرما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزجر به عن شيء من معصيته فأما الذي جحد ما وصف الرب تعمقًا وتكلفًا قد
استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فَعَمِي عن البيِّن بالخفي بجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} [القيامة 22-23] فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظر الله إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينَضرون إلى أن قال وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة
الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدًا وقال المسلمون يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون من رؤية الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك وقال رسول الله لا تمتلئ النار حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض وقال لثابت بن قيس بن
شماس لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة وقال فيما بلغنا إن الله ليضحك من أزلكم وقُنُوطِكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك قال
نعم قال لا نَعْدِم من ربٍّ يَضْحكُ خيرًا في أشباه لهذا مما لم نحصه وقال الله تعالى وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} [الشورى 11]
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] وقال وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي {39} [طه 39] وقال مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] وقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر 67] فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي أُلقي في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولاتتجاوز ما قد حُدّ لك فإن من
قوام الدين معرفة المعروف وإنكارالمنكر فما بَسَطَتْ عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذُكِرَ أصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة فلا تخافن في ذكره وصِفَته من ربك ما وصف من نفسه عيبًا ولاتَكلَّفن لما وُصِفَ لك من ذلك قدرًا وما أَنْكَرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربيك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر صفة ربك فلا تتكلفن علمه بعقلك ولاتصفه بلسانك اصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تَكَلُّفك معرفة مالم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها فكما أعظمت ماجحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ماوصف الواصفون مما لم يصف منها فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه فما مَرِضَ من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم ولا يكلف صفة قدره
ولاتسمية غيره من الرب مؤمن وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدًا ولا يتكلفون صفة ما لم يسم تعمقًا لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً {115} [النساء 115] وهب الله لنا ولكم حكمًا وألحقنا بالصالحين
فصل والكلام على هذه الحجة من مقامين أحدهما منع المقدمة الأولى والثاني منع الثانية أما الأول فهو قول من يقول هو فوق العرش وليس له حد ولا مقدار ولا هو جسم كما يقول ذلك كثير من الصفاتية من الكلابية وأئمة الأشعرية وقدمائهم ومن وافقهم من الفقهاء والطوائف الأربعة وغيرهم وأهل الحديث والصوفية وغير هؤلاء وهم أمم لا يحصيهم إلا الله ومن هؤلاء أبو حاتم ابن حبان وأبوسليمان الخطابي البُسْتِيّان قال أبو سليمان الخطابي في الرسالة الناصحة لما تكلم على الصفات ومما يجب أن يعلم من هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة التي
قد ثبتت بصحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قومًا من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلاً في الصفات وأدخلوها في حكمها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى أن لله مكانًا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه اللفظة تفرد بها في هذه القصة شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له في الرواية كخلاف البينة للبينة إذا تعارضت البينتان سقطتا معَا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أنه يجد ربه بمكانه الأول من الإجابة في
الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويًّا في الخبر أنه يعود مرارًا فيسأل ربه في المذنبين من أمته كل ذلك يُشَفّعه ويُشَفِّعه بمسألتهم فيهم قلت هذا في حديث المعراج من رواية شريك ولكن غلط الخطابي في ذلك فاشتبه عليه حديث المعراج بحديث الشفاعة ولكن في حديث الشفاعة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه فإذا رأيته وقعت ساجدًا ذكر ذلك ثلاث مرات وهذا في الصحيح من رواية قتادة عن أنس وأما تلك اللفظة فهي في حديث المعراج من رواية شريك وليس هذا موضع الكلام في ذلك قال الخطابي ومن هذا الباب أن قومًا منهم زعموا أن
لله حدًّا وكان أعلى مااحتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك أنعرف الله بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلاً في هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك وسبيل هؤلاء القوم عافانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله لاتؤخذ إلا من كتاب الله تعالى أو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم دون قول أحد من الناس كائنًا من كان علت درجته أو سفلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تُدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية عن ابن المبارك قد رويت لنا أنه قيل له أنعرف الله بجد فقال نعم بجد بالجيم دون الحاء قال وزعم بعضهم أن يقال إن له حدًّا لا كالحدود كما تقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أَحْوجنا أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فيلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب أو في السنة حتى نقول حدًّا لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي
أرأيت إن قال قائل رأس لا كالرؤوس قياسًا على قولنا يد لا كالأيدي هل تكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما لم يجئ ذكر الر أس لم يجز القول به قلت وممن أنكر الحد أبو الحارث وكان القاضي أبو يعلى ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به وكذلك لفظ الجهة وقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات في كلامه على حديث العباس بن عبد المطلب
والاستواء على العرش فإذا ثبت أنه على العرش فالعرش في جهة وهو على العرش قد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا أثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث قال والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول ليس هو في جهة ولا خارجًا منها وقال قائل هذا بمثلبة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده ولأن
العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في نفسها فدل على أنه في مكان قال وإذا ثبت استواؤه ثبت أنه على العرش وأنه في جهة فهل الاستواء من صفات الذات قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات وأنه موصوف بها في القدم وإن لم يكن هناك عرش موجود لتحقق وجود ذلك منه في
الثاني لأنهم قد قالوا خالق ورازق موصوف به فيما لم يزل ولا مخلوق ولا مرزوق لتحقق الفعل من جهته وقد تقول العرب سيف قطوع وخبز مشبع وماء مروٍ وإن لم يوجد منه القطع لتحقق الفعل منه واستدل بعض أصحابنا بأنه موصوف في الأزل بالربوبية ولا مربوب وبالألوهية ولا مألوه وعلى قياس هذا النزول إلى السماء والمجيء في ظلل من الغمام ووضع القدم في النار فإن قيل فقد قال أحمد في رواية حنبل هو على العرش كيف شاء وكما شاء وصفات الذات لا تدخل تحت المشيئة قيل راجعة إلى خلق العرش لا إلى الاستواء عليه قلت وفي هذا نزاع بين الأصحاب وغيرهم ليس هذا موضعه
قال القاضي وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي فقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال القاضي ورأيت بخط أبي إسحاق أنا أبوبكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر عن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] يقول محدقين
قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما أنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو تعالى ذاهبًا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد له حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يَبِينُ بها عن غيره ويتميز ولهذا سمي البواب حدادًا لأنه يمنع غيره عن الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص
