الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخر
فصل قال الرازي احتجوا بالآيات والأخبار والمعقول
أما الآيات فكثيرة وقد ذكر منها أربع عشرة آية أحدها قوله تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)[محمد 24] أمر الناس بالتدبر في القرآن ولو كان القرآن غير مفهوم فكيف يأمرنا بالتدبر فيه الثاني قوله تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)[النساء 82] فكيف يأمرنا بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع
أنه غير مفهوم للخلق الثالث قوله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)[الشعراء 192-195] ولو لم يكن مفهوماً فكيف يمكن أن يكون الرسول منذراً به وأيضاً قوله بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)[الشعراء 195] يدل على أنه نازل بلغة العرب وإذا كان كذلك وجب أن يكون معلوماً الرابع قوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 83] والاستنباط منه لا يكون إلا بعد الإحاطة بمعناه قلت هذا الـ مذكور في قوله تعالى وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء 83] ليس المراد به القرآن
الخامس قوله تعالى تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل 89] ونظيرهما وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف 111] وأما قوله تعالى مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام 38] فهو بعد قوله تعالى وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)[الأنعام 38] ولهذا قال أكثر العلماء إن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ وهذا الكلام يقتضي أنه بين لا يقتضي أن كل ما فيه مفهوم فقد يقال إن فيه هذا وفيه هذا لكل يقال لما قصد به بيان كل شيء فبيانه نفسه وفهم معناه مقدم على غيره
قال السادس قوله تعالى هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)[البقرة 2] وما لا يكون معلوماً لا يكون هديّ السابع قوله تعالى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ [القمر 5] وقوله تعالى وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)[يونس 57] وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم الثامن قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)[المائدة 15] ولا يكون مبينا إلا أن يكون معلوماً التاسع قوله تعالى أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)[العنكبوت 51] فكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم العاشر قوله تعالى هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ [إبراهيم 52] فكيف يكون بلاغاً وكيف يقع الإنذار به وهو غير معلوم وقوله في آخر الآية وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
[إبراهيم 52] وإنما يكون كذلك أن لو كان معلوماً الحادي عشر قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)[النساء 174] فكيف يكون برهاناً ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم الثاني عشر قوله تعالى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)[طه 123-124] فكيف يمكن اتباعه تارة والإعراض عنه أخرى مع أنه غير معلوم الثالث عشر قوله تعالى إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)[الإسراء 9] فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم للبشر الرابع عشر قوله تعالى آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [البقرة 285] والطاعة لا تكون إلا بعد العلم فوجب كون القرآن مفهوماً قلت وفي القرآن مواضع أخرى تدل على هذا المعنى
الأول مثل قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)[النحل 44] فإنه يدل على أنه يبين للناس جميع ما نُزّل إليهم فيكون جميع المنزل مبيناً عنه يمكن معرفته وفهمه وقوله تعالى وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)[النحل 44] يدل على ذلك فإن التفكر طريق إلى العلم ما لا يمكن العلم به لايؤمر بالتفكير فيه الثاني قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق 10-11] وما لا يفهم ولا يعلم معناه لا يخرج أحداً من ظلمة إلى نور ومثله قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)[الحديد 9] الثالث قوله تعالى الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)[إبراهيم 1] فأخبر أنه أنزل إليه الكتاب لهذا الإخراج
والإخراج من الظلمات إلى النور لا يكون إلا بما يفهم ويعلم معناه وما لا يفهم لا يحصل به خروج من الظلمة إلى النور الرابع قوله تعالى يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون 68] وإنما يمكن تدبر القول إذا أمكن معرفته وفهمه الخامس قوله تعالى الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)[يوسف 1-2] وإنما يكون مبيناً سواء أريد مبيناً في نفسه أو أنه مبين لغيره إذا كان مما يمكن معرفته وفهمه ومعرفة معناه السادس قوله تعالى وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)[الأعراف 203] السابع قوله تعالى هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)[الأعراف 203] وقوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام 104] والبصائر جمع بصيرة بمعنى الحجج
والبرهان والبيان واحدتها بصيرة وقال الزجاج معنى البصائر ظهور الشيء وبيانه وقال الجوهري البصيرة الحجة والاستبصار في الشيء قوله تعالى بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)[القيامة 14] ولا حجة ولا برهان ولا بيان ولا ظاهر إلا إذا أمكن فهم معرفته وما لا يمكن أحداً من الخلق فهمه يمتنع أن يكون كذلك الثامن قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)[يونس 42] وقوله تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة 171] وقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)[محمد 16] وقوله تعالى وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)[الأنفال 21] وهذا كله ذم لمن سمع الكلام ولم يفهم معناه ولم يفهمه وإنما يستحق الذم إذا كان الكلام مما يمكن فهمه وفقهه وما لا يكون كذلك لم يستحق به الذم التاسع قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر 23] وقوله تعالى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف 3] وإنما يكون أحسن الحديث وأحسن القصص إذا كان مما يفقه ويعقل وما كان يمتنع فهم معناه كان ما يفهم ويعلم أحسن وأنفع منه العاشر قوله تعالى وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)[القمر 17] في غير موضع قال بعض السلف هل من طالب علم فيعان عليه
وإنما يكون متيسراً للذكر إذا أمكن فهمه ليذكر معناه ويذكّر الناس بما ذُكّر به وما لا يفقه من الكلام ولا يمكن فقهه لا يمكن أن يتذكر به أحد وليس مذكراً فضلاً عن أن يكون متيسراً للذكر الحادي عشر قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم 4] فجعل الرسول بلسان قومه ليبين لهم ما أرسل به ومعلوم أنه لو خاطبهم بلسان آخر وترجمه لهم لحصل المقصود فـ ـكان ذلك أتم في النعمة فكيف يخاطبهم بكلام لا هو يفهم معناه ولا هم يفهمونه ولا يمكن أحداً فهمه وهل الإرسال بمثل هذا إلا من أعظم المعائب التي يجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً عنها فإنها لا تليق بآحاد الناس سبحانه وتعالى الثاني عشر قوله تعالى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)[النحل 35] وقوله تعالى وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)[النور 54] ومعلوم أن البلاغ المبين لا يحصل بكلام لا يمكن أحداً فهمه بل لا يمكن فهمه للرسول ولا للمرسل إليه تعالى الله عن مثل ذلك الثالث عشر قوله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ [البقرة 213] ومعلوم أن حكم الله بالكتاب أو حكم الكتاب بين المختلفين لا يمكن إلا إذا عرفوا ما حكم به من الكتاب وما تضمنه الكتاب من الحكم وذلك إنما يمكن إذا كان مما يمكن فهم معناه وتصور المراد به دون ما يمتنع ذلك منه الرابع عشر قوله تعالى تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل 63-64] وبيان ذلك بالكتاب إنما يكون إذا كان فهم الكتاب ممكناً فأما إذا تعذر فهمه فيمتنع أن يحصل به بيان ما اختلف فيه الناس الخامس عشر قوله تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)[آل عمران 101] ومعلوم أن تلاوة آيات الله إنما
تكون مانعة من الكفر إذا تبين بها الإيمان من الكفر والحق من الباطل وهذا إنما يكون بالكلام إذا كان مما يمكن فهمه ومعرفته دون ما يتعذر ذلك فيه السادس عشر قوله تعالى المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف 1-3] وقوله تعالى اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام 106] ومعلوم أن اتباع ما أمرهم الله تعالى من الكتاب والحكمة إنما يمكن بعد فهمه وتصور معناه وما كان من الكلام لا يمكن أحداً فهمه لم يمكن اتباعه بل كان الذي يسمعه كالذي لا يسمع إلا دعاء ونداء وإنما الاتباع لمعاني الكلام السابع عشر قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت 44] قال المفسرون لو جعله قرآنا أعجميًّا لأنكروا ذلك وقالوا هلا بينت آياته بلغة العرب لنفهمه أقرآن عجمي ورسول عربي فقد بيّن سبحانه وتعالى أنه لو جعله أعجميًّا لأنكروه فجعله عربيًّا ليفهم معناه وليندفع مثل هذا القول ومعلوم أنه لو كان أعجميًّا لأمكنهم التوصل إلى فهمه بأن يترجم لهم مترجم إما أن يسمعه من الرسول ويترجمه أو يحفظوه هم أعجميًّا ثم يترجمه لهم كما أن من العجم من يحفظ القرآن عربيًّا ولا يفهم ويترجم له وأما إذا كان عربيًّا لا يمكن أحداً أن يفهمهم إلا الرسول
ولا المرسل إليهم فإنكار هذا أعظم من إنكار كونه أعجميًّا وإذا كان الله تعالى قد بين أنه لا يفعل الأول فهم أن لا يفعل هذا أولى وأحرى الثامن عشر قوله تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)[ص 29] ومعلوم أن تدبر آياته وتذكر أولي الألباب إنما يكون مع إمكان فهمه ومعرفة معناه وأما بدون ذلك فهو متعذر التاسع عشر أن القرآن آيات والآية هي العلامة والدلالة وإنما تكون علامة ودلالة إذا دلت على شيء وأعلمت به وما كان دليلاً ومعلماً وعلامة فإنه يمكن أن يستدل به ويستعلم به ما دل عليه وما لم يمكن ذلك فليس بدلالة ولا كلام فما لا يمكن أن يفهم منه معنى ولا يستدل به عليه فليس في آيات الله ولا يكون في كلامه الذي أنزله العشرون قوله تعالى قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة 15-16] وإنما يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام إذا فهموه وما لم يفهم من الكلام لا يهدى به إلى شيء لاسيما إذا كان لا يفهمه أحد الحادي والعشرون قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)[الشورى 52-53] ومعلوم أن الروح الذي أوحاه من الكتاب والإيمان ما يهتدي به من يهتدي من عباده إلا إذا علموا ذلك فإذا كان الكتاب لا يفهم لم يهتد أحد بكلام ولا يفهمه أحد وكذلك قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)[الشورى 52] فإن هدايته إلى ذلك بالكلام الذي سمع منه فإذا كان ما يبلغه هو من الكتاب والسنة لا يفهمه لا هو ولا غيره ولا سبيل لأحد إلى فهمه لم يمكن أن يهدي به أحداً إلى صراط مستقيم الثاني والعشرون قوله تعالى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ
لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)[هود 1] وما لا يمكن فهمه لم يحكم ولم يفصل الثالث والعشرون قوله تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)[يونس 1] وقال تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)[النمل 1] وقال تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)[الحجر 1] وقال تعالى الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)[لقمان 1-2] وقال تعالى ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)[آل عمران 58] والحكيم فعيل سواء كان بمعنى الفاعل وهو الحاكم أو بمعنى المفعول وهو المحكم فلا يكون حاكما ولا محكماً إلا إذا كان له معنى يمكن فهمه ومعرفته وإلا فاللفظ الذي لا يمكن أحداً فهم معناه ليس بمحكم ولا حاكم ولا محكّم الرابع والعشرون قوله تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران 61] والذي جاءه هو القرآن وإنما يكون علماً إذا كان متضمناً للعلم فيعلم به ما بين فيه واللفظ الذي لا يمكن أحداً فهم معناه ليس بعلم ولا يدل على علم
وليس من العلم بسبيل وإذا كان لا يعلم معناه إلا أنه كامن من علمه الذي استأثر به لم يكن علماً لغيره ولم يكن قد جاء غيره علماً ولا علم أحد به علما الخامس والعشرون قوله تعالى لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء 166] بين أنه أنزل القرآن بعلمه أي متضمناً لعلم فيه يراد فيه علم ليس المراد بذلك وهو يعلم فإن كل الموجودات يعلمها والمقصود مدح القرآن وبيان اشتماله على علم الله تعالى وإذا كان كذلك دل على أن ما فيه من العلم لم يستأثر الله تعالى به بل أنزله إلى عباده وعلمهم إياه وهو من علمه الذي قال فيه وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة 255] وهذا لا يكون إلا إذا أمكن فهم معناه وإلا فاللفظ الذي لا يمكن فهم معناه لا علم فيه لأحد ومثل هذا قوله تعالى فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [هود 14] السادس والعشرون قوله تعالى وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)[طه 133] أي بيان ما في الصحف الأولى وإنما يكون بياناً لما في الصحف إذ بين ذلك ودلّ عليه وعرّف به وهذا إنما يكون بالكلام الذي
يمكن فهمه ومعرفته ومعرفة معناه وما كان ذلك ممتنعاً فيه لم تكن فيه بينة ولا بيان ولا للصحف ولا لغيرها ومثل هذه الأدلة في القرآن كثيرة يطول تتبعها وهذه أربعون وجهاً منها وعند التأمل هي أكثر من ذلك والوجه الواحد يتضمن وجهاً أو وجوهاً والآيات المتماثلة جعلت وجها وكل منها دليل مستقل فتكون الدلائل المذكورة أكثر من مائة دليل وما لم يذكر كثيراً أيضاً
فصل قال الرازي أما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي وكيف يمكن
التمسك به وهو غير معلوم
قلت لفظ الحديث في صحيح مسلم عن جابر أنه قال في خطبة يوم عرفة وإني قد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله لم يذكر فيه لا عترتي ولا سنتي وكذلك في صحيح البخاري عن ابن أبي أوفى قيل له هل وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا فقيل له كيف لم يوص وقد كتب على الناس الوصية قال وصى بكتاب الله وكذلك في صحيح البخاري أن عمر خطب الناس من الغد من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم فاعتصموا به تهتدوا بما
هدى الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأما السنة فالقرآن قد أوصى باتباعها في غير موضع يذكر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في نحو من أربعين موضعاً وذكر إنزال الحكمة في القرآن في خمسة مواضع والذي نزل مع القرآن
هو السنة وأما لفظ العترة ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدي يدعى خمًّا بين مكة والمدينة وقال إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وحض عليه وقال عترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ففيه أنه أمر باتباع القرآن وأنه وصى الأمة بأهل بيته وأما قوله ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده كتاب الله وعترتي فقد رواه الترمذي وضعفه أحمد
وغيره وقوله كتاب الله وروي في حديث ضعيف قال وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله تعالى ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن دعا إليه بعدي دعا إلى هدى وإلى صراط مستقيم
قلت وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره ورواه أبو نعيم من طرق وفيه ولا تلتبس به الألسن وليس في رواية الترمذي ومن خاصم به فلج
فصل قال وأما المعقول فمن وجوه الأول أنه لو ورد في القرآن ما لا سبيل لنا إلى العلم به لكانت المخاطبة تجري مجرى مخاطبة العربي بالزنجية وهو غير جائز قلت بل هو أقبح من ذلك لأن العربي أو غيره إذا خوطب بغير لسانه أمكن أن يترجم له ذلك الخطاب بلسانه فيتوصل إلى فهم معناه وأما إذا خوطب بلسانه بكلام لا سبيل لأحد إلى فهم معناه فهذا أقبح من مخاطبة العربي بالعجمية قال الوجه الثاني أن المقصود من الكلام للإفهام ولو لم يكن مفهوماً لكان عبثاً قلت بل هذا أقبح من العبث فإن الإنسان قد يعبث بأفعال يستريح بها ويلهو بها وأما خطاب الناس بكلام لا سبيل لأحد إلى معرفة معناه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء ألبتة بل هو مثل
مستقبح باتفاق العقلاء والله تعالى وراء تنزيهه عن مثل ذلك ولكن هذا الوجه والذي قبله لا يصح من مثل هذا الرازي الاحتجاج بمثلها فإنه وأصحابه ينصرون قول الجهمية المجبرة الذين لا ينزهون الرب عن فعل ممكن بل يجوزون عليه فعل كل مقدور ومن المقدور أن يخلق أصواتا مؤلفة من جنس الكلام ولا يكون لها معنى أو يكون لها معنى لا يعلمه غيره والرازي ذكر في محصوله مسألة الأحكام أن يتكلم الله بشيء ولا يعني به شيئا خلافاً للحشوية ثم احتج بأن ذلك عبث والله تعالى منزه عن ذلك وهذا النقل والاستدلال ضعيفان فإنا لا نعلم أحداً من الطوائف قال إن الله تعالى يجوز أن يتكلم بكلام لا يعني به شيئاً وإنما قال من قال إنه
لا يفهم الناس معناه وإن كان قد عنى به هو معنى فهذا القول الذي حكاه عن الحشوية لا يعرف به قائل معين يحكى عنه وسواء عرف أو لم يعرف فالحجة التي ذكرها ضعيفة على أصله فإن النزاع إنما هو في الكلام المؤلف من الحروف وهذا عنده مخلوق وهو يجوز أن يخلق كل شيء لا لحكمة وإن كان هذا مما يعده العقلاء عبثاً فعنده لا ينزه مثل ذلك فكانت الحجة ضعيفة على أصله ولكن العبث على الله ممتنع وأصله المنفي لذلك باطل كما قد بسط في موضعه
فصل قال الرازي الوجه الثالث أن التحدي وقع بالقرآن وما لم يكن معلوماً لا يجوز التحدي به قال فهذا مجموع كلام المتكلمين وبالله التوفيق فيقال هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه بل معرفة معناه ممتنع فهي أيضاً دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها فهي حجة على فساد قول الطائفتين وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أن يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن ولم يدل عليه القرآن ودلالة الخطاب المعروفة لا تفيد اليقين وهو كون الرب ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يحجب
العباد عنه شيء ولا عنده شيء دون شيء بل جميع الأشياء سواء ولا يحتجب عنهم بشيء وأنواع ذلك فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك ولا بينه بل إنما دل على نقيضه وهو إثبات الصفات وأنها تدل على أنه يقرب من غيره ويدنو إليهم ويقرب العبد منه ويدنو إليه وعلى أنه عال على جميع الأشياء فوقها وأنه ينزل منه كلامه وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه وأمثال ذلك وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر وغيرهم يقول بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول وسيأتي كلامهم في حكمة إنزال هذه الآيات وقد ذكر فيها خمسة وجوه الأول تضعيف الوصول إلى الحق ليعظم الأجر ومعلوم
أن هذا يناقض كونه بياناً وشفاءً وهدى وكونه قد جعله عربيًّا ليعقل ويسره للذكر وغير ذلك مما وصف به في كونه سهلاً لمعرفة الحق وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونحو ذلك والثالث أنه إذا لم يمكن بيان المقصود افتقر الناس إلى
الأدلة العقلية فيعرف الحق بالعقل ومعلوم أن هذا يناقض ما وصف به ثم إنه على هذا التقدير الذي يدعيه هؤلاء كان أن لا ينزل القرآن ولا يرسل الرسول أصلح للخلق فإن الهدى إنما حصل لهم بعقل لم يحتاجوا فيه إلى الكتاب والرسول لكن الكتاب والرسول عندهم عارض هذا العقل ولهذا قالوا يقدم العقل وما جاء به الرسول إما أن يعرض عنه وإما أن يوضع له محامل يحمل عليها وعلى التقدير فالكتاب والرسول ما حصل بهما بيان وهدى وعلم بل كان عندهم سبباً لضد ذلك وإنما حصل العلم بأصول الدين والتوحيد عندهم معقول يخالف ما جاء به الرسول لم يدل الرسول عليه ولا أرشد إليه وهذا في غاية المناقضة لما احتجوا به من هذه الآيات وكذلك الوجه الرابع وهو أن التأويل يفتقر إلى تحصيل علوم كثيرة والهدى ما حصل بالقرآن لكن بهذه العلوم وضعت له محامل لئلا يضل به الناس وهؤلاء لا يقصدون بتأويل الكلام المتكلم معرفة مراده بل يقصدون بيان ما يحمله اللفظ كيف أمكن ليحمل عليه وإن
لم يعلم ولا يظن أنه أراده بل قد يعلم قطعاً أنه لم يرده ولهذا قالوا إذا اختلف الصحابة على قولين جاز لمن بعدهم إحداث تأويل ثالث بخلاف الأحكام فإنهم لا يجوزون إذا اختلفوا على قولين إحداث ثالث لأن اتفاق الأمة على قولين إجماع على فساد ما عداهما وهذا بعينه وارد في التأويل فإنه إذا قالت طائفة معنى الآية المراد كذا وقالت طائفة معناها كذا فمن قال معناها ليس واحدا منهما بل أمر ثالث فقد خالف إجماعهم وقال إن الطائفتين مخطئون فإن قيل هؤلاء لا يقولون أريد بل يقولون يجوز أن يكون المراد قيل كلام الصحابة لم يكن بالاحتمال والتجويز وبتقدير أن يكون كذلك فالاحتمالات إن كان أحدهما مراداً فلم يجمع على ضلال وإن كان المراد هو الاحتمال الثالث المحدث بعدهم فلم يكن فيهما من عرف مراد الله تعالى بل الطائفتان جوزت أن تريد غير ما أراد الله تعالى وما أراده لم يجوزه وهذا من أعظم الضلال وأما الخامس الذي جعل السبب الأقوى وهو
