الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالحروف فهي أخف من صيغة التثنية التي تختلف في النصب وفي الرفع والخفض إذ يحتاج أن يقول صيغ قلباهما وقلب الله قلبيهما وزيّن الإيمان في قلبيهما وعلى المعروف يقال صغت قلوبهما وقلب الله قلوبهما وزيّن الإيمان في قلوبهما فهذا أخف وأسهل وأحسن فإذا قال مما عملت يدانا وخلقنا بيدينا وبسطنا بيدينا كان هذا بخلاف ما لو قيل عملت أيدينا وخلقنا بأيدينا وبسطنا أيدينا كان هذا أخف وأسهل وأحسن من الأول فكيف وفي هذه الصور المضاف إليه لفظه لفظ الجمع فإذا كانوا يعدلون عن إضافة المثنى إلى المثنى فيجعلون المضاف بلفظ الجمع فلأن يعدلوا عن إضافة المثنى إلى الجمع ويجعلوا المضاف بلفظ الجمع أولى وأحرى الوجه الثامن أن
القرآن جاء صريحاً في اليد بلفظ التثنية
في قوله مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ولم يقل لما خلقته
أيدينا كما قال هناك مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا بل أخبر أنه خلق هو وذكر أنه خلق بيديه ومثل هذا اللفظ لايحتمل من المجاز ما يحتمله ما عملت أيدينا فإن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)[الحج 10] وقال تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] فأخبر عن اليهود أنهم ذكروا ذلك بصيغة الفرد ثم قال بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ فأخبر أن يديه مبسوطتان وجاء بلفظ المفرد في مواضع كقوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آل عمران 26] وقوله تبارك وتعالى تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] ولم يجئ بلفظ الجمع إلا في قوله مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا فإذا ادعى المدعي أن ظاهر القرآن أن لله أيدياً كثيرة بهذه الآية مع معارضة تلك الآيات المتعددة لها أليس هذا في غاية البهتان وكان إذا لم يعرف الجمع بين الآيات يكفيه أن يقول
لا أعلم ظاهر القرآن أو يدعي أنه ليس له ظاهر أما تعيين المجمل المرجوح للظهور دون غيره فتحريف وتبديل الوجه التاسع أن يقال له أما صيغة التثنية فإنها نص في مسماها لأنها من أسماء العدد وأسماء العدد نصوص لايجوز اثنان أو ثلاثة أو أربعة ويعني به إلا ذلك العدد حتى أنه قيل في مثل قوله يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة 228] أن ذلك يوجب القروء الكاملة لكونه بلفظ العدد بخلاف قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة 197] فإنه يراد به بعض الثلاث لكونه لفظ جمع ولكون مثل ذلك مستعملاً في أسماء الزمان وأما صيغة المفرد فكثيراً ما يراد بها الجنس فيتناوله سواء كان واحداً أو اثنين أو ثلاثة كما قد يراد بها الواحد في العين وقد يقال الأصل هو الأول ولهذا إذا دخل حرف النفي عليها كان ظاهرها نفي الجنس وقد يراد بها نفي الواحد من الجنس فيقال ما جاءني رجل بل رجلان هذا خلاف الظاهر والأصل عند الإطلاق إذا قلت ما جاءني رجل أن تكون
نافية للجنس ونفي الواحد يكون بقرينة ولهذا عامة المفرد المضاف في القرآن كذلك مثل قوله لَيْلَةَ الصِّيَامِ ونِعْمَةَ اللهِ ونحو ذلك وإذا كان كذلك فقوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ وبِيَدِهِ الْمُلْكُ يدل على جنس اليد فيعم ما للمضاف إليه سواء كانت يداً أو يدين أو يكون مطلقاً لايدل على عموم ولا خصوص وكذلك قوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي يتناول ما للمضاف إليه من ذلك وقوله فيكشف الرب عن ساقه وحتى يضع رب العزة فيها قدمه يقال إنه من المطلق أيضاً إذ الجنس المضاف يراد به العموم تارة ويراد به مطلق الجنس تارة والمقصود أن ذلك لايوجب أن يكون واحداً بالعين وأما صيغة الجمع واستعمالها بمعنى التثنية فقد تقدمت
شواهده وإذا كان كذلك كان ظاهر القرآن بل نصه أن لله يدين وكان ما ذكر فيه من لفظ المفرد أريد به الجنس وما ذكر فيه من لفظ الجمع أريد به المثنى وكل هذا هو من ظاهر الخطاب وفصيح اللغة ليس فيه شيء من غريب اللغة وخفيها بل هو جارٍ على الاستعمال الظاهر المشهور فتبين أنما جعله ظاهر القرآن هو خلاف نصه وظاهره الوجه العاشر أنه إذا كان مقصوده أن الله ليس موصوفاً بظواهر النصوص فكان ينبغي أن يذكر ما وردت به الأخبار أيضاً فإنه موصوف بالأمرين جميعاً وفيما وصف به من الأخبار ما إذا ضم إلى القرآن تبين من مجموع النصوص زوال ما ادعاه من الشناعة مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين
فصل قال الرازي الوجه الثاني أنه ورد في القرآن أن الله نور السموات والأرض وأن كل عاقل يعلم بالبديهة أن الله ليس هو هذا الشيء المنبسط على الجدران والحيطان وليس هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار ولابد لكل واحدٍ منا أن يفسر قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بأنه مُنور السموات والأرض أو بأنه هادٍ لأهل السموات والأرض أو بأنه مصلح لأهل السموات والأرض وكل ذلك تأويل قلت والكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال له الله أخبر أنه نور السموات والأرض فإن النار جملة وتفصيلاً كالموجود في السرج والمصابيح وغير ذلك إنما يكون
في بعض الأرض أو بعض ما بين السماء والأرض فضلاً عن أن تكون هذه النيران نور السموات والأرض وكذلك ضوء الشمس والقمر ليسا نور السموات والأرض وإن كانا موجودين في بعض السموات ومنورين لبعض الأرض فإنا نعلم أن نور الشمس التي هي أعظم من نور القمر ليس هو نور جميع السموات والأرض فإذا كانت هذه الأمور ليست نور السموات والأرض والله قد أخبر أنه هو نور السموات والأرض لم يكن ظاهر كلامه أن الله هو هذه الأنوار حتى يجعل ظاهر كلام الله باطلاً ومحالاً وكفراً وضلالاً بالبهتان وتحريف الكلم عن مواضعه بل لو كان الخطاب الله هو النور الذي تشهدونه في السموات والأرض أو الله هو النور الذي في السموات والأرض لكان لكلامه وجه بل قال هو نور السموات والأرض فالمحرف لهذه الآية ظن أن مسمى نور السموات والأرض هي هذه الأنوار المشهودة المخلوقة من القمرين والنار فاعتقد أن ظاهر القرآن هو هذا الباطل الوجه الثاني أنه قد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات
والأرض ومن فيهن وهذا يقتضي أن كونه نور السموات والأرض أمر مغاير لكونه رب ذلك وقيمه ومن المعلوم أن إصلاح ذلك وهدايته وجعله نيِّراً هو داخل في كونه ربه وقيمه فعلم أن معنى كونه نور السموات والأرض غير ذلك الثالث أن الله قد قال في كتابه العزيز وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر 68-69] فقد اخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره وقال الإمام أحمد في الرد على الجهمية نقول إن اله لم يزل متكلماً إذا شاء ولا نقول إنه كان قد لا يتكلم حتى خلق كلاماً ولا نقول إنه قد كان لا يعلم حتى خلق
لنفسه علماً فعلم ولا نقول إنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نوراً ولا نقول إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة فقالت الجهمية لنا لمَّا وصفنا من الله هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره لم يزل وقدرته فقلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن لم يزل بقدرته وبنوره لا متى قدر ولا كيف قدر فكل ما له فهو في نفسه نور فإن إنارته على غيره فرع استنارته في نفسه ولهذا كان لفظ النور يقع على الجواهر المنيرة وعلى الأعراض القائمة بالمستنير بها أخرى قال تعالى وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [نوح 16] فجعل القمر نفسه نوراً وهو جوهر قائم بنفسه ويقال لضوئه وضوء الشمس نور
الوجه الرابع أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نورٌ أنَّى أراه وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال إن الله لاينام ولاينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور أو قال النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وقال عبد الله بن مسعود إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أن له حجاباً من النور أو النار وهذا ليس هو نور وجهه الذي لو كشف هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وكذلك روى عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا محمد بن
كثير أنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن عمر قال احتجب الله من خلقه بأربعٍ بنارٍ وظلمةٍ ونورٍ وظلمةٍ
وقال حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل هل رأيت ربك فانتفض جبريل وقال يا محمد إن بيني وبينه سبعين حجاباً من نورٍ لو دنوت من أدناها حجاباً لاحترقت
الخامس أن كونه نوراً أو تسميته نوراً مما لم يكن ينازع فيه قدماء الجهمية وأئمتهم الذين ينكرون الصفات بل كانوا يقولون إنه نور قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله بكل مكان لايخلو منه مكان فقلنا لهم أخبرونا عن قول الله جل ثناؤه فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف 143] لِمَ تجلى للجبل إذا كان فيه بزعمكم فلو كان فيه كما تزعمون لَمْ يكن متجلياً لشيء هو فيه لكن الله تبارك وتعالى على العرش وتجلى لشيء لم يكن فيه ورأى الجبل شيئاً لم يكن رآه قط قبل ذلك وقلنا