صفاته قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا فهو رجوع منه إلى القول بإثبات الحد لكن اختلف في ذلك كلامه فقال هنا ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أن ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام والميمنة والميسرة وكان الفرق
بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ماحاذاه من الذات وأنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في الميمنة والميسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها قلت هذا الذي ذكره في تفسير كلام أحمد ليس بصواب بل كلام أحمد كما قال أولاً حيث نفاه نفي تحديد الْحَادِّ له وعلمه بحده وحيث أثبته أثبته في نفسه ولفظ الحد يقال على حقيقة المحدود صفة أو قدرًا أو مجموعهما ويقال على العلم والقول الدال على المحدود
وأما ما ذكره القاضي من إثبات الحد من نهاية العرش فقط فهذا قد اختلف فيه كلامه وهو قول طائفة من أهل السنة والجمهور على خلافه وهو الصواب والمقصود أن نفاة الحد والمقدار والجسم ونحو ذلك من الصفاتية الذين يقولون إنه على العرش يقولون لا نسلم أنه إذا كان هو بنفسه فوق العرش أنه يلزم أن يوصف بتناهي المقدار كما لا يستلزم أن يوصف بالانقسام وكذلك لا يستلزم أن يوصف عندهم بعدم التناهي الذي هو بعد لا يتناهى كما لا يوصف عندهم بعدم الانقسام الذي هو جزء لا ينقسم وكذلك لا يستلزم ذلك عندهم أن يوصف بأنه أكبر من العرش في المقدار والمساحة أو أصغر أو بقدره فإنهم يقولون هذه اللوازم كلها إنما تلزم إذا فرض أن فوق
العرش ما هو جسم أما إذا كان الذي فوق العرش ليس بجسم فإنه يمتنع أن يستلزم لوازم الجسم لأن الانقسام أو التناهي والتحديد ونحو ذلك هي لازمة للجسم وملزومة له فلا يكون متناهيًا محدودًا مقسومًا إلا مايكون جسمًا ولا يكون جسمًا إلا ما جاز أن يوصف بالانقسام أو بقبول التناهي والتحديد وعدم ذلك قالوا لمنازعيهم من النفاة فإذا اتفقنا على أنه ليس بجسم أو إذا قام الدليل على أنه ليس بجسم وقد علمنا بالفطرة والضرورة العقلية والأدلة المتواترة السمعية واتفاق سلف الأمة وخيرالبرية أنه فوق العرش كان التقدير أن الذي فوق العرش ليس بجسم وحينئذ فقول القائل إما أن يكون متناهيًا أو ذاهبًا في الجهات إلى غير غاية وإما أن يكون منقسمًا أو جوهرًا فردًا كل ذلك باطل لأن هذه اللوازم إنما تكون إذا كان الذي على العرش جسمًا أما إذا كان غير جسم ولا متحيز فلا يلزم شيء من هذه اللوازم
وقالوا هذه اللوازم والتقسيم كله من حكم الوهم والخيال وباب الربوبية لايجوز أن يحكم فيه بحكم الوهم والخيال كما قد قرره هذا المؤسس في مقدمة الكتاب ولا ريب أن قولهم هذا أصح من قول منازعيهم من النفاة لما قيل لهم إما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحاثين وإماأن يكون أحدهما بحيث الآخر وإماأن يكون مباينًا عنه بالجهة فقالوا ليس بكذا ولا كذا فنفوا الطريقين جميعًا وقالوا إنه لا يمكن أن يحس به ولا أن يشار إليه بالحس فقيل لهم هذا أحقر من الجوهر الفرد فقالوا في جواب ذلك إنما يلزم لو كان جسمًا أو لو كان موصوفًا بالحيز والمقدار
وقالوا هذا من حكم الوهم والخيال أو من حكم الحس والوهم فقد بينا فيما تقدم غير مرة أن كلام منازعيهم هؤلاء أبعد عن الخطأ في العقل والدين وأنهم هم أعظم مخالفة لما يعلم بضرورة العقل وبديهته وفطرته من منازعيهم هؤلاء المثبتين لأن الله على العرش الموافقين لهم على نفي الجسم وقد تقدم التنبيه على أصل كلام هؤلاء وأنه إن كان كثيرًا ممن يوافقهم على أن الله على العرش أو على نفي الجسم يقول إن هذا القول متناقض ويصفهم بالتناقض في ذلك فالنفاة أعظم تناقضًا منهم وأعظم مخالفة لمايعلم بالاضطرار في العقل والدين وأن هؤلاء أعظم مخالفة للعلوم الشرعية والعقلية ولا ريب أن كلام هؤلاء فيه ما يحتج به مثبتو الحد والمقدار والتحيز والجهة وفيه ما يحتج به نفاة الجسم والتحيز والجهة أيضًا فلهذا قيل إنهم متناقضون أو أن لهم قولين
وقد ذكرنا بعض كلام أبي الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصحابه الذين احتجوا به على أن الله تعالى على العرش وما احتجوا به في ذلك من الآيات التي يحتج بها على إثبات الحد فقال باب ذكرالاستواء فإن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له إن الله مستو على عرشه كما قال سبحانه الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} [طه 5] وقد قال عز وجل إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر 10] وقال بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 158] وقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة 5] وهذه الآيات هي التي استشهد بها
الإمام أحمد لقول ابن المبارك وكذلك هي التي احتج بها عثمان بن سعيد الدارمي وغيره على ذلك فهذا الرازي
وموافقوه على النفي من المعتزلة ومتأخري الأشعرية يسلمون أن الاستدلال بهذه الآيات على أن الله فوق العرش يستلزم القول بدلالتهاعلى أن الله متحيز في جهة وأن له حدًا وقد تقدم تمام قول الأشعري قال أيضًا وقد قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ [النحل 50] وقال سبحانه تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج 4] وقال سبحانه ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء [البقرة 29] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً {59} [الفرقان 59] وقال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [السجدة 4] وكل هذا يدل على
أنه في السماء مستو على عرشه قال والسماء بإجماع الناس ليست في الأرض فدل على أنه عز وجل منفرد بوحدانيته مستو على عرشه كما وصف نفسه قال وقال سبحانه وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] وقال عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وهاتان الآيتان هما اللتان احتج بهما أحمد على قول ابن المبارك في الرواية الأخرى قال وقال سبحانه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
[آل عمران 55] وقال سبحانه وتعالى وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً {157} بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ [النساء 157-158] قال واجتمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء وقال ومن دعا المسلمين جميعًا إذا هو رَغِبوا إلى الله في الأمر النازل بهم أنهم يقولون يا ساكن العرش أو يا من احتجب بالعرش أو بسبع سموات وهذا تصريح منه باحتجابه بالأجسام المخلوقة وهذا عند منازعيه من نفاة أصحابه وغيرهم تستلزم أن يكون جسمًا متحيزًا
قال وقال عز وجل وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] وقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم لكان أبعد عن الشبهة وإدخال الشك على من سمع الآية أن يقول لأحد أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً وترك أجناسًا لم يعمهم بالآية قال فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون
غيرهم وهذا كله منه يقتضي أن الله سبحانه وتعالى قد يحتجب عن شيء دون شيء وقد احتج بذلك على أن الله فوق العرش لأن النفاة يقولون الاحتجاب لا يكون إلا من صفات الأجسام ولا يكون على العرش إلا إذا كان جسمًا وهوقد احتج بهذه الآيات على احتجابه عن بعض خلقه المستلزم أن يكون على العرش قال وقال الله عز وجل ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] وقال سبحانه وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف 48]
قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه سبحانه مستو على عرشه جل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا جل عمايقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي في التأويل ويريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل
فاحتجاجه بقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ [الأنعام 62] وقوله وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام 30] وقوله وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ [الكهف 48] وقوله نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة 12] على أن الله فوق العرش كل ذلك لأن هذه الآيات تدل على النهايات والغايات والحدود والتباين الذي بينه وبين خلقه فإذًا نتكلم على حجته في هذا المقام فإنه يقال له قولك لو كان مختصًّا بالحيز والجهة لكان لا يخلو إما يكون متناهيًا من جميع الجوانب أو بعضها أو غير متناه من جميعها يعارضونه بأن يقولوا هذه الحجة ترد عليك أيضًا بأن يقال ولو كان موجودًا أو قائمًا بنفسه كان متناهيًا أو غير متناهٍ فإن قلت نحن نقول هو موجود في غيرجهة ولا حيز أصلاً وهوغير متناه في ذاته بمعنى أن ذاته بمعنى أن ذاته يمتنع أن يكون لها طرف ونهاية وحد
