المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ما ورد في الأخبار من المماسة والقرب - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - جـ ٦

[ابن تيمية]

الفصل: ‌ ما ورد في الأخبار من المماسة والقرب

ووكيع أن الله يدني عبده يوم القيامة يقول أُدْنُه أُدْنُه حتى يضع كنفه عليه فيقول أتذكر كذا أتذكر كذا ثم قال ابن حامد فصل ومما يجب الإيمان به والتصديق‌

‌ ما ورد في الأخبار من المماسة والقرب

من الحق سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام وقد اعتمد أصحابنا في ذلك على جواب أبي عبد الله في هذا في المقام المحمود فقال أبو بكر بن صدقة ذكر الحديث عند أبي عبد الله فقال فاتني عن ابن فضيل وجعل يتلهف

ص: 214

وقال عبد الله قال أبي ما وقع لي بعلو وجعل كأنه يتلهف إذ لم يقع له بعلو وهو حديث أحمد بن حنبل عن ابن فضيل عن ليث عن

ص: 215

مجاهد عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)[الإسراء 79] قال يقعده معه على العرش فيطلق ذلك كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مقامًا مخصوصًا لمقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويشهد لذلك ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله كتب كتابًا بيده قبل أن يخلق

ص: 216

السموات والأرض وهون معه على العرش إن رحمتي تغلب غضبي وأحمد بن حنبل قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا

ص: 217

أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله يعني الخلق كتب كتابًا هو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي قال ابن حامد وقد ذكر في كتاب السنة أخبارًا عن الصحابة في الدنو فروى عن محمد بن بشر قال حدثنا

ص: 218

عبد الرحمن بن شريك عن أبيه حدثني عبد العزيز بن رفيع وسالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال إذا

ص: 219

نظر داود إلى خطيئته ولى هاربًا فيناديه الله عز وجل يا داود اُدْنُ مني فلا يزال يدنيه حتى يمس بعضه ورواه وكيع عن سفيان عن منصور وعن مجاهد عن عبيد ابن عمير وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى [ص 25] قال ذكر الدنو حتى يمس بعضه قال وقد روي أشد من هذا عن مجاهد فرووا منه

ص: 220

طريق الحديث الأول قال حدثني إبراهيم بن مهاجر وليث بن أبي سليم قالا حدثنا مجاهد قال إذا كان يوم القيامة ذكر داود ذنبه فيقول الله تعالى كن أمامي فيقول ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل كن خلفي فيقول ذنبي ذنبي فيقول الله عز وجل خذ بقدمي وبالإسناد حدثني أبو يحيى القتات وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي عن

ص: 221

أبي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)[ص 25] قال يدنو منه حتى يقول الله عز وجل خذ بقدمي قال ابن حامد وهذا كله يقطع به كما جاءت به الأخبار والمقصود هنا أن هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء وردوا على من نفى مُوجَبه والغرض أن هذا ليس مما اتفقت الأئمة على تأويله

ص: 222

فلا يكون حجة له فإن قيل فقد ذكر الخطابي وغيره أن هذا الحديث مما يتأول بالاتفاق فقال أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الدين القول في مراتب الصفات أن قومًا من المثبتين للصفات أفرطوا في تحقيقها حتى خرجوا إلى ضرب التشبيه والتمثيل كما أفرط قوم في نفيها حتى صاروا إلى نوع من الإبطال والتعطيل وكلا القولين خطأ وخطل وللحق

ص: 223

بينهما نهج واضح لا يخفى صوابه على من وفقه الله فأما النفاة من الجهمية فإنهم قصدوا إلى كل شيء يفهم ويدري أو يتوهم من أسماء الله وصفاته فسموه تشبيهًا بغير حجة وأما المشبهة فإنهم حملوا كل شيء من هذا على حقيقة اسمه بظاهر معناه من غير تأويل له أو يخرج على وجه يصح على معاني أصول العلم وتعسفوا أيضًا في جهات مأخذها حتى جعلوا شيئاً كثيرًا مما تلقفوه من أفواه الناس وحفظوه من ألسن القصاص وسمعوه رواية عن قراءة الكتب مثل كعب

ص: 224

ووهب وأمثالهما مثل نوف البكالي وعن بعض أهل التفسير كمقاتل بن سليمان وكأشياء تروى عن مجاهد ومن نحا نحوه من المقتحمين في هذا الباب أصلاً يعتقدونه دينًا ويتخذونه مذهبًا وهذا مما يجب التثبت فيه

ص: 225

والتوقف عنه فإن هذا الشأن أعظم من أن يدخله شيء من التساهل أو يكون فيه للظن مدخل أو للتأويل موضع أو للعقل والقياس متعلق إنما طريق العلم به السماع أو التوقيف من قبل الكتاب المنزل أو قول الرسول المرسل بالخبر الصحيح الذي يقطع العذر به وقد أخبر الله أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقطع الشبه بينه وبين الأشياء كلها وأبطل القياس فيها وقال سبحانه وتعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة 255] وقال وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء 36] وقال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)[البقرة 169] فأما ما ثبت من الصفات بكتاب الله وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي ينقطع العذر به فإن القول به واجب لأن الله سبحانه وتعالى شهد لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله الصدق ونزهه عن الكذب فقال وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)[النجم 3-4] وقال جل وعلا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا

ص: 226

يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)[الجن 26-27] قال والكلام فيها ينقسم إلى ثلاثة أقسام قسم منها يحقق ولا يتأول كالعلم والقدرة ونحوهما وقسم يتأول ولا يجري على ظاهره وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى من تقرب إلي شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وما أشبهه لا أعلم أحدًا من العلماء أجراه على ظاهره أو اقتضى منه أو احتج بمعناه بل كل منهم تأوله على القبول من الله تعالى لعبده وحسن الإقبال عليه والرضا بفعله ومضاعفة الجزاء له على صنيعه وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما خلق الله الرحم تعلقت بحقو الرحمن فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال سبحانه وعزتي لأقطعنّ من قطعك ولأصلن من وصلك

ص: 227

ولا أعلم أحدًا من العلماء حمل الحقو على ظاهر مقتضى الاسم له في موضع اللغة وإنما معناه اللياذ والاعتصام به تمثيلاً له بفعل من اعتصم بحبل ذي عزة واستجار بذي ملكة وقدرة كما روي الكبرياء رداء الله قال وليس هذا الضرب في الحقيقة من أقسام الصفات ولكن ألفاظه متشاكلة لها في موضع الاسم فوجب تخريجه ليقع بع الفصل بين ما له حقيقة منها وبين ما لا حقيقة له من جملتها ومن هذا الباب قوله تعالى أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] لا أعلم أحدًا من علماء المسلمين إلا تأول الجنب في هذه الآية ولم أسمع أحدًا منهم أجراه على ظاهره أو اقتضى منه معنى الجنب الذي هو الذات وإنما تأولوه على القرب والتمكين وقال الفراء معنى الجنب معظم الشيء كما يقول الرجل

ص: 228

لصاحبه هذا قليل في جنب ما أوجبه لك والقسم الثالث من الصفات يحمل على ظاهره ويجري بلفظه الذي جاء به من غير أن يقتضي له معرفة كيفية أو يشبه بمشبهات الجنس ومن غير أن يتأول فيعدل به عن الظاهر إلى ما يحتمله التأويل من وجه المجاز والاتساع وذلك كاليد والسمع والبصر والوجه ونحو ذلك فإنها ليست بجوارح ولا أعضاء ولا أجزاء ولكنها صفات الله عز وجل لا كيفية لها ولا تُتَأوَّل فيقال معنى اليد النعمة والقوة ومعنى السمع والبصر والعلم ومعنى الوجه الذات على ما ذهب إليه نفاة الصفات فإن قيل ما منعكم أن تجعلوا سبيل هذا الضرب من الصفات سبيل الضرب الأول في حملها على حقيقة مقتضى

ص: 229

الاسم أو سبيل الضرب الثاني في حملها على سعة المجاز والتأويل وما الذي أوجب التفريق بينه وبينها وتعليق القول فيها على الوجه الذي ذكرتموه قيل منعهم من إجرائها على حقيقة مقتضى أسبابها في العرف أن ذلك يفضي بنا إلى التشبيه والتمثيل وهو منفي عن الله وأما حملها على الوجه الآخر فإن الكتاب قد منع منه لأنك إذا تأملت لفظه في الكتاب وجدته ممتنعًا على تأويل القوم غير مطاوع له ألا تراه يقول مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] بتشديد الياء في الإضافة وذلك تحقيق التثنية والعرب إنما تستعمل ذلك في موضع لا يجوز أن يكون وراءه ثالث كما يقول الرجل رد علي درْهَمي إذا لم يكن عندي غيرهما وكما قال سبحانه مخبرًا عن شعيب أنه قال لموسى عليه السلام أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ [القصص 27] إذ لم يكن له غيرهما وإذا تحققت التثنية لم

ص: 230

يجز صرفها إلى النعمة ولا إلى القوة لأنه ليس تخصيص التثنية في نعم الله تعالى ولا في قوته معنى يصح لأن نعمه أكثر من أن تعد أو تحصى قال الله تعالى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم 34] فدل ذلك على تحقق خلق الله آدم عليه السلام بيديه اللتين هما صفتان له من صفات ذاته كما قال في تكذيب اليهود عند قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة 64] مستقصاً ذكر اللفظ الموضوع للتثنية فدل ذلك على تحقيق ما قلناه وأيضًا فإن معنى اليد لو كان النعمة والقوة لوجد إبليس متعلقًا من هذه الجهة لما امتنع من السجود لآدم عليه السلام فيقول وما في خلقك إياه بنعمتيك أو قوتيك مما يوجب علي أن أسجد له لقد خلقتني بنعمتيك وقوتيك وأنا مساوٍ له في خلقك إيانا جميعًا بيديك اللتين هما النعمة والقوة لأنه لا يخفى على أحد من ذوي العقول أن الله سبحانه خلق

ص: 231

الأشياء بقوته وقدرته فلما لم يتعلق إبليس بهذه الحجة وأعرض عنها إلى قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)[ص 76] كان فيه أوضح دليل على أنه علم تخصيص الله لآدم عليه السلام في خلقه إياه بمعنى لم يشاركه إبليس ولا غيره من الملائكة فيه وليس لذلك التخصيص وجه غير ما بينه الله عز وجل في قوله تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص 75] على ما نطق به التنزيل وشهد بصحته التأويل والله أعلم وأيضًا فإن نعم الله تعالى مخلوقة كآدم لا فرق بينهما في سمة الخلق فكيف يخبر عن خلق مخلوق بمخلوق وأي فائدة في ذلك إذا كان هكذا وأيضًا فإن الله عز وجل لا يوصف بالقوة عند نفاة الصفات فكيف يثبتون له في تأويل هذه الآية ومن مذهبهم أن القوة عن الله منتفية وقد زعم بعضهم أن معنى النعمتين هنا الماء والطين لأنه خلق آدم عليه السلام منهما وهذا تأويل ساقط لا معنى له ولو أراد ذلك لقال لما خلقت من

ص: 232

يدي ولم يقل بيدي كما يقول القائل صنعت هذا الكوز من الفضة أو النحاس وطبعت هذا السيف من الحديد ونسجت هذا الثوب من الكتان ولا يقول في شيء من هذا بالباء لأن الباء حرف للإلصاق وحرف لتعدية الفعل قال وكذلك القول في الوجه والبصر وسائر الصفات التي تذكر في الباب وذلك أنه تعالى لما قال وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)[الرحمن 27] فأضاف الوجه على الذات وفي حكم اللغة أن المضاف غير المضاف إليه وأن إعراب النعوت تابع لإعراب المنعوت فلو كان الوجه

ص: 233

ههنا صلة ولم يكن صفة للذات لقال ذي الجلال والإكرام فيكون نعتًا للذات فلما رَفَع فقال ذو الجلال والإكرام علم أنه نعت للوجه وصفة للذات ولو كان معنى البصر العلم كما تأوله هؤلاء القوم لذهب فائدة قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] لأنه قد نفى عن خلقه شيئًا أثبته لنفسه دونهم وقد احتج القوم بهذه الآية في أن الله تعالى لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة فلو كان معناه يعلم بالأبصار لم يكن بينه وبين خلقه في ذلك فرق لأنهم يعرفون الله ويعلمونه فما الذي أثبته لنفسه ونفاه عن خلقه إذاً إذا كانت الأبصار لا تراه ولا يراها نظرًا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات اليد والوجه والسمع والبصر مع ما جاء في الكتاب من ذكرها أحاديث كثيرة بأسانيد صحيحة والكتاب يطول باقتصاصها وهي مشهورة عند أهل العلم والعناية بهذا الشأن قال والأصل أن الخطاب في الكتاب والسنة وبيان الشريعة محمول على ما تعقله العرب وتستعمله في كلامها

ص: 234

فإن الله تعالى لم يخاطبنا بما لا نعقله ولا نفهمه إلا أنا لا ننكر التأويل في بعض ما تدعو إليه الحاجة من الكلام والعدول عن ظاهر اللفظ وموضوعه لقيام دليل يوجبه أو ضرورة تلجئ إليه فأما أن يكون الظاهر المفهوم وهو الحجة والبيان بلا حجة ولا بيان فلا يجوز ذلك وكفانا أن ننفي الكيفية عن صفات الله تعالى فأما أن نبطل الصفات مع ورود التوقيف بها فلا يجوز ذلك في حق دين ولا دلالة علم وهذا الباب من نوع العلم الذي يلزمنا الإيمان بظاهره لوقوع الحجة به وقيام الدليل عليه من جهة التوقيف ولا يجوز لنا البحث عن باطنه والكشف عن علته كما لا يجوز لنا ذلك في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى بل يصح الإيمان والعلم به وبأنِيَّنِه من غير علم بالمائية التي

ص: 235

هي سؤال عن التجنيس إذ لا جنس له سبحانه ولا بالكيفية التي هي سؤال عن الهيئة والصورة فإنه سبحانه واحد ليس بذي هيئة ولا صورة ولا بالكمية التي هي سؤال عن العدد فإنه سبحانه واحد ليس بذي عدد ولا كثرة ولا بالكمية التي هي سؤال عن برهان الشيء وعلته وتعالى الله عز وجل فإن الماهية والكيفية والكمية عن الله منفية ولهذا كان إعراض موسى عليه السلام في الجواب لما سأله فرعون حين قال له وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قال موسى عليه السلام رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) وذلك أنه لما أحال في سؤاله فسأله عن جنس ما لا جنس له ولا تحديد استجهله موسى عليه السلام فأضرب عن سؤاله فلم يجب عنه ثم أخبره عن قدرته وعظم ملكه وسلطانه بما يرد به من جهله فيما سأل عنه وانتظر الجواب فيه

ص: 236

كما يقول الرجل العاقل للجاهل إذا سأل عن الباطل والمحال ليس لك عندي جواب إلا أن الذي أعرف وأجيب به كذا وقد أمرنا بالإيمان بملائكة الله تعالى وهم مخلوقون لله تحيط بهم الحدود وتصفهم الكيفية ثم إنا لا نعلم خواصهم ولا نقف على حقائق صفاتهم ولم يكن ذلك قادحًا في صحة العلم بكونهم والإيمان بهم وقد حجب عنا علم الروح ومعرفة كيفية العقل مع علمنا بأنه آلة التمييز وبه تدرك المعارف وهذه كلها مخلوقات لله عز وجل فما ظنك بصفات رب العزة سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)[الشورى 11] فإن قيل أما هذه الأمور فإنما جاز أن يطوى عنا علمها لأنك لم تجد عليها دلالة من حس ولا في كيفيتها بيانًا من نص ولا رأيتَ لها مثالاً من نظير وشكل واليد والسمع والبصر والوجه معلومة بأسمائها ونظائرها موجودة بخواص صفاتها قيل هذا ظلم في المعارضة وجور في حق المطالبة وذلك أن اليد والسمع والبصر إنما كانت جوارح لذات هو جسم عريض عميق فلما كان الذات الذي به قيام هذه الصفات معلوم الكيفية كانت صفاته كذلك فأما إذا كانت هذه

ص: 237

الأسماء صفة للذات المتحاشي عن هذه النعوت المنزهة عما جرى الأمر عن النزاهة والبعد عن التحديد والتكييف حصل العلم بظاهرها من طريق التوقيف حسب ولا حول ولا قوة إلا بالله قيل هذا الذي ذكره الخطابي ذكره بمبلغ علمه حيث لم يبلغه في حديث الرحم عن أحد من العلماء أنه جعله من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت والخطابي له مرتبة في العلم معروفة ومرتبة أئمة الدين المتبوعين فوق طبقة الخطابي ونحوه وهذه الطريقة التي سلكها في تقسيم الأحاديث إلى الأقسام الثلاثة وما ذكر في الصفات الخبرية هي تشبه طريقة أبي

ص: 238

محمد بن كُلَاّب وهي طريقة طوائف كثيرة ممن يقول بالكلام والحديث وغير ذلك وهي طريقة الشعري نَفسِه والبيهقي في آخر أمره وطريقة ابن عقيل في آخر

ص: 239

أمره وجمهور أئمة الحديث وأئمة الفقهاء وأئمة الصوفية طريقهم أكمل من ذلك وأتبع للسنة كما قد بين في مواضع وأما ما ذكره الخطابي من الحاجة إلى تأويل بعض النصوص وكذلك يقول القاضي أبو يعلى وأمثاله فهؤلاء وإن قالوا بذلك فالقاضي قد بين أن التأويل يكون لدلالة نص آخر على خلاف ظاهر النص المؤول والخطابي قد ذكر أن التأويل يكون لدلالة أو ضرورة ومعنى الضرورة أن العلم بالضرورة نفي الظاهر وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن العموم ونحوه من الظواهر إذا علم بالحس أو الضرورة أنه انتفاءُ ظاهرها ففي تسمية ذلك تخصيصًا وصرفًا ونزاع بين الناس لأن ذلك يجري مجرى القرائن المتصلة وهؤلاء المثبتون للصفات التي يسمونها الصفات الخبرية

ص: 240

كاليد والوجه بينهم نزاع في أصلين أحدهما فيما ثبت من ذلك هل هو ما جاء به القرآن أو ما يوافقه من الأخبار أو ما جاء به القرآن والأخبار المتواترة أو ما جاءت به الأخبار الصحيحة أيضًا أو ما جاءت به الأخبار الحسان أو ما جاءت به الآثار ويعنون بإثباتها أنه ليس القول بها ممتنعًا على نزاع لهم في ذلك والأصل الثاني هل إثبات معاني هذه النصوص على الوجه الذي ذكره الخطابي وهو الذي يقوله ابن كلاب والأشعري وكثير من طوائف أتباع الأئمة ويقوله القاضي أبو يعلى وغيره في كثير من الأحاديث أو أكثرها أو على وجوه أخرى لهم في ذلك أيضًا نزاع وليس هذا موضع تفصيل مقالاتهم ولكن نبهنا على أصله

ص: 241

فصل قال الرازي السادس قال صلى الله عليه وسلم إن المسجد لينزوي من النخامة كما ينزوي الجلد من النار

ص: 242

ولابد من التأويل

ص: 243

فصل قال الرازي السابع قال صلى الله عليه وسلم قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وهذا لابد فيه من التأويل لأنَّا نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا إصبعان بينهما قلوبنا قلت هذا الحديث في الصحيح والكلام عليه من وجوه أحدها أنه ليس ظاهر هذا الحديث أن أصابع الرب في صدور العباد إنما أخبر أن قلوبهم بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء لم يقل إن الأصابع في صدورهم ولا قال إن قلوبهم معلقة بالأصبع أو متصلة بها بل قال إنها بين أصبعين وكون أن الشيء بين شيئين ليس ظاهره أنه مماس لهما كما في قوله عن الجنة والنار وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ [الأعراف 46] وكما في قوله تعالى يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف 38]

ص: 244

الوجه الثاني أنه لو فرض أنه أخبر عن شيء من الغيب بأنه في قلوب العباد لم يكن ما ذكر من الضرورة مانعة من ذلك لأن الضرورة تمنع أن تكون الأشياء التي نشاهدها في قلوبنا ونحن لا نشاهد كذلك أما إذا أخبرنا بأن الملائكة تنزل على قلوبنا أو الشياطين تنزل أو أن على أفواهنا ملائكة تكتب كلامًا ونحو ذلك من الأمور الغائبة التي ليست من جنس المشاهدات لنا فإذا أخبرنا بوجودها لم نعلم بالضرورة انتفاء ذلك فقول القائل نعلم بالضرورة أنه ليس في صدورنا أصبعان بينهما قلوبنا يقال له المعلوم بالضرورة أن الأصابع التي شهدناها مثل أصابع الآدميين ليست في صدورنا أما لو أخْبِرنا أن أصابع الملائكة أو الجن في صدورنا لم نعلم انتفاء ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مولود إلاّ يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه

ص: 245

إلا مريم وابنها ثم قرأ أبو هريرة وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)[آل عمران 36] وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء فإن الشيطان يبيت على خياشيمه وفي الصحيحين أيضًا عنه أنه قال إن الشيطان يعقد على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد يضرب

ص: 246

مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد مع أنا لا نشهد هذا المس لجسم المولود ولا هذا المبيت على الخياشيم ولا العقد ولا نحو ذلك وظهر أن هذا الحديث لو كان ما ادعاه لم يكن ذلك معلوم الانتفاء بما ادعاه من الضرورة الوجه الثالث إنَّ سنبين فساد ما ذكروه من التأويل في

ص: 247

ذلك وإبطال السلف له

ص: 248

فصل قال الرازي الثامن قال صلى الله عليه وسلم حكايةً عن الله أنا عند المنكسرة قلوبهم وليست هذه العندية إلا بالرحمة وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى في صفة الأولياء فإذا أحببتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ومن المعلوم بالضرورة أن القوة الباصرة التي بها يرى الأشياء ليست هي الله تعالى

ص: 249

والكلام على هذا من وجوه أما قوله أنا عند المنكسرة قلوبهم فهذا قد روي في كتاب الزهد للإمام أحمد عن عمران القصير أن موسى عليه السلام قال يا رب أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقترب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى عبدي مرضت فلم تعدني فيقول رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي

ص: 250

فلانًا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ففي هذا الحديث ثبت هذا القول وهو قوله فلو عدته لوجدتني عنده لكن لفظ المنقول أن الله يوجد عند بعض المرضى وعند المنكسرة قلوبهم لم يقل أنا عند المنكسرة قلوبهم بل قال لوجدتني هناك وأين أجدك قال هناك والكلام عليه من وجوه أحدها أنه ليس هذا ظاهر هذا الحديث أن الله نزل من فوق العرش وانتقل إلى عند هؤلاء ولا ظاهره أن جميع الوجود خال عن الله إلا هذا الظرف الخاص ولا يفهم من إطلاق هذا الحديث هذا المعنى بل هذا المعنى المعلوم فساده بالضرورة والحس يَعْلَمُ أنه ليس ظاهر الحديث كل من يعلم هذا فلو كان ظاهر اللفظ في اللغة لو تجرد هذا لدل على ذلك المعنى الفاسد لكان مع اقترانه بهذا العلم الظاهر الحسي الضروري تسمية ذلك المعنى الفاسد هو ظاهر اللفظ نزاعًا وكذلك في تسمية مثل ذلك لفظًا ومن منع ذلك قال هذه

ص: 251

القرينة الظاهرة للمخاطبين المعلومة بالبديهة والحس العام هي من القرائن المتصلة بالخطاب وهي أبلغ من القرائن اللفظية المتصلة فإذا كانت القرائن اللفظية المتصلة تمنع أن يكون ظاهر الخطاب هم معناه لو عدمت الصلات اللفظية فهذا كذلك وأولى ومن المعلوم أن الخطاب الذي اتصل به استثناء أو شرط أو صفة ليس ظاهره ما يدل عليه بدون ذلك الاستثناء والشرط والصفة فكذلك هذه القرينة فإن دلالة الخطاب لابد فيها من علم المخاطَب بالمخاطِب وحاله وباللغة التي يخاطبه بها وإذا كان كذلك كان هذا العلم هو

ص: 252

الدال على مدلول الخطاب فظاهر الخطاب ما يظهر بهذا العلم الوجه الثاني أن الألفاظ التي يسميها النحاة ظروفًا يتنوع تعلقها بمعاني الأسماء والأفعال التي يسميها النحاة مظروفة بحسب حقائق تلك المظروفات وهذا الموضع من لم يهتد لهذا التنوع فيه وإلَاّ ضل كما ضل كثير من الناس حتى وجدوا ما يسميه أهل اللغة ظروفًا وأوعية من شأنه ألا يكون هو المظروف الموعى فيه كالمائعات في الآنية وكالجامدات فيما يحيط بها من الملابس والمساكن وغير ذلك ورأوا النحاةَ يسمون ألفاظًا ظروفًا فاعتقدوا أن معنى هذه في اللغة أن تكون محيطة بالمظروف حاوية له كما يحيط ظرف اللبن والخمر والماء بذلك ويقول أحدهم في للظرفية فالظرف يكون حاويًا للمظروف وهذا غلط فإن العرب لم يقولوا في للظرفية حتى يجعل معنى أحد اللفظين في كلامهم هو معنى الآخر لأن الأصل عدم الاشتراك بل نطقوا بهذه

ص: 253

الأدوات في مواضعها مستوفين لتعلقها بما تعلقت به بحسب تلك الحقائق وإن كان يكون بين تلك المعاني قدر مشترك لكن ذلك القدر المشترك مطلق لا وجود له في الخارج بل الذهن يجرده إذ هم لم يتكلموا بهذه الأدوات مطلقة قط ثم إن النحاة رأوا ذلك المعنى المشترك فيه نوع مشابهة لما تسميه العرب من الأجسام ظرفًا فسموه ظرفًا حقيقة عرفية خاصة اصطلاحية ليست هي اللغة التي تكلم بها العرب وجاء بها القرآن والحديث وهكذا سائر اصطلاحهم مثل الفاعل والمفعول والحال والصفة والتمييز والمعرب والمبني والمبتدأ والخبر ونحو ذلك فإن العرب لا تفرق بين الجملة الإسمية والفعلية في تسمية كل منهما خبرًا صادقًا أو كاذبًا ولا يسمى المفرد الذي لا يستقل بالإفادة خبرًا فتسمية المفرد الذي هو أحد ركني الجملة خبرًا وتخصيص ذلك بالجملة الإسمية دون الفعلية بل تخصيص ذلك بالجزء الثاني منها دون الأول هذا لفظ النحاة واصطلاحهم وإن كان بينه

ص: 254

وبين اللغة الأصلية نوع تعلق يجعله بالنسبة إليه مجازاً كما سمع بعض الأعراب قومًا من النحاة يتحدثون باصطلاحهم فقال قوم يتكلمون في كلامنا بغير كلامنا ليصلحوا به كلامنا وكذلك اسم الفاعل هو الاسم الذي اسند إليه الفعل ونحوه متقدمًا عليه مثل قام زيد وأقام زيد ونحو ذلك ولا يسمون الاسم الظاهر في قولك زيد قائم فاعلاً بل مبتدأ ومن المعلوم أن لفظ الفاعل ليس لمسماه في اللغة لفظ ولا يختص إذا جعل اسمًا لاسم الفاعل عن قديم أو آخر بل هذا اصطلاح احتاجوا إليه لبيان قوانين اللغة العربية في نحوها وتصريفها وهو من أنفع الأشياء في معرفة الأدلة السمعية واللغة العربية لكن ينبغي أن يعرف اصطلاح اللغات ليحمل كلام كل متكلم على لغته وعادته ومثال ذلك في الأدوات التي يسميها النحاة ظروفًا أنهم يقولون رأيت فلانًا في داره ويقولون رأيت فلانًا في المرآة أو الماء ويقولون رأيت فلانًا في المنام فلفظ في التي يسميها النحاة ظرف مكان موجود في المواضع الثلاثة مع العلم بأنه ليس المعنى الظاهر ولا حقيقة اللفظ في قولهم في البيت مثل قولهم في المرآة

ص: 255

ولا مثل قولهم في المنام وكل من الألفاظ الثلاثة حقيقة في معناه وقوله رأيته في المرآة حقيقة ومعنى ظاهر لا مجاز ولا خلاف الظاهر وكذلك قوله رأيته في المنام معناه ظاهر وهو أيضًا حقيقة هذا اللفظ مع العلم بأن ظاهر اللفظ الأول أن ذاته قد كانت في داره وليس ظاهر اللفظين الآخرين أن ذاته كانت في المرآة ولا في نفس الرائي ومع العلم بأن كونه مرئيًّا في المرآة ووجوده في المرآة ليس مساويًا لكونه مرئيًّا في المنام ولا لوجوده في نفس الرائي وذلك لاختلاف حقائق المَحَال وتعلق الحال بها التي هي معاني اللفظ لظرف فليس الدار كالمرآة ولا المرآة كنفس الرائي ولا وجود زيد في الدار كوجوده في المرآة أو في نفس الرائي إذا عرف هذا فلفظ عند هي من الألفاظ التي يسميها النحاة ظرف مكان فتتنوع دلالتها بتنوع معنى الاسم أو الفعل الذي يسمونه مظروفًا ويتنوع أيضًا بتنوع ما يضاف

ص: 256

إليه من الظرف وهي في نفسها اسم ليست حرفًا بخلاف في فإنها حرف وإذا كان كذلك فهم يقولون ويستعملون ذلك في بعض الأعيان القائمة بنفسها كقولهم فلان أو المال عند فلان كما في مثل قوله تعالى وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)[الصافات 48] وقوله أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)[الطور 37] ومن هذا قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)[القمر 54-55] وقوله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)[الأعراف 206] وقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)[الأنبياء 19] وقوله فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)[فصلت 38] وقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف 42] أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ [النجم 35] ويستعملون ذلك أيضًا فيما يقوم بغيره من الصفات والأفعال كقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف 42] وقوله أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)[النجم 35] وقوله أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)[الطور 41] ومعلوم أن الذي عنده هو قائم بنفسه وكذلك الذكر

ص: 257

الذي عند الملك قائم بالذاكر وهذه الألفاظ على ظاهرها وهي حقيقة كالأولى بل النحاة يقولون إن الظرف لا يتعلق في نفس الأمر إلا بفعل مذكور أو محذوف فإذا علق بالأعيان أو الصفات في خبر المبتدأ أو الصفة أو الحال كان العامل فيه فعلاً عامًا أو اسم فاعل عام فإذا قيل زيد في البيت كان التقدير استقر أو مستقر في البيت أو كان أو حصل أو وجد أو كائن أو حاصل ونحو ذلك ويقولون إن ذكر عامل الظرف في خبر المبتدأ شريعة منسوخة ومحققوهم يقولون لم يكن هذا شريعة قط فإن الناطقين باللغة لم ينطقوا بهذا قط وإنما هو موجب بالقياس لكن عدل عن ذكره لوضوح المعنى بدونه وعدم الحاجة إليه فإن مقصودهم بذلك طرد القياس في أن الظرف إنما ينتصب بفعل مذكور أو مقدر ومن الناس من تنازع في ذلك وفي هذا من البحوث ما ليس هذا موضعه ويقولون أيضًا فلان عند فلان عالم أو عدل أو مسلم وهذا عنده جائز أو محرم وهذا عنده محبوب أو مكروه وعظيم أو حقير ونحو ذلك ومنه قوله تعالى عن

ص: 258

جبريل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)[التكوير 19-21] وقوله وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)[ص 47] وهذا نظير كون العلم عند العالم فإن الذي عنده من قبل ما في نفسه من الاعتقاد والإرادة وما يتبع ذلك فإذا اعتقد أنه عالم أو عدل كان عند محبته وتعظيمه وكذلك بالعكس ومعلوم أن ذلك إنما صار ظرفًا لفظيًّا لأن المعلوم المحبوب والمعظم لابد أن ترتسم صورته في النفس فيقال فلان عالم عندي فيجعل الظرف ظرفًا للجملة وهي الاسمان والمعنى ظاهر معروف أن المظروف إنما هو اعتقاد علمه لا نفس ذاته ولا نفس علمه وذلك

ص: 259

لأن الخبر بقوله عالم أفاد ثبوت علمه بذكر الظرف بعد ذلك أي هذا الثبوت وهذه النسبة التي دل عليها اللفظ هي عندي في نفسي وأما كونها في الخارج فذلك مقام آخر وكذلك إذا قيل إنه محبوب أو معظم عندي فإن التقييد بالظرف دل على أن هذه المحبة وهذه العظمة في نفسه فإذا كان معنى الجملة يقوم بالنفس وذلك مسبوق بقيام مفرديها فمعنى المفرد أيضًا يقوم بالنفس فيقال فلان لا يزال عندي أي في نفسي فهو مثاله وصورته العلمية ويحصل الفرق بين كون المظروف ذاته في الخارج أو المظروف صورته علمًا وحبًّا ونحو ذلك في النفس بحسب الظرف والمظروف فإذا كان الخطاب عن ميت أو غائب مثل أن يقول القائل إذا اجتمع بمن كان غائباً عنه والله ما زلت عندنا كان ظاهر هذا اللفظ ما زلنا نستحضرك بقلوبنا ونذكرك بألسنتنا ونحو ذلك وقد يقال في مثل ذلك ما زلت معنا إذا كانوا

