المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد - بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية - جـ ٧

[ابن تيمية]

الفصل: المملكة العربية السعودية وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد

المملكة العربية السعودية

وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف

الأمانة العامة

بيان

تلبيس الجهمية

في تأسيس بدعهم الكلامية

تأليف شيخ الإسلام

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني

(ت 728هـ)

‌الجزء السابع

الصورة - الرؤية - الساق - رؤية النبي صلى الله عليه وسلم النفس

اليد - الشخص - الغيرة - الصمد

حققه

د. محمد البريدي

ص: 1

فصل قال الرازي الخبر الثالث ما روى صاحب شرح السنة في كتابه في باب آخر من يخرج من النار عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

ص: 3

قال فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإن بيننا وبينه علامة فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ثم قال واعلم أن الكلام على هذا الحديث من وجهين الأول أن تكون في بمعنى الباء والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوه بها في الدنيا وذلك بأن يريهم ملكًا من الملائكة ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما

ص: 4

في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] أي بظلل من الغمام ثم إن تلك الصورة تقول أنا ربكم وكانَّ ذلك آخر محنة تقع للمكلفين في دار الآخرة وتكون الفائدة فيه تثبيت المؤمن على القول الصالح وإنما يقال الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء على الأعم والأغلب وإن كان يقع في كل واحدة منهما ما يقع في الأخرى نادرًا أما قوله صلى الله عليه وسلم إنهم يقولون إذا جاء ربنا عرفناه فيُحمَل على أن يكون المراد إذا جاء إحسان ربنا عرفناه وقوله فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها فمعناه يأتيهم بالصورة التي يعرفون أنها أمارات الإحسان وأما قوله صلى الله عليه وسلم فيقولون بيننا وبينه علامة فيحتمل أن تكون تلك العلامة كونه تعالى في حقيقته مخالفًا للجواهر

ص: 5

والأعراض فإذا رأوا تلك الحقيقة عرفوا أنه هو الله تعالى التأويل الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه مالم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى معهم ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه والكلام على ذلك أن يُقال أما هذا الخبر في الجملة فهو متواتر عند أهل اعلم بالحديث ورواته من التابعين وأتباعهم من أجلِّ الأمة قدرًا في العلم والدين وهو معروف عن عدد من الصحابة فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد مجتمعين ومن حديث أبي سعيد مفردًا وهو أيضًا في صحيح مسلم من حديث جابر وهو في المسانيد من حديث ابن

ص: 6

مسعود وأبي موسى وفد جمع الحافظ أبو الحسن الدارقطني

ص: 7

كثيرًا من طرقه في كتاب الرؤية له وهو حديث طويل في وصف ما يكون في القيامة من تجلِّي الله لعباده وخطابه لهم ومرورهم على الصراط وخروج أهل التوحيد من النار وهو مشتمل على جمل من أصول أهل السنة التي يُكذِّبُ بها طوائف من أهل الأهواء والخوارج والمعتزلة

ص: 8

والجهمية والقرامطة

ص: 9

والباطنية مثل الإتيان والرؤية والصراط وخروج أهل الكبائر من النار وغير ذلك مما يدخل في باب الإيمان بالله واليوم الآخر مما يكذب به الجهمية والخوارج ومن اتبع الطائفتين من المعتزلة ونحوهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ به مرارًا وكذلك أصحابه من بعده كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث ابن مسعود على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وبذلك تتبين فوائد جليلة وجواب على إشكالات كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى روى البخارىُّ

ص: 10

ومسلم في الصحيحين من حديث أبي اليمان عن شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن

ص: 11

يزيد الليثي أن أبي هريرة أخبرهما ومن حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن النَّاس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تُضَارُّونَ في القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال

ص: 12

هل تُضارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئًا فليتبعه فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله عز وجل في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويُضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من

ص: 13

يجيزها ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهمَّ سَلِّم سَلِّم وفي جهنم كلاليبُ مثل شوك السَّعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم يا رسول الله قال فإنها مثل شوك السَّعدان غير أنه لا يعلم قدر عِظَمِهَا إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموثوق بعمله

ص: 14

ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه لم يتحد لفظ البخاري في رواية إبراهيم بن سعد ولفظ مسلم مطلقًا ومنهم المجازى حتى يُنَجَّى حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكةَ أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود وفي لفظ تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد

ص: 15

امتحشوا فيُصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَميل السَّيل ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبلٌ بوجهه على النار وهو آخر أهل النار دخولاً الجنَّةَ فيقول أي ربِّ اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيدعو الله ما شاء

ص: 16

أن يدعوه ثم يقول الله تعالى هل عَسَيْتَ إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره فيقول لا وعزَّتك لا أسألك غيره ويعُطي ربَّه من عهود ومواثيق ما شاء الله فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل على الجنَّة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول أي ربِّ قَدِّمْني إلى باب الجنَّة فيقول الله له ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألَاّ تسألني غير الذي أعطيت أبدًا ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول ربِّ ويدعو الله حتى يقول هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غيره ويُعطي ربَّه ما شاء من عهود ومواثيق فيقدِّمه إلى باب الجنة فإذا قام على باب الجنَّة انْفَهقَتْ له الجنة فرأى ما فيها

ص: 17

من الحَبَرة والسرور فيسكت ما شاء أن يسكت ثم يقول أي رَبِّ أدخلني الجنة فيقول الله ألست قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألَاّ تسأل غير ما أعطيت ويلك يا ابن آدم ما أغدرك فيقول أي رَبِّ لا أكون أشقى خلقك فلا يزال يدعو الله حتى يضحك الله تعالى منه فإذا ضحك منه قال له ادخل الجنَّة فإذا دخلها قال الله له تَمَنَّه فيسأل ربِّهُ ويتمنى حتى إنَّ الله ليُذكِّره من كذا وكذا حتى إذا انقطعت به الأمانيُّ قال الله ذلك لك ومثله معه قال عطاء بن يزيد الليثي وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة لا يَرد عليه من حديثه شيئاً حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله تبارك وتعالى قال ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدريُّ وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة ما حفظت إلا قوله ذلك لك ومثله معه قال أبو سعيد الخدري أشهد أني حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله

ص: 18

ذلك لك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة فذلك الرجل آخر أهل الجنَّة دخولاً الجنَّة وهذا الحديث من أجلّ حديث كان عند ابن شهاب الزهري أعلم الأمة بالسنة في زمانه وأحفظهم للعلم وأتقنهم له وكان قد سمعه من سعيد بن المسيب أعلم الأمة وأجلها في زمان كبار التابعين وسمعه أيضًا من عطاء بن يزيد الليثي أحد أجلاء

ص: 19

التابعين عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضًا فكان يحدث به ابن شهاب الزهري عن أحدهما تارة وتارة عنهما جميعًا كما جرت عادة الزهري فإنه لسعة علمه يكون الحديث عنده عن عدد من كبار التابعين فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا وهذا معروف للزهري في مواضع كثيرة من الصحيح والبخاري رواه في الصحيح مرات لكنه رواه تارة في صفة القيامة من حديث شعيب ومن حديث معمر تامًّا لأنه موضع سياقه تامًّا ولفظ الصورة كما تقدم وكما رواه مسلم من حديث شعيب وإبراهيم بن سعد ورواه البخاري في فضل السجود من حديث شعيب أيضاً فلم يذكر ذلك لأن مقصوده في ذلك الموضع يحصل

ص: 20

بدون ذلك فلم يحتج إلى ذكر الألفاظ التي تروى تارة وتكتم تارة عن بعض الناس وذكره في رواية إبراهيم بن سعد قال فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون وأخرجاه أيضًا من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فهل تُضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس فيها سحاب قالوا لا قال النبي صلى الله عليه وسلم وهل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب قالوا لا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تُضارُّون في رؤية الله تبارك وتعالى

ص: 21

يوم القيامة إلاّ كما تُضارُّون في رؤية أحدهما إذا كان يوم القيامة أذن مؤذِّنُ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلَاّ من كان يعبد الله من بر وفاجر وغُبَّرات أهل الكتاب فُيدعى اليهودُ فيُقال ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد عزيراً ابن الله فيقال كذبتم

ص: 22

ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيُشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار ثم يدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما تخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كلن يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم الله تعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا

ص: 23

يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يـ سجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوّل في صورته التي رأوه فيها أول مرة

ص: 24

فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا ثم يُضرب الجِسْرُ على جهنم وفي رواية أخرى وهي في البخاريّ ينادي مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم حتى يبقى من كان يعبد الله من بَر وفاجر وغبَّرات من أهل الكتاب ثم يُؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيُقال لليهود ما كنتم تعبدون قالوا كنَّا نعبد عزيراً ابن الله فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم ثم يُقال للنصارى ما كنتم تعبدون قالوا كنا نعبد المسيح ابن الله

ص: 25

فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون فيقولون نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم حتى يبقى من كان يعبد الله من بَر أو فاجر فيقال ما يحبسكم قد ذهب النَّاس فـ ـيقولون فارقناهم ونحن أحوج منَّا إليه اليوم وإنَّما سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنَّما ننتظر ربَّنا فيأتيهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلا الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه فيقولون السًَّاق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ثم يُؤتى بالجسر فيُجعل بين ظهري ْ جهنّم قلنا يا رسول الله وما الجسر قال مَدْحضةٌ مَزلّةٌ عليه

ص: 26

خطاطيف وكلاليب وحَسَكَة مُفَلْطَحَة لها شويكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السَّعدان المؤمن عليها كالطرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مُسَلَّم وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يُسْحَب سحبًا فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبيَّن لكم من المؤمنين يومئذٍ للجبَّار وإذا رأوا أنهم قد نَجَوا في إخوانهم يقولون ربَّنا إخواننا الذين كانوا يُصلّون معنا

ص: 27

ويصومون معنا ويعملون معنا ويعملون معنا فيقول الله تعالى اذهبوا همن وَجَدتُم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ويُحرِّم اللهُ صورهم على النّار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النَّار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرِجُون من عرفوا ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه فيُخْرِجُونَ من عرفوا ثم يعودون فيقول اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرَّة من إيمان فأخرجوه فيُخْرِجُونَ من عرفوا قال أبو سعيد فإن لم تُصَدِّقُوني فاقرأوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)[النساء 40] وفي الرواية الأولى ثُمَّ يُضربُ الجِسرُ على جهنّم وتحلُّ الشَّفاعة ويقولون اللهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ قيل يا رسول الله وما الجِسْرُ قال دَحْضٌ مَزِلَّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يُقال لها السَّعدان فيَمُرُّ

ص: 28

المؤمنون كطرْف العين وكالبرق وكالرّيح وكالطير وكأجاويد الخيل والرّكاب فناجٍ مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنَّم حتى إذا خَلَص المؤمنون من النَّار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشدَّ مناشدة لله في استِقْصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويُصلُّون ويَحُجُّون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحرَّم صورهم على النَّار فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربَّنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير أخرجوه فيُخرجُون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربَّنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا ثُمَّ يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال بصف دينار من خير فأخرجوه

ص: 29

فيُخرجُونَ خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا ثم يقول ارجعوا فمن لقيتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرًا وكان أبو سعيد الخدري يقول إنْ لم تصدّقُوني بهذا الحديث فاقرأوا إن شئْتُم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)[النساء 40] فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيُخرجُ منها أقوامًا من النار لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حُممًا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنَّة يقُال له نهر

ص: 30

الحياة فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّةُ في حَميل السَّيل ألا ترونها تكون في الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشَّمس أصَيْفِر وأخَيْضِر وما يكون منها إلى الظِّل يكون أبيض فقالوا يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنَّة يقولون هؤلاء عتقاءُ الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدَّمُوه ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون يا ربنا أي شيء أفضل من هذا فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدًا

ص: 31

ولفظ الرواية الأخرى قال أبو سعيد فإن لم تُصدِّقُوني فاقرأوا إن شئتم إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)[النساء 40] فيشفع النَّبِيُّون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبَّار بَقِيَتْ شفاعتي فيقبضُ قبضة من النَّار فـ يخرج أقوامًا قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنَّة يُقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحِبَّةُ في حَميل السَّيل قد رأيتموها إلى جانب الصَّخْرة وإلى جانب الشَّجَرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر وما كان إلى الظل كان أبيض فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيُجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنَّة فيقول أهل الجنَّة هؤلاء عتقاء الرحمن أدخلهُم الجنَّة بغير عمل عملوه ولا خير قدَّموُه فيقال لهم لكم ما رأيتم ومثله معه قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدقُّ من الشَّعرة وأحدُّ من السَّيف فقد ذكر في حديث أبي سعيد أربعة أصناف

ص: 32

الصنف الأول المشركون فهم يتَّبِعُون ما كانوا يعبدون من آلهة الصنف الثاني غُبَّرات أهل الكتاب الذين أصل دينهم عبادة الله وحده لكنهم ابتدعوا الشرك فعبدوا العُزَيْر والمسيح ولهذا يجعل الله هؤلاء في كتابه صنفًا غير المشركين كقوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)[البينة 1] وهو مع ذلك يصفهم بما ابتدعوه من الشرك كما في قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)[التوبة الآيتان 30-31] والصنف الثالث المنافقون الذين كانوا يعبدون الله رياءً وسمعةً الصنف الرابع المؤمنون الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له وذكر أنه بعد أن يذهب المشركون مع آلهتهم وكفار أهل الكتاب إلى النار ولم يبق إلَاّ من كان يعبد الله من بر وفاجر

ص: 33

أتاهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أخرى في الصحيح أتاهم الجبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرَّة وفي لفظ في الصحيح أتاهم رب العالمين في أدني صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أخرى في الصحيح أتاهم الجَبَّار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وأنه يمتحنهم فيقول أنا ربكُم وانه لا يكلمه إلا الأنبياء وأنَّه حينئذ يَكشِف عن ساق فيسجد له المؤمنون دون المنافقين ثُمَّ يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة والثانية التي امتحنهم فيها فأنكروه وهي أدنى من التي رأوه فيها أول مرة والمرة التي كشف لهم عن ساقٍ حتى سجدوا له والرابعة حين يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرَّة وهذا تفسير ما في حديث أبي هريرة المتقدم مع أبي سعيد حيث قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي

ص: 34

يعرفون وأنَّ التي يعرفون هي التي يُكشف فيها عن ساقٍ فيسجدون له ثُمَّ يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في صورته التي رأوه فيها أوَّل مرة فيتَّبِعُونَه حِينَئِذٍ وفي صحيح مسلم عن ابن جريج عن أبي الزبير أنَّه سَمِعَ جابرًا يُسأل عن الوُرود فقال نجيء نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أي واحد ذلك فوق الناس قال

ص: 35

فتُدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأوَّل فالأوّل ثُمَّ يأتينا ربنا بعد ذلك فيقول من تنظرون فيقولون ننظر ربَّنَا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلَّى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتَّبِعُونَه ويُعطى كل إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا ثم يتَّبِعُونَه وعلى جسر جهنَّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ثُمَّ يُطْفَأ نور المنافقين ثُمَّ ينجو المؤمنون فتنجو أوَّلُ زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يُحاسبون ثُمَّ الذين يلونهم كأضوأ نجم في السماء ثُمَّ كذلك ثُمَّ تَحُلُّ الشَّفّاعة ويشفعون حتى يخرج من النَّار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بِفنَاء الجنَّة ويجعل أهل الجنَّة يَرُشُّون عليهم الماء

ص: 36

حتى يَنْبُتُوا نبات الشَّيء في السَّيل ويذهب حُرَاقُهُ ثُمَّ يسأل حتى تُجعلَ له الدنيا وعشرة أمثالها معها ورَوَى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عيينة ثنا سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربَّنَا يوم القيامة قال ها تُضارُّونَ في رؤية الشَّمسِ في الظَّهيرة ليست في سحابة قالوا لا قال فهل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسي بيده لا تُضارُّون في رؤية ربِّكم إلَاّ كما تُضارُّون في رؤية أحدهما

ص: 37

قال فيَلْقَى العبدَ فيقول أي فُلْ ألمْ أكْرِمْك وأُسَوِّدْكَ وأُزَوِّجْك وأُسَخِّر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب قال فيقول أفظننت أنك مُلاقِيَّ قال فيقول فإنِّي أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثَّاني فيقول أي قُلْ ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى يا رب فيقول له أفظننت انَّك مُلاقِيَّ فيقول لا

ص: 38

فيقول فإنِّي أنساك كما نسيتني ثم يلقى الثَّالث فيقول له مثل ذلك فيقول أي رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصلَّيتُ وصُمتُ وتصَدَّقت ويُثني بخير ما استطاع فيقول ههنا إذًا قال ثم يقال له الآن نبعثُ شاهدنا عليك ويتفكَّرُ في نفسه من ذا الذي يشهدُ عليَّ فيختم على فيه ويُقال لِفَخذِه ولحمه وعظامه انْطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك لِيُعْذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يَسْخَط اللهُ عليه وروى أبوداود في سننه بعض هذا الحديث وهو

ص: 39

الإخبار بالرؤية في الرد على الجهمية وهذا الحديث محفوظ من حديث سفيان بن عيينة عن سهيل وليس في الصحيح لابن عيينة عن سهيل غير هذا الحديث ولكنَّ مسلمًا روى منه الطرف الذي احتاج إليه وهو أوَّله وترك رواية باقيه لأنَّها في الطرق المقدمة التي هي أشرف من هذه الطَّريق من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد ومن حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد ولأن رواية أولئك لتلك الطرق أتم وتمام الحديث قد رواه النسائي كما رواه أحمد وابن

ص: 40

خزيمة قال ثُمَّ يُنادي منادٍ ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع الشيطان والصليب وأولياؤهم على جهنَّم وبقينا أيها المؤمنون فيأتينا ربنا فيقول على ما هؤلاء فنقول نحن عباد الله المؤمنون آمنَّا بربنا ولم نشرك به شيئًا وهو ربنا تبارك وتعالى وهو يأتينا وهو يثبتنا وهذا مقامنا حتى يأتينا ربنا فيقول أنا ربكم فانطلقوا فننطلق حتى نأتي الجسر وعليه كلاليب من نار تخطف عند ذلك تحلُّ الشَّفاعة أي اللهم سَلِّم اللهم سَلِّم فإذا جاوزوا الجسر فكل من انفق زوجًا من المال في سبيل الله مما يملك فتكلمه خزنة الجنَّة تقول يا عبد الله يا مسلم هذا خير فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إنَّ هذا عبد

ص: 41

لاتوى عليه يدع بابًا ويلج آخر فضرب كتفه وقال إنِّي لأرجو أن تكون منهم قال ابن خزيمة حدثنا محمّد بن منصور الجوَّاز قال ثنا سفيان قال ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه وحفظته أنا وروح بن القاسم وردده علينا مرتين أو ثلاثة وذكر الحديث قال ابن خزيمة حدثنا محمّد بن ميمون المكّي قال ثنا

ص: 42

سفيان فذكر الحديث بطوله وقال سمعت محمّد بن ميمون يقول سُئِل سفيان عن تفسير حديث سهيل بن أبي صالح ترأس وتربع فقال كان الرَّجل إذا كلن رأس القوم كان له المرباع وهو الرّبع وقال قال النبي لعديّ بن حاتم حين قال يا رسول الله إني على دين قال أنا أعلم بدينك منك إنَّك تَسْتَحِل المرباع ولا يَحِلُّ لك وهذا الحديث صريح في لقاء الكفَّار والمنافقين لله وخطابه لهم كما ذكر القرآن في غير موضع وكما جاء هذا

ص: 43

في عِدَّة أحاديث صحيحة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد وعديّ ين حاتم رضي الله عنهم وغيرهم وفيه أن هذا يكون قبل أن يُنادي ذلك المنادي لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فإن هذا هو محاسبة العباد فإذا حُوسِبوا أمروا بأن يتبعوا آلهتهم ويتجلّى الرَّب لعباده المؤمنين ويتبعونه ويُنصَبُ الجسر على ظهر جهنّم فيعبر عليه المتقون ويذر الظالمين فيها جثيًّا ومعلوم أن المؤمنين لَقوهُ في تلك الحال قبل مناداة المنادي باتّباع كل أمّة ما كانت تعبُد وهذا هو والله أعلم الرُّؤية المذكورة في حديث أبي سعيد وأبي هريرة وغيرهما حيث قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرَّة وفي صورته التي يعرفون وهي تلك الصورة التي رأوه فيها لمَّا لَقوه وخاطبهم قبل المناداة

ص: 44

وذلك كان عامًّا للعباد كما يدلُّ عليه سائر الأحاديث وبعد هذا حُجِب الكفَّار كما دلَّ عليه القرآن وقد جاء ذلك مبيَّنًا في حديث أبي رزين وابن مسعود كالحديث المحفوظ عن ابن مسعود رضي الله عنه رواه ابن خزيمة وغيره عن عبد الله بن عُكَيْم قال سمعت عبد الله بن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث فقال والله إنْ منكم من أحدٍ إلاّ سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر أو قال ليلته يقول يا ابن آدم ما غرّك ابن آدم ما غرّك ابن آدم ما عَمِلت فيما عَلِمْت ابن آدم ماذا أجبت المرسلين وأمَّا حديث أبي رزين فهو مشهور في السنن والمسانيد لكنَّ أهل السنن يختّصِرُون من الحديث ما يناسب السُّنن على

ص: 45

عادتهم فروى أبوداود وابن ماجه عن أبي رزين العقيليّ قال قلت يا رسول الله أكلُّنا يرى ربَّه مخليًّا به يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر ليلة البدر مخليا به قلت بلى قال فإنَّما هو خلق من خلق الله تعالى فالله أعظم وقد رُوِي مبسوطًا من وجه آخر كما رواه أبوبكر بن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنَّه لا يحتج إلاّ بما ثبت من الأحاديث ورواه

ص: 46

من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن قال ثنا عبد الرحمن بن عياش الأنصاري ثُمَّ السَّمعيّ عن دلهم بن الأسود بن عبد الله عن أبيه عن عمّه لَقِيط بن

ص: 47

عامر وهو أبورزين العقيلي أنَّه خرج وافدًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق قال فقدمنا المدينة لانسلاخ رجب فصلّينا معه صلاة الغداة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس خطيبًا فقال أيها الناس إنِّي قد خبّأت لكم صوتي مذ أربعة أيام إلاّ لأسمعكم هل من امرئ بعثه قومه فقالوا اعْلمْ لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّه أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو تلهيه الضلالة ألا إني مسئول هل بلّغت ألا اسمعوا تعيشوا ألا اسمعوا تعيشوا ألا اجلسوا ألا اجلسوا فجلس النّاس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصرُه قلت يا رسول الله إنّي سائلك عن حاجتي فلا تعجلنّ عليّ فقال سل عمّا شئت قلت يا رسول الله

ص: 48

هل عندك من علم الغيب فضحك لعمر الله وهز رأسه وعلم أنّي ابتغي سقطه فقال ضنَّ ربُّك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمُهنُّ إلاّ الله وأشار بيده ما هن يا رسول الله قال علم المَنيَّة قد علم متى منيَّةُ أحدكم ولا تعلمونه وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزْلين مشفقين فيظلُّ يضحك قد علم أنَّ غوثكم قريب قال لقيط فقلت يا رسول الله لن نعدم من رب يضحك خيرًا وعلم ما في غدٍ قد علم ما أنت طاعم غدًا ولا تعلمه وعلم يوم السَّاعة قال وأحسبه ذكر ما في الأرحام قال قلت يا رسول الله علِّمنا مما تُعلِّم الناس وما تَعلم فإنَّا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحد من مَذْجح التي تدنو غلينا وخثعم التي توالينا

ص: 49

وعشيرتنا التي نحن منها قال تلبثون ما لبثتم ثُمَّ يتوفى نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم تلبثون ما لبثتم ثُمَّ تبعث الصيحة فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئًا إلا مات والملائكة الذين مع ربك فخلت الأرض فأرسل السَّماء تَهْضبُ من تحت العرش فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلاّ شقَّت القبر عنه حتى يخلفه من قِبَل رأسه فيستوي جالسًا يقول ربك مَهْيَم يقول يا ريِّ أمْسِ اليوم لعهده بالحياة يحسبه حديثًا بأهله قلت يا رسول الله كيف يجمعنا بعدما تُمَزِّقُنا الرّياح والبلى

ص: 50

والسِّباع قال أنَبّئُكَ بمثل ذلك في آلاء الله الأرض أشرفت عليها مَدَرَة بالية فقلت لاتحيا أبدًا فأرسل ربك عليها السَّماء فلم تلبث إلاّ أيَّمًا حتى أشرفت عليها فإذا هي شربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله والشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما في ساعة واحدة ويريانكم ولا تُضامون في رؤيتهما ولعمر

ص: 51

إلهك لهو على أن يراكم وترونه أقدر منهما على أن يريانكم وترونهما قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال تُعرضون عليه بادية له صفحاتكم ولا تخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفةً من الماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما تُخطئ وجه واحد منكم منها قطرة فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الرَّيْطَة البيضاء وأمَّا الكافر فَتَخْطِمُه بمثل الحمم الأسود ألا ثُمَّ ينصرف نبيُّكم صلى الله عليه وسلم فيمُرُّ على أثره الصالحون أو قال ينصرف على

ص: 52

أثره الصالحون قال فيسلكون جِسْرًا من النَّار يطأ أحدكم الجمرة فيقول حس فيقول ربك أو أنه قال فتطلعون على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم على أظمأ ناهلة والله رأيتها قط فلعمر إلهك ما يبسط يده أو قال يسقط واحد منكم إلاّ وقع عليها قدح يطهّره من الطوف والبول والأذى وتخلص الشمس والقمر أو قال تحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدًا فقلت يا رسول الله فبم نبصر يومئذٍ قال مثل بصرك ساعتك هذه وذلك في يوم أشرقت الأرض وواجهت الجبال قال قلت يا رسول الله فبم نجازى من سيئاتنا وحسناتنا قال صلى الله عليه وسلم الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها

ص: 53

أو يغفر قلت يا رسول الله فما الجنَّة وما النَّار قال لعمر إلهك إنَّ للجنة لثمانية أبواب ما منهنَّ بابان إلَاّ وبينهما مسيرة الراكب سبعين عامًا وإنَّ للنَّار سبعة أبواب ما منهنَّ بابان إلَاّ بينهما مسيرة الراكب سبعين عامًا فلت يا رسول الله ما يطلع من الجنَّة قال أنهار من عسلٍ مصفَّى أنهار من لبن لم يتغير طعمه وانهار كأس مالها صداع ولا ندامة وماء غير آسن وبفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه وأزواج مطهَّرة قلت يا رسول الله أوَ لَنَا فيهنَّ أزواج مُصْلَحَات قال صالحات للصالحين تلذُّون بهنَّ مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد

ص: 54

قلت يا رسول الله هذا أقصى ما نحن بالغون ومنهون إليه فلم يجبهُ النبي صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله علام أبايعك قال فبسط النبيُّ صلى الله عليه وسلم يده فقال على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشركين وأنَّ الله لا تُشرك به إلهًا غيره فقلت وإنَّ لنا ما بين المشرق والمغرب فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وبسط أصابعه وظنَّ أنِّي مشترط شيئًا لا يعطينيه فقلت نحل منها حيث شئنا ولا يَجْنِ امرؤ إلاّ على نفسه قال ذلك لك حل منها حيث شئت ولا تجن إلاّ على نفسك فبايعناه ثم انصرفنا فقال ها إنَّ ذَين ها إنَّ ذَيْن

ص: 55

ثلاثًا لمن يقرئني حديثًا لأنهم من أتقى النَّاس لله في الأولى والآخرة فقال كعب بن الخُداريّة أحد بني أبي بكر بن كلاب من هم يا رسول الله قال بنو المنتفق أهل ذلك منهم قال فأقبلت عليه فقلت يا رسول الله هل لأحد ممن مضى منَّا في جاهليته من خير فقال رجلٌ من عرض قريش والله إن أباك المنتفق في النَّار فكأنه وقع حرٌّ بين جلد وجهي ولحمه مما قال لأبي على رؤوس الناس فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ثُمَّ نظرت فإذا الأخرى أجمل فقلت وأهلك يا رسول الله قال وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت عليه من قبر قرشيّ أو عامريّ مشرك فقل أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوؤك تُجرُّ على وجهك وبطنك في النار قلت فما فعل

ص: 56

ذلك بهم يا رسول الله وكانوا على عمل لا يحسنون إلاّ إياه وكانوا يحسبونهم مُصلحين قال ذلك بأنَّ الله بعث في آخر كل سبع أمم نبيًّا فمن أطاع بنيه كان من المهتدين ومن عصى نبيه كان من الضالين

ص: 57

فهذا الحديث ونحوه يدلُّ على أنَّ جميع القيام من قبورهم يرون ربهم في أوّل الأمر كلهم يراه مخليًّا به فيسأله ويخاطبه كما تقدَّم ثُمَّ بعد ذلك ينادي المنادي فيراه المسلمون بمن معهم من المنافقين ثم بعد ذلك يتميَّزُ المؤمنون وهم الذين يرونه رؤية تنعُّم ويحجب عنه الكافرون بعد ذلك إذ الرؤية في عرصات القيامة ليست من النَّعيم والثَّواب وذهب ابن خزيمة وطائفة إلى أنَّه لا يراه إلَاّ المؤمنون والمنافقون وذهبت طائفة أخرى إلى أنَّ الكفَّار لا يرونه بحال وقد تكلمنا على هذه المسألة في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان ما في الأحاديث المشهورة من قوله صلى الله عليه وسلم فيرونه في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول وأن تلك هي هذه المرَّة التي تجلَّى فيها لفصل القضاء بين عباده فخاطبهم وحاسبهم ثم بعد ذلك جزاهم فأمر أن يتبع كل قوم معبودهم وروى ابن خزيمة أيضًا في التوحيد من حديث الداروردي

ص: 58

حدثني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله النَّاس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع إليهم ربٌّ العالمين فيقول ألا لينبع كل أناس ما كانوا يعبدون فيمثَّل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصوير تصويره ولصاحب النَّار ناره فيتَّبعون ما كانوا ما كانوا يعبدون ويبقى المسلمون فيطَّلع عليهم ربُّ العالمين فيقول ألا تتبعون النَّاس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربُّنَا وهذا مكاننا حتى نرى ربَّنَا وهو يأمرهم ويثبتهم ثم يتوارى ثم يطلع فيقول ألا تتبعون الناس ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم قالوا وهل نراه يا رسول الله قال وهل تتمارون في رؤية القمر ليلة البدر قالوا لا يا رسول الله قال فإنكم لا تتمارون في رؤيته تلك الساعة ثمَّ يتوارى ثم يطّلع عليهم فيعرفهم بنفسه

ص: 59

ثم يقول أنا ربّكُم فاتَّبعون فيقوم المسلمون ويضع الصراط فهم على مثل جياد الخيل والرّكاب وقولهم عليه سلّم سلّم وذكر باقي الحديث وأمَّا حديث ابن مسعود فذكر الخلال في كتاب السُّنة قال أنا أبوبكر المروذي قال ذكرت لأبي عبد الله حديث

ص: 60

محمد بن سلمة الحرّانيّ عن أبي عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد قال حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال عن أبي عبيدة عن مسروق قال حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله

ص: 61

عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ينزل الله في ظُلل من الغمام من العرش إلى الكرسيّ فقال أبو عبد الله هذا حديث غريب لم يقع إلينا عن محمد بن سلمة قال المروذي واستحسنه قال الخلال وأخبرنا أبوبكر المروذي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم خالد بن أبي يزيد حدثني ابن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله عن مسروق بن الأجدع قال حدثنا عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجمع الله عز وجل الأوّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وينزل الله تبارك وتعالى في ظُلل من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي مناد ياأيها الناس ألن ترضوا من ربِّكم

ص: 62

الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولاتشركوا به شيئًا أن يولّى كل إنسان منكم ما كان يتولاّه ويعبده في الدنيا أليس ذلك عدلاً من ربكم قالوا بلى قال فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا قال فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ذلك مما كانوا يعبدون قال ويُمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويُمثل لمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير ويبقى مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وأمَّته قال فيتمثل الرَّبُّ جل وعز فيأتيهم فيقول لهم ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إنَّ لنا إلهًا ما رأيناه بعد فيقول وهل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون نعم بيننا وبينه علامة إذا رأيناه عرفناه قال فيقول ما هي قال فيقولون يكشف عن ساقه قال فعند

ص: 63

ذلك يكشف عن ساقه قال فيخرُّ من كان بظهره طبق ويبقى قوم ظهورهم كأنَّها صياصي البقر يريدون السُّجود فلا يستطيعون وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ثم يقول ارفعوا رؤوسكم قال فيرفعون رؤوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه ومنهم من يُعطى نوره أصغر من ذلك ومنهم من يُعطى نوره مثل النخلة بيمينه ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلاً يُعطى نوره على إبهام قدمه فيُضيء مرة ويطفئ أخرى فإذا أضاء قدر قدمه مشى وإذا أطفئ قام قال والرَّبُّ تبارك وتعالى أمامهم حتى يمر في النَّار يبقى أثره كحدِّ السيف دحض مزلة ويقول مُرُّوا فيمرُّون على قدر نورهم منهم من يمرُّ كطرف العين

ص: 64

ومنهم من يمرُّ كالبرق ومنهم من يمرُّ كالسَّحاب ومنهم من يمرُّ كانقضاض الكوكب ومنهم من يمرُّ كشدِّ الفرس ومنهم من يمرُّ كشدِّ الرجل حتى يمر الذي أعطي نوره على إبهام قدمه يحبو على يديه ووجهه ورجليه تخرُّ يدٌ وتعلق يدٌ وتخرُّ رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النَّار قال فلا يزال كذلك حتى يخلص فإذا خلص وقف عليها ثم قال الحمد لله لقد أعطاني الله عز وجل ما لم يعط أحدًا إذ نجَّانِي منها بعد إذ رأيتها قال فينطلق به إلى غدير عند باب الجنَّة فيغتسل قال فيعود إليه ريح أهل الجنَّة وألوانهم قال ورأى ما في الجنَّة من خلال الباب قال فيقول رب أدخلني الجنة قال فيقول الله عز وجل أتسأل الجنَّة وقد نجيتك من النار قال فيقول ربِّ اجعل بيني وبينها حجابًا لا أسمع حسيسها قال فيدخل الجنَّة قال

ص: 65

فيرى أو يرفع له منزلاً أما ذلك كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول رب أعطني ذلك المنزل قال فيقول اللهُ عز وجل لعلك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزَّتك لا أسألك غيره وأي منزل يكون أحسن منه قال فيعطيه قال فينزله قال ورأى أمام ذلك منزلاً آخر كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول ربِّ أعطني ذلك المنزل فيقول اللهُ عز وجل فلعلَّك إن أعطيته تسأل غيره فيقول لا وعزتك لا أسألك غيره وأيّ منزل أحسن من هذا قال فيعطاه فينزله قال فيرى أو يرفع له أمام ذلك المنزل منزلاً آخر كأنَّ ما هو فيه إليه حلم قال فيقول رب أعطني ذلك المنزل فيقول الله عز وجل فاعلَّك إن أعطيته لا تسأل غيره فيقول لا وعزَّتك وأيّ منزل أحسن منه قال فيعطاه فينزله قال ثم