يقال لك إذا عقل موجود لا نهاية له بهذا التفسير فلأن يعقل موجود فوق العرش لا يوصف بالتناهي وعدمه أولى وأحرى بمعنى أنه يمتنع أن يكون له نهاية أو يكون ذا مساحة لانهاية لها فإنه إذا عقل هذا في موجود مطلق لم يمتنع وصف هذا الموجود بأنه فوق العرش ويكون كذلك بل يكون هذا أقرب إلى العقل لأن الفِطرَ تقر بأن الله فوق العالم وتنكر وجود موجود لاداخل العالم ولا خارجه فإذا أقررت بوجوده خارج العالم كان أقرب إلى الفطرة والعقل وإذا جاز أن يقال في هذا إنه لا يتناهى بمعنى أن ذاته لاتقبل الوصف بتناهي المقدار وعدمه كذلك يقال فيه مع وجوده فوق العرش وإذا قال قائل هذه الفوقية أوهذا العلو فوق العرش لا يعقل أو قال لا يعقل علو ولا فوقية إلا بمعنى الذهاب في الجهات قيل له معرفة الصفة وعقلها فرع على معرفة الموصوف وعقله فطلبك العلم بكيفية علوه مع أنه لا تعقل حقيقته جمع بين الضدين وإذا كنت تقر بأنه موجود بل إقرارك بأن ذاته فوق العرش فوقية تناسب ذاته أسهل على العقل من الإقرار بأنه لا داخل العالم ولا خارجه بل الإقرار بأنه ليس ذا مساحة مقدار لاينافي الإقرار بأنه خارج العالم وفوقه كما
يناسب ذاته ومنافاة الإقرار بوجوده مع كونه لا داخل العالم ولا خارجه أعظم تنافيًا وأما المقام الثاني فكلام من لاينفي هذه الأمور التي يحتج بها عليه نفاة العلو على العرش ليس لها أصل في الكتاب والسنة بل قد يثبتها أو يثبت بعضها لفظًا أو معنى أو لايتعرض لها بنفي ولا إثبات وهذا المقام هو الذي يتكلم فيه سلف الأمة وأئمتها وجماهير أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والصوفية وغيرهم وكلام هؤلاء أسد في العقل والدين وحيث ائتموا بما في الكتاب والسنة وأقروا بفطرة الله التي فطر عليها عباده فلم يغيروا وجعل كتب الله التي بعث بها رسله هي الأصل في الكلام وأما الكلام المجمل المتشابه الذي يتكلم به النفاة ففصلوا مجمله ولم يوافقوهم على لفظ مجمل قد يتضمن نفي معنى حق ولا وافقوهم أيضًا على نفي المعاني التي دل عليها القرآن والعقل وإن شنع النفاة على من يثبت ذلك أو عزموا أن ذلك يقدح في أدلتهم وأصولهم والكلام عليه من وجوه أحدها أن يقال قوله وأما القسم الثالث وهوأن يقال كل متناه من كل الجوانب فهذا باطل من وجهين الأول أن كل ما كان متناهيًا من جميع الجوانب كانت
حقيقته قابلة للزيادة والنقصان وكل مل كان كذلك كان محدثًا على ما بيناه فيقال له قد تقدم الكلام على هذه الحجة وبينا أن جماهير بني آدم من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين يخالفونك في هذه المقدمة وبينا فساد ما ذكرته من الحجة عليها بوجوه كثيرة بيانًا واضحًا ونحن نحيل على ماذكرناه هناك كما أحال هو عليه وأما الوجه الثاني فقوله إنه لما كان متناهيًا من جميع
الجوانب فحينئذ يفرض فوقه أحيازٌ خالية وجهات فارغة فلا يكون هو تعالى فوق جميع الأشياء بل تكون تلك الأحياز أشد فوقية من الله تعالى ويكون قادرًا على أن يخلق فيها جسمًا فوقه فيقولون لك هذا بناء على أن الأحياز والجهات لابد أن تكون أمرًا وجوديًّا وأنه يمكن أن تكون فوقه وهم ينازعونك في هاتين المقدمتين وأنت معترف بفسادهما في غير موضع من كتبك وقد تقدم البيان بأن الحيز لا يجب أن يكون أمرًا وجوديًّا وإبطال ما يستدل به على خلاف ذلك وظهر صحة قوله سبحانه هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد 3] وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء وهذا النص أيضًا يدل على أنه ليس فوق
الله شيء وهذا نفي عام لكل ما يسمى شيئًا وكل موجود فإنه يسمى شيئًا فقد اتفق الناس على أن كل موجود غير الله فإنه شيء لكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نفى أن يكون فوقه شيء موجود حيزًا وغيره وهذا يبطل أن يكون فوقه أحياز موجودة والذي يوضح ذلك أنه قد قرر في هذه الحجة امتناع وجود أبعاد لا تتناهى وذلك يبطل وجود أحياز لا تتناهى حتى إنه يقول ليس وراء العالم أحياز وأبعاد لا تتناهى فإذا كانوا يوجبون في العالم الذي هو متحيز محدود متناهٍ أن لا يكون وراءه أحياز موجودة فكيف يوجبون أن يكون فوق خالق العالم أحياز موجودة بل هذا الرازي وأمثاله إذا ناظره الفلاسفة في أنه يمكن أن يكون العالم أكثر مما هو ويمكن أن يخلق مثلَهُ عالماً آخر لم يقرر ذلك عليهم إلا بما هو من جنس مجادلاته المعروفة
التي لا يزال يضطرب فيها غاية الاضطراب من السلب والإيجاب فكيف يوجب أن يكون فوق رب العالمين أحيازٌ خالية وجهات فارغة ويضرب لهم هنا مثلاً من أنفسهم كما يناظر به من يقول إن لله شريكًا من خلقه أو أن له ولدًا لا يرضى مثله لنفسه فيقال له المخلوق الذي هو عندك متحيز لا يجب أن يكون فوقه عندك أحياز خالية وجهات فارغة فكيف توجب في خالق العالم إذا وصف بأنه فوق العرش وأنه متحيز أن يكون فوقه أحياز خالية وجهات فارغة وأما قوله هو قادرعلى خلق الجسم في الحيز الفارغ فيكون ذلك الجسم فوقه فيقال لك هذا مبني على أنه يمكن أن يكون فوقه شيء فإن لم يبين إمكان ذلك لم يصح أن يقال هو قادر على خلق جسم فوقه كما لا يصح أنة يقال هو قادر على خلق جسم قبله أو بعده فقد يقول لك المنازع إذا وجب أن يكون هو العلي الأعلى المتعالي الذي لا يعلوه شيء لم يجز أن يعلوه شيء كما أنه إذا وجب أن يكون الأول و
الآخر لم يجز أن يسبقه شيء أو يتأخر عنه شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء لكن الأول والآخر لا ابتداء له ولا انتهاء وإذا لم يكن له نهاية ولا حد من الوجهين جميعًا ظهر فيه امتناع أن يكون قبله أو بعده شيء بخلاف المتناهي المحدود من الأحياز ولكن هذا الفرض جاء من خصوص المكان والزمان بدليل أن أهل الجنة لا آخر لوجودهم بل هم باقون أبدًا وإن كانوا متحيزين فلا حد ولا نهاية لآخرهم وإن كانت ذواتهم محدودة متناهية في أحيازها وأماكنها ولهذا لما أراد جهم أن يَطْرُد دليله في وجوب النهاية لكل مخلوق أوجب فناء الجنة والنار
ولما أراد أبو الهذيل أن يطرد دليله في تناهي الحوادث أوجب انقطاع حركات أهل الجنة والنار والمقصود هنا أن وجوب تناهي البقاء والأمد وإن كانت الأحياز متناهية أو كان المتحيز متناهيًا لم يجب أن يكون فوقه شيء إذ ليس وراء الموجود شيء موجود إلى غير نهاية وقد تقدم إبطاله لذلك وأيضًا فيقال له أنت لم تذكر حجة على امتناع ذلك لم يكن هذا الوجه دليلاً وأما قولك لا يكون هو فوق جميع الأشياء بل تكون الحياز أشد فوقية فهذا تمسك بإطلاق لفظ مع أنك لا تقول بمعناه فهو عندك أيضًا ليس فوقه شيء من الأشياء فضلاً عن أن تكون فوقه جميعها إلا بمعنى القدرة والتدبير وهذا المعنى يثبته المنازع مع إثباته لهذه الفوقية الأخرى فيكون قد
أثبت ما تثبته من صفات الكمال ويثبت كمالاً آخر لم تثبته أنت وأيضًا فتلك الأحياز ليست شيئًا أصلاً لأن الأشياء هي الموجودة ولا موجود إلا الله وخلقه وهو فوق خلقه وإذا لم تكن أشياء لم يصح أن يكون شيء فوقه وكان هو فوق كل شيء وأما خلق جسم هناك فلم يذكر على امتناعه حجة إلا أن الخصم لا يقول به والخصم يقول ذلك ممتنع لامتناع أن يكون شيء موجود فوق الله فإن سلمت له هذه العلة كان ذلك جوابًا لك وإن لم تسلمها لم يكن مذهبه صحيحًا فلا تحتج به وقد تقدم كلامك على إبطال مثل هذه الحجة وهي الإلزامات المختلفة المآخذ وأيضًا فلو قال قائل بل ذلك جائز فلم تذكر على إبطاله حجة لاسيما وعندك أن النقص على الله تعالى لم يعلم امتناعه بالعقل وإنما علمته بالإجماع لاسيما إن احتج
بظاهر قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] وبقوله كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء لاسيما وهذا لا ينافي الفوقية والعلو بالقدرة والقهر
والتدبير وعندك لا يستحق الله الفوقية إلا بهذا وهذاالمعنى ثابت سواء خلق فوقه شيئًا آخر أو لم يخلقه فإذا لم يكن هذا مستحيلاً على أصلك لم يصح احتجاجك باستحالته عند المنازع الذي ينازعك في المسألة بل قد يقول لك إذا لم يكن ما يمنع جواز ذلك إلا هذا فعليك أن تقول به لأن هذا ليس بمانع عندك الوجه الثاني أن يقال قد ذكرت أن الكرامية الذين قالوا إنه فوق العرش منهم من قال إنه ملاق للعرش ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد متناه ومنهم من قال إنه مباين عنه ببعد غير متناه وهذا القول يتضمن أن بين الله وبين العرش بعدًا غير متناهٍ وقد ذكر الأشعري في المقالات قول طوائف ممن يقول إنه لا نهاية لذاته مع قولهم إنه ممتد في الجهات فقال بعد ذكر مقالات المعتزلة هذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قال قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن
الباري ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفوا فيما بينهم في التجسيم وهل للباري قدر من الأقدار وفي مقداره على ستة عشر مقالة فذكرقول هشام إنه جسم أن له مقدارًا وأنه ذو لون وطعم ورائحة ومجسَّة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون قال ولم يثبت لونًا غيره وأنه يتحرك يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد وهذا قد يقال إنه يناسب قول من قال من الصفاتية
إنه يدرك بالحواس قال وحُكِي عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونُا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلاً أو عريضًا أو عميقًا وزعم أنه في مكان دون مكان متحرك من وقت ما خلق الخلق وهذا قد يناسب قول من يقول إنه يدرك بالرؤية فقط فإن هذا يزعم أنه لايرى إلا اللون قال وقال قائلون إن الباري جسم وأنكروا أن يكون موصوفًا بلون وطعم ورائحة أو مجسة أو شيء مما وصف به هشام غير أنه على العرش مماس له دون
ما سواه قال واختلفوا في مقدار الباري بعد أن جعلوه مجسمًا فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهن مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم لأنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك القدر وقال بعضهم هو في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار أن يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكي عن هشام أن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه
وقال بعضهم ليس لمساحة الباري نهاية ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا قطب وقال قوم إن معبودهم هو الفضاء وهو جسم تَحُل الأشياء فيه ليس بذي غاية ولا نهاية وقال بعضهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به فقد ذكر عن هاتين الفرقتين أنه لا نهاية لمساحته مع قول بعضهم إنه جسم وقول بعضهم إنه ليس بجسم كما ذكر عن آخرين من المجسمة أنه جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناهٍ وعن آخرين أنه بقدر العالم وأما القائلون بأنه على العرش فلم يذكر عنهم قولاً أنه لا نهاية لمساحته وذكر أيضًا عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني
أنه فوق العرش وبكل مكان وقال فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرًا كان يقول إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك على عرشه أنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً {22} [الفجر 22] بلا كيف فيقال له إذا نازعك إخوانك المتكلمون الجهمية من المجسمة وغير المجسمة الموافقون لك على أنه ليس فوق العرش الذين يقولون لانهاية لذاته ومساحته مع قولهم إنه جسم ومع قولهم إنه ليس بجسم فما حجتك عليهم وهذا هو القسم الأول وهذا ليس من أقوال من يقول إنه فوق العرش وكذلك ذكر أبو الحسن الأشعري لما ذكر اختلاف الناس هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان فقال قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لانهاية له أن هاتين الفرقتين أنكرتا القول إنه في مكان دون مكان
فأخبر أن القائلين بأنه لا نهاية له ينكرون أن يكون في مكان دون مكان فلا يقولون إنه فوق العرش لكن هذا المؤسس إن لم يبطل قول هؤلاء بالحجة وإلا خصموه فإنه ينكر أن يكون الله فوق العرش ويوافقهم على إطلاق القول بأنه لا نهاية له ولا حد ولا غاية وإن كان يفسر ذلك بتفسير آخر لكن نفي قولهم لابد له من حجة فأما الوجه الأول الذي ذكره فيقولون له لا نسلم أن الخط المتناهي يمكنه أن يسامت غير المتناهي فقولك زال عن الموازاة إلى المسامتة فرع إمكان ذلك والمحال المذكور إنما لزم من فرض مسامتة خط متناه لخط غير متناهٍ فلزم من ذلك أن يحصل في المتناهي نقطة هي أول نقطة المسامتة وأن لا يحصل لكن قولك إن هذا المحال إنما لزم من فرضنا أن ذلك الخط غير متناه ممنوع بل يقال هذا المحال إنما لزم من فرض مسامتة المتناهي لغير المتناهي فالإحالة كانت بفرض مسامتته له لا بفرض وجود غير المتناهي لِمَ قلت أن الأمر ليس كذلك وقد يقول لك أحد الفريقين من هؤلاء نحن نقول إنه غير
متناه وإنه غير جسم وحينئذ لا يمكن أن يفرض فيه خطوط ونقط فلابد من إقامة دليل على امتناع شيء ليس بجسم غير متناهٍ فإن أقمت دليلاً على ذلك بطل ما ذكرته في القسم الثالث من وجود أحياز خالية فوق الباري لأنه إذا وجب عندك تناهي الأبعاد وإن لم تكن أجسامًا وجب تناهي الأحياز فلم يجب أن يكون فوق الباري حيز ولا بعد كما ألزمتهم إياه في القسم الثالث وأما الوجه الثاني الذي احتججت به عليهم فقولك إذا كان القول بوجود بعد غير متناه ليس محالاً فعند هذا لا يمكن إقامة الدليل على كون العالم متناهيًا بكليته وذلك باطل بالإجماع يقولون لك أكثر ما يمكنك دعوى الإجماع على أن دليله امتناع بعد لا يتناهى ولايلزم من الإجماع على الحكم أن يكونوا مجمعين على دليل معين وأيضًا فلا يلزم من بطلان هذا الدليل بطلان سائر الأدلة كيف وقد ذكرت أنه مجمع عليه والإجماع من أعظم الأدلة إذ صحة الإجماع ليست موقوفة على إحالة أبعاد لا تتناهى
بدليل أن سلف الأمة وأئمتها يعترفون أن الإجماع حجة من غير أن يبنوا ذلك على أداة فيها هذه المقدمة التي قد لاتخطر ببال أكثرهم وقد يقول هؤلاء هَبْ إنْ قام دليل تناهي العالم وتناهي المخلوقات وتناهي الأبعاد التي فيها المحدثات فلم قلت إن ذلك محال في حق الباري وهذا يقوله مثبتة الجسم ونفاته كما تقدم ذكر القولين لهم وأما الوجه الثالث قولك لو كان غير متناه من جميع الجوانب أوجب أن لا يخلو شيء من الجهات والأحياز عن ذاته فحينئذ يلزم أن يكون العالم مخالطًا لأجزائه وأن تكون القاذورات والنجاسات كذلك وهذا لا يقوله عاقل فإن أردت أن ليس في المكلفين من العقلاء من يقوله فقد قاله منهم طوائف كما ذكرناه عن الأشعري أنه نقل ذلك عن
طائفتين ممن يقول إنه ليس مساحة طائفة تقول إنه جسم وطائفة تنفي الجسم وأيضًا فطوائف من الجهمية يقولون إنه بذاته في كل مكان وقد ذكر الأئمة والعلماء ذلك عن الجهمية وردوا ذلك عليهم وطوائف أخر يقولون إنه موجود الذات في كل مكان وأنه على العرش كما نقل الأشعري عن زهير وأبي معاذ وأيضًا هؤلاء الاتحادية يصرحون بذلك تصريحًا لا مزيد عليه حتى يجعلوه عين الكلب والخنزير والنجاسات لا يقولون إنه مخالط لها بل وجوده عين وجوده وهذا وإن كان من أعظم الكفر فالغرض أن إخوانه من الذين يقولون إن الله ليس فوق العرش قد قالوا هذا كله وما هو أكثر منه فلابد أن يرد قولهم بطرقه التي يسلكها وإلا لم يكن قوله أصح من قولهم بل
قولهم أقرب إلى العقل من قوله إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولهم في الجواب عن المخالطة من الكلام ما هو مع كونه باطلاً أقرب إلى العقل من كلامه مثل قولهم إنه بمنزلة الشعاع للشمس الذي لا يتنجس بما يلاقيه وبمنزلة الفضاء والهواء الذي لا يتأثر بما يكون فيه ونحو هذا من المثال التي يضربونها لله فهم مع كونهم جعلوا لله ندًّا وعدلاً ومثلاً وسميًّا في كثير من أقوالهم إن لم يكونوا أمثل منه فليسوا دونه بكثير وأما إن أردت أن العقل يبطل هذا القول فلم تذكر على بطلانه حجة عقلية أكثر ما ذكرت قولٌ تنفر عنه النفوس أو ما يتضمن نوع نقص وأنت تقول ليس في العقل ما ينفي عن الله النقص وإنما نفيته بإجماع فهذا الوجه في جانب من يقول بالقسم الثالث وأما القسم الثاني وهو التناهي من جهة دون جهة فما علمت به قائلاً فإن قال هذا أحد فإنه يقول إنه فوق العرش ذاهبَا إلى غير نهاية فهو متناه من جهة العالم غير متناه من الجهة الأخرى وهذا لم يبلغني أن أحدًا قاله ونقل الأشعري
يقتضي أن هذا لم يقله أحد بل كل من قال بعدم نهايته أنكر أن يكون فوق العرش الوجه الثالث أن يقال فَرْضُ بعد غير متناه لا يخلو إما أن يكون محالاً فإن كان محالاً بطل ما ذكر مما ذكرته في القسم الثالث من تجويز أحياز خالية فوقه إذاكان متناهيًا من جميع الجهات فإنه إذا وجب تناهي الأبعاد لم يجب أن يكون فوق العالم بعد فضلاً عن أن يكون فوق الباري بعد وإذا فرض ما ذكرته في القسم الثالث وهو أحد الوجهين نفي الوجه الأول وهو كون كل ماله قدر مخصوص يجب أن يكون محدثًا وقد تقدم الكلام عليه بما فيه كفاية وإذا بطل الوجهان بطل ما ذكرته على فساد القسم الثالث وإن كان فرض بعد غير متناه ممكناً ثبت إمكان القسم الأول وبطل ما ذكرته من الحجة على إحالة ذلك فقد ظهر على التقديرين أن ما ذكرته ليس بدليل صحيح الوجه الرابع أن القسم الثاني وهو أنه غير متناه من بعض الجوانب ومتناه من سائر الجوانب وإن كنا لم نعلم به قائلاً فلم تذكر دليلاً على إبطاله ولا استدللت على