ص: 260

مستحضرين له ذاكرين له وإن لم يشعر هو بذلك ويقال فلان ما عنده إلا الله ورسوله ثم من المعلوم أن العلم والذكر والمحبة والتعظيم قد يكون من الطرفين فمن كان زيد عنده معلوماً مذكورًا محبوبًا معظمًا فإنه قد يكون عند زيد كذلك وهذا ثابت في حق الله تعالى كما جاء في الأثر إذا أحب أحدكم أن يعلم كيف منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله في قلبه فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه وقد قال تعالى فيما روى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا ومن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقال لايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه لأن النوافل

ص: 261

محاب الحق تعالى فإذا كان الله تعالى محبوبًا معظمًا مذكورًا عند عبده وكان العبد متقربًا إليه كان العبد محبوبًا معظمًا مذكورًا عند الرب متقربًا إليه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن من أعظم ما يكون العبد متقربًا إلى ربه إذا ذل له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وربه في هذه الحال عنده في قلبه في غاية الإجلال والإكرام وقد تقرب إلى ربه بنهاية تقربه فربه أيضًا يتقرب إليه ويجله ويكرمه فمن انكسر قلبه لله فإنه متواضع خاشع لله سواء كان هو قد شهد من عظمة الحق ما أوجب انكسار قلبه أو كان أعداء الله قد آذوه وكسروا قلبه لأجل عبادته وطاعته لله فالأول كالمصلي والثاني كالمجاهد فهذا يكون متقربًا إلى الله تعالى بغاية التقرب فيتقرب الله إليه أيضًا كذلك فيكون الله عنده في قلبه وهذا على ثلاث درجات

ص: 262

أما الدرجة الأولى فهو وجود الرب عنده في قلبه معلومًا معبودًا محبوبًا معظمًا وهذا مما لا ينازع فيه الثانية صعود قلبه إلى الله وعروجه إليه ودنوه منه بحيث يقرب نفس الظرف إلى المظروف حتى يحصل من كون الله نفسه عنده ما ليس لغيره وهذا متفق عليه بين أهل الإثبات والجهمية تنازع فيه ويلزم من قربه هو من الله ودنوه منه قرب الرب منه ودنوه منه فإن ما قربت إليه فقد قرب إليك بالضرورة الثالثة أن يكون الرب نفسه تقرب إليه تقرب من نفسه ودنو من نفسه غير ما جعله فيه من التقرب فهذا أيضًا ثابت عند كثير من أهل الإثبات أو أكثرهم ومنهم من

ص: 263

ينازع فيه وهذا مبسوط في مسألة القرب وعلى هذا التقدير فإن الرب نفسه يكون عند عبده خارجًا عما في نفس العبد وقد قال من تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعًا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وقال أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقرب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت وهو يخرج على القولين فالأولون يقولون إن الرب يتقرب إلى عبده بنفسه غير ما يوفق العبد له من تقربه إلى ربه وهؤلاء يقولون بل هو إذا تقرب إلى ربه أثابه بما يوفقه له

ص: 264

من تقرب آخر يكون الرب متقربًا إليه أكثر مما يقرب إليه وهؤلاء يمنعون أن يكون الله موصوفًا بذاته بحركة أو تقرب أو نحو ذلك والأولون لا يمنعون ذلك وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية وغير ذلك والمقصود هنا أن قوله لو عدته لوجدتني عنده وقوله أين أجدك قال عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أقرب إليها كل يوم شبرًا ولولا ذلك لاحترقت ليس ظاهره أن ذات الله تكون موجودة في المكان الذي يكون ذلك فيه بل يكون الله موجودًا عنده أي في نفسه إذ هذه العندية أقرب إليه من تلك العندية فإن الظرف المتصل بالإنسان أقرب إليه من الظرف المنفصل عنه فحمل الكلام عليه أولى وإذا كان الظرف هو نفسه فقوله وجدتني عنده كقوله وجدتني في قلبه ووجدتني في نفسه ووجدتني حاضرًا في قلبه ووجدتني ثابتًا في قلبه ونحو ذلك من العبارات

ص: 265

ومعلوم أن هذا الخطاب حق على ظاهره كما تقدم من ثبوت تعلقات الظرف بالمظروف وإن ذلك ليس بمنزلة قوله كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)[النور 39] بل باقتران ما أضيف إليه الظرف في الموضعين اقترن تعلقه بالمظروف كما لو قيل لبعض الصحابة وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أحد وقال الآخر وجدت رسول الله عند المتبعين لسنته لاسيما وقد علم المخاطب أنه يمتنع أن يشاهد الموجود عند غيره فقد علم المخاطب بقوله لو عدته لوجدتني عنده وعلم موسى بن عمران أنهم لا يشهدون الله عيانًا في الدنيا فلا يظهر لهم من قوله لوجدتني عند عبدي المريض وعند المنكسرة قلوبهم من أجلي إلَاّ ما هو المناسب اللائق بهذا المضاف إليه دون المضاف إلى غيره وأما قوله صلى الله عليه وسلم كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به فلو ذكر الحديث بألفاظه لعلم أن معناه ظاهر لا يحتاج

ص: 266

إلى تأويل فإنه قال من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبس يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة فقوله من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة تصريح منه بالفرق والجمع حيث جعل معاداة وليه معاداة له ولم يجعل نفسه ذات وليه ثم قال وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه فقد بين وأظهر أن المتقرب إليه عبده والمتقرب ليس المتقرب إليه

ص: 267

وقال لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وهذا كله إظهار وبيان لأن الله تعالى ليس هو عين العبد وأعضائه وقواه ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه فقد بين واظهر بعد قوله كنت سمعه وبصره وقوله فبي يسمع وبي يبصر أنه لئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ومن المعلوم أن هذا صريه في أن السائل المستعيذ ليس هو المستعاذ به ثم قال وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نقس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته وهذا تصريح بأنه عبده ليس الرب جزءاً منه ولا صفة له وأنه يقبض ويموت ومعلوم أن الله حي لا يموت فضلاً عن أن يكون بعضًا أو صفة لمن يموت فإنه لو كان ظاهره أن الله نفسه هو عين العبد وسمعه ويده ورجله لكانت هذه الأعضاء تموت بموت الجملة

ص: 268

وهذا كله يبين أنه ليس ظاهر الحديث أن الله هو القوة الباصرة بل ظاهره ما ظهر منه وما بينه الرسول الذي هو من أحسن الألفاظ وأحسنها بيانًا وإظهارًا إذ لا يكون أحد غير الرسول أحسن بيانًا وإظهاراً لما يخبره به عن ربه من الرسول وقد نزهه الله أن يكون ظاهر كلامه كفرًا وضلالاً وإفكًا ومحالاً ولا يكون هو قد جعل هذا الظاهر غير ظاهر وقذف بالحق على الباطل حتى يظهر الحق ويخفى الباطل كيف وقد تكفل الرب بإظهار دينه على الدين كله بظهور العلم والحجة وظهور القدرة والنصرة وأخبر أنه أرسله بالهدى ودين الحق فكيف يكون كلامه مضلاًّ إذا كان ظاهره الضلال ولم يبين ذلك

ص: 269

فصل قال الرازي الوجه التاسع قال صلى الله عليه وسلم الكبرياء ردائي والعظمة إزاري والعاقل لا يثبت لله تعالى إزارًا ورداء فيقال هذا الحديث في الصحيح رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدًا منهما عذبته وقد ورد أيضًا سبحان من تقمص بالعز ولاق

ص: 270

به وليس ظاهر هذا الحديث أن لله إزارًا ورداء من جنس الأزر والأردية التي يلبسها الناس مما يصنع من جلود الأنعام والثياب كالقطن والكتان بل الحديث نص في نفي هذا المعنى الفاسد فإنه لو قال عن بعض العباد إن العظمة إزاره والكبرياء رداؤه لكان إخباره بذلك عن العظمة والكبرياء اللذين ليسا من جنس ما على ظهور الأنعام ولا من جنس الثياب ما يبين ويظهر أنه ليس المعنى أن العظمة والكبرياء هما إزار ورداء بهذا المعنى فإذا كان المعنى الفاسد لا يظهر من وصف المخلوق بذلك لأن تركيب اللفظ يمنع ذلك ويبين المعنى الحق فكيف يدعي أن هذا المعنى ظاهر اللفظ في حق الله تعالى الذي يعلم كل مخاطب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر عنه بلبس الأكسية وثياب القطن والكتان التي يحتاج إليها لدفع الحر وابرد وستر العورة وهذا أقبح ممن يزعم أن قوله إن خالدًا

ص: 271

سيق من سيوف الله سلًَّه الله على المشركين أن ظاهره أن خالدًا من حديد وأقبح ممن يزعم أن قوله عن الفرس إن وجدناه لبحرًا ظاهره أن الفرس ماء كثير ونظائر هذا كثيرة وإذا كان هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر الحديث بل نص الحديث الذي هو أبلغ من مجرد الظاهر ينافيه كان ما ذكره باطلاً يبقى أن يقال فالتعبير عن هاتين الصفتين بإضافة الرداء والإزار إليه فهذا لا يحتاج إليه في رد ما قال لكن فيه زيادة الفائدة وقد قال الخطابي وغيره إن المعنى أني مختص بهاتين الصفتين كاختصاص المؤتزر المرتدي بإزاره وردائه فلا يصلح أن أنازع فيهما وهذا كلام مجمل وبسط ذلك يحتاج إلى أن يعرف أن جنس اللباس في كل ما يضاف بحبسه فبنو آدم يذكر لهم

ص: 272

اللباس الذي على أبدانهم الذي يقيهم الحر والبرد والسلاح ويستر عوراتهم وهو المذكور في قوله تعالى قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ [الأعراف 26] ثم الصفات التي تقوم بالإنسان التي هي لباس له بها يكون من المتقين كما قال وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف 26] وليس قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى مما يقال فيه أنه خلاف الظاهر فيحتاج إلى تأويل فإنه لم يجرد لفظ اللباس بل أضافه إلى التقوى وهذا قد يعم اللباس الظاهر الذي يتقى به والأخلاق والأعمال الصالحة ولهذا تجعل هذه الصفات ظرفًا للموصوف كما قد يجعل هو محلا لها فيقال فلان في علمه وحكمه وصدقه وعدله من خيار الناس ولباس الإنسان منه ما لا يصلح مشاركة غيره فيه كالإزار والرداء والسراويل ونحو ذلك بل مشاركة الإنسان فيه

ص: 273

يوجب له من النقص والضرر ما يدعوه على أن يمنع طالب الشركة في ذلك والكبرياء والعظمة لا تصلح إلا لله رب العالمين الرب الخالق الباري الغني الصمد القيوم دون العبد المخلوق الفقير المحتاج والكبرياء فوق العظمة كما جعل ذلك رداء وهذا إزارًا ولهذا كان المشروع في العبادات الله أكبر دون الله أعظم وذلك في الصلاة والأذان والأعياد والمناسك وعلى الأشراف حتى لو قال المؤذن الله أعظم أو الله الكبير أو الله الأكبر لكان قد بدل شريعة الإسلام عند جميع المسلمين وكان ذلك مما ينكره المسلمون كلهم وكذلك إمام الصلاة لو جعل يقول الله أعظم بدل الله أكبر أو قال الله الكبير أو قال الله الأكبر لكان المسلمون يتبادرون إلى إنكار ذلك ومن جوز من الفقهاء ذلك فهو قول يقوله فلو ظهر ذلك إلى

ص: 274

العمل وشاع بين المسلمين كان هو من أعظم الناس إنكارًا لذلك لكن بين تقدير العمل وبين وقوعه في الخارج فروق عظيمة وهما مع أنهما لا يصلحان إلا لله فيمتنع وجود ذاته بدونهما بحيث لو قدر عدم ذلك للزم تقدير المحذور الممتنع من النقص والعيب في ذات الله فكان وجودهما من لوازم ذاته وكمالها التي لا ينبغي أن تعرى الذات وتجرد عنها كما أن العبد لو تجرد عن اللباس لحصل له من النقص والعيب بحسب حاله ما يوجب أن يحصل له لباسًا وأيضًا فاللباس يحجب الغير عن المشاهدة لبواطن اللابس وملامستها وكبرياء الله وعظمته تمنع العباد من إدراك البصر له ونحو ذلك كما في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنات الفردوس أربع

ص: 275

ثنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وثنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلَاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن فهذا الرداء الحاجب الذي قد يكشفه لهم فينظرون إليه سماه

ص: 276

رداء الكبرياء فكيف ما يمنع من إدراكه وإحاطته أليس هو أحق بأن يكون من صفة الكبرياء

ص: 277

فصل قال الرازي العاشر قال صلى الله عليه وسلم لأبي ابن كعب يا أبا المنذر أية آية في كتاب الله تعالى أعظم قال فتردد فيه مرتين ثم قال في الثالثة آية الكرسي فضرب بيده صلى الله عليه وسلم على صدره قال أصبت والذي نفسي بيده إن لها لسانًا يقدس الله عند العرش ولابد فيه من التأويل قال فثبت بكل ما ذكرناه أن المصير إلى التأويل أمر

ص: 278

لابد منه لكل عاقل وعند هذا قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أن الله منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحًا لئلا يكون ذلك سببًا للطعن فيها فهذا تمام القول في المقدمة وبالله التوفيق والكلام على هذا من وجوه أحدها أن لفظ الحديث الذي ذكر عن أبي رضي الله عنه على ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن رباح عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم قال قلت اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قال فضرب في صدري وقال ليهنك العلم

ص: 279

يا أبا المنذر وهكذا رواه أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده زاد أبو مسعود الدمشقي صاحب أطراف البخاري ومسلم والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش لكن هذه الزيادة ليست موجودة فيما بأيدي الناس من صحيح مسلم

ص: 280

لكن رواها الإمام أحمد عن أبي بكر بن أبي شيبة ورواها ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر هذا عبد الحق في الجمع بين الصحيحين

ص: 281

والقول في ذلك كالقول فيما تقدم من مجيء القرآن والأعمال الصالحة كما تقدم بيانه ونظير ذلك ما ورد من أن للكلم الطيب حول العرش دويًّا كما ورد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إن لها دويًّا حول العرش تذكر بصاحبها وما يشبه هذا ما روي عن عبد الله بن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال يا محمد

ص: 282

أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر قال الترمذي حديث حسن فمعلوم أنه ليس المعنى الظاهر من هذا الباب أن نفس العمل أو القول الذي يقوم بالقائل والقائل هو نفس شجر الجنة ولكن يظهر منه أن هذا الكلام يصير منه شجر في الجنة فيغرسه الله غراسًا في الجنة كلما تكلم العبد بهذه الكلمات غرس له غراس هذا هو المعنى الذي يظهر منه سواء كان الله تعالى يصور نفس هذا العمل ذلك الغراس كما يصور

ص: 283

من الحب ونوى شجرًا ومن المني حيوانًا أو كان بذلك العمل يخلق شجرًا وإن لم يكن من نفسه الوجه الثاني قوله فثبت بكل ما ذكرنا أن المصير إلى التأويل أمر لابد منه لكل عاقل يقال قد ذكر تسعة عشر وجهًا على عدد خزنة جهنم وليس فيها ما يوجب التأويل الذي يدعي نظيره وهو وجوب صرف الخطاب عن معناه الذي يظهر للمستمعين إلى ما ينافي ذلك الوجه الثالث أن التأويل الذي هو صرف الخطاب عن ظاهره الذي يظهر للمخاطبين إلى خلاف ظاهره لدليل شرعي يبين ذلك قد لا ينازعونه فيه فإن كلام الله وكلام رسوله

ص: 284

يبين بعضه بعضًا وإنما ينازعونه في وجوب هذا الصرف لما يعتقد الإنسان من معقوله وهذا لم يذكر له حجة وما يعرف معناه ببديهة العقل والحس أن المتكلم لم يقصده ليس هو من هذا الباب في أحد القولين كما تقدم وهذا المؤسس قد قرر ضد ذلك فإنه قرر كما سيأتي حكايته وجوب صرف الكتاب والسنة لما سماه أدلة عقلية وقرر أنه لا يجب صرف ذلك لدليل من الكتاب والسنة فكان الذي قرره نقيض ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وهو مخالف أيضًا لما عليه أكثر المتكلمين وأكثر الجهمية فإنهم يوجبون التأويل لمعارضة الدليل الشرعي الواضح أيضًا وسنتكلم إن شاء الله على ما قاله الوجه الرابع أن يقال سلَّمنا أنه يجب التأويل عند مخالفة الحس والعقليات الضرورية كما يخص العموم بذلك عند من يسمي ذلك تخصيصًا في مثل قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل 23] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف 25] ونحو

ص: 285

ذلك فلٍمَ قلت إنه يجوز أو يجب التأويل عند مخالفة النظريات العقلية والفرق بينهما من وجوه أحدها أن ما يعلم بالحس والبديهة يكون علمه حاصلاً عند المستمعين وبيانه مقارنًا لخطاب المتكلم أو سابقًا عليه أو لاحقًا له قريبًا ومعلوم أن الخطاب لا يكون إلَاّ لمن معه من العلم ما يدله على معنى الخطاب بحيث يكون عالمًا بالمتكلم ولغته وغير ذلك وإذا كان كذلك كان وجود العلوم الضرورية والحسية عند المخاطبين مما لابد منه في صحة كونهم مخاطبين فيكون ذلك من أسباب معرفتهم بمعنى الخطاب ويكون الخطاب على هذا الوجه هدى وبيانًا وشفاء ولا يكون إضلالاً ولا تلبيسًا أما النظريات التي لا تعرف إلا بدقيق النظر وطويله ويقع فيها النزاع فإذا خوطبوا بما ظاهره الكفر والضلال ولم يتبين لهم المعنى المراد ولا يعرفونه إلا بمثل هذه الوجوه إن عرفوه كان هذا إضلالاً وتلبيسًا بل كان عدم الخطاب أنفع وأهدى لهم إذ كانوا بدون الخطاب يعرفون الحق بهذه النظريات من غير معارض وإذا خوطبوا بما يعارض هذه العلوم

ص: 286

كان قد أظهر لهم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف والأمر باعتقاد الباطل من غير بيان الوجه الثاني أن العلوم الحسية والبديهية تكون مقارنة للخطاب فتمنع عن فهم الباطل ابتداء بخلاف هذه النظريات الوجه الثالث أن مثل هذه العلوم لا يقع فيها نزاع واختلاف فلا يفضي ذلك إلى ما نهوا عنه من التفرق والاختلاف بخلاف النظريات الدقيقة المشتبهة الوجه الخامس أن يقال لا خلاف بين المسلمين بل بين العقلاء أن التأويل حيث ساغ سواء كان في كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام غير الله ورسوله إنما فائدته الاستدلال على مراد المتكلم ومقصوده ليس التأويل السائغ أن ينشئ الإنسان معاني لذلك اللفظ أو يحمله على معاني سائغة

ص: 287

لم يقصدها المتكلم بل هذا من أبطل الباطل وأعظمه امتناعًا وقبحًا باتفاق العقلاء وهو الذي يقع فيه هؤلاء المتأولون المحرفون كثيرًا وبذلك أشعر لفظه حيث قال فعند ذلك قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أنه تعالى منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحًا فإن قوله نضع ظاهره أنهم يضعون لها ما يمكن من المعاني الصحيحة من غير نظر منهم في أن المتكلم قصد تلك المعاني أو لم يقصدها وعلى هذا فيكون التأويل كذبًا وافتراء على المتكلم إذا قيل معنى هذا الكلام هذا فإن معنى التأويل أنه قصد وأراد به كذا وليس عند المتأول إلا أن هذا المعنى يصلح في الجملة أن يراد بهذا الكلام ولكن قد يصلح أن يريد غيره ولا يصلح أن يريد هو فمن فسر كلام الفقهاء كالشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة

ص: 288

بدقائق الأطباء التي يقصدها بقراط وجالينوس أو فسر كلام الأطباء بما يختص بدين المسلمين من معاني الحج والصلاة وغير ذلك لكون ذلك المعنى يصلح لذلك اللفظ في الجملة كان مع كونه من أكذب الناس وأعظمهم افتراء من أبعد الناس عن العقل والدين وأشدهم إفسادًا للعلوم والمخاطبات فهكذا من نظر إلى ما يحتمله اللفظ من المعاني مما يصلح

ص: 289

أن يريده من ينشئ الخطاب بذلك اللفظ ففسر كلام الله وكلام رسوله به كان في إفكه وضلاله بل في كفره ونفاقه أعظم من أولئك لأن الفرق بين كلام الله ورسوله وما يقصده الله ورسوله بالخطاب من معاني أسمائه وصفاته وبين الأعراب ونحوهم وما يقصدونه في خطابهم من وصف الإبل والشاء والمنازل والمياه والقبائل أعظم من الفرق بين كلام الفقهاء وكلام الأطباء وبهذا تبين أن ما يذكره طائفة من الناس مثل هذا المؤسس وأمثاله في أصول الفقه أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين كان لمن بعدهم إحداث تأويل آخر بخلاف الأحكام قول باطل فإن تأويل الأمة للقرآن والحديث هو إخبارهم بأن هذا هو مراد الله تعالى منه قطعاً أو ظاهرًا فاتفاقهم في ذلك على قول أو قولين هو كاتفاقهم في الأحكام على قول أو قولين ولو قدر أنه أريد بالتأويل تجويز الإرادة مثل أن تقول طائفة يجوز أن يكون هذا هو المراد وتقول طائفة أخرى يجوز أن يكون هذا هو المراد كانوا متفقين على

ص: 290

أنهم لم يعلموا لله مرادًا غير ذينك الوجهين فلا يجوز أن يكون من بعدهم هو العالم بمراد الله تعالى دونهم ولهذا كانت هذه المعاني التي يفسرون بها كملام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويتأولونها عليها يعلم في كثير منها أو أكثرها بالضرورة أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يريدا تلك المعاني أكثر مما يعلم بالضرورة انتفاء ما ذكره من خلاف بعض الظواهر وحينئذ فينقلب ما ذكره من الدليل عليه أعظم انقلاب بأن يقال في الوجه السادس أنه لا خلاف بين جميع الطوائف أن كثيرًا من هذه التأويلات أو أكثرها باطل بل كثير من التأويلات يعلم فسادها بضرورة العقل وذلك أنه ما من طائفة من الطوائف الذين يحرفون الكلام عن مواضعه ويلحدون في أسماء الله وآياته ويسمون ذلك تأويلاً من أصناف المتجهمة ونحوهم إلَاّ وهي ترد كثيرًا من تأويلات الطائفة الأخرى وتقول إنها باطلة كما أن المؤسس وأمثاله يردون تأويلات المعتزلة للآيات والأخبار التي فيها وصف الله تعالى بأن له علماً وقدرة وحياة

ص: 291

وسمعًا وبصرًا وأن له كلامًا قائمًا بنفسه وأنه يرى ونحو ذلك ويردون تأويل الجهمية من المعتزلة وغيرهم لعذاب القبر والصراط والميزان وغير ذلك وهم والمعتزلة يردون تأويلات الفلاسفة الصابئين للجنة والنار وما فيهما من نعيم وعذاب والفلاسفة العقلاء مع سائر المتكلمين يردون تأويل القرامطة والباطنية للصلاة والزكاة والحج وغير ذلك والباطنية ترد كل طائفة منهم تأويل الآخرين فإن بينهم نزاعًا طويلاً والمعتزلة أيضًا ترد تأويل الأشعرية ونحوهم للآيات التي فيها تنزيه الله نفسه عن الظلم وفيها إثبات فعل العباد لأفعالهم فيها وإخراج الأعمال الصالحة من الإيمان ونحو ذلك

ص: 292

وهذا المؤسس قد اعترف بذلك في هذا الكتاب وغيره فقال في الفصل الثالث من القسم الثالث من هذا الكتاب في الطريق الذي يعرف كون الآية محكمة أو متشابهة ثم قال اعلم أن هذا موضع عظيم وذلك لأن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات الموافقة لمذهب خصمه متشابهة فالمعتزلي يقول إن قوله تعالى فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 29] محكم وقوله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان 30] متشابه والسني يقلب القضية في هذا الباب والأمثلة كثيرة فلابد ههنا من قانون أصلي يرجع إليه في هذا الباب وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما ذكره من القانون وإذا كان العقلاء من جميع الطوائف مقرين بأنه لابد من إبطال جنس التأويل وأن فيه ما هو باطل محرم فمعلوم أن هذا ليس هو مثل ما ذكره من اتفاق الطوائف على الإقرار بأنه لابد من

ص: 293

التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار فإنه لم يذكر نقلاً للإجماع في شيء مما ذكره وأما هذا فهو منقول بالاتفاق لا ينكره أحد بل ما من أحد إلا وهو ينكر كثيرًا من تأويل ظواهر القرآن والأخبار التي قد يتأولها بعض الناس ويقول إنها باطلة إما بالضرورة وإما بالنظر وكل من هؤلاء المختلفين يقول إن العقل يوجب عليه التأويل الذي يزعم الآخر أنه تأويل باطل وعند هذا فيقول نفاة هذه التحريفات الحق الذي هو أحسن تفسيرًا من قول أولئك المتكلمين يقولون إذا ثبت أن هذه التأويلات منها باطل كثير باتفاق الطوائف وثبت أن الحق الذي يدعيه مدع فيها لم يتفق على أنه حق بل النزاع واقع فيه هل هو حق أو باطل وهم يقولون لا يفصل بينهم إلا العقل وكل منهم يدعي أن العقل معه وليس العقل متكلمًا ظاهرًا يفصل بينهم كان الفصل بينهم متعذرًا وكذلك النزاع بينهم واقعًا لازمًا ضرورة عدم الفصل بينهم وكان معهم باطل قطعًا ولم يعلم أن معهم حقًّا أو الحق الذي معه لا يمكن تمييزه كانت مذاهبهم من جنس مذاهب اليهود والنصارى بعد التبديل بل أولئك أجود مما يقوله هؤلاء من التأويلات وإن لم

ص: 294

يكونوا أجود في الجملة مما هو عليه كل طائفة من طوائف المسلمين إذ مع كل طائفة من المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة من الحق الذي لا ريب فيه أعظم مما مع اليهود والنصارى لكن الكلام هنا في تأويلاتهم التي ينازعهم فيها أهل الإثبات فإن أهل الكتابين معهم حق مأثور عن الأنبياء بلا ريب ومعهم باطل ابتدعوه وباطل حرفوه كما مع هؤلاء الجهمية ونحوهم من المتكلمين ومع هذا فلا نزاع بين المسلمين أنه لا يجوز اتباعهم في علومهم وأنهم ضلال وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه

ص: 295

كان هؤلاء المتكلمون بهذه التأويلات أولى أن ترد عليهم كلها ولا يقبل منها شيء إذ لم يعلم أن فيها ما هو حق فإذا كان الكلام الذي علم أن فيه حقًّا وباطلاً قد أمرنا أن لا نقبله فمثل هذا الكلام أولى أن لا نقبله وهذا بينٌ ظاهر لمن قصده إسكات هؤلاء عن التأويلات ومنعهم من التكلم بها ومنع قبولها وأما من يقصد إبطالها وبيان فسادها فإنه يقول في الوجه السابع قد أجمعت هذه الطوائف وسائر المسلمين وسائر أهل الأرض على أن في التأويلات ما هو باطل ولم يتفقوا على أن ما فيها ما هو حق كما تقدم وأن الحق الذي اتفقوا عليه قليل معروف وكل منهم يدعي أن العقل يوجب تأويله يدعي الآخر أنه باطل وأن العقل الذي يدعي أنه أوجب باطل يعلم بطلانه بالعقل أيضًا كانوا مختلفين فيما يقولون إنه العقل الذي يجب اتباعه وحينئذ فلابد من عقل يميز بين العقل الصحيح والعقل الفاسد لكن هذا العقل هو من جنس عقولهم فيكون معرفة صحيح ذلك من باطله

ص: 296

بما يسمونه العقل متعذرًا وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يمكن معرفة الصحيح من الفاسد فيما يسمونه عقليات مما يسمونه عقلاً وإذا لم يمكن معرفة ذلك امتنع اعتقاد موجبه أو القول به وإذا كان كذلك وهذا هو مستندهم الذي أوجبوا به تأويل النصوص فيكون هذا برهانًا قاطعًا على أن مستندهم الموجب للتأويل باطل وإذا بطل مستند التأويل بطل التأويل لأنه لولا معارضة المعقول لهذه النصوص لما كان تأويلها باطلاً بالاتفاق فثبت أن تأويلها باطل وهذا يدل على شيئين يدل على أن التأويل محرم إذ هو قول بلا علم ويدل على أنه باطل بمعنى أنه غير مطابق للحق لأن المتكلم الذي تكلم بكلام له ظاهر وله باطن يخالف الظاهر

ص: 297

يمتنع أن يريد به إفهام المخاطبين خلاف الظاهر بلا دليل فإذا ثبت أنه لا دليل يعلم به ما يخالف الظاهر وهذا بشرط أن يكون المتكلم مقصوده البيان والإفهام وهو حكيم فأما إن كان مقصوده التدليس والتلبيس أو كان جاهلاً فلا يمتنع أن يخاطب الناس بما يفهمون منه خلاف مقصوده أو أن يدلهم بغير دليل لكن هذا متفق على انتفائه في حق الله ورسوله الوجه الثامن إذا ثبت أن ما تسمونه معقولاً يمتنع أن يفصل بينهم النزاع أو يبين لهم الحق من الباطل من هذه التأويلات والله سبحانه قد أقام الحجة على عباده وبين أنه ما كان ليضلهم حتى يبين لهم ما يتقون علم أنه لابد أن يكون ما يفصل النزاع ويبين الحق من الباطل غير هذه المستندات التي يسمونها المعقولات ولا يجوز أن يكون ذلك هو التخيلات التي يدعي بعض الناس الاختصاص بها ويسميها مكاشفات أو اتباع الأهواء التي يسمونها الذوقيات

ص: 298

كما يذكره طائفة من المتصوفة لأن الاختلاف والنزاع في ذلك عظيم كثير والضلال به أعظم وأكثر فتعين أن يكون الفاصل بين النزاع والحاكم بين الناس الهادي لهم إلى الرشاد هو كتاب الله كما أخبر بذلك في كتابه حيث قال كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة 213] وقال فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] وقال كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)[إبراهيم 1] وقال إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء 9] وقال وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى 52-53] وقال تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [الزمر 1-2] وقال تعالى وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)[الأنعام 155] وذلك كثير في كتاب الله تعالى فإذا ثبت أنه لا هادي للعباد ولا فاصل بينهم في موارد

ص: 299

النزاع والعناد إلا كتاب الله امتنع حينئذ أن يكون له معارض يعارضه يتقدم عليه لأنه حينئذ يكون ذلك المعارض حاكمًا عليه وهاديًا دونه عند التعارض وذلك خلاف ما ثبت باتفاق العباد كما بيناه وإذا امتنع المعارض الذي يقدم عليه ثبت بطلان جميع التأويلات لأنه لبد فيها من أن يقال عارض هذه النصوص معارض يجب تقديمه عليها كما يقرره هذا المؤسس ونحوه ممن يلحد في أسماء الله وآياته ويحرف الكلم عن مواضعه وهذا الكلام له شعب ودعائم كثيرة يطول تعريفها في هذا الموضع وهو حجة قاطعة عليهم كما قال تعالى لنبيه وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)[الفرقان 33] فإن هؤلاء جاؤوا بأمثال وهي مقاييسهم العقلية التي يعارضون بها كتاب الله وقد تكفل الله أنه يأتي بالحق وأحسن تفسيرًا وهو فيما ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجعله ميزانًا لأهل العلم والإيمان إلى يوم القيامة وما زال السلف والأئمة ينبهون على هذا الأصل وهو اضطراب الناس فيما يختلفون فيه ويدعي كل فريق أنه قال ذلك بالمعقول

ص: 300

كما قال عثمان بن سعيد الدارمي في رده على الجهمية قال في مسألة الرؤية وقال بعضهم إنا لا نقبل هذه الآثار ولا نحتج بها قلت أجل ولا كتاب الله تقبلون أرأيتم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فهم يتوارثونها عن أعلام الناس وثقاتهم قرنًا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسينا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة تداولتها العلماء والفقهاء فهاتوا عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا يقدرون أن يأتوا فيها بخبر ولا أثر وقد علمتم إن شاء الله أنه لا تدرك سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا بهذه الآثار

ص: 301

والأسانيد على ما فيها من الاختلاف هي السبب إلى ذلك والمنهج الذي درج عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم للغائب احتجاجًا واحتسابًا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كتاب الله برأيه خلاف ما عنى الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من آثارهم واقتبسوا الهدي من سبيلهم

ص: 302

وارضوا بهذه الآثار إمامًا كما رضي القوم بها لأنفسهم إمامًا فلعمري ما أنتم بأعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم بل أضل وأجهل ولا يمكن الاقتداء بهم إلَاّ باتباع هذه الآثار على ما تروى فمن لم يقبلها فإنما يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين قال تعالى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)[النساء 115] فإن قال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا ها هنا ضللتم سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس بشيء واحد موصوف محدود عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نعد ولكن الله تعالى قال كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)[المؤمنون 53] فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه

ص: 303

والمجهول عندهم ما خالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفة كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعوا إليه والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بين في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن ترد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ما خالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا بهذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم عنها بزعمكم فأنَّى تهدون وقال الإمام أحمد رحمه الله الحمد لله الذي جعل في

ص: 304

كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مخالفون للكتاب مختلفون في الكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين الوجه التاسع أن يقال هب أنهم لم يتفقوا على اشتمال

ص: 305

التأويلات على أصناف الضلالات فذلك معلوم بالضرورة العقلية فيما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من التأويلات وهذا مما يتعذر عده وإحصاؤه فإنه ما زال أهل العقل والعلم إذا سمعوا كثيرًا من هذه التأويلات ورأوها في المصنفات يعلمون أنها من أظهر الأمور فسادًا في البديهي من المعقولات ولا ينقضي تعجبهم من قوم يذهبون إلى تلك التأويلات ممن له في العلم صيت مشهور وقد رأيت وسمعت من ذلك بعجائب ولكن ننبه ببعض ما ذكره هذا المؤسس وذلك بأمثلة أحدها قوله في تأويل قوله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)[الفجر 22] الوجه الثاني إن الرب هو المربي فلعل ملكًا عظيمًا هو أعظم الملائكة كان مربيًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان هو المراد من قوله وَجَاءَ رَبُّكَ فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل إيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله وعلى كلامه وأن الله لم يجعل لمحمد

ص: 306

قط ربًّا غير الله وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام 164] وقد قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام 112-115] وأيضًا فقال هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام 158] وقال وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)[الفجر 22] والملك اسم جنس ففصل بين ربه وبين الملائكة والملائكة تعم جميع الملائكة كما قال في الآية التالية هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] ففصل بين اسم الله وبين الملائكة وهناك سمى نفسه الله وهنا سمى نفسه ربك فإذا جعل الجاعل رب محمد بعض الملائكة فهذا مع أنه من أعظم الإلحاد في أسماء الله وآياته أليس يعلم كل مسلم بل كل عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة وأن الله ورسوله لم يرد

ص: 307

بهذا الخطاب ذلك وهل هذا التأويل إلَاّ من جنس تأويل غلاة القرامطة في قوله وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) أنه علي ابن أبي طالب بل ذلك التأويل أقرب لأن غايته أن يجعل علي بن أبي طالب من جنس المسيح ابن مريم وهذا مذهب مع كونه من أعظم الكفر والضلال فعليه أمة عظيمة من بني آدم وهم النصارى ومن اتبعهم على الحلول والاتحاد ودلالة لفظ العلي على علي بن أبي طالب أظهر من دلالة قوله وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)[الفجر 22] على أن ربه ملك من الملائكة وإذا جاز تسمية بعض الملائكة رب محمد لأنه رباه مع العلم بأن أحدًا من الملائكة لم يرب محمدًا فتسمية علي العلي العظيم لماله من علو القدر والعظمة أقرب المثال الثاني قوله في تأويل قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ

ص: 308

يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)[البقرة 210] الوجه الخامس وهو أقوى من كل ما سبق أنا ذكرنا في التفسير الكبير قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة 208] إنما نزل في حق اليهود وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ [البقرة 209] خطاباً مع اليهود فيكون قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] حكاية عنهم والمعنى أنهم لا يقبلون دينكم إلا لأنهم

ص: 309

ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ومما يدل على أن المراد ذلك أنهم فعلوا ذلك مع موسى عليه السلام فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة 55] وإذا ثبت أن هذه الآية حكاية عن حال اليهود وعن اعتقادهم لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها وذلك لأن اليهود كانوا على دين التشبيه وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى وكانوا يقولون إنه تعالى تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام فظنوا مثل ذلاك في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن مذهبهم ليس بحجة وبالجملة فإنه يدل على أن قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله وليس في الآية دلالة على أن أولئك الأقوام محقون أو مبطلون وعلى هذا التقدير زال الإشكال وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام فإن قيل هذا التأويل كيف يتعلق

ص: 310

بهذه الآية لأنه قال في آخرها وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)[البقرة 210] هذا لفظه فمن تدبر هذا الكلام أليس يعلم بالضرورة أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى كتابه حيث جعل خطابه مع المؤمنين خطاباً مع اليهود مع أن الله سبحانه دائماً في كتابه يفصل بين الخطابين فيقول لأولئك يا بني إسرائيل أو يا أهل الكتاب ويقول لهؤلاء يا أيها الذين آمنوا والخطاب لبني إسرائيل للمؤمنين فيه اعتبار لأن القرآن كله هدى للمؤمنين فإذا جعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط أليس هذا من أعظم تبديل القرآن وقد قال بعد هذه الآية سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة 211] فلم سماهم بني إسرائيل وإنما أمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة أي في جميع الإسلام لا في بعضه دون بعض وأن

ص: 311

يدخلوا كلهم لا يدخله بعض دون بعض ولهذا قال لهم فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)[البقرة 209] ولا يقال لهم إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال والزلل كاليهود ثم جعل قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] هو من اعتقاد اليهود الفاسد لا من كلام الله الذي توعد به عباده وجعل هذا هو الجواب المعتمد أليس يعلم ببديهة العقل والدين كل من قرأ القرآن من المؤمنين أن هذا من أعظم الكذب والافتراء على رب العالمين وأن رد هذا لا يحتاج إلى دليل وهو كذب على اليهود أيضاً فإن القوم لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ليخاطبهم وقد ذكر أهل التفسير والسير والحديث والمغازي مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز ومع كثرة ما نزل بسببهم من القرآن ومع هذا فما نقل هذا أحد وكذلك ما نقله عنهم من أنهم كانوا يقولون إنه تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه فإن كان هذا حقًّا عنهم وكانوا

ص: 312

ينتظرون مثل ذلك فيكونون قد جوزوا أن يكون الله تجلى لرسول آخر في الغمام كما تجلى لموسى ومعلوم أن اليهود لا تقول ذلك وما ذكر الله تعالى عنهم في طلبهم رؤية الله جهرةً فهذا حق لكن أخبر أنهم طلبوا الرؤية لم يخبر أنهم انتظروها والمتطلب للشيء معتقد لأنه يكون لا طالب من غيره أن يكونه وهذا كما قال تعالى أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [البقرة 108] وأما قوله إن اليهود كانوا على دين الشبيه وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله فيقال إنه لا ريب أن التوراة مشتملة على صفات الله تعالى التي يسميها الجهمية تشبيهاً وهي إلى الآن كذلك مثل ما ذكره فلا يخلو إما أن يكون ذلك من التوراة المنزلة أو مما بدلوه فإن كان الأول كان ما سماه تشبيهاً هم الحق المنزل من عند الله تعالى وإن كان الثاني كان إنكاره ذلك عليهم وذمهم عليه أولى

ص: 313

بالإنكار والذم على أمور دون ذلك كأخذ الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ومعلوم أن الكتاب والسنة لم تنكر على اليهود قط ما عندهم من هذه الصفات ولا ما يقولونه من ذلك وإنما ذمهم على وصفهم الله بالعجز والكلال والفقر والبخل كما ذكر في قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)[آل عمران 181] وفي قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة 64] وفي قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)[ق 38] وهو سبحانه وتعالى قد ذكر ذنوبهم في مثل قوله قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)[المائدة 60] وفي قوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء 160-161] وفي قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)[آل عمران 112] ونحو ذلك

ص: 314

ولم يعبهم قط بإثبات الصفات التي يسميها الجهمية تشبيهاً ولا ذكر ذلك من ذنوبهم وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)[مريم 64] وهذا دليل قاطع على أن هذه الصفات في الجملة منزلة من عند الله وأنها حق ليست مما افتراه اليهود وابتدعوه بل ذمهم على كتمان ذلك وغيره وعلى تحريف الكلم عن مواضعه فإن كثيرًا منهم يحرفون ذلك ويكتمونه أكثر من تحريف الجهمية المنتسبين إلى الإسلام وأكثر من كتمانهم وقد روي أن الجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب الذي يتأول فيه الصفات عن الجعد بن درهم والجعد أخذه عن

ص: 315

بيان بن سمعان وأخذه بيان من طالوت بن أخت لبيد بن أعصم وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وهون من أعظم من نزل فيه قوله تعالى وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

ص: 316

كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ الآية [البقرة 101-102] وهذا مذكور في غير هذا الموضع فيكون قول المؤسس ونحوه من الجهمية هو قول المبدلين من اليهود الذين ذمهم الله عليه وأنكره عليهم وهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وحيث حرفوا كتاب الله بالتأويل الذي يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وللمؤسس وأمثاله من ذلك أعظم شبه باليهود حيث صنف كتب السحر وعبادة الأوثان وأمر باتباع ذلك وتعظيمه وحرف كتاب الله تعالى فهذا من أحوال اليهود التي ذمها الله تعالى في القرآن يبين ذلك أن الله ذم اليهود على كتمان ما عندهم من الكتاب وأخبر أن الرسول بين لهم بعض ما كتموه وعفا عن بعضه فقال قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ

ص: 317

[المائدة 15] وقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ [البقرة 140] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران 187] فهذا النبذ وراء ظهورهم هو ضد بيان ما فيه وهو الحال التي وصفهم الله في قوله نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة 101-102] فلو كان ما عندهم من الصفات وهي كثيرة جدًّا في التوراة باطلاً وكفراً وضلالاً لم يكونوا مذمومين على نبذ ذلك وراء ظهورهم وعلى كتمانه بل كان الواجب ذمهم على وجود ذلك في كتابهم وإقرار ذلك بينهم كما ذم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله وأيضاً فإن قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة 208] إذا كان خطاباً لليهود وهم المنتظرون للأمر الممتنع فوجه الكلام أن يخاطبوا بما يوبخهم ويقرعهم فيقول ما تنظرون بصيغة المخاطبة لا بصيغة الغيبة كما في نظائر ذلك من القرآن حيث يقول إذا خاطبهم فعلتم وفعلتم

ص: 318

فأما الانتقال في مثل هذا من المخاطبة إلى الغيبة ففيه تعظيم للمخاطب كما في قوله وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)[الحجرات 7] وفي قوله حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا [يونس 22] فإن قوله كنتم يتناول المؤمن والكافر فعدل إلى صيغة الغيبة التي تتناول من فعل ذلك الفعل المذموم خاصة وأيضاً فالفرق ظاهر بينٌ معلوم بالاضطرار من اللغة بين الاستفهام الذي يقصد به نفي وجود ما يظنه الإنسان وينتظره ويرجوه ويخبر به وبين ما لا يقصد به ذلك بل يقصد به تهديده وتخويفه من الأمور الكائنة الموجودة وتحذيره منها فالأول كقوله أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)[القيامة 36] أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ [المؤمنون 55-56] أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)[الطور 30-33] وقوله أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)[المعارج 38] فنظيره أن يقال أينتظرون أن يأتيهم الله أو أيطمعون أن يأتيهم الله في ظل من الغمام ونحو ذلك

ص: 319

وأما الثاني فكقوله وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)[ص 15] وقوله قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة 52] فمن المعلوم أن هذا الاستفهام يتضمن معنى النفي كالأول وأن ذلك تهديد لهم وتخويف مما ينتظرونه ويتربصونه فقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] صيغة مثل هذه الصيغ فإن هل متضمنة معنى النفي بلا نزاع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم هل ينظر أحدكم إلا غنى مطغياً أو فقراً منسياً أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر

ص: 320

وأيضاً فقوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ [البقرة 210] وإخبار بأن الله تعالى يقضي الأمر كما في قوله تعالى وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)[هود 44] وفي قوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)[الزمر 69] وأيضاً فإنه في سورة الأنعام إنما ذكر قبل هذه المشركين قال تعالى أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)[الأنعام 156-158] فقوله وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام من أظهر الأمور فساداً بالضرورة عند أدنى تدبر للقرآن فإن اليهود لم يجر لهم ذكر بل جرى

ص: 321

ذكر المشركين المكذبين بهذا كله وهو أشبه بالجهمية الذين يقولون إن الله لا يأتي ولهذا قال انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)[الأنعام 158] فهو يهددهم ويتوعدهم بمجيء هذا الأمر الذي يكذبون به كما في قوله تعالى وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)[ص 15] وأيضاً فالانتظار إما أن يقصده المرء كما زعمه هذا المؤسس أن اليهود قصدوا انتظار إتيان الله في ظلل من الغمام في الدنيا أو لا يقصده كما لم يقصد المشركون انتظار ما وعد الله به يوم القيامة وإتيان الله والملائكة وغير ذلك فإن كان الأول كانت صيغة الإنكار بلفظ ينتظر هذا أو كيف ينتظر هذا أو نظن وجود هذا لا يكون بصيغة الحصر الذي مضمونها ما ينتظر إلا هذا لأن ذلك يقصد أشياء كثيرة ينتظرها غير هذا فلا يصلح أن يقال ما ينتظر إلا هذا وهو ينتظر أشياء غيره وإن كان الثاني حسن خطابه بصيغة الحصر لأنه ينتظر أشياء لا حقيقة لها مثل الذي قيل فيه ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا [المدثر 15-16] والذي قال أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)

ص: 322

[مريم 77-78] فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم أشياء كثيرة كما قال يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)[النساء 120] فيقال لمثل هذا ما ينتظر إلا العذاب لا النعيم أو ما ينتظر إلا الحق والعدل أو ما ينتظر إلا الجزاء على الأعمال ونحو ذلك والآية جاءت بصيغة النوع الثاني دون الأول ودلائل هذا كثيرة المثال الثالث قوله تأويل أحاديث الضحك واعلم أن حقيقة الضحك على الله عز وجل محال ويدل على ذلك وجوه الأول قوله تعالى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)[النجم 43] فبين أن اللائق به أن يضحك ويبكي فأما الضحك والبكاء فلا يليقان به وقال لو جاز الضحك عليه لجاز البكاء عليه ونقد

ص: 323

التزمه بعض الحمقى قال والضحك إنما يتولد من التعجب والتعجب حالة تحصل للإنسان عند الجهل بالسبب وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال إلى أن قال إذا ثبت هذا فنقول وجه التأويل فيه من وجوه أحدها أن المصدر كما يحسن إضافته إلى المفعول فكذلك يحسن إضافته إلى الفاعل فقوله ضحكت من ضحك الرب أي من الضحك الحاصل في ذاتي بسبب أن الرب خلق ذلك الضحك الثاني أن يكون المراد أنه تعالى لو كان ممن يضحك كالملوك كان هذا القول مضحكاً له ذكر هذا التأويل بعد أن ذكر لفظ الحديث الذي في

ص: 324

الصحيح وعزاه إلى شرح السنة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة من أخرجه الله تعالى بفضله من النار قال فيسمع أصوات أهل الجنة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول الله تعالى يا ابن آدم أيرضيك أن أعطيك الدنيا قال فيقول أي رب أتهزأ بي وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود وقال ألا تسألوني مما أضحك فقالوا لم تضحك فقال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ولم تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتهزأ

ص: 325

بي وأنت رب العالمين فيقول الله تعالى إني لا أستهزئ بك وأنا على ما أشاء قدير وذكر من شرح السنة حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم وه طويل قال فيه ثم قال يا رب أدخلني الجنة فيقول الله تعالى أَوَلَست قد زعمت أن لا تسألني غيره ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فلا يزال يدعو حتى ضحك فإذا ضحك الله منه أذن له بدخول الجنة

ص: 326

وفي الضحك أحاديث أخر صحيحة لم يذكرها مثل ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقتل أحدهما في سبيل الله ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد في سبيل الله

ص: 327

والمقصود أن هذا التأويل الذي ذكره مما يعلم بالضرورة من له أدنى عقل وعلم باللغة أنه باطل فإن قول المصدر كما تحسن إضافته إلى المفعول فكذلك تحسن إضافته إلى الفاعل إنما يصح في مصدر الفعل المتعدي مثل ضرب وقتل وأكل وأضحك وأبكى وأمات وأحيا فإنه يقال أكل زيد فأعجبني أكل الطعام كما تقول أعجبني إبكاء هذا الفاجر وأعجبني إضحاك هذا المؤمن أو إضحاك الله فأما ضحك ففعل لازم لا يتصور أن يضاف مصدره إلى مفعول فضحك مثل فرح وعجب وحزن وطرب فإذا قيل أعجبني ضحك زيد أو بكاؤه أو فرحه أو حزنه أو طربه أو عجبه لم يتصور أن يكون في هذا الكلام مفعول هو المضحَك المبكى والمفرَح والمحزَن وهذا واضح لا خفاء به ثم إن هذا التأويل مع ظهور فساده بالضرورة فهو متناقض في نفسه تناقضاً معلوماً بالضرورة أيضاً

ص: 328

وفيه إثبات ما يعلم بطلانه بالحس فإنه قال فقوله ضحكت من ضحك الرب أي من الضحك الحاصل في ذاتي بسبب أن الرب تعالى خلق ذلك الضحك فالكلام يقتضي ضحكين ضحكه والضحك الذي ضحك منه وجعل نفسه ضاحكاً من ضحك نفسه حيث قال ضحكت من الضحك الحاصل في ذاتي فجعل في ذاته ضحكين أحدهما ضحك والثاني مضحوك منه وهذا خلاف المحسوس ثم لو كان كذلك فمن أي وجه يكون أحدهما مضحوكاً منه دون الآخر وكلاهما خلق الله تعالى ولكن من استدل على أن الله لا يضحك بأنه أضحك وأبكى كانت تلك الحجة في رد معنى النص من جنس هذا التأويل للنص فإن طرد هذا الدليل الذي ذكره أنه إذا علم غيره وجهله لم يكن عالماً وإذا أنطق غيره وأسكته لم يكن ناطقاً وإذا أسمع غيره وأصمه لم يكن سميعاً وإذا أرى غيره وأعماه لم يكن بصيراً وإذا أحيا غيره وأماته لم يكن حيًّا وإذا أرضى غيره وأسخطه لم يكن

ص: 329

راضياً ونظائر كثيرة وكذلك نظير هذه الحجة احتجاجه بأنه إذا جاز عليه الضحك جاز عليه البكاء حيث جعل صفات الكمال مستلزمة لثبوت نقائضها من صفات النقص فيلزم إذا جاز وصفه بالعلم أن يجوز وصفه بالجهل وإذا جاز وصفه بالقدرة والسمع والبصر أن يجوز وصفه بالعجز والعمى والصمم وإذا جاز وصفه بالفرح أن يجوز وصفه بالغم والحزن وإذا جاز وصفه بالحياة أن يجوز وصفه بالموت إلى نظائر ذلك وكذلك من جنس هذا التأويل قوله لو كان ممن يضحك لكان هذا القول مضحكاً فهل يسوغ في عقل عاقل أن يكون الرسول قد أخبر غير مرة أن الله يضحك مما ذكره ويقول ضحكت من ضحك رب العالمين ومع هذا لا يكون لهذا الضحك وجود إنما هو معدوم متعذر فإن جاز أن يخبر الرسول بوجود شيء ويكون معدوماً زال الإيمان من عامة أخباره وهذا اللفظ لا يحتمل هذا بوجه من الوجوه

ص: 330

ثم إنه استدل على بطلان اتصافه بالضحك أن الضحك يستلزم التعجب والتعجب يستلزم الجهل بالسبب وقد ذكر عقب هذا وصفه بالفرح وأوله بالرضا قال ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم عجب ربكم من شاب ليست له صبوة وفي حديث آخر عجب ربكم من ثلاثة وذكرهم قال وقرئ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)[الصافات 12]

ص: 331

بضم التاء قال وذلك يدل على ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى قال واعلم أن التأويل هو أن العجب حالة تحصل عند استعظام الأمر فإذا عظم الله أمراً أو فعلاً إما في كثرة ثوابه أو في كثرة عقابه جاز إطلاق لفظ التعجب عليه فقوله في هذا الموضع التعجب حالة تحصل عند استعظام الأمر ينافي قوله قبل هذا بوجه التعجب حالة تحصل للإنسان عند الجهل بالسبب وذلك في حق عالم الغيب والشهادة محال فهل يوجد من يصف الله بالعجب ويبين أنه لا يستلزم الجهل ويمنع من وصفه بصفة

ص: 332

أخرى قال لأنها تستلزم العجب وهو ممتنع لاستلزام الجهل المثال الرابع في الحجاب قال تعالى كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)[المطففين 15] وذكر أخباراً منها ما رواه صاحب شرح السنة في باب الرد على الجهمية عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشقه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه

ص: 333

قال وروي في تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس 26] أنه تعالى يرفع الحجاب فينظرون إلى وجهه قلت وهذا الحديث في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض الله وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة

ص: 334

ومما لم يذكر من الأحاديث ما في الصحيح عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن ثم قال وحقيقة الحجاب بالنسبة إلى الله تعالى محال لأنه عبارة عن الجسم المتوسط بين جسمين آخرين بل هذا محمول عندنا على أن لا يخلق الله في العين رؤية متعلقة به وعند منكر الرؤية على أنه تعالى يمنع وصول آثار إحسانه وفضله إلى الإنسان قلت ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر النصوص فساد هذين التأويلين فإن عدم خلق الرؤية أمر عدمي محض فقوله حجابه

ص: 335

النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه كيف يتصور أن يكون هذا العدم المحض نوراً وأن ذلك النور لو كُشِفَ لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر وكيف يتصور أن يقال فيكشف الحجاب فينظرون إليه والأمر العدمي المحض هل يكشف وكيف يتصور أن يقال وما بين القوم وبين لأن ينظروا إلى ربهم إلا أمر عدمي على وجهه في جنة عدن ثم في أي لغة يوجد تسمية العدم المحض حجاباً ومعلوم أن نقيض الحجاب لا حجاب والعدم يصح وصفه بأنه ليس بحجاب فلو كان الحجاب عدميًّا لكان عدمه وجوديًّا فكلن الموجود صفة للمعدوم وهذا ممتنع بالضرورة ومما ينبغي أن يعلم أن هذا المؤسس وأمثاله كثيراً ما يدخلون في جنس التأويل الذي يدخل فيها الفلاسفة من القرامطة الباطنية ونحوهم الذين هم أعظم الناس جهلاً ونفاقاً وكانت هذه مشهورة عند غالية الرافضة ولهذا يتصل

ص: 336

هؤلاء بهم لما بين هؤلاء من الجهل والنفاق ومحادة الله ورسوله ومشاقة الله ورسوله وهم من أعظم الناس كذباً وتصديقاً للكذب فإنهم يروون من المكذوبات على الرسل وغيرهم وما الله به عليم ويتأولونها بما لا يخفى على أدنى عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة مثل ما صنع هذا المؤسس في كتاب صنفه في تفسير المعراج

ص: 337

النبوي فرواه بسياق عجيب لا يوجد في شيء من كتب

ص: 338

الأحاديث والتفسير والسير ثم فسره تفسير المشركين والصابئين من المتفلسفة ونحوهم كما صنع ذلك ابن سينا وعين القضاة الهمذاني ونحو هؤلاء

ص: 339

فجعل أنبياء الله مثل آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وموسى وإبراهيم هم الكواكب التي هي القمر والزهرة وعطارد والشمس والمريخ والمشترى وزحل إلى أمثال ذلك مما يعلم كل مسلم أن الرسول لم يقصد ذلك ولم يرده وأنه من أعظم الافتراء على الله ورسوله وهذا من جنس تأويلات الرافضة للؤلؤ والمرجان الذي في البحر بالحسن والحسين والإمام المبين والنبأ

ص: 340

العظيم بعلي بن أبي طالب والشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية وأمثال هذه الخرافات التي هي من أقبح الكذب والافتراء وأفحش القول ومن هذا تأويل الملاحدة الزنادقة المنافقين من المشركين والصابئين والمتفلسفة ونحوهم ولما أخبر الله به من أمر اليوم الآخر فلا يجعلون لذلك حقيقة غير موت الإنسان كما يقولون في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)[التكوير 1] المراد شمسه التي هي قلبه إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)[الانفطار 1] سماؤه التي هي / رأسه وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)[التكوير 2] هي حواسه وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)[التكوير 4] رجليه وإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)[الزلزلة 1] يديه وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)[التكوير 5] قواه لاسيما العصبية ودكت الجبال هي عظامه ونحو ذلك وهذا كثير في كلام هذه الملاحدة من الباطنية والقرامطة وطائفة من الاتحادية وأصحاب رسائل إخوان

ص: 341

الصفا وأصحاب السهروردي الحلبي المقتول على الزندقة ونحو هؤلاء وإن كان كثيراً مما يثبتونه أو أكثره حق فإنه كما

ص: 342

روي عن المغيرة بن شعبة أنه من مات فقد قامت قيامته والقيامة يراد بها انخرام القرن وما يثبتونه من معاد النفوس حق وما يثبتونه من حيث

ص: 343

الجملة من النعيم والعذاب الروحاني حق وما يثبتونه مما يدخل فيما أمرت به الرسل من الأخلاق الفاضلة والسياسات العادلة ونحو ذلك حق فما من أمة إلا ومعها حق ومعلوم أن الحق الذي بأيدي اليهود والنصارى أكثر من الحق الذي مع هؤلاء فإن جنس أهل الكتاب خير من جنس الصابئين كما أن جنس الصابئين خير من جنس المشركين لكن المقصود أنهم فيما كذبوا أو ارتابوا فيه من الحق الذي أخبرت به الرسل يسلكون مثل هذه التأويلات التي يعلم بالاضطرار أن الرسل لم ترد ذلك فقد سلك الرازي هذا المسلك في مناظرتهم في المعاد وقال إنا نعلم بالاضطرار أن إجماع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على إثبات المعاد البدني فوجب القطع بوجود هذا المعاد وبهذا أجاب من أخذ يورد على إثبات ذلك بظواهر الآيات والأحاديث وأظنه اتبع في ذلك أبا الحسين البصري هذا مع

ص: 344

قوله في السؤال المتشابهات من القرآن الدالة على التشبيه والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد البدني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون أيضاً تأويل الآيات الواردة هنا وهذا الذي قاله في ذلك يقوله أهل الإثبات في نصوص الصفات فإن من علم ما جاء به من ذلك في الكتاب والسنة وتدبر ذلك علم بالاضطرار وبطلان التأويل وأن الرسل وصفت الرب بما ينافي بمذهب النفاة وقد قال هو في جواب الفلاسفة لما قالوا له إن في كتاب الله تعالى آيات كثيرة دالة على التشبيه والقدر وقد تأولتموها فقال إنا لم نتمسك بظواهر الآيات والأخبار حتى يلزمنا الجواب عن هذه المعارضة بل بالأمر المعلوم بالضرورة من دين الأنبياء لم يقل أحد أنه علم دينهم

ص: 345

بظواهر التشبيه والقدر فظهر الفرق وليس الأمر كما نفاه بل عامة أهل الحديث والسنة بل والعامة يعلمون من دينهم بالضرورة إثبات الصفات والقدر أيضلً وإذا كان من هذه التأويلات مما يعلم فساده بالضرورة ما لا يحصيه إلا الله وهي أضعاف مضاعفة لما يدعي المدعي أنه لابد من تأويله فعند هذا يقول ذوو التأويل ومبطلوه قد ثبت بالدليل أن الله أنزل كتابه شفاء وهدى للناس وقال فيه هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)[آل عمران 138] وقال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)[يوسف 2] وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين كما أمر به فإن الله أخبر أن عليه البلاغ المبين وقال عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ [الجن 26-28] وقال يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 67] قالت عائشة من زعم أن محمداً كتم الوحي فقد

ص: 346

كذب وثبت أن رسولنا كان أعلم الناس بالله وبما يخبر به عن الله تعالى وكان أنصح الناس لأمته وكان أفصح الناس وأكملهم بياناً وإيضاحاً وإذا كان كذلك فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا كان بهذه الحال لم يكن الكلام الذي أنزله الله إليه فيما يخبر به عن نفسه وعن خلقه والكلام الذي يخبر به الرسول عن ربه وعن خلقه مما ظاهر باطل وضلال وإفك ولم يكن ذلك الكلام معارضاً لما هو معلوم بالمعقول ولم يكن ذلك الكلام مسلوب الدلالة والبيان ولم يكن غير مستحق لإبلاغ العباد وإفهام المراد ولا يكون المتبع لمعناه المتمسك بفحواه في

ص: 347

ضلال وفساد ولا في كذب على الرسول في المراد ولا يجوز أن يكون الرسول قد أحال المخاطبين في معرفة ما جاء به من الكتاب المبين على ما يحدثه بعض المظاهرين لمتابعته بعد انقراض الخلفاء الراشدين وذهاب خير القرون الوجه العاشر قوله قال المتكلمون لما ثبت بالدليل أن الله تعالى منزه عن الجهة والجسمية وجب علينا أن نضع لهذه الألفاظ الواردة في القرآن والأخبار محملاً صحيحاً يقال له ليس هذا قول جميع المتكلمين بل المتكلمون من أعظم الناس نزاعاً في كونه موصوفاً بالجهة والجسمية أم لا وأكثرهم من أهل الإثبات وطوائف من متقدميهم ومتأخريهم يصرحون بلفظ الجسم والجهة وغير ذلك وجمهورهم يثبتون أنه فوق العرش ومنهم طوائف يصرحون بنفى ذلك وكتب المقالات تتضمن من هذا وهذا شيئاً كثيراً مع أن أكثرها إنما صنفها نفاة الجسم ومع هذا فقد حكوا فيها من مقالات المثبتين شيئاً كثيراً فكيف يكون ما صنفه المثبتون وما زال في كل عصر من أعصار المسلمين التي يكون فيها من ينفي هذه الأشياء أن يكون فيها من يقابله من أهل الإثبات

ص: 348

وإن كان من كلام هؤلاء وهؤلاء من أهل البدع والضلال ما أنكر سلف الأمة وأئمة السنة ولكن المقصود هنا أن الطرق التي سلكوها وسموها العقليات وما يسمونه علم الكلام يتضمن من كلام المثبتة أعظم مما يتضمن من كلام النفاة وقد ذكرنا ما ذكره هذا المؤسس من جهة موافقيه مع استيعابه لذلك من جميع الجهات وما ذكره لمخالفيه مع تقصيره في ذلك ومع هذا فقد ظهر رجحان جانب منازعيه ظهوراً لا يرتاب فيه لبيب فكيف لو ذكر ما يقولونه هم بأنفسهم بغير توسط نقل خصومهم الوجه الحادي عشر أن هذه التأويلات كما اتفق على إنكارها سلف الأمة وأئمة السنة فما زال في الإسلام من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من ينكرها ويبطلها ويقرر ضدها والكتب المصنفة في ذم التأويل وإبطاله كثيرة

ص: 349

موجودة الوجه الثاني عشر أن يقال له بأي دليل ثبت ما ادعاه هؤلاء من النفي ومعلوم أنك قد استوعبت أدلتهم وقد تقدم من التنبيه على فسادها ما يوجب العلم اليقيني بإبطالها لكل من تدبر ذلك ونظر فيه الوجه الثالث عشر، يقال أي المتكلمين سلم له في هذا الباب قانون واحد لم يتناقض فيه وأيهم الذي ما قيل عنه أو ثبت عنه أنه متناقض في النفي والإثبات أعني إثبات الجسم أو بعض ملازمه ومن المعلوم أن إثبات الملزوم بدون اللازم أو نفي اللازم بدون الملزوم متناقض ممتنع وما من

ص: 350

هؤلاء إلا من يلزم بهذا التناقض فهؤلاء أوسط المتكلمين وهم المتكلمة الصفاتية الموافقون لأهل السنة والجماعة في الأصول الكبار من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن دخل في شيء

ص: 351

من ذلك من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وأهل الحديث والصوفية يقول عنهم نظراؤهم وأشكالهم أنهم متناقضون كما يقول ذلك مخالفوهم من المعتزلة والرافضة والجهمية المحضة وغيرهم وأما تناقض هؤلاء وتهافتهم فأضعاف ذلك دع تناقض المتفلسفة وتهافتهم فإن ذلك لا يحصيه إلا الله فمتأخرو الأشعرية يقولون إن قدماءهم متناقضون في قولهم إن الله تعالى فوق العرش مع نفي كونه جسماً ويقولون إنهم متناقضون في إثبات الصفات الخبرية مع نفي الجسم أيضاً ومتقدموهم مع سائر الطوائف من النفاة يقولون إن ما يقوله متأخروهم إن من أقر بالرؤية ونفى أن يكون فوق

ص: 352

العرش فهم متناقض ويقول عامة الناس إن الإقرار برؤية مرئي لا يواجه البصر متناقض ويقول طوائف من المثبتة والنفاة إن الإقرار بوجود جسم فوق العالم ليس بممتد في الجهات كما يقوله من يقوله من الكرامية وموافقيهم متناقض ويقول طوائف من النفاة والمثبتة إن الإقرار بذي علم وقدرة وسمع وبصر وإرادة لا يكون بقائم بنفسه متميزاً عن غيره بالجهة متناقض معلوم الفساد بالضرورة ويقول طوائف من النفاة والمثبتة بل جمهور الخلق إن الإقرار بمن هو عالم سميع بصير قدير لا يكون قائماً بنفسه متميزاً بالجهة عن غيره متناقض ممتنع ويقول هؤلاء وأكثر منهم إن الإقرار بموجود قائم بنفسه مباين له وليس في جهة متناقض ممتنع ويقول جماهير بني آدم إن الإقرار بحي عالم قادر سميع بصير لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر متناقض متهافت

