المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفصل الرابع - تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد

[ناصر الدين الألباني]

الفصل: ‌ ‌الفصل الرابع

‌الفصل الرابع

ص: 53

شبهات وجوابها

قد يقول قائل: إذا كان من المقرر شرعا تحريم بناء المساجد على القبور فهناك أمور كثيرة تدل على خلاف ذلك وإليك بيانها:

أولا: قوله تعالى في سورة الكهف} قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا { (55) وجه دلالة الآية على ذلك: أن الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى على ماهو مذكور في كتب التفسير فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم وشريعة من قبلنا شرعية لنا إذا حكاها الله تعالى ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة

ثانيا: كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الشريف ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه صلى الله عليه وسلم في مسجده

ثالثا: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف مع أن فيه قبر سبعين نبيا كما قال صلى الله عليه وسلم

رابعا: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى المصلى فيه

خامسا: بناء أبي جندل رضي الله عن هـ مسجدا على قبر أبي بصير رضي الله عن هـ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في " الاستيعاب " لابن عبد البر

سادسا: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبورمساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين فزال المنع

(55) - سورة الكهف الآية 21

ص: 54

الجواب عن الشبهة الأولى:

أما الشبهة الأولى فالجواب عنها من ثلاثة وجوه:

الأول: أن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة (56) منها قوله صلى الله عليه وسلم: " اعطيت خمسا لم يعطهن أحدا من الأنبياء قبلي. . . (فذكرها وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة "(57)

فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا

الثاني:

هب أن الصواب قول من قال: " شريعة من قبلنا شريعة لنا " فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه وهذا الشرط معدوم هنا لأن الأحاديث تواترت في النهي عن

البناء المذكور كما سبق فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا

الثالث:

لا نسلم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا:} لنتخذن عليهم مسجدا {فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين وعلى التسليم فليس فيها انهم كانوا مؤمنين صالحين متمسكين بشريعة نبي مرسل بل الظاهر خلاف ذلك قال الحافظ ابن رجب في " فتح الباري في شرح البخاري "(65 / 280) من " الكواكب الدراري "(58)" حديث لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "

وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث وهو قول الله عزوجل في قصة أصحاب الكهف:} قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا {فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور وذلك يشعر بان مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى

وقال الشيخ علي بن عروة في " مختصر الكوكب "(10 / 207 / 2) تبعا للحافظ ابن كثير في تفسيره (3 / 78) :

حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين (59) :

أحدهما: أنهم المسلمون منهم

والثاني: أهل الشرك منهم

فالله أعلم والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ولكن هم محمودون أم لا؟ فيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدها عنده فيها شئ من الملاحم وغيرها "

إذا عرفت هذا فلا يصح الاحتجاج بالآية على وجه من الوجوه وقال العلامة المحقق الآلوسي في " روح المعاني "(5 / 31)

واستدل بالآية على جواز البناء على قبور العلماء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطل عاطل فساد كاسد فقد روي. . .)

(58)

- مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق وهو كتاب عظيم جدا جمع نفائس نادرة من كتب العلماء المتقدمين ورسائلهم التي لم يطبع أكثرها فيما علمت وأنا الان في صدد إخراج هذه الكتب والرسائل في فهرس خاص أضعه لمجلدات هذا الكتاب الموجودة في المكتبة وفي غيرها إن وفقت لذلك. ثم تم الاستخراج المذكور من مجلدات المكتبة فعسى الله أن يوفق للإطلاع على غيرها واستخراج ما فيها من الكنوز

(56)

- انظر إن شئت المطولات من كتب علم الأصول وخاصة

الإحكام " لابن حزم

(57)

- أخرجه البخاري ومسلم وهو مخرج في " إرواه الغليل "(رقم 285)

(59)

- قلت وحكاهما أيضا ابن الجوزي في تفسيره " زاد المسير "(5 / 123 طبعة المكتب الإسلامي) دون أن يرجح أحدهما على عادته

ص: 55

ثم ذكر بعض الأحاديث المتقدمة وأتبعها بكلام الهيتمي في " الزواجر " مقرا له عليه وقد نقلته فيما سبق ثم نقل عنه في كتابه " شرح المنهاج " ما نصه:

وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه

الرحمة التي بناها بعض الملوك وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين

الرفع للإمام آخذا من كلام ابن الرفعة في الصلح

انتهى

ثم قال الإمام الآلوسي:

لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:

من نام عن صلاة أو نسيها ". (60) الحديث ثم تلا قوله تعالى} وأقم الصلاة لذكري {2، وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال واحتج أبو يوسف على جري القود بين الذكر والأثنى بآية} وكتبنا عليهم {والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي (61) بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قص الله تعالى علينا بلا إنكار [فإنكار] رسوله صلى الله عليه وسلم كإنكاره عز وجل (62) . وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أبنيائهم مساجد والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل على فعلهم عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده

(60) - قلت: هذا الحديث صحيح مخرج على الصحيحين فلا يحن تصديره بقوله " روي " لأنه يدل على الضعف في اصطلاح العلماء كما بينته في " صلاة التروايح "(ص 6364) فتنبه

ثم إن الحديث مخرج عندي في " صحيح أبي داود "(461) و (الإرواء)(263)

(61)

- سورة طه الآية 14

(62)

- لقوله صلى الله عليه وسلم ". . . فان ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ". وهو حديث صحيح وإن رغم أنف صاحب " الأضواء " انظر " المشكاة " بتخرجي (163)

ص: 56

ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة

وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف التعرض لأصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد

وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طراز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب ومثل هذا الاتخاذ ليس محذورا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي فهم فيه كنسبة النبوي إلى المرقد المعظم صلى الله تعالى على من فيه وسلم ويكون قوله} لنتخذن عليهم {على هذا الشاكلة قول الطائفة (ابنوا عليهم)

وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على كهف فوق الجبل الذي هو فيه وفيه خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى علي كهفهم مسجدا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولا فلا يحتاج إليه على ما قيل (63)

وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهى نهاية ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من إشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجا بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا لبعض على بعض وكل ذلك محادة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله عز وجل

ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسل في قبره عليه السلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه يتولى هداك "

قلت: وقد استدل بالآية المذكورة على الجواز المزعوم بل على استحباب بناء المساجد على القبور بعض المعاصرين (64) لكن من وجه آخر مبتدع مغاير بعض الشئ لما سبق حكايته ورده فقال ما نصه "

(63) - يشير إلى ما ذكره في أول الصفحة الأولى من الصفحتين المشار إليهما وهو قوله:

(64)

- هو الشيخ أبو الفيض أحمد الصديق الغماري في كتبابه المسمى " إحياء المقبور من أدلة استحباب بناء المساجد والقباب على القبور " وهذا الكتاب من أغرب ما ابتلى به المسلمون في هذا العصر وأبعد ما يكون عن البحث العلمي النزيه فان المؤلف يدعي ترك التقليد والعمل بالحديث الشريف فقد التقيت به منذ بضعة أشهر في المكتبة الظاهرية وظهر لي من الحديث الذي جرى بيني وبينه أنه على معرفة بعلوم الحديث وأنه يدعو للاجتهاد ويحارب التقليد محاربة لا هوادة فيها وله ذلك بعض المؤلفات كما قال لي ولكن الجلسة كانت قصيرة لم تمكني من أن أعرف اتجاهه في العقيدة وإن كنت شعرت من بعض فقرات حديثه انه خلفي صوفي ثم تأكد من ذلك بعد أن قرأت له هذا الكتاب وغيره حيث تبين لي أن يحارب أهل التوحيد ويخالفهم في عقيدتهم مخالفة شديدة ويقول البدعة الحسنة وينتصر للمبتدعة ولم يستفد من دعواه الاحتهاد إلا الانتصار للاهواء وأهلها ما يفعل مجتهدوا الشيعة تماما وإن شئت دليلا على ما أقول فحسبك برهانا على ذلك هذا الكتاب ". . . المقبور " فإن قبر كل الأحاديث المتواترة في تحريم البناء المساجد على القبور الذي قال به الأئمة الفحول بلا خلاف يعرف بينهم فهو والحق يقال: جرئ ولكن في محاربة الحق كيف لا وهو يرد كل ما ذكرناه من الأحاديث واتفاق الأئمة دون أي حجة اللهم إلا اتباع المتشابه من النصوص كآية الكهف هذه شانه في ذلك شأن المبتدعة في در النصوص المحكمات بالمتشابه نعوذ بالله من الخذلان وسيأتيك من كلامه بعض الأمثلة الأخرى على ما ذكرنا والله المستعان