مخاطبتهم بالتخيل فهو قول الملاحدة كما قد بسط في مواضع إذ المقصود هنا أن ما احتج به المتكلمون النفاة على أن القرآن قد بين الحق وهدى الخلق وأنه ليس فيه ما لا يفهم وهو حجة عليهم فإنه على قولهم لا بين الحق ولا هدى الخلق ولا سيما تأويلاتهم لم تدل عليه ألبتة بل دل على نقيضها كما قد بين وبتقدير أن يقال دل عليها بطريق التأويل فالحق إنما عرف بالمعقول الذي ذكره لا معقول دل عليه القرآن وهذا هو الذي أوجب صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى خلافه عندهم فلم يكن في القرآن دلالة على هذا المعنى بل دل على نقيض الحق عندهم لكن قدمت دلالة العقل على دلالته وأولئك الذين قالوا إن فيه ما لا سبيل لأحد إلى فهمه بل هم أيضا منعوا دلالته على الحق وهدايته للخلق وزعموا أن الرسول لم يكن يعرف ما يقرؤه ويبلغه وعلى قولهم فأحاديث الصفات التي قالها كان يقولها وهو لا يدري
معنى ما يقول فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وعلى الوجه الخامس الأقوى كان يقول ذلك ليفهم منه معنى وهو يعلم أن ذلك المعنى باطل فقصد بالخلق أن يفهموا الباطل الذي هو نقيض الحق وأخبر بالحقائق على خلاف ما هي عليه وحقيقة ذلك أنه كذب كذباً يعلم أنه كذب ليعتقد الناس ذلك الكذب والاعتقاد الباطل فينتفعوا به وعلى قول المجهلة الذين يقولون لم يكن يعرف معنى ما يقول ويذكره من آيات الصفات وأحاديثها فكلامه عندهم يجب أن لا خير من خطابهم بذلك لأنه على التقديرين لم يفهمهم حقًّا ولا خاطبهم بما يعلم به حق ولكن إذا كان الكلام أعجميًّا لا يترجم لهم لم يضلوا به كما لم يهتدوا به وأما إذا كان عربيًّا وظاهره الباطل على زعم هؤلاء فإن الناس يفهمون ظاهره فيضلون به فلم يكتفوا به فهو على زعمهم من كونه هو لم يكن يفهم معناه فبخطاب الناس به فهموا منه ما هو كفر وضلال لاسيما ولم ينقل أحد عنه أنه نهى الناس عن اعتقاد
ظاهره وما دل عليه ولا نبههم على دليل عقلي يعرفون به الحق فعلى زعمهم لم يبين الحق لا بديل سمعي ولا بدليل عقلي ولوازم أقوال هؤلاء التي تبين بطلان قولهم كثيرة وكما أن قولهم يستلزم الكفر بالكتاب والرسول وما دل عليه من الأدلة العقلية وما أخبر به من الأدلة السمعية فهو أيضاً في غاية الفساد والبطلان من جهة العقل وهم أنفسهم معترفون في غير موضع بفساد أقوالهم النافية وتناقضها وقد ذكرنا من أقوال الرازي وغيره من ذلك ما تبين به ذلك فهم يشهدون أن عقلياتهم التي عارضوا بها الرسول باطلة والسلف والخلف يشهدون بأن الكلام الذي عارضوا به الكتاب والسنة باطل وأن هؤلاء لم يعرفوا الله وهي عند التأمل والنظر التام فيها تبيين بطلانها وأن القوم ليس عندهم على ما قالوه من النفي لا دليل عقلي ولا سمعي بل هم من جنس أعداء الرسل الذين قالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)[الملك 10] ومن جنس الذين قال فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)[الحج 46]
ومن جنس من قيل فيه أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)[الفرقان 44] وبسط هذا له موضع آخر ولكن المقصود هنا التنبيه على أن هذه الأدلة التي احتج بها المتكلمون أدلة صحيحة ولا ريب في صحتها وهي تدل على فساد قولهم وقل الآخرين من وجوه كثيرة
فصل قال الرازي واحتج مخالفوهم بالآية والخبر والمعقول أما الآية فمن وجهين الأول قوله تعالى في صفة المتشابهات وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] والوقف ههنا لازم وسيأتي دليله إن شاء الله تعالى والثاني الحروف المقطعة المذكورة في أوائل السور وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان منها ما نعرف وجه الحكمة فيه على الجملة بعقولنا كالصلاة والزكاة والصيام فإن الصلاة تواضع وتضرع للخالق والزكاة إحسان إلى المحتاجين والصوم قهر النفس ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كأفعال الحج فإنا لا نعرف وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الحكيم تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن بالنوع الثاني
لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرفه بعقله من وجه المصلحة فيه وأما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم فإنه لما لم يعرف فيه وجه المصلحة ألبتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم فإذا كان الأمر كذلك كان في الأفعال فلم لا يجوز أن الأمر كذلك في الأقوال وهو أن القرآن الذي أنزله الله تعالى علينا وأمرنا به وبتعظيمه وقراءته ينقسم إلى قسمين منه ما يعرف معناه
ونحيط بفحواه ومنه ما لا نعرف معناه ألبتة ويكون المقصود من إنزاله والتكليف بقراءته وتعظيمه ظهور كمال العبودية والانقياد لأوامر الله تعالى بل هاهنا فائدة أخرى وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط له سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود مع جزمه بأن المتكلم بذلك الكلام أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبداً ومتفكراً فيه أبداً ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يقال إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له فيتعبد الله تعالى بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة قال فهذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب
وبالله التوفيق قلت ذكر القولين ولم يرجح أحدهما ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل وقد ذكر حجة كل قوم ولم يذكر لهم جواباً عن حجة الآخرين فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة عنده وأما في تفسيره فرجح المعنى في التأويل كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه وكما رجحه أبو حامد في آخر أقواله قال في تفسيره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح هو المراد أبداً لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون ترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل
على تأويل وذلك الترجيح لا يكون إلا بالدلالة اللفظية وأنها ظنية كما بينا لاسيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر ومثل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال قال فلهذا التحقيق ذهبنا إلى أن بعد إقامة الدلالة العقلية على أن حمل اللفظ على ظاهره محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل قال فهذا منتهى ما جعلنا في هذا الباب قلت وسبب هذه الحيرة والتوقف أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والذي حكاه عن السلف
قول باطل والقول الذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين كما سيأتي الكلام عليه وأما هنا فإنما ذكر النزاع في جواز اشتمال القرآن على ما لا يمكن علمه وقد بينا أن هذا يراد به اشتماله على لفظ لا يمكن أحداً معرفة معناه بل يكون كاللفظ العجمي عند العرب والصواب أن هذا لا يجوز ولا يعرف عن أحد من السلف تجويز هذا وإنما قال كثير منهم إن الوقف على قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ولكن لم يريدوا هذا المعنى كما سنذكره إن شاء الله تعالى ويراد به أنه لا يمكن بعض الناس فهمه وهذا موجود فما كل أحد يمكنه العلم بكل ما يمكن غيره العلم به لا من معاني القرآن ولا من الحديث ولا من الفقه ولا من العربية ولا الطب ولا الحساب ولا سائر علوم بني آدم ويراد به أن لبعضه تأويلاً يؤول إليه لا يعرف الحقيقة ذلك التأويل إلا الله عز وجل والصواب أنه كذلك ولم ينازع أحد من السلف في مثل ذلك أيضاً كما سنبينه في لفظ التأويل
وإذا كان كذلك فما ذكره من الوجوه تدل على المعنى الأول وأنه لابد لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكن فهمه ولكن أصحاب التأويلات الفاسدة والتفسيرات المحرفة يدّعون أن ذلك المعنى هو معنى الآية وهم في ذلك مخطئون وإذا كان كذلك فالجواب عما ذكره من حجتين من حجج من جوز ذلاك أن يقال أما قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فهذه الآية فيها قراءتان وقولان مشهوران ونحن نسلم قراءة من قرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عنى به المتكلم وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطِب إفهام المخاطَب إياه وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله ولا ما دل عليه إلا الله بل قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] ولفظ التأويل له في القرآن معنى وفي عرف كثير من السلف وأهل
التفسير معنى وفي اصطلاح كثير من المتأخرين له معنى وبسبب تعدد الاصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراكٌ غلط بسببه كثير من الناس في فهم القرآن وغيره وهذه المعاني الثلاثة الموجودة في كلام الناس وقد يذكر بعضهم فيها معنيين ومنهم من يذكر الثلاثة مفرقة بل كثير من أهل التفسير يذكرون في أول تفسيرهم المعنيين ثم يذكرون المعنى الثالث في موضع آخر كما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره
فقال فصل اختلف العلماء هل التفسير والتأويل بمعنى أم يختلفان فذهب قوم يميلون إلى العربية أنهما بمعنى قال
وهذا قول جمهور المفسرين من المتقدمين وذهب قوم يميلون إلى الفقه إلى اختلافهما فقالوا التفسير إخراج الشيء من مقام الخفاء إلى مقام التجلي والتأويل نقل الكلام عن وضعه إلى ما لا يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ فهو مأخوذ من قولك آل الشيء إلى كذا أي صار إليه ثم قال في آية آل عمران قال وفي التأويل وجهان أحدهما أنه التفسير والثاني أنه العاقبة المنتظرة والراسخ الثابت فهل يعلم الراسخون تأويله أم لا فيه قولان أحدهما أنهم لا يعلمونه وأنهم آمنوا به وقد روى طاوس عن ابن عباس أنه قرأ ويقول الراسخون في العلم آمنا به وإلى
هذا المعنى ذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس وعروة بن الزبير وقتادة وعمر بن عبد العزيز
والفراء وأبو عبيد وثعلب وابن الأنباري والجمهور قال ابن الأنباري في قراءة عبد الله إن تأويله إلا عند الله وفي قراءة أبيّ وابن عباس ويقول الراسخون قال وقد أنزل الله في كتابه أشياء استأثر بعلمها كقوله تعالى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي [الأعراف 187] وقوله تعالى
وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)[الفرقان 38] فنزل الله المجمل ليؤمن به المؤمن فيسعد به ويكفر به الكافر ليشقى قال الثاني أنهم يعلمون فهم داخلون في الاستثناء وقد روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أنا ممن يعلم تأويله وهذا قول مجاهد والربيع واختاره ابن قتيبة وأبو سليمان الدمشقي