ص: 353

ويقول عامة بني آدم إن الإقرار بموجود واجب بنفسه موجود في الخارج يكون موجوداً مطلقاً محضاً مجرداً عن المعينات والمخصصات من أظهر الأمور فساداً في بديهة العقل لمن فهم ذلك وأمثال هذا كثيرة لا يحصيها إلا الله تعالى

ص: 354

فصل قال الرازي الفصل الأول في إثبات الصورة اعلم أن هذه اللفظة ما وردت في القرآن لكنها واردة في الأخبار فالخبر الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله خلق آدم على صورته

ص: 355

وروى ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم لعبده قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته والجواب اعلم أن الهاء في قوله صلى الله عليه وسلم على صورته يحتمل أن تكون عائدة على شيء غير صورة آدم وير الله تعالى ويحتمل أن يكون عائدًا إلى آدم عليه السلام

ص: 357

ويحتمل أن يكون عائدًا إلى الله تعالى فهذه طرق ثلاثة الطريق الأول أن يكون هذا الضمير عائداً إلى غير آدم وإلى غير الله تعالى وعلى هذا التقدير ففي تأويل الخبر وجهان الأول هو أن من قال للإنسان قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فهذا يكون شتماً لآدم عليه السلام فإنه لما كان صورة الإنسان مساوية لصورة آدم كان قوله قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك شتماً لآدم عليه السلام ولجميع الأنبياء عليهم السلام وذلك غير جائز فلا جرم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وإنما خص آدم بالذكر لأنه عليه السلام هو الذي ابتدئت خلقته على هذه الصورة الثاني أن المراد منه إبطال قول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى مثل ما يقال إنه كان عظيم الجثة طويل القامة بحيث يكون رأسه قريباً من السماء فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى

ص: 358

إنسان معين وقال إن الله تعالى خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت ألبتة فأبطل بهذا البيان وَهْمَ من توَّهم أن آدم عليه السلام كان على صورة أخرى غير هذه الصورة الطريق الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى آدم عليه السلام وهذا أولى الوجوه الثلاثة لأن عود الضمير إلى أقرب مذكور واجب وفي هذا الحديث أقرب الأشياء المذكورة هو آدم عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى ثم على هذا الطريق ففي تأويل الخبر وجوه الأول أنه تعالى لما عظم أمر آدم فجعله مسجود الملائكة ثم إنه أتى بتلك الزلة فالله تعالى لم يعاقبه

ص: 359

بمثل ما عاقب به غيره فإنه نقل أن الله تعالى أخرجه من الجنة وأخرج معه الحية والطاووس وغيَّر تعالى خلقهما مع، هـ لم يغير خلقة آدم عليه السلام بل تركه على الخلقة الأولى إكراماً له وصوناً له من عذاب المسخ فقوله صلى الله عليه وسلم عن الله خلق آدم على صورته معناه خلق آدم على هذه الصورة التي هي الآن باقية من غير وقوع التبديل فيها والفرق بين هذا الجواب وبين الذي قبله أن المقصود من هذا بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان مصوناً عن المسخ والجواب الأول ليس فيه إلا بيان أن هذه الصورة الموجودة ليس هي إلا التي كانت موجودة قبل من غير تعرض لبيان أنه

ص: 360

جعله مصوناً عن المسخ بسبب زلته من أن غيره صار ممسوخاً الثاني أن المراد منه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا بواسطة النطفة ودم الطمث فقال صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة وعلقة ومضغة الثالث أن الإنسان لا يكون إلا في مدة طويلة وزمان مديد وبواسطة الأفلاك والعناصر فقال صلى الله عليه وسلم إن الله خلق

ص: 361

آدم على صورته أي من غير هذه الوسائط والمقصود منه الرد على الفلاسفة الرابع المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله تعالى وإيجاده لا بتخليق القوة المصورة والمولدة على ما يذكره الأطباء والفلاسفة ولهذا قال الله تعالى هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ [الحشر 24] فهو الخالق أي هو العالم بأحوال الممكنات والمحدثات والبارئ هو المحدث للأجسام والذوات يعد عدمها والمصور أي هو الذي ركَّب تلك الذوات على صورها المخصوصة وتركيباتها المخصوصة الخامس قد تذكر الصورة ويراد بها الصفة يقال شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة والمراد من الصورة في كل هذه المواضع الصفة فقوله إن الله خلق آدم على صورته أي على جملة صفاته وأحواله و

ذلك لأن الإنسان حين يحدث يكون في غاية الجهل والعجز ثم لا يزال

ص: 362

يزداد علمه وقدرته إلى أن يصل إلى حد الكمال فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق من أول الأمر كاملاً تامًّا في علمه وقدرته وقوله خلق الله آدم على صورته معناه أنه خلقه في أول الأمر على صفته التي كانت حاصلة له في آخر الأمر وأيضاً فلا يبعد أن يدخل في لفظ الصورة كونه سعيداً أو شقيًّا كما قال صلى الله عليه وسلم السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه فقوله صلى الله عليه وسلم

ص: 363

إن الله خلق آدم على صورته أي على جميع صفاته من كونه سعيداً أو عارفاً أو تائباً أو مقبولاً من عند الله تعالى الطريق الثالث أن يكون ذلك الضمير عائداً إلى الله تعالى وفيه وجوه الأول المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أنه آدم عليه السلام امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه فصح قوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته بناء على هذا التأويل فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية قلنا المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المساواة في الإلهية ولهذا المعنى قال الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم 27] وقال صلى الله عليه وسلم تخلقوا بأخلاق الله

ص: 364

الثاني أنه كما يصح إضافة الصفة إلى الموصوف فقد يصح إضافتها إلى الخالق والموجد فيكون الغرض من هذه الإضافة الدلالة على أن هذه الصورة ممتازة عن سائر الصور بمزيد من الكرامة والجلالة الثالث قال الشيخ الغزالي ليس الإنسان عبارة عن هذه البنية بل هو موجود ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير والتصرف

ص: 365

فقوله صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم على صورته أي نسبة ذات آدم عليه السلام إلى هذا البدن كنسبة الباري تعالى إلى العالم من حيث أن كل واحد منهما غير حال هذا الجسم وإن كان مؤثراً فيه بالتصرف والتدبير قال الخبر الثاني ما رواه ابن خزيمة في كتابه الذي سماه التوحيد بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال

ص: 366

لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن

ص: 367

قال واعلم أن ابن خزيمة ضعَّف هذه الرواية ويقول إن صحت هذه الراوية فلها تأويلان الأول أن يكون المراد من الصورة الصفة على ما بيناه الثاني أن يكون المراد من هذه الإضافة بيانُ شرف هذه الصورة كما في قوله بيت الله وناقة الله قلت هذا الحديث أخرجوه في الصحيحين من وجوه ففي الصحيحين عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً ثم قال اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاسمع ما يحيون كبه فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة

ص: 368

على صورة آدم قال في رواية يحيى بن جعفر ومحمد ابن رافع على صورته

ص: 369

وروى البخاري من حديث أبي سعيد المقبري وهمام أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ورواه مسلم من حديث المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن

ص: 370

الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ومن حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد بهذا الإسناد وقال إذا ضرب أحدكم ومن حديث سهيل بن أبي صالح عن

ص: 371

أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ومن حديث أبي أيوب يحيى بن مالك المراغي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قاتل أحدكم أخاه فلا يلطمن الوجه وفي رواية محمد بن حاتم فيه قال إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله

ص: 372

خلق آدم على صورته وليس ليحيى بن مالك عن أبي هريرة في الصحيحين غيره والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك وهو أيضاً مذكور فيما عند أهل الكتابين من الكتب

ص: 373

كالتوراة وغيرها ولكن كان من العلماء في القرن الثالث من يكره روايته ويروي بعضه كما يكره رواية لعض الأحاديث لمن يخاف أن نفسه ويفسد عقله أو دينه كما قال عبد الله بن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وفي البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وإن كان مع ذلك لا يرون كتمان ما جاء به الرسول مطلقاً بل لابد أن يبلغوه حيث يصلح ذلك ولهذا اتفقت

ص: 374

الأمة على تبليغه وتصديقه وإنما دخلت الشبهة في الحديث لتفريق ألفاظه فإن من ألفاظه المشهورة إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وهذا فيه حكم عملي يحتاج إليه الفقهاء وفيه الجملة الثانية الخبرية المتعلقة بلا وكثير من الفقهاء روى الجملة الأولى فقط وهي قوله فإذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه ولم يذكر الثانية وعامة أهل الأصول والكلام إنما يروون الجملة الثانية وهي قوله خلق الله آدم على صورته ولا يذكرون الجملة الطلبية

ص: 375

فصار الحديث متواتراً بين الطائفتين وصاروا متفقين على تصديقه لكن مع تفريق بعضه عن بعض وإن كان محفوظاً عند آخرين من علماء الحديث وغيرهم وقد ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء في إخباره بخلق آدم في ضمن حديث طويل إذا ذكر على وجهه زال كثير من الأمور المحتملة ولكن ظهر لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائداً إلى غير الله تعالى حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور

ص: 376

وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم ولذلك لأنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة وذلك مثل ما ذكره أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد فإنه ذكر الاحتمالات الثلاثة ذكر عود الضمير إلى المضروب وذكر عوده إلى آدم وتأول عوده إلى الله على إضافة الخلق فقال باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم تأولها بعض من لم يتبحر العلم على غير تأويلها ففتن عالماً من أهل الجهل والعناد حملهم الجهل بمعنى الخبر على القول بالتشبيه جل وعز عن أن يكون وجه خلق من خلقه مثل

ص: 377

وجهه الذي وصفه بالجلال والإكرام ونفى الهلاك عنه حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال حدثنا شعيب يعني ابن الليث حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن

ص: 378

سعيد بن لأبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقولن أحدكم لأحد قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن

ص: 379

سعيد عن ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وحدثنا بندار حدثنا يحيى بن سعيد حدثني ابن عجلان قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه ولا يقل قبح الله وجهك بمثل حديث أبي

ص: 380

موسى حدثنا أبو موسى قال حدثنا يحيى عن أبي عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه قال أبو بكر بن خزيمة ليس في خبر ابن عجلان أكثر من هذا ومعنى هذا أن يحيى بن سعيد القطان الإمام رواه عن ابن عجلان عن المقبري كما رواه الليث وغيره ورواه أيضاً عنه عن أبيه عن أبي هريرة لكن يذكر إحدى الجملتين فقط وكان عند ابن عجلان الحديث عن المقبري وعن أبيه وقد رواه البخاري في صحيحه من طريق

ص: 381

مالك عنه مختصراً فقال البخاري باب إذا ضرب العبد فليتجنب الوجه حدثنا محمد بن عبيد الله قال حدثنا ابن وهب حدثني مالك بن أنس قال وأخبرني ابن فلان عن

ص: 382

سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري وحدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه

ص: 383

وقد روى البخاري ومسلم الحديث في خلق آدم بطوله ثم قال ابن خزيمة توهم بعض من لم يتبحر العلم أن قوله على صورته يريد صورة الرحمن عز وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر بل معنى قوله خلق آدم على صورته الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم أراد أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب والذي قبح وجهه فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول ووجه من أشبه وجهك لأن وجه آدم شبيه وجوه بنيه فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك كان مقيحاً وجه آدم صلوات الله عليه الذي وجوه بنية شبيهة بوجه أبيهم فتفهموا رحمكم الله معنى الخبر لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل وتحملوا على القول بالتشبيه

ص: 384

الذي هو ضلال قال وقد رويت في نحو هذا لفظة أغمض من اللفظة التي ذكرناها في خبر أبي هريرة وهو ما حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن الأعمش عن

ص: 385

حبيب بن أبي ثابت عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن قال وروى الثوري هذا الخبر مرسلاً غير مسند حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدى

ص: 386

قال حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبح الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن قال أبو بكر وقد افتتن بهذه اللفظة التي في خبر عطاء عالم ممن لم يتبحر العلم وتوهموا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر من إضافة صفات الذات فغلطوا في ذلك غلطاً بيناً وقالوا مقالة شنيعة مضاهية لقول المشبهة أعاذنا الله وكل المسلمين من قولهم قال والذي عندي في تأويل هذا الخبر إن صح من

ص: 387

جهة النقل موصولاً فإن للخبر عللاً ثلاثاً إحداهن أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر والثانية أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب ابن أبي ثابت والثالثة أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول حدثنا أبو بكر بن عياش عن

ص: 388

الأعمش قال قال حبيب بن أبي ثابت لو حدثني رجل عنك بحديث لم أبال أن أرويه عنك يريد لم أبال أن أدلسه قال أبو بكر ومثل هذا الخبر لا يكاد يحتج به علماؤنا من أهل الأثر لاسيما إذا كان الخبر في مثل هذا الجنس فيما يوجب العلم لو ثبت لا فيما يوجب العمل لما قد يستدل على صحته وثبوته بدلائل من نظر وتشبيه وتمثيل معين من سنن

ص: 389

النبي صلى الله عليه وسلم قال فإن صح هذا الخبر مسنداً بأن يكون الأعمش قد سمعه من حبيب بن أبي ثابت قد سمعه من عطاء بن أبي رباح وصح أنه عن ابن عمر على ما رواه الأعمش فمعنى هذا الخبر عندنا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر إنما هو من إضافة الخلق إليه لأن الخلق يضاف إلى الرحمن إذ الله خلقه وكذلك الصورة تضاف إلى الرحمن لأن الله صورها ألم تسمع قوله عز وجل هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان 11] فأضاف الله الخلق إلى نفسه إذ الله تولى خلقه وكذلك قوله تعالى هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فأضاف الله الناقة إلى نفسه وقال تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وقال أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً

ص: 390

فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء 97] وقال إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف 128] فأضاف الأرض إلى نفسه إذ الله تولى خلقها وبسطها وقال فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم 30] فما أضاف الله على نفسه على معنيين أحدهما إضافة الذات والآخر إضافة الخلق فتفهموا هذين المعنيين لا تغالطوا قال فمعنى الخبر إن صح من طريق النقل مسنداً فإن ابن آدم خلق على الصورة التي خلقها الرحمن حين صور آدم ثم نفخ فيه الروح قال الله جل وعلا وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف 11] والدليل على صحة هذا التأويل أن أبا موسى محمد بن المثنى حدثنا قال حدثنا أبو عامر عبد الملك بن

ص: 391

عمرو قال حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن

ص: 392

أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما أنبأنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث كثيرة وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك

ص: 393

فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن قال أبو بكر فصورة آدم هي ستون ذراعاً التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم خلق عليها لا على ما توهم بعض من لم يتبحر العلم فظن أن قوله على صورته على صورة الرحمن صفة من صفات ذاته عز وجل عن أن يوصف بالذرعان والأشبار قد نزه الله

ص: 394

نفسه وتقدس عن صفات المخلوقين وقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى 11] وهو كما وصف نفسه في كتابه على لسان نبيه لا كصفات المخلوقين من الحيوان ولا من الموتان كما شبه الجهمية معبودهم بالموتان لا ولا كما شبه الغالية من الرافضة معبودهم ببني آدم قبح الله هذين القولين وقائلهما حدثنا أحمد بن منيع

ص: 395

ومحمود بن خداش قالا حدثنا أبو سعد الصاغاني قال حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن

ص: 396

أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)[الإخلاص 1-4] قال ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء وقال ابن خداش في حديثه فالصمد الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شيء يولد

ص: 397

إلا سيموت وليس شيء يموت إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث والباقي مثل لفظ ابن منيع هذا مجموع ما ذكره ابن خزيمة قال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن

ص: 398

الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول ذكر فيه الأئمة الاثنى عشر المتبوعين في العلم وهم الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل والبخاري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن

ص: 399

سعد وإسحاق بن راهوية وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان

ص: 400

وقد ذكر في ترجمة سفيان بن سعيد الثوري أنه سئل عن قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] قال علمه ثم ذكر في أثناء الترجمة فإن قيل فقد منعتم من التأويل وعددتموه من الأباطيل فما قولكم في تأويل السلف وما وجهه نحو ما يروى عن ابن عباس في معنى اسْتَوَى أي استقر وما رويتم عن سفيان في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ قال علمه الجواب قلنا لعلتين لا ثالث لهما على أن الجواب عن السؤال أن يقال إن كان السلف صحابيًّا فتأويله مقبول

ص: 401

متبع لأنه شاهد الوحي والتنزيل وعرف التفسير والتأويل وابن عباس من علماء الصحابة وكانوا يرجعون إليه في علم التأويل وكان يقول أنا من الراسخين في العلم إذ كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ظهراني الأئمة الأربعة وسائر المشايخ من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يدأب ليلاً ونهاراً في البحث والتسآل عن النساء والرجال الذين عرفوا تأويل ما لم يعرفه في صغره وشاهدوا تنزيل ما لم يشاهده في حاله من كبره وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعرفة التأويل وكان رديفاً له فقال اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين

ص: 402

وكان لعمر مجلسان في كل يوم مجلس لكبار الصحابة ومشايخهم ومجلس لشبانهم وكان يأمر ابن عباس أن يحضر مع كبار الصحابة مجلسه فكانت إذا ألقيت عليهم مسألة يجيبون فيها قال لابن عباس غص يا غواص دس يا دواس إذا أجاب ابن عباس بجواب صوبه وقرره وإذا تقرر أن تأويل الصحابة مقبول فتأويل ابن عباس أولى بالاتباع والقبول فإنه البحر العباب وبالتأويل أعلم الأصحاب فإذا صح عنه تأويل الاستواء بالاستقرار وضعنا له الحد بالإيمان والتصديق وعرفنا من الاستقرار ما عرفناه من الاستواء وقلنا إنه ليس باستقرار يتعقب تعباً واضطراباً بل هو كيف شاء وكما يشاء والكيف فيه مجهول والإيمان به

ص: 403

واجب كما نقول في الاستواء سواء فأما إذا لم يكن السلف صحابيًّا نظرنا في تأويله فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون من نقله الحديث والسنة ووافقه الثقاة الأثبات تابعناه وقبلناه ووافقناه فإنه وإن لم يكن إجماعاً حقيقة إلا أن فيه مشابهة الإجماع إذ هو سبيل المؤمنين وتوافق المتفقين الذين لا يجتمعون على الضلالة ولأن الأئمة لو لم يعلموا أن ذلك عن الرسول والصحابة لم يتابعوه عليه فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف غير مجهول نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن خزيمة تأويل الحديث خلق الله آدم على صورته فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل ولم يتابعه عليه من قبله من أهل الحديث لما روينا عن أحمد رحمه الله تعالى ولم يتابعه أيضاً من بعده حتى رأيت في كتاب الفقهاء

ص: 404

للعبادي الفقيه أنه ذكر الفقهاء وذكر عن كل واحد منهم مسألة تفرد بها فذكر الإمام ابن خزيمة وأنه تفرد بتأويل هذا الحديث خلق الله آدم على صورته على أني سمعت عدة من المشايخ رووا أن ذلك التأويل مزور مربوط على ابن خزيمة وإفك افتُرى عليه فهذا وأمثال ذلك من التأويل لا نقيله ولا يُلتفت إليه بل نوافق ونتابع ما اتفق الجمهور عليه

ص: 405

وكذلك في تأويل الشيخ أبي أحمد محمد بن علي الفقيه الكرجي الإمام المعروف بالقصاب للآيات والأخبار الواردة في إحساس الميت بالعذاب وإطنابه في كتابه المعروف بـ نكت القرآن وذهابه إلى أن الميت بعد السؤال لا يحس طول لبثه في البرزخ ولا بالعذاب فنقول هذا تأويل تفرد به ولم يتابعه الأئمة عليه والقول ما ذهب إليه الجمهور وتفرده بالمسائل لا يؤثر ولا يقدح في درجاتهم وعذر كل من تفرد بمسألة من أئمتنا من عصر الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا أن يقال لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوة ولكل جواد كبوة وكذلك عذر كل إمام ينفرد بمسألة على ممر الأعصار والدهور غير أن المشهور ما ذهب إليه الجمهور

ص: 406

وأما قول سفيان في قوله تعالى وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد 4] وقوله إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة 7] أنه علمه وكذلك قوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)[ق 16] أنه علمه فاعلم أن هذا في الحقيقة ليس بتأويل بل هو المفهوم من خطاب الأعلى مع الأدنى فإن في وضع اللغة إذا صدر مثل هذه اللفظة من السادة مع العبيد لا يفهم إلا التقريب والهداية والإعانة والرعاية كما قال تعالى لموسى وهارون اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)[طه 43-44] فقال موسى لهارون رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)[طه 45] فقال لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)[طه 46] ومعلوم أن هذا الخطاب لا يفهم منه إلا الإعانة والرعاية والهداية كما قال صلى الله عليه وسلم لسعد إرم وأنا معك

ص: 407

نعم إذا صدر الخطاب من الأدنى مع الأعلى نحو العبد إذا قال لسيده إني معك يُفهم الصحبة والخدمة ولا يفهم الإعانة والرعاية قال ثم إن قلنا إن قول سفيان في الآية تأويل فهو تأويل يروى عن ابن عباس وتأويل الصحابة مقبول لما ذكرناه وإن كان تأويل سفيان إلا أنه تابعه عليه الأئمة على ما رويناه عن مالك وسفيان بن عيينة وكذلك عن الشافعي وأحمد وغيرهم فإن قولهم إن الله على عرشه بائن من

ص: 408

خلقه وعلمه محيط بكل مكان موافقة منهم لما قاله سفيان وقد ذكرنا أن التأويل إذا تابع عليه الأئمة فهو مقبول فإن قيل فهلا جوزتم التأويل على الإطلاق اعتباراً بتأويل السلف قلنا معاذ الله أن يجوز ذلك إذ ليس الأصول تتلقى من الرأي حتى يقاس عليه ويقال لما جاز للسلف التأويل جاز للخلف فإنا قد بينا أن تأويل السلف إن صدر من الصحابة فهو مقبول لأنهم سمعوه من الرسول وإن صدر من غيرهم وتابعهم عليه الأئمة قبلناه وإن تفرد نبذناه وأعرضنا عنه إعراضنا عن تأويل الخلف قلت فقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام الملقب بقوام السنة أبي القاسم إسماعيل

ص: 409

ابن محمد التيمي صاحب كتاب الترغيب والترهيب قال سمعته يقول أخطأ محمد بن خزيمة في حديث

ص: 410

الصورة ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب قال أبو موسى أشار بذلك أنه قل من إمام وإلا وله زلة فإذا تثرك ذلك الإمام لأجل زلته ترك كثير من الأئمة وهذا لا ينبغي أن يفعل قال وقد كان في شدة تمسكه بالسنة وتعظيمه للحديث وتحرزه من العدول عنه ما تكلم فيه من حديث نعيم بن حماد الذي رواه بإسناده في النزول

ص: 411

بالذات وكان من اعتقاد الإمام إسماعيل أن نزول الله بالذات وهو مشهور من مذهبه قد كتبه في فتاوى عدة وأملى فيه أمالي جمة إلا أنه كان يقول هذا الإسناد الذي رواه نعيم إسناد مدخول وفيه مقال وعلى بعض رواته مطعن لا تقوم به الحجة ولا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كنا نعتقد ذلك إلا بعد أن يرد بإسناد صحيح

ص: 412

قال وسألت الإمام أبا القاسم إسماعيل بن محمد يوماً وقلت له أليس قد روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله اسْتَوَى قعد قال نعم قلت له يقول إسحاق بن راهوية إنما يوصف بالقعود من يمثل القيام فقال لا أدري أيش يقول إسحاق قال وهذا من تمسكه بالسنة وتركه الالتفات مع ثبوت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة إلى غير ذلك وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة ما ذكره إسحاق بن منصور الكوسج في مسائله

ص: 413

المشهورة عن أحمد وإسحاق أنه قال لأحمد لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته أليس تقول بهذه الأحاديث قال أحمد صحيح وقال إسحاق صحيح ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي وذكر أيضاً عن يعقوب ابن بختان أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته فقال لا تفسره ما لنا أن نفسره كما جاء الحديث

ص: 414

قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال الأعمش يقول عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر قال وقد رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على صورته فنقول كما جاء في الحديث قال وسمعت أبا عبد الله يقول لقد سمعت الحميدي يحضره سفيان بن

ص: 415

عيينة فذكر هذا الحديث خلق الله آدم على صورته فقال من لا يقول بهذا فهو كذا وكذا يعني من الشتم وسفيان ساكت لا يرد عليه شيئاً قال المروذي أظن، ي ذكرت لأبي عبد الله عن بعض المحدثين بالبصرة أنه قال قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال صورة الطين قال هذا جهمي وقال نسلم الخبر كما جاء وروى الخلال عن أبي طالب من وجهين قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل أن

ص: 416

يخلقه قال الخلال وأخبرنا أبو بكر المروذي قال سمعت أبا عبد الله قيل له أي شيء أنكر على بشر بن السري وأي شيء كانت قصته بمكة قال تكلم بشيء من كلام الجهمية فقال إن قوماً يجدون قيل له التشبيه فأومأ برأسه نعم فقال فقام به مؤمل حتى جلس فتكلم ابن

ص: 417

عيينة في أمره حتى أخرج وأراه كان صاحب كلام وقال الخلال أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني قال سمعت إسحاق بن راهوية يقول قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم على صورة الرحمن إنما عليه أن ينطق بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نطق به

ص: 418

قال إسحاق حدثنا جرير عن الأعمش عن حبيب ابن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن فقد صحح إسحاق حديث ابن عمر مسنداً خلاف ما ذكره ابن خزيمة قال الخلال أنا يعقوب بن سفيان الفارسي قال حدثنا محمد بن حميد حدثنا الفرات

ص: 419

ابن خالد عن سفيان الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق آدم على صورته وقال الخلال أن علي بن حرب الطائي حدثنا زيد ابن أبي الزرقاء عن ابن

ص: 420

لهيعة عن أبي يونس والأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن عز وجل

ص: 421

وما كان من العلم الموروث عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلنا أن نستشهد عليه بما عند أهل الكتاب كما قال تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)[الرعد 43] وقال تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)[يونس 94-95] وقال تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف 10] وقال تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)[الشعراء 196-197] وقال تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)[الأنعام 114] وقال تعالى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)[الأنعام 20] وقال تعالى وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ [الرعد 36] وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره تميم

ص: 422

بخبر الدجال والجساسة فرح بذلك وقال حدثني حديثاً يوافق ما كنت حدثتكموه إذا عرف ذلك فيقال أما عود الضمير إلى غير الله فهذا باطل من وجوه أحدها أن في الصحيحين ابتداء إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً وفي أحاديث أخر إن الله خلق آدم على صورته ولم يتقدم ذكر أحد يعود الضمير إليه

ص: 423

وما ذكر بعضهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يضرب رجلاً ويقول قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فقال خلق الله آدم على صورته أي على صورة هذا المضروب فهذا شيء لا أصل له ولا يعرف في شيء من كتب الحديث الثاني أن الحديث الآخر لفظه إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وليس في هذا ذكر أحد يعود الضمير إليه الثالث أن اللفظ الذي ذكره ابن خزيمة وتأويله وهو قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهًا أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته ليس فيه ذكر أحد يصلح عود الضمير إليه وقوله في التأويل أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب والذي

ص: 424

قبح وجهه فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول ووجه من أسبه وجهك يقال له لم يتقدم ذكر مضروب فيما رويته عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في لفظه ذكر ذلك بل قال إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولم يقل إذا قاتل أحدكم أحدًا وإذا ضرب أحدًا والحديث الآخر ذكرته من رواية الليث بن سعد ولفظه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجهًا أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته وليس في هذا ذكر مر حتى يصلح عود الضمير إليه فإن قيل قد يعود الضمير إلى ما دل عليه الكلام وإن لم يكن مذكورًا كما في قوله تعالى وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران 180] أي البخل لأن لفظ يبخلون يدل على المصدر الذي هو البخل ومنه قول الشاعر

ص: 425

إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف أي إلى السفه قيل هذا إنما يكون فيما لا لبس فيه حيث لم يتقدم ما يصلح لعود الضمير إليه إلَاّ ما دل عليه الخطاب فيكون العلم بأنه لابد للظاهر من مضمر يدل على ذلك أما إذا تقدم اسم صريح قريب إلى الضمير فلا يصلح أن يترك عوده إليه ويعود إلى شيء متقدم لا ذكر له في الخطاب وهذا مما يعلم بالضرورة فساده في اللغات الرابع أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد لاسيما وقوله وإذا قاتل أحدكم وإذا ضرب أحدكم عام في كل مضروب والله خلق آدم على صورهم جميعهم فلا معنى لإفراد الضمير وكذلك قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك عام في كل مخاطب والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم

ص: 426

الخامس أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم لم يخلق آدم على صورهم فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده لا يقال إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود كما يقال خلق الخلق على غير مثال أو نسج هذا على مثال هذا ونحو ذلك فإنه في جميع هذا إنما يكون المصنوع المقيس متأخرًا في الذكر عن المقيس عليه وإذا قيل خلق الولد على صورة أبيه أو على خلق أبيه كان كلامًا سديدًا وإذا قيل خلق الوالد على صورة ولده أو على خلقه كان كلامًا فاسدًا بخلاف ما إذا ذكر التشبيه بغير لفظ الخلق وما يقوم مقامه مثل أن يقال الوالد يشبه ولده فإن هذا سائغ لأن قوله خلق

ص: 427

إخبار عن تكوينه وإبداعه على مثال غيره ومن الممتنع أن الأول كون على مثال ما لم يكن بعد وإنما يكون على مثال ما قد كان السادس أنه إذا كان المقصود أن هذا المضروب والمشتوم يشبه آدم فمن المعلوم أن هذا من الأمور الظاهرة المعلومة للخاص والعام فلو أريد التعليل بذلك لقيل فإن هذا يدخل فيه الأنبياء أو فإن هذا يدخل فيه آدم ونحو ذلك من العبارات التي تبين قبح كلامه وهو اشتمال لفظه على ما يعلم هو وجوده أما مجرد إخباره بما يعلم وجوده كل أحد فلا يستعمل في مثل هذا الخطاب السابع أنه إذا أريد جرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا فإن هذه العبارة إنما تستعمل فيما فعل على مثال غيره بل يقال فإن وجهه يشبه وجه آدم أو فإن صورته تشبه صورة آدم الثامن أن يقال هب أن هذه العلة تصلح لقوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فكيف

ص: 428

يصلح لقوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه ومعلوم أن كون صورته تشبه صورة آدم لا توجب سقوط العقوبة عنه فإن الإنسان لو كان يشبه نبيًّا من الأنبياء أعظم من مشابهة الذرية لأبيهم في مطلق الصورة والوجه ثم وجبت على ذلك الشبيه بالنبي عقوبة لم تسقط عقوبته بهذا الشبه باتفاق المسلمين فكيف يجوز تعليل تحريم العقوبة بمجرد المشابهة المطلقة لآدم التاسع أن في ذرية آدم من هو أفضل من آدم وتناول الفظ لجميعهم واحد فلو كان المقصود بالخطاب ليس ما يختص به آدم من ابتداء خلقه على صورة بل المفصود مجرد مشابهة المضروب المشتوم له لكان ذكر سائر الأنبياء والمرسلين بالعموم هو الوجه وكان تخصيص غير آدم بالذكر أولى كإبراهيم وموسى وعيسى وإن كان آدم أبوهم فليس هذا المقام مقاماً له به اختصاص على زعم هؤلاء العاشر وهو قاطع أيضاً أن يقال كون الوجه يشبه وجه

ص: 429

آدم هو مثل كون سائر الأعضاء تشبه أعضاء آدم فإن رأس الإنسان يشبه رأس آدم ويده تشبه يده ورجله تشبه رجله وبطنه وظهره وفخذه وساقه يشبه بطن آدم وظهره وفخذه وساقه فليس للوجه بمشابهة آدم اختصاص بل جميع أعضاء البدن بمنزلته في ذلك فلو صلح أن يكون هذا علة لمنع الضرب لوجب أن لا يجوز ضرب شيء من أعضاء بني آدم لأن ذلك جميعه على صورة أبيهم آدم وفي إجماع المسلمين على وجوب ضرب هذه الأعضاء في الجهاد للكفار والمنافقين وإقامة الحدود مع كونها مشابهة لأعضاء آدم وسائر النبيين دليلٌ على أنه لا يجوز المنع من ضرب الوجه ولا غيره لأجل هذه المشابهة الوجه الحادي عشر أنه لو كان علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهي أيضلً عن الشتم والتقبيح لسائر الأعضاء لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك الوجه الثاني عشر أن ما ذكره من تأويل ذلك فإنه إبطال لقول من يقول إن آدم كان على صورة أخرى مثل ما يقال إنه