ص: 57

" وعن الحسن أنه اتخذ (يعني المسجد) ليصلى فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا "

قال الآلوسي:

وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولا وإليه ذهب بعضهم بل قيل: إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره. ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شئ بالخرافات

والدليل من هذه الآية إقرار الله إياهم على ما قالوا وعدم رده عليهم

قلت هذا الاستدلال باطل من وجهين:

الأول: أنه لا يصح أن يعتبر عدم الرد عليهم إقرارا لهم إلا إذا ثبت أنهم كانوا مسلمين وصالحين متمسكين بشريعة نبيهم وليس في الآية ما يشير أدنى إشارة إلى أنهم كانوا كذلك بل يحتمل أنهم لم يكونوا كذلك وهذا هو الأقرب أنهم كانوا كفارا أو فجارا كما سبق من كلام ابن رجب وابن كثير وغيرهما وحينئذ فعدم الرد عليهم لا يعد إقرارا بل

إنكارا لأن حكاية القول عن الكفار والفجار يكفي في رده عزوه إليهم فلا يعتبر السكوت

ص: 58

عليه إقرارا كما لا يخفى ويؤيده الوجه الآتي:

الثاني: أن الاستدلال المذكور إنما يستقيم على طريقة أهل الأهواء من الماضين والمعاصرين الذين يكتفون بالقرآن فقد دينا ولا يقيمون للسنة وزنا وأما طريقة أهل السنة والحديث الذين يؤمنون بالوحيين مصدقين بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وفي رواية: " ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ". (65)

فهذا الاستدلال عندهم والمستدل يزعم أنه منهم باطل ظاهر البطلان لأن الرد الذي نفاه قد وقع في السنة المتواترة كما سيق فكيف يقول: إن الله أقرهم ولم يرد عليهم مع أن الله لعنهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فأي رد أوضح وأبين من هذا؟

وما مثل من يستدل بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدمة إلا كمثل من يستدل على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجن الذين كانوا مذللين لسليمان عليه السلام:} يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات { (66) يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيل والتصاوير وما يفعل ذلك مسلم يؤمن بحديثه صلى الله عليه وسلم

وبهذا ينتهي الكلام عن الشبهة الأولى وهي الاستدلال بآية الكهف (67) والجواب عنها وعن ما تفرع منها

الجواب عن الشبهة الثانية:

وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم ولو كان ذلك حراما لم يدفن فيه

والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عن هم فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته في التي كانت بجانب مسجده وكان يفصل بينهما جدار فيه باب كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ولا خلاف في ذلك بينهم والصحابة رضي الله عن هم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجدا كما سبق بيانه في حديث عائشة وغيره (ص 910) ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم ذلك أن الوليد بن عبد الملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه سولم إليه فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة فصار القبر بذلك في المسجد (68) ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافا لم توهم بعضهم قال العلامة الحافظ محمد ابن عبد الهادي في " الصارم المنكي "(ص 136) :

(65) - حديث صحيح كما تقدم

(66)

- سورة سبأ الآية 13

(67)

- وانطر ص (40)

(68)

- تاريخ ابن جرير (5 / 22223) وتاريخ ابن كثير (9 / 7475)

ص: 59

" وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة وكان آخرهم موتا جابر بن عبد الله وتوفي في خلافة عبد الملك فإنه توفي سنة ثمان وسبعين والوليد تولى سنة ست وثمانين وتوفي سنة ست وتسعين فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (69) وقد ذكر أبو زيد عمر بن

شبة النميري في " كتاب أخبار المدينة " مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أشياخه

عمن حدثوا عنه أن ابن عمر بن عبد العزيز لما كان نائبا للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأدخل القبر فيه "