قلت هذان القولان مرتبان على القولين في معنى التفسير فمن قال تأويله هو تفسيره فالراسخون يعلمون تفسيره ومن قال تأويله عاقبته المنتظرة فهذا لا يعلمه إلا الله ولم يذكر أبو الفرج في الآية القول الذي ذكره في أول كتابه وهو أن التأويل نقل الكلام عن موضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ قد أحسن حيث لم يذكر هذا المعنى في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فإن أحداً من السلف لم يذكر هذا المعنى في هذه الآية وإنما ذكر هذا بعض المتأخرين ولكن السلف لهم قراءتان وقولان منهم من قال التأويل لا يعلمه إلا الله وهؤلاء لم يريدوا بذلك تفسيره بل فسروا القرآن كله كابن الأنباري والفراء وغيرهما وتكلموا على مشكله بل أرادوا ما استأثر الله بعلمه بما يؤول إليه والعلماء يعلمون تأويله وهو التفسير ولا منافاة بين القراءتين والقولين ولم يقل أحد من السلف إن المتشابه كله مصروف عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره وان ذلك المصروف إليه لا يعلمه إلا الله بل هذا باطل من وجوه كثيرة كما بسط في موضعه
وكذلك كثير من المفسرين غير ابن الجوزي يذكرون في أول كتبهم الفرق بين التأويل والتفسير ثم يذكرون في الآية التأويل بمعنى لا يعلمه إلا الله كما ذكر ذلك الثعلبي والبغوي وغيرهما قالوا واللفظ للبغوي قال قد جاء الوعيد في حق من قال في القرآن برأيه وذلك في حق من قال من قبل نفسه شيئاً من غير علم فأما التأويل وهو صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لأهل العلم وأما التفسير وهو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها
فلا يجوز إلا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل واصل التفسير من التفسرة وهي الدليل من الماء الذي ينظر فيه الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها واشتقاق التأويل من الأول وهو الرجوع يقال أولته أي صرفته فانصرف وذكر من طريق إسحاق بن راهوية حدثنا جرير بن عبد الحميد
عن المغيرة عن واصل بن حبان عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع
وروي لكل حرف حد ولكل حد مطلع قال واختلفوا في تأويله قيل الظهر لفظ القرآن والبطن تأويله وقيل الظهر ما حدث عن أقوام أنهم
عصوا فعوقبوا فهو في الظاهر خبر وفي الباطن عظة وتحذير أن يفعل أحد مثل ما فعلوا فيحل به ما حل بهم وقيل معنى الظهر والبطن التلاوة والفهم يقول لكل آية ظاهر وهو أن يقرأها كما أنزلت قال الله تعالى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)[المزمل 4] وباطن وهو التدبر والتفكر قال الله تعالى كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص 29] ثم التلاوة تكون بالعلم والحفظ والدرس والفهم يكون بصدق النية وتعظيم الحرمة وطيب الطعمة وقوله صلى الله عليه وسلم لكل حرف حد أراد حدت في التلاوة والتفسير لا يجاوز ففي التلاوة لا يجاوز المصحف
وفي التفسير لا يجاوز المسموع وقوله صلى الله عليه وسلم لكل حد مطلع أي مصعد يصعد إليه من معرفة علمه ويقال المطلع الفهم وقد يفتح الله على المتدبر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتحه على غيره وفوق كل ذي علم عليم فقد جعل هؤلاء الفرق بين التفسير والتأويل أن التفسير يُعْلَمُ بالنقل والسماع والتأويل ما يفهم من الآية بالاستنباط منها بحيث يكون ذلك المعنى موافقاً لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة وما كان كذلك يجب أن يكون كظاهرها وهذا قول رابع في معنى التأويل وفي قول الله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] قالوا واللفظ للبغوي وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ تفسيره وعلمه دليله سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)[الكهف 78] وقيل ابتغاء عاقبته وطلب أخذ اجل هذه
الأمة من حساب الجمل دليل قوله تعالى ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبته قلت هذان القولان هما القولان اللذان ذكرهما ابن الجوزي فالتأويل بمعنى صرف الآية إلى خلاف ظاهرها لم يذكر أحد من هؤلاء المفسرين أنه مراد من قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وهو كما قالوا لم ينقل عن أحد من السلف وإنما فهمه بعض المتأخرين لأنه كان في اصطلاحهم لفظ التأويل يراد به هذا فظنوا أن هذا هو التأويل في لغة القرآن وهؤلاء يلزمهم أن لا يكون شيء من المتشابه أريد به ما هو
نص أو ظاهر فيه بل كله أريد به خلاف مادل عليه لفظه وهذا القول كما لم يذكره هؤلاء المفسرون ولا جمهور المفسرين فما رأيته منقولاً عن أحد من السلف الذين فسروا الآية بما نقل عن السلف لم يذكر هذا القول لأنه غير مأثور عنهم ولا هو موافق للغة القرآن ولا للغة العرب مطلقا ولا هو صحيح من جهة المعنى كما قد بسط في موضعه وأما ما ذكروه من أن التفسير مأخوذ من التفسرة وهو الماء الذي ينظر فيه الطبيب ليستدل به فمثل هذا قد يقوله بعض الناس يجعلون اللفظ المشهور من لفظ أخفى منه وهذا إذا أريد به التناسب فهو قريب وأما إذا أريد به أن ذلك هو الأصل لهذا فهو غلط بل الأمر بالعكس فإن لفظ الفسر والتفسير مشهور من كلامهم وهو البيان والإيضاح قال أهل اللغة واللفظ للجوهري الفسر البيان وقد فسرت الشيء أفسره بالكسر فسرا والتفسير مثله واستفسرته كذا أي سألته أن يفسره لي قال والفسر نظر الطبيب إلى الماء وكذلك التفسرة قال وأظنه
مولداً قلت وهذا اللفظ الذي جاء في القرآن في قوله تعالى وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)[الفرقان 33] قالوا أحسن بيانا وتفصيلا والتفسير البيان والكشف وهو تفعيل من الفسر وهو كشف ما غطي قوله تعالى وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)[الفرقان 33] فإن المطلوب من الكلام شيئان أن يكون حقًّا لا باطلاً فإن الباطل يمقت وإن زخرف وأن يكون الكلام مبرهناً مبيناً قد قام دليله وهو التفسير الذي يوضحه تصوراً وتصديقاً فبيّن المراد بالكلام وبين الدليل على صحته حتى تبين أنه حق ولا يحسن أن يقال هنا وأحسن تأويلا لأن هذا دل عليه قوله تعالى بالحق والتأويل يتعلق بالمعنى المدلول عليه وأما التفسير فإنه يتعلق بما يدل على المراد والذين نظروا في الاشتقاق الأوسط قالوا ومنه السفْر والأسفار وأسْفَرتِ المرأةُ عن وجهها وأسفروا بالفجر والسفر أيضا بياض النهار والسفرة الكتبة والسافر الكاتب والسِّفْر الكتاب لأنه يبين ويوضح ما فيه من الكلام ويدل عليه ومنه قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)[عبس 38-39] قالوا نيرة بادٍ ضوؤها وسرورها يعلو وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)[عبس 40] قيل غبار وقيل سواد قيل هو من العبوس والهم كما ترى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار والقترة قيل هو السواد قال الزجاج يعلوها سواد كالدخان وقيل القترة هي غبارٌ والغبرة الأولى هي العبوس وهذا قول أبي عبيدة قال القترة هي الغبار ومنه قوله تعالى تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)[عبس 41] ومنه قترة الجيش وعلى قول الزجاج وغيره أنه مأخوذ من الغبار وهو الدخان والقتار ريح الشواء وقد قتر اللحم إذا ارتفع قَتاره والقتار أيضا دخان العود وقترة الجيش شبيهة بهذا وهذا أصحُّ فإن القترة أبلغ من الغبرة قال تعالى وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس 26] قال الزجاج القترة الغبرة التي معها سواد وقال أبو عبيدة هو الغبار
والأول قول المفسرين فعن ابن عباس سواد الوجوه من الكآبة وعن عطاء دخان جهنم وعن مجاهد والمعنى الثاني للتأويل هو الذي جاء به القرآن في غير موضع كقوله تعالى وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [الأعراف 52-53] فهذا تأويل منتظر يجيء وله وقت مستقبل لم يجئ بعد ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه قوله تعالى أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 65] فقال إنها كائنة ولم يأت
تأويلها بعد ورواه غير واحد وهو في جزء ابن عرفة المشهور رواه عنه ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا
إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ [الأنعام 65] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنها كائنة ولم تأت بعد وعن العوفي عن ابن عباس تأويله تصديق ما وعدوا به في القرآن وعن السدي تأويله عواقبه مثل وقعة بدر وما وعد فيه من موعد وقال الربيع بن أنس لا يزال يجيء يوم الحساب
وقال قتادة هل ينظرون إلا تأويله أي عاقبته وعنه أيضاً تأويله ثوابه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه عن أصبغ ابن الفرج يوم يأتي تأويله قال تحقيقه وقرأ قوله تعالى هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف 100] قال هذا تحقيقها وقرأ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7]
وقال معاوية بن قرة تأويله الجزاء في الآخرة رواه ابن أبي حاتم وغيره ومنه قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 38-39] فلا عرفوا الخبر ولا المخبر به وإحاطتهم بعلمه هو معرفة معناه وتأويله هو ما أخبر بوقوعه من الوعد والوعيد في الدنيا والآخرة هذا أصح القولين وقيل لمَّا يأتهم علم تأويله قال أبو الفرج بن الجوزي في قوله تعالى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس 39] قولان أحدهما تصديق ما وعدوا به من الوعيد والثاني لم يكن معهم علم بتأويله قاله
الزجاج قلت وكذلك قال طائفة منهم البغوي وهذا لفظه قال تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] يعني القرآن كذبوا به ولم يحيطوا بعلمه وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي عاقبة ما وعدهم الله تعالى أنه يؤول إليه أمرهم من العقوبة يريد أنهم لم يعلموا ما يؤول إليه عاقبة أمرهم قلت الصواب هو القول الأول وهو أنه لم يأتهم نفس تأويله أي لم يأت بعد تأويله الذي أخبر به فيه لم يُرِد أنهم لم يعلموا تأويله فإن هذا المعنى هو الذي نفاه بما لم يحيطوا بعلمه ويدل على أنه قال وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ وقال هناك لم يحيطوا ولمَّا يُنْفَى بها ما ينتظر وقوعه ويقرب وقوعه فدل على أن تأويله سيأتيهم كقوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل 1] ولهذا قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)[يونس 39] لأن عاقبة هؤلاء إذا أتاهم تأويله مثل عاقبة أولئك ومنه قوله تعالى سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
[فصلت 53] وقوله تعالى بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] أي لم يحيطوا بعلم القرآن أي بما فيه من العلم ولا بالعالم وقيل ولم يحيطوا بعلم التكذيب به لأنهم كانوا في شك وهو ضعيف وقال تعالى في موضع أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا [النمل 84] أي لم يحط علمكم بها فإنما يجعل العلم محيطاً بالمعلوم وتارة يجعل العالم محيطاً بالعلم كقوله تعالى وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة 255] والعلم يضاف إلى العالم تارة وإلى المعلوم أخرى وهذا يؤيد أن قوله تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] أي لم يحيطوا بمعرفته فعلمهم لم يحط به والعلم الذي فيه هو من ذلك فلم يحيطوا بشيء من هذا العلم وهذه الآية توجب أن الإنسان لا يكذب إلا بخبر يعلم ويعرف أنه كذب والخبر المجهول يسكت عنه كقولهِ تعالى إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)[الحجرات 6] فلا يكذب به ولا يقفوه ويتبعه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيما حدثنا أهل الكتاب