ص: 430

كان عظيم الجثة طويل القامة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إنسان معين وقال إن الله خلق آدم على صورته أي كان شكل آدم مثل شكل هذا الإنسان من غير تفاوت البتة يقال لهم الحديث المتفق عليه في الصحيحين مناقض لهذا التأويل مصرح فيه بأن خلق آدم أعظم من صور بنيه بشيء كثير و، هـ لم يكن على شكل أحد من أبناء الزمان كما في الصحيحين عن همام بن منيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق اله آدم على صورته وطوله ستون ذراعاً ثم قال اذهب فسلم على أولئك الملائكة فاسمه ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالو السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم قال فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن قال في رواية يحيى بن جعفر ومحمد بن رافع على صورته فهذا الحديث الذي هو أشهر الأحاديث التي فيها أن الله خلق

ص: 431

آدم على صورته ذكر فيه أن طوله ستين ذراعاً وأن الخلق لم يزل ينقص حتى الآن وأن أهل الجنة يدخلون على صورة آدم ولم يقل إن آدم على صورتهم بل قال هم على صورة آدم وقد روي أن عرض أحدهم سبعة أذرع فهل في تبديل كلام الله ورسوله أبلغ من هذا أن يجعل ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به وأوجب التصديق به قد نفاه وأبطله وأوجب تكذيبه وإبطاله الوجه الثالث عشر أنه قد روي من غير وجه على صورة الرحمن

ص: 432

فصل وأما قول من قال الضمير عائد إلى آدم كما ذكر ذلك للإمام أحمد عن بعض محدثي البصرة ويذكر ذلك عن أبي ثور فهو كما قال الإمام أحمد هذا تأويل الجهمية وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه وقد زعم المؤسس أنه أولى الوجوه الثلاثة وليس كما ذكره بل هو أفسد الوجوه الثلاثة ولهذا لم يعدل إليه ابن خزيمة إلا عند الضرورة لرواية من روى على صورة

ص: 433

الرحمن ولقوله ابتداء إن الله خلق آدم على صورته فأما حيث ظن أن التأويل الأول ممكن فلم يقل هذا وبيان فساده من وجوه أحدها أنه إذا قيل إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة آدم أو لا تقبحوا الوجه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورة آدم كان هذا من أفسد الكلام فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم فأي تفسير فسر ليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث فروي قوله إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه مفرداً وروي قوله

ص: 434

الله خلق آدم على صورته مفرداً أما مع أداء الحديث على وجهه فإن عود الضمير إلى آدم يمتنع فيه وذلك أن خلق آدم على صورة آدم سواء كان فيه تشريف لآدم أو كان فيه إخبار مجرد بالواقع فلا يناسب هذا الحكم الوجه الثاني أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم بأي وجه فسر ذلك فلا فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في هذا الحكم فلو كان خلق آدم على صورة آدم مانعاً من ضرب الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الأعضاء وتقبيح سائر الصور وهذا معلوم الفساد في العقل والدين وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام وإضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا صدر إلا عن جهل عظيم أو نفاق شديد إذ لا خلاف في علمه وحكمته وحسن كلامه وبيانه كما يذكر أن بعض الزنادقة سمع قارئاً يقرأ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل 112] فقال وهل يذاق

ص: 435

اللباس فقالت له امرأة هبك تشك في بداية العقول أو يعلل حكم المحل بعلة لا تعلق لها به فإن هذا مثل أن يقال لا تضربوه وجوه بني آدم فإن أباهم له صفات يختص هو بها دونهم مثل كونه خلق من عير أبوين أو يقال لا تضربوا وجوه بني آدم فإن أباهم خلق من غير أبوين الوجه الثالث أن هذا تعليل للحكم بنا يوجب نفيه وهذا من أعظم التناقض وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة وعلقة ومضغة وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة بواسطة العناصر وبنوه قد خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وخلقوا في مدة من عناصر الأرض فإن كانت العلة المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه كونه خلق على ذلك الوجه وهذه العلة منتفية في بنيه فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه وتقبيحها لانتفاء العلة فيها فإن آدم

ص: 436

هو الذي خلق على صورته دونهم إذ هم لم يخلقوا كما خلق آدم على صورهم التي هم عليها بل نقلوا من نطفة إلى علقة إلى مضغة الوجه الرابع ما أبطل به الإمام أحمد هذا التأويل حيث قال من قال إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه وهذا الوجه الذي ذكره الإمام أحمد يعم الأحاديث يعم قوله ابتداء إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً ويعم قوله لا تقبحوا الوجه وإذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته وذلك أن قوله خلق الله آدم على صورته يقتضي أنه كان له صورة قبل الخلق خلقه عليه فإن هذه العبارة لا تستعمل إلا في مثل ذلك وبمثل هذا أبطلنا من يقول إن الضمير عائد إلى المضروب فإن المضروب متأخر عن آدم ولا يجوز في مثل هذا الكلام أن

ص: 437

تكون الصورة التي خلق عليها آدم متأخرة عن حين خلقه سواء كانت هي صورته أو صورة غيره فإذا قيل عملت هذا على صورة هذا أو على مثال هذا أو لم يعمل هذا على صورة غيره أو لم يعمل على مثال أو لم ينسج على منوال غيره كما يقال في تمجيد الله تعالى خلق الله العالم على غير مثال والإبداع خلق الشيء على غير مثال ونحو ذلك من العبارات كان معناها المعلوم بالاضطرار من اللغة عند العامة والخاصة أن ذلك على صورة ومثال متقدم عليه أو لم يعمل على صورة ومثال متقدم عليه وذلك أن هذا اللفظ تضمن معنى القياس فقوله خلق أو عمل أو صنع على صورة كذا أو مثاله أو منواله تضمن معنى قيس عليه وقدر عليه وإذا كان كذلك فجميع ما يذكر من التأويلات مضمونه أو صورته تأخرت عنه فتكون باطلة

ص: 438

وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أنه لم تكن لآدم صورة خلق عليها قبل صورته التي خلقها الله تعالى الوجه الخامس أن جميع ما يذكر من التأويل كقول القائل خلق آدم على صورة آدم موجود نظيره في جميع المخلوقات فإنه إن أريد بذلك على صورتها الثابتة في القدر في علم الله وكتابه أي على صفتها التي هي عليها أو غير ذلك فهذا موجود نظيره في سائر المخلوقات من السموات والأرض وما بينهما ومن الملائكة والجن والبهائم بل وذرية آدم كذلك فإنهم خلقوا على صورهم كما يذكرونه في معنى قولهم خلق الله آدم على صورة آدم فإن كون آدم على صورته يعني شبحاً موجود في صور

ص: 439

هذه الأمور وأما كونه خلق على هذه الصورة ابتداء أو فيغير مدة فإنه لم يخلق إلا من حال إلى حال من التراب ثم من الطين ثم من الصلصال كما خلق بنوه من النطفة ثم العلقة ثم المضغة فلا منافاة في الحقيقة بين الأمرين فإذا جاز أن يقال في أحدهما إنه خلق على صورته رغم تنقله في هذه الأطوار جاز أن يقال في الآخر خلق على صورته مع تنقله في هذه الأطوار وإذا كان كذلك فمن المعلوم بالاتفاق أن قوله خلق آدم على صورته هي من خصائص آدم وإن كان بنوه تبعاً له في ذلك كما خلقه الله تعالى بيديه وأسجد له ملائكته علم بطلان ما يوجب الاشتراك ويزيل الاختصاص الوجه السادس أن المعنى الذي تدل عليه هذه العبارة التي ذكروها هو من الأمور المعلوم ببديهة العقل التي لا يحسن بيانها والخطاب بها لتعريفها بل لأمر آخر فإن قول القائل إن الشيء الفلاني خلق على صورة نفسه لا يدل لفظه على غير ما هو معلوم بالعقل أن كل مخلوق فإنه خلق على

ص: 440

الصورة التي خلق عليها وهذا المعنى مثل أن يقال أوجد الله الشيء كما أوجده وخلق الله الأشياء على ما هي عليه وعلى الصورة التي هي عليها ونحو ذلك مما هو معلوم ببديهة العقل ومعلوم أن بيان هذا وإيضاحه قبيح جدًّا الوجه السابع أن دلالة قول القائل خلق آدم على صورة آدم على ما يدعونه من معان أخر مثل كونه غير مخلوق من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة أو كونه لم يخلق في مدة ومن مادة أو لم يخلق بواسطة القوى والعناصر مما لا جليل عليه بحال فإن هذا اللفظ لا يفهم منه هذه المعاني بوجه من الوجوه فلابد أن يبين وجه دلالة اللفظ على المعنى من جهة اللغة ويذكر له نظير في الاستعمال الوجه الثامن أن رواية الحديث من وجوه فسائر الألفاظ تبطل عود الضمير إلى آدم مثل قوله لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن وقوله في الطريق الآخر من حديث أبي هريرة إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه فإن صورة الإنسان على صورة الرحمن وقول ابن عباس فيما يذكره عن الله تعالى تعمد إلى خلق من خلقي

ص: 441

خلقتهم على صورتي فتقول لهم اشربوا يا حمير فأما قوله إن حديث ابن عمر قد ضعفه ابن خزيمة فإن الثوري أرسله فخالف فيه الأعمش وأن الأعمش وحبيباً

ص: 442

مدلسان فيقال قد صححه إسحاق بن راهوية وأحمد ابن حنبل وهما أجل من ابن خزيمة باتفاق الناس وأيضاً فمن المعلوم أن عطاء ابن أبي رباح إذا أرسل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون قد سمعه من أحد وإذا كان في إحدى الطريقين قد بين أنه أخذه عن ابن عمر كان هذا بياناً وتفسيراً لما تركه وحذفه من الطريق الأخرى ولم يكن هذا اختلافاً أصلاً وأيضاً فلو قدر لأن عطاء لم يذكره إلا مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم أن عطاء من أجلِّ التابعين قدراً فإنه هو وسعيد بن المسيب

ص: 443

وإبراهيم النخعي والحسن البصري أئمة التابعين في زمانهم وقد ذكر المصنف لهذا الحديث كابن خزيمة أن الأخبار في مثل هذا الجنس الذي توجب العلم هي أعظم من الأخبار التي توجب العمل ومعلوم أن مثل عطاء لو أفتى في مسألة فقه بموجب خبر أرسله لكان ذلك يقتضي ثبوته عنده ولهذا يجعل الفقهاء احتجاج المرسل بالخبر الذي أرسله دليلاً على ثبوته عنده فإذا كان عطاء قد جزم بهذا الخبر العلي عن

ص: 444

النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب العظيم أيستجيز ذلك من غير أن يكون ثابتاً عنده أن يكون قد سمعه من مجهول لا يعرف أو كذاب أو سيئ الحفظ وأيضاً فاتفاق السلف على رواية هذا الخبر ونحوه مثل عطاء بن أبي رباح وحبيب بن أبي ثابت والأعمش والثوري وأصحابهم من غير نكير سمع من أحد لمثل ذلك في ذلك العصر مع أن هذه الروايات المتنوعة في مظنة الاشتهار دليل على أن علماء الأمة لم تنكر إطلاق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن بل كانوا متفقين على إطلاق مثل هذا وكراهة بعضهم لرواية ذلك في بعض الأوقات له نظائر فإن الشيء قد يمنع سماعه لبعض الجهال وإن كان متفقاً عليه بين علماء المسلمين وأيضاً فإن الله قد وصف هذه الأمة بأنها خير أمة أخرجت للناس وأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فمن الممتنع

ص: 445

أن يكون في عصر التابعين يتكلم أئمة ذلك العصر بما هو كفر وضلال ولا ينكر عليهم أحد فلو كان قوله خلق آدم على صورة الرحمن باطلاً لكانوا كذلك وأيضاً فقد روي بهذا اللفظ من طريق أبي هريرة والحديث المروي من طريقين مختلفين لم يتواطأ رواتهما يؤيد أحدهما الآخر ويستشهد له ويعتبر به بل قد يفيد ذلك العلم إذ الخوف في الرواية من تعمد الكذب أو من سوء الحفظ فإذا كان الرواة ممن يعلم أنهم لا يتعمدون الكذب أو كان الحديث ممن لا يتواطأ في العادة على اتفاق الكذب على لفظه لم يبق إلا سوء الحفظ فإذا كان قد حفظ كل منهما مثل ما حفظ الآخر كان ذلك دليلاً على أنه محفوظ لاسيما إذا كان ممن جرب بأنه لا ينسى لما فيه من تحرِّيه اللفظ والمعنى ولهذا يحتج من منع المرسل به إذا روي من وجه

ص: 446

آخر ولهذا يجعل الترمذي وغيره الحديث الحسن ما روي من وجهين ولم يكن في طريقه متهم بالكذب ولا كان مخالفاً للأخبار المشهورة

ص: 447

وأدنى أحوال هذا اللفظ أن يكون بهذه المنزلة وأيضاً فقد ثبت عن الصحابة أنهم تكلموا بمعناه كما في قول ابن عباس تعمد إلى خلق من خلقي على صورتي والمرسل إذا اعتضد به قول الصاحب احتج به من لا يحتج بالمرسل كالشافعي وغيره وأيضاً ثبت بقول الصحابة ذلك ورواية التابعين كذلك عنهم أن هذا كان مطلقاً بين الأئمة ولم يكن منكوراً بينهم وأيضاً فعلم ذلك لا يؤخذ بالرأي وإنما يقال توقيفاً ولا يجوز أن يكون مستند ابن عباس أخبار أهل الكتاب الذي هو أحد الناهين لنا عن سؤالهم ومع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تصديقهم أو تكذيبهم فعلم أن ابن عباس إنما قاله توقيفاً من النبي صلى الله عليه وسلم ففي صحيح

ص: 448

البخاري عن ابن شهاب عن عبيد الله عن عبد الله أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسولكم أحدث الكتب عهداً بالرحمن تقرؤونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم فلا والله ما رأينا رجلاً منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم

ص: 449

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم الآية فمعلوم مع هذا أن ابن عباس لا يكون مستنداً فيما يذكره من صفات الرب أنه يأخذ ذلك عن أهل الكتاب فلم يبق إلا أن يكون أخذ من الصحابة الذين أخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الوجوه كلها مع أنها مبطلة لقول من يعيد الضمير في قوله على آدم فهي أدلة مستقلة في الإخبار بأن الله تعالى خلق آدم على صورة نفسه وبهذا حصل الجواب عما يذكر من كون الأعمش مدلساً حيث يقدم على رواية مثل هذا الحديث ويتلقاه عنه العلماء ويوافقه الثوري والعلماء على روايته عن ذلك الشيخ بعينه

ص: 450

وكذلك قوله حبيب مدلس فقد أخذه عنه هؤلاء الأئمة وأيضاً فهذا المعنى عند أهل الكتاب من الكتب المأثورة عن الأنبياء كالتوراة فإن في السفر الأول منها سنخلق بشراً على صورتنا يشبهها وقد قدمنا أنه يجوز الاستشهاد بما عند أهل الكتاب إذا وافق ما يؤثر عن نبينا بخلاف ما لم نعلمه إلا من جهتهم فإن هذا لا نصدقهم فيه ولا نكذبهم ثم إن هذا مما لا غرض لأهل الكتاب في افترائه على الأنبياء بل المعروف من حالهم كراهة وجود ذلك في كتبهم وكتمانه وتأويله كما قد رأيت ذلك مما شاء الله من علمائهم ومع هذا الحال يمتنع أن يكذبوا كلاماً يثبتونه في ضمن التوراة

ص: 451

وغيرها وهم يكرهون وجوده عندهم وإن قيل الكاره لذلك غير الكاتب له فيقال هو موجود في جميع النسخ الموجودة في الزمان القديم في جميع الأعصار والأمصار من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً فمن المعلوم أن هذه النسخ الموجودة اليوم بالتوراة ونحوها قد كانت موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ما فيها من الصفات كذباً وافتراءً ووصفاً لله بما يجب تنزيهه عنه كالشركاء والأولاد لكان إنكار ذلك عليهم موجوداً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو التابعين كما أنكروا عليهم مادون ذلك وقد عابهم الله في القرآن بما دون ذلك مما هو دون ذلك فلو كان هذا عيباً لكان عيب الله لهم أعظم وذمهم عليه أشد

ص: 452

الوجه التاسع إبطال أعيان التأويلات التي ذكرها فأما قوله في الوجه الأول أنه لم يغير خلقة آدم ولم يمسخها كما مسخ غيره كالحية والطاووس قيل خلق آدم على صورة آدم فيقال له العبارة المعروفة عن هذا المعنى أن يقال أبقى آدم على صورته أو تركه على صورته أو لم يغير صورة آدم لا يقال خلقه على صورة نفسه فإن هذا اللفظ لا يستعمل في مثل ذلك المعنى ألا ترى أن الله لما مسخ بعض بني إسرائيل كالذين قال لهم كونوا قردة خاسئين كما قال وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ [المائدة 60] وأنجى الذين كانوا ينهون عن المنكر فإنه

ص: 453

لا يقال خلق هؤلاء على صورهم بل يقال أبقاهم على صورهم أو أبقى صورهم أو لم يمسخهم وهذا لما تقدم من أن هذا اللفظ لا يقال إلا فيما تقدمت الصورة على خلقه لا فيما تأخرت وأيضاً فهذا من الأمر المعروف الظاهر لكل أحد أن مضمونه أن صورة آدم كانت كهذه الصور لم تمسخ وما من الناس إلا من يعرف هذا كما يعرف آدم فقول القائل لهذا كقوله إن آدم كان له وجه وعينان وأذنان ويدان وساقان وهذا من الكلام السمج وأيضاً فالإخبار بما ذكره من مسخ غير آدم غير معلوم ولا مذكور

ص: 454

وأيضاً فإن الله تعالى قد أخبر أنه تاب على آدم واجتباه وهو في الجنة قبل إهباطه إلى الأرض فزال عنه العقاب قبل هبوطه وأما التأويل الثاني وقوله إن فيه إبطال قول الدهرية الذين يقولون إن الإنسان لا يتولد إلا من نطفة ودم الطمث فيقال له قد أخبر الله في كتابه أنه خلق آدم من الماء والتراب ومن الطين ومن الحمأ المسنون وهذه نصوص ظاهرات متواترات بسمعها العام والخاص تبين أنه لم يخلق من نطفة ودم طمث وتبطل هذا القول إبطالاً بيناً معلوماً بالاضطرار فأما قول القائل إن آدم خلق على صورة آدم فليس في هذا القول دلالة على نفي كونه مخلوقاً من غيره أصلاً

ص: 455

وقوله خلق آدم على صورته ابتداء من غير تقدم نطفة ثم علقة ومضغة يقال له خلق بعد تقدم تراب وطين وصلصال ودلالة اللفظ على نفي هذا المتقدم كدلالته على نفي ذلك المتقدم فإن كان قوله خلق آدم على صورة آدم يقتضي خلقه ابتداء من غير تنقل أحوال فهو ينفي الأمرين وإلا فهو ينفي لا هذا ولا هذا وهذا التخليط إنما وقع لكون الصورة التي خلق عليها جعلوها متأخرة عن الخلق وهو خلاف مدلول اللفظ وأما التأويل الثالث وقوله إن الإنسان لا يتكون في مدة أطول من مدد بنيه وبواسطة الأفلاك والعناصر فقوله خلق آدم على صورة آدم أي من غير هذه الوسائط والمقصود منه الرد على الفلاسفة فيقال هذا أظهر بطلاناً من الأول فإن آدم عليه السلام لم يتكون إلا في مدة أطول من مدد بنيه ومن مادة أعظم من مواد بنيه فإن الله خلقه من التراب والماء وجعله صلصالاً وهذه

ص: 456

هي العناصر وأيضاً فإنه أبقي أربعين عاماً قبل نفخ الروح فيه وولده إنما يبقون أربعة أشهر قال تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)[الإنسان 1] وأيضاً فاللفظ لا يدل على نفي ذلك بوجه من الوجوه لا حقيقة ولا مجازاً بل هذه الدلالة من جنس ما تدعيه غالية الرافضة ونحوهم من جهال الزنادقة أن قول إِمَامٍ مُبِينٍ هو علي بن أبي طالب بل ربما هذا أقوى فإن لفظ الإمام فيه

ص: 457

اشتراك وإلا فكون الشيء خلق على صورة نفسه المتقدمة أو المتأخرة أي شيء فيه مما ينفي كونه في مدة وخلق من مادة ثم إن هذا المؤسس مع كونه يحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على رفع تأثير الأفلاك والعناصر ردًّا على الفلاسفة يقرر في كتب له أخرى دلالة القرآن على تأثير الأفلاك والكواكب تارة عملاً بما يأمر به المنجمون من الأخبار وتارة أمراً بما يأمر به السحرة المشركون من عبادتهم فقد جعل كلام الله ورسوله متناقضاً حيث أثبت ذلك ونفاه ثم إنه في جانب الإثبات يغلو حتى يأمر بما هو محرم بل كفر بإجماع المسلمين وفي جانب النفي يغلو حتى يمنع كونها أسباباً كسائر الأسباب وهذا من أعظم التناقض في ما جاء به الرسول ومن جهة المعقول وأما التأويل الرابع فقوله المقصود منه بيان أن هذه الصورة الإنسانية إنما حصلت بتخليق الله لا بتأثير القوة المصورة يقال له إن كان اللفظ دالاًّ على ذلك

ص: 458

فإنما يدل عليه قوله خلق الله آدم كما ذكر ذلك في القرآن في غير موضع إذ قوله على صورته لا يتعرض لذلك وإن لم يكن دالاًّ عليه فهو باطل وعلى التقديرين فدعوى أن قوله على صورته بغير القوى الطبيعية دعوى باطلة ويقال له ثانياً إخبار الله تعالى بأنه خلق آدم وهو الخالق أظهر وأشهر في القرآن وعند العامة والخاصة من أن يكون المستفاد منه يحتاج إلى قوله على صورته ويقال له ثالثاً أي شيء في قوله على صورته ما يمنع هذه القوى ويقال له رابعاً ومن الذي يمنع وجود هذه القوى والطبائع وأن الله هو خلقها وخلق بها كما أخبر في غير موضع من كتابه أنه يحدث الأشياء بعضها ببعض كما في قوله تعالى فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [الأعراف 57] ومن أعظم الضلال جحود ما يوجد في المخلوقات

ص: 459

وما أخبر الله به في كتابه وجعل ذلك تأويل الأحاديث مع دعوى المدعي أنه يرد بذلك على الدهرية والفلاسفة والأطباء والمشبهة وهو قد أضحك العقلاء على عقله بما جحده من الحسيات والمعقولات وألحد في آيات الله بما افتراه من التأويلات وأخبر عن الرسول أنه أخبر بجحد الموجودات مع أن لفظه صلى الله عليه وسلم من أبعد شيء عن هذه الترهات وأما التأويل الخامس فقوله إن الصورة تذكر ويراد بها الصفة يقال شرحت له صورة هذه الواقعة وذكرت له صورة هذه المسألة والمراد أن الله تعالى خلق آدم من أول الأمر كاملاً تامًّا في علمه وقدرته أو كونه سعيداً عارفاً تائباً فيقال له الصورة هي الصورة الموجودة في الخارج

ص: 460

ولفظ ص ور يدل على ذلك وما من موجود م الموجودات إلا له صورة في الخارج وما يكون من الوقائع يشتمل على أمور كثيرة لها صورة موجودة وكذلك المسؤول عنه من الحوادث وغيرها له صورة موجودة في الخارج ثم تكون الصورة الموجودة ترتسم في النفس وقد تسمى صورة ذهنية فقوله شرحت له صورة الواقعة وأخبرني بصورة المسألة إما أن يكون المراد به الصورة الخارجية أو الصورة الذهنية وأما الصفة فهي في الأصل مصدر وصفت الشيء أصفه وصفاً وصفة ثم يسمون المفعول باسم المصدر سنة جارية لهم فيقولون لما يوصف به من المعاني صفة ثم قد يغلب أحد اللفظين في بعض الاصطلاحات كما اصطلح طائفة من الناس على أن جعلوا الوصف اسماً للقول والصفة اسماً للمعنى كما أن طائفة أخرى جعلوا الجميع اسماً للقول والتحقيق أن كلا منهما يدل على هذا والواصف للشيء لا يصفه حتى يعلمه فيرتسم مثاله في نفسه ومن هنا يقام

ص: 461

الدليل مقام الصفة كما قد قيل في قوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد 35] قال بعضهم أي صفة الجنة التي وعد المتقون وإذا كان ما في النفس من العلم بالشيء يسمى مثلاً له وصفة فالصورة الذهنية هي المثل الذي يسمى أيضاً صفة ومثلاً ولهذا يقال تصورت الشيء وتمثلت الشيء وتخيلته إذا صار في نفسك صورته ومثاله وخياله كما يسمى مثاله الخارج صورة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله المصورين وقال من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ وقال لا تدخل الملائكة بيتاً فيه

ص: 462

صورة كما يسمى ذلك تمثالاً في مثل قول علي بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني ألا أدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً

ص: 463

مشرفاً إلا سويته وقال العلماء كابن عباس وعكرمة واحمد وغيرهم الصورة هي الرأس فإذا قطع الرأس لم تبق صورة ولهذا قال ابن عباس لمن استفتاه إن كنت مصوراً فصور الشجر وما لا روح فيه

ص: 464

وسيأتي في الصحيحين من حديث القيامة قال فيه ويحرم الله صورهم على النار هذا في حديث أبي سعيد وفي حديث أبي هريرة حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود وقال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ

ص: 465

اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراق 11] وقال تعالى اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر 64] وقال يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)[الانفطار 6-8] وقوله إن لفظ الصورة يذكر ويراد به الصفة إن أراد له أن الصورة توصف بالقول وأن لفظ الصورة يراد به ما يوصف بالقول من الصورة الخارجية أو ما يطابقه من الصور الذهنية فهذا قريب ولكن هذا يوجب أن لفظ الصورة لابد له من صورة خارجية وإن طابقها الصورة الذهنية وإن أراد به أن لفظ الصفة قد لا يراد به إلا ما يقوم بالأعيان من المعاني كالعلم والقدرة فهذا باطل لا يوجد في الكلام أن قول القائل صورة فلان يراد بها مجرد الصفات القائمة به من العلم والقدرة ونحو ذلك بل هذا من

ص: 466

البهتان على اللغة وأهلها وأيضاً فقول القائل خلق آدم على صورة آدم بمعنى على صفة آدم لا يدل على أنه خلق على صفات الكمال ابتداء ولو أريد بالصورة ما يتأخر عن وجوده فإن المخلوق على صفة من الصفات يخلق عليها في مدة وفي غير مدة يبين ذلك أنه جعل أحد المحملين كونه خلق عارفاً تائباً مقبولاً عند الله ومعلوم أن هذه الصفة تأخر وجودها عن ابتداء خلقه فإن التوبة كانت بعد الذنب فإذا كان لا ينافي كونه مخلوقاً عليها فكذلك لا ينافي كونه مخلوقاً على صفة العلم والقدرة وإن تأخر ذلك عن وجوده وإذا كان كذلك فلا فرق بينه وبين غيره أيضاً فهذا الذي ذكره من معنى الخبر باطل فإن آدم لم يُجعل ابتداء على صفة الكمال بل بعد أن خلقه الله تعالى علَّمه الأسماء التي لم يكن بها عالماً كما علم بنيه البيان بعد أن خلقهم

ص: 467

فهذه التأويلات التي هي ذكر دلالة اللفظ على معنى من المعاني تارة يكون المعنى باطلاً وتارة يكون اللفظ غير دال عليه وتارة يكون اللفظ دالاًّ على نقيضه وضده وتارة يجتمع من ذلك ما يجتمع وهذا شأن أهل التحريف والإلحاد نعوذ بالله من الغي والزيغ ونسأله الهدى والسداد وهذه التأويلات وإن كان المؤسس مسبوقاً بها وهو إن كان قد نقل منها ما نقله من كتاب أبي بكر بن فورك ونحوه وهم أيضاً مسبوقون بأمثالها فقد كان من هو أقدم منهم يذكر من التأويلات ما هو أمثل من ذلك إذ كل ما تقدم الزمان كان الناس أقرب إلى السداد في الثبوتات والقياسات الشرعيات والعقليات وكان قدماء الجهمية أعلم بما جاء به الرسول وأحسن تأويلاً من هؤلاء كما تقدم فيما ذكره عن المروذي عن أحمد أنه ذكر له عن بعض المحدثين بالبصرة أنه

ص: 468

قال قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته قال صورة الطين قال هذا جهمي وقال نسلم الخبر كما جاء فأخبر أحمد أن هذا جهمي كما أن من قال على صورة الأرحام فهو جهمي لأن الجهمية هم الذين ينكرون الصفات ويتأولون ما ورد في ذلك من الأخبار والآيات وهذا التأويل أجود مما تقدم فإن قوله على صورة آدم يقتضي أن يكون لآدم صورة خلق عليها وتلك هي صورة الطين فإن الله صور آدم طيناً حتى يبس فصار صلصالاً ثم نفخ فيه الروح ومراد هؤلاء أنه خلقه على تلك الصورة المصنوعة من الطين لكن هذا أيضاً فاسد فإن قول القائل خلق على تلك الصورة يقتضي أن تكون له صورة أخرى خلقت على تلك الصورة وآدم هو بعينه تلك الصورة التي خلق فيها الروح بل تصويره هو خلقه من تراب ثم من طين كما قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف 11] فقدم الخلق على التصوير فكيف تكون الصورة التي لآدم

ص: 469

سابقة على الخلق حتى يقال خلق آدم على تلك الصورة وأيضاً لو أريد أنه خلق من صورة الطين بعينها لا من أبوين ولا يجوز ذلك لقيل كما قال الله تعالى مِنْ تُرَابٍ وقال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)[ص 71] وقال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)[الحجر 28] وكذلك إذا تأوله متأول على الصورة المقدرة له وهي ما سبق له في علم الله وكلامه وكتابه أي خلق آدم على الصورة التي قدرها له فإن الله وإن كان خلق كل شيء على ما سبق من تقديره فلا يصح تأويل الحديث على هذا لأن جميع الأشياء خلقها الله تعالى على ما قدره فلا اختصاص لآدم بذلك وأيضاً فإنه لا يصلح أن يقول لا تقبحوا الوجه ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على ما قدره فإن الوجه وسائر الأعضاء بل وسائر المخلوقات خلقها على ذلك فينبغي أن لا يصلح تقبيح شيء من الأشياء ألبتة لعموم العلة وأيضاً فإن قوله ووجه من أشبه وجهك يمنع أن

ص: 470

يكون المراد التقدير وأيضاً فإن هذه العلة لا تصلح أن تكون مانعة من التقبيح وأيضاً فإن قوله إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يمنع أن يكون المراد به التقدير فإن ذلك لا يختص بالوجه ولا بآدم ولا يصلح أن يعلل به منع ضرب الوجه ولو علل به وجب أن لا يضرب شيء من الأشياء وأيضاً فقوله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً إلى قوله فكل من يدخل الجنة يدخلها على صورة آدم صريح في أنه أراد صورة آدم المخلوقة لا المقدرة وأيضاً فتسمية ما قدر صورة ليس له أصل في كلام الله وكلام رسوله فليس في هذا الخطاب أن صور الأشياء ثابتة في علم الله أو تقديره وإن كان من المتأخرين من يقول لفلان عند فلان صورة عظيمة وهذا الأمر مصور في نفسي لكن مثل هذا الخطاب لا يجوز أن يحمل عليه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك من لغته التي خاطب بها أمته

ص: 471

فصل وأما التأويلات الثلاثة التي ذكرها في الطريق الثالث فالكلام في إبطالها فقط إذ لفظ الحديث مع سائر الأحاديث موافقة لهذه الطريق كما جاء على صورته وعلى صورة الرحمن وعلى صورتي أما التأويل الأول وهو وقوله المراد من الصورة الصفة كما بيناه فيكون المعنى أن آدم امتاز عن سائر الأشخاص

ص: 472

والأجسام بكونه عالماً بالمعقولات قادراً على استنباط الحرف والصناعات وهذه صفات شريفة مناسبة لصفات الله تعالى من بعض الوجوه فصح قوله إن الله خلق آدم على صورته على هذا التأويل فالكلام عليه من وجوه أحدها أنه تقدم أن لفظ الصفة سواء عني به القول الذي يوصف به الشيء وما يدخل في ذلك من المثال العلمي الذهني أو أريد به المعاني القائمة بالموصوف فإن لفظ الصورة لا يجوز أن يقتصر به على ذلك بل لا يكون لفظ الصورة إلا لصورة موجودة في الخارج أو لما يطابقها من العلم والقول وذلك المطابق يسمى صفة ويسمى صورة وأما الحقيقة الخارجية فلا تسمى صفة كما أن المعاني القائمة بالموصوف لا تسمى وحدها صورة وإذا كان كذلك فقوله على صورته لابد أن يدل على الصورة الموجودة في