ص: 66

يسكت قال فيقول الله عز وجل مالك لا تسأل قال فيقول رب لقد سألت حتى استحييت وأقسمت لك حتى استحييت فيقول اللهُ عز وجل له ألن ترضى إن أعطيتك مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى أن أفنيتها وعشرة أضعافها قال فيقول أتستهزئ بي وأنت رب العالمين قال فيضحك الرَّبُّ تبارك وتعالى من قوله قال فرأيت عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه9 حين بلغ هذا المكان من الحديث ضحك قال فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن قد سمعتك تحدث بهذا الحديث مرارًا كلما بلغت هذا المكان من الحديث ضحكت فقال إنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّثُ هذا الحديث مرارًا كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى يبدو آخر أضراسه قال فيقول الرب تبارك وتعالى لا ولكني على ذلك قادر سل فيقول ربِّ

ص: 67

ألحقني بالنَّاس فيقول الحق بالنَّاس فينطلقُ يرفل في الجنَّة حتى إذا دانا من النَّاس رفع له قصر من درة فيخرُّ ساجدًا فيقال له ارفع رأسك قال فيقول رأيت ربِّي أو تراءى لي ربِّي عز وجل قال فيقال إنما هو منزل من منازلك قال فيلقى رجلاً فيتهيأ للسجود فيقال له مه مالك فيقول أنت ملك من الملائكة فيقول إنما أنا خازن من خزَّانك عبد من عبيدك تحت يديَّ ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه قال فينطلق أماه حتى يفتح له القصر قال وهو درَّةٌ مجوَّفة سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها فتستقبله جوهرة خضراء مبطَّنة بحمراء فيها سبعون بابًا كل باب يفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى

ص: 68

في كل جوهرة سُرر وأزواج ووصائف وأدناهنَّ حوراء عيناء عليها سبعون حلَّة يُرى مخ ساقها من وراء جلدها كبدها مرآته وإذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفًا عمَّا كانت عليه من قبل وإذا أعرضت عنه إعراضة ازداد في عينها سبعين ضعفًا عمَّا كان عليه من قبل فيقول لها والله لقد ازددتِ في عيني سبعين ضعفًا وتقول له وأنت والله لقد ازددت في عيني سبعين ضعفًا قال فيقال له أشرف فيشرف قال فيقال له ولك ملك مسير مائة عام ينفذه بصرك فقال عمر رضي الله عنه ألا تسمع إلى ما يحدثنا به ابن

ص: 69

أم عبد يا كعب عن أدنى أهل الجنَّة منزلاً فكيف أعلاهم قال كعب يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إن الله تعالى كان خلق لنفسه دارًا وجعل ما شاء فيها من الأزواج والثمرات والأشربة ثم أطبقها فلم يرها أحد من لا جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)[السجدة 17] قال وخلق دون ذلك جنتين فزينهما بما شاء وأراهما من شاء من خلقه ثم قال من كان كتابه في عليين نزل تلك الدار التي لم يرها أحد حتى إن الرجل من أهل عليين ليَخْرج يسير في ملكه فما تبقى خيمة من خيام الجنَّة إلَاّ دخلها ضوء من ضوء وجهه ويستبشرون بريحه ويقولون واها لهذه الرِّيح الطَّيبة هذا رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويحك

ص: 70

يا كعب إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها فقال كعب والذي نفسي بيده إن لجهنَّم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا يخر لركبتيه حتى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام يقول رب نفسي نفسي حتى لو كان لك عمل سبعين نبيًّا إلى عملك لظننت أنك لن تنجو

ص: 71

وقد روى ابن خزيمة هذا الحديث في كتاب ذكر نعيم الآخرة وأحال عليه في كتاب التوحيد وهذا الحديث المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه قد روى أهل الصحاح كثيرًا منه عن ابن مسعود من وجوه أخرى ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال آخر من يدخل الجنَّة رجل يمشي مرَّة ويكبو مرَّة وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها

ص: 72

التفت إليها فقال تبارك الذي نجَّاني منك لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول يا رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها وأشرب من مائها فيقول الله عز وجل يا ابن آدم لعلِّي إن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول لا يا رب ويعاهده ألَاّ يسأله غيرها قال وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه منها فيستظلُّ ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة هي لأحسن من الأولى فيقول أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها فيقول ياابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها فيقول لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها فيعاهده أن لا يسأل غيرها وربه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لاصبر له عليه فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها ثم ترفع له شجرة أخرى عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها فيقول ياابن آدم ألم تعاهدني ألَاّ تسألني غيرها قال بلى ياربّ هذه لا أسألك

ص: 73

غيرها وربُّه عز وجل يعذره لأنه يرى ما لاصبر له عليه فيدنيه منها فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنَّة فيقول أي رب أدخلنيها فيقول ياابن آدم ما يصريني منك أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها قال يارب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين فضحك ابن مسعود فقال ألا تسألوني مما أضحك قالوا مما تضحك قال هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا مما تضحك يا رسول الله قال من ضحك رب العالمين حين قال أتستهزئ مني وأنت رب العالمين فيقول إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر وفي الصحيحين من حديث إبراهيم النَّخعي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني

ص: 74

لأعلم آخر أهل النَّار دخولاً الجنَّة رجل يخرج من النار حبوًا فيقول الله له اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يارب وجدتها ملأى فيقول الله عز وجل اذهب فادخل الجنَّة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا فيقول أتسخر بي أو تضحك بي وأنت الملك قال لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه وكان يقول ذلك أدنى أهل الجنة منزلة والكلام على ماذكره من وجوه أحدها أن من تأمل سياق هذه الأحاديث وما اتفقت عليه من المعاني وسياقها وما فيها من الإخبار بأن الله يأمر كل من عبد غيره أن يتبع معبوده فيمثله له أنه إذا تميَّز الموحدون من غيرهم امتحنهم هل يعبدون غير الإله الذي رأوه أولاً فلما

ص: 75

تثبَّتهم بالقول الثابت تجلَّى لهم في الصورة التي يعرفون فيسجدون له ولما رفعوا رؤوسهم من السجود وجدوه قد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة ثم إنهم يتبعونه بعد ذلك حتى يمروا على الصراط علم بالاضطرار أن الذي يأتيهم في هذه الصورة هو رب العالمين نفسه لا ملك من الملائكة ولا مجرد بعض آياته ومن صرف مثل هذه الأحاديث وهذه الألفاظ الصريحة المنصوصة إلى مَلك من الملائكة أو مجيء شيء من عذاب الله أو إحسان الله فإنه مع جحده لما يعلم بالاضطرار من هذه الألفاظ قد فتح من باب القرمطة وتحريف الكلم عن مواضعه ما لا يمكن سدُّه إذ لايمكن بيان المخبر عنه بأعظم من هذا البيان التَّام فمن جعل هذا محتملاً لم يمكن قط أن يخبر أحدٌ أحدًا بشيء من الألفاظ المبينة لمراده قطعًا وهذا كله من أعظم السفسطة وجحد

ص: 76

الحسيَّات والضروريات التي لا يستحقُّ جاحدها مناظرة ولهذا كان السلف ينهون عن مجادلة أمثال هؤلاء

ص: 77

السوفسطائية القرامطة الوجه الثاني أن قوله تكون في بمعنى الباء والتقدير فيأتيهم الله بصورة غير الصورة التي عرفوها في الدنيا وذلك بأن يريهم ملكًا من الملائكة ونظيره قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] يُقال أولاً هذا تبديل للُّغة وقلب لها فإن الباء في مثل قولك جئت بهذا تكون لتعدية الفعل ولهذا يقول النُّحاة إن أسباب التعدية ثلاثة الهمزة والتضعيف والباء تقول أتاه مال ثم تعديه فتقول آتاه مالاً وتقول أتاه به وتقول جاء به وتقول أجاءه إلى كذا وتقول علم هذا وعلمته هذا ومن المعلوم أن فعل أتى وجاء تستعمل تارة لازمًا وتارة متعدِّيًا فالأول كقوله تعالى وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ [يوسف 58] ونحوه والثاني كقوله تعالى وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [يونس 22] وقوله أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ [الشعراء 165] وقوله

ص: 78

لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد 23] على قراءة القصر وعلى قراءة المدِّ فيكون متعدِّيًا إلى مفعولين والعائد محذوف على هذه القراءة وقوله وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم 34] وقوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود 3] ونحوه وقوله آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف 96] وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة 43] فهذا الفعل المتعدي إذا عدي بالهمزة كان المعنى بمنزلة أعطى والتقدير أن الأول جعل الثاني آتيًا فإذا قيل ويؤت كل ذي فضل فضله آتوني زبر الحديد كان التقدير أن يجعل الفضل آتيا وزبر الحديد آتية كما في قوله أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء 80] فإذا دخل وخرج يتعدى إلى الظرف والمصدر فإذا دخلته الهمزة صار الفاعل مفعولاً به والمعنى داخلاً مدخل صدق واجعلني خارجًا مخرج صدق وإذا عدي هذا المتعدي بالباء اقتضى أن الإتيان ألصق بذلك المجرور فإذا قيل أتاهم بهذا أي جعل إتيانهم لاصقًا بذلك المأتي

ص: 79

به فيكون قد أتاهم ضرورة وأما كون نفس الفاعل هنا جاء بنفسه أو لا يجب أنه جاء كما في قوله فَأَتَاهُمُ اللَّهُ [الحشر 2] فهذا فيه تفصيل فإن من الناس من يسوي بين أخرجه وأخرج به والصواب الفرق والمقصود هنا أن المجرور بالباء في مثل هذا يدل اللفظ دلالة صريحة على انه ألصق به الإتيان والمجيء كالذي جعله غيره آتيًا وجائيًا كما في قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف 83] إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ [هود 33] فأتاهم الله بعذاب وقوله فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا [النمل 37] وليس في مثل هذا النَّظم إشعار بأنَّ المأتي به ظرف للفعل إلى الفاعل ولا أن الفاعل فوقه أو في جوفه أو غير ذلك من المعاني التي يدل عليها لفظ الباء فأما لفظ فيه فله خاصة يدلُّ عليها لا تحصل بحرف الباء فَجَعْلُهُ بمعنى الباء تحريف لكلم عن مواضعه وتبديل للغة إذا جاء في صورة حسنة أو حال حسن أو ثياب حسنة أو طائفة

ص: 80

من الناس أو مركب من المراكب ونحو ذلك فلابد وأن يكون المأتي فيه مما يصلح أن يُسمى في اصطلاح النُّحاة ظرفًا لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يكون مأتيًّا به والذي يبين هذا أن المواضع التي جاءت بحرف الإلصاق في القرآن والحديث لا يصلح أن تستعمل بحرف الظرف إلا حيث يكون الظرف مقصودًا فلا يصلح أن يُقال عسى الله أن يأتيني فيهم جميعًا إنما يأتيكم فيه الله أن يصيبكم الله في عذاب من عنده أما قوله فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ [النمل 37] وإذا قيل لنأتينَّهم في جنود فإنه يصلح إن كان هو الذاهب في الجنود فإن الجنود تكون محدقة به ومثل هذا المعنى يعبر عنه بـ في أما إذا أرسل الجنود ولم يذهب بنفسه فلا يصلح أن يُقال فلنأتينهم في جنود وإنما يُقال لنأتينَّهم بجنود وهذا من مشهور اللغة التي يعرفها عامة العلماء بها وإذا كان كذلك فهذا التأويل فيه مع تحريف الحديث تحريف القرآن فإن قوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة 210] لا يصلح أن يراد أنَّه هو يرسل ذلك ولا يأتي كما تقدم

ص: 81

وأما نقلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أتى بظلل من الغمام بمعنى أنه يرسلها ولا يجيء هو فهذا كذب على ابن عباس ولم يذكروا له إسنادًا وقد روي عن ابن عباس من وجوه أنَّ الله نفسه يجيء كما رواه عثمان بن سعيد قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حمَّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن

ص: 82

مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)[الفرقان 25] قال ينزل أهل السماء الدُّنيا وهم أكثر من أهل الأرض ومن الجن والإنس فيقول أهل الأرض أفيكم ربنا فيقولون لا وسيأتي ثم تشقق السماء الثانية وساقه إلى السماء السابعة قال فيقولون أفيكم ربنا فيقولون لا وسيأتي ثم يأتي الرب تبارك وتعالى في الكروبيين وهم أكثر من أهل السموات والأرض

ص: 83

قال وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو شهاب عن عوف عن أبي المنهال عن شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم فإذا كان ذلك قبضت هذه السماء الدنيا على أهلها فنشروا على وجه الأرض فإذا أهل السماء الدنيا أكثر من جميع أهل الأرض فإذا رآهم أهل الأرض فزعوا وقالوا أفيكم

ص: 84

ربنا فيقولون ليس فينا وهو آت قال ثم يقبض أهل السماء الثانية وساق إلى السماء السابعة قال فلأهل السماء السابعة وحدهم أكثر من أهل ست سموات ومن جميع أهل الأرض بالضِّعف قال ويجيء الله تعالى فيهم والأمم جثيًّا صفوف قال فينادي منادٍ ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم وسيأتي إن شاء الله تعالى تقرير ذلك في تفسير إتيان الله تعالى إذ ليس هذا موضعه الوجه الثالث أن قوله فيأتي الله في صورته التي يعرفون وقوله فيأتيهم الله في صورة غير صورته وقوله أتاهم ربُّ العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة وفي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول

ص: 85

مرة ونحو ذلك لو احتمل أن يكون بمعنى فيأتيهم بصورة فقد تقدم أن لفظ الصورة المضاف إلى شيء هو من باب الإضافة النفسية لا الخلقية كما تقدم بيانه لأن الإضافة الخلقية تكون قيما هو قائم بنفسه كما في قوله ناقة الله بيت الله أرض الله ونحو ذلك مما فيه دلالة على أنه منفصل عن المضاف إليه ولكن هو يحسن به وأما الصفات مثل العلم والقدرة ونحو ذلك فإذا أضيف كانت إضافته إضافة نفسية إذا لم يتبين خلاف ذلك إذ لم يُعلم أن هذه الأمور تقوم بنفسها والصورة هي قائمة بذي الصورة فليست من الأعيان المنفصلة عن المضاف إليه حتى تجعل بمعنى الملك فلا يمكن أن تكون صورة الله التي يأتي فيها مخلوقًا منفصلاً عنه يبعثه وهو لا يأتي الوجه الرابع أنه قد قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا وفي لفظ أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها أول مرة فيقول أنا ربكم ومعلوم أن أحدًا من الملائكة لا يقول للخلق أنا ربكم بل لا يدَّعي هذه الدعوى إلا كافر بالله

ص: 86

تعالى كفرعون والدجال والشيطان بل الملائكة عباد مطيعون للَّه تعالى لا يدعون الربوبية ولا الألوهية كما قال تعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)[الأنبياء 29] ولا يأمر الله أحدًا من الخلق أن يقول لجميع العباد أنا ربكم فإنه تعالى لا يأمر بالشرك ومن زعم أن الله يأمر بهذا فهو مفتر على الله وإن كان الملك يقوله امتحانًا فهذا لا يصلح كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس أنا ربكم على سبيل الامتحان وأمَّا ما ذكره من امتحان النَّاس في عرصات القيامة فلا ننكره فإنَّ المحنة إنَّما تنقطع بدخول دار الجزاء الجنة أو النار فأمَّا عَرَصَات القيامة فإنَّ المحنة في هذا وفي أمره لهم بالسجود وفيما ورد من تكليف من لم يكلَّف في الدنيا من الأطفال والمجانين كما أنَّهم يُمتَحَنُونَ في قبورهم بمسألة منكر

ص: 87

ونكير لكن المحنة من الملَك أن يقول للعبد من ربُّكَ ومن نبيُّكَ الوجه الخامس أنَّه لو كان الممتحن لهم في الآخرة ملكاً من الملائكة لقال لهم من ربُّكم وما تعبدون ولقال لهم هلا تذهبون مع ربِّكم إذ من الممكن أن يُظهر لهم صورة ويقول لهم ملَكٌ هلَاّ تذهبون مع هذه الصُّورة كما أنَّه في أوَّل الحديث قال فأذَّن مؤذّنٌ ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلو كان

ص: 88

المخاطب لهم عن الله لقال لهم ما يصلح له كما في نظائر ذلك ولكن من شأن الجهميَّة أنَّهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبيَّة غير الله كما قالوا إنَّ الخطاب الذي سمعه موسى بقوله إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه 12] كان قائما بمخلوق كالشجرة وكما قال في قوله من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له إنه يقول هذا ملك من الملائكة وكما زعم هذا المؤَسسُ في قوله تعالى وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)[الفجر 22] إن ربه ملك من الملائكة وهذا كُلُّه من الكفر والإلحاد الوجه السادس أنه قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وهذا نص في أنهم رأوا الله قبل هذا الخطاب في صورة غير هذه الصورة فلو كان المخاطب لهم ملكا لكان المرئي قبل ذلك هو الملك لا الله والحديث نص في أنهم رأوا الله قبل هذه المرة

ص: 89

الوجه السابع أنه قال فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيتبعونه وفي الحديث الآخر حتى إذا لم يبق إلَاّ من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها وفي رواية إنا سمعنا مناديًا ينادي ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي رواية أتلهم الله رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها فيقال ماذا تنتظرون فيقولون فارقنا الناس أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ونحن ننتظر ربنا الذي كنا نعبد فيقول أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئًا مرتين أو ثلاثًا فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه

ص: 90

إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كُلَّما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وهذا صريح بأن الذي أتاهم وقال أنا ربكم هو الذي أراهم العلامة حتى عرفوه فسجدوا له بعد ذلك وعرفوا أنه رب العالمين ولو كان القائل أنا ربكم ملكًا لكان الملك هو الذي اعترفوا آخرًا أنه رب العالمين وهو الذي سجدوا له وهذا من أعظم الكفر والضلال الوجه الثامن أن قوله فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وأنه يبدي العلامة التي ذكرها فيسجدون له صريح بأن الذي يسجدون له قد جاء في الصورة التي يعرفون ويتجلى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة وذلك صريح بأن الله هو الآتي في الصورة التي عرفوه فيها وسجدوا له لما عرفوه الوجه التاسع قوله يحتمل أن يكون المراد إذا جاء إحسان ربنا عرفناه وقوله فيأتيهم الله في الصورة التي

ص: 91

يعرفون معناه فيأتيهم الله بالصورة التي يعرفون أنها من أمارات الإحسان فيقال له هذا أولاً باطل فإن المراد إذا كان المعرفة بآياته فهو يظهر آيات العقاب تارة وآيات الإحسان تارة وهو الخالق لكل شيء وقد قال تعالى لما ذكر ما ذكره في صورة النجم فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)[النجم 55] وكذلك لما ذكر آياته في سورة الرحمن وقال تعالى إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا [النمل الآيات 91-93] وقال تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت 53] وإذا كانت معرفة الله بالآيات ليست موقوفة على الإحسان بطل هذا الوجه العاشر أن يُقال فلم لم يظهر لهم بعد ذلك شيئًا من الإحسان غير تجلِّيه هو فلو كان المراد إحسانه لوجب أن لا يعرفوه حتى يخلق شيئًا من نعمه في العرصَة قبل معرفتهم له وسجودهم له ولما عرفوه وسجدوا له قبل أن يخلق شيئًا من ذلك عُلِمَ أنَّه ليس المراد فإذا جاء إحسان ربنا عرفناه

ص: 92

الوجه الحادي عشر أن يُقال حَملُ قوله فيأتيهم في صورته التي يعرفون على إحداثه بعض المخلوقات باطل من الوجوه المتقدمة في قوله فيأتيهم الله في صورة أي بصورة هي ملك من الملائكة الوجه الثاني عشر أنَّه قد تقدم انه إذا قال أولا أنا ربكم فيقولون لا نشرك بالله شيئا أو نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربُّنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن له بالسجود إلى آخره فقد صرح بأن الآية التي عرفوه بها وهم قد ذكروا في تأويل ذلك أن المراد به إظهار الشدَّة يوم القيامة فيكون تأويلهم لذلك بأن الآية التي يعرفونه بها حتى يسجدوا له هي الإحسان كلامًا متناقضًا متهافتًا حيث جعلوا ما يتوقف معرفته به هو الإحسان وجعلوه هناك الشدَّة والعذاب الوجه الثالث عشر أنه قد أخبر أن هذه العلامة هي الكشف عن ساقه وسيأتي الكلام على هذا في موضعه وذلك يبطل أن يكون المراد فإذا جاء إحسان ربنا أو فيأتيهم بما يعرفون أنه إحسان

ص: 93

الوجه الرابع عشر أن في حديث جابر الذي في الصحيح ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك فيقولون من تنتظرون فيقولون ننتظر ربنا فيقول أنا ربكم فيقلون حتَّى ننظر إليك فيتجلى لهم يضحك قال فينطلق بهم ويتبعونه وهذا صريح في أن الذي أتاهم والذي تجلى لهم هو ربهم وأنهم عرفوه لما تجلى لهم يضحك وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على تمام ذلك الوجه الخامس عشر أن جميع ألفاظ الحديث صريحة في أن الذي جاء وأتى وقال أنا ربكم هو الذي رأوه فسجدوا له فاقتضى ذلك أن يكون المتجلي المسجود له هو الآتي الجائي فلو كان الذي أتى إنما هو ملك أو بعض النعم المخلوقة لم يصح ذلك ولهذا كان الإمام أحمد يحتج بإثبات المجيء والإتيان في مسألة الرؤية فذكر الخلال في كتابه السنة عن أبي طالب قال وقول الله عز وجل هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة 210] وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)[الفجر 22] فمن قال إن الله لا يرى فقد كفر فبين أن هذه

ص: 94

الآيات تدل على أنه يأتي ويجيء وذلك يقتضي الرؤية كما صرحت به الأحاديث المفسرة لكتاب الله عز وجل الوجه السادس عشر أنه في حديث ابن مسعود فرَّق بين إتيان الرب نفسه وإتيان سائر المعبودات وذلك يفسِّر ما ورد في بقية الأحاديث حيث قال ثم ينادي مناد يا أيها النَّاس ألن ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولاه ويعبده في الدنيا أليس ذلك عدلاً من ربكم قالوا بلى قال فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا قال فينطلقون ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون فمنهم من ينطلق إلى الشمس ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون قال ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويتمثل لمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير قال فيتمثل لهم الرَّبُّ فيأتيهم فيقول ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فيقول وهل تعرفونه إن رأيتموه فيقولون نعم بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناه قال فيقول ما هي فيقولون يكشف عن ساقه قال فعند ذلك يكشف عن ساقه قال فيخر من كان

ص: 95

بظهره طبق ويبقى قوم ظهروهم كأنهم صياصي البقر قلما ذكر أولئك المعبودات ذكر أنه يمثل أشباهها وأن المعبود من الأنبياء تأتي شياطينهم مع أنهم قد اتبعوها وذكر أن الرب لما امتحن العباد هو الذي يمثل لهم وهو الذي أظهر لهم العلامة التي عرفوه بها حتى سجدوا فلو كان الآتي هو ملك من ملائكة الله أو شيء من مخلوقاته لكان بيان هذا أولى من بيان أولئك إنما جاءت أشباههم إذ في هذا من المحذور ما ليس في ذلك بل هذا التفريق بين هذا وهذا دليل واضح أن الذي أتاهم هو رب العالمين الذي تمثل لهم في الصورة والذي اتبعه أولئك هو أشباه المعبودات وشياطين الأنبياء وذلك لأن الأنبياء لم يأمر بعبادتهم إلا الشياطين والجمادات لم تقصد أن تعبد فلا فرق عند عابديها بينها وبين أشباهها والله سبحانه هو الذي أمر الخلق بعبادته وهو نفسه هو الذي عَبَدهُ المؤمنون فلا يصلح أن يأتيهم غير من يتبعونه غيره الوجه السابع عشر أنه قد أخبر أنه بعد إتيانه إياهم في الصورة التي يعرفون وإظهار الآية التي عرفوه بها وسجود

ص: 96

المؤمنين له دون المنافقين اتبعوه حتى مروا على الصراط كما بين ذلك في حديث أبي هريرة وجابر وابن مسعود فلو كان الذي جاء في هذه المرة الثانية هو بعض النعم لكانوا قد اتبعوا تلك النعمة المخلوقة فلا يكونون اتبعوا الرب الذي عبدوه وهو خلاف نصوص الأحاديث وخلاف العدل الذي أخبر به في الحديث وذلك لأن العبادة مستلزمة كمال المحبة للمعبود وكمال التعظيم له فإن المعبود هو الذي يقصد وَيُحَبُّ لذاته والمرء مع من أحب وهذه حقيقة العدل أن يكون الإنسان مع المحبوب الذي يحبه محبة كاملة بحيث يحبه لذاته وإذا كان كذلك فيمتنع أن يكون المؤمنون متبعون لغير الله والذي جاءهم هو الذي اتبعوه فهو الله وهو الذي جاءهم في الصورة التي عرفوه فيها ولا ريب أن عند الجهمية يمتنع أن يكونوا متبعين لله كما يمتنع أن يكون هو الآتي وكما يمتنع أن يكون قد أتاهم في صورة وكما يمتنع أن يتجلى لهم ضاحكًا وكما يمتنع أن يكشف عن ساقه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق أو ما يقوله هؤلاء الجهمية إذ هما متناقضان غاية التناقض ومن عرف ماجاء به

ص: 97

الرسول صلى الله عليه وسلم ثم وافقهم فلا ريب أنه منافق الوجه الثامن عشر قوله في العلامة يحتمل أن تكون العلامة كونه تعالى في حقيقته مخالفًا للجواهر والأعراض يُقال له قد صرح في حديث جابر فيتجلى لهم ضاحكًا ومع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للعلامة التي أخبر بها بذلك يمتنع أن يكون هو ماذكره هؤلاء الوجه التاسع عشر أن كونه مخالفًا للجواهر الأعراض ما ينافي إتيانه في الصورة أولاً وآخرًا فلو كان ذلك هو العلامة لامتنع أن ينكروه ثم يعرفوه لاسيما وهو قد قال إن الصورة التي أتاهم فيها ثانية وهو ما يحدثه من إحسانه وذلك أمر لا يتعرض بحقيقة بل تلم المخلوقات مع قوله أنا ربكم مثل الملك مع قوله أنا ربكم لكن الملك حيٌّ وتلك النِّعم ليست حية ولكن يجوز إنطاق الجامدات الوجه العشرون أن عرصة القيامة لاسيما قبل جواز الصراط ليس هو محل الجزاء بالإنعام والإحسان وإنما هو مقام الامتحان فتفسير إتيان الله في الصورة التي يعرفون بالإحسان

ص: 98

مناقض لذلك الوجه الحادي والعشرون أنه قال فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيسجدون له فإن كانت تلك العلامة كونه مخالفًا للجواهر والأجسام لزم أن يكون في نفسه على صورة يخالف الجواهر والأجسام ويدل على ذلك دليلاً مستقلاً أنَّه قال في حديث أبي هريرة فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا وقال في حديث أبي سعيد فيقول هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه إلى آخره فجعل الصُّورة التي يعرفون هي الصورة التي ظهرت بالعلامة وهي التي يسجدون لها الوجه الثاني والعشرون أن هذه المعرفة حصلت برؤيتهم ومعلوم أنَّ كون الشيء مخالفًا لغيره إذا عرف بالرؤية إنما يفيد أنَّه مخالف لما رؤي فأما مالم ير فقد تشترك أشياء في كونها مخالفة لما رؤي فيجوز أن يكون المتجلِّي لهم أشياء ليست مثل ما رأوه من الجواهر والأجسام وإن كانت مخلوقات أيضًا فإن قيل المراد أنَّه ليس بجوهر ولا جسم قيل هذا أمر

ص: 99

عدمي والأمور العدمية لا في العقل ولا في الحس فظهر أنَّ هذا فاسد وأما التأويل الثاني وهو أن يكون المراد من الصورة الصفة والمعنى أن يظهر لهم من بطش الله وشدة بأسه ما لم يألفوه ولم يعتادوه من معاملة الله تعالى ثم يأتيهم بعد ذلك أنواع الرحمة والكرامة على الوجه الذي اعتادوه وألفوه فهذا أفسد من الذي قبله وأكثر الوجوه التي أبطل بها ذلك يبطل بها هذا ولهذا خصائص ويظهر ذلك بوجوه أحدها أن تفسير الصُّورة بمجرد الصفة فاسد كما قدمناه وبينا أنَّه حيث دل لفظ الصُّورة على صفة قائمة بالموصوف أو على صفة قائمة بالذهن واللسان فلابد مع ذلك أن يدل على الصورة الخارجية وإن دلَّ على الصورة الذهنيَّة

ص: 100

الوجه الثاني أن إظهار الشدة في تسمية ذلك صفة كإظهار النعمة وكإظهار الملك إذ جميع ذلك عبارة عن خلق شيء من الأجسام وإظهاره فتسمية هذا صفة هون ما تقدم من الملك والإحسان تحكُّم باطل الوجه الثالث أن الناس ما زالوا يألفون أنَّ الله تعالى يبتليهم بالسراء والضراء فدعوى أن أحدهما مألوف دون الآخر باطل الوجه الرابع أن الله إذا أظهر عذابه وشدته لم يجز الامتناع من السجود له في هذه الحال ولا يجوز إنكار ربوبيته حتى يقول الأنبياء والمؤمنون نعوذ بالله منك وينكرون أن يكون هو ربهم الوجه الخامس أن السجود في حال إظهار الشدة أولى من السجود في حال إظهار النعمة ولهذا كانت الصلاة عند إظهار الآيات مثل الكسوف والخسوف مشروعـ ـة باتفاق المسلمين وهي أطول الصلوات وأكثرها قدرًا وصفة

ص: 101

وأما النعمة ففي سجود الشكر نزاع وأيضًا فإن الجنة لا سجود فيها وهي دار النعيم فكيف يُقال إنهم امتنعوا عن السجود له عند الشدة ولم يسجدوا له إلا عند النعمة الوجه السادس أن هذه الحال قبل مرورهم على الصراط وقبل ظهور المؤمن من المنافق وإنما يكون النَّعيم والعذاب والشدة والكرامة بعد ذلك إذا مروا على الصراط وتميز السعداء من الأشقياء الوجه السابع أنَّه قد أخبر في الحديث أنَّ المشركين الذين عبدوا مع الله إلهًا آخر ومن أشرك بالله من أهل الكتاب قد صاروا إلى العذاب وبعد ذلك يأتي المسلمين ربُّهم في غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفونها فلم يظهر الشدة والبطش والعذاب

ص: 102

إلَاّ للكفار من المشركين وأهل الكتاب دون المسلمين الوجه الثامن أن في نفس الأحاديث أنه إذا سجد له المسلمون لم يتمكن من السجود إلا المؤمنون الذين كانوا يسجدون في الدنيا من تلقاء أنفسهم وأما المنافقون فلا يستطيعون السجود وفي أحاديث أخر أنهم بعد هذا يعطون الأنوار على قدر أعمالهم المنافقون والمؤمنون وإن كانت أنوار المنافقين تطفأ بعد ذلك ثم يمرون على الصراط فناج مسلَّم وهو الذي ينجو بلا أذى وناج مخدوش وهو الذي يصيبه من لفحها ومكدوش في نار جهنم وهم المعذبون فلم يكن العذاب والشدة إلا بعد هذا كله حين المرور على الصراط فكيف يقال إنّ إتيانه أولاً في غير صورته التي يعرفون هو إتيان عذابه وبأسه ولم يأت منه شيء الوجه التاسع أن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساقه بأنه إظهار الشدة وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون يكشف لهم عن ساقه فيسجدون له فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته كان هذا من

ص: 103

التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة الوجه العاشر أنه ليس فيما ذكروه إلا أنه يجيء بعض مخلوقاته إما التي تسر وإما التي تضر ومن المعلوم أن الله لا يوصف بنفس المخلوقات بل بكونها ليست صفات له أظهر من كونها ليسـ ـت صورة له فقول القائل يأتيهم الله في صورته التي يعرفون أو التي لا يعرفون أي صفته التي يعرفون أو التي لا يعرفون ثم تأويل ذلك بمجيء بعض ما يخلقه من الضراء والسراء من أفسد الكلام فإن النعم والنقم ليست من صفات الله التي يوصف بها وإنما يوصف بأنه يخلقها ويحدثها ويفعلها فلا يصح أن يكون مجيئها مجيء الله في صفته الوجه الحادي عشر أن الناس تنازعوا في نفس الخلق والإحداث والتكوين هل هو من صفات الله تعالى أم لا وهذا المؤسس وأصحابه مع المعتزلة يقولون إن الخلق هو المخلوق ليس ذلك صفة لله بحال فإذا كان نفس التكوين ليس من صفاته عندهم فكيف يكون المخلوق المكون من

ص: 104

صفاته وأما جمهور الفقهاء وأهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام فيقولون إن الفعل نفسه والخلق من صفاته ولكن المخلوق ليس من صفاته فإذا قيل إن الله تعالى يأتي في صفته امتنع على قول أولئك أن يراد الأفعال وأما على قول هؤلاء فيكون الله في نفس ما يقوم به من الفعل لا إتيان المفعول المجرد وذلك لأن الصفة إما أن يراد بها القول لفظه ومعناه وإما أن يراد بها المعاني القائمة بالموصوف وعلى التقديرين فالمخلوقات ليست داخلة في صفات الله تعالى الوجه الثاني عشر أنه لو كان اللفظ فيأتيهم الله في صورة عظيمة أو في صفة عظيمة كما يقال جاء الملك في صورة عظيمة ودخل المدينة على صفة عظيمة ونحو ذلك وادعوا مع ذلك أن الصورة والصفة هي المخلوق لم يكن في الإحالة كما ادعوه في ألفاظ النصوص لأن قوله في صورة وفي صفة نكرة مثبتة لم يعين صاحبها فأما إذا قيل في صورته التي يعرفون وصورته لا يعرفون وفي صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وقيل عن الصورة بمعنى