للجهمية الله نور فقالوا هو نور كله فقلنا قال الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً وقلنا لهم أخبرونا حين زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور فلِمَ لايضيء البيت مظلم من النور الذي هو فيه إذ زعمتم أن الله في كل مكان وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء فعند ذلك تبين كذبهم على الله وقال الخلال حدثنا يحيى ن أبي طالب قال كنا عند عمر بن يحيى الواسطي بن أخي علي بن عاصم فتذاكرنا
من قال القرآن مخلوق فقال حدثني يحيى بن عاصم قال كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت له يا أبت مثل هذا يدخل عليك قال يا بني ما له قلت إنه يقول القرآن مخلوق وإن الله معه في الأرض وإن الشفاعة باطلة وإن الصراط باطل وإن الميزان باطل وإن منكراً باطل مع كلامٍ كثير قال ويحك أدخِله علىَّ قال فأدخلته فجعل يقول ويلك يا بشر اُدْنُه فما زال يدنيه حتى قرب منه ثم قال ويلك يا بشر ما هذا الكلام الذي بلغني عنك قال وما هو يا أبا الحسن قال بلغني أنك تقول القرآن مخلوق وأن الله في الأرض معك مع كلام كثير فقال ويلك من تعبد وأين ربك قال يا أبا الحسن لم أجئ لهذا إنما جئت لتقرأ عليَّ كتاب خالد قال فقال لا ولا نعمة عين ولا عزازة حتى أعلم ما أنت عليه أين ربك ويلك قال فقال أما إذ أبيت عليَّ يا أبا الحسن فربي نور في نور قال فجعل يزحف إليه
من ضعف ويقول ويحكم اقتلوه فإنه والله زنديق وقد كلمت هذا الصنف بخراسان قال فأخرجناه قلت والصنف الذي أشار إليهم علي بن عاصم محتمل أنهم من أتباع المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأنهما امتزجا واختلطا فإنهم لا يثبتون فوق العالم شيئاً كما تقول الجهمية وقد تقدم كلام ابن كلاب على مضاهاة المعتزلة للثنوية والدهرية فإذا كان أئمة المؤسس وقدماء أهل مذهبه يقولون إنه نور فكيف يدّعي الإجماع على خلاف ذلك فإن هذه التأويلات التي يذكرها في كتابه هي تأويلات بشر المريسي وهو إمام المتأولين فيها كما سننبه إن شاء الله على ذلك فهؤلاء المعطلة الجهمية وكذلك المجسمة كما نقل الأشعري في كتاب المقالات عن الهشامية أصحاب هشام بن الحكم أنهم يقولون إنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من
جميع جوانبها وكذلك نقل عن أصحاب هشام بن سالم الجواليقي أنهم يقولون إنه نور ساطع يتلألأ بياضاً وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وانف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم وكذلك نقل عن فرقة خامسة أنهم يزعمون أنه ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وأيضاً فالقول بأن الله في نفسه نور هو قول الصفاتية أهل الإثبات كأبي سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابها ولم يذكر الخلاف في ذلك إلا عن المعتزلة فذكر أبو بكر بن فورك في كتابه الذي سماه مقالات
الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وذكر أنه وأبا الحسن الأشعري متفقان لا يتنازعان إلا فيما لا قدر له من الأمور اللطيفة وذكر مذهبه في أصول ذكرها إلى أن قال فصل في إبانة مذاهبه في الصفات هذا الباب منقسم على وجهين أحدهما ما اشتهر به من مذاهبه حتى تغني شهرته عن الاستشهاد عليه على التفصيل بكلامه في كتبه الموضوعة في هذا المعنى والثاني ما يغمض ويختلف فيه عنه ثم قال أما المشهور من مذهبه في باب الصفات وذكر
أصولاً إلى أن قال والمشهور من مذاهبه في ذلك أن القول بأن الله سبحانه نورٌ لا كالأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هادٍ وعلى ذلك نص في كتاب التوحيد في باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة إذ تأولوا ذلك على أن معناه هادٍ فقال إن سئل سائل عن الله عز وجل أَنورٌ هو قيل له كلامك يحتمل وجهين إن كنت تريد أنه نور يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا وهذه صفة النور المخلوق وإن كنت تريد معنى ما قاله سبحانه وتعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فالله عز وجل نور السموات والأرض على ما قاله قال فإن قال فما معنى قولك نور قيل له قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق وما معنى النور الخالق وهو الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ومن تعدى أن يقول الله نور فقد تعدى إلى غير سبيل المؤمنين لأن الله سبحانه لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به فإن قال لا أعرف النور إلا هذا النور المضيء المتجزئ قيل له فإن كان لايكون نوراً إلا مضيئاً فكذلك