ص: 473

الخارج والقائمة بنفسها التي ليست مجرد المعاني القائمة بها من العلم والقدرة وإن كان لتلك صورة وصفة ذهنية إذ وجود هذه الصور الذهنية مستلزمة لوجود تلك وإلا كان جهلاً لا علماً فسواء عنى بالصورة الصورة الخارجة أو العلمية لا يجوز أن يراد به مجرد المعنى القائم بالذات والمثال العلمي المطابق لذلك الوجه الثاني أن قوله إن آدم امتاز عن سائر الأشخاص والأجسام بالعلم والقدرة إن أراد به امتياز عن بنيه فليس كذلك وإن أراد به امتيازه عن الملائكة والجن فهو لم يتميز بنفس العلم والقدرة فإن الملائكة قد تعلم ما لا يعلمه آدم كما أنها تقدر على ما لا يقدر عليه وإن كان هو أيضاً علمه الله ما لم تكن الملائكة تعلمه لاسيما عند جمهور الجهمية من المعتزلة والمتفلسفة ونحوهم الذين يزعمون أن الملائكة أفضل من الأنبياء ونهو أحد أقوال هذا المؤسس وسواء كان الأنبياء أفضل أو الملائكة فلا ريب

ص: 474

أنه لم يتميز أحدهمَا عن الآخر بجنس العلم والقدرة لكن بعلم خاص وقدرة خاصة وأيضاً فأهل السنة الذين يقولون الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة لا يقولون إنهم خلقوا على صفة الكمال التي هم بها أفضل من الملائكة بل يقولون إن الله ينقلهم من حال إلى حال حتى يكونوا في نهايتهم أفضل من الملائكة في نهايتهم فقد ثبت باتفاق الطوائف أن آدم لم يخلق على صفة من العلم والقدرة امتاز بها عن سائر الأشخاص والأجسام بل في الأشخاص والأجسام من كان امتيازه عن آدم بالعلم والقدرة أكثر الوجه الثالث أن يقال المشاركة في بعض الصفات واللوازم البعيدة إما أن تصحح قول القائل إن الله خلق ذلك الموصوف على صورة الله أو لا تصحح ذلك فإن لم تصحح ذلك بطل قولك إن خلق آدم على هذه الصفات التي جعلتها بعض اللوازم يصحح قوله إن الله خلق آدم على

ص: 475

صورة الرحمن وإن كانت تلك المشاركة تصحح هذا الإطلاق صح أن يقال إن الله خلق كل ملك من الملائكة على صورته بل خلق كل حي على صورته بل ما من شيء من الأشياء إلا وهو يشاركه في بعض اللوازم البعيدة ولو أنه القيام بالنفس وحمل الصفات فيصح أن يقال في كل جسم وجوهر إن الله خلقه على صورته على هذا التقدير الوجه الرابع أن لفظ الحديث إذا قاتل أحدكم أو ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن ضرب الوجه لأن الله خلق آدم على صورته فلو كان المراد مجرد خلقه عالماً قادراً ونحو ذلك لم يكن للوجه بذلك اختصاص بل لابد أن يريد الصورة التي يدخل فيها الوجه الوجه الخامس الحديث الآخر لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن تقبيح الوجه المشبه لوجه آدم لأن الله خلق آدم على صورته وهذا يقتضي أنه نهى عن ذلك لتناوله لله وأن أدخل وجه ابن آدم فيما خلقه الله على صورته فإن قيل هذا تصريح بأن وجه الله يشبه وجه الإنسان كما

ص: 476

ورد صورة الإنسان على صورة الرحمن فالجواب أن هذا أيضاً لازم للمنازع ولهذا أورده وأجاب عنه فقال فإن قيل المشاركة في صفات الكمال تقتضي المشاركة في الإلهية قلنا المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الإلهية قال ولهذا المعنى قال الله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم 27] وقال صلى الله عليه وسلم تخلقوا بأخلاق الله ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال التي هي العلم والقدرة أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه وأيضاً فهذا المؤسس قد ذكر في أجلِّ كتبه الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول في مسألة تكفير المخالفين

ص: 477

من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبهاً بخلقه من الوجوه أو ليس كذلك والأول باطل لأن أحداً من العقلاء لم يذهب إلى ذلك ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له بل المشبه هو الذي يثبت الإله تعالى على صفة يشبهه معها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا أثبته جسماً مخصوصاً لحيز معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة فثبت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع

ص: 478

فالمجسم كافر ثم قال في الجواب عن ذلك لأنه نصر عدم تكفير أهل القبلة قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلاً بكون الله شبيهاً بخلقه من كل الوجوه فلا شك في كفره لكن المجسمة لا يقولون بذلك فلا يلزم قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق وإن عنيتم بالمشبهة من يقول بكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود شيء وعالم وقادر والحيوانات أيضاً كذلك وذلك لا يوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع

ص: 479

على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين ور ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه وإن كان أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلاً ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها وهذا الكلام قد نبهنا عليه غير مرة في هذا وفي الأجوبة المصرية وفي جواب المسألة الصرخدية وغير ذلك في بيان شبهة التركيب والتجسيم وشبهة التشبيه والاتفاق والاشتراك بين الموجودين يكون في مراتب الوجود الأربعة

ص: 480

الحقيقي الخارجي العيني إذا كان هذا موجوداً ثابتاً وهذا موجود ثابت وهذا قائم بنفسه وهذا موصوف بالصفات وهذا موصوف بالصفات وهذا متميز من غيره باين منه وهذا متميز عن غيره باين منه وهذا حي وهذا حي وهذا عليم وهذا عليم وهذا قدير وهذا قدير وهذا سميع وهذا سميع وهذا بصير وهذا بصير وهذا رؤوف رحيم وهذا رؤوف رحيم وهذا عظيم كبير وهذا عظيم كبير وهذا صمد وهذا صمد وهذا واحد وهذا واحد وبينا أن الموجودين في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في نفسه ووجوده وماهيته بل كل منهما مختص بذلك بائن بذاته لكن يشبه أحدهما الآخر شبهاً قليلاً أو كثيراً صغيراً أو كبيراً بعيداً أو قريباً وإنما يشتبهان في شيء وذلك الشيء الذي

ص: 481

يشتبهان فيه هو الذي يشتركان فيه وهو المعنى الكلي وهو بعينه لا يوجد في الخارج مجرداً عنهما وإنما يوجد في هذا حصة منه وفي هذا حصة منه فهو بوصف العموم لا يوجد في الخارج وبوصف الخصوص يوجد في الخارج أما بوصف الإطلاق المقابل للتقييد فلا يوجد في الخارج فليس في الخارج مطلق غير مقيد وأما بوصف الإطلاق حتى عن التقييد وهو المطلق الذي يمنع كونه مقيداً فقد يقال في ذلك إنه موجود في الخارج لكن هو موجود مع كونه مقيداً لا موجوداً مطلقاً غير مقيد وكذلك في الحي والحي والعالم والعالم لابد من نوع اشتباه هو الاشتراك في المرتبة الثانية وهي المرتبة العلمية يقوم في نفس العالم معنى عام كلي يعم هذا وهذا كما يقوم في نفسه المعنى المطلق والمعنى الخاص فذلك المعنى العام يقال له المعنى المشترك وهو الذي اشتبها

ص: 482

فيه ثم في المرتبة الثالثة والرابعة يكون اللفظ بالاسم والخط مطابقاً لهذا المعنى العلمي فيقال في الاسم العام الذي يجب الاشتراك فيه الموجود ينقسم إلى واجب وممكن والحي ينقسم إلى واجب وممكن ونحو ذلك إذ مورد التقسيم مشترك بين الأقسام ويقال في المطلق الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يوجب الاشتراك الموجود قد يكون واجباً وقد يكون ممكناً والموجود يقال للواجب والممكن وكذلك الحي والعليم والقدير ويقال في الخاص هذا الموجود وهذا الحي وأسماء الله كلها خاصة به ولكن إذا جردت عن أداة التخصيص لفظاً أو قصداً أمكن في بعضها أن تجعل مطلقة وعامة كالعليم والسميع والبصير والحي ونحو ذلك ولم يكن ذلك في بعضها ولهذا جعلها الفقهاء في باب الأيمان ثلاثة أقسام قسماً مختصًّا بالله لا يجوز أن يسمى به غيره كاسم الله ورب العالمين فهذا نص وقسماً هو ظاهر في حق الله لكن يجوز أن يسمى به غيره مع القرينة فهذا أيضاً يمين عند الإطلاق وبالنية

ص: 483

وقد لا يكون يميناً كالحي والصمد وقسماً ليس هو ظاهراً في حق الله بل هو مجمل مشترك ويقال له وللمخلوق مثل اسم الموجود ونحوه فهذا القسم لا يكون يميناً عند الإطلاق وإن قصد به الله فهل يكون يميناً على قولين مشهورين أحدهما يكون يميناً وهو ظاهر مذهب أحمد فتنعقد اليمين عندهم بالصريح والكناية والثاني لا يكون يميناً وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول في مذهب أحمد لأن اليمين لا تنعقد عند هؤلاء بالكناية وإذا كان الأمر كذلك علم أن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين كما عليه المسلمون متفقون كما أن إثباته مطلقاً هو جعل الأنداد لرب العالمين لكن من الناس من لا يفهم هذا ولا يعتقد أن لفظ التشبيه يدل على التمثيل المنفي عن الله إذ لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص كما سنبينه ومن هنا ضل فيه أكثر الناس إذ ليس له حد محدود وما هو منتفٍ بالاتفاق بين المسلمين بل بين أهلل الملل كلهم بل بين جميع العقلاء المقرين بالله معلوم بالضرورة

ص: 484

العقل ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين المسلمين بل بين أهل الملل كلهم بل بين جميع العقلاء للتقرير بالصانع فلما كان لفظ التشبيه يقال على ما يجب انتفاؤه وعلى ما يجب إثباته لم يرد الكتاب والسنة به مطلقاً لا في نفي ولا إثبات ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمي وجاء لفظ الشبه في الإثبات مقيداً في كلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتابعيهم كما روى عثمان بن سعيد الدارمي حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو الهلال الراسبي أن عبيد الله بن رواحة قال

ص: 485

للحسن هل تصف ربك قال نعم بغير مثال قال وحدثنا سلمان بن سليمان قال حدثنا

ص: 486

شعبة عن أبي جمرة عن ابن عباس قال ليس لله مثل وقد بسطنا الكلام على هذا في الأجوبة المصرية وبينا أن الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه فيجب أن ينفى عنه المثل مطلقاً ومقيداً وكذلك الند والكفو والشريك ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن بنفيها وذكرنا من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفى المثل عن نفسه بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ

ص: 487

شَيْءٌ [الشورى 11] والسمي بقوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)[مريم 65] والند بقوله فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [البقرة 22] والكفو بقوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)[الإخلاص 4] والشريك والعديل والمساوي بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)[يونس 18] ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)[الأنعام 1] إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)[الشعراء 97-98] فلا يخلو إما أن يكون النفي من ذلك مختصًّا بالمماثل له من كل وجه وهو المكافئ له من كل وجه فقط والمساوي والمعادل له والمكافئ له من كل وجه أو يكون النفي عاماً في المماثل ولو من بعض الوجوه والمكافئ ولو من بعض الوجوه ولا يجوز أن يكون النفي مختصًّا بالقسم الأول لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندًّا بل ما شاء الله

ص: 488

وحده فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل ولو من بعض الوجوه وهذا هو الحق وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الموجود والحي والعليم والقدير فليس مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافأة له بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له ولغيره ولما ينفى عنه وعن غيره لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله التي تعجز عقول البشر عن معرفتها وألسنتهم عن صفتها ما لا يعلمه إلا الله مما لا نسبة إلى

ص: 489

ما علموه من المر المشتبه المشترك إليه والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفاً ثبوتيًّا كما قررنا هذا في غير هذا الموضع ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه ومنافاة صفاته الوجودية له فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضاً إلا هو بخلاف لفظ التشبيه فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه البعيدة وهذا مما يجب القول به شرعاً وعقلاً بالاتفاق ولهذا لما عرف الأئمة ذلك وعرفوا حقيقة قول الجهمية وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق

ص: 490

والتعطيل ويمنعون عن إطلاق لفظهم العليل لما فهموه من مقصودهم وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل مثل ما ذكره الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية وقد ذكرناه فيما تقدم قال فيه في وصف قول الجهم ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام 3] ولَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافراً وكان من المشبهة

ص: 491

وأضل بشراً كثيراً وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية فإذا سأله الناس عن قول الله عز وجل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] ما تفسيره يقول ليس كمثله شيء من الأشياء هو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش لا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا ينظر إليه أحد في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا بفعل

ص: 492

ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون فيه شيئان مختلفان ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم وليس هو معلوماً وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة

ص: 493

بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم فمن تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئاً إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون وقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيماً لله تعالى ولا يعلم أنهم إنما يقودون قومهم إلى الضلالة والكفر

ص: 494

وقد نقل أهل المقالات عن جهم أنه كان يقول إن الله شيء وهذا معنى ما ذكره أحمد فإنهم وإن أطلقوا أنه شيء لا كالأشياء فلم يريدوا أنه ليس بمثل لها فإن ذلك حق ولهذا لم ينكر أحمد قولهم ليس كمثله شيء من الأشياء لكن أرادوا نفي الشبه من كل وجه ومعناه شيء لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه ولهذا قال الإمام أحمد فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً فبين الإمام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي يشترك فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء كما نقل الناس أن جهماً يقوله ولهذا قال فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئاً أي لجميع العقلاء فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب بل يشترك فيه العقلاء كلهم فهذا سؤال عن كونه موجوداً ثم سألهم عن كونه معبوداً فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله وهم المسلمون قديماً وحديثاً

ص: 495

قال فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم قلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئاً إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون فهنا جعل الكلام مع المسلمين الذين يعبدون الله تعالى والعبادة متضمنة لقصد المعبود وإرادته والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به فلما قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا هو مجهول لا يعرف بصفة فحينئذ تبين للمسلمين الذين يعبدون الله أنهم لا يثبتون شيئاً يعبدونه وإنما هم منافقون في ذلك لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد فعرف المسلمون بطلان قولهم أنهم يعبدون الله ويثبتونه كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة فأنكروا صفاته مطلقاً وأنكروا أنه يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فأنكروا بذلك وجوده

ص: 496

وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته أنه لما قرئ على علماء بعداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم فيه لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه أقر بذلك من أقر ب هواما أحمد فقال لا أقول لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام واحترازه منها مع أن كثيراً من الناس يطلق هذه العبارة ويريد بذلك نفي المماثلة ومقصوده صحيح وقد يريد به مل يجمع الحق والباطل أو يريد تنزيهاً مطلقاً لا يحصل معناه وهؤلاء لا يريدون حقيقة قول الجهمية ومما يبين ذلك أنه

ص: 497

ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولا الأكابر من أتباع التابعين ذم المشبهة وذم التشبيه أو نفي مذهب التشبيه ونحو ذلك وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية كما ذكره الإمام أحمد ثم قابلهم قوم من أهل الإثبات والرافضة وغلاة أهل الحديث فزادوا في الإثبات حتى دخلوا في التمثيل المنفي في الكتاب والسنة وذلك تشبيه مذموم فذم بقايا تابعي التابعين ومن بعدهم من أئمة السنة هذا التشبيه وذموا المشبهة بهذا التفسير فصار لفظ المشبهة مذموماً في كلام هؤلاء كما هو مذموم في كلام الجهمية لكن بين المعنيين فرق عظيم ولهذا كانوا يفسرون مرادهم ويقولون من أغرق في نفي التشبيه وذم المشبهة كان جهميًّا كما ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم وأبو القاسم اللالكائي عن عبد الرحمن بن عمر

ص: 498

الأصبهاني قال سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول لفتى من ولد جعفر بن سليمان مكانك فقعد حتى تفرق الناس ثم قال يا بني تعرف في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف وكل ذلك يجري مني على بال وحتى

ص: 499

لا أمرك وما بلغني فإن الأمر لا يزال هيناً ما لم يصر إليكم يعني السلطان فإذا صار إليكم جل وعظم قال يا أبا سعيد وما ذاك قال بلغني أنك تتكلم في الرب تعالى وتصف وتشبه فقال الغلام نعم فأخذ ليتكلم في الصفة فقال رويدك يا بني حتى نتكلم أول شيء في المخلوق فإن عجزنا عن المخلوق فنحن عن الخالق أعجز وأعجز أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن البناني قال سمعت زرًّا قال قال عبد الله في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قال رأى جبريل له ستمائة جناح قال نعم فعرف الحديث فقال عبد الرحمن صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح فبقي الغلام ينظر إليه فقال عبد الرحمن

ص: 500

يا بني فإني أهوِّن عليك المسألة وأضع عنك خمسمائة وسبعاً وتسعين صف لي خلق ثلاثة أجنحة ركب الجناح الثلث منه موضعاً غير الموضعين اللذين ركبهما حتى أعلم فقال يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز وأعجز فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك وأستغفر الله وذكر أيضاً عبد الرحمن بن أبي حاتم قال حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث قال حدثنا سويد بن سعيد

ص: 501

قال حدثنا علي بن عاصم قال تكلم داود الجواربي فضل في التشبيه فاجتمع فقهاء واسط منهم محمد بن زيد وخالد الطحان

ص: 502

وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير وأخبروه بمقالته فأجمعوا على سفك دمه فمات في أيامه فلم يصلِّ عليه علماء واسط وذكر عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن سنان قال

ص: 503

سمعت شاذ بن يحيى الواسطي يقول كنت قاعداً عند يزيد بن هارون فجاء رجل فقال يا أبا خالد ما تقول في الجهمية قال يُستتابون لأن الجهمية غلت فتفرعت في غلوها إلى أن نفت والمشبهة غلت فتفرعت في غلوها حتى مثلت فالجهمية يستتابون والمشبهة كذا رماهم بأمر عظيم وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة حدثني أبو بكر ابن صدقة قال سمعت أبا بكر بن أبي

ص: 504

عون يقول سمعت يزيد بن هارون يقول الجواربي والمريسي كافران وسمعت يزيد بن هارون وقد ذكر الجواربي فضربه مثلاً فقال أما داود الجواربي عبر جسر واسط يريد العيد فانقطع الجسر فغرق من كان عليه فخرج شيطان فقال أنا داود الجواربي وذكر عبد الرحمن حدثنا يوسف بن إسحاق حدثنا أحمد بن الوليد عن محمد بن عمرو بن بكيت قال سمعت وكيعاً

ص: 505

يقول وصف داود الجواربي الرب فكفر في صفته فرد عليه المريسي فكفر في رده عليه إذ قال هو في كل شيء وقال عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الصدائى قال قال نعيم بن حماد من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن انك ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه قال عبد الرحمن حدثنا أحمد بن سلمة قال سمعت إسحاق بن إبراهيم بن

ص: 506

راهوية يقول من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم لأنه وصف لصفاته إنما هو استسلام لأمر الله ولما سن الرسول صلى الله عليه وسلم قال وسمعت إسحاق يقول علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل الجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة بل هم المعطلة ولو جاز أن يقال هم المشبهة لاحتمل ذلك وذلك أنهم يقولون إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله في أسفل الأرضين وأعلى السموات على معنى واحد وكذبوا في ذلك ولزمهم الكفر قال عبد الرحمن سمعت أبي يقول علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة وعلامة القدرية

ص: 507

تسميتهم أهل السنة مجبرة وعلامة المعتزلة تسميتهم أهل السنة حشوية وعلامة الرافضة تسميتهم أهل السنة

ص: 508

ناصبة وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة أخبرني يوسف ابن موسى أن أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم وليس كمثله شيء

ص: 509

قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدثه قال سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله يرى وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبد الله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئاً ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق إذا كانت بأسانيد

ص: 510

صحاحا ولا يرد على الله تعالى قوله ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وليس كمثله شيء

ص: 511

وقال حنبل في موضع آخر قال ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه فقد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فعبد الله يصف الله غير محدود ولا معلوم إلا بما وصف به نفسه قال الله تبارك وتعالى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)[الشورى 11] وقال حنبل في موضع آخر فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون صفاته منه له ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله

ص: 512

بأمره بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلماً عالماً غفوراً عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كيف شاء المشيئة إليه عز وجل والاستطاعة له لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)[الشورى 11] وهو خالق كل شيء وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ [مريم 42] فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يعلم كيف ذلك إلاّ بتصديق الرسول عليه السلام وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة وقال لي أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ

ص: 513

الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شيء فقلت لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)[الشورى 11] قال ما أردت بهذا قلت القرآن صفة من صفات الله تعالى وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له والمشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي قال حنبل في موضع آخر وقدم كقدمي فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحد وهو كلام سوء وهو محدود

ص: 514

والكلام في هذا لا أحبه قال عبد الله جردوا القرآن وقال النبي صلى الله عليه وسلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نؤمن به قال الله تعالى وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر 7] فقد أمر الله عز وجل بالأخذ بما جاء والنهي عما نهى وأسماؤه وصفاته غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شيء قدير قال وزاد أبو القاسم الجبلي عن حنبل في هذا الكلام

ص: 515

وقال تبارك وتعالى اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر 23] هذه صفات الله عز وجل وأسماؤه تبارك وتعالى والذي جاء به الشرع في هذا النص من قوله خلق آدم على صورته ونحوه فإنه أخص مما يعلم بمجرد العقل من ثبوت القدر المشترك بينه وبين كل موجود أو كل حي فإن هذا المدلول عليه بالنص لا يعلم بالعقل والقياس وإنما يعلم أصل ذلك مجملاً وهذا كما ذكر في مسألة العلو أن العقول يعرف بها أن الله تعالى فوق خلقه وأما استواؤه على العرش بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام فهذا إنما يعلم بالسمع هذا مما

ص: 516

اتفق عليه أئمة المسلمين وسائر أهل السنة والجماعة أن العلم بكونه فوق العالم فطري عقلي وأما العلم باستوائه على العرش فسمعي شرعي وكذلك أئمة متكلمة الصفاتية مثل أبي محمد بن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وغيرهما وكلام الأشعري الذي رأيناه يدل على ذلك أيضاً وإن كان ابن فورك جعل ذلك خلافاً بينه وبين ابن كلاب فقد بينا غلطه في ذلك والمقصود أن العلو عقلي والاستواء سمعي فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه أخبر الله على ألسنتهم بما تقصر العقول عن دركه وإن كان ذلك من المعروف الذي يعرف

ص: 517

بالمعقول أصله ويعرف على سبيل الإجمال كما أن ما أمروا به كذلك هو معروف في العقول في الجملة لكن تفاصيل المأمور به لا تعرف إلا بالشرع المسموع ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة من ثبوت هذا الشبه من بعض الوجوه والله هو الذي خلق آدم على صورته هو خير مما ذكره المؤسس واستشهد عليه بما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وهو قوله تخلقوا بأخلاق الله فإن هذا من جنس ما يقوله المتفلسفة الصابئون ومن سلك مسلكهم من الإسلاميين من قولهم إن الفلسفة هي التشبه بحسب الطاقة فيثبتون أن العبد يصير شبيهاً بالله تعالى بفعل نفسه ويحتج من اتبعهم على ذلك كأبي حامد وغيره بقوله تخلقوا بأخلاق الله وهذا اللفظ لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث ولا هو معروف عن أحد من أهل العلم بل هو

ص: 518

من باب الموضوعات عندهم وإن كان قد يفسر بمعنى صحيح يوافق الكتاب والسنة فإن الشارع قد ذكر أنه يحب اتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى كقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال إنه وتر يحب الوتر إنه طيب لا يقبل إلا طيباً

ص: 519

الراحمون يرحمهم الرحمن إنك عفو تحب العفو فاعف عني إن الله نظيف يحب النظافة لكن المقصود أن هؤلاء مع كونهم أظهر الناس تبرُّءاً من التشبيه يزعمون أن كمال الفلسفة عندهم أن يفعل الإنسان ما يصير به مشابهاً لله في الجملة وقد وافقهم عليه بعض المتكلمين وإن كان كثير من المتكلمين يخالفونهم في ذلك

ص: 520

ويقول أخبرهم كالمأزري ليس لله خلق يتخلق به العبد فلأن يكون الله هو القادر على أن يخلق ما يشبهه من بعض الوجوه أولى وأحرى فيكون هذا ثابتاً بخلق الله تعالى وأما الأخلاق والأفعال المناسبة المشابهة لمعاني أسمائه التي يحبها فهي مما أمر به وهو سبحانه له الخلق والأمر الوجه السادس أن يقال المحذور الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة أو الصورة المعنوية أو الروحانية ونحو ذلك يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه وإن كان مثل هذا لازماً على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه لأجله ولم يكن أيضاً

ص: 521

محذوراً بالاتفاق وذلك أن كون الإنسان على صورة الله التي هي صفته أو صورته المعنوية أو الروحانية فيه نوع من المشابهة كما أنه إذا أُقِرَّ الحديث كما جاء فيه نوع من المشابهة غايته أن يقال المشابهة هنا أكثر لكن مسمى نوع من التشبيه لازم على التقديرين والتشبيه المنفي بالنص والإجماع والأدلة العقلية الصحيحة مُنتفٍ على التقديرين وإذا ادعى المنازع أن هذا فيه نوع من التجسيم المقتضي للتركيب فقد تقدم أن ما يسمونه تركيباً لازم على القول بثبوت الصفات بل على القول بنفس الوجود بل هو لازم لمطلق الوجود وقد تقدم بيان ذلك وبينا أن جميع ما يدعى من الأدلة العقلية المانعة من ذلك فإنه فاسد متناقض ومعنى فساده ظاهر ومعنى تناقضه أن ما يدعيه يلزمه من الإثبات نظير ما نفاه فيكون جامعاً بين النفي وإثباته أو إثبات نظيره الوجه السابع أن يقال إذا كان مخلوقاً على صورة الله تعالى المعنوية فلا يخلو إما أن يكون ذلك مقتضياً لكون

ص: 522

صفات العبد المعنوية من جنس صفات الله بحيث تكون حقيقتها من جنس حقيقتها أو لا يقتضي ذلك بل يقتضي المشابهة فيها مع تباين الحقيقتين فإن كان مقتضى الحديث الأول فهو تصريح بأن الله له مثل وهذا باطل وأيضاً فإنه ممتنع في العقل فإن المتماثلين في الحقيقة يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً مفتقراً ممكناً والخالق يجب أن يكون قديماً واجب الوجود غنيًّا فيجب أن يكون الشيء الواحد واجباً ممكناً غنيًّا فقيراً موجوداً معدوماً وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن الحديث لا يجوز حمله على هذا

ص: 523

وأيضاً فإنه على هذا التقدير لا يكون في جمله على الصورة الظاهرة محذور وإن لم يكن ذلك مقتضياً لكون صفات العبد من جنس صفات الرب بحيث تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع كون هذا عالماً وهذا عالماً وهذا حيًّا وهذا حيًّا وهذا قادرًا وهذا قادرًا وهذا سميعًا بصيرًا وهذا سميعًا بصيرًا بل هذا موجود وهذا موجود مع كون الحقيقتين والعلم والقدرة متشابهات وكذلك لا يجب إذا كان لهذا وجه وصورة ولهذا وجه وصورة أن تكون الحقيقة من جنس الحقيقة مع تشابه الحقيقتين يوضح ذلك أنه على التقديرين لابد أن يكون بين الذات والذات مشابهة إذا كان على

ص: 524

الصفة المعنوية فإن كون هذا عالماً قادراً وهذا موجوداً وهذا موجوداً وهذا ذاتاً وهذا ذاتاً لها صفات وهذا ذاتاً لها صفات لابد أن يثبت التشابه كما تقدم الوجه الثامن أن الأدلة الشرعية والعقلية التي تثبت بها تلك الصفات تثبت بنظيرها هذه الصورة فإن وجود ذات ليس لها صفات ممتنع في العقل وثبوت الصفات الكمالية معلوم بالشرع والعقل كذلك ثبوت ذات لا تشبه الموجودات بوجه من الوجوه ممتنع في العقل وثبوت المشابهة من بعض الوجوه في الأمور الكمالية معلوم بالشرع والعقل وكما أنه لابد لكل موجود من صفات تقوم به فلابد لكل موجود قائم بنفسه من صورة يكون عليها ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يقوم عليها

ص: 525

الوجه التاسع أن هذا المعنى الذي ذكروه وإن كان ثابتاً في نفسه ويمكن أن يكون الحديث دالاًّ عليه باللزوم والتضمن لكن قصر الحديث عليه باطل قطعاً كما تقدم الوجه العاشر ثبوت الوجه والصورة لله قد جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة المتواترة واتفق على ذلك سلف الأمة وسيأتي إن شاء الله تعالى طائفة من النصوص التي فيها إثبات صورة الله تعالى كقوله فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ونحو ذلك مما هو من الأحاديث التي اتفق العلماء على صحتها وثبوتها فأما لفظ الوجه فلا يمكن استقصاء النصوص المثبتة له فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة

ص: 526

فسلم عليهم واسمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك قال فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله قال وكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن وهذا الحديث إذا حمل على صورة الله تعالى كان ظاهره أن الله طوله ستون ذراعاً والله تعالى كما قال ابن خزيمة جل أن يوصف بالذرعان والأشبار ومعلوم أن هذا التقدير في حق الله باطل على قول من يثبت له حدًّا ومقداراً من أهل الإثبات وعلى قول نفاة ذلك أما النفاة فظاهر وأما المثبتة فعندهم قدر الله تعالى أعظم وحده لا يعلمه إلا هو وكرسيه قد وسع السموات والأرض والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة

ص: 527

والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى وقد قال الله تعالى وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر 67] وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر

ص: 528

وابن مسعود وابن عباس أن الله يقبض السموات والأرض بيديه قال ابن عباس ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهما وما فيهما في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وإذا كان الأمر كذلك كان أكبر

ص: 529

وأعظم من أن يقدر بهذا القدر وهذا من المعلوم بالضرورة من العقل والدين قيل ليس هذا ظاهر الحديث ومن زعم أن الله طوله ستون ذراعاً وزعم أن هذا ظاهره أو حمله عليه فهو مفترٍ كذاب ملحد فإن فساد هذا معلوم بالضرورة من العقل والدين كما تقدم ومعلوم أيضاً عدم ظهوره من الحديث فإن الضمير في قوله طوله عائد إلى آدم الذي قيل فيه خلق آدم على صورته ثم قال طول آدم ستون ذراعاً فلما خلقه قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فهذه الضمائر كلها عائدة إلى آدم وهذا منها أيضاً فلفظ الطول وقدره ليس داخلاً في مسمى الصورة حتى يقال إذا قيل خلق الله آدم على صورته وجب أن يكون على قدره وطوله بل من المعلوم أن الشيئين المخلوقين قد يكون

ص: 530

أحدهما على صورة الآخر مع التفاوت العظيم في جنس ذواتهما وقدر ذواتهما وقد تظهر السموات والقمر في صورة ماء أو مرآة في غاية الصغر ويقال هذه صورتها مع العلم بأن حقيقة السموات والأرض أعظم منذ لك بما لا نسبة لأحدهما إلى الآخر وكذلك المصور الذي يصور السموات والكواكب والشمس والقمر والجبال والبحار يصور ذلك مع أن الذي يصوره وإن شابه ذلك فإنه أبعد شيء عن حقيقته وعن قدره والإضافة تتنوع دلالتها بحسب المضاف إليه فلما قال في آخر الحديث فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعاً هذا يقتضي المشابهة في الجنس والقدر لأن صورة المضاف من جنس صورة المضاف إليه وحقيقتهما واحدة وأما قوله خلق آدم على صورته فإنها تقتضي

ص: 531

نوعاً من المشابهة فقط لا تقتضي تماثلاً لا في حقيقة ولا قدر وأما الذين ظنوا أن الضمير في قوله طوله ستون ذراعاً لما كان عائداً إلى آدم فكذلك الضمير في صورته وان المعنى خلق أدم على صورة آدم فقد تقدم الكلام عليهم وأن آدم لم يكن له صورة قبل ذلك يخلق عليها وذكرنا الوجوه المتعددة الدالة على فساد ذلك ولهذا كان بعض المحدثين الذين يريدون أن لا يحدثوا بعض الناس بهذا المعنى يقولون خلق آدم طوله ستون ذراعاً فإذا كان هذا في بيان مقدار صورة آدم التي خلقه عليها لا يقال في مثل ذلك خلق آدم على صورة آدم بل قد يقال خلق على هذه الصورة وعلى هذه الصفة فإن هذا اللفظ ليس فيه إضافة تقتضي تقدم الصورة التي خلق عليها بل فيه تخصيص وبيان للصورة التي كان عليها بعد الخلق مع أن

ص: 532

هذا لا يصلح أن يقال في هذا اللفظ لن قول القائل خلق آدم على صورة آدم أو على الصورة التي كانت لآدم إذا أراد به التقدير وهو كونها ستين ذراعاً فإنه يقتضي كون المخاطبين يعرفون ذلك من تأويل هذا الخطاب فإن الخطاب المعرف بالإضافة أو اللام يقتضي تقدم معرفة المخاطبين بذلك المعرَّف ومعلوم أن المخاطبين لم يكونوا يعلمون طول آدم وهكذا لا يصلح أن يقال في القدر ما ذكر في صورة آدم من كونه لم يمسخ أو كونه خلق ابتداء ونحو ذلك إذ هذا معلوم بخلاف القدر فعلم أن الحديث أخبر فيه بجملتين أنه خلق آدم على صورته وأن طوله ستون ذراعاً ليس هذا التقدير هو تقدير الصورة التي خلق عليها حتى يقال هي صورة آدم