ص: 105

الصفة كان ذلك صفة له فيمتنع أن يكون عائدًا إلى غيره كما أنهم لما تأولوا في قوله خلق آدم على صورته أي على صفته كانت الصفة لله ما يوصف به من كونه عليمًا قديرًا أو مدبِّرًا أو مَلِكًا أو نحو ذلك لم يكن مجرد صفة المخلوق بهذا الحديث قيل خلق الله آدم على صورته الوجه الثالث عشر أنه لو قيل ذلك منكَّرًا لقيل فيأتيهم في صورةٍ أو صفة لوجب أن يكون هو الآتي وأن يكون موصوفًا بما يعود إليه من حكم ذلك كما في قولهم جاء المَلِكُ في صورة عظيمة أو صفة عظيمة فإن هذا اللفظ لا يقتضي أن الجائي مجرد مفعوله بل لابد أن يكون هو الجائي في صورة أو صفة عظيمة فكيف إذا كان النص فيأتيهم الله في صورته التي رأوه فيها أول مرة مع ما تقدم من الألفاظ الوجه الرابع عشر أن هذه الألفاظ كلها مصرِّحةٌ بأن الله تعالى هو الآتي وهي في ذلك موافقة لدلالة القُرآن مفسرة له حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأحاديث بأنهم يرون ربَّهم كما

ص: 106

يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب وكما يرون القمر صحوًا ليس دونه سحاب جوابًا لهم لمَّا سألوه هل نرى ريَّنا يوم القيامة وخبر مبتدأ فإنه كان يُحدّثُهم بهذا الحديث مرَّات متعددة ثم وصف هذه الرؤية فأخبر أنه إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ لتتبع كل أمة ما كانت تعبد وأخبر باتباع المشركين لما كانوا يعبدونه ثم قال وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربُّنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم فيقولون نعم أنت ربُّنا فيتبعونه وفي الحديث الآخر يقال لهم هل بينكم وبينه علامة فتعرفونه بها فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في الصورة التي رأوه فيها أول مرة وفي الحديث الآخر ثم يأتينا ربُّنا بعد ذلك فيقول من تنتظرون فيقولون ننتظر ربَّنا فيقول أنا ربكم فيقولون حتى ننظر إليك فيتجلَّى لهم يضحك قال فينطلق بهم و

ص: 107

يتَّبعونه وفي الآخر قال يجمع الله الأوَّلين والآخرين لميقات يوم معلوم قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء قال وينزل اللهُ في ظُلَلٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي ثم ينادي منادٍ وإذا كانت الأحاديث مصرِّحةً بمجيء الربِّ نفسه تصريحًا يعلمه الخاص والعام ويزيل كل شبهة علم أن هذه التحريفات تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم لا تصدرُ إلاّ من جاهل بما أخبر ب هاو منافق ليس بمؤمن فاما من آمن به وعلم ما جاء به فلا يكون إلاّ مصدِّقًا بمضمونها الوجه الخامس عشر أنَّ مضمون أقاويل الجهمية أنه يُعبد غير الله في الدنيا والآخرة وهذا من جملة شركهم فإنهم دخلوا في الشرك من وجوه منها إثباتهم خصائص الربوبية لغير الله حتى جعلوه يدعي الربوبية ويحاسب العباد ويسجدون له ومن الناس من يذكر لهذا الخبر تأويلاً فمن أعظمها كفرًا وضلالاً تأويل الاتحادية والحلولية الذين يقولون إنَّ الله تعالى هو الوجود أو يقولون إنَّه حال في الوجود أو ظاهر فيه ويزعمون أن المخلوقات كلها مظاهر الرب ومتجلياته بمعنى

ص: 108

أن ذاته هي الظاهرة في المخلوقات ويحتجُّون على ذلك بهذا الحديث فهم مع تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته يجعلون الخاص عامًّا في مثل هذا الحديث وفي مثل قوله كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ومثل قوله لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله

ص: 109

وذلك كقول صاحب الفصوص في تمام الكلام الذي

ص: 110

ذكرناه عنه في الفصّ الهودي بعد قوله فهو الشاهد من الشاهد والمشهود من المشهود فالعالم صورته وهو روح العالم المدبِّر له فهو الإنسان الكبير فهو الكون كله وهو الواحد الذي قام كوني بكونه ولذا قلت يتغذي فوجودي غذاؤه وبه نحن نحتذي فبه منه عن نظرت بوجه تعوّذي ثم قال ولهذا الكرب تنفس فنسب النفس إلى الرحمن لأنه رحم به ما طلبته النسب الإلهية من إيجاد صورة العالم التي قلنا هي ظاهر الحقّ إذ هو الظاهر وهو باطنها إذ هو الباطن وهو الأول إذ كان ولا هي وهو الآخر إذ كان عينها عند ظهروها فالآخر عين الظاهر والباطن عين الأول وهو بكل شيء عليم لأنه بنفسه عليم فلمَّا أوجد الصُّور في النفس وظهر سلطان النَّسب المعبَّر عنها بالأسماء صحّ

ص: 111

النّسب الإلهي للعالم فانتسبوا إليه تعالى فقال اليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أي آخذ عنكم انتسابكم إلى أنفسكم وأردُّكم إلى انتسابكم إليَّ أين المتقون أين الذين اتخذوا اللهَ وقاية فكان الحقُّ ظاهرهم أي عين صورهم الظاهرة وهو أعظم الناس وأحقه وأقواه عند الجميع وقد يكون المتَّقي من جعل نفسه وقاية للحق بصورته إذ هويَّة الحقّ قوى العبد فجعل مسمَّى العبد وقاية لمسمَّى الحق على الشهود حتى يتميَّز العالِمُ من غير العالِم هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر أية 9] وهم النّاظرون في لبّ الشّيء الذي هو المطلوب من الشيء فما سبق مقصِّرٌ مجدًّا كذلك لا يماثل له أجير عبدًا وإذا كان الحق وقاية للعبد بوجه والعبد وقاية للحق بوجه فقل في الكون ما شئت إن شئت قلت هو الخلق وإن شئت قلت هو الحق وإن شئت قلت هو الحق الخلق وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك فقد بانت المطالب بتعيينك

ص: 112

المراتب ولولا التحديد ما أخبرت به الرسل بتحوُّل الحق في الصُّور ولا وصفـ ـته بخلع الصُّور عن نفسه فلا تنظر العين إلَاّ إليه ولا يقع الحكم إلَاّ عليه فنحن له وبه في يديه وفي كل حال فإنَّا لديه لهذا ينكَّر ويعرَّف وينزَّه ويوصف فمن رأى الحق منه فيه بعينه فذلك العارف ومن رأى الحق منه فيه بعين نفسه فذلك غير العارف ومن لم ير الحقَّ منه ولا فيه وانتظر أن يراه بعين نفسه فذلك الجاهل وبالجملة فلابد لكل شخص من عقيدة في ربِّه يرجع بها إليه ويطلبه فيها فإذا تجلَّى له الحق فيها عرفه وأقرَّ به وإن تجلَّى له في غيرها أنكره وتعوَّذ منه وأساء الأدب عليه في نفس الأمر وهو عند نفسه أنَّه قد تأدَّب معه فلا يعتقد معتقد إلهًا إلَاّ بما جعل من نفسه فالإله في الاعتقادات بالجعل فما رأوا إلَاّ نفوسهم وما جعلوا فيها فانظر مراتب الناس في العلم بالله تعالى هو عين

ص: 113

مراتبهم في الرؤية يوم القيامة وقد أعلمتك بالسبب الموجب لذلك فإيَّاك أن تتقيَّد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير بل يفوتك العلم بالأمر على ما هو عليه فكن في نفسك هيولياً لصور المعتقدات كلها فإنَّ الله تعالى أوسع وأعظم أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ وماذكر أينًا من أين وذكر أنَّ ثَمَّ وجه الله ووجه الشيء حقيقته فنبَّه بهذا قلوب العارفين لئلا تشغلهم العوارض في الحياة الدنيا عن استحضار مثل هذا فإنه لايدري العبد في أيّ نفس يقبض فقد يقبض في وقت غفلة فلا يستوي مع من قبض على حضور ثم إنَّ العبد مع علمه بهذا يلزم في الصُّور الظاهرة والحال المقيدة التوجّه بالصلاة إلى شطر المسجد الحرام ويعتقد أن الله تعالى فيقبلته حال صلاته وهو بعض مراتب وجه الحق من فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فشطر المسجد الحرام منها ففيه وجه الله ولكن لاتقل هو هنا فقط

ص: 114

بل قف عندما أدركت والزم الأدب في استقبال شطر المسجد الحرام وألزم الأدب عدم حصر الوجه في تلك الأينيَّة الخاصة بل هي من جملة أينيَّات ما تولى متول إليها فقد بان لك عن الله أنه في أينيَّة كل وجهة وما ثم إلا الاعتقادات فالكل مصيب وكل مصيب مأجور وكل مأجور سعيد وكل سعيد مرضيٌّ عنه وإن شقي زمانًا ما في الدَّار الآخرة فقد مرض وتألَّم أهل العناية مع علمنا بأنَّهم سعداء أهل حق في الحياة الدنيا فمن عباد الله من تدركهم تلك الآلام في الحياة الأخرى في دار تسمَّى جهنَّم ومع هذا لا يقطع أحد من أهل العلم الذين كشفوا الأمر على ما هو عليه أنه لا يكون لهم في تلك الدار نعيم خاص بهم إما بفقد ألم كانوا يجدونه فارتفع عنهم فيكون نعيمهم راحتهم عند وجدان ذلك الألم أو يكون نعيم مستقل زائد كنعيم أهل الجنان في الجنان

ص: 115

فهذا بعض كلامهم في باب الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وهو اقرب شيء إلى كلام القرامطة الباطنية لكنَّ هؤلاء دخلوا من باب التصوُّف والتحقيق والكشوف وأولئك دخلوا من التشيُّع وموالاة أهل البيت ومالهم من علوم الأسرار وكلاهما من اكفر خلق الله وأعظمهم نفاقًا وزندقة

ص: 116

وتبديلاً لدين الإسلام وتحريفًا للكلم عن مواضعه وليس المقصود هنا وصف أنواع كفرهم ولكن المقصود الإخبار بأنهم جعلوا ما أخبرت به الرُّسل من أنَّ الله يجيء يوم القيامة في صورة أصلاً في أنَّ كل صورة في العالم فاللهُ هو الآتي فيها وانَّه الظَّاهر في صورة الموجودات بل هو عينها وقال ابن عربي أيضًا في حكمة إيناسية في كلمة إلياسية بعد أن ادَّعى أن المؤثِّر وإن كان الحق والمؤثر فيه هو العالم فالمؤثر فيه واحد من جهة الحقيقة ثم قال ومن ذلك قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قال الله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ الآية [البقرة 186] إذ لا يكون مجيبًا إلاّ إذا كان من يدعوه وإن كان عين الداعي عين المجيب فلا خلاف في اختلاف الصُّور فهما صورتان بلا شك وتلك الصُّور كلها كالأعضاء لزيد فمعلوم أنَّ ويدًا حقيقة واحدة شخصيَّة وأنَّ يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه فهو الكثير

ص: 117

الواحد الكثير بالصُّور الواحد بالعين وكالإنسان واحد بالعين بلا شكّ ولا شك أنَّ عَمْرًا ماهو زيد ولا خالد ولا جعفر وأنَّ أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجودًا فهو وإن كان واحدًا بالعين فهو كثير بالصُّور والأشخاص وقد علمت قطعًا إن كنت مؤمنًا أنَّ الحقَّ عينه يتجلَّى يوم القيامة في صورة فيعرف ثم يتحوَّل في صورة فينكر ثم يتحوَّل عنها في صورة فيعرف وهو هو المتجلّي ليس غيره في كل صورة ومعلوم أنَّ هذه الصُّورة ما هي تلك الصورة الأخرى فكأن العين الواحدة قامت مقام المرآة فإذا نظر الناظر فيها إلى صورة معتقده في الله عَرَفَه فأقرَّ به وإذا اتفق أن يرى فيها نعتقد غيره أنكره كما يرى في المرآة صورته وصورة غيره فالمرآة عين واحدة والصُّور

ص: 118

كثيرة في عين الرائي وليس في المرآة صورة منها جملة واحدة مع كون المرآة لها أثر في الصُّورة بوجه وما لها أثر بوجه وكلامهم وإن اشتمل على أنواع عظيمة من الشرك الأكبر والكفر الأعظم فهم في هذا الحديث ضلوا من وجوه أحدها أنهم جعلوا إتيان الله يوم القيامة عباده في الصُّور غير الصُّور التي يعرفونها ثم في الصُّور التي يعرفونها هو من جنس جميع الصور الموجودة في الدنيا والآخرة حيث اعتقدوا أنه الظَّاهر في كل صورة حتَّى صور الكلاب والخنازير كما حدَّثني من كلن مع رجلين من طواغيتهم مرَّا بكلب ميت أجرب فقال أحدهما للآخر وهذا أيضًا ذاتي فقال وهل ثم شيء يخرج منها

ص: 119

وكمل سمعت وأنا صغير رجلاً كان من شياطينهم ولم يكن إذ ذلك أنه منهم ولا يعرف مذهبهم بل كان يتكلَّم في أمور وكان له ذكاء وكان من كلامه أنَّه حكى عن شيخ عظَّمَهُ أنه قال لرجل يقول يا حي يا قيُّوم ويكرر ذلك ويلهج به كما يحصل لمن غلبه الذكر والدعاء لمن غلب عليه ذلك فقال له لافرق بين قولك يا حي أو يا حجر فإن الحاء في الاسمين وكلاهما يوجب حركة النفس وقوَّتها وكلامًا من هذا النوع بَعُدَ عهدي عنه لكن علمت فيما بعد أنَّ مقصوده أنه ما ثَمَّ سوى الوجود فالحجر وغير الحجر سواء والمقصود بهذا الذكر أنَّ النفس يحصل لها بذلك حركة وتقوى بذلك كما يقوى البدن بمعالجة الأعمال لا أنَّ هناك ما يدعوه هو الحي القيُّوم غير هذا العالم الثاني أنَّه في حديث القيامة قد أخبر أنَّه يأتي المسلمين بعد ذهاب الكفّار من المشركين وأهل الكتاب مع آلهتهم وعلى قول هؤلاء يأتي في تلك الآلهة التي عبدها المشركون وهم الكفار من المشركين وأهل الكتاب العابدون لها وهو عندهم

ص: 120

العجل الذي عبد أصحاب العجل كما قال إمامهم إمام الضلالة صاحب الفصوص في الفص النُّوحي ومكروا مكرًا كبَّارًا لأن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية أدعو إلى الله فهذا عين المكر على بصيرة فنبّه أنَّ الأمر له كلُّه فأجابوه مكرًا كما دعاهم فجاء المحمَّدي وعلم أن الدعوة إلى الله ماهي من حيث هويَّته وإنَّما هي حيث أسماؤه فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)[مريم 85] فجاء بحرف الغاية وقرنها بالاسم فعرفنا أنَّ العالم كان تحت حيطة اسم إلهي أوجب عليهم أن يكونوا متقين فقالوا في مكرهم وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)[نوح 23] فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ماتركوا من هؤلاء فإنَّ للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من يعرفه ويجهله من يجهله من المحمَّديين وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء 23] أي حكم العالم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأنَّ

ص: 121

التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقُوى المعنوية في الصُّورة الروحانيَّة فما عُبد غير الله في كل معبود فالأدنى من تخيَّل فيه الألوهيَّة فلولا هذا التخيُّل ما عبد الحجر ولا غيره ولهذا قال قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد 33] فلو سمّوهم لسموهم حجارة وشجرًا وكوكبًا ولو قيل لهم من عبدتم لقالوا إلهًا ما كانوا يقولون الله ولا الإله الأعلى ما تخيل بل قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يُقتصر فالأدنى صاحب التخيل يقول مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر 3] والأعلى العالم يقول فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا [الحج 34] حيث ظهر وبشَّر المخبتين الذين خبت نارُ طبيعتهم فقالوا إلهًا ولم يقولوا طبيعة وقال في الفص الهاروني وقد ذكر قِصَّة العجل قال فكان موسى عليه السلام أعلم بالأمر من هارون لأنَّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه أنَّ الله قد قضى

ص: 122

ألَاّ يُعْبَدَ إلاّ إيَّاه وما حكم الله بشيء إلاّ وقع فكان عتب موسى أخاه هارون لمَّا وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء فكان موسى يربِّي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن ولذا لما قال له هارون ما قال رجع إلى السَّامري فقال له قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)[طه 95] يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص إلى أن قال فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سُلِّط موسى عليه السلام حكمةً من الله ظاهرة في الوجود ليُعْبَدَ في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلَاّ بعد ما تلبَّست عند

ص: 123

عابدها بالألوهية ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد إمَّا عبادة تألُّه وإمَّا عبادة تسخير فلابد من ذلك لمن عقل وما عبد شيء من العالم إلَاّ بعد التلبُّس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه ولذلك تَسَمَّى الحقّ لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثَّر الدرجات في عين واحد فإنه قضى ألَاّ يعبد إلَاّ إيَّاه في درجات كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهيًّا عُبِدَ فيها وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية 23] وهو أعظم معبود فإنَّه لا يعبد شيء إلَاّ به ولا يعبد هو إلا بذاته وفيه أقول وحقّ الهوى إن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله كيف تمم في حق من عبد هواه واتخذه إلهاً فقال وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية 23]

ص: 124

والضلالة الحيرة وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلَاّ هواه بانقياده لطاعته فيما يأمـ ـره به من عبادة من عبده الأشخاص حتَّى إن عبادته لله كانت عن هوى أيضًا لأنه لو لم يقع له في ذلك الجانب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم واتخذها إلها ما اتخذها إلَاّ بالهوى والعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين وكل عابد من امرئ ما يكفّر من يعبد سواه والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى بل لأحدية الهوى فإنه عين واحدة في كل عابد فأضله الله أي حيَّره على علم بأن كل عابد ماعبد إلا هواه

ص: 125

ولا استعبده إلا هواه سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف قال والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يُعبد فيه ولذلك سموه كلهم إلها مع اسمه الخاص بحجر أو شجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك الوجه الثالث أنه قد أخبر أنه إذا تجلَّى لهم يوم القيامة في الصُّورة التي يعرفون سجد له المؤمنون كلهم وتبقى ظهور المنافقين الذين كانوا يسجدون له في الدنيا رياء وسمعة كالطبق وعلى زعم هؤلاء المشركين الملحدين المنافقين الذين كانوا يسجدون له في الدنيا المسجود له والمؤمنون والمنافقون وجميع تلك الصُّور صورة له لا فرق أصلاً الوجه الرابع أنه قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنَّه قال لن تروا ربكم حتى تموتوا وفي الأحاديث المتقدمة أن

ص: 126

المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا كما روى الخلال عن حنبل قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول إن الله لا يرى في الدنيا والآخرة مُثْبَتٌ في القرآن وفي السنة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وعلى زعم هؤلاء فهو دائما يُرى في الدنيا ولا يمكن أن

ص: 127

يُرى في الآخرة إلَاّ كما رئي في الدنيا لا يُرى إلَاّ في صورة الموجودات كما قال صاحب الفصوص في الفص الشّيِثي فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبدًا إلا عن تجلٍّ إلهي والتجلي من الذات لا يكون أبدًا إلا بصورة استعداد المتجلَّى له غير ذلك لا يكون فإذًا المُتَجلَّى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحقَّ ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصورة فيها لا تراها مع علمك انك ما رأيت الصُّور أي صورتك إلا فيها فأبرز الله ذلك مثالاً نصبه لتجليه الذاتي ليعلم المتجلّى له أنه مارآه وماثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلّي من هذا واجهد في نفسك عندما ترى الصُّورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبدًا البتة حتى عن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرآة ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة وهذا أعظم ما قَدَر عليه من العلم والأمر كما قلناه وذهبنا إليه وقد بينا هذا في

ص: 128

الفتوحات المكية وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق فلا تطمع ولا تُتعب نفسك في أن ترقى في أعلى من هذا الدرج فما هو ثم أصلاً وما بعده إلَاّ العدم المحض ومثل هذا كثير في كلامه يصرح بأنه لا يمكن أن يُرى ألَاّ كما يُرى في الدنيا وقد صرَّح بأنه ما بعد وجود المخلوقات إلا العدم المحض فصرح بعدم الخالق الذي خلق المخلوقات وإذا كان هذا قولهم فمن المعلوم أن الأحاديث المتقدمة في تجليه في الصورة وغيرها من أحاديث الرؤية كلها تبين أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر وتلك الرؤية تكون خاصة في أمكنة وأوقات خاصة إذا تجلى لهم وقد صرحت النصوص النبوية أنهم لا يرونه في الدنيا وهذا

ص: 129

كله من أبين الأشياء في أن احتجاجهم بحديث الصورة ونحوه من أعظم الاستهزاء بآيات الله لما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم من المناقضة والمعاداة كيف وهو عندهم هو كل راء وكل مرئي فكيف يكون ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم موافقًا لهم الوجه الخامس أن الأحاديث مع آيات القرآن أخبرت بأنه يأتي عباده يوم القيامة على الوجه الذي وصف وعند هؤلاء هو كل آت في الدنيا والآخرة وأما أهل الاتحاد والحلول الخاص كالذين يقولون بالاتحاد أو الحلول في المسيح أو عليّ أو بعض المشائخ أو بعض الملوك أو غير ذلك مما قد بسطنا القول عليهم في غير هذا الموضع فقد يتأولون أيضًا هذا الحديث كما تأوَّله

ص: 130

أهل الاتحاد والحلول المطلق لكونه قال فيأتيهم الله في صورة لكن يُقال لهم لفظ الصورة في هذا الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات التي قد يُسمَّى المخلوق بها على وجه التقييد وإذا أطلقت على الله مختصة به مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير ومثل خلقه بيديه واستوائه على العرش ونحو ذلك فهل يجوز لأحد أن يزعم أن الله يحل أو يتحد ببعض الأشخاص كما يزعمه من يتأول هذه الأسماء والصفات له أم يُعلم أنَّ ذلك من أفسد الأمور المعلومة بالضرورة وموضع الكلام على هذا هو الكلام على حديث الدجال فإن الدجال أعظم فتنة تكون وهو يدعي الإلهية ويظهر على يديه الخوارق وقد قال صلى الله عليه وسلم فيه إنه

ص: 131

أعور إن ربكم ليس بأعور وقال واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا المؤسس طعن في هذا الحديث قال لأنه لا يحتاج إلى نفي الإلهية عن الدجال إلى هذا الدليل ولو علم هذا ما في الأرض من الضلال عند أهل الاتحاد المطلق والمعين لم يقل مثل هذا فليت يرى المؤمن العالم كيف صار الحق الذي جاءت به الرسل تارة تقابله طائفة بالتكذيب وتارة يقابلونه بتمثيل غيره به والتسوية بينهما كما أن المشركين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل والمرتدون صدَّقُوا برسالة مسيلمة ونحوه من

ص: 132

الكذابين وجعلوهم مثل رسل الله كذلك الكفار تارة يجحدون الصانع وما يستحقه من أسمائه وصفاته وتارة يجعلونه له أندادًا وأمثالاً وأكفاءً ويعدلون بربهم فهؤلاء في جحود المستكبرين وهؤلاء في لبس المشركين وكل من الاستكبار والشرك ضد الإسلام وإن كانا متلازمين كما قد بينا هذا كله في غير هذا الموضع

ص: 133

فصل وأقرب ما يكون عليه إتيان الله في صورة بعد صورة وإن كان تأويلاً باطلاً أيضًا ما ذكره بعض أهل الحديث مثل أبي عاصم النبيل وعثمان بن سعيد الدارمي فإنه يروى عن أبي عاصم النبيل أنه كان يقول ذلك تغير يقع في عيون الرائين كنحو ما يُخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو به فيتوهم الشيء على الحقيقة وقال عثمان بن سعيد في نقضه على المريسي

ص: 134

وأما إنكارك أيها المريسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يتراءى لعباده المؤمنين يوم القيامة في غير صورته فيقولون نعوذ بالله منك ثم يتراءى في صورته التي يعرفونها فيعرفونه فيتبعونه فزعمت أيها المريسي أن من أقر بهذا فهو مشرك يقال لهم أليس قد عرفتم ربكم في الدنيا فكيف جهلتموه عند العيان وشككتم فيه قال عثمان بن سعيد فيقال لك أيها المريسي قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية الزهري حدثنا نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما عن

ص: 135

النبي صلى الله عليه وسلم كأنك تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولـ ـهمن جودة إسناده فاحذر ألا يكون قذفك بالشرك أن يقع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذنبنا إن كان الله سلب عقلك حتى جهلت معناه ويحك إن هذا ليس بشك ولا ارتياب منهم ولو أن الله تجلى لهم أول مرة في صورته التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا لاعترفوا بما عرفوا ولم ينفروا ولكنه يُرِي نفسه في أعينهم لقدرته ولطف ربوبيته في صورة غير ما عرفهم الله صفاتها في الدنيا ليمتحن بذلك إيمانهم ثانية في الآخرة كما امتحن في الدنيا ليثبتهم أنهم لا يعترفون بالعبودية في الدنيا والآخرة إلا للمعبود الذي عرفوه في الدنيا بصفاته التي أخبرهم بها في كتابه واستشعرتها قلوبهم حتى ماتوا على ذلك فإذا مثل في أعينهم غيرُ ما عرفوا من الصفة نفروا وأنكروا إيمانًا منهم بصفة ربوبيته التي امتحن قلوبهم في الدنيا فلما رأى أنهم لا يعرفون إلا التي امتحن الله قلوبهم تجلى لهم في الصورة التي عرفهم في

ص: 136

الدنيا فآمنوا به وصدقوا وماتوا ونشروا عليه من غير أن يتحول الله من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم بقدرته ليس هذا أيها المريسي بشك منهم في معبودهم بل هو زيادة يقين وإيمان به مرتين كما قال ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال لهم يوم القيامة أتعرفون ربكم فيقولون نعم إنه إذا تعرف إلينا عرفناه يقولون لانُقر بالربوبية إلى لمن استشعرته قلوبنا بصفاته التي أنبأنا بها في الدنيا فحينئذ يتجلى لهم في صورته المعروفة عندهم فيزدادون به عند رؤيته إيمانًا ويقينًا بربوبيته اغتباطًا وطمأنينة وليس هذا من باب الشك على ما ذهبت إليه بل هو يقين بعد يقين وإيمان بعد إيمان ولكن الشك والريبة كلها ما ادعيت أيها المريسي في تفسير الرؤية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترون ربكم يوم القيامة لا تُضامُّون في رؤيته فادعيت

ص: 137

أن رؤيتهم تلك أنَّهم يعلمون يومئذ أن لهم ربا لايعتريهم في ذلك شك كأنهم في دعواك أيها المريسي لم يعلموا في الدنيا أنَّه ربهم حتى يستيقنوا به في الآخرة فهذا التفسير إلى الشك أقرب مما ادعيت في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشك والشرك لا بل هو الكفر لأن الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم يعلمون يومئذ أن الله ربهم ألا ترى أنه يقول أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)[السجدة 12] فالشك في الله هذا الذي تأولته أنت في الرؤية لا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك إن الله لا تتغير صورته ولا تتبدل ولكن يمثل في أعينهم يومئذ أولم تقرأ كتاب الله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [الأنفال 44] وهو الفعال لما يشاء كما مثل جبريل عليه السلام مع عظم صورته وجلالة خلقه في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وكما مثله لمريم بشرًا

ص: 138

سويًّا وهو ملك كريم في صورة الملائكة وكما شبه في أعين اليهود أن قالوا إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ [النساء 157] فقال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] وما عملك أيها المريسي بهذا وما أشبهه غير أنه وردت عليك آثار لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بحلقك ونقضت عليك مذهبك فالتمست الراحة منها بهذه المغاليط والأضاليل التي لا يعرفها أحد من أهل العلم والبصر بالعربية وأنت منها في شغل كلما غالطت بشيء أخذ بحلقك شيء آخر يخنقك حتى تلتمس له أغلوطة أخرى ولئن جزعت من هذه الآثار فدفعتها بالمغاليط مالك راحة فيما يصدقها من كتاب الله عز وجل الذي لاتقدر على دفعه وكيف تقدر على دفع هذه الآثار وقد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألفاظها بلسان عربي مبين ناقضة لمذهبك وتفاسيرك وقد تداولتها أيدي

ص: 139

المؤمنين وتناسخوها يؤديها الأول إلى الآخر والشاهد إلى الغائب إلى أن تقوم الساعة ليقرعوا بها رؤوس الجهمية ويهشموا بها أنوفهم وينبذ تأويلك في حش أبيك ويكسر في حلقك كما كسر في حلوق من كان فوقك من الولاة والقضاة الذين كانوا من فوقك مثل ابن أبي دؤاد وعبد الرحمن وشعيب

ص: 140

بعده وغسان وابن أبي رباح المفتري على القرآن فإن كنت تدفع هذه الآثار بجهلك فما تصنع في القُرآن وكيف تحتال له وهو من أوله إلى آخره ناقض لمذهبك ومكذب لدعواك حتى بلغني عنك من غير رواية لمعارض أنك قلت ماشيء أنقض لدعوانا من القُرآن غير أنه لا سبيل لدفعه إلَاّ مكابرة بالتأويل وهذا أيضًا باطل من وجوه أحدها أن في حديث أبي سعيد المتفق عليه فيأتيهم في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة وفي لفظ في أدنى صورة من التي رأوه فيها وهذا يفسر قوله في حديث

ص: 141

أبي هريرة فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون ويبين أن تلك المعرفة كانت لرؤية منهم متقدمة في صورة غير الصورة التي أنكروه فيها وفي هذا التفسير قد جعل صورته التي يعرفون هي التي عرَّفهم صفاتها في الدنيا وليس الأمر كذلك لأنه أخبر أنها الصورة التي رأوه فيها أول مرة لا أنهم عرفوها بالنعت في الدنيا ولفظ الرؤية صريح في ذلك وقد بينا أنه في غير حديث مما يبين أنهم رأوه قبل هذه المرة الوجه الثاني أنهم لا يعرفون في الدنيا لله صورة ولم يروه في الدنيا في صورة فإن ما وصف الله تعالى به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب لهم صورة يعرفونها ولهذا جاء في حديث آخر أنه ليس كمثله شيء فلو كانوا أرادوا الصفات المخبر بها في الدنيا لذكروا ذلك فعلم أنهم لم يطيقوا وصف الصورة التي رأوه فيها أول مرة وقد قال النبي في سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن

ص: 142

ينعتها من حسنها فالله أعظم من أن يستطيع أحد أن ينعت صورته وهو سبحانه وصف نفسه لعباده بقدر ما تحتمله أفهامهم ومعلوم أن قدرتهم على معرفة الجنة بالصفات أيسر ومع هذا فقد قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فالخالق أولى أن يكونوا لا يطيقون معرفة صفاته كلها الوجه الثالث أن في حديث أبي سعيد فيرفعون رؤوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقوله لا يتحول من صورة إلى صورة ولكن يمثل ذلك في أعينهم

ص: 143

مخالفة لهذا النص الوجه الرابع أن في حديث ابن مسعود وأبي هريرة من طريق العلاء أنه يمثل لكل قوم ما كانوا يعبدون وفي لفظ أشباه ما كانوا يعبدون ثم قال يبقى محمد وأمته فيتمثل لهم الرَّب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول مالكم لا تنطلقون كما انطلق الناس فيقولون إن لنا إلهًا ما رأيناه بعد فقد أخبر أن الله تعالى هو الذي تمثل لهم ولم يقل مُثِّل لهم كما قال في معبودات المشركين وأهل الكتاب الوجه الخامس أن في عدة أحاديث كحديث أبي سعيد وابن مسعود قال هل بينكم وبينه علامة فيقولون نعم فيكشف عن ساقه فيسجدون له وهذا يبين أنهم لم يعرفوه بالصفة التي وصف لهم في الدنيا بل بآية وعلامة عرفوها في الموقف وكذلك في حديث

ص: 144

جابر قال فيتجلى لنا يضحك ومعلوم أنه وإن وصف في الدنيا بالضحك فذاك لا يعرف صورته بغير المعاينة الوجه السادس أن تمثيله ذلك بقوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال 44] وبقوله شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] لا يناسب تشبيهه بمجيء جبريل في صورة دحية والبشر وذلك أن اليهود غلطوا في الذي رأوه فلم يكن هو المسيح ولكن ألقى شبهه عليه والذي رأته مريم ومحمد صلى الله عليه وسلم هو جبريل نفسه ولكن في صورة آدمي فكيف يقاس ما رئي هو نفسه في صورة على ما لم يره هو وإنما ألقي شبهه على غيره وأما التقليل والتكثير في أعينهم بالمقدار ليس هو في نفس المرئي ولكن هو صفة المرئي

ص: 145

الوجه السابع أن هذا المعنى إذا قصد كان مقيدًا بالرائي لا بالمرئي مثل قوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا [الأنفال 44] فقيد ذلك بأعين الرائين يقال كان هذا في عين فلان رجلاً فظهر امرأة وكان كبيرًا فظهر صغيرًا ونحو ذلك لا يقال جاء فلان في صورة كذا ثم تحول في صورة كذا ويكون التصوير في عين الرائي فقط هذا لا يُقال في مثل هذا أصلا فإن قيل فما الفرق بين ماجاء في الحديث وبين القول الذي نقله الأشعري وغيره في مقالات أهل الكلام عن البكرية وأتباع بكر لن أخت عبد الواحد لما ذكر اختلافهم في الرؤية

ص: 146

فقال وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويكلم خلقه منها قيل هؤلاء عندهم أن الله نفسه لايُرى ولا يكلم عباده ولكن يخلق صورة فيُرى فيها ويكلم خلقه فيها ومعلوم أن هذا ليس هو معنى الحديث وذلك أن هؤلاء لما رأوا بقياس عقولهم أنه لا يرى ورأوا النصوص قد جاءت برؤيته اختلفوا في ذلك على أقوال قال الأشعري وقال قائلون منهم ضرار بن عمرو وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذا فندركه بها وندرك ما هو بتلك الحاسة

ص: 147

قلت وهذا في رؤيته نظير ما يقوله طائفة من الكلابية والأشعرية أن كلامه لا يسمع بهذه الحاسة ولكن يخلق في العبد لطيفة أو يقولون حاسة أخرى يسمع بها كلامه وهذا قول من يجوز منهم سماع كلامه وآخرون منهم لا يُجوِّزون سماع كلامه كما أن في أولئك من لا يُجوِّز رؤيته بحال

ص: 148

قال الأشعري وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يُرى فيها ويُكلِّم خلقه فيها وقال الحسين النجار إنه يجوز أن الله تعالى يحول العين إلى القلب ويجعل لنا قوة العلم فيعلم بها ويكون العلم رؤية له أي علمًا له وقد ذهب إلى نحو هذه التأويلات طائفة من الصِّفاتيَّة من الأشعرية المتأخرين ونحوهم كما يُذكر في موضعه

ص: 149

فصل قال الرازي في تأسيسه الخبر الرابع ماروي عنه عليه السلام أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة قال واعلم أن قوله عليه السلام في أحسن صورة يحتمل أن يكون من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير على أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة ويحتمل أن يكون ذلك من صفات المرئي فإن كان ذلك من صفات الرائي كان قوله على أحسن صورة عائدًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وجهان الأول أن يكون المراد من الصورة نفس الصورة فيكون المعنى أن الله تعالى زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه وذلك يكون سببًا لمزيد من الإكرام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة ويكون المعنى الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه عظيمة من الإنعام كما كان وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرَّفنا

ص: 150

الرسول صلى الله عليه وسلم أن حالته كانت من القسم الأول وإما إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك أنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يُقال في العرف المعتاد إني رأيته على أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة الثالث لعله عليه السلام لما رآه اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ماكان مطلعًا عليه من قبل الخبر الخامس ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قال يامحمد قلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت يارب

ص: 151

لا أدرى فقال في أداء الكفارات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على الكراهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان الأول المراد به المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان كثيرة وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد منه أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة وقد روى بين كنفي والمراد ما يقال أنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه وأما قوله فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة

ص: 152

وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا والذي يدل على أنَّ المراد كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فعلمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلا لأن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف وفي بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى والكلام على ذلك أن يقال هذان الحديثان لم يذكر لهما إسنادًا أعني الإسناد الذي يليق بكتابه وهو أن يعزو الحديث إلى كتاب من كتب الحديث ليعرف أصله وكأنه نقلها من كتاب تأويل الأخبار لأبي بكر بن فورك فإنه هو الذي يعتمده في كثير مما يذكره من أخبار الصفات وتأويلها وأبوبكر بن فورك جمع في كتابه من تأويلات

ص: 153

بشر المريسي ومن بعده ما يناسب كتابه لكنه لم يكن من الجهمية المماثلين لبشر بل هو يثبت من الصفات ما لا يثبته بشر وكان قد سبقه أبوالحسن بن مهدي الطبري إلى كتاب لطيف في التأويل وطريقته أجود من طريقة أبي بكر بن فورك وأول مكن بلغنا أنه توسع في هذه التأويلات هو بشر المريسي وإن كان قبله وفي ومنه له شركاء في بعضها وتلقى

ص: 154

ذلك عنهم طائفة من الجهمية المعتزلة وغيرهم وأما كثير من أئمة الجهمية المعتزلة وغيرهم فيكذب بهذه الأحاديث كأحاديث الرؤية المتقدمة ونحوها ويرون أن التصديق بها مع التأويل لها من باب التلاعب وجحد الضرورة ولا ريب أن هؤلاء في إبطالهم لتأويلها مع ما هي عليه من الألفاظ الصريحة أقرب من المتأولين لها ولكن هؤلاء في التصديق بها وترك التكذيب بها أقرب من أولئك وهم دائمًا يتقاسمون البدعة فيكون هؤلاء من وجه دون هؤلاء وهؤلاء من وجه دون هؤلاء ولذلك نظائر في مسألة القرآن والرؤية والصفات وغير ذلك كما نبهنا على بعضه في هذا الكتاب وسنتكلم إن شاء الله تعالى على تثبيتهما حيث تكلم الرازي على الأخبار فإن الرازي هو في الحقيقة يجمع البدعتين فلا يتبع الحق لا في إسنادها ولا في دلائلها بل

ص: 155

لا يفعل ذلك في دلالة القرآن ولهذا كانت طريقته صدًّا عن سبيل الله ومنعًا للناس من اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لا يثبت إلا بالنقل وبدلالة الألفاظ وهو دائمًا يطعن في الطريقتين وقد تكلمنا على كلامه في دلالة الألفاظ في غير هذا الموضع أيضًا ونحن نذكر إن شاء الله هذين الحديثين وإسنادهما ولفظهما لكن هذان الخبران متعلقان برؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه لتضمنهما ذلك وهذا قد جاءت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث يستدل بها على الإثبات والنفي ولهذا تنازع السلف في هذه المسألة ولم يتنازعوا في رؤية الله تعالى في الآخرة كما سيأتي ذلك في كلام الإمام أحمد رحمه الله قال الإمام أبوبكر بن خزيمة باب ذكر أخبار رويت عن عائشة في إنكارها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المنية بالنبي صلى الله عليه وسلم

ص: 156

إذ أهل قبلتنا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى من شاهدنا من العلماء من أهل عصرنا لم يختلفوا ولم يرتابوا ولم يشكوا أن جميع المؤمنين يرون خالفهم يوم القيامة عيانًا وإنما اختلف العلماء هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم خالقه عز وجل قبل نزول المنية بالنبي صلى الله عليه وسلم لا أنهم قد اختلفوا في رؤية المؤمنين خالقهم يوم القيامة فتفهموا المسألتين لا تغالطوا فاصدوا عن سواء السبيل ونحن نذكر من ذلك ما يسره الله تعالى والذي عليه أكثر أهل السنة والحديث إثبات رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه لكن اختلفوا هل يقال رآه بعين رأسه أو يقال رآه بقلبه أو يقال رآه ولا يقال بعينه ولا بقلبه على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن أحمد على ما ذكر ذلك القاضي أبويعلى وغيره ولهذا جمع طائفة بين أقوال السلف في ذلك

ص: 157

فالرواية الواحدة عن أحمد وهي قول طائفة أنه يقال رآه ولايقال بعينه ولابقلبه كما في مسائل الأثرم قال سمعت أبا عبد الله قال له رجل عن حسن الأشيب قال لم ير النبي صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى قال فأنكره إنسان عليه فقال لم لا تقول رآه ولا تقول بعينه ولا بقلبه كما جاء في الحديث أنه رآه قال رجل فاستحسن ذلك الأشيب قال أبو عبد الله هذا حسن قال وسمعت أبا عبد الله قال فأما من قال إنه لا يرى في الآخرة فهو جهمي

ص: 158

وأما من تكلم في رؤية الدنيا فقال عكرمة رآه وقال الحسن رآه وقال سعيد بن جبير لا أقول رآه ولا لم يره وقالت عائشة من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد كذب قال الأثرم قلت لأبي عبد الله إلى أي شيء تذهب من هذا فقال قال العمش عن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه

ص: 159

مرتين وحديث الأثرم حدثنا محمد بن الصباح حدثنا هشيم ثنا منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن

ص: 160

أبي ذر قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه وروى الخلال حدثنا محمد بن الهيثم حدثنا عمرو بن عون أنا هشيم عن منصور عن الحكم عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] قال رآه بقلبه

ص: 161

ولم يره بعينه وقال ابن خزيمة حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا هشيم أنا منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال رآه بقلبه ولم يره بعينه فجواب الإمام أحمد يقتضي أنه استحسن كلام من أطلق القول بأنه رآه ولم يقيده بعينه ولابقلبه ولكن لايقتضي أنه منع من التقييد بأحدهما بدليل أن الأثرم لما سأله إلى أي شيء تذهب في هذا ذكر الرواية المقيدة بالقلب ولكن من أصحاب أحمد من جعل هذا رواية عنه أنه يطلق الرؤية ولا يقيد بأحدهما لكن فرق بين السكوت والتقييد وبين المنع من التقييد فإن كان أحد يظن أن أحمد منع من التقييد فليس كذلك وإن قال إنه استحسن الإطلاق فهذا حسن وحينئذ فلا يكون روايتين بل رواية واحدة تضمنت جواز الإطلاق والتقييد

ص: 162

بالقلب لكن لم ير إطلاق نفي الرؤية لأن نفيها يشعر بنفي الأمرين جميعًا وإن كان من النفاة من لا ينفي إلا رؤية العين وهذا الذي أجاب به أحمد من حديث ابن عباس الذي رواه مسلم في صحيحه عن زياد بن الحصين عن أبي العالية البرَّاء عن ابن عباس مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) - وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 11 ، 13] قال رآه بفؤاده مرتين وروى مسلم في صحيحه أيضًا عن عبد الملك عن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال رآه

ص: 163

بقلبه يعني قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] وأما حديث أبي ذر فقد رواه مسلم في صحيحه عن قتادة عن عبد الله بن شقيق العقيلي عن أبي ذر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال نور أنَّى أراه وأما ما يرويه بعض العامة انابا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب باتفاق أهل العلم ولم يكن عند عائشة في هذا حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما

ص: 164

تكلمت في ذلك بالرأي والتأويل لا بحديث كان عندها وسيأتي أن أبا عبد الله رد قول عائشة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي وسنبين إن شاء الله اتفاق المرفوع في ذلك فإن كان أبو ذر عنى هذا ومع هذا فقد رووا عنه بذلك الإسناد الآخر الجيد عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال رأى محمد ربه بقلبه دل ذلك على أن ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينف رؤية القلب التي أثبتها بل إما أن يكون دل عليها أو لم يدل على عدمها وأبو ذر أحق من رجع إليه في هذه المسألة لأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهو من أجلّ الصحابة رضي الله عنهم فلهذا اعتمد الإمام أحمد على ما رواه عنه وعن ابن عباس والأثرم من أعلم أصحاب أبي عبد الله وأذكاهم وأعرفهم بالحديث والفقه وحديث أبي ذر المرفوع قد تنازعوا فيه هل مقتضاه إثبات الرؤية أو نفيها فلذلك لم يحتج به أحمد قال أبو بكر بن خزيمة وقد روي عن أبي ذر خبر قد اختلف علماؤنا في تأويله لأنه روي بلفظ يحتمل النفي

ص: 165

والإثبات جميعًا وذكر الحديث ثم قال وقوله نور أنَّى أراه يحتمل معنيين أحدهما أي كيف أراه وهو نور والمعنى الثاني رأيته وإني رأيته وهو نور فهو نور لا تدركه الأبصار إدراك ماتدرك الأبصار من المخلوقين كما قال عكرمة يعني عن ابن عباس إن الله إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء قال والدليل على صحة هذا التأويل الثاني أن إمام أهل زمانه في العلم والأخبار محمد بن بشار بندار حدثنا بهذا الخبر قال حدثنا معاذ بن هشام حدثني

ص: 166

أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال عن أي شيء كنت تسأله فقال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال أبو ذر قد سألته فقال رأيت نورًا وهذه الطريق التي ذكرناها هي من رواية هشام الدستوائي عن قتادة واللفظ الأول هو من طريق يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة وبعضهم يقول نور بالرفع

ص: 167

ورواه ابن خزيمة من غير وجه بالنصب قال ابن خزيمة ويجوز أن يكون معنى خبر أبي ذر رأيت نورًا فلو كان معنى قول أبي ذر من رواية يزيد بن إبراهيم التستري أنّي أراه على نفي معنى الرؤية فمعنى الخبر أنه نفى رؤية الرب لأن أبا ذر قد ثبت عنه أنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بقلبه حدثنا أحمد بن منيع غير مرة قال ثنا هشيم أنا منصور وهو ابن زاذان عن الحكم ين يزيد الرشك عن أبي ذر في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] قال رآه بقلبه يعني النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا أبو هاشم

ص: 168

زيادة بن أيوب قال حدثنا هشيم فذكر بإسناده عن أبي ذر قال رآه بقلبه ولم يره بعينه وكذلك نقل حنبل عن الإمام أحمد كما رواه عنه الخلال قال قلت لأبي عبد الله النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه قال رؤيا حلم رآه بقلبه وكان أبو عبد الله تارة يحكي تنازع السلف في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا كما روى الخلال عن جعفر بن محمد حدثني أبو عبد الله قال قرأت على أبي قرة الزبيدي عن أبي جريج

ص: 169

أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه مرتين قلت يا أبا عبد الله عائشة تقول لم يره وأظن أني قلت له وأبو ذر قال قد اختلفوا في رؤية الدنيا ولم يختلف في رؤية الآخرة إلا هؤلاء الجهمية قلت تعيب على من يكفرهم قال لا قلت فيكفرون قال نعم وذكر الخلال هذه المسألة والجواب عنها في موضع آخر من السنة وقال فذكر مثل مسألة حبيش سواء وقد ذكر قبل ذلك مسألة حبيش

ص: 170

وهذه الرواية يحتمل أنه إنما حكى الاختلاف في رؤية العين لأنها هي التي تتظاهر الجهمية بإنكارها وهو ظاهر حديث عائشة وأبي ذر المرفوع ويحتمل أنه حكى الخلاف في رؤية القلب أيضًا لأن حديث ابن عباس الذي عارضه السائل بقول عائشة إنما فيه رؤية القلب ويحتمل أنه حكى الخلاف مطلقًا لتقابل الروايات بالإثبات والنفي يؤيد ذلك أن الخلال جعل الجواب هنا كالجواب في مسألة حبيش بن سندي فروى الخلال عن حبيش بن سندي أن أبا عبد الله سئل عن حديث ابن عباس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقال بعضهم يقول بقلبه فقيل له أيما أثبت عندك فقال في رؤية الدنيا قد اختلفوا فيها وأما في رؤية الآخرة فلم يختلف فيها إلا هؤلاء الجهمية قيل له تعيب على من يكفرهم قال لا قيل فيكفرون قال نعم ففي هذا الجواب أنهم سألوه عما يروى عن ابن عباس من إطلاق الرؤية فقال بعض الرواة يقيدها بالقلب ولما سئل أيما أثبت عندك لم يجزم بأحد الطرفين لكن ذكر أن السلف تنازعوا في ذلك ولم يتنازعوا في رؤية الآخرة فيحتمل

ص: 171

أنهم تنازعوا هل رآه بقلبه أم لا ويحتمل أنهم تنازعوا في إثبات الرؤية مطلقًا ومقيدًا وفي إطلاق نفيها ولكن استقر أمره على إثبات ماورد في ذلك من الأحاديث الثابتة والرد على من نفى موجبها قال الخلال أنا أبو بكر المروذي قال قرأت على أبي عبد الله وأبنا عبد الله بن أحمد قال قرأت على أبي قرة الزبيدي عن ابن جريح قال أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين زاد عبد الله بن أحمد ثنا نصر بن علي قال حدثنا أشعث بن عبد الله حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن

ص: 172

الحارث عن كعب قال إن الله تعالى قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهنا وسلم فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين أخبرنا المروذي عن أبي عبد الله عن وكي عثنا عباد الناجي سمعت عكرمة يقول نعم رأى محمد صلى الله عليه وسلم

ص: 173

ربه حتى انقطع نفسه وأخبرنا المروذي عن أبي عبد الله عن يزيد بن عباد قال سألت الحسن وعكرمة عن قول الله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)[النجم 1] قالا إذا غاب فذكر الحديث ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)[النجم 8] قال الحسن هو ربي فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)[النجم 9] فقلت ياأبا سعيد هل شاهده قال نعم فقرأها حتى بلغ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)[النجم 18] فتلكأ الحسن وقال رأى عظمة ربه ورأى أشياء فقال عكرمة ما تريد قال أريد أن تبين لي فقال قد رآه ثم رآه

ص: 174

قال القاضي أبو يعلى وقد اختلفت الروايات عن أحمد في إثبات رؤيته في ليلة المعراج قروى أبوبكر المروذي وذكر ما تقدم من قوله فبأي شيء يدفع قول عائشة إلى قوله ما اعتراضه في هذا الموضع يُسلَّم الخبر ثم قال وظاهر هذا من كلامه إثبات الرؤية في ليلة المعراج قال وهذه الرواية اختيار أبي بكر النجاد وذكر أنه حكى القاضي أبو علي عن أبي بكر بن سليمان النجاد أنه قال رأى محمد ربه إحدى عشرة مرة منها بالسنَّة تسع مرات ليلة المعراج حين كان يتردد بين موسى وبين ربه عز وجل يسأل أن يخفف عن

ص: 175

أمته الصلاة فنقض خمسًا وأربعين صلاة في تسع مقامات ومرتين بالكتاب قال القاضي ونقل حنبل قال قلت لأبي عبد الله رأى ربه قال رؤيا حلم رآه بقلبه قال القاضي وهذا يقتضي نفي الرؤية في تلك الليلة قال ونقل الأثرم عن أحمد أنه حكى له قول رجل يقول رآه ولا أقول بعينه ولا بقلبه فقال أبو عبد الله هذا حسن قال وظاهر هذا إطلاق الرؤية من غير تفسير بعين أو قلب قال القاضي والرواية الأولى أصح قلت ليس كلام أحمد مختلفاً فإن رواية الأثرم قد ذكرنا لفظها وأنه استحسن الإطلاق فإنه قد

ص: 176

ذهب إلى أنه رآه بقلبه وهذا موافق لنقل حنبل والمروذي نقل الرواية مطلقًا وفي الأحاديث التي رواها التقييد برؤية القلب ورؤية المنام ولم أجد في كلام أحمد تصريحًا برؤية عين ولا نفي الرؤية مطلقًا وأيضًا فاعتقاد أن نفي رؤية العين يقتضي إطلاق نفي الرؤية كما ذكر القاضي ليس هو مقتضى ما ذكره أحمد وغيره من العلماء وهذا الذي قالـ ـه الإمام أحمد من إثبات رؤية القلب هو الذي ثبت عن الصحابة كأبي ذر وابن عباس وقد روي ذلك بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً كما رواه أبوالقاسم الطبراني في كتاب السنة حدثنا الحسين بن إسحاق

ص: 177

التستري حدثنا الحماني حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك عز وجل قال رأيته بفؤادي ولم أره بعيني وهذا وإن كان مرسلاً فهو معضود لما ثبت عن الصحابة من الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن رؤيته ربه كأبي ذر ومن الذين نقلوا عنه أنه قال رأيت ربي كابن عباس

ص: 178

وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفصيل وقد صرح أبوذر بمثل هذا فقال رآه بقلبه ولم يره بعينه بهذا يمكن الجمع بين قول ابن عباس وعائشة كما سنذكره إن شاء الله تعالى وقد قال أبوذر رآه بقلبه ولم يره بعينه قال الخلال أخبرنا أبوبكر المروذي قال قلت لأبي عبد الله إنهم يقولون إن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قول عائشة قال بقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي وقول النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 179

أكبر من قولها وقال قلت لأبي عبد الله إن رجلاً قال أنا أقول إن الله يُرى في الآخرة ولا أقول إن محمدًا رأى ربه في الدنيا وقد أنكر عليه قوم واعتزلوا أن يصلوا خلفه وهو غمام فغضب وقال أهل أن يجفى ما اعتراضه في هذا الموضع يسلم الخبر كما جاء قال الخلال أخبرنا أبوبكر المروذي قال قرأت على أبي عبد الله إبراهيم بن الحكم حدثني أبي عن عكرمة قال سألت ابن عباس عل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم رآه دون ستر من لؤلؤ قال المروذي قرأته عليه بطوله فصححه وقد روى أبوبكر بن أبي داود في كتاب السنة من

ص: 180

جملة كتاب السنن هذا الخبر عن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال كيف رآه قال في صورة فقلت أنا لابن عباس أليس هو يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)[الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وقد روى أبوبكر بن خزيمة الرؤية عن ابن عباس من هذا الوجه فقال حدثنا محمد بن يحيى حدثنا يزيد بن أبي حكيم العدني حدثنا الحكم بن أبان سمعت عكرمة يقول سمعت ابن عباس وسئل هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه قال نعم قال فقلت لابن عباس أليس الله يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره

ص: 181

إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء قال محمد بن يحيى امتنع عليّ إبراهيم بن الحكم في هذا الحديث فخار الله لي أحلى منه يعني أن يزيد بن أبي حكيم أحلى من إبراهيم بن الحكم أي أنه أوثق منه قال محمد بن يحيى قال لي ابنه يعني ابن إبراهيم بن الحكم تعال حتى نحدثك قلم أذهب فحدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال ثنا موسى بن عبد العزيز القنباري حدثني الحكم يعني ابن أبان قال حدثني عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قلت أنا لابن عباس أليس يقول الرب عز وجل لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ

ص: 182

الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك وكانت كلمته لي ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء فهذا التفسير من ابن عباس يقتضي أنه رآه بالبصيرة فإنما يرى إذا ما لم يَتَجَلَّ بنوره الذي هو نوره هذا مشروح في غير هذا الموضع ولـ ـهذا فقد قال إنه تفسير لحديث أبي ذر وأن المنفي فيه قولان كالمنفي في قول ابن عباس هذا وأنه كما قيل في قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنك ترى السماء ولا تدركها فلذلك قيل وإذا حدقت فيها عشي بصرك وإنما أنكر أحمد على من نفى أحاديث رؤيته في الدنيا مطلقًا لأن من الجهمية طوائف يقولون إن الله لايجوز أن يرى بالأبصار ولا بالقلوب أصلاً وطوائف يقولون إنه لايجوز أن يرى في المنام أيضًا وهؤلاء يجحدون كل ما فيه إثبات أن

ص: 183

محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ره عز وجل سواء كان بفؤاده أو في منامه أو غير ذلك وهؤلاء الجهمية ضلال باتفاق أهل السنة ولهذا كان أحمد ينكر على هؤلاء ردهم ما في ذلك من الأخبار التي تلقاها العلماء بالقبول كما سنذكره إن شاء الله تعالى وإذا كانوا يمنعون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده أو في منامه قهم لرؤية غيره أجحد وأجحد وقد ذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم ذلك عن طوائف من الجهمية حتى إن من المعتزلة من يقول يجوز أن يرى بالقلوب بمعنى العلم ومنهم من ينكر ذلك كما نقل ذلك الأشعري في المقالات فقال أجمعت المعتزلة على أن الله لايرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبوالهذيل وأكثر المعتزلة نرى الله بقلوبنا بمعنى أنَّا نعلمه بقلوبنا وأنكر هشام الفوطي وعماد بن سليمان

ص: 184

ذلك وهؤلاء النفاة يسمون مثبتة الرؤية مجسمة ويجمعون في نقل مقالات المثبتة بين الحق والباطل كما نقل الأشعري عنهم ما نقله من كتب المعتزلة فقال واختلفوا في رؤية الله بالأبصار فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز عليه بعضهم الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول وإذا رأوا إنسانًا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك حكي ذلك عن بعض أصحاب معتمر وكهمس

ص: 185

وحكى عن أصحاب عبد الواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله سبحانه يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقال قائلون إنا نرى الله في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رَقَية بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء الآخرة أربعين سنة وامتنع كثير من القول أنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة فقد حكي هذا القول بإطلاق النفي في الدنيا معارضًا لتلك

ص: 186

الأقوال المشتملة على الباطل مثل كونه يرى بالأبصار في الطرقات وعلى الحق مثل كونه يرى في المنام ولهذا جمع طائفة بين قول عائشة وابن عباس كما ذكره رزين بن معاوية في تفسيره فقال وأما ما روي عن عائشة وابن عباس من الاختلاف في أمر الرؤية فإنما دخل الأمر في ذلك على بعض الروايتين من حيث إطلاقهما اللفظ فظنوا بهما الاختلاف ولم يكونا ليختلفا في مثل هذا الأصل الجليل من أصول الدين وقد روى غير أولئك الرواة عنهما لفظهما مقيدًا فزال الإشكال والمقيد يبين المجمل فروي عن ابن عباس في بعض الروايات رأى ربه بفؤاده وهو تفسير قوله رآه مطلقًا قال وقد روي عن عائشة أنها قالت يا أهل العراق إنكم تقولون أقوالاً يخالفها كتاب الله عز وجل وتزعمون أن محمدًا

ص: 187

رأى ربه ببصره وقد قال لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وإنما رآه بفؤاده وذلك قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11] وإنما رأى ببصره الحجاب واستدلت على ذلك بقوله تعالى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)[النجم 17-18] قال فاتفق عنهما الروايتان قول ابن عباس وقول عائشة وثبت من قوليهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به رأى ربه بفؤاده وقال وهذا مما لانكير فيه ولا شبهة قلت وأما الأخبار المطلقة عن ابن عباس وأنس وغيرهما من الصحابة والتابعين فكثيرة أيضًا كما رواه ابن خزيمة حدثنا عبد الوهاب بن الحكم الوراق الشيخ الصالح حدثنا هاشم بن القاسم عن قيس بن

ص: 188

الربيع عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام ومحمدًا بالرؤية حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عاصم عن الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم

ص: 189

قال حدثنا أبوبحر البكراوي عن شعبة عن قتادة عن أنس ابن مالك قال رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه حدثني عمي إسماعيل بن خزيمة حدثنا عبد الرزاق أنبأنا المعتمر بن سليمان عن

ص: 190

المبارك بن فضالة قال كان الحسن يحلف بالله لقد رأى محمد ربه وقال أبوبكر الخلال أنا محمد بن علي الوراق قال ثنا إبراهيم بن هانئ ثنا احمد بن عيسى وقال له أحمد بن حنبل حدثهم به في منزل عمه ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي

ص: 191

هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة بن عامر عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في صورة شاب موفَّر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب قال

ص: 192

الخلال أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد قال حدثنا عبد الله بن وهب فذكره بإسناده عن أم الطفيل أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا رجلاه من خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب ورواه أبوبكر عبد العزيز حدثنا محمد بن سليمان قال حدثنا

ص: 193

أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب فذكره بإسناده عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي في المنام في خضر من الفردوس إلى أنصاف ساقيه في رجليه نعلان من ذهب وهذا الحديث الذي أمر أحمد بتحديثه قد صرح فيه بأنه رأى ذلك في المنام وهذه الألفاظ نظير الألفاظ التي في حديث ابن عباس قال الخلال أبوبكر المروذي قال قرئ على أبي عبد الله شاذان حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن محمدًا رأى ربه فذكر الحديث قلت

ص: 194

إنهم يطعنون في شاذان يقولون ما رواه غير شاذان قال بلى قد كتبته عن عفان عن رجل عن حماد عن سلمة عن قتادة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي وقال المروذي في موضع آخر قلت لأبي عبد الله فشاذان كيف هو قال ثقة وجعل يثبته وقال في هذا يشنع به علينا قلت أفليس العلماء تلقته بالقبول قال بلى قلت إنهم يقولون إن قتادة لم يسمع من عكرمة قال هذا لايدري الذي قال وغضب وأخرج إليَّ كتابه فيه أحاديث بما سمع قتادة من عكرمة فإذا ستة أحاديث سمعت عكرمة حدثنا بهذا المروذي عن أبي عبد الله قال أبو عبد الله قد ذهب من يحسن هذا وعجب من قول من قال لم يسمع وقال سبحان الله هو قدم البصرة فاجتمع عليه الخلق وقال يزيد بن حازم رواه حماد بن

ص: 195

زيد أن عكرمة سأل عن شيء من التفسير فأجابه قتادة أبنا المروذي حدثني عبد الصمد بن يحيى الدهقان سمعت شاذان يقول أرسلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل أستأذنه في أن أحدث بحديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال رأيت ربي قال حدث به فقد حدث به العلماء قال الخلال أبنا الحسن بن ناصح قال حدثنا الأسود بن عامر شاذان ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه جعدًا قططا أمرد في حلة حمراء والصواب حلة خضراء

ص: 196

ورواه أبو الحافظ أبوالحسن الدارقطني فقال حدثنا عبد الله بن جعفر بن خشيش حدثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا أسود ابن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ربه عز وجل شابًّا أمرد جعدًا قططا في حلة خضراء ورواه القطيعي والطبراني قالا حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله

ص: 197

صلى اله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء وأما الحديث الذي فيه اختصام الملأ الأعلى فيما رواه الخلال وابن خزيمة وغيرهما من وجوه مشهورة عن الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي عز وجل في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت أنت أعلم يارب قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت

ص: 198

لا أدري يارب قال فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماء والأرض قال وقرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)[الأنعام 75] قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت في الكفارات يارب قال قلت وما هن قلت المشي إلى الجماعات وإسباغ الوضوء على المكاره قال فقال لي من يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكن من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات طيب الكلام وأن تقوم بالليل والناس نيام وقال قل اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب عليَّ وتغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني إليك غير مفتون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق

ص: 199

وقال أبوبكر بن خزيمة روى الوليد حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا خالد بن اللجلاج حدثني عبد الرحمن بن عائش الحضرمي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت أي ربي مرتين فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات والأرض ثم تلا وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)[الأنعام 75] قال فيم يختصم الملأ الأعلى يامحمد قال قلت في الكفارات يارب قال وما هن قلت المشي إلى

ص: 201

الجماعات والجلوس في المساجد وانتظار الصلوات وإسباغ الوضوء على المكاره فقال من فعل ذلك يعش بخير ويمت بخير ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه ومن الدرجات إطعام الطعام وطيب الكلام وأن تقوم بالليل والناس نيام وقال اللهم إني أسألك الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب علي وتغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن فوالذي نفسي بيده إنهن لحق قال ابن خزيمة حدثنا أبو قدامة وعبد الله ابن محمد الزهري ومحمد بن ميمون المكي قالوا حدثنا الوليد بن مسلم قال الإمام أبو بكر بن خزيمة قوله في هذا الخبر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمٌ لأن عبد الرحمن بن

ص: 202

عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة وإنما رواه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحسبه أيضًا سمعه من الصحابي لأن يحيى بن أبي كثير رواه عن زيد بن سلام عن عبد الرحمن الحضرمي عن مالك بن يخامر عن معاذ وقال قال يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 203

كذلك ثنا أبو موسى محمد بن المثني حدثني أبو عامر عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير وهو ابن محمد عن يزيد قال أبو موسى وهو يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث بطوله قال ابن خزيمة وجاء قتادة بلون آخر فروى معاذ بن هاشم حدثني أبي عن

ص: 204

قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حدثناه بندار وأبو موسى قالا حدثنا معاذ حدثني أبي عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت يا رب لا أدري قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردهما بين ثديي فعلمت ما بين المشرق والمغرب فقال يا محمد قلت لبيك رب وسعديك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت يارب في الكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء في المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فمن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه هذا حديث أبي موسى وقال بندار قال أتاني ربي في أحسن صورة وقال قلت في الدرجات والكفارات وقال انتظار الصلاة بعد

ص: 205

الصلاة لم يقل الصلوات قال ورواه معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس رضي الله عنهما ورواه من طريق معمر ثم قال أبو بكر رواية يزيد وعبد الرحمن ابن يزيد بن جابر أسبه بالصواب حين قالا عن عبد الرحمن بن عائش من رواية من قال عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه قد روى عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي وهو ابن عائش إن شاء الله تعالى حدثنا مالك بن يخامر السكسكي أن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما صلى دعا بصوته على مصافكم

ص: 206

كما أنتم ثم انفتل إلينا فقال إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يامحمد فقلت لبيك يارب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال يامحمد فقلت لبيك قال يامحمد قلت لبيك قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات قال وما هن قلت مشي على الأقدام إلى الجماعات وجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قال قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة بالليل والناس نيام قال سل فقلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وان تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب مَن

ص: 207

أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها حق فتعلموها وادرسوها حدثنا أبوموسى قال حدثنا معاذ بن هانئ حدثنا جهضم بن عبد الله القيسى قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي قال أبوموسى وهو ابن عائش الحديث على ما أمليته قلت هذه الطريق أتم الطرق إسنادًا ومتنًا وفيها بيان أصل الحديث فإن غيره رواه عن ابن عائش عن

ص: 208

رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حق فإن الرجل معاذ لكن لم يذكروا الواسطة بينهما وهو مالك بن يخامر وهو من أكابر أصحاب معاذ والأخصاء به ورواه الآخر عن ابن عائش مرسلاً لكن غلطه في ذكر لفظ السماع وهذه رواية أهل الشام بهذا الحديث وهم به أعرف لأن نخرجه من عندهم وأخذه أبوقلابة وكان قد قدم الشام من هذا الشيخ خالد بن اللجلاج لكن وقع تصحيف في اسم ابن عائش بابن عباس فحدَّث به البصريين أسنده عنه تارة وأرساه أخرى ولم يتجاوز به ذلك لأن خالد بن اللجلاج لم يكن يستوفي إسناده بل تارة يذكره عن ابن عياش عن النبي صلى الله عليه وسلم وتارة عنه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن زيد بن سلاّم لما رواه عن ابن عائش أسنده واستوفاه لأنه كان مكتوبًا عنده فهذه الروايات يصدق بعضه بعضًا إذ قد رواه عن كل

ص: 209

شخص أكثر من واحد لكن بمجموع الطرق انكشف ما وقع في بعضها من غلط في بعض طريقه قال أبوبكر بن خزيمة وروى معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو عندي سليم بن عامر عن أبي يزيد عن أبي سلام الحبشي أنه سمع ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

ص: 210

النبي صلى الله عليه وسلم أخّر صلاة الصبح حتى أسفر فقال إنما تأخرت عنكم أن ربي قال يامحمد هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري يارب فرددها مرتين أو ثلاثًا ثم حسست بالكف بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي ثم تجلى لي كل شيء وعرفت قال قلت نعم يارب يختصمون في الكفارات والدرجات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات وإسباغ الوضوء في الكريهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والدرجات إطعام الطعام وبذل السلام والقيام بالليل والناس نيام ثم قال يا محمد اشفع تشفع وسل تعط قال فقلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني وأنا غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحبًّا يبلغني حبك حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال ثنا

ص: 211

عمي قال حدثنا معاوية قال أبوبكر لست أعرف أبا يزيد هذا بعدالة ولا جرح قال وروى شيخ من الكوفيين يقال له سعيد بن سويد القرشي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن عدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل هذه القصة بطولها فيشبَّه بخبر يحيى بن أبي كثير ثنا محمد بن أبي سعيد بن سويد القرشي كوفي

ص: 212

قال حدثني أبي قال أبوبكر بن خزيمة وهذا الشيخ سعيد بن سويد لست أعرفه بعدالة ولا جرح وعبد الرحمن بن إسحاق هذا هو أبوشيبة الكوفي ضعيف الحديث الذي روى عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم أخبارًا منكرة وعبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ بن جبل مات معاذ في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام قال ابن خزيمة فليس يثبت من هذه الأخبار شيء م عند ذكر عبد الرحمن بن عائش بالعلل التي ذكرناها لهذه الأسانيد ولعل من لم يتبحر العلم يحسب أن خبر بن يحيى بن

ص: 213

أبي كثير عن زيد بن سلام ثابت لأنه قيل في الخبر عن زيد أنه حدثه عبد الرحمن الحضرمي ويحيى بن أبي كثير أحد المدلسين لم يخبر أنه سمع هذا من زيد بن سلام قد سمعت الدارمي أحمد بن سعيد يقول حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن حسين المعلم قال لما قدم علينا عبد الله بن بريدة بعث إليَّ مطر

ص: 214

الوراق احمل الصحيفة والدواة وتعال فحملت الصحيفة والدواة فأتيناه فأخرج إلينا كتاب أبي سلام فقلنا سمعتَ هذا من أبي سلام قال لا قلنا فمن رجل سمعه من أبي سلام قال لا فقلنا له تُحدث بأحاديث مثل هذه لم تسمعها من الرجل ولا من رجل سمعها منه فقال أترى رجلاً جاء بصحيفة ودواة كتب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه كذبًا هذا معنى الحكاية قال أبوبكر كتب عني مسلم بن الحجاج هذه الحكاية قلت هذا الاختلاف قد ذكره قبل ذلك الإمام أحمد أيضًا فذكر أبوبكر الأثرم في كتاب العلل قال سألت