إبطاله بنص أو إجماع فأما الدليل الذي ذكرته على امتناع بعد غير متناه فقد تقدم القول عليه مع أن تلك الوجوه لا تصلح هنا كما صلحت هناك أما الوجه الأول وهو امتناع وجود المسامتة وعدمها إذا قدر مسامتة غير المتناهي للمتناهي فإنه مع ما تقدم فيه إذا كان متناهيًا من بعض الجهات أمكن فرض المسامتة في تلك الجهة وحينئذ فتسامت النقطة الفوقانية من تحت الجهة قبل التحتانية لكن هذا لا يحصل إلا عند فرض مسامتٍ من الجهة التي لا تتناهى وأما الوجه الثالث وهو لزوم مخالطة ذاته للقاذورات فهذا لا يلزم إذا قيل إنه متناه من جانب الخلق دون الجانب الآخر فإنه حينئذ لا يكون مخالطًا لهم فبطل هذا الوجه هنا بطلاناً ظاهرًا وأما بطلان إقامة الدليل على تناهي العالم فقد تقدم الكلام عليه مع أن العالم في بقائه فيه متناه من أوله غير متناه من آخره ففيه تناه من وجه دون وجه لكن هذا ليس هو المتناهي في الجهة والمقدار والبعد
والفرض أن الوجوه الثلاثة هي في هذا القسم فيها نوع نقص عن ذلك القسم وأما الوجه الثاني وهو قولك إن الجانب الذي فرض أنه غير متناه والجانب الآخر إماأن يتساويا في الحقيقة والماهية وإما أن لا يكونا كذلك أما القسم الأول فإنه يقتضي أن يصح على كل واحد من هذين الجانبين ما يصح على الآخر وذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان فيقال لك مشاركة الشيء لغيره في حقيقته لا يقتضي مساواته له في المقدار كالمقادير المختلفة من الفضة والذهب وسائر الأجسام المتماثلة في الحقيقة فإنها تتماثل في الحقيقة مع اختلاف المقادير وحينئذٍ فهذه الأمور إنما يجوز على بعضها ما يجوز على بعض فيما تماثلت فيه وهو الصفة والكيفية وأماما يتعلق بالمقدار فليس الكبير في ذلك كالصغير ولايجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر بل للصغير أحكام لا تصح في الكبير وللكبير أحكام لا تصح على الصغير مثل شغل الحيز
الذي بقدره وغير ذلك وإذا كان كذلك فالبعد الذي يتناهى من أحد جانبيه دون الآخر وإنما تماثلت حقيقة الجانبين في الصفة والكيفية فلم تتماثل في المقدار لأن أحدهما أكبر من الآخر قطبًا فلا يلزم أن يجوز على غير المتناهي من النقص والفصل وأيضًا فإن لزم أن يحوز على أحدهما ما يجوز على الآخر فقولك ذلك يقتضي جواز الفصل والوصل والزيادة والنقصان على ذات الله تعالى هذا هو بعينه الدليل على امتناع كونه متناهيًا وهوأن المتناهي يقبل الزيادة والنقصان وقد قيل لك أن هذا ممنوع فيما وجوبه بنفسه فإن صفاته تكون لازمة لذاته فلا يمكن أن يكون على خلاف ما هو عليه كما نقول إن معلوماته أكثر من مقدوراته ومقدوراته أكثر من مخلوقاته ومراداته وهذا وإن لم يكن نظير ذلك والغرض التنبيه على تقدم الكلام في مثل هذا وأيضًا فلم تذكر دليلاً على امتناع الفصل والوصل والزيادة والنقصان فإن اعتصمت في ذلك بإجماع كانت الحجة سمعية وإن قنعت بنفور النفوس عن ذلك فنفور النفوس على
قولك أعظم مع أن هذا ليس حجة عندك وقولك وأما القسم الثاني وهوالقول بأن أحد الجانبين مخالف للجانب الآخر في الحقيقة والماهية فنقول إن هذا محال من وجوه الأول أن هذا يقتضي كون ذاته مركبة وهو باطل كما بيناه يقال لك قد تقدم الكلام على إبطال حجة التركيب بما يظهر به فسادها لكل عاقل لبيب فقولك الثاني أنا بينا أنه لا معنى للمتحيز إلا الشيء الممتد في الجهات المختصة بالأحياز وبينا أن المقدار يمتنع أن يكون صفة بل يجب أن يكون ذاتًا وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان جميع المتحيزات متساوية وإذا كان كذلك امتنع القول بأن أحد جانبي ذلك الشيء يخالف الجانب
الآخرة في الحقيقة والماهية فيقال لك هذه حجة تماثل الأجسام وقد تقدم أنها من أبطل ما في العالم من الكلام وهي منشؤها من كلام المعتزلة والجهمية كما ذكره الأشعري وغيره كما أن الأولى من كلام الفلاسفة والصابئة وهي أيضًا من حجج المعتزلة والجهمية وقد تبين أن المقدار صفة للشيء المقدر المحدود وليس هو عين الشيء المقدر المحدود وتبين أيضًا أنه لو كان المقدار هو الذات لم يجب أن تكون المقدورات متساويات فإن بينها اختلافًا في صفات ذاتيات لها وهي مختلفة في تلك الصفات الذاتيات وإن كانت مشتركة في أصل
المقدار الذي جعلته الذات وغايتها أن تكون بمنزلة الأنواع المشتركة في الجني المتمايزة بالفصول وأيضًا فأنت وسائر الصفاتية بل وجميع العباد يثبتون لله معاني ليست متماثلة بل هذا واجب في كل موجود مثل إثبات أنه موجود بنفسه ومبدع بنفسه ومبدع لغيره وأنه عالم وأنه قادر وأنه حي وهذه حقائق مختلفة فالقول في اقتضائها للتركيب كالقول في اختلاف الجانبين كذلك كما تقدم ذلك وأما حجة تساوي الأبعاد وتماثلها فهذه الحجة إن صحت فهي كافية في نفي كونه كذلك سواء قيل إنه متناه أو غير متناه والحجة المستقلة بنفسها في المطلوب لا تصلح أن تجعل دليل بعض مقدمات دليل المطلوب لأن هذا تطويل وعدول عن سواء السبيل الوجه الخامس أنه أورد اعتراضًا من جهة المنازع بقوله فإن قيل ألستم تقولون إنه تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم جميع ما ألزمتموه علينا وقال في الجواب قلنا الشيء الذي يقال إنه غير متناه على
وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز ومتى كان كذلك امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد والثاني أنه مختص بجهة وحيز إلا أنه مع ذلك ليس لذاته منقطع وحد فنحن إذا قلنا إنه لا نهاية لذات الله عنينا به التفسير الأول فيقال المعقول المعروف إذا قيل هذا لا يتناهى أو لا حد له ولاغاية ولا نهاية أن يكون موجودًا أو مقدر الوجود ويكون ذلك الموجود أو المقدر ليس له حد ولا نهاية ولا منقطع بل لا يفرض له حد ومنقطع إلا وهو موجود بعده كما يقال في وجود الباري وبقائه فيما لم يزل ووجوده وبقائه فيما لا يزال بل في وجود أهل الجنة في الجنة فيما لم يزل فإنه لا ينتهي ذلك إلى حد إلا ويكون بعده شيء كما أن وجود الباري لا يقدر له حد ووقت إلا وهو موجود قبله وكذلك إذا
قدر أجسام وأبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى قبله وكذلك إذا قدر أجسام أو أبعاد لا تتناهى فإنه لا يفنى منها شيء أو يقدر فيها مقطع إلا وهي تكون موجودة بعده وكذلك ما يقدر في الذهن إلى حد ومقطع إلا ويقدر بعده شيء آخر وكذلك ما يقدر في الذهن منعدم التناهي من العلل وغيرها لتبين فساده هو من هذا الباب فالغرض أن الشيء الذي يوصف بعدم التناهي إما حقيقة وإما مقدارًا ممتنعٌ وإما تقديرًا غير ممتنع أو غير معلوم الامتناع كلها مشتركة في ذلك فأما وصف الشيء بأنه غير متناه بمعنى أن ليس له حقيقة تقبل التناهي وتقبل عدم التناهي فوصف هذا بأنه غير متناه مثل صفة المعدوم بأنه غير متناهٍ لأنه لا يمكن له نهاية وحد وطرف ولا يمكن أن يقال وذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه كما لا يقبل أن يوصف بالحياة وعدمها ولا بالعلم وعدمه ولا بالقدرة وعدمها
ولهذا يفرق من يفرق بين العدم المحض وعدم الصفة عما من شأنه أن يقبلها فإن الأعمى والأصم ونحو ذلك لا يوصف به المعدوم المحض ولايقال أيضًا للعدم المحض إنه جاهل أو عاجز أويثبت له أنه لا عالم ولا قادر بل كل صفة تستلزم الثبوت يمتنع أن يوصف بها المعدوم فإذا قيل الأعمى والأصم كان ذلك نفيًا للسمع والبصر عما يقبله لا عن المعدوم الذي يمتنع أن يوصف بثبوت فَفَرْقٌ بين نفي الصفة التي يمكن ثبوتها للموصوف في الذهن أوفي الخارج ونفي الصفة التي لا يكون لا في الذهن ولا في الخارج ثبوتها للموصوف فإذا قيل المعدوم لا يتناهى أو المعدوم غير متناهٍ كان المعنى أن المعدوم ليس له حقيقة تكون متناهية أو غير متناهية كما ليس له حقيقة تقبل أن تكون حية أوغير حية أو عالمة أو غير عالمة أو قادرة أو غير قادرة فإذا قيل قول القائل في الله إنه غير متناهٍ بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بالنهاية وعدمها كان ذلك بمنزلة قول القائل إن الله ليس بأصم ولا ميت ولا جاهل بمعنى أن ذاته لا تقبل الوصف بهذه الصفات وعدمها فيكون المعنى حينئذ أنه لا يقال أصم ولايقال غير أصم ولا يقال ميت ولا يقال غير ميت وهذا شر من أقوال الملاحدة الذين يمتنعون من إثبات الأسماء