لايكون حكمه إلا وحكمه حكم ذلك الشيء قال ابن فورك ثم قال في هذا الفصل فإذا قال الله عز وجل إني نور قلت أنا هو نور على ما قال الله سبحانه وتعالى وقلت أنت ليس الله عز وجل نوراً فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت وكيف يتبين الحق فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه وتعالى والدافع لما قال الله سبحانه كافر بالله سبحانه وتعالى وإن لزمنا أن لا نقول إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق لزمنا أن لا نقول إن الله عز وجل شيء سميع بصير موجود لأن ذلك موجود في الخلق ومعنانا في هذا إثبات خلاف معناكم في ذلك التعطيل قال ومعنانا في قولنا إن الله نور نثبت لله تعالى اسمَ النور على ما ورد به كتابه مما يسمى به عندنا فنحن متبعون لما أخبرنا في كتابه فإن جاز لكم أن يكون شيء لا كالأشياء جاز أن نقول نورٌ
لا كالأنوار وأنتم ظلمة فيما سألتم جَحَدَةٌ لما أخبر عن نفسه في كتابه ونحن وأنتم متفقون إن أقررتم بالكتاب أن الله نور السموات والأرض ومختلفون في أن نقول نور فقلنا نحن نور وقلتم أنتم لا نقول نور فإن زعمتم أن معنى نور معنى هادي قلنا لكم فيجوز أن يكون غيره نوراً هادياً فإن قلتم لا أَكْذَبكم القياسُ واللغة وإن قلتم نعم قلنا لكم فقد سويتم بين النور الهادي الذي هو غير الله سبحانه وبينه إذ كان هو النور الهادي ومعنى هذا نور ومعنى هذا نور فقد استويا في معنييهما وأسمائهما فدخلتم فيما عبتم على مخالفكم إذ زعمتم أنه نورٌ لا كنور وقلتم إنه نور هادٍ لا كنور هادٍ فما الفصل بينكم وبين من قال ذلك وما الفرق بينه وبينكم إن كان نوراً فالنور لا يكون إلا جسداً مجسداً وضياءً ساطعاً قلنا ولا يكون عالماً بصيراً إ لا لحم ودم متجزئ متبعض فإن جاز قياسكم عل مخالفكم جاز قياسه عليكم أنه لا يكون سميعاً بصيراً إلا لحم
ودم فإن قلتم يكون عالماً لا لحم ولا دم قيل لكم كذلك يجوز أن يكون نوراً لاجسداً ولاضوءاً ساطعاً لا على ما تعقلون مما وقع عليه أثر الصفة والزيادة والنقصان وليس لكم إلا التعطيل والنفي لله سبحانه قال أبو بكر بن فورك وإنما استوفيت ذكر هذا الفصل من كتابه رحمه الله تعالى بألفاظه لتحقُّق هذا الوصف في الله تعالى تمسُّكاً بمحكم الكتاب وأنه لايرى أن يعدل عن الكتاب ما وجد السبيل إلى التمسك به لرأي وهوى لا يُوجِبه أصلٌ صحيح وقد كشف عن ذلك بغاية البيان وإزالة اللبس فيه وأن السمع هو الحجة في تسمية الله عز وجل ولايجب أن يحمل على المجاز لأجل أن ذلك يقتضي أن يكون على جميع معاني ما هو مخلوق لأنه يوجب أن يحمل سائر ما ورد به السمع من أسمائه سبحانه وتعالى على المجاز لأن جميع معاني ما هو في الخلق لايصح إطلاقه فيه تعالى قلت فهذا الكلام الذي ذكره عن ابن كلاب يقتضي إبطال التأويل له بالهادي ونحوه وأن ذلك هو تأويل مَن تأوَّله من المعتزلة ويقتضي أن المحذور فيما يُؤَوِّلُ عليه من جنس
المحذور الذي يفر منه فلا حاجة إلى التأويل ولافائدة فيه وإن كان قد جرى في تحقيق ذلك على أصله في نظائره كما قد بينا أصله وأصل الأشعري والقلانسي وغيرهم في غير هذا الموضع وأنهما مع مخالفتهما للمعتزلة لم يوافقا السلف والأئمة بل لهم طريقة سلكوها وبينوا من تناقض المعتزلة ما يظهر به فساد قولهم وكذلك قال أبو الحسن الأشعري فيما حكاه عن أصحابه كالقاضي أبي بكر بن العربي وغيره فإنه
قال وقد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال الأول معناه هادٍ قاله ابن عباس والثاني معناه منور قاله ابن مسعود وروي أنه في مصحفه مُنوِّر السموات والأرض والثالث أنه مزين وهو يرجع إلى معنى منور قاله أُبيّ بن كعب الرابع أنه ظاهر الخامس أنه ذو النور السادس أنه نور لا كالأنوار قاله الشيخ أبو الحسن الأشعري قال وقالت المعتزلة لايقال له نور إلا بالإضافة قال والصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار لأنه حقيقة والعدول عن الحقيقة إلى أنه هادٍ أو منور وما أشبه ذلك هو مجاز من غير دليل لايصح ولأن الأثر الصحيح يعضده ويصح أن يكون على هذا صفة ذات ويصح أن يكون صفة فعل على معنى أنه ظاهر إذ روح النور البيان والظهور