ص: 215

أحمد عن حديث فيه عبد الرحمن بن عائش الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة فقال يضطرب في إسناده لأن معمرًا رواه عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه معاذ بن هاشم عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 216

ورواه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن أبي كثير فقال عن ابن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فمن الناس من جعل عن أحمد في تثبيت هذه الأحاديث روايتين كما يذكر التنازع في ثبوتها عن غيره من العلماء قال القاضي أبويعلى في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وظاهر هذا الكلام من أحمد التوقف في طريقه لأجل الاختلاف فيه ولكن ليس هذا مما يوجب تضعيف الحديث على طريقة الفقهاء قال ورأيت في مسائل مُهنَّا بن يحيى

ص: 217

الشامي قال سألته يعني أحمد عن حديث رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربَّه في المنام في صورة شاب موفَّر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب فحول وجهه عني وقال هذا حديث منكر وقال ولايعرف هذا رجل مجهول يعني مروان بن عثمان قال القاضي أبويعلى فظاهر هذا التضعيف من أحمد لحديث أم الطفيل قال رأيت بخط أبي بكر الكبشي قال

ص: 218

عبد العزيز سمعت الخلال يقول إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكره قال ورأيت بخط ابن حبيب جوابات مسائل لأبي بكر عبد العزيز قال حديث أم الطفيل فيه وهاءٌ ونحن قائلون به قال القاضي وظاهر رواية إبراهيم بن هانئ يدل على صحته لأن أحمد قال لأحمد بن عيسى في منزل عمه حدِّثهم به ولا يجوز أن يأمره أن يحدثهم بحديث يعتقد ضعفه لاسيما فيما يتعلق بالصفات قال وقد صححه أبوزرعة الدمشقي فيما

ص: 219

سمعه من أبي محمد الخلال وأبي طالب العشاري وأبي بكر بن بشر عن علي بن عمر الحافظ وهو الدارقطني فيما خرجه في آخر كتاب الرؤية قال حدثنا محمد بن إسماعيل الفارسي حدثنا أبوزرعة الدمشقي حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث بن سعيد ابن أبي هلال أن مروان بن عثمان أخبره عن عمارة بن عامر

ص: 220

عن أم الطفيل امرأة أبي بن كعب أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه عز وجل في النوم في صورة شاب ذي وفرة قدماه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب قال أبوزرعة كل هؤلاء الرجال معروفون لهم أنساب قوية بالمدينة فأما مروان فهو مروان بن عثمان ابن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري وأما عمارة فهو ابن عامر بن عمرو بن حزم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرو بن الحارث وسعيد ابن أبي هلال فلا يُشك فيهما وحسبك بعبد الله بن وهب محدثًّا في دينه وفضله قال القاضي فظاهر الكلام من أبي زرعة إثباتًا لرجال حديث أم الطفيل وتعريفًا لهم وبيانًا عن عدالتهم قال وهو ظاهر ما عليه أصحابنا لأن أبا بكر الخلال ذكر حديث أم الطفيل في سننه ولم يتعرض للطعن عليه وأخرج إليَّ أبوإسحاق البرمكي جزءًا فيه حكايات عن

ص: 221

أبي الحسن بن بشار رواية ابنه أبي حفص عن أبيه أحمد بن إبراهيم قال سألت الشيخ يعني أبا الحسن بن بشار عن حديث أم الطفيل وحديث لبن عباس في الرؤية فقال صحيح فعارض رجل وقال هذه الأحاديث لاتذكر في مثل هذا الوقت فقال له الشيخ فَيَدْرُسُ الإسلام فسكت فقد حكم بصحة الحديث قال وقد يجوز أنه لم يقع لأحمد معرفة مروان بن عثمان في حال ما سأله مهنَّا ثم وقع

ص: 222

له معرفة نسبه فيما بعد قال وكتب إليَّ أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده الأصبهاني بجزء فيه حديث لبن عباس في الرؤية من طرق وكلام أصحاب الحديث عليه فقال أخبرنا الحسين بن على بن سلمة الهمداني ومحمد بن على بن معدي وغيرهم قالوا حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك وحدثنا احمد بن محمد بن عبد الله ابن إسحاق واللفظ له قال حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن الإمام أحمد حدثني أبي

ص: 223

قال حدثنا الأسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء قال وأبلغت أن الطبراني قال حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في الرؤية صحيح وقال من زعم أني رجعت عن هذا الحديث بعدما حدثت به فقد كذب وقال هذا حديث رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من التابعين عن ابن عباس وجماعة من تابعي التابعين عن عكرمة وجماعة من الثقات عن حماد بن سلمة قال وقال أبي رحمه الله روى هذا الحديث جماعة من الأئمة الثقات عن حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس

ص: 224

عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أسماءهم بطولها وأخبرنا محمد بن عبيد الله الأنصاري سمعت أبا الحسن عبيد الله بن محمد بن معدان يقول سمعت سليمان بن أحمد يقول سمعت ابن صدقة الحافظ يقول من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق وأخبرنا محمد بن سليمان قال سمعت بندار بن أبي إسحاق يقول سمعت علي بن محمد بن أبان يقول سمعت البراذعي يقول سمعت أبا زرعة الرازي يقول

ص: 225

من أنكر حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عيه وسلم رأيت ربي عز وجل فهو معتزلي وسمعت علي بن أحمد بن مهران المديني قال حضرت أبا عبد الله بن مهدي وحضر عندنا جماعة فتذاكروا حديث عكرمة وأنكره بعضهم وكنت قد حفظته فحدثت به بطوله فقام إلى أبو عبد الله وقبل رأسي ودعا لي قال وحدثنا محمد بن محمد بن الحسن قال حدثنا أحمد بن محمد اللخمي سمت محمد بن علي ابن جعفر البغدادي قال سمعت أحمد بن محمد بن

ص: 226

هانئ الأثرم يقول سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي الحديث فقال أحمد بن حنبل هذا الحديث رواه الكبر عن الكبر عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن شك في شيء أو في شيء منه فهو جهمي لاتقبل شهادته ولا يسلم عليه ولا يعاد في مرضه قلت في هذه الرواية عن أحمد نظر وأنبأنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق حدثنا محمد ابن يعقوب حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال رأيت أبي يصحح هذه الأحاديث ويذهب إليها وجمعها وحدثناها وروى بإسناده عن

ص: 227

عبد الوهاب الوراق قال سمعت أسود بن سالم يقول في هذه الأحاديث التي جاءت في الرؤية قال نحلف عليها بالطلاق والعتاق أنها حق قلت قد جعل أحمد حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه في صورة شاب أمرد له وفرة هو الحديث المشهور عن ابن عائش الذي أرسله وأسنده الذي فيه وضع الكف بين كتفيه عن معاذ وفيه التصريح بأنه كان في المنام بالمدينة فإن معاذًا لم يصل خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة وحديث أم الطفيل المتقدم أيضًا يصرح بأنه كان في المنام وحديث ثوبان مثل حديث معاذ فيه أنه تأخر عن صلاة الصبح وثوبان لم يصل خلفه إلا بالمدينة مع أن السياقين سواء وهذه الأحاديث كلها ترجع إلى هذه الأحاديث الأربعة حديث أم الطفيل وحديث ابن عائش عن معاذ وحديث

ص: 228

ثوبان وحديث ابن عباس وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله أن أصلها حديث واحد وإن كان لم يذكر حديث ثوبان إما أنه لم يبلغه أو بلغه وذلك حديث قائم بنفسه وكلها فيها ما يُبَيِّن أن ذلك كان في المنام وأنه كان بالمدينة إلا حديث عكرمة عن ابن عباس وقد جعل أحمد أصلهما واحدًا وكذلك قال العلماء قال القاضي أبو يعلى بعد أن ذكر حديث ابن عباس بطرقه وألفاظه مفتتحًا له بحديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة وذكر حديث الحكم بن أبان عن عكرمة وذكر حديث أم الطفيل ثم قال واعلم أنها رؤيا منام لأن أم الطفيل قد صرحت بذلك في خبرها وحديث ابن عباس أكثر ألفاظه مطلقة قال وقد نقل في بعضها صريح بذكر المنام فيما حدثنا أبو القاسم عبد العزيز قال أخبرني أبو بكر أحمد بن جعفر بن مالك في الإجازة

ص: 229

قال وقرأته على أبي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي الليلة في أحسن صورة يعني في المنام فقال لي يامحمد أتدري فيم يختصم الملأ العلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وقد قال القاضي في آخر كتابه في فصل جمل الصفات التي ذكرها وما روي في حديث أم الطفيل وابن عباس من الصفات التي رآه عليها في ليلة الإسراء فقوله هنا ليلة الإسراء تناقض منه فإنه قد نص أن الإسراء كان يقظة وأن الرؤية التي كانت في ليلة الإسراء غير هذه الرؤية التي في المنام وأيضًا فهذا الحديث الذي احتج به هو في الحقيقة

ص: 230

حديث معاذ كما تقدم من كلام ابن خزيمة وإنما وهم فيه أبو قلابة فقال ابن عباس وإنما هو ابن عائش وليس هذا هو حديث قتادة عن عكرمة فإن ذلك ليس فيه هذا لكن أحمد قد جعل الجميع حديثًا واحدًا في الأصل ولا ريب أن قتادة كان عنده هذا عن عكرمة يطابق لفظهما لفظ حديث أم الطفيل وإن كان فيه زيادات وهو حديث الحكم بن أبان عن عكرمة رواه ابن خزيمة محتجًّا به فقال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق

ص: 231

ورواه أبو بكر الخلال في السنة حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن ابن يحيى بن كثير العنبري حدثني أبي حدثنا هارون بن محمد عن محمد بن إسحاق ورواه ابن بطة في الإبانة

ص: 232

قال حدثنا أحمد بن محمد الباغندي حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد الله بن أبي

ص: 233

سلمة أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعث إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما فسأله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أن نعم فرد عليه عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه فأرسل إليه أنه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب يحمله أربعة من الملائكة ملك في صورة رجل وملك في صورة ثور وملك في صورة نسر وملك في صورة أسد زاد ابن بطة بالإسناد عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة

ص: 234

عن عكرمة عن ابن عباس قال أُنشِد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أمية ابن أبي الصلت رجل وثور تحت رجل يمينه والنسر للأخرى وليث مرصد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق وهذا أيضًا رواه ابن

ص: 235

خزيمة محتجا به من غير وجه في مسألة العرش وحملته وروى الدارقطني هذه الألفاظ من طرق فقوله في روضة خضراء دونه فراش من ذهب مثل قوله في حديث أم إلى الطفيل قدماه في الخضر على وجهه فراش من ذهب وقوله في لفظ حديث أم الطفيل في صورة شاب ذي وفرة وهذا يناسب قوله في حديث ابن عباس شابا جعدا قططا لكن في هذا زيادة الأمرد والحلة الخضراء وفي حديث أم الطفيل زيادة في رجليه نعلان من ذهب وفي حديث ابن عباس الآخر على كرسي من ذهب وأما ذكر الحملة الأربعة فهؤلاء في أحاديث أخر في اليقظة فهذا مما يحتج به لما ذكره أحمد من أن حديث عكرمة عن ابن عباس أصله أصل حديث أم الطفيل والله أعلم بحقيقة ذلك فإن أحاديث ابن عباس المشهورة عنه في أنه رآه بفؤاده مرتين إنما كان ذلك بمكة فإنه ذكره في تفسير صورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء وما روته أم الطفيل ومعاذ إنما هو

ص: 236

بالمدينة فحديث عكرمة عن ابن عباس يشبه ألفاظ حديث أم الطفيل يؤيد ذلك أن الأسانيد المتواترة عن ابن عباس إنما فيها إخبار أنه رآه بفؤاده وأنه قال ذلك في تفسير القرآن فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بلفظه عن رؤية ليلة المعراج لم نحتج إلى ذلك ولكان هذا هو الذي يعتمد عليه دون ما تأوله من القرآن ولهذا لم يثبت الإمام أحمد رحمه الله إلا ما ثبت عن ابن عباس مهن رؤيته بفؤاده ومن رواية هذه الأحاديث التي جاءت على الوجه التي جاءت عليها وذلك يدفع قول من أطلق نفي الرؤية ولا يدفع قول من نفى رؤية البصر كما جمع بينهما وقد يقال إن حديث عكرمة عن ابن عباس هو تفسيره للرؤية التي بفؤاده التي كانت بمكة لكن هذه الزيادات التي في حديث عكرمة لا تؤخذ بمجرد تأويل القرآن بل يحتاج إلى توقيف وكذلك الزيادة التي في حديث مسألة ابن عمر لابن عباس

ص: 237

وقد تبين بما ذكرناه أن الحديث الذي فيه أتاني ربي في أحسن صورة ووضع يده بين كتفي إنما كان في المنام بالمدينة ولم يكن ذلك ليلة المعراج كما يظنه كثير من الناس وكنت مرة بمجلس فيه طوائف من أصناف العلماء في مجلس ابتداء تدريس لشيخ الحنفية وجرى ذلك هذا الحديث فظنوا أنه كان ليلة المعراج فقلت هذا لم يكن ليلة المعراج فإن هذا كان بالمدينة كما جاء مصرحًا به والمعراج إنما كان بمكة كما قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] وهذا مما تواترت به الأحاديث واتفق عليه أهل العلم أن المعراج الذي ذكره الله تعالى في القرآن والذي فيه فرض الصلوات الخمس إنما كان بمكة ولم يكن بعد الهجرة ونفس ما في الحديث بين ذلك فإنه ذكر فيه اختصام الملأ الأعلى في المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وهذا إنما شرع في المدينة إذ لم تشرع الجمعة بمكة وهذا مما لم يَرْتَبْ فيه العلماء وإنما وقع ذلك في أحاديث ابن عباس الثابتة عنه كحديث عكرمة ونحوه لأن ابن عباس قد ثبت عنه أنه كان يثبت في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربع بفؤاده في مكة كما ذكر ذلك

ص: 238

في تفسير صورة النجم وهي مكية باتفاق العلماء قال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب النقض على المريسي ومتبعيه قال وروى المعارض عن شاذان عن حماد بن سلمة بن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت على ربي في جنة عدن شابًّا جعداً في ثوبين أخضرين قال وليس هذا من الحديث الذي يجب على العلماء نشره وإذاعته في أيدي الصبيان فإن كان منكرًا عند المعارض فكيف يستنكره مرة ثم يثبته أخرى فيفسره تفسيرًا أنكر من الحديث والله أعلم بهذا الحديث وبعلّته غير أني أستنكره جدًّا لأنه يعارضه حديث أبي ذر أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ويعارضه قول عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وتلت لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ

ص: 239

الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فهذا هو الوجه عندنا فيه والتأويل والله أعلم لا ما ادعيت أيها المعارض أن تفسيره إني دخلت على ربي في جنة عدن كقول الناس أتيناك ربنا شعثًا غبرًا من كل فج عميق لتغفر لنا ذنوبنا هذا تفسير محال لا يشبه ما شبهت لأن في روايتك أنه قال رأيته شابًّا جعدًا في ثوبين أخضرين ويقول أولئك أتيناك ربنا شعثًا غبرًا أي قصدنا إليك نرجو عفوك ومغفرتك ولم يقولوا أتيناك فرأيناك شابًّا جعدًا في ثوبين أخضرين لتغفر لنا هؤلاء قصدوا الثواب والمغفرة ولم يصفوا الذي قصدوا إليه بما في حديثك من الحلية والكسوة والمعاينة فلفظ هذا الحديث بخلاف ما فسرت وتفسيرك أنكر من نفس الحديث فافهم واقصر عن شبه هذا الحديث فإن الخطأ كفر وأرى الصواب فيه مصروفًا عنك ومن الأحاديث أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم قالها العلماء ورووها ولم يفسروها ومن فسرها برأيه اتهموه فقد كتب إلى

ص: 240

علي بن خشرم أن وكيعًا سئل عن حديث عبد الله بن عمرو الجنة مطوية معلقة بقرون الشمس فقال وكيع

ص: 241

هذا حديث مشهور وقد روى فيه يروي فإن سألوا عن تفسيره لم يفسر لهم ويتهم من ينكره وينازعه فيه والجهمية تنكره فلو اقتديت أيها المعارض في مثل هذه الأحاديث الصعبة المشكلة المعاني بوكيع كان أسلم لك من أن تنكره مرة ثم تثبته أخرى ثم تفسره تفسيرًا لاينقاس في أثر ولا قياس عن حزب المريسي والثلجي ونظرائهم ثم لا حاجة لمن بين ظهريك من الناس إلى مثل هذه الأحاديث ثم فسرته تفسيرًا أوحش من الأول فقلت يحتمل أن يكون هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دخلت على ربي في جنة عدن شابًّا جعدًا وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شابًّا في الجنة من أولياء الله وافاه رسوله في جنة عدن فقال دخلت على ربي فقد ادعى المعارض على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرًا عظيمًا أنه دخل الجنة فرأى شابًّا من أولياء الله

ص: 242

فقال رأيت ربي ثم قال بعدما فسر هذه التفاسير المقلوبة قال ويحتمل أن يكون هذا من الأحاديث التي وضعتها الزنادقة فدسوها في كتب المحدثين فيقال لهذا المعارض الأحمق الذي تتلعب به الشياطين وأي زنديق استمكن من كتب المحدثين مثل حماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان وشعبة ومالك ووكيع ونظرائهم فيدسوا مناكير الحديث في كتبهم وقد كان أكثر هؤلاء أصحاب حفظ ومن كان منهم من أصحاب الكتب كانوا لا يكادون يُطلعون على كتبهم أهل الثقة عندهم فكيف

ص: 243

الزنادقة وأي زنديق كان يجترئ أن يتراءى لأمثالهم ويزاحمهم في مجالسهم فكيف يفتعلون عليهم الأحاديث ويدسونها في كتبهم أرأيتك أيها الجاهل إن كان الحديث من وضع الزنادقة فلم تلتمس له الوجوه والمخارج من التأويل والتفسير كأنك تصوبه وتثبته أفلا قلت أولاً إن هذا من وضع الزنادقة فتستريح وتريح من العناء والاشتغال بتفسيره ولاتدعي في تفسيره على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فرأى شابًّا من أولياء الله تعالى فقال هذا ربي غير أنك خلطت على نفسك فوقعت في تشويش وتخليط لاتجد لنفسك مفزعا إلا بهذه التخاليط ولن تجدي عنك شيئًا عند أهل العلم والمعرفة وكلمات لأكثرت من هذا وشبهه وازددت به فضيحة لأن أحسن حجج الباطل تركه والرجوع عنه قال وروى المعارض أيضًا عن عبد الله بن صالح عن

ص: 244

معاوية بن صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتاني ربي في أحسن صورة فقال يامحمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فتجلى لي ما بين السماء والأرض فادعى المعارض أن هذا يحتمل أن يأتي ربي من خلقه بأحسن صورة فأتتني تلك الصورة وهي غير الله والله فيها مدبر فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري يعني تلك الصورة التي هي من خلقه والأنامل لتلك الصورة منسوبة إلى الله على معنى أن الخلق كله لله

ص: 245

فيقال لهذا المعارض كم تدحض في بولك وترتطم فيما ليس لك به علم أرأيتك إذا ادعيت أن هذه كانت صورة من خلق الله سوى الله أتته فقال هل تدري يامحمد فيما يختصم الملأ الأعلى أفتتاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أجاب صورة غير الله فقال لها يارب لا أدري فدعاها ربًّا دون الله أم أتته صورة مخلوقة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أتأني ربي إن هذا لكفر عظيم ادعيته على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت صورة تضع أناملها وكفها في كتف النبي صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض غير الله ففي دعواك ادعيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقر بالربوبية لصورة مخلوقة غير الله لأن في روايتك أن الصورة قالت له هل تدري يامحمد فقال لها لا يارب وهل يمكن أن تكون صورة مخلوقة قالت له هل تدري يامحمد فقال لها لا يارب وهل ممكن أن تكون صورة مخلوقة تضع أناملها في كتف

ص: 246

نبي مثل محمد صلى الله عليه وسلم فيتجلى له بذلك ما بين السماء والأرض أمور لم يكن يعرفها قبل أن تضع تلك الصورة كفها بين كتفيه ويحك لا يمكن هذا جبريل ولا ميكائيل ولا إسرافيل ولا يمكن هذا غير الله فكم تجلب على نفسك من الجهل والخطأ وتتقلد من تفاسير الأحاديث الصعبة ما لم يرزقك الله معرفتها ولا تأمن من أن يجرك ذلك إلى الكفر كالذي تأولت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صورة مخلوقة كلمته فأجابها محمد صلى الله عليه وسلم يارب أم لله صورة لم يعرفها فقال أتاني ربي لما أن الله في تلك الصورة مدبر ففي دعواك يجوز لك كلما رأيت كلبًا أو حمارًا أو خنزيرًا قلت هذا ربي لما أن الله مدبر في صورهم في دعواك وجاز لفرعون أن يقول فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)[النازعات 24] لما أن الله مدبر في صورته بزعمك وهذا أبطل باطل لا ينجع إلا في أجهل جاهل

ص: 247

ويلك إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي ذر إنه لم ير ربه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تروا ربكم حتى تموتوا وقالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية وأجمع المسلمون على ذلك مع قول الله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] ويعنون أبصار أهل الدنيا وإنما هذه الرؤيا كانت في المنام وفي المنام يمكن رؤية الله تعالى على كل حال وفي كل صورة وكذلك روى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صليت ماشاء الله من الليل ثم وضعت جنبي فأتاني ربي في أحسن صورة فحين وجد هذا لمعاذ كذلك صرفت الروايات التي فيها إلى معاذ فهذا تأويل هذا الحديث عند أهل العلم لا ما ذهبت إليه

ص: 248

من الجنون والخرافات فزعمت أن الله بعث إلى النبي صورة في اليقظة كلمته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم يارب غير أني أظنك لو دريت أنه يخرجك تأويلك إلى مثل هذه الضلالات لأمسكت عن كثير منها غير أنك تكلمت على حد الحوار أمناً من الجواب غارًا أن ينتقد عليك فعثمان بن سعيد قد ذكر ما ذكر عن العلماء أن هذا كان في المنام بالمدينة لم يكن يقظة مع تثبيته لهذه الأحاديث ولم يجعل ذلك الحديث في مكة لأنه كان بالمدينة في المنام إذ قد ثبت عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بفؤاده مرتين ويذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] وهذا إنما كان بمكة فحديث عكرمة ومسألة ابن عمر إما أن يكون من جنس حديث معاذ أم الطفيل كما تدل

ص: 249

عليه رواية الأثرم عن أحمد وإما أن يكون من غير هذا الجنس مثل الرؤية التي أخبر ابن عباس أنها كانت بمكة وهذا قول طوائف من العلماء أيضًا وهذا لا يقوله من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه وإنما يقوله من يقول إنه إنما رآه بفؤاده والروايات الثابتة عن ابن عباس في رؤية محمد ربه إما مقيدة بالفؤاد وبالقلب كما روى ذلك مسلم في صحيحه وذهب إليه أحمد في رواية الأثرم وإما مطلقة ولم أجد في أحاديث عن ابن عباس أنه كان يقول رآه بعينه إلا من طريق شاذة من رواية ضعيف لا يحتج بها منفردًا يناقضها من ذلك الوجه ما هو أثبت منها فكيف إذا خالف الروايات المشهورة كما رواه الخلال أنبأنا محمد بن عبد الله بن سليمان

ص: 250

الحضرمي حدثنا جمهور بن منصور حدثنا إسماعيل بن مجالد حدثنا مجالد عن الشعبي أن عبد الله بن عباس كان يقول إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده قوله مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)[النجم 17] مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11] فسمع كعب الحبر قول ابن عباس فقال أشهد أن في التوراة إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فرآه محمد مرتين ولم يكلمه وكلمه موسى مرتين ولم يره وكان ابن عباس يقول التي في إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)[التكوير 1] إنما عنى بها جبريل إن محمدًا رآه كما رآه في صورته عند الله قد سد الأفق وبه عن

ص: 251

مجالد عن الشعبي عن علي أنه كان يقول كما قال ابن عباس فهذه الروايات لو كانت محفوظة عن مجالد لم تكن وحدها حجة فكيف وليست محفوظة عنه وقد خولف قال ابن خزيمة حدثني عمي قال حدثنا عبد الرزاق أبنا ابن عيينة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث قال اجتمع ابن عباس وكعب فقال ابن عباس إنا بنوهاشم نزعم أو نقول إن محمدًا رأى ربه مرتين قال فكبر كعب حتى جاوبته الجبال فقال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى قال مجالد قال الشعبي فأخبرني مسروق أنه قال لعائشة أي أمتاه هل رأى محمد ربه قط قالت إنك لتقول قولاً إنه ليقف منه

ص: 252

شعري قال قلت رويدًا قال فقرأت عليها وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) إلى قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)[النجم 1-9] فقالت أين يذهب بك إنما رأى جبريل في صورته من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب ومن حدثك أنه يعلم الخمس من الغيب فقد كذب إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلى آخر السورة [لقمان 34] قال عبد الرزاق فذكرت هذا الحديث لمعمر فقال ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس قال أبو بكر بن خزيمة لو كنت ممن استحل الاحتجاج بخلاف أصلي واحتججت بمثل مجالد لاحتججت أن بني هاشم قاطبة قد خالفوا عائشة رضي الله عنها في هذه المسألة وأنهم جميعًا كانوا يثبتون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه مرتين فاتفاق بني هاشم عند من يجيز الاحتجاج بمثل مجالد أولى من انفراد عائشة بقول لم يتابعها عليه أحد من أصحاب

ص: 253

محمد يُعلم ولا امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا المبايعات قلت هذه الرواية الثابتة عن مجالد من رواية ابن عيينة عنه ليس فيها إلا أنه رآه مرتين كرواية غير مجالد وقول كعب في هذه الرواية إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد صلى الله عليه وسلم بقلبه وكلمه موسى وذكر ذلك تصديقًا لقول ابن عباس دليل على أن هذه هي رؤية الفؤاد كما جاء مصرحًا به يبين ذلك أن الذي حضر كلام ابن عباس وكلام كعب ورواه لمجالد وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل أحد رجال بني هاشم وأعيانهم كان يقول ذلك كما رواه الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل

ص: 254

قال حدثنا حماد عن سالم أبي عبد الله عن عبد الله بن الحارث بن نوفل في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11] قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم تره عيناه وهذه الرواية من رواية ابن عيينة الإمام عن مجالد وقد بين فيها أيضًا أن الشعبي سمع ذلك من عبد الله بن الحارث فتبين أن الرواية الأولى مع ضعف رواتها مرسلة وأن هذه الرواية عن كعب كما رواه ابن خزيمة حدثنا هارون ين إسحاق حدثنا

ص: 255

عبده عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن كعب قال إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فرآه محمد مرتين وكلمه موسى مرتين وكذلك ما رواه أبو حفص بن شاهين وذكره القاضي أبو يعلى عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بعينيه مرتين فهذا لم يذكر إسناده ولم يذكره

ص: 256

المعتمدون كابن خزيمة والخلال ونحوهما ممن جمع الآثار في هذا الباب بل قد روى الخلال حديثين من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده دون عينيه وذلك يعارض هذا يبين ذلك أن الروايات المحفوظة عن عكرمة والشعبي إما مقيدة بالفؤاد وإما مطلقة كما روى ابن خزيمة قال حدثنا الحسن ابن محمد الزعفراني قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن عاصم عن الشعبي عن

ص: 257

عكرمة جميعًا عن ابن عباس قال رأى محمد ربه ورواه بعضهم عن الشعبي وعكرمة جميعًا عن ابن عباس قال ابن خزيمة حدثنا عمي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11] قال رآه بقلبه وقال الخلال حدثنا إبراهيم

ص: 258

التيمي حدثنا آدم قال حدثنا المبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) رأى محمد ربه بفؤاده وبه حدثنا المبارك عن الحسن مثله فإن قيل فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا

ص: 259

الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس والشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم وفي رواية عنه ليس برؤيا منام قيل ليس في هذا الخبر أنه رأى بعينه إلا ما أراه الله إياه والقرآن قد صرح بأنه أراه من آياته ما أراه لقوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء 1] وقال في النجم لَقَدْ

ص: 260

رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)[النجم 18] يدل على ذلك أن الله أخبر أنه ما جعل هذه الرؤيا إلا فتنة للناس وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بها كان ذلك محنة لهم منهم من صدقه ومنهم من كذبه والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخبرهم أنه رأى ربه بعينه تلك الليلة وقد قال الإمام أبو بكر بن خزيمة بعد أن أثبت رؤية محمد ربع بقول ابن عباس وأبي ذر وأنس قال وقد اختلف عن ابن عباس في تأويل قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] فروى بعضهم عنه أنه كان يقول رآه بفؤاده وذكر إسناده ثم قال احتج بعض أصحابنا بهذا الخبر أن ابن عباس وأبا ذر كانا يتأولان هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده لقوله تعالى بعد ذكر ما بينا فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 10-11] وتأول

ص: 261

قوله تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) إلى قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)[النجم 8-10] أن النبي صلى الله عليه وسلم دنا من خالقه قاب قوسين أو أدنى وأن الله أوحى إلى النبي ما أوحى وأن فؤاد النبي لم يكذب ما رآى يَعنون رؤيته خالقه جل وهلا قال أبوبكر وليس هذا التأويل الذي تأولوه لهذه الآية بالبين وفيه نظر لأن الله تعالى إنما أخبر في هذه الآية أنه رأى من آيات ربه الكبرى ولم يُعلم الله في هذه الآية أنه رأى ربه عز وجل وآيات ربنا ليس هو ربنا قال واحتج آخرون من أصحابنا في الرؤية بحديث ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به

ص: 262

قال وليس الخبر أيضًا بالبين إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه يعني حديث قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والتكليم لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم

ص: 263

وقد احتج أبو إسماعيل الأنصاري الهروي شيخ الإسلام في كتاب الأربعين فقال باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج بعينيه رؤية يقظة واحتج بحديث ابن عباس هذا مع أنه رواه بأسانيد أكثرها من كتاب ابن خزيمة ولا حجة فيه على ذلك كما تقدم والقاضي أبو يعلى ذكر ما تقدم نقله عنه أنه قال اختلفت الرواية عن أحمد في رؤية محمد ربه هل رآه بعينه أو بفؤاده أو يقال رآه ولا يُقيد على ثلاث روايات قلت وقد ذكرنا ألفاظ أحمد التي ذكرها وسقناها بتمامها وتبين بذلك أن كلام أحمد ليس بمختلف بل كلام

ص: 264

أحمد نظير كلام ابن عباس رضي الله عنهما تارة يُقيد الرؤية بالقلب وتارة يطلقها ثم قال القاضي والرواية الأولى أصح وأنه رآه في تلك الليلة بعينيه وهذه مسألة وقعت في عصر الصحابة فكان ابن عباس وأنس وغيرهما يثبتون رؤيته في ليلة المعراج وكانت عائشة تنكر رؤيته بعينه في تلك الليلة قال والدلالة على إثبات رؤيته تعالى قوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى 51] فوجه الدلالة أنه تعالى قسَّم تكليمه لخلقه على ثلاثة أوجه أحدها بإنفاذ الرسل وهو كلامع لسائر الأنبياء والمكلفين والثاني من وراء حجاب وهو تكليمه لموسى وهذا الكلام بلا واسطة لأنه لو كان بواسطة دخل تحت القسم الأول الذي ذكرنا وهو إنفاذ الرسل والثالث من غير رسول ولا حجاب وهو كلامه لنبينا في ليلة الإسراء إذ لو كان من وراء حجاب أو كان رسولاً دخل تحت القسمين ولم يكن للتقسيم فائدة فثبت أنه كان كلامه له عن رؤية

ص: 265

قلت هذه الحجة أخذها القاضي أبو يعلى من أبي الحسن الأشعري ونحوه فإنهم احتجوا بها على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذه حجة داحضة فإن هذا خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون في تفسير الآية الكريمة وأيضًا فإن الله أخبر بأنه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ على هذه الوجوه الثلاثة فلو كان المراد بذلك أنه يكلم تارة مع المعاينة وتارة مع الاحتجاب وتارة بالمراسلة لم يكن لهذا الحصر معنى ولم يكن فرق بين الله تعالى وبين غيره في ذلك ولم يكن نفى بهذا الحصر شيئًا فإن المكلم من البشر إمَّا أن يعاينه المخاطب أو لا يعاينه وإذا لم يعاينه فإما أن يخاطبه بنفسه أو رسوله فلو كان المراد ما ذكر لزم هذه المحاذير وأيضًا فإن وقوله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى 51] دليل على أن القسم الأول هو الوحي الذي يحيه إلى قلوب الأنبياء بخلاف التكليم من وراء حجاب فإنه يكون بصوت مسموع كما خاطب موسى عليه السلام فمن سوّى بين تكليم الوحي وتكليمه من وراء حجاب فجعل الجميع

ص: 266

بصوت حتى جعل الأول تقترن به الرؤية فهو بمنزلة من سوّى بينهما حتى جعل الجميع بلا صوت وأيضًا فإن تكليمه وحيًا دون تكليمه لموسى عليه السلام من وراء حجاب كما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فلو كان ذلك معاينة لكان أرفع منه وهذا لم يقله أحد من السلف ومن زعم ذلك من أهل الإثبات فهو نظير من زعم ذلك من الجهمية الاتحادية وغيرهم ممن يزعم أن الله تعالى يخاطبهم وحيًا في قلوبهم أعظم مما خاطب موسى بن عمران من وراء حجاب الحروف والأصوات والشجرة ونحو ذلك وكل هذا باطل وتحريف وعائشة احتجت بهذه الآية على منع رؤية محمد ربه ولم يقل

ص: 267

لها أحد إن الآية تثبت رؤية محمد بل احتاجوا إلى الجواب ثم قال القاضي ويدل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)[النجم 10] أي كلمه بما كلمه بلا واسطة ولا ترجمان مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11] فالظاهر يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الله تعالى بعيني رأسه ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لم يكذب فؤاده ما رآه بعيني رأسه وهذا قد احتج به غير القاضي لكن يقال قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11] لم يذكر المرئي وقد قال بعده لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)[النجم 18] وحديث ابن مسعود وعائشة في الصحيحين يخبرُ فيه برؤية جبريل قال القاضي ويدل عليه ما حدثناه أبو القاسم عبد العزيز

ص: 268

حدثنا على بن عمر بن على أبو الحسن التمار حدثنا أبو بكر عمر بن أحمد بن أبي نعمر الصفّار حدثنا يوسف بن أحمد ابن حرب بن الحكم الأشعري البصري حدثنا روح بن عبادة عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال رأيت ربي عز وجل مشافهة لاشك فيه وفي قوله عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) قال رأيته عند سدرة المنتهى حتى تبين له نور وجهه قلت هذا الحديث كذب موضع على رسول الله