الحسنى له ونفيها فإن أولئك يقولون لا نقول حي ولا غير حي بل يسلبون أضدادها فيقولون هو ليس بميت ولا جاهل وإن كان هذا الذي قالوه يستلزم عدمه كما تقدم لكن ليس ظهور عدمه في ذلك كظهوره في قول القائل لا يوصف بالموت ولا بعدمه ولا بالعجز ولابعدمه كما لا يوصف بالقدرة ولا بعدمها ولا بالحياة ولا عدمها بمعنى أن ذلك لا يجوز أن يوصف لشيء من ذلك لا نفيًا ولا إثباتًا فإن هذا حال المعدوم المحض وإذا كان كذلك فقول القائل أنا أقول إن الله غير متناهٍ في ذاته بمعنى أن ذاته لا تقبل أن توصف بالتناهي وعدمه لأن ذلك من عوارض ذات المقدار كما لا يوصف بالطول وعدمه ولا بالقصر وعدمه ولا بالاستدارة والتثليث والتربيع وعدم ذلك لأن ذلك من عوارض المقدار وهو التجسيم والتحيز جمع بين النقيضين لأن قوله غير متناه في ذاته يفهم المقدار الذي لا يتناهى وهو البعد الذي لا يتناهى كما إذا قيل إنه لا نهاية له في أزله أفهم ذلك البقاء الذي لا يتناهى
والأزل الذي لا يتناهى وهو عَمْرُ الله الذي لا يتناهى كما يحلف به فيقال لعَمْرُ الله كما حلف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بذلك وقولهم بعد ذلك لا يقبل الوصف بالتناهي وعدمه نفي لما أثبتوه من كون غير متناهٍ وكذلك قوله امتنع أن يكون له طرف ونهاية وحد وهذا يفهم منه أن ذاته غير متناهية فلا نهاية لها وهو إنما أراد أن ذاته لا يجوز إثبات النهاية لها ولا سلبها عنها وهذا الثاني صفة المعدوم فالحاصل أنهم في هذا المقام إماأن يفسروا سلب النهاية بما هو صفة المعدوم أو بما يستلزم وجودًا غير متناه في نفسه فإن قالوا إن وجود ذلك الموجود غير متناه في نفسه فهذا قول من
يقول إن ذات الله لا نهاية لها وإن قالوا إن ذاته لايجوز أن يعتقد أو يقال فيها إنها متناهية أو أنها غير متناهية لأنها لا تقبل الاتصاف بذلك فهذا صفة المعدوم سواء فأحد الأمرين لازم إما تمثيل ربهم بالمعدوم وإما القول بأبعاد لا نهاية لها وهكذا كان السلف يقولون عن قول الجهمية إنهم لما قالوا إن الله ليس على العرش وأنه لا يكون في مكان دون مكان صاروا تارة يقولون إنه في كل مكان ويقول من يقول منهم إنه موجود لا نهاية لذاته فيجعلونه من الموجودات المخلوقة أو نفس وجودها وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا داخل العالم ولا خارجه فيجعلونه كالمعدومات فهم دائمًا مترددون بين الإشراك وبين التعطيل إما يجعلونه كالمخلوقات وإما أن يجعلوه كالمعدومات فالأول يكثر في عبادهم ومتصوفتهم والثاني يكثر في علمائهم ومتكلمتهم ولهذا لما كان صاحب الفصوص ونحوه من القسم الأول جعلوه نفس الموجودات وجوزوا كل شرك في العالم وجعلوه نفس العابد والمعبود والناكح والمنكوح والشاتم والمشتوم وقالوا ما عبد أحد إلا الله ولا يمكن أحد أن يعبد إلا الله بل لا يتصور أن يكون العابد والمعبود عندهم
إلا الله ولما كان صاحب التأسيس ونحوه من القسم الثاني جعلوه كالمعدومات المحضة ولهذا يقال فيهم متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئًا وهذا هو نهاية التعطيل ومتصوفتهم يعبدون كل شيء وهذا نهاية الإشراك ولهذا ذكر علماء الإسلام والسنة أن هذا السلب أول من ابتدعه في الإسلام هم الجهمية وليس له أصل في دين المسلمين ولا غيرهم بل الموجود في كتاب الله وسنة رسوله وكلام سلف الأمة وأئمتها هو نفي إدراك نهايته ونفي الإحاطة به كما قال تعالى لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقال من قال من السلف لمن سأله عن هذه الأشياء ألست ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا قال فالله
أكبر وكذلك قوله وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً {110} [طه 110] سواء كان الضمير عائدًا على الله أو على ما بين أيديهم فإن ذلك يدل على عدم إحاطة العلم بالله من طريق الأولى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وغير ذلك وكذلك من قال من سلف الأمة إن حده لا يعلمه أحد غيره
وقد قال سبحانه وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {67} [الزمر 67] فأخبر سبحانه أنهم ما قدروا الله حق قدره وهو يقبض الأرض بيده ويطوي السماء بيمينه كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث أبي هريرة وابن عمر وابن
مسعود كلها في الصحيحين ومثل حديث ابن عباس وغيره من الأحاديث الحسان وقال أيضًا في الآية الأخرى وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ [الأنعام 91] فالآية الأولى في الأصل الأول من الإسلام وهو التوحيد والثانية في الأصل الثاني وهو الرسالة وهؤلاء الجهمية لهم قدح في كلا الأصلين فإنهم لايقدرون الله حق
قدره فلا يقبض عندهم أرضًا ولا يطوي السماء بيمينه بل ليس له قدر في الحقيقة الخارجية عندهم وإنما قدره عندهم ما يقوم بالأنفس والأذهان فيثبتون لقدره الوجود الذهني دون العيني وكذلك عندهم في الحقيقة ما تكلم بشيء حتى ينزله على بشر لا سيما الصابئة المتفلسفة منهم فإن الكلام إنما يفيض عندهم على قلب النبي من العقل الفعال لا من رب العالمين وقد قال في الآية الأخرى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى {42} [النجم 42] وقال إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ {6} [الانشقاق 6] وقال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام 62] وقال أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ {53} [الشورى 53] وإذا كان منتهى المخلوقات غليه وهو الغاية والنهاية التي ينتهي إليها امتنع أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ولا يكون غاية ومالا يوصف بالنهاية لا ينتهي إليه أصلاً فإنه لا اختصاص له حتى يكون الشيء غير منته إليه ثم ينتهي
إليه بل وصف الشيء بالانتهاء إليه وعدم الانتهاء إليه سواء كما يقوله الجهمية فإنه لا يتصور عندهم أن ينتهي إلى الله شيء أو يرجع إليه أمر أو يصير إليه أمر أو يرد إليه أحد لاسيما الاتحادية منهم من يقول إنه في كل مكان كما لا يتصور عندهم أن ينزل من عنده شيء أو يعرج إليه شيء أو يصعد إليه شيء وليس هذا موضع تقرير ذلك وإنما الغرض هنا أن قوله الشيء الذي يقال إنه غير متناه على وجهين أحدهما أنه غير مختص بجهة وحيز قول لا يعرف ما يعرف إطلاق القول على شيء بأنه غير متناه بهذا المعنى أصلاً إلا إذا كان معدومًا أو كان ذاهبًا في الجهات كلها غير متناه كما يقدر من الأبعاد الوجه السادس أن هذا الوجه معارض بما اختص الله به سبحانه من الحقيقة والصفات فإن الاختصاص بالوصف كالاختصاص بالقدر فهو مختص بالحياة والعلم والقدرة وغير ذلك بحيث له صفات مخصوصة يمتنع لتصافه بأضدادها ونقائضها ويقال فيها نظير ما قاله في المقدار بأن يقال إما أن تكون الصفات متناهية أو غير متناهية من وجه دون وجه
فإن كانت متناهية فكل متناه يستدعي مخصصًا ويقبل الزيادة والنقص كما قدره في المقدار وإن لم تكن متناهية لزم وجود صفات لا نهاية لها وفرض وصف لا نهاية له كفرض قدر لا نهاية له فإن الصفة لابد لها من محل ويلزم من عدم تناهيها عدم تناهي محلها وأيضًا فإن كل صفة متميزة عن الأخرى فيكون للصفات عدد فإما أن يكون عدد الصفات يتناهى أو لا يتناهى فإن تناهى لزم الأول وإن لم يتناه لزم الثاني وإذا كان له أعداد لا تتناهى فهو كمقدار لا يتناهى فكلما يحتج له على امتناع مقدار لا يتناهى يحتج به على امتناع عدد صفات لا تتناهى إذ ما يفرض من المسامتة وعدمها في المقدار يفرض من المطابقة وعدمها في الأعداد وهذا الوجه يمكن أن يلزم به كل أحد فإنه لابد من الاعتراف بموجود له خاصية يتميز بها عما سواه إذ وجُودٌ ليست له خاصة تميزه ممتنع والكليات مع كونها موجودة في الأذهان فتميز ما في نفس زيد عما في نفس عمرو فإنها من الصفات القائمة بالأذهان وإذا كان لكل موجود خاصة يتميز بها سواء كان واجبًا بذاته أو كان ممكنًا فالقول في اختصاصه بتلك الخاصة كالقول في اختصاصه بقدر
فصل قال الرازي البرهان الرابع على أنه يمتنع أن يحصل في الجهة والحيز هو أنه لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أولا مع وجوب أن يحصل فيه والقسمان باطلان فكما القول بأنه تعالى حاصل في الجهة محالاً وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحصل فيه مع الوجوب لوجوه الأول أن ذاته مساوية لذوات سائر الأجسام من كونه حاصلاً في الحيز ممتدًا في الجهة وإذا أثبت التساوي من هذا الوجه ثبت التساوي في تمام الذات على ما بيناه في البرهان الأول في نفي كونه حسمًا وإذا ثبت التساوي مطلقًا فكل ما صح على أحد المتساويين وجب أن يصح على الآخر ولما لم يجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز وجب أن