وقد قال تعالى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)[النساء 59] وقال يعقوب ليوسف وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 6] وقال الفَتَيَان ليوسف نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)[يوسف 36] قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا [يوسف 37] وقال الملأ للملك أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)[يوسف 44] وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)[يوسف 45] وقال يوسف يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف 100] إلى قوله رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف 101]
فلفظ التأويل في جميع موارده ما يؤول إليه الشيء وهو عاقبته وتأويل الكلام ما يؤول إليه والكلام إما أمر وإما نهي وإما خبر فتأويل الخبر هو نفيس الشيء المخبر به وتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به والإنسان قد يعلم تفسير الكلام ومعناه ولا يعلم تأويله فإن التأويل يفتقر إلى معرفة ماهيته الموجودة في الخارج والتمييز بينها وبين غيرها وليس كمن فَهِمَ الكلامَ وتفسيرَه عَلِمَ ذلك كالذي يعرف أسماء أمكنة الحج وأفعاله وقد قرأ القرآن والحديث وكلام العلماء في ذلك لكنه لم يعرف عين البيت وعين الصفا والمروة وعين عرفة والمشعر الحرام ونحو ذلك مما لا يعرفه الإنسان إلا بالمشاهدة ولكن قد يعرف بالعلم ولهذا قال أبو عبيدة لما ذكر تنازع الفقهاء وبعض أهل اللغة في اشتمال الصماء قال والفقهاء أعلم بالتأويل
وهذا هو التفسير الذي يعلمه العلماء وهو أخص من التفسير الذي تعرفه العرب من كلامها وذلك أن أهل العلم بتأويل الأمر والنهي والحلال والحرام مثل الذي يعرف عين المأمور به والمنهي عنه والمحرم ولهذا يفتون ويحكمون في الأمور المعينة مثل الذي يعرف أن هذه الجهة جهة الكعبة وأن هذا اللباس مما يجوز أو لا يجوز لبسه وأن هذا المكان هو الميقات الذي يحرم منه كما يعرف الطبيب أعيان الأمراض والأدوية وبمنزلة الأرض المحدودة والشخص المسمى ونحوهما فالشهود قد يشهدون على قول المقر وعلى شاهد آخر وهم إنما يشهدون بما يعلمون ولكن لا يعرفون عين المسمى الموصوف والذين يعرفون مسميات تلك الحدود يعرفون نفس الأرض المحدودة ونفس الشخص الذي اسمه فلان بن فلان والشاهد إذا عاين المشهود عليه وشخصه فهذا بمنزلة التأويل بخلاف ما إذا شهد على مسمى موصوف ولم يعينه فإنه وإن كان كلامه مفهوماً لكن لم يدل على العين ويجوز أن يسمي غير المشهود عليه بذلك الاسم ولهذا أكثر الناس يعرف من تفسير القرآن ما يعرف ويعرف معنى الإيلاء والظهار والمتعة والخلع ونحو ذلك بل ويعرف أقوال العلماء فيها ولا يقدم على التعيين خوف الغلط
بالمعرفة بمطابقة ما في الخارج كذلك الكلام هو معرفة بالتأويل وهو أخص من التفسير وكثير من الفقهاء يعرف تأويل الآية والحديث غير المراد وإن لم يمكنه بيان دلالة اللفظ ولا يعرف عين المراد ومثل هذا موجود في الطب وغيره من العلوم وإذا تبين هذا فالقرآن وكل كلام إما خبر وإما إنشاء كالطلب فما أخبر به فتأويله نفس المخبر به والله تعالى قد أخبر عن نفسه بما ذكر من أسمائه وصفاته فتأويل ذلك هو الرب نفسه تعالى وتقدس بصفاته وهو سبحانه لا يعلم ما هو إلا هو لهذا كان السلف كربيعة ومالك وابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهم يذكرون أنه مصروف
معاني الأسماء والصفات وإن لم يعلم كيفيته كقول ربيعة ومالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وفي كلام بعضهم يا من لا يعلم كيف هو إلا هو ونحو ذلك وهذا مذهب السلف والجمهور أن للرب سبحانه وتعالى حقيقة لا يعلمها البشر وفد يسمونها ماهية ومائية
وكيفية ولهذا قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ولا يتفكرون في ماهية ذاته وقال الشيخ أبو علي بن أبي موسى والشيخ أبو الفرج الشيرازي المقدسي وغيرهما لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال وطائفة من المتكلمين يدعون أنهم عرفوه حق المعرفة وليس له حقيقة وراء ما عرفوه كما يقول ذلك كثير من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم وهؤلاء يقولون ليس له حقيقة ولا ماهية ولا كيفية وراء ما عرفوه وهذا قد بسط الكلام عليه في مواضع وذكر النزاع بين ضرار بن عمرو وغيره وما قال
في ذلك القاضي أبو بكر وغيره والمقصود هنا معرفة مسمى التأويل في القرآن واللغة التي نزل بها القرآن وإذا عرف ذلك فإذا قيل التأويل لا يعلمه إلا الله بمعنى أن ما وعد به من الثواب والعقاب لا يعلم قدره ولا صفته إلا هو ولا يعلم وقته إلا هو فهذا حق قال تعالى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة 17] وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وإذا قال عن صفات الرب كالاستواء وغيره كما قال ربيعة ومالك وغيرهما إن الاستواء معلوم والكيف مجهول لنا غير مجهول له وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله بخلاف معنى الاستواء فإن هذا معلوم وهو من تفسير اللفظ والسلف تكلموا في معنى الاستواء الذي قال ربيعة ومالك وغيرهما أنه معلوم وقد ذكرت ألفاظهم في غير هذا الموضع وقد قال بعضهم مذهب السلف أو إجماعهم منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية كما ذكر أبو الفرج الجوزي في تفسيره فقال قال الخليل بن
أحمد العرش السرير وكل سرير للملك يسمى عرشاً قال واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام قال أمية بن أبي الصلت مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا س وسوَّى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العيـ ـن يرى دونه الملائك صورا
وقال كعب إن السموات في العرش كقنديل معلق بين السماء والأرض قال وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية وقد شذّ قوم فقالوا العرش بمعنى المُلْك وهذا عدول عن الحقيقة إلى التجوز مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود 7] أتراه كان الملك على الماء وقال بعضهم استوى بمعنى استولى واستدل بقول الشاعر قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
قال وهذا منكر عند أهل اللغة قال ابن الأعرابي لا نعلم استوى بمعنى استولى ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية قال وإنما يقول استولى فلان على كذا إذا كان بعيداً منه غير متمكن منه ثم تمكن والله عز وجل لم يزل مستوليا على الأشياء وهذا البيت لا يعرف قائله كذا قال
ابن فارس اللغوي ولو صح فلا حجة فيه لما بينا مِن استيلاء من لم يكن مستوليا فنعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة وقائل هذا القول إن إجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية إن أراد به أنهم لا ينفون ما دلت عليه وما ذكر فيها بتأويلات النفاة مثل قولهم العرش والملك أو استوى بمعنى استولى ونحو ذلك فهم ينكرونه فهذا صحيح وإن أراد أن السلف لم يكونوا يعلمون معنى الاستواء ولا فسروه فهذا باطل خلاف المنقول المتواتر عنهم مثل قول ربيعة ومالك لما قيل لهم الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
[طه 5] كيف استوى فقال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة وذكر البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد لما ذكر الاستواء قال أبو العالية استوى إلى السماء ارتفع فسوى خلقهن وقال مجاهد استوى على العرش علا على العرش وهذا مما رواه أهل التفسير فروى ابن أبي حاتم وغيره بالإسناد المعروف عن أبي العالية في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] قال ارتفع قال
وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله وفي قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ [البقرة 29] قال سوى خلقهن وأعاد ذلك في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] وروي عن قتادة أنه قال استوى على العرش في اليوم السابع قال وروي عن محمد بن إسحاق مثل ذلك قلت وكذلك رواه الشافعي في مسنده في فضل يوم
الجمعة أنه اليوم الذي استوى الله فيه على العرش وقال البغوي في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة 29] قال ابن عباس وأكثر مفسري السلف ثم ارتفع إلى السماء وقال البغوي أيضاً في قوله تعالى
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف 54] قال الكلبي ومقاتل استقر وقال أبو عبيدة صعد
وذكر غيره عن الخليل بن أحمد مثل قول أبي عبيدة أنه بمعنى صعد وارتفع وذكر شاهده من كلام العرب وذكروا عن ابن عباس أنه قال استوى استقر وكذلك قال ابن قتيبة وغيره وقد زعم بعضهم أن معنى قولهم الاستواء معلوم أن مجيء لفظ الاستواء في القرآن معلوم وهذا باطل فإن كونه في القرآن أمر ظاهر يعرفه جميع الناس لا يسأل عنه ولكن السائل لما قال كيف استوى سأل عن الكيفية فبينوا له أن الكيفية لا نعلمها نحن ولكن نعلم معنى الاستواء فدل على ثبوت كيفية في نفس الأمر غير معلومة لنا وكذلك قال ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وغيرهما ولو قدّر أن الكيفية منتفية فلا تنُفى الكيفية عن معدوم فلو لم يكن أن ثمّ استواء ثابت في نفس الأمر لم يجز نفي الكيفية عنه ولو كان المراد الاستيلاء ونحوه لم يحتج أن يقال في ذلك والكيف مجهول أو معلوم وهذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا بيان لفظ التأويل وأن معناه في القرآن وكلام من يتكلم بلغة القرآن غير معناه عند الذين اصطلحوا على
أن جعلوه اسما للمعنى المرجوح في اللفظ ولم يجعلوا معناه المنصوص الظاهر داخلاً في مسمى التأويل فقوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ هو تأويل ما أخبر به هذا التأويل لا يخالف ظاهر اللفظ ولا نصه بل تأويل مطابق لظاهر اللفظ الذي أخبر الله تعالى به فخبر الله عز وجل عما وعد به وأوعد به دل ظاهره على معنى وتأويل الكلام ذلك المعنى الموجود في الخارج وإذا قيل الراسخون في العلم يعلمون تأويله فمعناه أنهم يفهمون ما أخبر به عن التأويل ويتصورون معنى الكلام وهو معرفة تفسيره فهم يفهمون الخبر عن التأويل ويعلمون حقيقة التأويل وإن لم يعلموا كيفيته وكميته ووقته وقد يعلمون بعض ذلك دون بعض كما تعلم الملائكة من حيث الجملة ثم نقول وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] فهو معلوم من وجه دون وجه فإذا قيل يعلمون التأويل فهم يعلمون ما دلهم عليه الخطاب وما أفهمهم إياه كما قال مالك الاستواء معلوم وأما ما وراء ذلك فهو من التأويل الذي لا يعلمونه كمثل كيفية الاستواء التي قال فيها والكيف مجهول ومما يبين معنى التأويل في كلام الصحابة الذين يتكلمون