ص: 269

صلى الله عليه وسلم بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث والقاضي لم يعلم أنه موضوع ورواه له أبو القاسم الأزجي فيما خرجه في الصفات وأبو القاسم ثقة لكن الكذب فيه ممن فوقه ولم يحدث بهذا روح بن عبادة ولا أبو الزبير أصلاً وأهل الحديث يعلمون ذلك ولا يصلح أن يكون هذا اللفظ من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن المشافهة إنما تُقال في المخاطبة لا في الرؤية فيقال يخاطبه مشافهة كما قال من قال من السلف كلم موسى تكليمًا أي مشافهة لايقال في الرؤية مشافهة فإن المشافهة في الأصل مفاعلة من الشفة التي هي فينا محل الكلام وأما الرؤية فيقال فيها مواجهة ومعاينة فيشتق لها من الوجه والعين الذي تكون به الرؤية وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود في تفسير هذه الآية غير هذا ففي صحيح مسلم عن مسروق قال كنت متكئًا عند عائشة

ص: 270

رضي الله عنها فقالت ياأبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئًا فجلست فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رآه منهبطًا من السماء عظم خلقه ما بين السماء والأرض الحديث وفي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود في قوله لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)[النجم 18] قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح

ص: 271

ثم قال القاضي وروى أبو بكر الخلال عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال وهي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وهذا الحديث صحيح رواه البخاري وغيره كما تقدم لكنه لا يدل على رؤية الرّب تعالى ولهذا لم يذكره الخلال في أحاديث رؤية محمد ربَّه إنما ذكره قبل ذلك في أحاديث الإسراء فإنَّه قال تفريع ما ردّت الجهمية الضُّلال من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من فضائل ذكر الإسراء والرؤية وغير ذلك ثم قال ذكر الإسراء أخبرنا المرّوذي قال قلت لأبي عبد الله فحكى عن موسى عن عقبة أنه قال إنَّ أحاديث الإسراء منام فقال أبوعبد الله هذا كلام الجهمية وجمع أحاديث

ص: 272

الإسراء وأعطانيها وقال منام الأنبياء وحي وقرأ عليه سفيان قال عمرو سمعت عبيد بن عمير يقول رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني حمدويه الهمداني حدثنا محمد بن أبي عبد الله الهمداني حدثنا أبوبكر بن موسى عن يعقوب بن يختان قال سألت يعني أبا عبد الله عن

ص: 273

المعراج فقال رؤيا الأنبياء وحي قال وأخبرني عليّ بن عيسى أنَّ حنبلاً حدثهم قال سمعت أبا عبد الله وسألته فقال الجنَّة والنَّار قد خلقتا وفي هذا حجة أن رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي العين وليس حلمهم كسائر الأحلام قال الخلال أخبرنا الحسن بن أحمد الكرماني حدثنا أبوبكر قال حدثنا أبوأسامة عن

ص: 274

سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا [يوسف 4] قال كانت الرؤيا فيهم وحيًا حدثنا الحسن بن سلام حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن سماك عن سعيد عن ابن عباس في قوله إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا قال كانت رؤيا وحياً أخبرنا علي بن حرب حدثنا سفيان بن

ص: 275

عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وذِكرُ الخلاّل لهذا مع هذه الأحاديث قد يقال إنما ذكره لقول أحمد رؤيا الأنبياء في الأحلام رأي عين وليس حلمهم كسائر الأحلام وإن قوله رأي عين لاينفي أن يكون في المنام لأنَّ في الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه ولهذا كان لا يتوضأ إذا نام

ص: 276

وكذلك فعل أبوبكر بن أبي عاصم في كتاب السنة له فإنه قال باب ما ذكر في رؤية نبينا ربه تبارك وتعالى في منامه ثم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يقتضي أنها عنده رؤية عين وأنها في المنام ثمَّ روى حديث سفيان عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت رؤيا الأنبياء وحيًا وروى عن مصعب بن سعد عن

ص: 277

معاذ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق قال الخلال حدثنا المرّوذي قال قُرئ على أبي عبد الله عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان في قوله سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء 1] قال أسري به من شِعب أبي طالب ثم روى الخلال من

ص: 278

غير وجه عن سعيد عن قتادة عن أنس قال لمّا أُتيَ النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق استصعب عليه فقال له جبريل ما ركبك آدميّ أكرم على الله تعالى منه فارفضّ عرقًا وأقرّ ثم روى الخلال حديث أبي عمرو وعن أبي سعيد قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة فقلنا حدثنا بليلة أسري بك فقال أُتِيتُ بدابَّةٍ هي أشبه الدوابّ بالبغل غير

ص: 279

أنها مضطربة الأذنين يقال لها البراق وهو الذي يُحمَلُ عليه الأنبياء وهو يضع حافره حيث يبلغ طرفه وحُملتُ عليه من مسجد الحرام متوجهًا إلى المسجد الأقصى قال الخلال وذكر الحديث فهذا جملة ما ذكره الخلال ومقصوده به تثبيت الإسراء وأنَّه حق وأنَّه من صغّر أمره بقوله هو منام وجعله بذلك من جنس منامات الناس فهو جهميٌّ ضالٌّ ثم قال الخلال بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم رأيتُ ربي فذكر أحاديث الرؤية ولم يذكر فيها حديث ابن عباس المتقدم في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ فدل الخلال بذلك على أنَّ حديث ابن عباس هذا لم يقصد به نفس رؤية محمد ربه وإنما هو ما رآه ليلة المعراج مطلقًا فالمطلق يحتمل رؤية محمدٍ ربه لكن فرق بين ما يحتمله اللفظ وبين ما يدلّ عليه

ص: 280

وقول الإمام أحمد هذا قول الجهمية لأنّ أحاديث المعراج تدلُّ على أنَّ الله فوق وغير ذلك مما تنكره الجهمية ويدفعون ذلك بأنَّ أحاديث المعراج منام فقال أحمد منام الأنبياء وحي وذلك يفيد أن ماذكر فيه منها أنه في المنام كحديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس وكذلك لو قدر أن جميعها منام فإن ذلك لا يوجب أن يُشبه برؤيا غير النبي صلى الله عليه وسلم لأن رؤياه وحي وهو تنام عينه ولاينام قلبه كما جاء ذلك مصرحًا به في حديث شريك فإن لفظه الذي في الصحيح عن أنس قال ليلة أسري برسول الله

ص: 281

صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولاينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولاتنام قلوبهم وإذا كان كذلك كان هذا بمنزلة المغمض العين إذا تجلى لقلبه حقائق الأسباب وعرج بروحه إلى السماء وعاينت الأمور فهذا ليس من جنس منامات الناس وهو يقظة لا منام قال القاضي وروى أبوالقاسم عبيد الله بن أحمد بن

ص: 282

عثمان فيما خرجه من أحاديث الصفات بإسناده عن ابن عباس قال كانت الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين قلت وهذا صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدم قال وروى أبو حفص بن شاهين في سننه بإسناده عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بفؤاده مرتين وهو الذي اتبعه أحمد واحتج به عن ابن عباس كما تقدم

ص: 283

وأما هذا التقييد فمن وضع بعض المتأخرين قال القاضي وروى أبو حفص بإسناده عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بفؤاده مرتين وروى أيضًا بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه بقلبه قال القاضي وهذا الاختلاف عنه ليس براجع إلى ليلة المعراج وإنما هو راجع إلى رؤيته في المنام في غير تلك الليلة رآه بقلبه على ما نبينه فيما بعد قلت هذه الألفاظ المتأخرة ثابتة في الصحيح عن ابن عباس وهو ذكرها في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] ولم يقل ابن عباس إن الرؤية بفؤاده كانت في المنام بل تكون في اليقظة

ص: 284

ثم قال القاضي وما رويناه عن ابن عباس أولى مما روي عن عائشة لأن قول ابن عباس يطابق قول النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة ولأنه مثبت والمثبت أولى من النافي ولا يجوز أن يثبت ابن عباس ذلك إلاّ عن توقيف إذ لا مجال للقياس في ذلك قلت أما ترجيحه قول ابن عباس بأنه مثبت وبأن ذلك لا يقال إلاّ عن توقيف فهو من الترجيح القديم الذي يحتج به مثبت رؤية محمد صلى الله عليه وسلم من الأئمة وسائر أهل الحديث ولا ريب أن المثبت أولى من النافي فـ يـ ما كان من باب الرواية كما قدم الناس رواية بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في البيت على قول أسامة

ص: 285

إنه لم يصل وقد قالوا هذا لا يقال بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فيكون من باب الرواية لكن قد يقال ونفي ذلك أيضًا لايؤخذ بالقياس وإنما يقال بالتوقيف فإن كون رؤية محمد ربه وقعت أو لم تقع هو من الأخبار التي لا تُعلم بمجرد القياس وعائشة رضي الله عنها لما نفت ذلك لم تستند مع استعظام ذلك أن تكون في الدنيا إلاّ إلى ما تأولت من الآيتين وابن عباس ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)[النجم 13] فكلامه أيضًا كان في تأويل القرآن وأما الأحاديث التي رواها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي فقد ذكر القاضي ذلك لما ذكر تلك الأحاديث وأما ما احتج به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت رؤيته تلك الليلة فإنه لم يعتمد في ذلك إلاّ على الحديث الذي ذكر هذا كله في الكلام عليه وهو

ص: 286

الحديث الذي سنذكره إن شاء الله مما رواه الخلال عن أبي ثعلبة عن أبي عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قال فوضه يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ العلى وذكر الخبر قال القاضي أعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصول أحدها في إثبات ليلة الإسراء وصحتها والثاني في إثبات رؤيته لله تعالى تلك الليلة والثالث في وضع الكف بين كتفيه الرابع في إطلاق تسمية الصورة عليه والخامس قوله لا أدري لما سأله فيم يختصم الملأ الأعلى ثم تكلم على ذلك قلت الإسراء وإن كان حقًّا ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم قد جاءت بها آثار ثابتة وهذا الحديث قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه بالمدينة

ص: 287

في المنام لكن هذا الحديث بهذا اللفظ المذكور في ليلة الإسراء من الموضوعات المكذوبات كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لما كانت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وإنما ذكر أن ربه أتاه في المنام وقال له هذا ووضع يده بين كتفيه بالمدينة في منامه ولهذا لم يحتج أحد من علماء الحديث بهذا بل رووه للاحتجاج ولم يثبتـ ـه أحد في الأحاديث المعروفة عند أهل العلم بالحديث كما بيناه فتبين أن القاضي ليس معه ما اعتمد عليه في رواية اليقظة إلاّ قول ابن عباس وآية النجم وقول ابن عباس قد جمعنا ألفاظه فأبلغ مايقال لمن يثبت رؤية العين أن ابن عباس أراد بالمطلق رؤية العين لوجوه أحدها أن يقال هذا المفهوم من مطلق الرؤية والثاني لأن عائشة قالت من زعم أن محمدًا رأى ربه

ص: 288

فد أعظم على الله الفرية وتأولت قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وقوله وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا [الشورى 51] وذلك إنما ينفي رؤية العين فعلم أنها فهمت من قول من قال إن محمدًا رأى ربه رؤية العين الثالث أن في حديث عكرمة أليس يقول الرب تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] فقال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لايدركه شيء ومعلوم أن هذه الآية إنما يعارض بها من يثبت رؤية العين ولأن الجواب بقول ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء يقتضي أن الإدراك يحصل في غير هذه الحال وان ما أخبر به من رؤيته هو من هذا الإدراك الذي هو رؤية البصر وأن البصر أدركه لكن لم يدركه في نوره الذي هو نوره الذي إذا تجلى فيه لم يدركه شيء وفي هذا الخبر من رواية ابن أبي داود أنه سُئل ابن

ص: 289

عباس هل رأى محمد ربه قال نعم قال وكيف رآه قال في صورة شاب دونه ستر من لؤلؤ كأن قدميه في خضرة فقلت أنا لابن عباس أليس في قوله لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)[الأنعام 103] قال لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء وهذا يدل على أنه رآه وأخبر أنه رآه في صورة شاب دونه ستر وقدميه في خضرة وأن هذه الرؤية هي المعارضة بالآية والمجاب عنها بما تقدم فيقتضي أنها رؤية عين كما في الحديث الصحيح المرفوع عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في صورة شاب أمرد له وفرة جعد قطط في روضة خضراء الوجه الرابع أن في حديث عبد الله بن أبي سلمة أن عبد الله بن عمر أرسل إلى عبد الله بن عباس يسأله هل رأى محمد ربه فأرسل إليه عبد الله بن عباس أي نعم فرد عليه

ص: 290

عبد الله بن عمر رسوله أن كيف رآه فأرسل إليه رآه في روضة خضراء دونه فراش من ذهب على كرسي من ذهب تحمله أربعة من الملائكة كما تقدم وكون حملة العرش على هذه الصورة أربعة هو كذلك الوجه الخامس أنه ذكر أن الله اصطفى محمدًا بالرؤية كما اصطفى موسى بالتكليم ومن المعلوم أن رؤية القلب مشتركة لا تختص بـ محمد كما أن الإيحاء لا يختص بـ موسى ولا بد أن يثبت لمحمد من الرؤية على حديث ابن عباس مالم يثبت لغيره كما ثبت لموسى من التكليم كذلك وعلى الروايات الثلاث اعتمد ابن خزيمة في تثبيت الرؤية حيث قال

ص: 291

باب ذكر الأخبار المأثورة في إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم خالقه العزيز العليم المحتجب عن أبصار بريته قبل اليوم الذي يجزي الله كل نفس ما كسبت وذكر اختصاص الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالرؤية كما خص إبراهيم عليه السلام بالخُلَّة من بين جميع الرسل والأنبياء جميعًا وكما خص نبيه موسى بالكلام خصوصية خصه الله بها من بين جميع الرسل وخص الله كل واحد منهم بفضيلة وبدرجة سنية كرمًا منه وجودًا كما أخبرنا عز وجل في محكم تنزيله في قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة 253] ثم اشتمل حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم

ص: 292

والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين وذكر حديث الحكم عن عكرمة الذي فيه صورة شاب وذكر احتجاج بعض أصحابه بما روي عن أبي ذر وابن عباس في تفسير قوله في سورة النجم واحتجاج بعضهم بقول ابن عباس في قوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال وليس الخبر بالبين أيضًا إن ابن عباس أراد بقوله رؤيا عين رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربع بعينه لست أستحل أن أحتج

ص: 293

بالتمويه ولا أستجيز أن أموه على مقتبسي العلم فأما خبر قتادة والحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وخبر عبد الله بن أبي سلمة عن ابن عباس فبين واضح أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذا من كلامه يقتضي أنه اعتمد هذه الطرق وأنها تفيد رؤية العين لله التي ينزل عليها قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] ويدل على ذلك حديث حماد ابن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي وحديث الحكم عن عكرمة في حكم المرفوع أيضًا لأنه ذكر خبر الرؤية على وجه لا يعلم بالرأي ولا بتأويل القرآن وكذلك حديث ابن أبي سلمة عن ابن عباس أخبر فيه بأمور لاتُعلم من تفسير القرآن وعلى هذا فيكون خبر عكرمة عن ابن عباس ونحوه روية عين كما يذهب إلى ذلك طوائف من أهل الحديث ومع هذا فقد روي بهذا الإسناد بعينه عن عكرمة ما يبين أن

ص: 294

رؤية الآخرة على وجه آخر وقال في هذه الرواية ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء وروى عبد الرحمن حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة في قوله عزوجل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)[القيامة 22-23] قال مسرورة فرحة إلى ربها ناظرة قال عكرمة انظر ماذا أعطى الله عبده من النور

ص: 295

في عينيه أن لو جعل الله جميع من خلق الله من الإنس والجن والدواب والطير وكل شيء من خلق الله فجعل نور أعينهم في عين عبد من عباده ثم كشف عن الشمس سترًا واحدًا ودونها سبعون سترًا ما قدر أن ينظر إلى الشمس والشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي والكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش والعرش جزءًا من سبعين جزءًا من نور الستر فانظر ماذا أعطى الله تعالى عبده من النور في عينيه أن النظر إلى وجه ربه الكريم عيانًا لكن قال الحافظ أبو عبد الله بن منده الوجه الرابع ما رواه الإمام أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنة حدثنا فضل بن

ص: 296

سهل حدثنا عمرو بن طلحة القناد حدثنا أسباط عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) قال إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل فقال له رجل أليس قد قال لاتدكه الأبصار وهو يدرك الأبصار فقال له عكرمة أليس ترى السماء قال بلى قال أفكلها ترى وهذا مروي من وجوه أخرى فلهذا ترجم أبو بكر بن أبي عاصم باب ما ذكر في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه

ص: 297

فروى حديث شعبة عن قتادة عن عكرمة عن أنس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه تبارك وتعالى وروى حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس هذا وروي حديث عاصم عن الشعبي وعكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه وروى حديث عكرمة عن ابن عباس أن الله اصطفى إبراهيم بالخلة واصطفى

ص: 298

موسى بالكلام واصطفى محمدًا بالرؤية وروى حديث الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس الذي فيه ذلك إذا تجلى بنوره واختصره وقال فيه كلام يعني كلامًا لم يذكره وروى من حديث عن جابر بن زيد عن عطاء بن أبي رباح عن عكرمة عن ابن عباس في قوله ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى

ص: 299

قال هو محمد دنا فتدلى إلى ربه عز وجل وروى حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة وروى حديث هشام الدستوائي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن شيء قال عن أي شيء كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأيت ربك فقال سألته فقال نور أني أراه وحديث هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية

ص: 300

لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم إنه ذكر رؤية الله في الآخرة ثم ذكر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه في المنام فعلم أن أحاديث ابن عباس عنده في اليقظة لكن لم يقل بعينيه فاحتجاج المحتج بهذه الآية وجوابه بقوله ألست ترى السماء قال بلى قال فكلها ترى دليل على أنه أثبت رؤية العين وقد يقال بل أثبت رؤية القلب ورؤية النبي بقلبه كرؤية العين كما تقدم ذكر هذا من كلام الإمام أحمد وغيره فلم يكن كلام ابن عباس مختلفًا وتكون هي رؤية يقظة بقلبه والذي يدل على الجزم بهذا الوجه أن هذه من رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس وقد روى ابن خزيمة والطبراني وغيرهما م حديث إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)[النجم 11]

ص: 301

قال رآه بقلبه قال ابن خزيمة حدثنا عمي حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل وقال الطبراني حدثنا يوسف القاضي حدثنا محمد بن كثير حدثنا إسرائيل فذكره يبين ذلك ما رواه الترمذي في جامعه في تفسير سورة والنجم فروى حديث ابن عيينة عن مجالد عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعبًا فعرفه فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بني هاشم

ص: 302

نزعم أنَّ محمدًا رأى ربه فقال كعب إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين قال مسروق فدخلت على عائشة فقلت هل رأى محمد ربه فقالت لقد قفَّ شعري مما قلت قلت رويدًا ثم قرأت لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) قالت أين يُذهب بك إنما هو جبريل من أخبرك أنَّ محمدًا رأى ربه تعالى أو كتم شيئًا مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ الآية [لقمان 34] فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل لم يره على صورته إلاّ مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سدّ الأفق

ص: 303

قال أبو عيسى وقد روى داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا الحديث وحديث داود أنص من حديث مجالد وروى الترمذي مثل ذلك عن الشيباني قال وسألت زرّ بن حبيش عن قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فـ ـقال أخبرني ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب

ص: 304

صحيح ثُمَّ روى الترمذي فقال حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان البصري حدثنا يحي بن كثير العنبري حدثنا سلم بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه قلت أليس الله يقول لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام 103] قال ويحك ذاك نوره إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد رأى محمد ربه مرتين قال أبوعيسى هذا حديث حسن

ص: 305

غريب من هذا الوجه قلت وقد روى أبوبكر بن أبي عاصم هذا الحديث في كتاب السنة عن هذا الشيخ كما رواه الترمذي عنه إلى آخره قال وقد رأى محمد ربه مرتين وفيه كلام أراد ابن أبي عاصم أنَّ الحديث فيه كلام آخر وهذا هو الكلام الذي تقدمت الإشارة إليه أنه قال رآه دونه ستر من لؤلؤ كما ذكرنا فإن هذه الزيادة كانوا يروونها وتارة يتركونها كما تركها ابن خزيمة والترمذي وابن أبي عاصم وهكذا قال ابن أبي عاصم لما روى حديث شاذان فقال حدثنا

ص: 306

أحمد بن محمد المروذي حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي عز وجل قال ثمَّ ذكر كلامًا وقد تقدم ذكر هذا الكلام من رواية غيره وروى هذا الحديث من الوجه الآخر الذي ذكره أحمد فقال حدثنا فضل بن سهل حدثنا عفان قال حدثنا عبد الصمد بن كيسان عن

ص: 307

حماد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رأيت ربي عز وجل لم يزد ابن أبي عاصم على هذا والحديث معروف بطوله والمقصود هنا أن قول ابن عباس رآه مرتين أجاب فيه بقوله ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء لما سئل عن قوله تعالى لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام 103] وهذا يقتضي أنَّ المرتين رؤية عين مع أنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه رآه بفؤاده مرتين ذكره أيضًا في تفسير الآية وهذا يقوي أن تكون رؤية الفؤاد عنده رؤية العين للأنبياء خصوصًا لا لغيرهم وحين عورض بهذه الآية أجاب عنها وعلى هذا فتتفق أقوال ابن عباس وهو أشبه ثم روى الترمذي حديث محمد بن عمرو عن أبي

ص: 308

سلمة عن ابن عباس في قوله تعالى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)[النجم 13-15] فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)[النجم 9-10] قال ابن عباس قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال أبوعيسى هذا حديث حسن ثم روى حديث يزيد بن إبراهيم التستري عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذرّ لو أدركت النبي صلى الله عليه وسلم سألته فقال عما كنت تسأله قال كنت أسأله هل رأى محمد ربه فقال قد سألته فقال نُورٌ أنَّى أرَاهُ قال أبو عيسى هذا حديث حسن ثُمَّ روى من حديث

ص: 309

إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض قال أبوعيسى هذا حديث حسن صحيح قلت فأمَّا إثباته الرؤية بسورة والنجم فقد نوزع فيه

ص: 310

أيضًا وأما أبوذر فقد تقدم قوله رآه بفؤاده ولم يره بعينه وأمَّا أنس بن مالك فقد روى من حديث شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه ورواه ابن خزيمة فقال حدثنا إبراهيم بن عبد العزيز المقوم حدثنا أبو بحر البكراوي عبد الرحمن بن عثمان عن شعبة وكذلك رواه ابن أبي عاصم حدثنا عمرو بن عيسى الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن محمدًا قد رأى ربه تبارك وتعالى وكذلك رواه الطبراني فقال حدثنا زكريا السَّاجي حدثنا عمرو بن عيسى

ص: 311

الضبعي حدثنا أبوبحر البكراوي حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال رأى محمد ربه فمداره على أبي بحر عن شعبة وفي مفرده نظر يحتمل أن يكون اشتبه عليه ذلك ببعض أحاديث قتادة في هذا الباب فإنه روى عن عكرمة وغيره ذكر الرؤية وإلَاّ فانفراده من بين أصحاب شعبة ريبة تُوجبُ نظرًا وقد روى الطبراني في السنة في باب رؤية محمد ربه في قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)[النجم 10] حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا

ص: 312

الحارث بن عبيد أبوقدامة الإيادي عن أبي عمران الجَوني عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت النور الأعظم ولط دوني الحجاب رفرفة الدُّر والياقوت فأوحى الله إليَّ ما شاء أن يوحي قال حدثنا يوسف القاضي حدثنا المقدمي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس وأبي ذر في

ص: 313

قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)[النجم 10] قالا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإن قيل فقد روى الخلال حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا أبو داود المباركي حدثنا حماد بن دليل عن سفيان بن سعيد عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب

ص: 314

أو عبد الرحمن بن سابط عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما كنت ليلة أسري بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا أدري قال فوضع يده حتى وجدت فذكر كلمة ذهبت عني قال ثم قال فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في المسرات ونقل الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة قال وما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام وصلاة بالليل والناس نيام قال

ص: 315

قل قلت وما أقول قال قل اللهم إني أسألك عملاً بالحسنات وترك المنكرات وإذا أردت في قوم فتنة وأنا فيهم فاقبضني إليك غير مفتون وقد ذكر القاضي أبو يعلى هذا الحديث في كتاب إبطال التأويل أو ل ما ذكر من أحاديث هذا الجنس الذي فيه رؤيته في أحسن صورة وأثبت ذلك يقظة وتكلم عليه كما تكلم على غيره من الأخبار فأبطل التأويل إذ المتأولون كالمريسي وذويه وابن فورك ونحوه يجعلون هذا في اليقظة ويتأولونه كما

ص: 316

فعله المؤسس قيل هذا الحديث كذب موضوع على هذا الوجه بلا نزاع بين أهل العلم بالحديث ولهذا لم يذكره الإمام أحمد فيما ذكره من أخبار هذا الباب ولا أحد من أصحابه الذين أخذوا عنه لا فيما يصححون ولا فيما عللوه وكذلك ابن خزيمة لم يذكره لا فيما صححه ولا فيما علله ولا رووه الأئمة الذين جمعوا في كتب السنة أحاديث الباب كابن أبي عاصم والطبراني وابن منده وغيرهم لأنه من الموضوعات التي لا يجوز ذكرها لمن علم بها إلاّ أن يبين أنها موضوعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وهذا الحديث من أبطل الباطل عن سفيان الثوري

ص: 317

والحسن بن صالح بن حي لم يأت به عنهما أحد من أصحابهما مع كثرتهم واشتهارهم وأيضًا فأحاديث المعراج قد رواها أهل الصحيح من حديث مالك بن صعصعة وأبي ذر وأنس وابن عباس وأبي حبة الأنصاري ورواه أهل السنن والمسانيد من وجوه

ص: 318

أخرى وليس في شيء منها هذا مع توفر الهمم والدواعي على ضبط ذلك لو كان له أصل وهذا التأويل يوجب العلم ببطلان هذا وأيضًا فقوله فيه نقل الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة والمعراج كان بمكة وتلك الليلة فرضت الصلوات الخمس ولم تكن جمعة فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن أول جمعة كانت في الإسلام بعد جمعة بالمدينة جمعت بالبحرين بجواثاء قرية من قرى البحرين وهذا من العلم المتواتر الذي لا يتنازع فيه أهل العلم وأما ما يوجد في كتب

ص: 319

أخرى ويوجد عند كثير من الشيوخ والعامة من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في بعض سكك المدينة أو خارج مكة أو أنه ينزل عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان ونحو هذه الأحاديث التي فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربع في اليقظة في الأرض فكلها من أكذب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم فليعلم ذلك والخلال روى هذا الحديث من هذا الوجه ورواه من وجه آخر هو الصواب لأنه جمع الطرق فقال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله

ص: 320

ابن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك ربي وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وذكر الحديث قال الخلال حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا حماد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ففي هذه الرواية من رواية مؤمل عن حماد بن دليل عن الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مرسلاً وجعله مثل

ص: 321

حديث أبي هريرة وحديث أبي هريرة يوافق سائر الأحاديث أن ذلك كان في المنام كما ذكره في هذه الراوية ولكن إنما اعتقد صحة هذا من لم يكن له بالحديث وألفاظه وروايته خيرة تامة من جنس الفقهاء وأهل الكلام والصوفية ونحوهم فلهذا ذكروه من بين متأول ومن بين راد للتأويل ثم المثبتة تزيد في الأحاديث لفظًا ومعنى فيثبتون بعض الأحاديث الموضوعة صفات ويجعلون بعض الظواهر صفات ولا يكون كذلك والنافية تنقض الأحاديث لفظًا ومعنًى فيكذبون بالحق ويحرفون الكلم عن مواضعه ومن هذا ما رواه الخلال حدثنا عمرو بن إسحق حدثنا أبو مسلم الحضرمي حدثنا أبو معاوية وهب بن عمرو الأحموسي عن أبي عبد الرحمن عن مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس أنه حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أسري بي إلى السماء فرأيت الرحمن

ص: 322

الأعلى بقلبي في خلق شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت إلهي أن يكرمني برؤيته فإذا هو كأنه عروس حين كُشفت عن حجلته مستويًا على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعُلوِّه ولم يؤذن لي في غير ذلك من صفته لكم سبحانه في جلاله وكريم فعاله في مكانه العلي نوره المتعالي وهذه الألفاظ ينكر أهل المعرفة بالحديث أن تكون من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن هذا الحديث يبين أن حديث عكرمة المشهور كان بفؤاده كما في هذا ويشبه هذا ما رواه الخلال أيضًا قال حدثنا يزيد بن جمهور حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العبدي حدثنا أبي حدثنا سفيان عن جويبر عن

ص: 323

الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسري به قال انتهيت على نهر من نور لهب النار قال فجعلت أهال قال وجعل جبريل يقول يامحمد ادع الله بالتثبيت والتأييد قال فجعلت أدعو بالتثبيت والتأييد فذكر أنها دون العرش حتى انتهيت إلى العرش وأمسك جبريل عني قال فلما انتهينا إلى الله ألقيت على الوسنة قال وعاينت بقلبي جلاله قال فكان ابن عباس يقول رآه بفؤاده ولم تر هـ عيناه ولكن قد يكون أصل الحديث أنهما حدثا عن ابن عباس محفوظًا وزيد فيه زيادات كما جرت به عادة كثير من هؤلاء

ص: 324

المصنفين فيكون هذا موافقا لأن حديث قتادة والحكم عن عكرمة وحديث سلمة بن عمرو أنه كان ليلة المعراج وأما رواية الترمذي للأحاديث المتقدمة فالصواب أنها ثابتة كما عليه أئمة الحديث ولذلك احتج بها أحمد وقال يقول النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ربي فأنكر على من رد موجبها وقد ثبت حديث عكرمة عن ابن عباس وهو أسدُّها وذكر أن العلماء تلقته بالقبول وقال حدث به فقد حَدَّثَ به العلماء فأما قوله في رواية الأثرم يُضطربُ في إسناده وأصل الحديث واحد وقد اضطربوا فيه فهذا كلام صحيح فإنهم اضطربوا في إسناده بلا ريب لكن بم يقل إن هذا يوجب ضعف متنه ولا قال إن متنه غير ثابت بل مثل هذا الاضطراب يوجد في أحاديث كثيرة وهي ثابتة وهذه الطرق مع ما فيها من الاضطراب لمن يتدبر الحديث ويحسن معرفته يدل دلالة واضحة على أن الحديث محفوظ

ص: 325

صحيح الأصل لاريب في ذلك بل قد يوجب له القطع بذلك كما نبهنا عليه أولاً فإنه قد ثبت أنه حدث به عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وأخبره يزيد بن يزيد وأبو قلابة والأوزاعي عن خالد بن اللجلاج وكل هؤلاء ممن الثقات المشاهير وهذا يثبت رواية خالد له لكن أحدهم قال عن ابن عباس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم والآخر عن ابن عائش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يقتضي ثبوت إحدى الروايتين دون الأخرى إذ لم يختلفا في متنه وإنما اختلفا في صفة الإسناد فقد يقال الثانية أصح لأن ابن عائش ليس ممن اتفق على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن إحدى الروايتين فيها زيادة والزيادة من الثقة مقبولة وقد يقال الأولى أصح لأن رواتها عن خالد أكثر وقد

ص: 326

رواه كذلك الأوزاعي وغيره كما سيأتي إن شاء الله والأشبه أن الاضطراب في هذه الرواية وقع من خالد نفسه وأنه كان لا يذكر في أكثر الروايات إلاّ ابن عائش ولهذا لم يذكر أبو قلابة عنه إلَاّ ما يشتبه بابن عائش وبالجملة فأيّ الروايتين كانت هي المحفوظة صحَّ الحديث إذ تعارضهما إمَّا أن يوجب صحَّة إحداهما أو يوجب الجمع بينهما وعلى كل تقدير فالحديث محفوظ فأمَّا طرحهما جميعًا فإنَّما يكون إذا تعارض متنان متناقضان وكذلك قول أبي قلابة عن ابن عباس إمّا أن يكون محفوظًا أو مُصَحَّفًا وعلى التقديرين لا يقدح في متن الحديث بل يؤيده ويثبته سواء كان محفوظًا أو مُصحَّفًا ورواية يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلاّم عن ابن عائش لاتخالف رواية خالد بن اللجلاج عنه بل توافقه وتعضده لأنّ رواية خالد تدلُّ على أنه كان لا يستوفي إسناده بل تارة يرسله وتارة يذكر الصاحب فهذه الرواية ذكرت ما ذكروه واستوفت الإسناد والمتن وأمّا ما ذكره ابن خزيمة

ص: 327

من كون يحيى مُدلِّسًا لم يذكر السَّماع فهذا لا يضرُّ هنا لأنّ غاية ما فيه أن يكون أخذه من كتاب زيد بن سلَاّم كما حُكي عنه أنَّه كان يُحدّث من كتاب أبي سلاّم إما لمعرفته بخطّه وإمَّا لأن الذي أعطاه قال له هذا خطه وهذا ممّا يزيد الحديث قوة حيث كان مكتوبًا ولهذا كان إسناده ومتنه تامًّا في هذه الطريق بحمله دون الأخرى والاحتجاج بالكتاب في مثل هذا جائز كالاحتجاج بصحيفة عمرو بن حزم وصحيفة عبد الله بن عمرو التي رواها عمرو بن شعيب كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم

ص: 328

يكتب كتبه إلى النواحي فتقوم الحجة بذلك وإن لم يكن هذا حجة فمن المعلوم أن هذا الطريق يبيِّن أن الحديث عن ابن عائش إذ مثل هذه الطريق إذا ضُمت إلى طريق خالد بن اللجلاج كان أقل أحوال الحديث أن يكون حسنًا إذ رُوي من طريقين مختلفين ليس فيهما متهم بالكذب بل هذا يُوجب العلم عند كثير من الناس ولهذا كان الأئمة يكتبون الشواهد والاعتبارات ما لايُحتج به منفردًا والذي ذكر ابن خزيمة من أنه لم يثبت طريق معين من هذه الطرق هذا فيه نزاع بين أهل الحديث لكن إذا ضُمت بعضها إلى بعض صدَّق بعضها بعضًا فهذا مـ ـما لا يتنازعون فيه لكن ابن خزيمة جرى على عادته أنه لا يحتج إلا ب إسنادٍ يكون وحده ثابتًا فإنَّه كثيرًا ما يُدخل في الباب الذي يحتجُّ له من الشواهد والاعتبارات أشياء فلا يحتج بها فما قاله لا ينافي ما اتفق عليه أهل العلم فثبت