لا يجب في تلك الذات حصولها في ذلك الحيز وهو المطلوب الثاني أنه لو وجب حصوله في تلك الجهة وامتنع حصوله في سائر الجهات لكانت تلك الجهة مخالفة في الماهية لسائر الجهات فحينئذ تكون الجهات شيئًا موجوداً فإذا كان الله واجب الحصول في الجهة أزلاً وأبدًا التزموا قديمًا آخر مع الله تعالى في الأزل وذلك محال الثالث أنه لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام في حيز معين على سبيل الوجوب بحيث يمتنع خروجه عنه وعلى هذا التقدير لا يتمشى دليل حدوث الأجسام في ذلك فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الجسام ل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا الرابع هو أنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وإذا كانت بأسرها
متساوية يكون حكمها واحدًا وذلك يمنع القول بأن الله تعالى واجب الاختصاص ببعض الأحياز على التعيين فإن قالوا لما لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أزلي قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن قبل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض فلم يكن هناك لا فوق ولا تحت فبطل قولكم الثاني لو كان الفوق متميزًا عن التحت بالتميز الذاتي لكانت أموراً موجودة قابلة للانقسام وذلك يقتضي قدم الجسم لأنه لا معنى للجسم إلا ذلك الثالث هو أنه لو جاز أن تختص ذات الإله تعالى ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية في
العقل لجاز اختصاص بعض الحوادث المعينة ببعض الأوقات دون بعض على سبيل الوجوب مع كونها متساوية في العقل وعلى هذا التقدير يلزم استغناؤها عن الصانع ولجاز أيضًا اختصاص عدم القديم ببعض الأوقات على سبيل الوجوب وعلى هذا التقدير ينسد باب إثبات الصانع وباب إثبات وجوبه وقدمه الرابع أنه لو حصل في حيز معين مع كونه لا يمكنه الخروج منه لكان كالمفلوج الذي لا يمكنه أن يتحرك أو كالمربوط الممنوع من الحركة وذلك نقص والنقص على الله محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إنه تعالى حصل في الحيز مع جواز كونه حاصلاً فيه فنقول إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فالفاعل يتقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لايكون أزليًّا وإذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم وقوع الانقلاب في ذاته تعالى وهو محال والكلام على هذه الحجة على قول من يطلق الحيز والجهة ومن لا يطلق ذلك على مذهب مثبتة الجسم ونفاته مع قولهم إنه على العرش سواء فإنه يمكن أن يقال لو كان فوق العرش أو كان عالياً على العرش لكانت فوقيته وعلوه إما واجباً وإما جائزاً وساق الحجة والجواب عنها أن يعرف أن لفظ الحيز والجهة ونحو ذلك فيه اشتراك كما تقدم فقد يراد به شيء
منفصل عن الله كالعرش والغمام وقد يراد به ما ليس منفصلاً عنه كما ذكرنا أن لفظ الحيز والحد في المخلوقات يراد به ما ينفصل عن المحدود ويحيط به ويراد به نهاية الشيء وجوانبه فإن كلاهما يجوزه وقد يراد بالحيز أمر عدمي وهو ما يقدر فيه الأجسام وهو المعروف من لفظ الحيز عند المتكلمين الذين يفرقون بين لفظ الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان وكذلك الجهة قد يعني بها أمر وجودي منفصل عنه فقد يعني بها ما لا يقتضي موجوداً غيره بل يكون إما أمراً عدميًّا وإما نسبيًّا وإضافيًّا وإذا كان في الألفاظ اشتراك فمن مسمى ذلك ما يكون واجباً ومنه ما يكون جائزاً والاستفصال يكشف حقيقة الحال وحينئذ فالكلام عليها من وجوه الأول أن يقال ما تعني بقولك لو حصل في شيء من الجهات والأحياز لكان إما أن يحصل مع الوجوب أو مع عدم الوجوب أتعني بالحيز ما هو من لوازم المتحيز وهي نهايته وحده الداخل في مسماه أم تريد بالحيز شيئاً موجوداً
منفصلاً عنه كالعرش وكذلك الجهة أتريد بالجهة أمراً موجوداً منفصلاً عنه أم تريد بالجهة كونه بحيث يشار إليه ويمكن الإحساس به وإن لم يكن هناك موجود غيره فإن أراد بالحيز المعنى الأول وهو ما هو من لوازم كل متحيز وإن أراد بالجهة كونه يشار إليه من غير وجود شيء منفصل عنه لم نسلم أن ذلك غير واجب وبهذا التفصيل يظهر الجواب عما ذكره من الوجوه أما قوله لايجب في سائر الذوات حصولها في ذلك الحيز فكذلك هذا فيقال له بل يجب في سائر الذوات المتحيزة أن يكون لكل منها تحيز يخصه وهو قدره ونهايته التي تحيط به ويلزمه الحيز الذي هو تقدير المكان وهوعدمي لكن لا يجب أن يكون عين تحيز هذا وعين حيزه الذي هو نهايته كما لا يجب أن يكون عين هذا هو عين الآخر فإن حيزه بهذا التفسير داخل في مسمى ذاته ونفسه وعينه والشيئان المتماثلان لا يجب أن يكون أحدهما عين الآخر فإن هذا لا يقوله عاقل وهذا معلوم بالاضطرار لا نزاع فيه هذا لو سلم أن الأجسام متماثلة فكيف وقد تقدم أن هذا قول باطل
وكذلك قوله في الثاني لو وجب حصوله في تلك الجهة لكانت مخالفة لغيرها فتكون موجودًا فيكون مع الله قديم آخر يقال له ثبوت صفة قديمة ليس ممتنعًا على الله كما اتفق عليه الصفاتية أو لا نسلم أنه ممتنع والقدر الحيز الداخل في مسمى المتحيز الذي هو من لوازمه أبلغ من صفاته الذاتية فإن كل موجود متحيز بدون الحيز الذي هو جوانبه المحيطة به يمنع أن يكون هو إياه والقديم الذي يمتنع وجوده مع الله ما يكون شيئًا منفصلاً عنه بل القديم شيء يكون داخلاً في مسماه ليس خارجًا عنه وقوله في الوجه الثالث لو جاز دعوى وجوب اختصاص شيء بجهة معينة جاز أن يدعى في بعض الأجسام حصوله في حيز بعينه على سبيل الوجوب وحينئذ لا يتمشى
دليل حدوث الأجسام بل يلزمه تجويز قدم بعضها يقال له كل جسم فإنه مختص بحيز وحيزه الذي هو جوانبه ونهايته وحدوده الداخلة في مسماه وأما اختصاصه بحيز وجودي منفصل عنه فذاك شيء آخر لا يلزم كما قد بيناه فعلم أن ذلك لا ينافي ما ذكروه من دليل حدوث الأجسام مع أن ذلك الدليل لا نرتضيه لا لهذا لكن لمعانٍ أُخَر ومع أن المنازعين له الذين يقولون هو جسم أو له حد وقدر ينازعونه في حدوث كل ما كان جسمًا أوله حد فقد يقولون دعوى حدوث جميع هذا مثل دعوى حدوث كل ذات أو كل موصوف أو كل صفة وموصوف أو حدوث كل قائم بنفسه أو كل موجود ونحو ذلك وقوله في الوجه الرابع الأحياز متساوية وذلك يمنع الاختصاص ببعضها على التعيين يقال له الأحياز
المتساوية التي تدعي فيها التساوي هي ماكانت منفصلة عن المتحيز كما ذكر من الخلاء والفراغ وأما الحيز الذي هو داخل في مسمى المتحيز وهو جانبه وحده ونهايته فهذا تابع للمتحيز وهذه الأحياز مختلفة باختلاف المتحيزات فحيز كل متحيز وهو حده ونهايته وجانبه يتبع حقيقته وهذا ظاهر فحيز الذهب ذهب وحيز الفضة فضة بهذا الاعتبار وقوله في الوجه الخامس المختص بحيز معين يكون كالمربوط المفلوج يقال له هذا إنما يقال إذا كان في حيز وجودي منفصل عنه أما ما هو داخل في مسمى نفسه وهو حده ونهايته فلا يلزم ذلك فيه كما لا يلزم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم العدم في سائر المتحيزات وهذا ظاهر بل عدم هذا يستلزم عدم بعض الشيء الوجه الثاني أن يقال إذا أراد القائل بأنه متحيز وأراد بالحيز
أمرًا موجودًا منفصلاً عنه كالغمام والعرش فإنه قد يقول حصوله فيه على سبيل الجواز وبذلك يظهر الجواب عن قوله ذلك الاختصاص لا يكون إلا بجعل جاعل هو الفاعل المتقدم على التخصيص فيلزم أن لا يكون ذات الله في الحيز أزليًّا فإن هذا يسلم على هذا التقدير بأن حصول ذاته فوق العرش ليس أزليًّا بل كان الله قبل أن يكون مستويًا على العرش سواء قيل أن الاستواء أمر نسبي إضافي أو قيل إنه من صفات الأفعال وأنه استوى على العرش بعد أن لم يكن مستويًا عليه فعلى التقديرين إنما حصل الاستواء بخلقه للعرش وخلقه للعرش بمشيئته واختياره وأما قوله إذا كان في الأزل مبرءًا عن الموضع والحيز امتنع أن يصير بعد ذلك مختصًّا بالحيز وإلا لزم الانقلاب في ذاته يقال له هذا ممنوع فإنه إذا كان في الأزل مبرءًا عن حيز وجودي كالعرش والغمام ثم صار بعد أن
خلق العرش والعالم فوقه لم يكن ممتنعاً فإن تجدد النسب والإضافات عليه جائز باتفاق العقلاء وأما إن قيل إن الاستواء فعل وأنه استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا كما هو المعروف من مذاهب السلف وأهل الحديث فهذا مبني على مسألة الحركة وحلول الحوادث وقد تقدم كلامه بأن هذا لم يقم دليل عقلي على نفيه وأن جميع الطوائف يلزمهم القول به وليس ذلك انقلاب في ذات الله بحال كما تقدم وهو إنما ادعى لزوم الانقلاب لأنه أخذ لفظ الحيز بالاشتراك فقدر أنه يصير متحيزًا بعد أن لم يكن متحيزًا ومعلوم أن هذا يوجب انقلاب ذاته فإن ضرورة صير المتحيز متحيزًا توجب الانقلابات لكن هذا التحيز هو القسم الأول وهو التحيز اللازم للمتحيز الذي يمتنع انفصاله عنه والمراد بالحيز في هذا المتحيز إماأمر عدمي أو إضافي أو المراد به جوانب المتحيز ونهايته فلو كان في الأزل مبرءاً عن هذا ثم صار موصوفًا به لزم الانقلاب ونظيره في المخلوقات أن يصير ما ليس بجسم جسمًا وهذا عند قوم ممتنع وعند قوم قد