قلت كونه ظاهراً ليس بصفة فعل وقال الإقليشي وتسمية الله سبحانه وتعالى بهذا صحيح في الشرع والنظر أما الشرع فقوله سبحانه وتعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور 35] فإن احتج محتج وقال أراد منير السموات والأرض أو هادي أهل السموات والأرض وأبى من تسمية الله نوراً احتججنا عليه بالحديث الذي خرَّجه مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أنَّى أراه وحديث ابن عباس المخرج في مصنف الترمذي إذ قال رأى محمد ربه قيل له أليس يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ قال ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره فهذان الحديثان يصرحان بتسمية الله تعالى نوراً قال وأما النظر فإن النور يطلق على ما يظهر في ذاته فقط وغلى ما يظهر في ذاته ويُظهر غيره كجمرة النار فإنها
تسمى نوراً لظهورها وكالشمس فإنها تسمى نوراً لأنها تظهر في ذاتها ويظهر بضوئها غيرُها وهذا القول وهو نفي كونه نوراً في الحقيقة حكاه الشعري في كتاب المقالات عن الجبائي فقال وكان الجبائي يزعم أن الباري نور السموات ومعنى ذلك أنه هادي أهل السموات والأرض وأنهم به يهتدون كما يهتدون بالنور والضياء وأنه لايجوز أن نسميه نوراً على الحقيقة إذا لم يكن من جنس الأنوار لأنا لو سميناه بذلك وليس هو من جنسها لكانت التسمية له بذلك تلقيباً إذا كان لايستحق معنى الاسم من جهة المعقول واللغة ولو جاز أن يسمى بأنه جسم محدث
وبأنه إنسان وإن لم يكن مستحقًّا لهذه الأسماء ولا لمعانيها من جهة اللغة فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يسمى على جهة التلقيب قال وكان الحسين النجار يزعم أنه نور السموات والأرض بمعنى أنه هادي أهل السموات والأرض قلت القول بأنه نور حقيقةَ هو قول أئمة الأشعرية المتقدمين قلت وأما كلام المؤسس فإنه اتبع فيه أبا المعالي الجويني فإنه غَيّر مذهب الأشعري في كثير من القواعد ومال إلى قول المعتزلة فإنه كان كثير المطالعة لكتب أبي هاشم بن الجبائي وكان قليل المعرفة بمعاني الكتاب والسنة وكلام
السلف والأئمة مع براعته وذكائه في فنه قال في الإرشاد له ذكره الأنصاري شارحه ومما يسأل عنه قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس هادي أهل السموات والأرض قال ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القول بأن نور السموات هو الله والله تعالى يقول لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ قال والمقصود من إطلاق هذا اللفظ ضرب الأمثال فهي كذلك على الإجمال وقد نطق بذلك
سياق الآية وكذلك قوله وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ [النور 35] ولما كان النور يُستضاء به ويهتدى سُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان منه بسبب فسمت المطر سماء لنزوله من السماء فكذلك يحتمل أن يكون سبحانه أطلق هذا الاسم على نفسه وسماه به لأن النور من خلقه وكأنه قال منه نور السموات والأرض وهو مُنِّورهما قال وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أي بنور من ربها وقال وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى 52] وفي التفسير وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا أي بآثارِ عدلِ ربها يعني بحيث ينتصف للمظلومين وقال تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام 1] وقال وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)[النور 40] وقال صلى الله عليه وسلم حين سئل عن شرح الصدور نور يقذف في القلب فثبت أن النور
مجعول مخلوق والجعل المضاف إلى الله عز وجل لا يكون إلا بمعنى الخلق ونصوص القرآن شاهدة لما ذكرناه النور هو الهادي لايعلم العباد إلا ما علمهم ولايدركون إلا ما يسر لهم إدراكه فالحواسُ والعقل فطرته وعطيته وقال الخطابي ولايجوز أن يُتوهَّم أن الله نور من الأنوار فإن النور تُضادُّه الظلمة وتعاقبه فتزيله وتعالى الله أن يكون له ضد أو ندّ
قلت ذكرنا كلام هؤلاء النفاة مع كلام المثبتة فإن أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لايكتبون إلا ما لهم والمرجع بعد ذلك إلى الحجة فإن هذه الأقوال المذكورة عن النفاة يظهر فسادها لمن تدبر ذلك بلا كلفة وأما ما ذكروه عن الصحابة فسنتكلم عليه إن شاء الله قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وأتباعه الجهمية قال وادَّعى المعارض أيضاً أن قوماً زعموا أن الله عيناً يريدون جارحاً كجارح العين من الإنسان وأرادوا التركيب واحتجوا بقوله وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)[طه 39] وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود 37] وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور 48] قال المعارض والمعقول بين أن هذا يريد عين القوم يعني رئيسهم وكبيرهم ولايريد جارحاً ولكن يريد الذي يجوز في الكلام وقال ابن عباس في قوله فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا يقول في كلاءتنا وحفظنا ألا ترى إلى قول القائل عين الله عليك يقول