بلغة القرآن حديث ابن مسعود رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] قال كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى ثار كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر فقال آخر إلى جنبه عليك نفسك فإن الله تعالى
يقول يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] قال فسمعها ابن مسعود فقال مه لم يحن تأويل هذه الآية بعد إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه ما وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من أمر الساعة ومنه آي يقع تأويلهن عند الحساب على ما ذكر من أمر الحساب والجنة والنار فما رأيت قلوبكم واحدة وأهواءكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية وروي من حديث عبد الله بن مغفل عن
مكحول أن رجلاً سأله عن قول الله تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال إن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت وعن كعب قال إذا هديت فأدى ذلك للغضب فحينئذ تأويل هذه الآية وهذه الآية من آيات الأمر والنهي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فقوله تعالى لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة 105] فمن الاهتداء القيام بما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا قال الصدّيق أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها وإنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده
فالصديق أنكر على من ظن أنها تسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن ذلك واجب بحسب الاستطاعة قال أبو عبيد خاف الصديق رضي الله عنه أن يتأول الناس الآية على غير تأويلها فتدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأعلمهم أنها ليست كذلك وابن مسعود وأولئك بينوا أن في زمانهم يمكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان لاجتماع القلوب ووجود الأعوان على ذلك وأنه عند التفرق والاختلاف وعجز الإنسان عن الإنكار باليد واللسان والمقصود أنهم سموا نفس المراد بالآية تأويلاً لها بل الإمساك عما يعجز عنه من الإنكار فإنه من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم عليك نفسك ولا يضرك من ضل إذا اهتديت وأما تفسيرها وفهم معناها فقد كان موجوداً في زمانهم وهذا التأويل لا يعجز
عنه أحد ولا يسقط عن أحد ويتبعه الإنكار بالقلب وهو أضعف الإيمان بخلاف ذلك وما قاله ابن مسعود قد جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الخشني قال أما والله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنياً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمراً لابد منه فعليك نفسك ودع عنك أمر العامة فإن من ورائكم أيام الصبر فمن صبر فيهن فهو كقبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وروي خمسين منكم أي مثل ذلك العمل إذا عمل به في زمان
الصحابة لأن العمال كثيرة وكان متيسراً فإذا عمل به في ذلك الزمان ضوعف أجر عمله
وأما مجموع عمل السابقين فلا يقدر أحد على فعله كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو أنفق لأحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد شيئاً من اللفظ بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله وعامة السلف الذين كانوا يَفْصِلون الآية ويقفون عند قوله تعالى إِلَّا اللَّهُ فسروا التأويل بغير ما يفهم من لفظ
الآية ومنهم غير واحد يقول إنهم يعلمون تأويله بمعنى آخر كما تقدم عن مجاهد والضحاك وقال السدي وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ عواقبه يجيء الناسخ منه فينسخ المنسوخ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ قال تحقيقه وعن عباد بن منصور سألت الحسن عن قوله
تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] فقال تأويله القضاء به يوم القيامة وقد تقدمت رواية الوالبي عن ابن عباس في قوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله
وعن محمد بن إسحاق مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ فيهن حجة الرب تعالى وعصمة العباد ودفع الخصومة والباطل ليس بهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال لم يفصّل فيهن القول كما فصله في المحكمات يتشابه في عقول الرجال ويتخالها التأويل فابتلاء الله تعالى فيها العباد كابتلائهم في الحلال والحرام وفي رواية عنه قال متشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [آل عمران 7] أي ما تحرف منه ومتصرف ابتغاء الفتنة إلى اللبس وابتغاء تأويله وما تأولوا وزينوا من الضلالة ليجيء لهم الذي في أيديهم من البدعة ليكون لهم به حجة على من
خالفهم للتصريف والتحريف الذي ابتلوا به بمثل الأهواء وزيغ القلوب والتنكيب عن الحق الذي أحدثوا من البدعة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي ما يعلم ما صرفوا وتأولوا إلا الله الذي يعلم سرائر العباد وأعمالهم وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ قال لم يكن معرفتهم إياه أن يفقهوه على الشك ولكنهم خلصت الأعمال منهم ونفذ علمهم أن عرفوا الله بعدله لم يكن ليختلف شيء مما جاء به فردوا المتشابه على المحكم وقالوا كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فكيف يكون فيه اختلاف وإنما جاء يصدق بعضه بعضا وفي الرواية الأخرى قال ثم ردوا تأويل المتشابه
على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويلا واحدا فاتسق بقولهم الكتاب وصدّق بعضه بعضاً فنفذت به الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر يقول الله تعالى وَمَا يَذَّكَّرُ أي في مثل هذا إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ فهو في رواية ابن إدريس عنه لما قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلَّا اللَّهُ فسر التأويل مما تأولوه من الباطل فيه وفي رواية سلمة عنه جعل الراسخين في العلم يعلمون من تأويل المتشابه وأنهم ردوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكم الذي لا تأويل لأحد فيه إلا تأويلاً واحدا فابن إسحاق ذكر مثل قول ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين يقولون له تأويل لا يعلمه إلا الله وتأويل يعلمه الراسخون وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا وما يعلم تأويله إلا الله كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن
الأنباري هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسير معناه ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها فيجب أن يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة وقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 7] قد يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم أي ما يعلم جميع التأويل إلا الله وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله من ادعى علمه فهو كاذب فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل كقوله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] أي مجموعهم وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جمود ربنا
وبكل حال تفسير معناه ليس داخلاً في التأويل الذي اختص الله به سواء سُمّي تأويلاً أو لم يسم وأما احتجاجهم بالحروف المقطعة فعنه أجوبة أحدها أن هذه ليست كلاماً منظوماً فلا يدخل في مسمى الآيات وعامة الناس أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية ولكنِ الكوفيون يعدونها آية وبكل حال فهي أسماء حروف يُنْطقُ بها غير معربة مثل ما ينطق بألف با تا وبأسماء العدد واحد اثنان ثلاثة والذي يتبين به المعنى بعد العقد والتركيب بتقدير أن لا يكون لهذه معنى يفهم ولا يلزم أن لا يكون للكلام المؤلف المنظوم الذي هو جملة اسمية أو فعلية معنى يفهم ولكن على هذا التقدير يكون قد أنزلت هذه الحروف بحكم آخر غير الخطاب الجواب الثاني أن السلف قد تكلموا في معانيها وكلامهم في ذلك كثير مشهور عن ابن عباس وغيره وبسطه هنا فتارة يقولون كل حرف يدل على اسم من أسماء الله تعالى
وتارة يجعلون كل حرف من لفظ والمجموع جملة كما روى أبو الضحى عن ابن عباس الم إني أنا الله أعلم وتارة يجعلون اسم الله من عدة حروف كقول من قال الر وحم ون هو اسم الرحمن ومنهم من قال تدل على أسمائه وصفاته مثل آلائه ونعمائه ومنهم من قال هي أسماء القرآن
ومنهم من قال فواتح يُفْتَتحُ بها القرآن ومنهم من يجعلها تدل على ذلك كله كما رواه الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى الم قال هذه الحروف الثلاثة من التسعة والعشرين أحرف دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه وليس منها حرف إلا وهو من آلائه وبلائه وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم وقال عيسى ابن مريم وعجب فقال وأعجب أنهم ينطقون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف يكفرون به فالألف مفتاح اسم الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد والألف آلاء الله واللام لطف الله والميم مجد الله فالألف ستة واللام ثلاثون والميم أربعون
وعن مقاتل بن حيان في قوله تعالى وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ قال يعني فيما بلغنا الم والمص والمر والر فهؤلاء الأربع المتشابهات فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني حيي بن أخطب وأصحابه من اليهود يتبعون ما تشابه منه ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ قال ابتغاء ما يكون وكم يكون قال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ كم يكون إِلَّا اللَّهُ الجواب الثالث أن يقال نحن نسلم أن كثيراً من الناس
أو أكثرهم لا يعرفون معنى كثير من القرآن فإذا قيل إن أكثر الناس لا يعرفون معنى حروف الهجاء التي في أوائل السور فهذا صحيح لا نزاع فيه وإن قيل إن أحداً من الناس لا يعرف ذلك وأن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك فمن أين لهم هذا فهذا النفي لابد به من دليل
فصل وأما الحديث الذي احتجوا به وهو قوله صلى الله عليه وسلم إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا أمكروا لم ينكره إلا أهل الغرة بالله فهذا حجة عليهم إن كان صحيحاً فإن هذا ليس له إسناد تقوم به الحجة بل قد رواه أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتابه الفاروق بإسناد فيه من
لا يعرف وأبو إسماعيل هو وشيخه يحيى بن عمار وغيرهم يحملون ذلك على أحاديث الصفات الدالة على إثبات الصفات