ص: 533

وأما التأويل الثاني وهو تأويل ابن خزيمة أنه إضافة خلق كما في ناقة الله وبيت الله وأرض الله وفطرة الله فالكلام عليه من وجوه أحدها انه لم يكن قبل خلق آدم صورة مخلوقة خلق آدم عليها فقول القائل على صورة مخلوقة لله وليس هناك إلا صورة آدم بمنزلة قوله على صورة آدم وقد تقدم إبطال هذا من وجوه كثيرة الثاني أن إضافة المخلوق جاءت في الأعيان القائمة بنفسها كالناقة والبيت والأرض والفطرة التي هي المفطورة فأما الصفات القائمة بغيرها مثل العلم والقدرة والكلام والمشيئة إذا أضيفت كانت إضافة صفة

ص: 534

إلى موصوف وهذا هو الفرق بين الأمرين وإلا التبست الإضافة التي هي إضافة صفة إلى موصوف والتي هي إضافة مملوك ومخلوق إلى المالك والخالق وذلك هو ظاهر الخطاب في الموضعين لأن الأعيان القائمة بنفسها قد علم المخاطبون أنها لا تكون قائمة بذات الله فيعلمون أنها ليست إضافة صفة وأما الصفات القائمة بغيرها فيعلمون أنه لابد له من موصوف تقوم به وتضاف إليه فإذا أضيفت علم أنها أضيفت إلى الموصوف التي هي قائمة به وإذا كان كذلك فالصورة قائمة بالشيء المصور فصورة الله كوجه الله ويد الله وعلم الله وقدرة الله ومشيئة الله وكلام الله يمتنع أن تقوم بغيره الوجه الثالث أن العيان المضافة إلى الله لا تضاف إليه لعموم كونها مخلوقة ومملوكة له إذ ذلك يوجب إضافة جميع الأعيان إلى الله تعالى لاشتراكها في الخلق والملك فلو

ص: 535

كان قوله في ناقة صالح نَاقَةَ اللَّهِ بمعنى أن الله خلقها وهي ملكه لوجب أن تضاف سائر النوق إلى الله تعالى بهذا المعنى فلا يكون حينئذ لها اختصاص بالإضافة وكذلك قوله وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج 26] لو كان المراد به أنه خلقي وملكي لوجب إضافة سائر البيوت إلى الله لمشاركتها في هذا المعنى فلابد أن يكون في العين المضافة معنى يختص بها يستحق بها الإضافة فبيت الله هو البيت الذي اتخذ لذكر الله تعالى وعبادته وهذه إضافة من جهة كونه معبوداً فيه فهو إضافة إلى إلهيته لا إلى عموم ربوبيته وخلقه كما في لفظ العبد فإن قوله لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن 19] وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان 63] هو إضافة إليهم لأنهم عبدوه لا لعموم كونه عبَّدهم بخلقه لهم فإن هذا يشركهم فيه جميع الناس وهو قد خصهم بقوله إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقوله عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ

ص: 536

[الإنسان 6] ونحو ذلك كذلك الناقة فيها اختصاص بكون الله جعلها آية ففيها معنى الإضافة إلى إلهيته وأما قوله يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)[العنكبوت 56] وقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء 97] ففي الإضافة تخصيص للأرض التي هي باقية على ما خلقها الله تعالى فلم يستول عليها الكفار والفجار من عباده ومنعوا باستيلائهم عليها من عبادة الله عليها ولهذا لم تدخل أرض الحرب في هذا العموم وقد يقال الإضافة لعموم الخلق لأن الأرض واحدة لم تتعدد كما تعددت النوق والبيوت والعبيد وقوله فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم 30] تضاف إلى الله من الوجهين من جهة انه خلقها فتكون إضافة إلى جهة ربوبيته ومن جهة أنه فطرها على الإسلام الذي هو عبادة الله فيكون في الإضافة معنى الإضافة إلى ألوهيته وإذا كان كذلك فالصورة المخلوقة هي مشاركة لجميع الصور في كون الله خلقها من جميع الوجوه فما الموجب لتخصيصها بالإضافة إلى الله وأيضاً فسائر الأعضاء مشاركة للصورة التي هي الوجه في كون الله خلق ذلك جميعه فينبغي أن يضاف سائر الأعضاء إلى الله بهذا الاعتبار حتى

ص: 537

يقال يد الله ووجه الله وقدمه ونحو ذلك لكون أن الله خلقه الوجه الرابع أن قوله إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته لو كانت الإضافة إضافة خلق وملك لوجب ألا يضرب شيء من الأعضاء لأن إضافته إلى خلق الله وملكه كإضافة الوجه سواء الوجه الخامس أن هذا الوجه المضروب هو في كونه مخلوقاً مملوكاً لله بمنزلة الصورة المملوكة لله فلو كان قد نهى عن ضرب هذا لكونه ذلك لكان هذا التشبيه من باب العبث لأن العلة في المشبه به مثل من يقول لأحد ابنيه إنما أكرمتك لأنك مثل ابني الآخر في معنى البنوة أو يقول لعبده إنما أعطيتك لأنك مثل عبدي الآخر في معنى العبودية وهما مشتركان في هذا الوجه السادس أنه من المعلوم أن جميع ما يضرب من الموجودات ويشتم هو من مخلوق الله مملوك وهذا يوجب ألا يضرب مخلوق ولا يشتم مخلوق

ص: 538

الوجه السابع أن قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته يدل على أن المانع هو مشابهة وجهه لصورة الله فلو أريد صورة يخلقها الله لكان كونه هو في نفسه مخلوقاً لله أبلغ من كونه مشبهاً لما خلقه الله فيكون عدولاً عن التعليل بالعلة الكاملة إلى ما يشبهها الوجه الثامن أنه لو قال لا تضرب وجه هذا فإن الله خلقه على صورته لكان قد يقال فإن الله خلق هذا على صورة مشرفة مكرمة بل قال إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ولا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته فخلق المخلوق على صورته وهذا من بنيه فمعلوم أن صورته كصورة آدم فذكر ثلاثة أشياء

ص: 539

الصورة المضروبة المشتومة المنهي عن ضربها وشتمها وهي وجوه الآدميين وآدم الذي خلقه الله والصورة التي خلق عليها آدم فلابد من إثبات هذه الثلاثة ولو أريد الصورة المخلوقة لم يكن إلا صورة فقط فيقال خلق هؤلاء أو هذا أو الذرية على صورته الوجه التاسع أن العلم بأن الله خلق آدم هو من أظهر العلوم عند الخاصة والعامة فإذا لم يكن في قوله على صورته معنى إلا أنها الصورة التي خلقها وهي ملكه لكان قوله خلق آدم كافياً إذ خلق آدم وخلق آدم على صورته سواء على هذا التقدير وإن ادعى أن في الإضافة بمعنى الخلق تخصيص فكذلك يكون في لفظ خلق لا فرق بين قول القائل هذا مخلوق الله وبين قوله إن الله هو الذي خلق هذا ومعلوم أن حمل الحديث على هذا يوجب سقوط فائدته كما لو صرح بذلك فقال خلق آدم على الصورة التي خلقها الله أو خلق آدم على الصورة التي خلقها الرحمن ومثل هذا الكلام لا يضاف إلى أدنى الناس فضلاً عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 540

الوجه العاشر أن قوله خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن يقتضي أنه براه وصوره على تلك الصورة فلو أريد الصورة المخلوقة المملوكة التي هي صورة آدم المضافة إليه تشريفاً لكان قال صورة آدم صورة الله أو صورة الإنسان صورة الله ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على الإضافة المجردة وإن كان في ذلك ما فيه أما إذا قيل خلقه على صورته ولم يرد إلا أن صورته المخلوقة هي الصورة المضافة إلى الله لكونها مخلوقة له فهذا تناقض ظاهر لا يحتمله اللفظ أما التأويل الثالث المذكور عن الغزالي من أن معنى قوله خلق آدم على صورته أن الإنسان ليس بجسم ولا جسماني ولا تعلق له بهذا البدن إلا على سبيل التدبير

ص: 541

والتصرف ونسبة ذات آدم إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم من حيث أن كلاًّ منهما غير حال في هذا الجسم وإن كان مؤثراً فيه بالتصرف والتدبير فهذا يشبه ما ذكره الإمام أحمد عن الجهم في مناظرته للمشركين السُّمَنية قال وكان الجهم وشيعته كذلك دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً وكان مما بلغنا من أمر الجهم أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في

ص: 542

الله تبارك وتعالى فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتنا عليك دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلهاً قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك فقال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قالا لا قالوا فوجدت له حسًّا قال لا قالوا

ص: 543

فوجدت له محسًّا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً ثم إنه استدرك حجة مثل حجة الزنادقة من النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون، الروح التي في عيسى صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا هي من روح الله ومن ذات الله فإذا أراد الله أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما شاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمنى ألست تزعم أن فيك روحاً فقال نعه فقال هل رأيت روحك قال لا قال

ص: 544

فسمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسًّا أو محسًّا قال لا قال فكذلك الله تعالى لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه كما تقدم ذلك فقد شبه الجهم الله بالروح التي في الإنسان من جهة أن كلاهما لا يشبه بشيء من الحواس الخمس مع تدبيره لذلك الجسم وهذا يشبه قول الصابئة المتفلسفة الذين اتبعهم أبو حامد

ص: 545

حيث ادعوا أن الروح هي كذلك ليست جسماً ولا يشار إليها ولا تختص بمكان دون مكان ولكنها مدبرة للجسد كما أن الرب مدبر للعالم مع أن في كلام أبي حامد من التناقض في هذه الأمور ما ليس هذا موضع استقصائه وبهذا يتبين ما نبهنا عليه في غير موضع أن مذهب الجهمية هو من جنس دين الصابئة المبدلين وذكر أن أستاذه الجهد بن درهم كان من أتباعهم وعلماء هؤلاء هم المتفلسفة ولهذا لما دخلت المعتزلة في دين الجهمية واتبعوا هؤلاء الصابئة الفلاسفة في مواضع كثيرة كما قيل المعتزلة مخانيث الفلاسفة وقد ذكر ذلك غير واحد من المطلعين على المقالات ولما كان هؤلاء المتفلسفة الصابئون لا يجمعهم قول في باب العلوم الإلهية بل بينهم فيها من التفرق الاضطراب

ص: 546

ما لا يحصيه إلا رب الأرباب كان للجهمية من المعتزلة ونحوهم من ميراث هؤلاء أوفر حظ ونصيب ور ريب أنهم لابد أن يخالفوا أهل النفي العظيم والتعطيل المطلق منهم فيكون بينهم منازعات ومجادلات عظيمة وأيضاً كذلك هم مع المجوس في باب القدر والأفعال فإنهم شركوا المجوس في تشبيه أفعال الله تعالى بأفعال الواحد من الآدميين ووضعوا له شريعة بالقياس على أنفسهم فيوجبون عليه ويحرمون عليه من جنس ما يوجب عليهم ويحرم وهم مع هذا يخالفونه المجوس في الأصلين النور والظلمة ويردون عليهم لكن هم مع مخالفتهم المجوس

ص: 547

والصابئين في كثير من الأصول فقد شركوهم في كثير من الأصول وخرجوا من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه هؤلاء من الضلال ومعهم من دين الإسلام بقدر ما شركوا فيه المسلمين من الحق وإن كان بعضه مع هؤلاء وبعضه هو من الحق الذي خالفوا فيه هؤلاء والمعتزلة الذين جمعوا التجهم والقدر كان مبدأ انتشارهم وظهورهم في أثناء المائة الثانية وإن كان ابتداع مذهب القدرية حدث في أثناء المائة الأولى ثم بعد ذلك تغلظ ذلك وظهر في كثير من الناس من مذهب الصابئة والمجوس ما

ص: 548

هو من أعظم الكفر وازداد ذلك حتى ظهرت حقائقه في القرامطة والباطنية ونحوهم من الملاحدة وحتى ظهر الشرك الصريح بعبادة غير الله تعالى وصار بعض هذه البدع المضلة يَتَلَوَّنُ بها كثير من المنتسبين في أكثر أحوالهم إلى ما عليه أهل السنة والجماعة لظهور أصحابها وانتشارها لأنهم وفيها من نصر ذلك بالحجج والجدال والسيف والقتال كما وقع في الإسلام من ذلك وقائع كثيرة يعلم بعضها من له اطلاع على ما ورخ من الحوادث في أيام الإسلام والإمام أحمد ذكر أن الجهم فر إلى نظير قول زنادقة النصارى فإن أولئك يقولون بالحلول الخاص في المسيح والجهمية يقولون بالحلول العام المطلق وهو أنه في كل

ص: 549

مكان لا يستقرون على قدم في ذلك فتارة يقولون هو في كل مكان وتارة يقولون ليس في مكان أصلاً ولا هو داخل العالم ولا خارجه وقد يطلقون الأول لفظاً ويريدون الثاني من جهة المعنى لنفور القلوب عن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه فإن فساد هذا معلوم في بداية العقول فيطلقون للعامة انه بكل مكان لأن هذا إقرار بشيء من الجملة ولكن مقصود نظارهم هو النفي العام والجهم وأئمتهم كانوا يأتون بألفاظ مجملة ومقصوده بالجميع انه ليس على العرش كقوله هو على العرش كما تحت الثرى لا يختص بمكان دون مكان فإن هذا يقال لمن هو موجود في هذه الأمكنة كلها ويقال لمن ليس في شيء منها وكثير منهم من الاتحادية وغيرهم يصرحون بنقيض النفي حقيقة ويقولون إن ذاته موجودة في كل مكان بل يقولون

ص: 550

من يقول منهم إنه عين الموجودات وأن وجودها نفس وجوده وقد يقولون إنه روح العالم والعالم صورته فإنهم في الحلول العام بمنزلة النصارى في الحلول الخاص وقد بسطنا الكلام علة أقوال هؤلاء الاتحادية منهم في غير هذا الموضع والكلام على هذا التأويل من وجوه أحدها أن من ألفاظ الحديث إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن ضرب الوجه لكون آدم مخلوقاً لأم الله خلق آدم على صورة الرحمن فلو كان المراد إبداع روحه مدبراً لجسده من غير حلول فيه

ص: 551

كما أن الله تعالى مدبر للعالم من غير حلول فيه لم يكن هذا متناولاً للوجه فإن الوجه من الجسد الذي تدبره الروح فيكون مشابهاً لبعض العالم الذي يدبره الله تعالى ولا يكون داخلاً في الروح التي خلقها الله تعالى على صورته وإذا كان كذلك لم يصلح أن يعلل النهي عن ضربه بعلة لا تتناوله الوجه الثاني أنه لو أريد هذا لقيل لا تغموا الآدمي أو لا تحزنوه أو لا تضيقوا صدره فإن الله خلقه على صورته فيكون النهي عن تعذيب الروح المشابهة للرب من الوجه الذي ذكره إن كان ما قاله حقًّا الوجه الثالث أن كون حقيقة الآدمي هي الروح وأنها مخلوقة على صورة الله أمر لا يختص الوجه بل يشترك فيه سائر البدن فإن الروح مدبرة لجميع البدن فتخصيص الوجه بالنهي عن ضربه وشتمه لأجل ذلك لا وجه له بل يقال إما أن يكون كون الروح مخلوقة على صورة الله موجباً للنهي عن الضرب والتقبيح لما هي مدبرة له أو لا يكون فإن كان ذلك وجب أن ينهى عن ضرب جميع أجزاء بدن الإنسان

ص: 552

حتى لا يجوز الضرب والتقبيح لشيء من بدن الآدمي مطلقاً وإن كان كافراً أو فاسقاً ومعلوم أن هذا في نهاية الفساد المعلوم بالاضطرار من العقل والدين وإن لم يكن ذلك موجباً للنهي لم ينه عن ضرب الوجه وهو خلاف النص والإجماع الوجه الرابع أن الحديث لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته نهى عن تقبيح الوجه وتقبيح ما يشبهه لأن الله خلق آدم على صورته فلو كلن المخلوق على الصورة إنما هو الروح لم يصح هذا التشبيه فإن الله لا يشبه وجه الإنسان وإنما يشبه روحه الوجه الخامس أن هذا التقبيح المنهي عنه لا يصلح أن يكون للوجه لعدم تناول العلة له الوجه السادس أنه لو أريد ذلك لقيل لا تقبحوا الروح أو لا تسبوها ونحو ذلك الوجه السابع أنه لا اختصاص للوجه بالنهي عن تقبيحه على هذا التقدير بل كان الواجب أن ينهى عن تقبيح جميع

ص: 553

أعضاء البدن أو لا ينهى عن تقبيح شيء منها لأن تعلق الروح بذلك تعلق واحد الوجه الثامن أن قوله في الحديث الآخر المتفق عليه إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً صريح في أن المخلوق على صورته طوله ستون ذراعاً وهذا نص في البدن فكيف يجوز أن يقال إن البدن ليس داخلاً في الحديث وإنما المراد الروح فقط الوجه التاسع أن اسم آدم يتناول البدن كتناوبه الروح وهذا معلوم بالاضطرار من كلام الله وكلام رسوله والعلماء كما في قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقوله وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة 35] وقوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة 37] وقوله يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف 27] وأمثال ذلك فمن زعم أن اسم آدم لا يتناول إلا الروح فقط في مثل خلق آدم ونحوه من الكلام فإن بطلان قوله معلوم بالاضطرار المنزل بين العباد وإنما يقال هذا في مثل قوله في حديث

ص: 554

المعراج أنه رأى في السماء آدم وإبراهيم وموسى ونحوهم فإنه في مثله يقال المذكور هي الأرواح للعلم بأن أجسادهم في قبورهم الوجه العاشر أنه لو قال قائل لفظ خلق آدم إنما يتناول البدن وأن الروح نفخت فيه بعد ذلك لكان أقرب من هذا التبديل فإنه سبحانه وتعالى قال إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ

ص: 555

طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)[ص 71-72] وقال إبليس لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)[الحجر 33] وقال خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)[الرحمن 14-15] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة فيهم الأسود والأبيض وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحَزْن وبين ذلك

ص: 556

وهذه النصوص وأمثالها مصرحة بأنه خلق آدم من التراب ومن الطين ومعلوم أن البدن هو المخلوق من ذلك فكيف يدعي المدعي أن قوله خلق آدم إنما يتناول الروح فقط الوجه الحادي عشر أن أبا حامد يدعي في مواضع أن لفظ الخلق إنما يتناول بالروح مسألة التقدير والمساحة وهو عندهم عالم الجسام التي يسميها عالم الملك فأما الأرواح المفارقة أو المدبرة التي يسميها عالم الجبروت

ص: 557

والملكوت فتلك عنده عالم الأمر ليست من عالم الخلق فإذا ادعى مع ذلك أن لفظ الخلق إنما يتناول ما هو من عالم الأمر دون عالم الخلق كان هذا من أعظم التناقض ودل ذلك على فساد كلامه في هذا الباب الوجه الثاني عشر أن هذا غايته أن يكون خلقه على بعض صفاته وهي صفة التدبير للخلق من غير حلول فيه وهذا دون قول من يقول على صفة الحياة والعلم والقدرة وقد تقدم بطلان قول من حمل لفظ الصورة على هذه الصفات بما فيه كفاية وذلك كله دليل على بطلان هذا بطريق الأولى وهذه الوجوه المذكورة في الصفة كلها الوجه الثالث عشر أن إطلاق لفظ صورة الله على مجرد

ص: 558

كونه مدبراً للعالم من غير حلول فيه أمر لا يدل عليه اللفظ بوجه من الوجوه بل هو من جنس دعاوي القرامطة الباطنية ولا ريب أن كلام المتفلسفة في الروح مما تميل إليه القرامطة الباطنية الوجه الرابع عشر أن عند أبي حامد ومتبعيه من المتفلسفة أن الملائكة بهذه المثابة وهي التي يسمونها

ص: 559

العقول والنفوس فإنها عندهم مدبرة لعالم الأفلاك من غير حلول فيها فلا اختصاص لآدم بكونه مخلوقاً على صورة الله تعالى على هذا التقدير بل جميع الملائكة وما يسمونه العقول والنفوس مخلوق على صورة الله تعالى

ص: 560

على هذا التقدير ومن أثبت من هؤلاء ووافق على أن لهم معاداً فإنه يقول فيهم كذلك فيكون إبليس أيضاً مخلوقاً على صورة الله تعالى عندهم وينبغي أن ينهى عن تقبيح الجن والشياطين لأنهم مخلوقون على صورة الله تعالى الوجه الخامس عشر أن هذا الكلام خرج مخرج المدح والتعظيم لآدم والمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية وبالسلبية التي تتضمن صفات ثبوتية وليس فيما ذكروه إلا مجرد كونه مدبراً للبدن وكونه غير حال فيه وهذه الصفة الثانية صفة سلبية ومجرد التدبير مشترك بين جميع الحيوانات الوجه السادس عشر أن يقال إن تشبيه الرب بالعبد إما أن يكون سائغاً أو لا يكون فإن لم يكن سائغاً بطل تشبيه الله بالروح المدبرة للبدن وإن كان سائغاً فلا حاجة إلى تحريف الحديث والمقصود أنهم في تأويلهم مثبتون لنظير ما فروا منه فإنهم فروا من التشبيه ولم يتأولوه إلا على التشبيه وإن قالوا بثبوت التشبيه من وجه دون وجه كان كلام منازعيهم في النفي والإثبات أقوى من كلامهم كما تقدم لاسيما على هذا القول

ص: 561

الوجه السابع عشر هذا التشبيه تشبيه باطل فإن الروح محتاجة إلى البدن في تحصيل كمالاتها كما أن البدن محتاج إليها كل منهما محتاج إلى الآخر وباتفاقهما كانت الأعمال كما رواه الحافظ أبو عبد الله بن منده في كتاب النفس والروح وغيره عن ابن عباس قال لا تزال الخصومة يوم القيامة حتى يختصم الروح والبدن فتقول الروح أنا لم أعمل شيئاً وإنما أنت عملت فأنت المستحق للعذاب ويقول البدن أنا لم أتحرك من تلقاء نفسي ولكن أنت حركتني وأمرتني فيبعث الله ملكاً يحكم بينهما فيقول مثلكما مثل مقعد وأعمى دخلا بستاناً فرأى المقعد فيه ثمراً معلقاً فقال للأعمى إني أرى ثمراً ولكن لا أستطيع المشي إليه

ص: 562

فقال الأعمى أنا أستطيع المشي لكني لا أراه فقال تعال فاحملني فحمل الأعمى المقعد وجعل يقول له تعال إلى هنا تعال إلى هنا فيأمر المقعد العمى فيفعل فعلى من يكون العقاب فقال على الاثنين فقال الملك فهذه حالكما أو نحو هذا المعنى وهذا أمر محسوس متفق عليه بين العقلاء وهؤلاء الذين يسمونها النفس الناطقة متفقون على أنها تعلقت بالبدن

ص: 563

لتحصيل كمالاتها وإذا كان كذلك فيلزم من هذا التشبيه أن يكون الله محتاجاً إلى العالم كما أن العالم محتاج إليه وهذا من أقبح الكفر والتمثيل فإن التشبيه إذا ساغ إنما يسوغ في صفات الكمال وهذا تشبيه لله بخلقه في صفات النقص وأيضاً فإن الروح تفارق البدن ما شاء الله من الزمان وعلى زعم المتفلسفة مفارقتها له أكثر من مقارنتها فإنها عندهم لا تقارنه بعد المفارقة أبداً فيلزم أن يكون تخلى الله عن تدبير العالم أعظم من تدبير العالم أضعاف أضعاف تدبيره له على تقدير صحة هذا التشبيه الوجه الثامن عشر أن الله رب العالم كله خالقه وبارِئُه

ص: 564

ومصوره وأما الروح والبدن فبمنزلة المتشاركين المتعاونين فكيف يجوز أن يقال نسبة ذات آدم التي هي روحه إلى هذا البدن كنسبة الباري إلى العالم مع أن هذا من ابعد الأمور عن المشابهة فإن كون أحدهما غير حال مع كونه مؤثراً فيه بالتدبير والتصرف ينعكس في جانب الإنسان فإن البدن على رأيهم ليس بمحل للروح وهو أيضاً مؤثر في الروح إذ كل منهما يؤثر في الآخر فما يحسه البدن ويباشره ببدنه يؤثر في الروح كنا يذكره أبو حامد في غير موضع وهو محسوس فهل العالم يؤثر في الله كتأثير البدن في الروح الوجه التاسع عشر أن كون الإنسان ليس بجسم ولا جسماني أمر ليس من المعارف الظاهرة ولا أخبر به الرسول أمته حتى يصير معروفاً عندهم بل كون الله ليس بجسم هو أيضاَ كذلك ليس من المعارف الظاهرة ولا أخبر به الرسول أمته فقوله خلق آدم على صورته إذا أراد به أن كلاًّ

ص: 565

منهما ليس بجسم ولا جسماني بل كل منهما غير حال فيما يدبره مع تأثيره فيه أمر لا يدل عليه اللفظ في اللغة التي خوطب بها ولا كان عند المخاطبين من المعارف ما يفهم ذلك فيكون بيان هذا المعنى بهذا اللفظ خارجاً عن قانون الخطاب ليس بحقيقة عندهم ولا مجاز إذ من شرط المجاز ظهور القرائن المثبتة للمراد وليس عند المخاطبين قرينة تبين ذلك الوجه العشرون أن هذا المعنى الذي ادعوه من كون الروح ليس بجسم ولا جسماني وأنها ليست في البدن وأن تعلقها بالبدن إنما هو تعلق التدبير فقط وأن الباري أيضاً ليس بجسم وأن تعلقه بالعالم تعلق التدبير فيقال لا يفهم إلا بعبارات مبسوطة أما أن يكون مجرد قوله خلق آدم على صورته مفهماً لهذه المعاني مبيناً لها من الرسول الذي عليه البلاغ المبين معلوم الفساد بالاضطرار الوجه الحادي والعشرون أن دعواهم أن الروح ليست في البدن خلاف ما نطقت به نصوص الكتاب والسنة وهو خلاف المحسوس الذي يحسه بنو آدم لاسيما حين الموت إذا

ص: 566

أحسوا بنزع الروح من جسد أحدهم وأنها تخرج من كل عضو من أعضائه وكذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط يعني الذي جاء مع الملائكة من الجنة إلى آخر الحديث كما تقدم لفظه وقال في الكافر يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه فتتفرق في أعضاءه كلها فينزعها نزع السفود من الصوف المبلول فتتقطع بها العروق والعصب وتمام الحديث قد تقدم كلما فيه وهو صريح بدخول الروح وخروجها وصعودها وهبوطها وقبضها

ص: 567

وإرسالها وما يشبه ذلك من الصفات التي هي عندهم لا تكون إلا لما يسمونه في اصطلاحهم جسماً فقول القائل ليست بجسم وليست في البدن مضادة لقول الرسول فكيف يجوز أن يحمل عليه ألفاظ الرسول حتى يجعل متشابه كلامه مناقضاً لمنصوصه ومحكمه الوجه الثاني والعشرون أن الله قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) في موضعين من القرآن وقال وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ [السجدة 7-9] فأخبر أنه نفخ فيه من روحه فكيف يجوز أن يقال إن الروح ليست فيه فإن قيل إنما قال ذلك لأنها مدبرة له كما يقال إن الله في السماء فيقال فينبغي على قياس ذلك أن يقال إن الله في السماء والأرض وكل مكان لأنه مدبر لذلك لا يخص الإطلاق بأنه في السماء ومعلوم انه ليس في الكتاب والسنة

ص: 568

إطلاق القول بأن الله تعالى في العالم أو في الخلق أو في كل مكان كما فيهما إطلاق أن الروح في البدن فتمثيل أحدهما بالآخر من أعظم الفرية والكذب على الله وعلى رسوله وهي فرية جهم وأمثاله وأيضاً فأبو حامد مع متبوعيه من هؤلاء المتفلسفة الصابئين عندهم أن الله تعالى ليس في شيء من العالم أصلاً كما أنه قول أهل السنة كما أنه عند المتفلسفة وعندهم أيضاً أنه ليس فوق العالم فيمتنع عندهم أن يكون الروح في الجسد أو فوق الجسد وحينئذ فلا يصح إطلاق القول بأنها في الجسد لأن ذلك إما أن يراد به أنه حال فيه أو أنه عليه كما في قوله تعالى وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه 71] الوجه الثالث والعشرون أن الله تعالى قال يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)[الفجر 27-30] فأمرها بالرجوع إلى ربها الله وفي ذلك إثبات حركتها وإثبات الانتهاء إلى الله وكلاهما

ص: 569

خلاف ما يزعمه هؤلاء فيها وكذلك قوله فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)[الفجر 29-30] أمرها بالدخول في عباده ودخول الجنة وهذا يناقض قولهم إن النفس لا داخلة العالم ولا خارجه ولا تكون في مكان كما يزعمون ذلك في الباري تعالى وقال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر 42] فأخبر أنه يتوفاها وهو قبضها وأخذها واستيفاؤها وأخبر أن ذلك التوفي يكون حال الموت ويكون في المنام وأن المتوفاة في المنام منها ما يمسك وهي التي يقضى عليها بالموت في المنام ومنها ما يرسل فالإمساك لها والإرسال لها وتوفيها كل ذلك يتضمن نقيض ما يذكرونه من عدم اتصافها بجنس هذه الصفات الوجه الرابع والعشرون أن من جعل نسبة الروح وهو آدم عنده إلى البدن كنسبة الباري إلى العالم لزمه أن يجعل الباري

ص: 570

روح العالم كما قال بعضهم عن الحق تعالى أنا روح الأشياء إن تحل مني اتخذوها كدارسات الرسوم وهذا وإن كان قد يقوله يعض الحلولية والاتحادية القائلين بأنه في كل مكان فهؤلاء المتفلسفة وأبو حامد ونحوه لا يقولون هذا بل عندهم قائل هذا من أكفر الناس وهو في ذلك مصيب موافق لجماعة المسلمين وإن كان هذا القول هو شبيه بما ذكر عن الجهمية أولاً حيث قالوا إنه في كل مكان كما تقدم ذكر ذلك عن أحمد فإن فساد هذا القول من أظهر الأمور وقد قدمنا من فساده ما فيه كفاية وذلك يقتضي أن بكون الرب نفسه هو الروح التي في الجن والشياطين وفي جهنم وغيرها التي في البدن وأن يكون الرب متنعماً متعذبًا راضياً ساخطاً فرحاً مغتمًّا مسروراً حزيناً بكل ما يوجد من ذلك في أجسام العالم كما أن الروح يكون فيها

ص: 571

كذلك بكل ما يوجد في جسدها والاتحادية الذين يقولون هو الوجود يصفونه بذلك كله ويقولون هو موصوف بكل مدح وكل ذم وكل نعيم وكل عذاب كما قد ذكرنا افتراءهم في غير هذا الموضع ومعلوم ما في هذا القول من الكفر والضلال والسب لله والجحود له

ص: 572

فصل وللناس تأويلات أخر وكلها باطلة مثل تأويل ابن عقيل ومن وافقه أن المراد صورة الملك والتدبير بل ومن الاستيلاء على جنس الحيوان حتى طائره وسابحه ما يشبه به استيلاء الرب على العالم بالتدبير والتصريف بل وعلى سائر الأجسام الجامدة وهذا وإن كان ابن عقيل يذكره في موضع فإنه في موضع آخر يتأوله على الصورة المخلوقة كما تقدم ذلك فإن هؤلاء لا يثبت أحدهم على مقام بل هم كثيرو الاضطراب وما من شيء يقوله المؤسس وأمثاله إلا وقد يقوله ابن عقيل ونحوه في بعض الأوقات والمصنفات وإن كان قد يرجع عن ذلك كما يرجع عن غيره

ص: 573

قال في كفايته فصل في إضافة الصورة إليه تجوزاً وأنه مصور لكل صورة فأما ذاتاً فلا يطلق عليه إلا وتحتها معنى هو عين التخطيط والأشكال ولعله يقتضيها الحال مثل قولهم حدثني صورة أمرك يريد به حالك والذي ينفي حقيقة الصورة عنه هو الذي نفاه المشبهة عنه كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلق الله آدم على صورته ورأيت ربي في أحسن صورة لا ينطبق على المثال والشكل لنص

ص: 574

الكتاب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] فمتى جاء خبر واحد وتواتر يثبت له صورة تعارض الكتاب والسنة وتناقض الدين والله قد حماه عن المناقضة وحرسه عن التقابل والتعارض والاختلاف فلابد من الجمع بين قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)[الشورى 11] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم على صورته فيكون نفي المثال نافياً للصورة التي هي التخطيط والشكل وإضافة الصورة إلى الله نفى شكل آدم إلى الله على سبيل الملك كما قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ولم يرد به الروح الذات وكانت الفائدة في ذلك تشريفها بالإضافة إليه كتشريف بنية الكعبة بتسميته بيتاً له وإن كان لا يسكنه كذلك تشريف صورة آدم