ص: 329

صحَّة الاحتجاج به من طريقين أحدهما من جمع الطرق لكن ابن خزيمة لم يسلك هذا والثاني من جهة ثبوت الاحتجاج بالكتاب لكن ابن خزيمة لم يذهب إلى هذا ومما يؤيد هذا أنَّ المتن نفسه قد رُوي من وجوه أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثوبان الذي تقدم ذكره وقد رواه الخلال أيضًا وروي من حديث ابن عمر قال الخلال حدثنا محمَّد بن عوف حدثنا أبواليمان حدثنا أبومهدي عن أبي الزهراية عن

ص: 330

أبي شجرة عن ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تلبَّث عن أصحابه في صلاة الصبح حتى تراءى له قرن الشمس أن يطلع ثم خرج عليهم فصلى صلاة الصبح فلمَّا فرغ قال اثبتوا على مقاعدكم ثم أقبل عليهم يقول لهم هل تدرون ما حبسني عنكم قالوا الله ورسوله أعلم قال إني صليت في مصلاي ما كتب الله لي فضُرب على أذني وأتاني ربي في أحسن صورة وقال الخلال أخبرنا محمَّد بن إسماعيل حدثنا

ص: 331

وكيع عن عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المُليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني آتٍ في أحسن صورة فقال يا محمَّد أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى يوم القيامة قلت لا فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بَردها بين ثدييّ قال فعرفت كل شيء سألني عنه قال نعم يختصمون في الدرجات والكفارات قال وما الدرجات قلت إسباغ الوضوء في السبرات والمشي على الأقدام إلى الجمعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط والكفارات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام

ص: 332

وقد انقلب في هذا المتن الكفارات بالدرجات فإن الصواب أنَّ تلك الأعمال هي الكفارات وهذه الثانية هي الدرجات كما سبق في الروايات وقوله أتاني آت في أحسن صورة يفسره ما رواه الخلال أيضًا حدثنا أحمد بن محمَّد الأنصاري حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حُميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منام في أحسن صورة فقال يا محمَّد قلت لبيك وسعديك فقال فيم يختصم الملأ الأعلى وقال مؤمل حدثنا حمَّاد بن دليل حدثنا سفيان الثوري عن قيس عن طارق عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال قُرئ على محمَّد بن إبراهيم الصدري وأنا

ص: 333

أسمع حديثكم مؤمل حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن صورة فالأشبه أن لفظ أتاني آتٍ هو من رواية بعض الرواة بالمعنى كأنّه عَدَلَ عن لفظ ربي إمَّا خوفًا على نفسه أو على المستمع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لاريب أنَّه قال ذلك اللفظ كما تواترت به الطرق وقد روى الحافظ أبوعبد الله بن منده هذا الحديث فيما أخرجه وانتقاه من أحاديث الصفات التي لم يُضمنها الضّعاف وذكر استفاضة طرقه واتفاق علماء الشرق والغرب على تبليغه رواه من حديث أبي هريرة وثوبان وأحاديث ابن عائش فقال أخبرنا أبو خيثمة حدثنا محمَّد بن إبراهيم بن

ص: 334

كثير حدثنا مؤمل قال حدثنا عبيد الله لن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي عز وجل في منامي في أحسن صورة فقال لي يا محمَّد قلت لبيك وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدتُّ بردها بين ثدييّ وذكره أخبرنا عبيد الله بن جعفر البغدادي بمصر حدثنا هارون بن كامل حدّثنا أبوصالح قال حدّثنا معاوية بن صالح عن أبي يحيى وهو سليم عن أبي يزيد عن أبي سلاّم الحبشي أنه سمع ثوبان قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح فقال إن ربي عز وجل

ص: 335

أتاني الليلة في أحسن صورة فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا علم لي يارب فوضع كفه بين كتفيّ حتى وجدت برد أنامله في صدري فتخيّل لي ما بين السماء والأرض وذكر الحديث أخبرنا الحسن بن يوسف الطرائفي بمصر حدثنا إبراهيم ابن مرزوق حدثنا أبوعامر العقدي حدثنا زهير بن محمَّد عن يزيد بن يزيد بن جابر عن خالد بن اللجلاج عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب

ص: 336

النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللّون فقلنا له فقال مالي وأتاني ربّي الليلة في أحسن صورة الحديث قال الحافظ أبوعبد الله بن منده هكذا رواه زهير عن يزيد بن يزيد وزاد في الإسناد رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الأوزاعي وعبد الرحمن بن جابر وغيرهما وعن خالد بن اللجلاج ولم يذكروا الرجل في الإسناد ثنا محمّد بن جعفر بن يوسف وخيثمة بن سليمان قلا حدثنا العبّاس بن الوليد بن مزيد

ص: 337

أخبرني أبي حدثنا ابن جابر والأوزاعي قالا حدثنا خالد بن اللجلاج سمعت عبد الرحمن بن عائش قال صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث بمثله وقال فيه فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثدييّ فعلمت ما بين السماء والأرض ثم قرأ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام 75] قال الحافظ أبو عبد الله بن منده ورواه أبوسلاّم عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال ورُوي هذا الحديث عن عشرة من الصحابة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونقلها عنهم

ص: 338

أئمة البلدان من أهل الشرق والغرب وكنت حين كتبت ما كتبته بمكان لا يصل إليّ فيه الكتب وكنت أعلم أن هذا الحديث في جامع الترمذيّ لكن لم يكن حاضرًا عندي فلمَّا حضر إليّ بعد ذلك وجدته قد تكلم عليه نحوًا ممَّا تكلمت وبيَّن أنه حديث صحيح وذكر عن البخاري أنه حديث صحيح وأنَّ الصواب هو حديث معاذ فروى الترمذي في التفسير في سورة ص أولاً حديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني الليلة ربّي في أحسن صورة قال أحسبه في المنام قال كذا في الحديث فقال يا محمَّد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت لا قال فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثدييّ أو قال في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض قال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم في الكفارات والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي

ص: 339

على الأقدام إلى الجمعات والجماعات وإسباغ الوضوء في المكاره ومن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمّه قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه قال وفي الباب عن معاذ بن جبل وعبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي هذا الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله وقال إني نعست فاستثقلت نومًا فرأبت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ الأعلى ثم قال حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هانئ اليشكري حدثنا جهضم بن عبد الله

ص: 340

عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي أنه حدثه عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل قال احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعًا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوَّز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا على مصافكم كم أنتم ثم لنفتل إلينا ثم قال أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة أني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قُدِّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن

ص: 341

صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري قالها ثلاثًا قال فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثدييّ فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد قلت لبيك ري قال فيم يختصم الملأ الأعلى قلت في الكفارات قال ما هن قلت مشي الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء حين الكريهات قال ثم فيم قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام قال سَلْ قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة في قوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرِّب إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 342

إنها حق فادرسوها ثم تعلموها قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وقال هذا أصح من حديث الوليد بن الحضرمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وهذا غير محفوظ هكذا ذكر الوليد في حديثه عن عبد الرحمن ابن عائش قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى بشر ابن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر هذا الحديث بهذا

ص: 343

الإسناد عن عبد الرحمن بن عائش عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح وعبد الرحمن بن عائش لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ثم رأيت أبا بكر بن أبي عاصم روى هذا الحديث في كتاب السنة من طرق أخرى بعد أن قال باب ما ذكر من رؤية نبينا صلى الله عليه وسلم ربه في منامه وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء 60] قال هي رؤيا عين رآها النبي صلى الله عليه وسلم وأسند قول ابن عباس وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ عن عبد الملك بن ميسرة عن مصعب بن سعد عن معاذ

ص: 344

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى في نومه وفي يقظته فهو حق ثم قال باب فقال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان حدثنا سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجلى لي في أحسن صورة فسألني فيم يختصم الملأ الأعلى قال قلت رب لا علم لي قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو وضعها بين

ص: 345

ثديي حتى وجدت بردها بين كتفي فما سألني عن شيء إلا علمته قال وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن ليث عن أبي سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تراءى لي ربي في أحسن صورة ثم ذكر

ص: 346

الحديث حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم وصدقة بن خالد فالا حدثنا ابن جابر قال مر بنا خالد بن اللجلاج فدعاه مكحول فقال له يا أبا إبراهيم حَدِّثنا حديث عبد الرحمن بن عائش قال سمعت عبد الرحمن بن عائش يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة حدثنا يحيى بن عثمان بن كثير حدثنا

ص: 347

زيد بن يحيى حدثنا ابن ثوبان حدثنا أبي عن مكحول وابن أبي زائدة عن ابن عائش الحضرمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في أحسن صورة وذكر حديث أبي قلابة عن خالد عن ابن عباس وحديث

ص: 348

ثوبان قال وفي هذه الأخبار وضع يده بين كتفي والحافظ أبو القاسم الطبراني ذكر في كتاب السنة في باب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه أحاديث ابن عباس ونحوها ثم ذكر الحديث وقدم فيه طريق معاذ الذي هو أصحها وأكملها ورواه من وجه آخر عن يحيى بن أبي كثير فقال حدثنا محمد بن محمد التمار البصري قال حدثنا محمد بن عبد الله الخزاعي

ص: 349

حدثنا موسى بن خلف العمي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلَاّم عن جده ممطور عن عبد الرحمن السكسكي عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل قال احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع فلما صلى بنا الغداة قال إني صليت الليلة ما قُضي لي ووضعت جنبي في المسجد فأتاني ربي عز وجل في أحسن صورة فقال يامحمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا يارب قالها ثلاثًا قلت لا يارب قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها في صدري فتجلى لي كل شيء وعرفته فقلت في الكفارات قال فما الدرجات قلت إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام فقال صدقت فما الكفارات قلت إسباغ الوضوء في

ص: 350

السبرات وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الأقدام إلى الجمعات قال صدقت سل يا محمد قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بين عبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق ثم ذكر حديث معاوية ابن أبي صالح عن أبي يحيى عن أبي يزيد عن أبي سلام الأسود عن ثوبان قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عد صلاة الصبح فقال إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة وذكر الحديث قال أبو القاسم أظنه الذي

ص: 351

روى عنه معاوية بن صالح هذا الحديث هو سليم بن عامر وأبو زيد هو زيد بن سلَاّم ثم ذكر حديث جابر بن سمرة كما ذكره ابن أبي عاصم فقال حدثنا عبيد الله بن همام قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وساقها باللفظ المتقدم إلَاّ أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها على ثديي فما سألني عن شيء إلَاّ علمته ولم يشك ثم ذكر حديث قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس وحديث معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ثم ذكر طريقًا ثالثًا لحديث أبي قلابة وسماه عبد الله بن عائش فقال حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا معاوية بن عمران الجرمي

ص: 352

حدثنا أنيس بن سوار الجرمي عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج أن عبد الله بن عائش حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا مستبشرًا على أصحابه يعرفون السرور في وجهه فقال لهم أتاني ربي عز وجل الليلة في أحسن صورة فقال يامحمد قلت لبيك رب وسعديك قال هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت نعم يارب في الكفارات والكفارات المشي على الأقدام إلى الجمعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإبلاغ الوضوء أماكنه على المكروهات قال صدقت يامحمد فمن فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته مثل يوم ولدته أمه وإذا صليت يامحمد فقل اللهم إني أسألك فعل الطيبات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تتوب على وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني وأنا غير مفتون والدرجات الصوم وطيب الكلام والصلاة بالليل والناس نيام فتسميته في هذه الرواية عبد الله بن عائش دليل على

ص: 353

الاضطراب ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن خالد من رواية الأوزاعي والوليد بن مسلم كلاهما عنه ثم ذكر حديث أبي أمامة فقال حدثنا محمد بن إسحاق بن راهوية حدثنا أبي حدثنا جرير عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ثم ذكر حديث يوسف بن عطية الصفار عن قتادة عن

ص: 354

أنس وهو وهم فإن يوسف ضعيف والثقات عن قتادة ذكروه عن أبي قلابة ثم ذكر حديث أبي هريرة الذي رواه الخلال فقال حدثنا محمد بن غيلان حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ربي في منامي في أحسن

ص: 355

صورة ثم ذكر مثله وأما حديث أم الطفيل فإنكار أحمد له لكونه لم يعرف بعض رواته لا يمنع أن يكون عرفه بعد ذلك ومع هذا فأمره بتحديثه به لكون معناه موافقًا لسائر الأحاديث كحديث معاذ وابن عباس وغيرهما وهذا معنى قول الخلال إنما يروى هذا الحديث وإن كان في إسناده شيء تصحيحًا لغيره ولأن الجهمية تنكر ألفاظه التي قد رويت في غيره ثابتة فروي ليبين أن الذي أنكروه تظاهرت به الأخبار واستفاضت وكذلك قول أبي بكر عبد العزيز فيه وهاء ونحن قائلون به أي لأجل ما ثبت من موافقته لغيره الذي هو ثابت لا أنه يقال بالواهي من غير حجة فإن ضعف إسناد الحديث لا يمنع أن يكون متنه ومعناه حقًّا ولا يمنع أيضًا أن يكون له من الشواهد والمتابعات ما يبين صحته ومعنى الضعيف عندهم أنا لم نعلم أن رواية عدل أو لم نعلم أنه ضابط فعدم علمنا بأحد

ص: 356

هذين يمنع الحكم بصحته لا يعنون بضعفه أنا نعلم أنه باطل فإن هذا هو الموضوع وهو الذي يعلمون أنه كذب مختلق فإذا كان الضعيف في اصطلاحهم عائدًا إلى عدم العلم فإنه يطلب له اليقين والتثبيت فإذا جاء من الشواهد بالأخبار الأخر ى وغيرها ما يوافقه صار ذلك موجبًا للعلم بأن روايه صدق فيه وحفظه والله تعالى أعلم فصل إذا عرف أن الحديث الذي فيه رأيت ربي وأتاني ربي في أحسن صورة وقال فيم يختصم الملأ الأعلى وفيه فوضع يده بين كتفي إنما كان في المدينة وكان في المنام وهو حديث ثابت ظهر خطأ طائفتين طائفة تعتقد أنه كان في اليقظة ليلة المعراج وتجعله من الصفات التي تقررها أو تحرفها فنتكلم على ما ذكره المؤسس

ص: 357

قوله يحتمل أن يكون ذلك من صفات الرائي كما يقال دخلت على الأمير في أحسن هيئة أي وأنا كنت على أحسن هيئة فهذا باطل لوجوه احدها أن لفظه في أتم طرقه إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في مصلاي حتى استثقلت فإذا أنا بربي في أحسن صورة فقال يا محمد قلت لبيك رب قال فيم يختصم الملأ الأعلى فقوله فإذا أنا بربي في أحسن صورة صريح في أن الذي كان في أحسن صورة هو ربه الوجه الثاني أن في اللفظ الآخر أتاني ربي الليلة في أحسن صورة الوجه الثالث أن النائم إذا أخبر بأنه رأى غيره في أحسن صورة لم يكن مقصوده الإخبار بصورة نفسه الرابع أن قول القائل رأيت فلانًا في أحسن صورة إنما يتعلق الطرف فيه بالمرئي لا بالرائي كما لو قال رأيت فلانًا

ص: 358

راكبًا أو قاعدًا أو في حال حسنة ونحو ذلك أو في أحسن صورة لأن من لغتهم أن ما يصلح للفاعل والمفعول لا يجوز فيه ترك الترتيب إلَاّ إذا أمن اللبس فلا يقولون ضرب موسى عيسى إلَاّ إذا كان الأول هو الضارب ويقول أكل الكمثرى موسى يقدمون المفعول لظهور المعنى بالرتبة فقول القائل في أحسن صورة وفي حال حسنة ونحو ذلك لا يجوز تعليقه إلا بما هو الأقرب إليه فإذا كان المفعول هو المتأخر وهو الأقرب إليه تعلق به وإذا أريد تعليقه بالفاعل أخر أو أعيد ذكره مثل أن يقال جئته وأنا في أحسن صورة أو لم يأت الأمير إلَاّ وأنا في أحسن صورة ونحو ذلك وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين قول القائل دخلت على الأمير في أحسن هيئة فإن دخوله على الأمير يُشعر بأنه كان هو المتحول المتنقل والأمير يتجمل للقائه ألا ترى أنه لو قال رأيت الأمير في أحسن هيئة أو في أحسن صورة لم يكن المفهوم منه إلَاّ أن الأمير هم الذي في أحسن هيئة وأحسن صورة فيُعطى كل لفظ تركيبه وحقه لا يقاس هذا بهذا مع اختلاف تعيينها الخامس أن قوله في الوجه الأول يكون المعنى أن الله زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه

ص: 359

يقال له مما عده العلماء من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم أنه عُرج به إلى السماء ثم رجع وأصبح كبائت لم يتغير كما حصل لموسى عليه والسلام حين كلَّمه الله فإنه كان يتبرقع وكذلك لما خرج عليهم إلى صلاة الفجر بالمدينة وأخبرهم بما رأى لم ينقل أحد أنه تغيرت صورته حتى صارت أحسن الصور أكثر ما في بعض الطرق أنه خرج وهو طيب النفس مشرق اللون ومعلوم أن هذا ليس بأحسن الصور السادس أن تلك الزيادة في صورته إن قيل بقيت عليه فهذا كذب ظاهر فإن صورته لم تخالف اختلافًا خارجًا عن العادة وإن قيل كانت حين الرؤية وزالت بزوالها فمن المعلوم أن الذي يزاد إكرامه بتزيين صورته إن لم يره العباد في الصورة الحسنة المجمَّلة وإلا فهو في نفسه لا يحصل له

ص: 360

انتفاع بمجرد جمال صورته الذي لا يراه أحد فأي إكرام في هذا الوجه السابع أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة لو عاد إلى الرائي لوجب أن يكون حين الرؤية كان في أحسن صورة والحديث يدل على أنه لفرحه وسروره بالرؤية أشرق لونه وطابت نفسه فيكون ذلك بعد الرؤية فامتنع أن يكون قوله هذا حجة فبطل قولهم الوجه الثامن أن لفظه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وهو طيب النفس مشرق اللون فقلنا ماله فقال مالي وأتاني ربي الليلة في أحسن صورة فهذا صريح بأن إتيان ربه له في أحسن صورة ليس هو طيب نفسه وإشراق لونه الوجه التاسع قوله في الوجه الثاني أن المراد من الصورة الصفة ويكون المراد الإخبار عن حسن حاله عند الله وأنه أنعم عليه بوجوه كثيرة عظيمة من الإنعام باطل من وجوه

ص: 361

أحدها أن النعم المخلوقة للعبد المنفصلة عنه لا تكون صفة له بحال فإن الموصوف لا يوصف إلَاّ بما قام به من الصفات لا بشيء لا يقوم به بحال وقد تقدم تقرير هذا ولو جاز هذا لجاز وصف الله بجميع الموجودات وأن يكون جميعها صفات لله ولجاز وصف العبد بكل ما يملكه الله تعالى إياه الثاني أن لفظ الصورة لا يقال إلَاّ على ما هو قائم بذي الصورة فأما الأمور المنفصلة عنه التي لا تقوم به فلا تكون صورة له كما تقدم الثالث أنه لو أريد بالصورة الصفة لكان جمال صورته وحسنها أولى بأن يكون معنى هذا الوجه دون أن يكون هذا المعنى هو معنى لفظ الصورة وتكون النعم المنفصلة معنى لفظ الصورة الرابع قوله وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث

ص: 362

يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم وقد يكون بخلافه فعرفنا الرسول أن حاله كان من القسم الأول يقال له الإكرام والتعظيم هو من فعل الله تعالى فهو بأن يكون صفة له أولى من أن يكون صفة للكريم المعظم فإما أن يكون صفة لهما أو للمُكْرَم أما جعله صفة للمُكْرَم فقط فباطل وذلك لأن الإكرام إن كان أمرًا قائمًا بذات المكرم فهو الوجه الأول وإن كان منفصلاً عنه فمن المعلوم أن كونه صفة لله أولى لأن الله فعله والله يوصف بنفس الفعل الذي هو الخلق والتكوين عند عامة أهل الإثبات وإن خالف في ذلك الجهمية من المعتزلة ومن تبعهم من متكلمة الصفاتية ونحوهم وكذلك التلقي بالإكرام هو فعل المرئي فهو أحق بالوصف به من الرائي فتبين بطلان أن يكون قوله في أحسن صورة

ص: 363

إلى المرئي فقط فإن قيل يجوز أن يكون قوله في أحسن صورة عائدًا إلى الرؤية نفسها فيكون متعلقًا بالمصدر لا بالفاعل ولا بالمفعول والتقدير رأيته رؤية هي في أحسن صورة أي صفة قيل هذا لو صح لكان هو معنى الوجه الأول لأن الرؤية صفة للرائي فصفتها صفته فيكون المعنى رأيت ربي وأنا في أحسن صورة وأيضًا فالصورة إنما يوصف بها ما قام بنفسه فأمَّا الرؤية ونحوها فيحتاج وصفها بالصورة إلى نقل ذلك من لغة العرب بل لا يوصف بها في لغتهم إلَاّ بعض الأمور القائمة بنفسها كما تقدم م قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما أن الصورة لا تكون إلَاّ إذا كان له وجه فـ قوله صلى الله عليه وسلم من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ

ص: 364

لا يتناول إلَاّ ذلك الخامس أن حديث أم الطفيل نص في أن الصورة كانت للمرئي حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة شاب موفر رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب على وجهه فراش من ذهب السادس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل رأيت ربي في أحسن صورة وسكت بل لم يقل ذلك إلَاّ موصولاً بما يبين صفة الرؤية كما تقدمت ألفاظ الحديث بذلك فهذا الذي ذكره المؤسس ومن نقل كتبه كابن فورك مـ ـمن جعله حديثًا مفردًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت ربي في أحسن

ص: 365

صورة ثم يتأولون ذلك أمر لا أصل له أما قول الرازي إن كان عائدًا إلى المرئي ففيه وجوه الأول أن يكون رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة وذلك جائز لأن الرؤيا من تصرفات الخيال فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة فيقال له قد بينا أن ألفاظ الحديث صريحة في أن هذه الرؤية كانت في المنام فيكون هذا الوجه هو المقطوع به وما سواه باطل ولكن لا يكون ذلك من باب التأويل بل الحديث على ظاهره فيكون ظاهر أنه رآه في المنام وهذا حق لا يحتاج إلى تأويل وهذا مقصودنا فإنهم يدعون احتياج هذه الأحاديث إلى تأويل يخالف ظاهرها لأن ظاهرها عندهم ضلال وكفر وهو غالطون تارة فيما يدعون أنه ظاهرها وليس كذلك كما يدعون أن ظاهر هذا الحديث أنه رآه في اليقظة كذلك دعواهم أن ظاهرها الذي هو ظاهرها الحق يحتاج إلى تأويل وهذا الذي أثبته الرازي من جواز رؤية الله في المنام

ص: 366

هو الحق الذي عليه عامة أهل الإثبات وإن نازع فيه من نازع من الجهمية لكن في هذا الباب للنفاة وأهل الإثبات غلط كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى مثل جعل بعض النفاة للرؤية عقائد غير مطابقة وتخيلات باطلة فهي كالرؤية بالعين المحققة الموجودة في الخارج قوله في الوجه الثاني أن يكون المراد من الصورة الصفة وذلك لأنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يقال في العرف المعتاد إني رأيته في أحسن صورة كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة فيقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه تقدم في ألفاظ الحديث أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة شابًّا موفرًا

ص: 367

الثاني أن ما يخلقه الله من الإكرام والإنعام ليس صفة له فأن لا يكون صورة له أولى ومن المعلوم أن نعمة الله على عباده لا تحصى ولا يوصف بها وإن وصف بأنه خلقها وأنعم بها وأحسن بها الثالث أنه لو أريد بذلك النعم كان من المعلوم أن ما ينعمه الله به عليه بعد ذلك أحسن صورة وقد قال رأيته في أحسن صورة الرابع قوله كما يقال وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة يقال له هذا إن كان كلامًا عربيًّا فالصورة قائمة بالمتصور ليست قائمة بغيره فليس ذلك نظير قوله رأيته في أحسن صورة إذا جعلت الصورة للمرئي وجعلتها نعمًا مخلوقة منفصلة عنه الخامس أنه إذا جعل قوله أحسن صورة للمرئي

ص: 368

وجعله من مفعولاته كان المعنى أن ما أنعم الله به على محمد تلك الساعة هو أحسن صورة لله وهذا باطل قطعًا السادس أن هذا التأويل من جنس التأويل الذي رده الدارمي على متبع المريسي حيث قال يحتمل أن تكون هذه صورة مخلوقة أتى الله فيها لا مدبر لها فكلاهما مشتركان في الفساد من جهة جعل الصورة مخلوقة مملوكة ولكل من التأويل وجوه تختص به تدل على فساده وقول الرازي الوجه الثالث لعله صلى الله عليه وسلم اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ما كلن مطلعًا عليه قبل ذلك يقال له هذا عليه وجوه أحدها أن هذه ليست أمورًا ثبوتية عندك قائمة بالله فإن الجلال والعزة تعيده إلى الصفات السلبية وهي أمور

ص: 369

عدمية لا ترى والعظمة تعيده إلى ما يخلقه من المخلوقات العظيمة ورؤية المخلوقات ليست رؤيته الثاني أنه قال رأيته في أحسن صورة وجعلت ذلك من صفات الله أي على أحسن صفة لزم أن يُرى على غير أحسن صفة ولزم أن تكون له في ذاته حالات حال يكون فيها على أحسن صفة وحال لا يكون فيها كذلك وهذا كله عندك ممتنع لأن ذلك يستلزم قيام الحوادث بذاته وتحوله الثالث أنه لو كان المراد به صفته لزم أن يكون قد رأى أحسن صفاته ومن المعلوم أن رؤيته له في الدار الآخرة أكمل لو كان قد رآها في الدنيا أحسن صفاته الرابع أن هذا يستلزم أنه عَلِمَ حقيقة الرب المختصة بل يكون قد رآها ورؤيتها أبلغ من علمها والمؤسس دائما يقرر خلاف ذلك هو وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم لا أحصي ثناء عليك وغير ذلك

ص: 370

وأما قول الرازي في الخبر الذي رواه عن ابن عباس قوله رأيت ربي في أحسن صورة إلى آخره وقد تقدم أن رواية هذا عن ابن عباس غلط وإنما هو حديث ابن عائش وغيره وأحاديث ابن عباس المحفوظة عنه لها ألفاظ أخر وهذا هو حديث أبي قلابة رواه عنه معمر عن أيوب وقتادة فقوله واعلم أن قوله رأيت ربي في أحسن صورة قد تقدم تأويله يقال له ليس فيما تقدم ما يقرب من الحق إلا قوله يحتمل أن يكون عائدًا إلى المرئي وتكون رؤيا منام فهذا الاحتمال قريب إلى الحق لأن الحق أنه كان رؤيا منام لكن هو جوز ذلك ولم يجزم به وتسميته هذا تأويلاً غلط لأنه تفسير مبين في الحديث وإن كان قد لا يُروى في لفظ حديث ابن عباس الذي ذكره فهو مفسر في ألفاظ جمهور الرواة للحديث ومن المعلوم أن الحديث الواحد إذا رواه أحد بلفظ مختصر ورواه جماعات فزادوا فيه ألفاظًا تفسِّر ذلك الغلط وتبينه كان ما رووه مفسرًا ومبينًا لما رواه هذا لو كانت رواية ابن عباس

ص: 371

محفوظة فكيف وقد وقع فيها ما وقع قال الرازي وأما قوله وضع يده بين كتفي ففيه وجهان أحدهما المراد منه المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها يقال له هذا معلوم الفساد بالضرورة الواضحة من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري فعلمت ما في السموات والأرض كان هذا اللفظ نصًّا صريحًا في معناه فكيف يمكن إحالته الثاني أن التعبير عن الاهتمام والاعتناء بمثل هذا اللفظ معلوم البطلان في اللغة حقيقة أو مجازًا وأين قولهم لفلان يد بهذه الصنعة من قول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي أو على صدري الثالث أن من قال إنه يقال لفلان يد في هذه الصنعة أي هو كامل فيها نعم يعبر باليد عن القدرة فيقال

ص: 372

لفلان في هذا يد وأنا صاحب يد في هذا أي قادر عليه أما أنه كامل القدرة فلابد له من لفظ يدل عليه ويقولون ما لفلا نبها يد أي ماله به طاقة لا قبل كما قيل جعلت لعراف اليمامة حُكْمَهُ وَعراف حجر إن هما شفياني فما تركا من رقية يعلمانها ولا سلوة إلَاّ وقد سقياني وقالا شفاك الله والله مالنا بما شملت منك الضلوع يدان

ص: 373

الرابع هب أنـ[ـه] له يد بهذا أو فيه بمعنى أنه كامل فيه أو يراد هو قادر عليه فأي دلالة في هذا على أن قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري إنما يدل على الاعتناء والاهتمام بحاله؟

الخامس أنه لو كان المقول فوضع يده فقط وقال إن هذا من جنس قولهم يدي معكم أو يدي في هذا الأمر ونحو ذلك مما يدل على أنه قائم فيه فاعل له لم يظهر فساده كما يظهر الفساد في تأويل قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي.

الوجه السادس أن هؤلاء يعمدون إلى ألفاظ الحديث يقطعونها ويفرقون بينها ثم يتأولون كل قطعة بما يمكن وما لا يكمن.

ومن المعلوم أن الكلام المتصل بعضه ببعض يفسر بعضه بعضًا ويدل آخره على معنى أوله وأوله لا يتم معناه إلا بآخره كما يقال الكلام بآخره وهذا كثيرًا ما يفعله هذا المؤسس وأمثاله وهم في مثل ذلك كما يحكى عن بعض متأخرة الزنادقة

ص: 374

المنافقين أنه قيل له ألا تصلي فقال إن الله يقول {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقيل له ألا تتمها {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } [الماعون 5] فقال العاقل يكتفي بكلمة.

وأنشد بعض هؤلاء:

ما قال ربك ويل للألى شربوا

بل قال ربك ويل للمصلينا

قوله الوجه الثاني أن يكون المراد من اليد النعمة يقال لفلان يد بيضاء ويقال إن أيادي فلان لكثيرة.

الوجه الأول فيقال له هذا من نمط الذي قبله فإن قوله القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري أو بين ثديي صريح في وضع اليد التي هي اليد لا تحتمل النعمة بوجه من الوجوه.

الثاني أن التعبير عن النعمة بمثل هذا اللفظ معلوم الفساد

ص: 375

بالضرورة من اللغة حقيقة ومجازًا.

الثالث أن اليد إذا عُبِّر بها عن النعمة كان معها من القرائن ما يبين ذلك كسائر ألفاظ المجاز كما أنه إذا قال أياديك علينا كثيرة مع كون هذا في سياق المدح وأن ليس في كون ذات يده فوقه شيء من المدح وأنه ليس له أياد كثيرة وغير ذلك مما يبين أن المخاطبين قصدوا أن نعمتك وإحسانك قد استولى علينا واستعلى علينا ولهذا كان هذا المعنى ظاهرًا في مثل هذا الخطاب وإن سمِّي مجازًا فأين هذا من قوله فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي؟!

الرابع أنه لو قيل فأسبغ على أياديه ونحو ذلك لكان لقوله وجه أما حتى وجدت برد أنامله بين كتفي فهل هذا يحتمل أن يكون المراد مجرد إنعامه؟

الخامس أن النعمة التي أنعم بها عليه إما أن تكون جوهرًا

ص: 376

قائمًا بنفسه أو عرضًا أما الجوهر فوضعه على كتفيه تثقيل له والله قد أنعم عليه بوضع الوزر عنه فكيف يضع عليه ما يثقله؟

وإن كان عرضًا فلا بد أن يكسب ذلك المحل صفة لأن العرض إذا قام بمحل عاد حكمه إليه فيقتضي اتصاف كتفيه [بوصف] لا يوجد لبقية الأعضاء.