أنت في حفظ الله وكلاءته قال فيقال لهذا المعارض أما ما ادعيت أن قومًا يزعمون أن لله عيناً فإنا نقوله لأن الله قاله ورسوله وأما جارح كجارح العين من الإنسان على التركيب فهذا كذب ادعيته علينا عمداً لما أنك تعلم أحداً لايقوله غير أنك لا تألو ما شنَّعت ليكون أنجع لضلالك في قلوب الجهال والكذب لايصلح منه جَدّ ولاهزل فمن أي الناس سمعت أنه جارح مركب فأشر إليه فإن قائله كافر فَلِمَ تكرِّر قولك جسم مركب وأعضاء وجوارح لأجزاء كأنك تهول بهذا التشنيع علينا أن نكف عن وصف الله بما وصف نفسه في كتابه وما وصفه به الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن وإن لم نصف الله بجسم كأجسام المخلوقين ولا بعضو ولا بجارحة لكنا نصفه بما يغيظك من
هذه الصفات التي أنت ودعاتك لها منكرون فنقول إنه الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ذو الوجه الكريم والسمع السميع والبصر البصير نور السموات والأرض كما وصفه الرسول في دعائه حين يقول اللهم أنت نور السموات والأرض وكما قال أيضاً نور أنى أراه وكما قال ابن مسعود نور السموات والأرض من نور وجهه والنور لا يخلو من أن يكون له إضاءة واستنارة ومرأى ومنظر وأنه يُدرك يومئذ بحاسة النظر إذا كشف عنه الحجاب كما يُدرك الشمس والقمر في الدنيا وإنما احتجب الله عن أعين الناس في الدنيا رحمة لهم لأنه لو تجلَّى في الدنيا لهذه الأعين المخلوقة الفانية لصارت دكًّا وما احتملت النظر إلى الله تعالى لأنها أبصار خلقت للفناء لاتحتمل نور البقاء فإذا كان يوم القيامة ركبت الأبصار للبقاء فاحتملت النظر إلى نور البقاء
وأما تفسيرك عن ابن عباس في قوله فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا أنه قال بحفظنا وكلاءتنا فإن صحّ قولك عن ابن عباس فمعناه الذي ادعينا لا ما ادعيت أنت نقول بحفظنا وكلاءتنا بأعيننا فإنه لايجوز في كلام العرب أن يوصف أحد بكلاءةٍ إلا وذلك الكالئ من ذوي الأعين فإن جهلت فسمِّ شيئاً من غير ذوي الأعين يوصف بالكلاءة وإنما أصل الكلاءة من جهة النظر وقد يكون الرجل كالئاً من غير نظر ولكنه لايخلو أن يكون من ذوي الأعين وكذلك معنى قولك عين الله عليك فافهم وقد فسرنا بعض هذا الكلام في صدر كتابنا غير أنك أعدته لحاجة فيك اغتياظاً على من يؤمن برؤية الله تعالى يوم القيامة وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة لمَّا بين ما سمى الله بعض خلقه من أسمائه مع انتفاء التمثيل قال وربنا جل وعلا النور وقد سمى الله تعالى بعض خلقه نوراً
فقال مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ وقال نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور 35] وقال نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)[التحريم 8] وقال تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [الحديد 12] قال أبو بكر وقد كنت أخبرت منذ دهر طويل أن بعض من كان يدَّعي العلم ممن كان لايفهم هذا الباب يزعم أنه جائز أن يُقرأ اللهُ نُورُ السموات والأرض وكان يقرأ اللهُ نَوَّرَ السموات والأرض فبعثت إليه بعض أصحابي وقلت له قل له ما الذي تنكر أن يكون لله عز وجل اسم يسمي الله بذلك الاسم بعض خلقه فقد وجدنا الله تعالى قد سمى بعض خلقه بأسامٍ هي أسامي وبينت له بعض ما أمليته في هذا الفصل وقلت للرسول قل له قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإسناد الذي لايدفعه عالم بالأخبار ما يثبت أن الله نور السموات والأرض قلت في خبر طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يدعو اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن فرجع الرسول وقال لست أنكر أن يكون الله نوراً كما قد بلغني بعد أنه رجع وقال أبو الحسن الأشعري في إبانته قال الله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فسمى نفسه نوراً والنور عند الأمة لايخلو من أحد معنيين إما أن يكون نوراً يسمع أو نوراً يُرى فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئاً في نفيه رؤيةَ ربِّه وتكذيبه بكتابه عز وجل وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وقال القاضي أبو يعلى فأما قوله في حديث جابر بَيْنَا أهلُ الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق رؤوسهم فإذا الرب سبحانه وتعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام
عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)[يس 58] قال فينظر إليهم وينظرون إليه ولايلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه قال
فلا يمتنع حمله على ظاهره وأنه نور ذاته لأنه إذا جاز أن يُظهر لهم ذاته فيرونها جاز أن يظهر لهم نوره فيرونه لأن النور من صفات ذاته ومنه قوله تعالى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر 69] وذكر في موضع آخر قولين في ذلك ورجح هذا في المذهب فقال في تفسير الأسماء الحسنى وأما وصفه بأنه نور فقيل معناه منوِّر السموات والأرض بالنيرين أو منور قلوب أهل السموات والأرض بالهدى والتوفيق لأنه لايجوز أن يكون جسماً مضيئاً ولا شعاعاً وضياءً كبعض الأجسام فكان معناه ما ذكرنا قال وذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب التفسير عن ابن عباس في قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
[النور 35] يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض وقيل هو نور لا كالأنوار ليس بذي شعاع ولاجسم مضيء على ظاهر القرآن وهو أشبه بكلام أحمد رحمه الله فيما خرجه في الرد على الجهمية لأنه قال قلنا للجهمية الله نور فقالوا هو نور كله فقلنا لهم قال الله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا فقد أخبر جل ثناؤه أن له نوراً وقلنا لهم لمّا زعمتم أن الله في كل مكان وهو نور فلم لا يضيء البيت المظلم من النور الذي هو فيه إذا زعمتم أن الله في كل مكان قال وظاهر هذا الكلام من أحمد أنه أثبت له هذه الصفة قلت كلام أحمد رحمه الله صريح في أن كونه نوراً يوجب أن تضيء به الأمكنة التي لا حجاب بينه وبينها كما دل على ذلك الكتاب والسنة في قوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
وهؤلاء المفسرون للقرآن والأسماء الحسنى قدوتهم في تفسيره أنه هادي هو ما نقلوه عن ابن عباس وهذا إنما هو مأخوذ من تفسير الوالبي علي بن أبي طلحة الذي رواه عبد الله ابن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يقول الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض مثل هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه وكذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم فإذا أتاه العلم ازداد هُدىً على هدى ونوراً على نور فكلهم على هذه الرواية يعتمد فإن هذا تفسير رواه الناس عن عبد الله بن صالح وأبو بكر
عبد العزيز نقل ذلك من تفسير محمد بن جرير إذ كان يعتمد عليه وابن جرير يروي من هذا التفسير بالإسناد وكذلك البيهقي في تفسير الأسماء الحسنى إنما رواه من هذا الطريق وهذا التفسير هو تفسير الوالبي وأما ثبوت ألفاظه عن ابن عباس ففيها نظر لأن الوالبي لم يسمعه من ابن عباس ولم يدركه بل هو منقطع وإنما أخذ عن أصحابه وكما أن السدي أيضاً يذكر تفسيره عن ابن مسعود
هن ابن عباس وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وليست تلك ألفاظهم بعينها بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل المغازي والسير وهو مما يُستشهد به ويعتبر به ويُضم بعضه إلى بعض فيصير حجة وأما ثبوت شيء بمجرد هذا النقل عن ابن عباس فهذا لايكون عند أهل المعرفة بالمنقولات وأحسن حال هذا أن يكون منقولاً عن ابن عباس بالمعنى الذي وصل إلى الوالبي إن كان له أصل عن ابن عباس وغايته أن يكون لفظ ابن عباس وإذا كان لفظه قول ابن عباس فليس مقصود ابن عباس بذلك أن الله هو نفسه ليس بنور وأنه لا نور له فإنه قد ثبت بالروايات الثابتة عن ابن عباس إثبات النور لله تعالى كقوله في حديث عكرمة لما سأله عن قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ
فقال ويحك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء وابن عباس هو الراوي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم أنت رب السموات والأرض ومن فيهن وأنت نور السموات والأرض ومن فيهن وأنت قيّام السموات والأرض ومن فيهن ومعلوم أنه لو لم يكن النور إلا الهادي لكانت الهداية مختصة بالحيوانات فأما الأرض نفسها ف توصف بهدى والحديث صريح بأنه نور السموات والأرض ومن فيهن وأيضاً فوصفه بأنه القيم والرب وفرق بين ذلك وبين النور ولكن عادة السلف من الصحابة والتابعين كل منهم يذكر في