يقلب الله الأعراض أجسامًا وذلك انقلاب بلا نزاع أما إذا أريد بالحيز أمرًا موجودًا منفصلاً عنه فلا يلزم بكونه فوقه وعليه أن تنقلب ذاته بوجه من الوجوه فإن الناس في كونه فوق العرش والعالم قولان مشهوران لعامة الطوائف من المتكلمين وأهل الحديث والفقهاء والصوفية من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أحدهما أنه مجرد نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق أو بين العرش والرب تجددت بخلقه للعرش من غير أن يكون هو في نفسه تحرك أو تصرف بنفسه شيئًا وهذا قول من يقول يمتنع حدوث الحوادث بذاته وتمتنع الحركة عليه والقول الثاني هو المشهور عن السلف وأئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفقهاء والصوفية من الطوائف الأربعة وغيرهم أنه استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض كما دل عليه القرآن فيكون قد استوى عليه بعد أن لم يكن مستويًا عليه وكذلك استواؤه إلى السماء ومجيئُهُ وإتيانه كما وردت بذلك النصوص المتواترة الصحيحة وعلى هذا التقدير فليس في ذلك انقلاب لذاته بل قد ذكر هو أن ليس في الأدلة
العقلية ما يحيل ذلك الوجه الثالث أن يقال تحيزه واجب ويجزم بذلك بناءً على أن نقس العرش ليس بحيز بل الحيز تقدير المكان ومن قال بذلك فهم في جواز الحركة عليه على قولين فمن قال بالامتناع يقول إنه لما خلق العرش تجددت بينه وبين العرش نسبة ولم يتغير عما كان موصوفًا به إن وصفه بأنه متحيز فإنا قد ذكرنا للقائلين بأنه على العرش في ذلك قولان وقد يقول إن حصوله في الحيز المعين واجب ومن قال ذلك يجيب عن أوجهه الخمسة أما الوجه الأول فمبني على تماثل المتحيزات وقد تقدم أن هذا باطل وأما قوله في الوجه الثاني أنه لو وجب حصوله في الجهة وامتنع حصوله في غيرها لكانت تلك الجهة مخالفة لغيرها في الحقيقة فتكون موجودة فيكون مع الله قديم غيره تعالى يقال له هؤلاء لا يقولون إن الحيز الذي يجب لله أمرًا
موجودًا منفصلاً عنه بل هو عندهم أمر عدمي بينه وبين الله نسبة وإضافة إذ هو تقدير المكان وذلك لا يقتضي وجود موجود غيره كما أنه لما كان في الأزل لا في زمان لا في تقدير الزمان لم يقتضِ ذلك وجود قديم آخر مع الله ومن قال إن تقدير الزمان وتقدير المكان وجوديان قال بقدمهما جميعًا كما يقول ذلك طائفة من الصابئة ومن اتبعهم ثم قد يقولون إن ذلك لازم لواجب الوجود نفسه وقد يقولون عن القدماء خمسة الزمان والمكان والنفس والهيولى وواجب الوجود
بنفسه كما يقول ذلك بعض الصابئين ومن اتبعهم كديمقراطيس والغرض أن المسلمين الذين يقولون ليس مع الله قديم منفصل عنه موجود لا يقولون إن الحيز موجود وقد تقدم
الدليل على ذلك وقد قال هو بعد هذا إنه قل خلق العالم ما كان إلا الخلاء الصرف والعدم المحض وذلك ينافي قوله إن الأحياز وجودية وأما قوله ما سبب الاختصاص بهذا الأمر العدم فسيأتي الكلام عليه وهؤلاء يقولون قوله في الوجه الثالث لو جاز في شيء مختص بجهة معينة أن يقال اختصاصه بتلك الجهة واجب جاز أيضًا ادعاء أن بعض الأجسام حصل في حيز معين على سبيل الوجوب وعلى هذا لا يتمشى دليل حدوث العالم فثبت أن القائل بهذا القول لا يمكنه الجزم بحدوث كل الأجسام بل يلزمه تجويز أن يكون بعضها قديمًا فهم يجيبون بجوابين أحدهما أن الأجسام مختلفة بالحقيقة فلا يلزم من اختصاص بعضها بصفة معينة أن يكون غيره مختصًّا بمثل تلك الصفة كما أنه عندهم إذا اختص بسائر صفاته الذاتية لم يلزم أن يكون غيره مختصًّا بغيره
الثاني أنهم إذا قالوا بأن بعض الأجسام الباقية مختص بحيز معين إنما يبطل الدليل الذي ذكره منازعوهم ولا ريب في بطلان هذا الدليل عندهم كما اتفق السلف والأئمة على أنه من الكلام المنهي عنه ومن قال من هؤلاء إنه جسم لم ينكر أن الأجسام كلها ليست محدثة كما لا ينكر أن القائمات بأنفسها كلها ليست محدثة وأن الموصوفات كلها ليست محدثة بل يضلل من يطلق العموم بحدوث الأجسام كما يضلل من أطلق القول بحدوث الموصوفات والقائمات بأنفسها أو الموجودات ويقولون قوله في الوجه الرابع إنا نعلم بالضرورة أن الأحياز بأسرها متساوية لأنها فراغ محض وخلاء صرف وذلك يمنع وجوب الاختصاص ببعضها فهم يقولون ليس الاختصاص لمعنى فيها بل هو لمعنى في نفسه وهو امتناع الحركة عليه الانتقال عنه كما يوافقهم هو على ذلك وأيضًا فالعالم مختص بحيزه لمعنى فيه لا في حيزه وأما السؤال الذي أوردهم من جهتهم لم لا يجوز أن يكون اختصاصه بجهة فوق أولى وجوابه بأنه قبل خلق العالم
ما كان إلا الخلاء الصرف وبأنه لو كان الفوقاني متميزًا عن التحتاني لكانت وجودية فإنهم يقولون كونه فوق العالم إنما يظهر إذا خلق العالم فإنه لما خلقه وهو على علو يستحقه بنفسه وخلق العالم بصفة التحت وجب أن يكون فوق العالم لمعنى في نفسه وفي العالم لا لمعنى وجودي في الحيز وإن لم يكن قبل خلق العالم ولا فوق العالم إلا العدم المحض والخلاء الصرف فالاختصاص بالحيز لامتناع الحركة عليه عندهم ووجوب علوه لمعنى في نفسه وفي العالم وكذلك قوله في الثالث لو جاز اختصاص ذات الإله ببعض الجهات على سبيل الوجوب مع كون الأحياز متساوية يلزم استغناؤها عن الصانع فيقولون هذا بناء على أن الأحياز أمور وجودية وليس الأمر كذلك بل هي أمور عدمية
وقوله في الخامس أنه يكون كالمفلوج الذي لا يمكنه الحركة وهو نقص وهو على الله محال فيقال أنت تقول إن نفي النقص عن الله لا يعلم بالعقل وأنت أيضًا تقول لا يجوز عليه الحركة وقد تقدم الكلام على هذا في آخر حجة من نفي الجسم وهو برهان الحركة وبينا أن ما وصف به قول منازعيه يلزمه مثله أو أكثر الوجه الرابع قول من لا يوجب حصوله في حيز معين خارج عنه وجوديًّا كان أو عدميًّا بل ذلك عنده على سبيل الجواز مطلقاً وهو قول كل من يقول إنه استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض بعد أن لم يكن مستويًا عليه ويقول إنه استوى إلى السماء وأنه يجيء يوم القيامة ويأتي إلى سائر ما جاءت به النصوص من ذلك وعلى قول هؤلاء لا يجب حصوله في حيز معين وتكون ذاته مستلزمة للحيز المطلق لا لحيز معين وإذا حصل في حيز معين جاز أن يكون حاصلاً
فيه ولم يجب وأما قوله إن هذا محال لأنه لو كان كذلك لما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلابجعل جاعل وتخصيص مخصص وما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه فيلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا لأن ما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له أما اختصاصه بحيز دون حيز فهو الذي يفتقر إلى جعل جاعل وأما أصل التحيز فمن لوازم ذاته كالقدرة والفعل فإن القدرة على كل شيء من لوازم ذاته وأما تخصيص بعض المقدورات فتتبع مشيئته واختياره وعلى هذا فنقول حصوله في حيز معين دون غيره بمشيئته واختياره وذلك لأن هذا هو الفعل والتصرف والحركة كما يقولون إنه ما زال متكلمًا إذا شاء كذلك يقولون ما زال فاعلاً بنفسه إذا شاء وعلى هذا فحصول ذاته في الأزل يكون أزليًّا لأنه من لوازم ذاته لكن تعيين حيز دون حيز هو تابع لمشيئته واختياره وذلك أن الأحياز ليست أمورًا
وجودية بل هي أمور عدمية فليس الأمر إلا مجرد كونه يفعل بنفسه ويتصرف وتقدم الفاعل على هذا الفعل بقدم الذات كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم لا يوجب ذلك تقدمًا بالزمان وعلى هذا فيقال الوجه الخامس قولك لو حصل في شيء من الأحياز والجهات لكان إما أن يحصل مع وجوب أن يحصل فيه أو لا مع الوجوب فيقال أتريد بالوجوب وجوب الحيز المطلق أو وجوب حيز معين فإن أردت الأول فالوجوه الخمسة المذكورة لا تنفي ذلك وإن أردت الثاني فقوله إن هذا يلزم أن لا يكون حصول ذات الله في الحيز أزليًّا يقال هذا ممنوع قوله ما ترجح وجود ذلك الاختصاص إلا بجعل جاعل وكل ما كان كذلك فالفاعل متقدم عليه وما تأخر عن الغير لا يكون أزليًّا يقال له التقدم في مثل هذا
لا يوجب أن يكون بزمان يفصل بين الفعل والفاعل كما تقول حركت يدي فتحرك ثوبي أو تحرك خاتمي ونحو ذلك فحركة اليد متقدمة على حركة الخاتم والكم ومع هذا فزمانهما واحد فكذلك إذا كان هذا التخصيص جائزًا وهو بمشيئته واختياره لم يمنع ذلك أن يكون متقدمًا على فعله تقدمًا بغير الزمان وهذا القدر وإن كان الفلاسفة يقولونه في تقدمه على العالم فهؤلاء لم يقولوه في ذلك بل قالوه في تقدمه على هذا الفعل القائم بنفسه والتحيز المعين وهم يقولون ذلك في سائر ما يضاف إليه من أعيان الأقوال وأعيان الأفعال القائمة بنفسه التي يمكن أن يقول ويفعل غيرها مما يكون بمشيئته واختياره وهذا قول طوائف كثيرة من منازعيه معروف عنهم من أهل الكلام وأهل الحديث والصوفية وغيرهم