(69) - قلت وإنما لم يسم الحافظ ابن عبد الهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبد الهادي مدارها على مجاهيل وهم عن مجهول كما هو ظاهر فلا حجة في شئ من ذلك وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بينه الحافظ لكن يعكر عليه ما رواه أبو عبد الله الرازي في مشيخته (218 / 1) عن محمد بن الربيع الحيزري: " توفي سهل بن سعد بالمدينة هو ابن مائة سنة وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الجيزري هذا لم اعرفه ثم هو معضل وقد ذكر مثله الحافظ بن حجر في " الإصابة " (2 / 87) عن الزهري من قوله فهو معضل أيضا أو مرسل ثم عقبه بقوله: " وقيل قبل ذلك وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية " وجزم في " التقريب " أنه مات سنة 88 فالله أعلم

ص: 60

وخلاصة القول أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحدا من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل فما جاء في شريح مسلم " (5 / 1314) أن ذلك كان في عهد الصحابة لعل مستنده تلك الرواية المعضلة أو المرسلة وبمثلها لا تقوم حجة على أنها أخص من الدعوى فإنها لو صحت إنما تثبت وجود واحد من الصحابة حينذاك لا (الصحابة)

وأما قول بعض من كتب في هذه المسألة بغير علم:

فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم منذ وسعه عثمان رضي الله عن هـ وأدخل في المسجد ما لم يكن منه فصارت القبور الثلاثة محاطة بالمسجد لم ينكر أحد من السلف ذلك

فمن جهالاتهم التي لا حدود لها ولا أريد أن أقول: إنها من افتراءاتهم فإن أحدا من العلماء لم يقل إن إدخال القبور الثلاثة كان في عهد عثمان رضي الله عن هـ بل اتفقوا على أن ذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك كما سبق أي بعد عثمان بنحو نصف قرن ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون ذلك لأن عثمان رضي الله عن هـ فعل خلاف ما نسبوا إليه فإنه لما وسع المسجد النبوي الشريف احترز من الوقوع في مخالفة الأحاديث المشار إليها فلم يوسع المسجد من جهة الحجرات ولم يدخلها فيه وهذا عين ما صنعه سلفه عمر بن الخطاب رضي الله عن هم جميعا بل أشار هذا إلى أن التوسيع من الجهة المشار إليها فيه المحذور المذكور في الأحاديث المتقدمة كما سيأتي ذلك عنه قريبا

ص: 61

وأما قولهم: " ولم ينكر أحد من السلف ذلك "

فنقول: وما أدراكم بذلك؟ فإن من أصعب الأشياء على العقلاء إثبات نفي شئ يمكن أن يقع ولم يعلم كما هو معروف عند العلماء لأن ذلك يستلزم الإستقراء التام والإحاطة بكل ما جرى وما قيل حول الحادثة التي يتعلق بها الأمر المراد نفيه عنها وأنى لمثل هذا البعض المشار إليه أن يفعلوا ذلك لو استطاعوا ولو أنهم راجعوا بعض الكتب لهذه المسألة لما وقعوا في تلك الجهالة الفاضحة

ولو جدوا ما يحملهم على أن لا ينكروا ما لم يحيطوا بعلمه فقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (75 ج 9) بعد أن ساق قصة إدخال القبر النبوي في المسجد:

ويحكي أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجدا

وأنا لا يهمني كثيرا صحة هذه الرواية أو عدم صحتها لأننا لا نبني عليها حكما شرعيا لكن الظن بسعيد بن المسيب وغيره من العلماء الذين أدركوا ذلك التغيير أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار لمنافاته تلك الأحاديث المتقدمة منافاة بينة وخاصة منها رواية عائشة التي تقول: " فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "

فما خشي الصحابة رضي الله عن هم قد وقع مع الأسف الشديد بإدخال القبر في المسجد إذ لافارق بين أن يكونوا دفنوه صلى الله عليه وسلم حين مات في المسجد وحاشاهم عن ذلك وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال قبره في المسجد بتوسيعه فالمحذور حاصل على كل حال كما تقدم عن الحافظ العراقي وشيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيد هذا الظن أن سعيد بن المسيب أحد رواة الحديث الثاني كما سبق فهل اللائق بمن يعترف بعلمه وفضله وجرأته في الحق أن يظن به أنه أنكر على من خالف الحديث الذي هو رواته أم أن ينسب إليه عدم إنكاره ذلك كما زعم هؤلاء المشار إليهم حين قالوا " لم ينكر أحد من السلف ذلك "