هذا إن قيل إن الموضوع على جسمه الذي بين كتفيه فإن قيل إنه بينهما فوق فيقال أي شيء من النعم قام بالهواء الذي فوق ظهره [فـ]ـكان بعده عنه أعظم من بعد المتصل به وحمل اللفظ على مثل هذا المعنى من التلاعب بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

السادس أي شيء هذا الذي هو [من] الجواهر

ص: 377

والأعراض المخلوقة إذا وضع بين كتفيه ملاصقًا أو غير ملاصق كان من نعم الله العظيمة السابع أن لفظ وضع يده لا يعرف استعمالها في مجرد النعمة مفردًا فكيف مع هذا التركيب قال الرازي وأما قوله بين كتفي فإن صح فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة فالكلام عليه من وجوه أحدها أن هذا كسائر ألفاظ الحديث فلا معنى لتخصيصه بالتعليق دون سائر ألفاظ الحديث وإن قال لفظ اليد ثابت في القرآن والأحاديث المتواترة يقال له لكن ليس في ذلك لفظ وضع يده بهذا اللفظ في هذا الحديث الوجه الثاني أنه قد تقدم أن هذا اللفظ ثابت في هذا الحديث وأن ذلك كان في المنام الثالث قوله فالمراد ما أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة يقال له لا ريب أن في ذلك الحديث

ص: 378

فتجلى لي ما بين السماء والأرض ولا ريب أن هذا من آثار هذا الوضع فإنه من الموجود في الشاهد أن الإنسان يضع صدره أو يده على صدر الإنسان أو على ظهره فيجد في قلبه من الآثار بحسب ما يناسب حاله وحال الواضع كما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب قال كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا فقلت إن هذا قرأ قراءة أنكرتُها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن قراءتهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقًا فكأني أنظر إلى الله فرقًا

ص: 379

فقال إني أرسل إلي لأن لأقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوِّن على أمتي فرد إليَّ أقرأه على سبعة أحرف فلك بكل ردة رَدَدتُّكَهَا مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي فهنا كان الضرب بيده على صدره لزجره وإخراج ما في قلبه من الشك وقد كانت يده المباركة يضعها في الماء فيفور الماء من بين أصابعه

ص: 380

وفي الصحيحين في حديث بدء الوحي لما جاءه جبريل فقال اقرأ قال قلت ما أنا بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني والغط شبيه الخنق وهو مماسة له فرؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في المنام وأنه قال له فيم يختصم الملأ الأعلى أي

ص: 381

يختصمون فقال لا أدري ثم وضع يده بين كتفيه حتى وجد برد أنامله على صدره ليُعلمه هو ما لم يعلم ولهذا قال تجلى لي عقيبها ما بين السماء والأرض فالتجلي والعلم أثر وضع يده بين كتفيه لا أنه هو نفس ما بين الكتفين ولا أنه نفس وضع اليد الرابع أن تسمية ما بين الكتفين باللطف والرحمة لا يدل عليه اللفظ لا حقيقة ولا مجازًا الخامس أنه إما أن يقول إن وصول اللطف والرحمة إلى قلبه هو معنى قوله بين كتفي أو معنى قوله فوضع يده بين كتفي فإن كان الأول فاللفظ المفرد المجرد كيف يدلّ على معنى الجملة وما وجه ذلك وإن كان الثاني فيكون هذا تأويل قوله فوضع يده بين كتفي ويكون ما تقدم من الوجهين في تأويل فوضع يده باطلين لأن هذا يكون هو معنى الجملة وأما قوله وقد روي بين كنفي فعليه وجوه أحدها أن هذا تصحيف وهو كذب محض إما عمدًا

ص: 382

وإما خطأ فإن أهل العلم بالحديث متفقون على رواية بين كتفي بالتاء وللجهمية من هذا الجنس أمثال يحرفون فيها ألفاظ النصوص تارة ومعانيها أخرى كقول بعضهم وكلَّمَ اللهَ موسى وكرواية بعضهم يُنزَّل ربنا وأمثال ذلك الثاني قوله والمراد ما يقال وأنا في كنف فلان وفي ظل إنعامه فيقال له فالرسول هو في إنعام الله أم الله في إنعامه وليس الحديث أنه قال فجعلني في كنفه بل قال هو وضع يده بين كتفي فيكون المعنى على تفسيرك وضع يده من نعمي أو في ظل إنعامي ومعلوم أن هذا قلب لـ ـلحقيقة فإن العبد في نعمة ربه ليس الرب في نعمة عبده الثالث أنه قد فسر اليد بالنعمة فإذا جعل

ص: 383

كنفي العبد إنعامه فإن المعنى أنه وضع نعمة الله في إنعام العبد وهذا من أظهر الباطل الرابع إن الكنف يقال مفردًا وهذا ليس بمفرد وإذا روي بالتثنية كنفي كان خلاف اللغة فإن الكنف يُفرد ولا يُثنى في مثل ذلك وإن روي كنفي مفردًا يقال به فلفظ بين لا يضاف إلا إلى ما فيه معنى العدد وهو لم يقل بين كنفي بل قال بين كتفي الخامس أنه قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري أو بين ثديي وهذا صريح في المقصود فقول القائل في كنفي حتى وجدت برد أنامله في صدري من أظهر التناقض السادس أنه يقال فلان في كنف فلان لكن لا يقال هو بين كنفه أو كنفيه وأما قوله فوجدت بردها فيحتمل أن المعنى برد النعمة

ص: 384

وروحها وراحتها من قولهم عيش بارد إذا كان رغدًا يقال له هذا باطل من وجوه أحدها أنه إذا قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي وفي لفظ في صدري ومعلوم أن الضمير إنما يعود إلى مذكور ولم يتقدم إلَاّ اليد فعلم أن الضمير عائد إليها الثاني أن تأويل اليد بالنعمة قد تقدم إبطاله فلا يصح عود الضمير إليها الثالث أنه لو كان المراد النعمة فالنعمة شاملة لظاهره وباطنه كما قال تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان 20] فتكون موضوعة في ظهره وصدره ويكون أثرها كذلك أما تخصيص النعمة بظهره وتخصيص بردها بصدره أو بين ثدييه فظاهر البطلان

ص: 385

الرابع أن في أخبار أخر حتى وجدت برد أنامله على صدري وهذا تصريح في أن الذي وجد برده هو اليد الموضوعة على ظهره وأما قوله في بعض الروايات فوجدت برد أنامله وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى فإنه قال فيما بعد الفصل الثالث والعشرون في الأنملة هذه اللفظة غير واردة في القرآن ولكنّها واردة في الخبر وهو ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وضع يده على كتفيّ فوجدت برد أنامله فعلمت ما كان وما يكون وقال التأويل أن يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان والمراد اصرف عنايتك إليه فقوله وضع يده على كتفيّ معناه صرف العناية إليّ وقوله فوجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية فإنّ العرب تعبِّر عن وجدان الراحة واللّذة بوجدان البرد وإذا أرادوا الدعاء قالوا برّد الله

ص: 386

تلك الديار فيقال أمّا ما ذكره من تأويل وضع اليد بصرف العناية فقد تقدّم بيان فساده وما استشهد به من أنه يقال للملك الكبير ضع يدك على رأس فلان أي اصرف عنايتك إليه فهذا كلام باطل لم يقل بمثل هذا المعنى أحدٌ يُحتج به في اللغة بل هذا من باب الافتراء المحض على اللغة العربية ويمكن أن يتكلّم بمثل ذلك بعض المولدين والأعاجم لكن مثل كلام هؤلاء لا يجوز أن يُحمل عليه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يُحمل كلامه على اللغة التي كانت يُخاطب بها وليس في تلك اللغة أن يقال ضع يدك على رأسه بمعنى اصرف عنايتك إليه وأيضًا فالعناية هي مشيئة الله وتلك صفة قائمة به فإذا كانت تلك الصفة قديمة لازمة للموصوف كيف تصرف إلى شيء بل إذا كانت تصرف على هذا التقدير فالمراد بها بعض المخلوقات وقد تقدم الكلام على هذا

ص: 387

وأيضًا فقوله وجدت برد أنامله معناه وجدت أثر تلك العناية يقال له أثر تلك العناية كان حاصلاً على ظهره وفي فؤاده وصدره فتخصيص أثر العناية بالصدر لا يجوز إذ عنده لم يوضع بين الكتفين شيء قط وإنما المعنى أنه صرف الرب عنايته إليه فكان يجب أن يبين أن أثر تلك العناية متعلق بما يعمُّ أو بأشرف الأعضاء وما بين الثديين كذلك بخلاف ما إذا أقر الحديث على وجهه فإنه إذا وضعت الكف على ظهره نَفَذَ بردها إلى الناحية الأخرى وهو الصدر ومثل هذا يعلمه الناس بالإحساس وأيضًا فقول القائل وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي نص لا يحتمل التأويل والتعبير بمثل هذا اللفظ عن مجرد الاعتناء أمر يُعلم بطلانه بالضرورة من اللغة وهو من غث كلام القرامطة والسوفسطائية

ص: 388

وقوله والذي يدل على أن المراد منه كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فَعَلِمت ما بين المشرق والمغرب وما ذلك إلَاّ لأ ن الله تعالى أنار قلبه وشرح صدره بالمعارف يقال له الحديث يدل على أن هذه المعرفة كانت من آثار الوضع المذكور وهذا حق لكن لا يدل على أن الوضع ليس له معنى إلَاّ مجرد هذا التعريف وهذا ظاهر معروف بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أشياء حيث قال فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها وفي رواية برد أنامله على صدري فعلمت ما بين المشرق والمغرب فذكر وضع يده بين كتفيه وذكر غاية ذلك أنه وجد برد أنامله بين ثدييه وهذا معنى ثان وهو وجود هذا البرد عن شيء مخصوص في محل مخصوص وعقب ذلك

ص: 389

بأثر الوضع الموجود وكل هذا يبين أن أحد هذه المعاني ليس هو الآخر فصل إذا تبين أن هذا كان في المنام فرؤية الله تعالى في المنام جائزة بلا نزاع بين أهل الإثبات وإنما أنكرها طائفة من الجهمية وكأنهم جعلوا ذلك باطلاً وإلَاّ فما يمكنهم إنكار وقوع ذلك

ص: 390

فصل قال الرازي الفصل الثاني في لفظ الشخص هذا اللفظ ما ورد في القرآن لكنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا شخص أحب إليه الغيرة من الله وفي هذا الخبر لفظان يجب تأويلهما الأول الشخص والمراد منه الذات المعينة والحقيقة والمخصوصة لأن الجسم الذي له شخص وحجمية يلزم أن يكون واحدًا فإطلاق اسم الشخصية على الوحدة إطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر والثاني لفظ الغيرة ومعناه الزجر لأن الغيرة حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع فكنى بالسبب عن المسبب ها هنا

ص: 391

أما هذا اللفظ فقد جاء في الصحيح في بعض طرق حديث المغيرة بن شعبة وترجم البخاري عليه في كتاب التوحيد وترجم بعده على قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام 19] فسمى الله تعالى نفسه شيئًا فقال باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شخص أغير من الله حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة حدثنا عبد الملك بن

ص: 392

عمير عن ورَّاد كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف وهو غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني

ص: 393

ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة قال البخاري وقال عبيد بن عمرو عن عبد الملك

ص: 394

لا شخص أغير من الله وقد جاء لفظ الشخص في حديث آخر أصح من هذا وهو حديث أبي رزين العقيلي الذي قدمناه في أحاديث إتيانه يوم القيامة سبحانه وتعالى قال فيه لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء من مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال قلت يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونها في ساعة واحدة ويريانكم ولا تضامون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه منهما على أن يريانكم وترونهما قال قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه قال تعرضون عليه بادية له صفحاتكم وذكر الحديث وقد تنازع أهل الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم في إطلاق اسم الشخص عليه قال القاضي أبو يعلى فغير ممتنع إطلاقها عليه لأنه ليس في ذلك ما يمثل صفاته

ص: 395

ولا يخرجها عما يستحقه لأن الغيرة هي الكراهة للشيء وذلك جائز في صفاته قال تعالى وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة 46] قال وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه ووجهه أن قوله لا شخص نفي من إثبات وذلك يقتضي الجنس كقوله لا رجل أكرم من زيد يقتضي أن زيدًا يقع اسم رجل كذلك قوله لا شخص أغير من الله يقتضي أنه يقع عليه هذا الاسم قال وقد ذكر أبو الحسن الدارقطني في كتاب الرؤية ما يشهد لهذا القول وذكر حديث لقيط بن عامر المتقدم وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله قال وقد ذكر أحمد هذا الحديث في الجزء الأول من مسند الكوفيين فقال عبد الله

ص: 396

يعني ابن أحمد رحمه الله قال عبيد الله القواريري ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث قوله لا شخص أحب إليه المدحة من الله قال القاضي ويحتمل أن يمنع من إطلاق ذلك عليه لأن لفظ الخبر ليس بصريح فيه لأن معناه لا أحد أغير من الله لأنه قد روي ذلك في لفظ آخر فاستعمل لفظ الشخص في موضع أحد ويكون هذا استثناء من غير جنسه ونوعه كقوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء 157] وليس الظن من نوع العلم وأما تأويل الشخص إذا ثبت إطلاقه بالذات المعينة

ص: 397

والحقيقة المخصوصة فهذا باطل في لغة العرب التي خاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم أمته إنما يوجد مثل هذا في عرف المنطقيين ونحوهم إذا قالوا هذا ينحصر نوعه في شخصه أو لا ينحصر نوعه في شخصه وقالوا الجنس ينقسم إلى أنواعه والنوع ينقسم إلى أشخاصه ونحو ذلك مما هو لفظ الشخص فيه بإزاء لفظ الواحد بالعين وأصل ذلك والله أعلم أن التقسيم لما كان واردًا على ما ظهر وهو الإنسان وكل واحد من الأناسي يسمى شخصًا نقلوا هذا بالعرف الخاص إلى ما هو

ص: 398

من مسماه اللغوي فقالوا لكل واحد من أفراد أي نوع كان شخصًا حتى يسمون السواد المعين والبياض المعين شخصًا من أشخاص نوعه ويقولون واجب الوجود انحصر نوعه في شخصه كما يقولون مثل ذلك في الشمس وكل ما ليس له مثل وهذا مثل نقلهم ونقل المتكلمين للفظ الجوهر إلى أعم من مسماه اللغوي وكذلك لفظ الجسم وغيره لكن معرفة اللغات والعرف الذي يخاطب بها كل مخاطب من أهم ما ينبغي

ص: 399

الاعتناء به في فهم كلام المتكلمين وتفسيره وتأويله ومعرفة المراد به فإن اللغة الواحدة تشتمل على لغة أصلية وعلى أنواع من الاصطلاحات الطارئة الخاصة والعامة فمن اعتاد المخاطبة ببعض تلك الاصطلاحات يعتقد أن ذلك الاصطلاح هو اصطلاح أهل اللغة نفسها فيحمل عليه كلام أهلها فيقع في هذا غلط عظيم وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء فعلينا أن نعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخاطب بها خصوصًا فإنها هي الطريق إلى معرفة كلامه ومعناه حتى أن بين لغة قريش وغيرهم فروقًا من لم يعرفها فقد يغلط في ذلك وإذا كان كذلك فلا يعرف في لغة النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا غيرها من لغات العرب أنهم يسمون كل ذات حقيقة معينة شخصًا كما هو العرف الخاص لبعض الناس كما تقدم بل هذا معلوم الفساد بالضرورة من لغتهم إذ هذا يقتضي أن يسموا كل معين بحكم شخصًا حتى يسموا كل عرض معين من الطعوم والألوان والأراييح خصًا وهذا باطل قطعًا

ص: 400

وأما توجيه ذلك بأن الجسم الذي له شخص وحجمية يلزم أن يكون واحدًا فإطلاق اسم الشخص على الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر فهذا باطل من وجوه أحدها أن الشخص الذي له حجمية ليس واحدًا عندهم بل مركب إذ كل جسم مركب وقد قال هذا المؤسس في أول هذا الكتاب قوله أحد يدل على نفي الجسمية لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحدٌ مبالغة في الواحدية فكان قوله أحدٌ منافيًا للجسمانية وهذا المعنى تقدم غير مرة فإذا كان الشخص والحجمية يستلزم نفي الوحدة عندهم كيف يصح

ص: 401

أن يقال هو يلزم أن يكون واحدًا الوجه الثاني هب أنه لا يستلزم الوحدة بناء على أن لغة العرب تسمي الواحد من الأجسام واحدًا وهذا هو الصواب لكن من أين يلزم أن يكون قولهم شخص وحجم يلزم لأن يكون واحدًا فأحسن أحواله أنه لا يستلزم ثبوت الوحدة ولا نفيها بل قد يقال هذا الشخص للشخص المرئي مع ما عليه من الثياب وما له من الأعضاء الوجه الثالث أن لفظ شخص مفرد جمعه أشخاص وشخوص وهذا يراد به الواحد بالعين ويراد به الجنس كسائر نظائره ومثل لفظ إنسان وفرس ونحو ذلك وإرادة الجنس بهذا أظهر من إرادة الواحد بالعين بدليل أنه إذا دخل عليه حرف النفي مثل ما في قولك ما عندي شخص وما عندي إنسان كان الظاهر من معناه أنه نافٍ للجنس ويجوز أن يراد به نفي الواحد فيقول ما عندي شخص بل شخصان إلَاّ أن يدخل عليه ما يختص بالجنس مثل لا النافية للجنس ومثل من في قولك لا شخص عندي أو ما عندي من شخص فهنا يجب إرادة الجنس وإذا كان كذلك فقول القائل

ص: 402

إن الجسم الذي له شخص يلزم أن يكون واحدًا كلام باطل الوجه الرابع أن يقال كونه واحدًا بالعين ليس داخلاً في مسماه في أصل اللغة فاللفظ لا يوجب العدد ولا ينفيه لكن ما زاد على الواحد منفي بالأصل وقد ينفي بالقرينة اللفظية والحالية كقولهم شخص واحد وقولهم جاءني شخص فقال لي كذا وكذا كما تقول ركبت فرسًا والفرس يتناول عنانه فيكون التركيب دليلاً على الوحدة العينية لا مسمى اللفظ وعلى هذا قولهم ما جاءني رجل بل رجلان فإن قوله بل رجلان قرينة لفظية دليل على دخول الوحدة العينية في مسمى رجل الوجه الخامس أن دلالة هذا اللفظ على الوحدة سواء دل بالوضع أو بالقرينة كدلالة سائر الألفاظ التي تشبهه مثل لفظ إنسان وحيوان وفرس وثور وحمار وقائم وقاعد ونحو ذلك فإن كان دلالة هذه الألفاظ على الوحدة تسوغ إطلاق الاسم على الوحدة لزم جواز إطلاق جميع هذه الأسماء

ص: 403

وما أشبهها على كل حقيقة وذات معيَّنة فيسمى كل شيء وكل جوهر أو عرض بكل واحد من هذه الأسماء كما يسميه المنطقيون شخصًا وعلى هذا فيجوز تسمية الله بكل واحد من هذه الأسماء ولا يكون المراد إلا الذات المعينة والحقيقة المخصوصة حتى يقال لا إنسان أو لا فرس أو لا ثور أو لا كذا أغير من كذا يعني الله هذا لازم قولهم وفساد هذا يُغني عن الإطناب وأيضًا فكان هذا التأويل لو كان صحيحًا كان استعماله في لفظ الصورة حتى يقال كل حقيقة عينة تسمى صورة من هذا الجنس وحينئذ فيلزمهم تسمية كل شيء باسم كل شيء إذ كل شيء له وحدة ويلزم ذاته فإذا جاز لجل ذلك أن يجعل اسمه اسمًا لمطلق الواحد حتى يقال لكل ذات معينة وحقيقة مخصوصة ولا يكفي في اللزوم أنهم هم يستعملون ذلك بل يلزم أنه يجوز لكل من سمع كلام غيره أن يحمل ما فيه من الأسماء على هذا كل شيء إذا قام عنده دليل على نفي إرادة المسمى وهذا كله أقبح السفسطة والقرمطة وهو يجمع من الإشراك بالله في جواز تسميته بكل اسم للخلق وجعل

ص: 404

كل شيء له شبيهًا ونظيرًا من الإلحاد في أسمائه وآياته ما لا يحصيه إلَاّ الله إذ هذا من أفسد قياس يكون في اللغة فإنهم كما أفسدوا القياس في المعاني المعقولة حتى قاسوا الله بكل موجود وبكل معدوم كما تقدم بيانه كذلك أفسدوا القياس في الألفاظ المسموعة حتى لزمهم أن يجعلوا كل اسم لمسمى يصلح أن يكون لغيره وأن يسمى الله تعالى بكل اسم من أسماء المخلوقات الوجه السادس أن يقال هب أن لفظ الشخص يلزمه أن يكون واحدًا فهل إطلاق الملزوم على لازمه أمر مطرد أم هو سائغ في بعض الأشياء فإن جعل ذلك مطردًا لزمه من المحال ما يضيق عنه هذا المجال حتى يلزمه أن يسمي كل صفة لازمة للإنسان والفرس والشجرة والسماء والأرض باسم الموصوف بل ويلزمه ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الوجه السابع هب أنه يطلق الملزوم على لازمه فاللازم هو الوحدة كما قلت فإطلاق اسم الشخصية على

ص: 405

الوحدة إطلاق أحد المتلازمين على الآخر وأنت تجعل المسمى هنا الذات المخصوصة والحقيقة المعينة وتلك ليست هي الوحدة بل هي شيء قائم بنفسه متميز عن غيره فإن قيل فقد ذكرتم أن من اصطلاح بعض الناس تسمية كل فرد من أفراد النوع شخصًا قيل نحن ذكرنا وجه ذلك بالاستعمال لما كان لفظ الشخص مقولاً على الإنسان وما يشبهه وقالوا الإنسان نوع تحته أشخاص أي أعيان هي أشخاص ولم يكن مقصودهم نفس الشخصية بل مطلق كونه واحدًا نقلوا ذلك إلى أعم منه كما في نظائره لم يجعل وجهه التلازم المذكور الوجه الثامن أنه يقال هب أن لفظ الشخص في لغة العرب يطلق على كل ذات معينة وحقيقة مخصوصة وهو كل ما كان واحدًا لكن لم قلت إن الحديث محمول عليه مع أنه خلاف الظاهر فإن قلت لأن لفظ الحقيقة أن يكون جسمًا وذلك منتف فعنه جوابان أحدهما أن هذا وارد عليك في كل ما يسمى به الله من السماء والصفات فإن مسماه في اللغة لا يكون إلا جسمًا

ص: 406

أو عرضًا فعليك إذًا أن تتأول جميع الأسماء والصفات وأنت لا تقول بذلك ولا يمكن القول به كما تقدم فإن المتأول لابد أن يفر من شيء إلى شيء فإذا كان المحذور في الثاني كالمحذور في الأول امتنع ذلك فتبين أن التأويل باطل قطعًا الثاني أنا قد قدمنا أن جميع ما يذكر من هذه الأدلة التي تنفي الجسم على اصطلاحهم فإنها أدلة باطلة لا تصلح لمعارضة دليل ظني ولا قطعي الوجه التاسع أن إراد ة المعنى المجازي باللفظ لا يسوغ إلَاّ مع القرينة الصارفة عن معنى اللفظ الحقيقي إلى المجازي ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا وخاطب أبو رزين بهذا ولم يُظهر أحدهما قرينة تنفي ذلك بل سياق الأحاديث يؤيد المعنى الحقيقي الوجه العاشر أن في حديث أبي رزين كيف يا رسول الله

ص: 407

وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض فوصفه بأنه واحد بعد قوله وهو شخص فلو كان لفظ الشخص لم يرد به إلَاّ مجرد كونه واحدًا كما زعم المتأول لكان هذا تكريرًا فصل وأما تأويله للفظ الغيرة فنقول هذا مما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف ربه به ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أحد أغير من الله تعالى من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك

ص: 408

مدح نفسه وفي رواية لمسلم وليس أحد أحب إليه المعذرة من الله ولذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك وعدنا بالجنة

ص: 409

وفي الصحيح عن أسماء أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا شيء أغير من الله عز وجل وفي الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته فلم يصفه صلى الله عليه وسلم بمطلق الغيرة بل بين أنه لا أحد أغير منه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير من المؤمنين وقد قدمنا غير مرة أن الله لا يُساوى في شيء من صفاته وأسمائه بل ما كان من صفات الكمال فهو أكمل فيه وما كان من سلب النقائص فهو أنزه منه إذ لهُ المثل الأعلى سبحانه وتعالى فوصفه بأنه أغير من العباد وأنه لا أغير منه

ص: 410

كوصفه بأنه أرحم الراحمين وأنه أرحم بعبده من الوالدة بولدها وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود والله لله عليك أقدر منك على هذا وكذلك العلم كقوله تعالى هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم 32] وكذلك الكلام كقوله تعالى وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ

ص: 411

حَدِيثًا (87)[المساء 87] اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر 23] وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الكلام كلام الله ووصفه في حديث ابن مسعود والمغيرة بأنه لا أحد أحب إليه المدح من الله وكذلك قوله لا أحد أحب إليه العذر من الله فإن الغيرة هي من باب البغض والغضب وبإزاء ذلك المحبة والرضا فأخبر بغاية كماله في الطرفين حيث وصفه بأنه لا يبغض أحدٌ المحارم كبغضه ولا يحب أحدٌ الممادح كحبه والممادح لا تكون إلا على ما هو حسن يستحق صاحبه الحمد وهو ضد القبيح الذي يغار منه

ص: 412

وكذلك جاء حمده والثناء عليه الذي لا يحبه أحد كحبه إياه في الصلوات التي هي أفضل الأعمال وكان ما يغار منه هو ما حرمه كالفواحش فهذا محبته للمأمورات وهذا بغضه للمحذورات وأحدهما ينافي الآخر كما قال تعالى إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت 45] وقال في ذم من بدل هذا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم 59] والعذر أن يُعذر المعذور فلا يذم ولا يلام على ما فعل قال من أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين فأحب أن يكون معذورًا على عقوبة من عصاه لأنه أقام حجته عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل كما أحب أن يكون محمودًا ممدوحًا على ما أحسن به وأولاه من وعدهم إياهم بالجنة وكما حمد نفسه فالأول عدله وهذا فضله فهذان متعلقان بأفعاله كلها ذكرا في مقابلة ما يبغضه ويغار منه فانتظم الحديث في الطرفين كليهما وأما قوله في تأويل الغيرة معناه الزجر لأن الغيرة

ص: 413

حالة نفسانية مقتضية للزجر والمنع فكني بالسبب عن المسبب ههنا فالكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال لا ريب أن الغيرة تستلزم المنع والزجر مما يغار منه وكذلك الغضب والبغض ونحو ذلك من الصفات كما أن الحب والرضا يتضمن اقتضاء المحبوب المرضي وطلبه والأمر به لكن كون الصفة تستلزم فعلاً من الأفعال أو كون اللفظ يتضمن ذلك لا يقتضي أن يكون الثابت مجرد اللازم دون الملزوم الوجه الثاني أن هذه الصفات كلها والأحوال كالغيرة والغضب والبغض والمقت والسخط والحب والرضا والإرادة وغير ذلك هي مستلزمة لأمور أخرى من أقوال وأفعال فهل تحتمل على تلك اللوازم ويبقى الملازم أم يثبتان جميعًا أم يفرق بين البعض والبعض فإن قيل بالأول لزم ثبوت المراد بالإرادة وأن تكون إرادة الله هي المخلوقات ولزم أيضًا

ص: 414

وجود محبوب مرضي بلا محبة ولا رضا بل يلزم وجود مخلوق بلا خلق وهذا كله مما يقوله الجهمية من المعتزلة ونحوهم فإنهم لا يثبتون خلقًا ولا حبًّا ولا رضًا ولا سخطًا ولا غير ذلك سوى المفعولات التي هي من لوازم هذه الأمور في الشاهد ولهم في الإرادة نزاع كله باطل فإن منهم من نفاها كما نفى سائر هذه الأمور ومنهم من جعلها صفة حادثة بلا إرادة قائمة في غير محل وكلا هذين القولين معلوم الفساد بالضرورة ثم الكلابية والأشعرية ونحوهم من الصفاتية قد يوافقون هؤلاء في بعض الأمور كقولهم الخلق هو المخلوقات وكرد من رد منهم هذه الصفات إلى الإرادة فإن هؤلاء يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما لزمهم فيما ردوه وطرد هذه المقالات التي يثبتون فيها الأثر بدون مؤثره هو ثبوت الوجود بدون الخالق له وذلك

ص: 415

تعطيل الصانع وهذا هو في الحقيقة قول جهم وإن كان متناقضًا في ذلك يجمع في مقالاته بين ما يقتضي ثبوته وما يقتضي عدمه فالمقصود هنا مقالته السالبة التي خالف فيها أهل الإسلام فإن مضمونها تعطيل الصانع تعالى ولهذا تجد كل شيء من فروع هذه المقالة متى قسته وطردته استلزم عدم الصانع أو التناقض بالجمع بين الإثبات والنفي في الشيء الواحد أو نفي الإيجاب والامتناع في المتماثلين وإلَاّ فما من شيء يقرون به إلَاّ لزمهم فيه نظير ما أنكروه فيما نفوه الوجه الثالث قوله الغيرة حالة نفسانية قيل له وجميع الصفات هي لنا أحوال نفسانية كالحب والبغض والرضا والغضب وكالإرادة فإنها أيضًا حالة نفسانية وهي مقتضية للزجر تارة وللطلب أخرى لا فرق أصلاً بين بينهما في الشاهد الوجه الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أتعجبون من غيرة سعد

ص: 416

والله لأنا أغير منه والله أغير مني وهذا ترتيب للغيرة ثلاث مراتب وجعل كل غيرة أقوى من الأخرى فلو كان قوله والله أغير منى ليس المراد منه الغيرة بل مجرد المنع وقوله أنا أغير منه يراد به العزة لكان هذا شاذًّا في الكلام وهو أيضًا تلبيس على المخاطب بلا قرينة تبين المراد الوجه الخامس أن تأويله ذلك بالزجر والمنع يقال له الزجر والمنع إما أن تفسره بالكلام أو بغير ذلك من نحوه وعلى كل حال فيقال لك زجر الله ومنعه الذي هو كلامه مثلاً هو من جنس زجرنا ومنعنا وكلامنا أم ليس كذلك فبأي شيء قال في ذلك لزمه مثله في الغيرة فإنه إذا ثبت له زجرًا ومنعًا ولنا زجر ومنع ولم يكن ذلك ممتنعًا فهلا أثبت له غيرة ولنا غيرة ولا يكون ذلك ممتنعًا مع أنه مقتضى النص وكل ما ذكره من ذلك من مشابهة ومخالفة يقال في الآخر مثله لا فرق بينهما أصلاً الوجه السادس أن الزجر والمنع الذي هو الكلام إما أن تفسره بمجرد اللفظ أو بمجرد المعنى أو بمجموعهما

ص: 417

وإذا فسرته بمجرد اللفظ فلابد من إثبات معنى يكون معنى الفظ وإلَاّ فاللفظ بلا معنى هذيان وإن كان هناك معنى هو مدلول لفظ الزجر والمنع فذاك المعنى لابد أن يكون من جنس البغض والكراهة ونحو ذلك فإن لفظ الزجر إن لم يتضمن ذلك لم يعقل منه النهي بحال وإذا كان كذلك فهذا الذي هو مدلول لفظ الزجر مستلزم لمعنى الغيرة الذي هو البغض والمقت والكراهة لما يغار منه فيكون المسبب الذي أوَّل به لفظ الغيرة مستلزمًا للسبب بحيث يمتنع وجوده بدونه وإذا لزم من نفي الغيرة إثباتها علم أن نفيها محال الوجه السابع أنه قال لا أحد أغير من الله وقال الله أغير مني وصيغة أفعل التفضيل توجب الاشتراك في معنى اللفظ مع رجحان المفضل أو اختصاص المفضل بمعنى اللفظ ولا يجوز اختصاص المفضول بمعنى اللفظ وهذا يوجب أن يكون الله موصوفًا بالغيرة على كل تقدير ثم يقال التفضيل بصيغة أفعل ليس في مجرد اللفظ ولا يجوز أن يكون للفظ معنيان واللفظ يقال عليهما بالاشتراك اللفظي

ص: 418

أو بالحقيقة والمجاز بل يجب أن يكون اللفظ دالاًّ عليهما بالتواطؤ أو التشكيك الذي هو نوع من المتواطئ فلا يقال هذا أجسم من هذا ويكون المراد بهما كثافة أحدهما وكبر قدر الآخر بل يكون اللفظ دالاًّ على المعنيين بالتواطؤ الوجه الثامن أنه قال لا أحد أغير من الله كما قال لا أحد أحب إليه المدح من الله ولا أحد أحب إليه العذر من

ص: 419

الله فلفظ أغير كلفظ أحب كلاهما في هذه الأحاديث وما يقال في الغيرة يقال في المحبة ما هو مثله أو أعظم منه فإن المحبة المشهودة في الآدميين كالعشق ونحوه أعظم من كثير من الغيرة فلا يجوز والحال هذه تأويل الغيرة دون المحبة والمحبة ثابتة بالقرآن في غير موضع وبالأحاديث المتواترة وسنتكلم إن شاء الله على تأويلها الوجه التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث أبي هريرة الصحيح إن الله تعالى يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه فأخبر بذلك خبرًا مبتدأ مجردًا ولم يقيد ذلك بما يخالف إطلاقه فلو كان المراد بذلك خلاف مدلوله لم يجز وكذلك قوله لا أحد أغير من الله الوجه العاشر أنه لو كان المراد بقوله إن الله يغار أن الله يزجر ويمنع لم يكن في التعبير عن هذا المعنى بهذا اللفظ والإخبار به فائدة ل كان إلى التلبيس أقرب منه إلى البيان لأن كل مسلم يعلم أن الله ينهى ويزجر ويحرم فلو لم يكن لقوله إن الله يغار معنى إلا أنه ينهى ويزجر كان قد عرفهم

ص: 420

بالأمر الواضح الجلي الذي يعلمونه بلفظ مشكل فيه تلبيس عليهم وهذا لا يفعله إلَاّ من يكون من اجهل الناس وأظلمهم ولا ينسب هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَاّ منافق زنديق أو من يكون عظيم الجهل لا يدري لوازم قوله الوجه الحادي عشر أنه قال ما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وفي اللفظ الآخر من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهذا نص صريح في إثبات السبب الذي هو الغيرة والمسبب الذي هو المنع والزجر وأنه من أجل غيرته التي هي السبب كان هذا المسبب الذي هو التحريم فجعل معنى الغيرة هو معنى التحريم الذي هو المنع والزجر تكذيب صريح للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الحقيقة قول الجهمية لكن منهم من يعلم بذلك فيكون منافقًا ومنهم جُهال لا يعلمون أنهم مكذبون له الوجه الثاني عشر أنه قال لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ومن اجل ذلك وعد الله بالجنة ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين

ص: 421

والمبشرين كما قال ولا أحد أغير من الله ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فجعل محبته للعذر سببًا لإرسال النذر ومحبته للمدح سببًا لمدح نفسه ولوعده عباده بالجنة وهذا يقرر أن المحبة والغيرة هي السبب في الأقوال المذكورة ليست هي نفس الأقوال التي هي الوعد والإرسال والمدح والنهي

ص: 422

فصل قال الرازي الفصل الثالث في لفظة النفس احتجوا على إطلاق هذا اللفظ بالقرآن والأخبار أما القرآن فقوله تعالى في حق موسى عليه السلام وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)[طه 41] وقال حاكيًا عن عيسى عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة 116] وقال تعالى في صفة أهل الثواب كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام 54] وقال تعالى في تخويف العصاة وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28-30] وأما الأخبار فكثيرة الخبر الأول ما روى أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه

ص: 423

والخبر الثاني قوله صلى الله عليه وسلم سبحان الله بحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه الخبر الثالث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو عنده إن رحمتي سبقت غضبي قال واعلم أن النفس جاء في اللغة على وجوه أحدها البدن قال الله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] ويقول القائل كيف أنت في نفسك أي كيف أنت في بدنك وثانيها الدم يقال هذا حيوان له نفس سائلة أي دم سائل ويقال للمرأة عند الولادة إنها نفست بخروج الدم منها عقيب الولادة وثالثها الروح قال الله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ

ص: 424

مَوْتِهَا [الزمر 42] ورابعها العقل قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام 60] وذلك لأن الأحوال بأسرها باقية حالة النوم إلا العقل فإنه هو الذي يختلف الحال فيه عند النوم واليقظة وخامسها ذات الشيء وعينه وقد قال تعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)[البقرة 9] فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة 54] وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود 101] إذا عرفت هذا فنقول لفظ النفس في حق الله تعالى ليس إلَاّ الذات والحقيقة فقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي كالتأكيد الدال على مزيد المبالغة فإن الإنسان إذا قال جعلت هذه الدار لنفسي وعمرتها لنفسي فهم منه المبالغة وقوله تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة 116]

ص: 425

المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وكذلك القول في بقية الآيات وأما قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن رب العزة فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي فالمراد أنه إن ذكرني بحيث لا يطلع عليه أحد غيره ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطلع عليه أحد من عبيدي لأن الذكر في النفس عبارة عن الكلام الخفي والذكر الكامن في النفس وذلك على الله تعالى محال وأما قوله سبحان الله زنة عرشه ورضاء نفسه فالمراد ما يرتضيه الله لنفسه ولذاته أي تسبيحًا يليق به وأما قوله صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا على نفسه فالمراد به كتب كتابًا وأوجب العمل به والمراد من قوله على نفسه التأكيد والمبالغة في الوجوب واللزوم فثبت أن المراد بالنفس في هذه المواضع هو الذات وأن الغرض من ذكر هذا اللفظ المبالغة والتأكيد

ص: 426