لله تعالى وأبو حامد يحمل ذلك على ما يذكره في الكتب المضنون بها ونحو ذلك من أقوال الباطنية الملاحدة لكنه رجع عن ذلك في آخر عمره فهذا الحديث إن لم يكن صحيحاً فلا حجة فيه وإن كان صحيحا بتقدير صحته ففيه أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله فهذا يدل على أن من الناس من يعلم هذا العلم ليس مما استأثر الله به ولكن بعض الناس ينكره فإن كان تأويل المتشابه من هذا كما ادعوه فقد ثبت أن العلماء بالله يعلمون تأويل المتشابه وبطل قولهم وإن لم يكن منه بطلت حجتهم فعللا التقديرين بطل استدلالهم بهذا الحديث ولا ريب أن من العلم ما لا تقبله عقول كثيرة كما قال ابن مسعود ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم وقال علي رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله
وقد ذكره البخاري في صحيحه وترجمه باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا وذكر حديث معاذ بن جبل لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه الله على النار قال يا رسول الله ألا أخبر الناس قال إذاً يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً وأما ما ذكره من قياس الأقوال على الأفعال وأن فيها ما هو بعيد
لا يعقل معناه فجوابه من وجوه أحدها أن الأعمال المأمور بها ينتفع بها العامل ويحصل بها المقصود وإن لم يعرف حكمها وأما الأقوال التي يخاطب بها الناس فإن لم يكن معرفة معناها لم ينتفع بها الناس الثاني أنه يجوز أمر الناس بأعمال ينتفعون بها وإن لم يعرفوا حكمتها كما يأمر المؤدب والوالد والطبيب وأما مخاطبة الناس بكلام لا سبيل لهم إلى فهمه فهذا لا يفعله أحد من العقلاء وقوله إن الطاعة فيما لم تعرف حكمته أتم ممنوع بل ما عرفت حكمته التي يحبها الله تعالى لأجل تلك الحكمة التي يحبها الله تعالى فهذا أتم لأن الذي ذكروه متوجه فيما إذا كانت الحكمة غرضا دنيويًّا مثل حفظ الأموال
والأنفس وقهر العدو ونحو ذلك فهنا قد لا يفعله إلا لذلك الغرض الدنيوي وهذا مذموم ولكن الحكمة المتعلقة بالخالق وأنه يحب الفعل ويرضاه يعرفها أهل العلم والإيمان وأما القدرية المجبرة والنافية فلا يعرفونها كما قد بسط في موضعه ومعلوم أنه إذا صلى وسجد لما في السجود من الخضوع لله والتقرب إليه لم يكن رمي الجمار أفضل من هذا وكذلك إذا تصدق ليحسن إلى الخلق ابتغاء وجه ربه الأعلى لا يريد منهم جزاء ولا شكورا وأما قوله إن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب فهذا ممنوع ولكن هذا يختلف باختلاف المعاني فإن كان ذلك المعنى مما لا يعظمه القلب سقط وقعه عن القلب وإن كان المعنى مما يعظمه القلب كان تعظيمه للكلام إذا فهم معناه بحسب عظم ذلك المعنى ولهذا كل من كان للقرآن أفهم
ولمعانيه أعرف كان أشد تعظيماً له من الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل كتاب سيبويه في النحو إذا فهمه الإنسان كان لسيبويه في قلبه من الحرمة ما لم يكن قبل ذلك والله تعالى قد أمر العباد بتدبر القرآن والتفكير فيه وتفهمه فكيف يقال إنهم إذا فعلوا ذلك سقط وقعه عن قلوبهم مع أن الأمر بخلاف ذلك وكلما تصور العبد ما في القرآن من الخبر عن الله تعالى وملائكته وأنبيائه وأعدائه وثوابه وعقابه حصل لهم من التعظيم والمحبة والخشية ما لا يعلمه إلا الله قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال 2] أفترى الإيمان يزداد بمجرد لفظ لا يفقه معناه وإذا فقه معناه لا يزداد الإيمان بذلك وقال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت 44] فلو كان الهدى والشفاء يحصل بمجرد اللفظ الذي لا يفقه معناه لحصل به إذا كان أعجميا بطريق الأولى بل الهدى
والشفاء إذا فهم معناه أتم وأكمل بلا ريب وقد قال تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)[محمد 16] فذم الذين لا يعلمون ما قال ووصف الآخرين بأنهم أوتوا العلم وقد قال تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر 9] وأما قوله إنه إذا لم يقف على المقصود مع معرفته بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبدا ومتفكرا فيه أبدا يقال هذا صحيح إذا كان يرجو فهمه وكان فهمه ممكنا عنده أما إذا جزم بأن أحداً من الخلق لا يفهمه صار ذلك مأيوسا منه فر يلتفت قلبه إلى ما يطمع فيه ولا يتفكر فيه بل تبقى همته مصروفة إلى لفظ دون معناه واللفظ تابع
للمعنى فإذا لم يكن ثم معنى يطلب يبقى مجرد لفظ فأفضى به إلى ما يفسد القلب من التشدق والتفيهق وقسوة القلب وغفلته عن الله قوله ولباب التكليف اشتغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه فلا يبعد أن يقال إن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة كبيرة عظيمة له فيقال هذا إنما يكون فيما إذا كان فهمه ممكناً أما إذا جزم العبد بأنه لا سبيل لأحد إلى فهمه فلا يلتفت ذهنه إلى المعنى ولا يشتغل به خاطره ولا يشتغل سره بذكر الله تعالى والتفكير في كلامه من هذه الجهة وإنما يتفكر في كلامه إذا رجا فَهْمه أو فَهِمه وطلب زيادة الفَهْم فأما الكلام الذي يجزم بأنه لا يفهمه أحد فلا يتفكر فيه واشتغال السر بذكر الله تعالى هو بحسب معرفة العبد فإذا كان باب المعرفة مسدودا لم يشتغل السر إلا باللفظ المجرد والقلب لا يزكو بذلك ولا يصلح به ولا يعبد الله ويحبه بمجرد لفظ لا يعرف أحد معناه ولهذا يوجد الذين قد يئسوا من معرفة المعنى قد أعرضوا بقلوبهم عن ذلك لا يذكرونه ولا يتفكرون فيه كإعراض
الإنسان عما يجده مكتوباً بغير الخط الذي يعرفه فإنه لما لم يعرف المكتوب فإنه يجعل الورق غلافاً لغيره ووقاية له كما يفعل الناس في الرقوق التي لا يدرون ما كتب فيها وقد يكون فيها من الكلام ما لو عرفوه لم يفعلوا به ذلك كالكتب المعربة وعدم فهم اللفظ كعدم فهم الخط كلاهما يسقط حرمة الكلام من القلب بخلاف ما إذا كان فهمه ممكنا فإنه إذا اعتقد عظمته تعلقت همته بطلب فهمه واشتغل بذكر ربه والتفكر في كلامه فانتفع بذلك ولهذا يفكر الإنسان فيما أشكل عليه فتكون فكرته فيه سبباً لجمع همته وإقباله على الله تعالى وعلى عبادته واشتغاله بذلك عما تهواه الأنفس ومن الأهواء الرديئة ثم إذا فهم بعض الحق وجد فيه حلاوة وذلك يدعوه إلى طلب الباقي قال تعالى أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)[محمد 24] وقال كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)[ص 29] وقال تعالى أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)[الرعد 19] فإن كون الكلام حقًّا أو باطلاً هو
متعلق بمعانيه لا بألفاظه الدالة على معانيه فأما اللفظ الذي لا يعرف له معنى فلا يقال فيه حق ولا باطل فصل قال الرازي الفصل الثاني في وصف القرآن بأنه محكم ومتشابه اعلم أن كتاب الله دل على أنه بكليته محكم ودل على أنه بكليته متشابه ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه أما الذي يدل على أنه بكليته محكم فقوله تعالى الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)[هود 1] وقوله الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)[يونس 1] فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه حقًّا في ألفاظه وكونه حقا في معانيه فكل كلام سوى القرآن فالقرآن أفضل منه في لفظه ومعناه وأن أحداً من
الخلق لا يقدر أن يأتي بكلام يساوي القرآن في لفظه ومعناه والعرب تقول في البناء الوثيق والعهد الوثيق الذي لا يمكن حله إنه محكم فهذا معنى وصف كل القرآن بأنه محكم وأما الذي يدل على أنه كله متشابه فهو قوله تعالى كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر 23] والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفصاحة ويصدق بعضه بعضاً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)[النساء 82] أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الجزالة والفصاحة وأما الذي يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه فهو قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7]
قلت هذا الذي ذكر من أن القرآن كله محكم وأنه كله متشابه قد ذكره عامة العلماء والقرآن دل على ذلك كما ذكره وقالوا في قوله تعالى مُتَشَابِهًا ما ذكره أنه متشابه في المعاني والألفاظ قال كثير من المفسرين كالثعلبي والبغوي مثل ما قال متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً وقال أبو الفرج بن الجوزي في المتشابه قولان أحدهما أشبه بعضه بعضاً في الآي والحروف فالآية تشبه الآية والكلمة تشبه الكلمة والحرف يشبه الحرف والثاني أن بعضه يصدق بعضا فليس فيه اختلاف ولا تناقض وتفسير المتشابه بأنه يصدق بعضه بعضاً
معروف عن عامة العلماء وأما القول الأول فهو مأثور عن قتادة قال الآية تشبه الآية والحروف تشبه الحروف ولفظ الحرف في اللغة يراد به الاسم لقوله صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف فلعل قتادة أراد الآية المنظومة والاسم المفرد يشبه بعضه بعضا في اللفظ والمعنى كما قال غيره فالتشابه في المعنى ينفي التضاد والتناقض المعبر عنه
بالاختلاف في قوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)[النساء 82] وذلك في الأوامر والنواهي والأخبار فيأمر بالشيء الحسن وما يماثله وينهي عن الشيء السيئ وعما يماثله لا يتناقض فيحكم بين المثلين بحكمين مختلفين وكذلك المدح والذم يمدح الشيء وما يماثله ويذم الشيء ويذم ما يماثله وكذلك في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد وكلام المخلوقين لا يخلو عن نوع من التناقض والاختلاف والتشابه في الألفاظ تناسبها وائتلافها واعتدالها وأنه كله كذلك بخلاف كلام المخلوقين فإنه يكون بعضه على طريقة في الحسن وباقيه يخالف ذلك فلا يكون آخره كأوله وهذا كالبناء والخياطة إذا كان متناسبا يشبه بعضه بعضاً فهو بخلاف ما يكون بعضه لا يشاكل بعضا وأما المثاني فهو جمع مثنى والتثنية يراد بها التقسيم
فقد فسر المثاني بأنه الذي يستوفى فيه الأقسام فيذكر فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام والحلال والحرام لا يذكر أحد القسمين دون الآخر فهو يستوفى الأقسام كما أن المتشابه هو الأمثال وفسر بأنه هو الذي يكون فيه القصص والحجج والأمر والنهي لما في ذلك من الحكمة والبيان ولأن في كل موضع من المعاني النافعة مثلا ليس في الموضع الآخر بمنزلة الشيء الواحد الذي له أسماء متعددة وكل اسم يدل على صفة ومن ذلك أسماء الله تعالى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء كتابه فتثنية الخبر والأمر بألفاظ يختص كل لفظ بمعنى بمنزلة تثنية الأسماء للمسمى الواحد الذي يختص كل اسم بمعنى وهذا يتضمن الإخبار بصفات الأشياء وإن كان الموصوف واحداً فهو تثنية وتكرير باعتبار الذات لا اعتبار الصفات وروى ابن أبي حاتم بإسناد معروف عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس في قوله تعالى مَثَانِيَ يفسر بعضه بعضاً ويرد بعضه على بعض وعن الحسن قال ثنى الله فيه القضاء تكون السورة فيها آية وفي الأخرى آية تشبهها وكذلك قال عكرمة ثنى الله فيها القضاء وعن الضحاك قال ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى فابن عباس جعل المثاني من جنس المتشابه وهي النظائر