ص: 575

بالإضافة إليه وإن كانت لا تشبهه قال وقوله رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل أن يكون رآه في أحسن صورة ويحتمل أن يكون في أحسن حال من الإكرام والتبجيل قال إنما دعانا إلى ذلك لأن إطلاق الصورة عليه سبحانه تصريح بتكذيب القرآن وكفى بذلك محوجاً إلى التأويل وليس هذا مما يمكنا أن نقول فيه صورة لا كالصور لأنه عزاها إلى صورة محسوسة هي صورة آدم فلو كان على صورة الله في نفسه لكان كل آدمي على صورة الله والله سبحانه وتعالى على صورته وقد أكذب الله من قال ذلك وأطلقه عليه بقوله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى 11] وآدم شيء فلا يكون مثلاً لله تعالى وهذا لفظ ابن عقيل وهو مثل كلام المؤسس ونحوهم من الجهمية وقد تقدم الكلام على هذا

ص: 576

وإنما المقصود هنا الكلام على تأويله بصورة الملك والتدبير وزاد على هذا طائفة من الاتحادية وغيرهم فقالوا هو خليفة الله استخلفه بأن جعل فيه من أسمائه وصفاته ما ضاهى به الحضرة الإلهية وهؤلاء طائفتان طائفة تثبت الرب وراء العالم وتجعل الإنسان خليفة لله وطائفة أخرى لا تثبت للرب وجوداً غير العالم بل يجعلونه هو وجود العالم ويجعلون الإنسان نسخة ذلك الوجود ومختصره فهو الخليفة الجامع فيه وهم في هذا يوافقون من يقول من الفلاسفة وغيرهم أن الإنسان هو العالم الصغير كما أن العالم هو الإنسان الكبير إذ الإنسان قد اجتمع فيه ما تفرق وهذه المعاني لا يقصد النزاع فيها ولكن المردود من ذلك قول أحدهم أن قوله خلق آدم على صورته أي على صورة العالم فإن الإنسان على صورة العالم وهي صورة الله إما الصورة المخلوقة المملوكة كما يقوله من يقر بالرب المتميز

ص: 577

عن العالم وإما أن يجعلوا نفس العالم هو صورة الله ووجوده لا حقيقة له وراء ذلك كما يزعمه الاتحادية مثل صاحب الفصوص ومتبعيه فهذه ثلاثة تأويلات

ص: 578

أحدها أن يكون مدبراً مالكاً لجنسه وغير جنسه كما أن الرب مدبر للعالم فهو على صورة الملائكة الثاني أن يكون على صورة العالم لأنه نسخته ومختصره والعالم هو صورة الله المخلوقة أو المملوكة أو هو صورته الذاتية النفسية وقد قدمنا في تأويل من حمل ذلك على الصفة والصورة المعنوية أننا لا ننازع في ثبوت المعاني الصحيحة مثل كون الإنسان له من الأسماء والصفات والأفعال ما قد حملوا الحديث عليه وجعلوه بذلك فيه شبه لأسماء الحق وصفاته وأفعاله ولا لنا حاجة بالمنازعة في دلالة الحديث على ذلك إما بطريق التضمن وإما بطريق الاستلزام

ص: 579

بحيث يقال إنه إذا ثبت أنه على الصورة الذاتية فهو على الصورة الوصفية والاسمية والفعلية أولى وأحرى أو يقال غير ذلك وإنما المقصود هنا إبطال كل تأويل فيه تحريف الكلم عن مواضعه وإلحاد فيه ورد لما قصد بالنص فيرد ما كذبوا به من الحق لا ما قصدوا به من الحق فإن هذا شأن المحرفين لنصوص الصفات إذا حملوا الحديث على ما هو ثابت في نفس الأمر لم ننازع في ذلك المعنى الصحيح ولا في دلالة الحديث عليه إذا احتمل ذلك وقد لا نكون في هذا المقام ناظرين في دلالة الحديث عليه نفياً وإثباتاً ولكن ننازعهم في

ص: 580

تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته وهو ما أبطلوه وعطلوه وكذبوا به من الحق فإن خطأ النظار فيما كذبوا به ونفوه أكثر من خطئهم فيما صدقوا به وعلموه أما التأويل الأول وهو قولهم على صورة الملك فهو وإن كان فيه نوع شبهة من هذا الوجه فالكلام عليه من وجوه أحدها أن قوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته لو أريد أنه جعل ملكاً مطاعاً مدبراً كما أن الله ملك مطاع مدبر لم يناسب هذا الأمر باجتناب الوجه إذ لا اختصاص له ولأن صفة الملك لا تنافي استحقاق العقوبة الوجه الثاني قوله لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجهاً أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته ذكر خلق آدم على صورته لقوله وجهاً أشبه وجهك وليس في كونه ملكاً ما يقتضي ذلك كما قال فإن الله خلق آدم ملكاً من الملوك

ص: 581

الوجه الثالث أنه لو أريد ذلك لم يكن فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في النهي عن الضرب والنهي عن التقبيح إذ كون آدم مخلوقاً على صفة الملك التي يتميز بها لا يخص عضواً دون عضو الوجه الرابع أن كونه ملكاً لا يوجب رفع العقوبة عنه إذا أذنب إذ لو جاز ذلك لكان ملوك بني آدم ترفه عنهم عقوبة السيئات الوجه الخامس أن كونه مخلوقاً على صورة الملك ليس هذا عامًّا في جميع بني آدم إذ منهم من يصلح للملك ومن لا يصلح أن لا يكون إلا مملوكاً بل منهم من هو أضل من البهائم كما قال تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)[الأعراف 179] وإذا كان كذلك مع أن النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه عام في جميع الآدميين وصفة الملك والسؤدد ليست عامة علم أنها ليست هي المراد بقوله على صورته الوجه السادس أن الملك ليس مختصًّا بالآدميين بل في أصناف البهائم الرئيس والمطاع والمرؤوس المطيع فما من

ص: 582

طائفة من البهائم والطير تجتمع كالنحل وغيرها إلا وفيها الرؤساء المطاعون وأيضاً فالملائكة كذلك كما قال تعالى في جبريل إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)[التكوير 19-21] وإذا كان الأمر كذلك لم يكن لآدم اختصاص بالرئاسة والملك وإن كان لبني آدم من الاختصاص ما ليس لغيرهم فالملائكة أيضاً ليست كبني آدم وأهل السنة وإن قالوا إن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة فلا يقولون إن جنس الآدميين مطلقاً أفضل من جنس الملائكة بل في بني آدم من هو شر من البهائم الوجه السابع أن الملك صفة من صفات الله وهو يعود إلى القدرة أو القدرة والعلم والحكمة فيكون ذلك داخلاً في تأويل من تأوله على الصورة المعنوية وهي صفة العلم والقدرة وقد تقدمت الوجوه المتعددة في إبطال حمله على ذلك وتلك الوجوه كلها تبطل هذا بطريق الأولى

ص: 583

الوجه الثامن أن تسمية ملك الله صورة الله أو تسمية تدبيره وقدرته صورته مما لا يعرف في اللغة أصلاً فحمل الحديث عليه تحريف وتبديل محض الوجه التاسع أن قوله خلق آدم على صورته يقتضي أنه كان مخلوقاً على صورته ومعلوم انه لم يخلق حينئذ ملكاً وإنما الملك حادث بعد ذلك الوجه العاشر أن آدم نفسه لم يكن بعد أن خلق ملكاً ولا مطاعاً وبعد أن حدثت له الذرية الوجه الحادي عشر قوله إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً إلى قوله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم صريح في أنه أراد صورة نفسه لا قدرته وملكه وأما قول القائل على صورته التي هي العالم فإن الإنسان مختصر العالم فلا حاجة على المنازعة في كون

ص: 584

الإنسان مختصر العالم ونسخة للعالم ولا في كون هذا المعنى قد يكون من لوازم خلقه على صورة الرحمن كما لا ينازع في كونه عالماً وقادراً وحيًّا وعالماً لكن هذا لا يجوز أن يكون هو مقصود الحديث لوجوه أحدها أن قوله إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن خلقه على صورة الرحمن هي المانع من ضربه وكونه على صورة العالم لا يمنع ضربه وقتاله فإن العالم نفس مشتمل على النعيم والعذاب وعلى ما يُنعم ويُعذَّب وعلى البر والفاجر الثاني أن قوله لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته يقتضي أن شبه الوجه بالصورة هو المانع من تقبيح من أشبه الوجه ومعلوم أن العالم نفسه ليس فيه ما يشبه وجه الآدمي مخصوصاً يمنع ذمه وهو وجه يشبه وجهه الثالث أن خلقه على نسخة العالم ليس له اختصاص

ص: 585

بالوجه بل هو شامل لروحه كما يبين ذلك من يقوله وحينئذ فينبغي أن يكون النهي عن الضرب لسائر أعضائه ونفسه أو لا ينهى عن الضرب لشيء وكلاهما باطل الرابع أنه على هذا التقدير كان النهي عن التقبيح يقتضي أن يكون شاملاً لجميع الأعضاء والنفس الخامس أن تسمية العالم صورة الله أمر باطل لا أصل له في اللغة بل العالم مخلوق الله ومملوكه السادس أن هذا الوجه يتضمن أن إضافة الصورة إليه إضافة خلق وملك لا إضافة ذاتية وقد تقدمت الوجوه المبطلة لهذا فهي تبطل هذا التأويل السابع أن كون الإنسان مشابهاً للعالم ليس بأعظم من مشابهة بعض الناس لبعض كمشابهة الرجل لأبيه ومعلوم أن مشابهة بعض الآدميين لبعض ليس مقتضياً لذم ولا مدح ولا مانعاً من العقوبات بل هو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي الثامن أن كون الإنسان مختصرًا من العالم أن فيه المحمود

ص: 586

والمذموم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر تلك القبضة منهم الخبيث والطيب وبين ذلك والسهل والحزن وبين ذلك والأسود والأبيض وبين ذلك وإذا كان كذلك فكونه مختصراً من العالم ومشبهاً له لا يوجب منع تقبيح شيء منه ولا منع ضرب شيء منه التاسع أنه من المعلوم أن أرواح بني آدم أشرف من أجسادهم ثم إن هذه الأرواح التي يسمونها النفوس الناطقة تنقسم إلى محمود ومذموم كما يقول الملك للنفس المؤمنة اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي راضية مرضية فإذا خرجت صلى عليها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض ويقول للكافرة اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ساخطة مسخوطاً عليك

ص: 587

وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فإذا خرجت لعنها كل ملك في السماء وكل ملك في الأرض وكل ملك بين السماء والأرض وإذا كانت الروح قد تقبح وتشتم وتلعن وتوصف بالخبيث فالجسد أحق بذلك فلو كان مشابهة أشرف

ص: 588

ما في العالم يمنع التقبيح لوجب ألا تقبح النفس الناطقة قط فلما جاز تقبيحها ومنع الشارع من تقبيح الوجه لأن الله خلق آدم على صورته ولا فرق في ذلك بين وجه البر والفاجر علم أن المانع ليس مشابهة العالم العاشر أن قوله صورة الإنسان على صورة الرحمن يخص الصورة كما خص الوجه في تلك الأحاديث وهذا يمنع أن يكون المراد جميع أعضاء الإنسان وروحه وأما قول طائفة من هؤلاء وغيرهم أن الآدمي خليفة الله استخلفه عن نفسه فجعله يخلفه في تدبير المملكة فهو على صورته من هذا الوجه فهذا يدخل فيه معنى الملك ومعنى كونه نسخة العالم لكن فيه من الباطل ما يخصه وهو زعمهم أن الإنسان خليفة عن الله تعالى فإن هذا باطل والله تعالى لا يخلفه شيء أصلاً وإنما معنى كون آدم وداود والآدميين خلائف أنهم

ص: 589

يخلفون غيرهم من المخلوقات لا أنهم يخلفون الخالق كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [النور 55] وقال تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [يونس 13-14] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام 165] وقال تعالى في قصة نوح فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ [يونس 73] وقال تعالى وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)[الأنعام 133] وقال تعالى في خطاب هود لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف 69] وفي خطاب صالح لقومه وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ [الأعراف 74] وقال في خطاب موسى لقومه عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)[الأعراف 129] وقال النبي صلى الله عليه وسلم من جهز غازياً فقد غزا ومن خلفه في

ص: 590

أهله بخير فقد غزا وقال أو كلما نفرنا في سبيل الله خلف أحدهم وقال تعالى فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا

ص: 591

الْكِتَابَ [الأعراف 169] وقال تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)[فاطر 39] وقال تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة 93] وقال فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة 83] ولهذا قيل للصديق يا خليفة الله فقال لست بخليفة الله ولكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبي ذلك ولكن الله سبحانه يوصف بأنه خليفة وبأنه خلف من غيره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في

ص: 592

سفرنا هذا خيراً واخلفنا في أهلنا ويقال في الوداع خليفتي عليك الله وفي التعزية الذي ذكر الشافعي في مسنده أن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا صوت معز عزاهم بها يا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت

ص: 593

وذلك لأن الخليفة لا يكون إلا مع تغيب المستخلف لا مع شهوده والله شهيد على عباده لا يغيب عنه شيء مدبر للجميع فلا يستخلف من يقوم مقامه في ذلك كما يستخلف المخلوق للمخلوق بل هو الخالق لكل شيء المدبر لكل شيء فالآدميون يموتون ويغيبون فيكون من يخلفهم والله حي قيوم لا يغيب فلا يكون له من يخلفه بل هو سبحانه يخلف من يغيب أو يموت كما يكون خليفة المؤمن في أهله إذا سافر ويكون خليفة له إذا مات فيكون أولئك الذين كان المؤمن يكفيهم في هدايتهم ورزقهم ونصرهم

ص: 594

يبين ذلك أن الإنسان إذا آتاه الله ملكًا أو لم يؤته إما أن يكون عند الله عاملاً بطاعته وطاعة رسوله أو لا يكون فإن كان من القسم الأول كان من عباد الله كالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وقال إبليس فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)[ص 82-83] ونحو ذلك والعبد العامل بأمر الله هو عابد لربه متوكل عليه لم يخالف ربه في أمر من الأمور كما أن الملائكة الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ليس خالفين لله في أمر من الأمور وإن كانوا عاملين بأمره عابدين له مطيعين وهم المدبرات أمراً والمقسمات أمراً وإن كان الإنسان غير عامل بطاعة الله ورسوله بل هو عاصٍ لله ورسوله فهذا أبعد أن يكون عمله ذلك خلافة عن ربه وهو يعمل ما يبغضه الله ويكرهه وينهى عنه

ص: 595

فقد ظهر أنه لا وجه أن يجعل واحد من هذين خليفة عن الله لا من يعبده ولا من يطيعه ولا من يشرك به ويعصيه هذا من جهة القضاء والقدر والأمر الكوني فإن الله خالق كل شيء فهو خالق كل حي من الملائكة والإنس والجن والبهائم وخالق قدرهم وإراداتهم وأفعالهم كما أنه خالق غير الأحياء وهو وإن كان يخلق الأشياء بعضها ببعض كما يخلق النبات بالمطر ويخلق المطر بالسحاب فليس شيء من ذلك خليفته إذ هو الخالق له ولما يخلقه به فهو رب كل شيء ومليكه ولو جاز ذلك لكان كل مخلوق خليفة عن الله بل جميع ذلك مسخر بأمره مصروف بمشيئته مدبر بقدرته منظوم بحكمته والله غني عن جميع ذلك وكل ذلك فقير إليه وليس الصغير أفقر إليه من

ص: 596

الكبير ولا المسبب بأفقر إليه من السبب بل الجميع فقراء إليه وهو رب الجميع ومليكه وهو سبحانه ليس كمثله شيء في شيء من تدبيره كما قال سبحانه أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)[الشورى 9-11] يبين ذلك أن كل من خلف غيره في شيء فإنه يكون معيناً له فيما يعجز عنه المخلوف إما لعدم علمه به وإما لعدم قدرته فالخالف شريك للمخلوف ولقوله كالأمير الذي يستخلف في الأمصار خلفاء عنه فهم كلهم فاعلون ما لا يقدر هو وحده أن يفعله وهم مشاركون له مكافئون له وهو وهم متعاونون على جملة التدبير وكل منهم ينتفع بما يعاونه الآخر عليه والله تعالى ليس كذلك بل هو الغني

ص: 597

مطلقاً بنفسه عن الخلق وهو الخالق لكل شيء ثم إن من رحمته أنه يأمر العبيد بما يصلحهم وينهاهم عما يفسدهم وهو الذي يعينهم على فعل المأمور وترك المحظور ولا يقدرون على فعل ذلك إلا بإعانته بل يخلق ذلك كله قال تعالى قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ 22-23] وقال تعالى وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)[الإسراء 111] وإنما يتخيل أنه خليفة عن الله ونائب عنه بمنزلة ما يعهد عن الخلفاء والنواب عن المخلوقين منهم من يكون جباراً منازعاً لله في كبريائه وعظمته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته فيكون مختالاً يتخيل في نفسه أنه عظيم كبير وأن أمره ونهيه وفعله بالنسبة إلى الله تعالى من جنس أمر الخليفة النائب عن غيره ومن جنس نهيه

ص: 598

وفعله وهذا شرك وكذب وضلال وكبرياء واختيال وذلك أن الخليفة عن غيره يأمر وينهى ويفعل أموراً لم يدر بها المستخلف ولم يقدر عليها ولا يكون أمر بها ونهى بل يكون أمر هذا من جنس الأمر الأول كالوكيل مع موكله وكالوصي مع الموصي وهؤلاء بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر ولهذا جاءت الشريعة بذلك فجعل الفقهاء الشركة في التصرف مبنية على الوكالة وأن الشريك يتصرف لنفسه بحكم الملك ولشريكه بحكم الوكالة والنيابة وأما الوصي فهو ابلغ من هذا لأنه يتصرف بعد انقطاع أمر الموصي بالموت فهذا يكون له من الاستقلال ما ليس للوكيل والشريك حتى تنازع الفقهاء في جواز توصيته فأجاز ذلك من منع توكيل الوكيل وحتى أجازوا له من التصرفات

ص: 599

ما لا يجوز للوكيل وهكذا خلفاء ولاة الأمور مثل خليفة الإمام الكبير ذي الإمامة الكبرى وخليفة الحاكم وخليفة إمام الصلاة وغير ذلك كل من هؤلاء يفعل من جنس ما يفعله مستخلفه وكل هذا في حق الله ممتنع واعتقاد ذلك في حق أحد هو من أعظم الشرك ومن باب اتخاذ البشر أرباباً قال تعالى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)[النوبة 31] وقال تعالى مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)[آل عمران 79-80] يبين ذلك أن أعظم الخلق منزلة عند الله هم رسله والرسل إنما هم مبلغون أمره ونهيه لا يأمرون إلا بما أمر ولهذا كان رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله

ص: 600

فطاعتهم طاعة الله كما قال تعالى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء 80] لأنهم بلغوا أمر الله إلى عباده فالمطيع لهم مطيع لأمر الله لأنه فاعل ما أمره الله به وأين الرسول المبلغ أمر غيره من النائب له الخليفة عنه الذي يتصرف كما يتصرف المستخلف بينهم فرقان عظيم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري إني والله لا أعطي أحداً ولا أمنع أحداً وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فأما من يتصرف في عباد الله بمشيئته وهواه فيعطي من أحب ويمنع من أحب ويوالي من أحب ويعادي من أحب

ص: 601

بغير أمر الله ولا إذنه فهذا عدو لله جبار مختال من جنس فرعون الذي علا في الأرض واتخذ1 أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين فهل يكون هؤلاء نواباً عن الله أو خلفاء عنه وهم أعداؤه وعصاته كإبليس وإن كان الله هو الخالق لكل شيء فليس كل ما خلقه الله من الأعيان والأفعال يكون محبًّا له راضياً به وإن كان بمشيئته فإنه سبحانه خالق إبليس وذويه وهو يبغضهم ويلعنهم ويعاقبهم ومن قال عن نفسه أو غيره إني نائب الله أو خليفة عن الله ولم يكن أمر بما أمر الله به على ألسن رسله فقد كذب على الله واستكبر في الأرض بغير الحق كما يذكر ذلك عن طائفة من الملوك الجاهلين الظالمين بل المنافقين المشركين وإن كان إنما أمر بما أمر الله به فهو مصيب في إيجاب

ص: 602

طاعته إذا أمر بما أمر الله به ومصيب في معاقبة من عصى الله وإكرام من أطاعه وقوله نائب إن كان بمعنى المبلغ والرسول والمنفذ فصحيح وإن كان بمعنى أني أنوب عنه في ما لا يفعله هو ولا يقدر عليه فهذا كذب وهذا قد يقوله القدري الذي يظن أنه مستقل بفعله وأن الله لم يخلق فعله وهو مبطل في ذلك نغم لو قال نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خليفة رسول الله لكان هذا صحيحاً ولهذا لما قالوا للصديق يا خليفة الله قال لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله وحسبي ذلك فلا يطلق على أحد أنه نائب عن الله ولا خليفة عنه أصلاً بخلاف الرسول فإنه قد روي في وصف خلفاء الرسل أنهم الذين يحيون سنتهم ويعلمونها للناس ولهذا تجب طاعتهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله

ص: 603

ومن عصى أميري فقد عصاني وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما أمر الله به فالمطيع له مطيع لله وكذلك أميره الذي استخلفه على بعض أمته كأمراء السرايا الذي أوجب طاعته إنما أوجبها إذا كان يأمر بما أمر الرسول به كما قال صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وكما

ص: 604

قال لا طاعة في معصية الله فقوله من أطاع أميري قد بين أن معناه إطاعته في الطاعة وهو ما كان من الفعال التي يأمر الله ورسوله بها فيكون هذا الأمير منفذاً لذلك الأمر كما كان عمر ابن عبد العزيز يقول يا أيها الناس لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم كتابكم آخر الكتب ونبيكم آخر الأنبياء

ص: 605

وإنما أنا متبع ولست بمبتدع وإنما أنا منفذ ولست بقاض فقد تبين أن هذه الدعاوي في الخلافة عن الله ونحو ذلك إنما هي من دعاوي المتكبرين الجبارين المشركين الذين يريدون العلو في الأرض كفرعون وهؤلاء الاتحادية والموافقين لفرعون المدعين أنهم مضاهون لله تعالى وأنه يحتاج إلى عباده كما يحتاج عباده إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيراً يبين هذا أن إيتاء الله للعبد الملكَ والسلطان والمال لا يقتضي أن ذلك إكرام منه له ومحبة بل هو ابتلاء وفتنة له وامتحان قال تعالى فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ

ص: 606

رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)[الفجر 15-17] وقال تعالى وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)[يونس 13-14] وقال تعالى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)[الأنعام 165] فبين أنه جعلهم خلائف ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما يرقع درجة ذي الملك والسلطان ليبلوهم فيما آتاهم وإذا كان كذلك فمن كان منهم عاملاً بطاعة الله غير عامل بمعصيته كان من أولياء الله وعباده الصالحين ومن كان منهم عاملاً بمعصية الله مريداً للعلو في الأرض والفساد متخيلاً متكبراً جباراً كان من أعداء الله وممن سخط الله عليه ولعنه قال بعض السلف أظنه مجاهداً في قوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)[الشعراء 130] قال هو السوط والسيف والعصا في غير طاعة الله فمن كان يضرب

ص: 607

ويقتل لغير طاعة الله ورسوله فإنما هو جبار من الجبارين فإن لم يتب وإلا جاءه بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً فكيف يستجيز مسلم أن يقول في مثل هذا أنه خليفة عن الله ونائب عنه وهذا يقتضي أن فرعون والنمرود ونحوهما كانوا خلفاء عن الله نواباً عنه ثم إن هؤلاء يجعلون هذا المعنى ثابتاً لكل إنسان أنه خليفة عن الله لأنه من الجنس المسلطين على غيرهم من أجناس الحيوان وعلى أنواع من التدبير ولا يفرقون بين من أطاع الله ومن عصاه بل يجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفجار وهذا كله

ص: 608

من الإشراك والجمع لما فرق الله بينه ولهذا شرع الاتحادية كل شرك في العالم ونظير هذا الإشراك الذي يجعل فيه العباد خلفاء عن الله ونواباً عنه تشبيهاً لذلك بالخلافة والنيابة عن الملوك ما يوجد في كثير من الناس المشركين من تشبيههم لمسألة الله ودعائه وعبادته بمسألة الملوك فيقول الناس لأ حدهم إذا أردت أن تأتي السلطان وتسأله فابدأ بالوسائط التي بينك وبينه كالحجاب والنواب والأعوان فإن قصدك السلطان من الباب قِلَّةِ مَعْرُوفِه وقلة تعظيم وإكرام وذلك لا يصلح لك فيأمرونه بالتواضع والإشراك بالمخلوقين وهذا من الأسباب الذي به عبدت الكواكب والملائكة والأنبياء والصالحون وقبورهم وهذا كله

ص: 609

من أعظم الشرك والضلال والقياس الفاسد فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير بكل شيء ليس بمنزلة الملك الذي لا يعلم إلا ما أنهي إليه ولا يسمع ولا يبصر أكثر أمور رعيته وأيضاً فإن الله على كل شيء قدير لا يحتاج أن يستعين بالأعوان على إجابة الداعي كما يحتاج الملك وأيضاً فإن الله قريب إلى عباده كما قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة 186] وهو رحيم بعباده رؤوف بهم مع أنه هو الجبار المتكبر المتعالي بالحق ليس كالملوك الجبارين المتكبرين بالباطل على بني جنسهم ومن هو مثلهم حتى لا يسمعوا كلامه ولا يرحموه وحتى يزدروا الضعيف والفقير فهذا الإشراك في ربوبية الله وإلهيته والاستكبار والاختيال الموجود في العباد كله منافٍ لدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه وكلا النوعين يتضمن من تعظيم الخلق وجعلهم أنداداً لله ومن التفريط في جنب الله وتضييع حقوقه ما هو من أعظم الجهل والظلم

ص: 610

وأصل هذه المقالات توجد في مقالات المشركين ومن دخل في الشرك من الصابئين وأهل الكتاب وهو في الغالية من هذه الأمة كغالية الرافضة وغالية المتصوفة ونحو هؤلاء وأما الدقيق منه فهو كثير كما قال تعالى وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)[يوسف 106] لاسيما شرك العمل والحال وإن لم يكن العبد مشركاً في مقاله وما يقترن بذلك من الخيلاء والكبر وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وأما قول من يقول إن العالم نفسه هو وجود الله وأن الإنسان هو مظهر ذات الله الأكمل ففيما تقدم كفاية في بطلان قول من حمل الحديث على مجرد كون الإنسان

ص: 611

مخلوقاً على صورة الله التي هي العالم وبطلان كونه خليفة عن الله وأما ما يختص به هؤلاء من الرد عليهم وبيان كفرهم وضلالهم فهو مذكور في غير هذا الموضع بل على أصلهم يمتنع أن يكون آدم مخلوقاً على صورة الله إذ على أصلهم ليس في الوجود شيئان أحدهما خالق والآخر مخلوق بل الخالق هو المخلوق عندهم وأيضاً فإنه قال لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته فنهى عن تقبيح الوجه لكون آدم مخلوقاً على صورة الله وعندهم أن وجود كل موجود هو عين وجود الرب وكل تقبيح ولعن وشتم وذم في العالم فهو واقع على الرب عندهم كما يقع عليه كل مدح ودعاء وهو عندهم الداعي والمدعو له واللاعن والملعون والشاتم والمشتوم والقاتل والمقتول والناكح والمنكوح فلا يتصور عندهم أن يختص شيء بعينه بالنهي عن التقبيح لكونه على صورة الله إذ ليس في الوجود مقبح وغير مقبح إلا ما هو من صورة الله عندهم وكذلك قوله لا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من

ص: 612

أشبه وجهك فإن الله خلق آدم على صورته جعل مجرد المشابهة لوجه الله مانعاً من الضرب وعندهم أن كل ضرب في العالم أو قتل واقع على نفس الرب وهو ضارب لنفسه بنفسه وأن العالم كله هو صورة الله الذاتية لا يعنون بها الصورة المخلوقة المملوكة بل عين وجود العالم هو عين وجود الحق ثم إن صاحب الفصوص وهو مع كونه إمامهم فهو أبعدهم عن محض الإلحاد لما يوجد في كلامه من لبس الحق بالباطل يفرق بين الوجود والثبوت فيقول إن الأشياء ثابتة بأعيانها في القدم ونفس الوجود الفائض عليها هو

ص: 613

وجود الحق فيوافق من يقول إن المعدوم شيء في الخارج لكن يجعل وجود الكائنات عين وجود الحق ولا يجعل وجوداً متميزاً عن المخلوقين ولهذا يضطرب فيجعله هو هو من وجه وهو غيره من وجه لأن الفرق بين الوجود والثبوت فرق باطل فجاء بعده من أتباعه مثل القُونوي ونحوه من لم يسلك هذا المسلك بل فرق بين الوجود المطلق والمعين فجعل الحق الوجود المطلق الساري في

ص: 614

الموجودات وأما المعين فهو الخلق ومن المعلوم أنه ليس في الخارج وجود مطلق سوى الموجود المعين فهو أراد أن يفرق بين الحق والخلق فلم يفرق في الحقيقة بل اضطرب كما اضطرب أستاذه فجاء بعد هذا من أصحابه وغير أصحابه كابن سبعين وخادمهم التلمساني فعلموا فساد الفرق بين الرب والعبد فصرحوا بأنه هو الموجودات وليس ثم غير ولا سوى بوجه من

ص: 615

الوجوه كما قد بسطنا قولهم في غير هذا الموضع وحقيقة قولهم هو قول فرعون الجاحد لرب العالمين كما يقوله من يقوله من طواغيتهم إن قولنا هو قول فرعون لكن فرعون كان ينكر وجود الحق بالكلية وهؤلاء أقروا به قالوا هو الوجود الذي اعترف به فرعون وهو وجود المخلوقات فخالفوا فرعون في اعتقادهم وقصدهم حيث اعتقدوا أنهم مقرون بالله عابدون له من بعض الوجوه وإن كان العابد والمعبود والمقر بالله هو الله عندهم لا غيره والمقصود هنا ما يتعلق يقولهم في صورة الله كما قال صاحب الفصوص ابن عربي في فص حكمة أحدية في

ص: 616

كلمة هودية فهو محدود بحد كل محدود فيما يحد شيء إلا وهو حد للحق فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات ولو لم يكن الأمر كذلك ما صح الوجود فهو عين الوجود فهو على كل شيء حفيظ بذاته ولا يؤوده حفظ شيء فحفظه تعالى للأشياء كلها حفظه لصورته أن يكون الشيء غير صورته ولا يصح إلا هذا فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبر له فهو الإنسان الكبير فهو الكون كله وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ولذا قلت يغتذي فوجودي غذاؤه وبه نحن نحتذي فيه منه إن نظر ت بوجه تعوذي

ص: 617

وقال أيضاً في التوجيه فإن للحق في كل نطق ظهوراً فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم إلا فهم من قال إن العالم صورته وهو منه وهو الاسم الظاهر كما أنه بالمعنى روح ما ظهر فهو الباطن فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبر للصورة فيوجد في حد الإنسان مثلاً باطنه وظاهره وكذلك كل محدود فالحق محدود بكل حد وصورة العالم لا تنضبط ولا يحاط بها ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على قدر ما حصل لكل عالم من صوره فلذلك

ص: 618

يجهل حد الحق فإنه لا يعلم حده إلا بعلم حد كل صورة وهذا محال حصوله فحد الحق محال وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه في فص حكمة علوية في كلمة موسوية كذلك تدبير الحق العالم ما دبره إلا به أو بصورته فما دبره إلا به كتوقف الولد على إيجاد الوالد والمسببات على أسبابها والمشروطات على شروطها والمعلولات على عللها والمدلولات على أدلتها والمحققات على حقائقها وكل ذلك من العالم وهو تدبير الحق فيه فما دبره إلا به وأما قولنا أو بصورته أعني صورة العالم فأعني به الأسماء الحسنى والصفات العلا التي تسمى الحق بها واتصف بها فما وصل إلينا من اسم تسمى به إلا وجدنا معنى ذلك الاسم وروحه في

ص: 619

العالم فما دبر العالم أيضاً إلا بصورة العالم ولذلك قال في خلق آدم الذي هو البرنامج الجامع لنعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال إن الله خلق آدم

ص: 620

على صورته وليست صورته سوى الحضرة الإلهية فأوجد في هذا المختصر الشريف الذي هو الإنسان الكامل جميع الأسماء الإلهية وحقائق ما خرج عنه في العالم الكبير المنفصل وجعله روحاً للعالم فسخر له العلو والسفل لكمال الصورة فكما أنه ليس شيء من العالم إلا وهو يسبح بحمده وكذلك ليس شيء من العالم إلا وهو مسخر لهذا الإنسان لما تعطيه حقيقة صورته فقال تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية 13] فكل ما في العالم تحت تسخير الإنسان علم ذلك من علمه وهو الإنسان الكامل وجهل ذلك من جهله وهو الإنسان الحيوان

ص: 621