تفسير الآية أو الاسم بعض معانيه التي يصلح للسائل كما ذكروا مثل ذلك في اسمه الصمد واسمه الرحمن وغيرهما من أسمائه لا يريدون بذكر ما يذكرونه نفي ما سواه مما يدل عليه الاسم وكذلك في سائر تفسير القرآن مثل تفسير قوله فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر 32] حيث يذكر كل منهم بعض أنواع هذه الأصناف وهذا كثير في التفسير ومقصوده هنا يذكر نوره الذي في قلوب المؤمنين ولاريب أن هذا متعلق بهدايته للمؤمنين فذكر من معنى الاسم ما يناسب مقصوده وكونه هادياً مثل كونه نوراً فـ ي ما يلزم عليهما كما نبهنا على هذا في غير هذا الموضع وكلام ابن كلاب قد نبَّه فيه على ذلك وأما ما ذكره عن ابن مسعود أنه قال منور وأنها في مصحفه كذلك فهذا لا ينافي كونه نوراً بل هو
توكيد فإن الموجودات النورانية نوعان منها ما هو ينفسه مستنير كالجمرة فهذا لا يقال له نور ومنها ما هو مستنير وهو ينير غيره فهذا هو النور كالشمس والقمر والنار وليس في الموجودات ما ينوِّر غيره وهو في نفسه ليس بنور فقراءة ابن مسعود منوِّر هو تحقيق لمعنى كونه نوراً وهذا مثل كونه مكلماً ومعلماً فإن ذلك فرعُ كونه في نفسه متكلماً عالماً يؤيد ذلك أن ابن مسعود كان يقول إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه وأما ما نُقِلَ عن أبي بن كعب أنه قال مزيِّن فهذا لا أصل له ولم يعز ذلك إلى حيث يقبل وهو بالكذب على أُبيٍّ أشبه فإن تفسير أُبيِّ بن كعب لهذه الآية معروف بالإسناد رواه
العلماء كعبد الله بن المبارك وغيره عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبيِّ بن كعب وقد رواه عامة الأئمة المصنفين في التفسير بالإسناد كما كانت عادة أئمة السلف مثل ابن جريج ومعمر ووكيع وهُشَيم وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد
وإسحاق بن راهوية وخلائق غيرهم وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره ومحمد بن جرير وذكر الإمام أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريق عبد بن حميد ثنا عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية غن أبي بن كعب في قول
الله اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قال فبدأ بنور نفسه فذكره ثم ذكر نور المؤمن فقال مَثَلُ نُورِهِ يقول مثل نور المؤمن قال فكان أبي بن كعب يقرأها كذلك مثل نوره مثل نور المؤمن قال فهم عبدٌ جعل الإيمان والقرآن في صدره قال قلت كَمِشْكَاةٍ قال المشكاةُ صدرهُ فِيهَا مِصْبَاحٌ قال المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره قال الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ قال الزجاجة قلبه قال الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ قال قلبه مما استنار فيه القرآن والإيمان كأنه كوكب دري يقول مضيء يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ قال فالشجرة المباركة الإخلاصُ لله وحده وعبادته لا شريك له لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ قال فمثله كمثل شجرةٍ التفَّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت
لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أُجِير من أن يضله شيء من الفتن وقد ابتلي فثَّبته الله فيها فهو بين أربع خلال إن أُعطي شكر وإن ابتُلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات قال نُورٌ عَلَى نُورٍ فهو يتقلب في خمسة من النور فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة قال ثم ضرب مثل الكافر وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ الآية قال فكذلك الكافر يجيء في يوم القيامة وهو يحسب أن له عند الله خيراً فلا يجده فيدخله الله النار قال وضرب مثلاً آخر للكافر فقال أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ الآية فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة
ومصيره إلى الظلمات إلى النار الوجه السادس أنه لو فرض أن ظاهر هذه الآية أنه نور النيرين ونور النار المشهودة فهو سبحانه وتعالى قد بين في غير موضع أنه خالق ذلك قال تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)[فصلت 37] وقال هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس 5] وقال وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)[إبراهيم 33] وقال يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف 54] وإذا كان في القرآن آية يفسر معناها آية أخرى لم يكن هذا مخلاًّ بكونه هدىً وبياناً وبلاغاً للناس بخلاف ما إذا كان ظاهره ضلال ولم يبين ذلك