التي يفسر بعضها بعضاً وعلى القول الآخر تكون المثاني هي الوجوه وهي الأنواع كالوعد والوعيد والأمر والنهي فصل قال الرازي ولابد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ثم من تفسيرها في عرف الشريعة أما المحكم في اللغة فالعرب تقول حكمت وأحكمت وحكّمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحَكْمَة اللجام تمنع الفرس عن الاضطراب وفي حديث النخعي أحكم اليتيم كما تحكم
ولدك أي امنعه من الفساد وقوله أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم وبناء محكم أي وثيق يمنع من يعترض له وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع الموصوف بها عما
لا ينبغي قلت هذا الذي قاله قد قاله جماعة كما قيل مثل ذلك في الحد أن معناه المنع وقد يقال الحكم هو الفصل بين الشيئين بالحق وكذلك الحد هو الفصل بين الشيئين والمنع جزء مسماه فالمنع بعض معنى الفصل فإن الفصل بين الشيئين يتضمن منع كل منها من الآخر وإلا فليس كل من منع غيره من شيء قيل إنه أحكمه حتى يكون منعاً بحق وحتى يكون ممنوعاً من شيء دون شيء والحكم هو الفاصل ويقال يوم الفصل وحكم فيصل واحكم بيننا ولا يقال امنع بيننا والحكمة هي الفصل بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب علماً وعملاً ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء 39] وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي السنة لأنها بينت ما يؤمر به وما ينهى عنه
قال وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابها للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال تعالى إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة 70] وقال تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] ومنه اشتبه الأمران إذا لم يفرق بينهما ويقال لأصحاب المخاريق أصحاب الشبهات وقال صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات وفي رواية مشتبهات قال فهذا
تحقيق الكلام في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة يقال هما مشتبهان وإن كان كثير من الناس يميز بينهما لكن قد يكون بعض الناس غير مميز بخلاف لفظ التماثل فإنه أخص من لفظ التشابه قال تعالى وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام 141] وفي الآية الأخرى مثلها مشتبهاً وغير متشابه قيل بعضه متشابه وبعضه غير متشابه وقيل بل هو مشتبه في المنظر واللون وهو غير متشابه في الطعم ومعلوم أن كما تشابه ورقه ومنظره كما يشبه ورق الزيتون ورق الرمان فالناس يميزون بينهما وكذلك إذا قيل بعضه متشابه كما تشبه الشجرة الشجرة أو ورقها ورقها أو ثمرها ثمرها
وقد تكون مع التمييز بينهما إلا إذا صارا متماثلين مثل حبتي الحنطة فهذا لا تمييز بينهما وهو سبحانه وتعالى قال في القرآن إنه متشابه أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن والصدق فالتمييز حاصل مع ذلك وكذلك قوله تعالى وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة 25] والعرب تقول من أشبه أباه ما ظلم والتمييز حاصل بينه
وبين أبيه وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالولد للفراش وصاحب الفراش زمعة أبو سودة بنت زمعة أم المؤمنين قال
النبي صلى الله عليه وسلم واحتجبي منه يا سودة لما رأى من شبهه البين بعتبة وعتبة هذا هو ابن أبي وقاص أخو سعد رضي الله عنه فهذا شبه بيّن مع أنهم كانوا يفرقون بين هذا وبين عتبة ابن أبي وقاص وهو الذي ادعاه من فجور قال لأخيه سعد بن أبي وقاص انظر ابن وليدة زمعة فإنه ابني فاختصم فيه سعد وعبد بن
زمعة صحاب الفراش سيد الأمة الذي كان يطؤها وفي كتاب عمر بن الخطاب لأبي موسى رضي الله عنهما في القضاء اعرف الأشباه والنظائر وفسر الأمور برأيك فهو يعلم أن هذا يشبه هذا مع تمييزه
بينها ويقال هذا أشبه بهذا من هذا فكل منهما يشبهه وأحدهما أشبه مع التمييز بين الثلاثة وقوله تعالى كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة 118] مع حصول التمييز بينها وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال فهذا تشبيه مع
وجود الفرق والتميز ومثل هذا كثير لكن قد يحصل الاشتباه على بعض الناس بحيث لا يميز بينهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فهذا دليل على أن بعض الناس يعلمها ويميز منها الحلال من الحرام وإن كان غيره لا يمكنه ذلك فالمشتبهات قد يعلم الفروق بينها بعض الناس دون بعض وهذا الموضع ينبغي تحقيقه فإنه سبحانه وتعالى قد وصف القرآن كله بأنه محكم في عدة آيات كقوله تعالى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود 1] وقوله تعالى الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)[يونس 1] وقوله تعالى الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)[لقمان 1-2] وقوله تعالى ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)[آل عمران 58] كما وصفه بأنه بيان وبأنه مبين في مثل قوله تعالى رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الطلاق 11] ووصفه بأنه مبين في قوله تعالى تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)[النمل 1] وقوله تعالى تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)[الحجر 1] ووصفه بأنه جعله عربيًّا ليعقلوه ووصفه بأنه بصائر وبيان وهدى للناس ونحو ذلك مما تقدم ذكره وهذا يعم جميع القرآن فعلم أن الآيات التي قيل فيها وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران 7] هي أيضاً محكمات مبينات وهي بيان وهدى وبصائر لكن اختصت بتشابه لم يكن في المحكمات وكذلك اختصت المحكمات بأحكام أخر غير الأحكام المشتركة وأما المتشابه فإما أن يراد به أنها في نفسها متصفة بالتشابه بحيث هي متشابهة في نفس الأمر وعلى كل أحد إما أن يقال تشابهت على بعض الناس فالتشابه أمر إضافي وإذا أريد هذا المعنى الثاني فكل كلام في الوجود قد يشتبه على بعض الناس لنقص علمهم ومعرفتهم لا لنقص في نفس الكلام الذي هو في نفسه متشابه ومما يوضح هذا أن كل من لم يكن له خبرة بكلام شخص أو طائفة بما يريدونه من تلك الألفاظ إذا سمعها تشتبه عليه ولا يميز بين المراد منها وغيره بل قد يظن المراد غير
المراد مثل من يسمع كلام أهل المقالات والصناعات قبل أن يخبر مرادهم ومن هذا الباب أن كثيراً من الجهال وأهل الإلحاد يشتبه عليهم ما هو من الآيات المحكمات وإن كان بعض الملحدين يعرف أنه يكذب وكثير منهم التبس عليه الأمر وظن صدق ما قالوه مثل قول من يفسر مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)[الرحمن 19] بعلي وفاطمة واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين لأن اسم البحر يراد به العالم وهذا
اسم الحسن فكأن دمعه كاللؤلؤ والحسين
قيل كأن دمعه كالمرجان وفسر قوله تعالى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)[يس 12] بأنه علي لأنه إمام معصوم مبين للعلوم واعرف بعض طلبة العلم قرأ قوله تعالى وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)[الزخرف 31] وظن أنهما المكان الذي يسمى بالقريتين من أرض الشام وبعض الناس فسر ذات العماد بدمشق لما فيها من العمد ومعلوم أن هذا باطل فإن هادًا لم يكونوا بالشام بل باليمن وهودًا إنما أرسل إليهم فقد قال تعالى بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)[الفجر 6-7] قد نقلوا هذا في كتب التفسير عن عكرمة وابن المسيب وعن
القرطبي أنها الإسكندرية فإنها كثيرة العمد أيضا فهذا قد اشتبه على طائفة من العلماء مع أنه من الآيات المحكمات فإنه تعالى قال أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)[الفجر 6-7] وقد ذكر الله تعالى عاداً في موضع آخر وأنه أرسل إليهم هوداً وانه أنذر قومه بالأحقاف أحقاف الرمل وهذا كله مما علم بالتواتر أنه كان باليمن وقد صار مثل هذا يجعل أحد الأقوال في تفسير الآية مع أن الذين قالوه من علماء السلف قد يكونون أرادوا التمثيل وان دمشق والإسكندرية ذات عماد ليعرف معنى ذات العماد وإلا فلا يخفى على أدنى طلبة العلم أن عاداً كانوا باليمن وهذا كما روي عن حفصة في قوله تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [النحل 112] أنها
المدينة وهي جعلت المعنى موجوداً فيها وكذلك قالت طائفة من العلماء في قوله تعالى كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد 43] وقوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف 10] ونحو ذلك أنه عبد الله بن سلام أو هو ونحوه ممن أسلم بالمدينة وهذا مما أحكمه الله فإن هذه الآية نزلت بمكة قبل أن يعرف ابن سلام فضلاً عن أن يسلم ولأنه قال على مثله وأراد شهادة أهل الكتاب على مثل
القرآن وهو شهادتهم بما تواتر عنهم من أن الرسل كانوا رجالاً وأنهم دعوا إلى التوحيد وأخبروا بالمعاد فإن المشركين كانوا ينازعون في هذا وهذا وأهل الكتاب ينقلون بالتواتر عن الرسل المتقدمين ما يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم ويكذب المشركين وهذا غير الشهادة المختصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد ظن طائفة أن العرش هو الملك مع أن الله تعالى قد أحكم ذلك وبين العرش وأنه مغاير للسموات والأرض في غير موضع كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود 7] وقوله قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)[المؤمنون 86] بعد قوله تعالى قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا [المؤمنون 84] وقوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر 7] وقوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر 75] ووصف العرش بأنه عظيم وأنه كريم وأنه مجيد إلى أمثال ذلك من الدلائل المبينة للمراد وأنه ليس هو الملك
وطائفة اشتبه عليها ففسروا الكرسي بالعلم مع أن هذا لا يعرف في اللغة البتة والله سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علما فلا يختص علمه بالسموات والأرض والمقصود بيان عظمة الرب سبحانه وهو بكل شيء عليم ويعلم ما كان وما يكون فليس في تخصيص علمه بالسموات والأرض مدح ولا لهذا نظير في القرآن فالرب لا يذكر اختصاص علمه بذلك قط وهذا وإن كان من رواية جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فالثابت عن ابن عباس من رواية الثوري عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير خلاف هذا
وقال الكرسي موضع القدمين وتنازع الناس في الكرسي هل هو العرش أو دون العرش