ص: 62

والحقيقة أن قولهم هذا يتضمن طعنا ظاهرا لو كانوا يعلمون في جميع السلف لأن إدخال القبر إلى المسجد منكر ظاهر عند كل من علم بتلك الأحاديث المتقدمة وبمعانيها ومن المحال أن ننسب إلى جميع السلف جهلهم بذلك فهم أو على الأقل بعضهم يعلم ذلك يقينا وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من القول بأنهم أنكروا ذلك ولو لم نقف فيه على نص لأن التاريخ لم يحفظ لنا كل ما وقع فكيف يقال: إنهم لم ينكروا ذلك؟ اللهم غفرا

ومن جهالتهم قولهم عطفا على قولهم السابق:

وكذا مسجد بني أمته دخل المسلمون دمشق من الصحابة وغيرهم والقبر ضمن المسجد لمن ينكر أحد ذلك "

إن منطق هؤلاء عجيب غريب إنهم ليتوهمون أن كل ما يشاهدونه الآن في مسجد بني أمية كان موجودا في عهد منشئه الأول الوليد بن عبد الملك ن فهل يقول بهذا عاقل؟ كلا لا يقول ذلك غير هؤلاء ونحن نقطع ببطلان قولهم وأن أحدا من الصحابة والتابعين لم ير قبرا ظاهرا في مسجد بني أمية أو غيره بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط (وعاء كامل) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأي يحيى عليه السلام فأمر به الوليد فرد إلى المكان وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس. رواه أبو الحسن الربعي في فضائل الشام (33) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخه (ج 2 ق 9 / 10) وإسناده ضعيف جدا فيه إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة وقال الذهبي " متروك ". ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر حتى أواخر القرن الثاني لما أخرجه الربعي وبن عساكر عن الوليد بن مسلم أنه سئل أين بلغك رأس يحى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثم وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة

ص: 63

وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحى عليه السلام فلا يمكن أن إثباته ولذلك اختلف المؤرخون اختلافا كثيرا وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب ليس في مسجد دمشق كما حققه شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ في بحث له نشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج 1 ص 41 1482) تحت عنوان " رأس يحيى ورأس زكريا " فليراجعه من شاء

ونحن لا يهمنا من الوجهة الشرعية ثبوت هذا أو ذاك سواء عندنا أكان الرأس الكريم في هذا المسجد أو ذاك بل لو تقينا عدم وجوده في كل من المسجدين فوجود صورة القبر فيهما كاف في المخالفة لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى عل الظاهر لا الباطن كما هو معروف وسيأتي ما يشهد لهذا من كلام بعض العلماء وأشد ما تكون المخالفة إذا كان القبر في قبلة المسجد كما هو الحال في مسجد حلب ولا منكر لذلك من علمائها

واعلم أنه لا يجدي في رفع المخالفة أن القبر في المسجد ضمن مقصورة كما زعم مؤلفوا الرسالة لأنه على كل حال ظاهر ومقصود من العامة وأشباههم من الخاصة بما لا يقصد به إلا الله تعالى من التوجه إليه والاستغاثة به من دون الله تبارك وتعالى فظهور القبر هو سبب المحذور كما سيأتي عن النووي رحمه الله

وخلاصة الكلام أن قول من أشرنا إليهم أن قبر يحيى عليه السلام كان ضمن المسجد الأموي منذ دخل دمشق الصحابة وغيرهم لم ينكر ذلك أحد منهم إن هو إلا محض اختلاق

ص: 64

يتبين لنا مما أوردناه أن القبر الشريف إنما إدخل إلى المسجد النبوي حين لم يكن في المدينة أحد من الصحابة وإن ذلك كان على خلاف غرضهم الذي رموا إليه حين دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم فلا يجوز لمسلم بعد أن عرف هذه الحقيقة أن يحتج بما وقع بعد الصحابة لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها كما سبق بيانه وهو مخالف أيضا لصنيع عمر وعثمان حين وسعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك عفا الله عنه ولئن كان مضطرا إلى توسيع المسجد فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو رضي الله عن هـ بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة بل قال " إنه لا سبيل إليها "(70) فأشار رضي الله عن هـ إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد

ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئا ما فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم قال النووي في " شرح مسلم "(5 / 14) :

ولما احتاجت الصحابة (71) والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عن ها مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عن هما بنوا على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد (72) فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى يتمكن أحد من استقبال القبر

ونقل الحافظ ابن رجب في " الفتح " نحوه عن القرطبي كما في " الكوكب "(65 / 91 / 1) وذكر ابن تيمية في " الجواب الباهر "(ق 9 / 2) :

أن الحجرة لما أدخلت إلى المسجد سد بابها وبني عليها حائط آخر صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا

(70) - انظر " طبقات ابن سعد "(4 / 21) و " تاريخ دمشق " لا بن عساكر (8 / 478 / 2) وقال السيوطي في " الجامع الكبير "(3 / 272 / 2) : وسنده صحيح إلا أن سالما أبا النضر لم يدرك عمر و " وفاء الوفاء " للسمهودي (1 / 343) و " المشاهدات المعصومية عند قبر خير البرية " للعلامة محمد سلطان العصومي رحمه الله تعالى (ص 43) وهو مؤلف رسالة هداية السلطان 'إلى بلاد اليابان " التي ادعى أحد الدكاترة أنها ليست له وإنما لبعض إخواننا مع أنني تناولتها منه هدية مطبوعة حين زرته في مكة في حجتي الأولى سنة 1368 هـ

(71)

- عزو هذا إلى الصحابة لا يثبت كما تقدم (ص 5859) فتنبه

(72)

- في هذا دليل واضح على أن ظهور القبر في المسجد ولو من وراء النوافذ والحديد والأبواب لا يزيل المحذور كما هو الواقع في قبر يحيى عليه السلام في مسجد بني أمية في دمشق وحلب ولهذا نص أحمد على أن الصلاة لا تجوز في المسجد الذي قبلته إلى قبر حتى يكون بين حائط المسجد وبين المقبرة حائل آخر كما سيأتي فكيف إذا كان القبر في قبلة المسجد من الداخل ودون جدار حائل؟ ومن ذلك تعلم أن قول بعضهم:

ص: 65

" إن الصلاة في المسجد الذي به قبر كمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بني أمية لا يقال إنها صلاة في الجبانة فالقبر ضمن مقصورة مستقل بنفسه عن المسجد فما المانع من الصلاة فيه "

فهذا قول لم يصدر عن علم وفقه لأن المانع بالنسبة للمسجد الأموي لا يزال قائما وهو ظهور القبر من وراء المقصورة والدليل على ذلك قصد الناس للقبر والدعاء عنده وبه والاستغاثة به من دون الله وغير ذلك مما لا يرضاه الله والشارع الحكيم إنما نهى عن بناء المساجد على القبور سدا للذريعة ومنعا لمثل هذه الأمور التي تقع عند هذا القبر كما سيأتي بيانه فما قيمة هذه المقصورة على هذا الشكل المزخرف إنما هي نوع آخر من المنكر الذي يحمل الناس على معصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعظيم صاحب القبر بما يجوز شرعا مما هو مشاهد معروف وسبقت الإشارة إلى بعضه

ثم ألا يكفي في إثبات المانع أن الناس يستقبلون القبر عند الصلاة قصدا وبدون قصد ولعل أولئك المشار إليهم وأمثالهم يقولون: لا مانع أيضا من هذا الإستقبال لوجود فاصل بين المصلين والقبر ألا وهو نوافذ القبر وشبكته النحاسية فنقول لو كان هذا المانع كافيا في المنع لما أحاطوا القبر النبوي الشريف بجدار مرتفع مستدير ولم يكتفوا بذلك بل بنو جدارين بمنعون بهما من استقبال القبر. ولو كان وراء الجدار المستدير وقد صح عن ابن جريج أنه قال: قلت لعطاء: أتكره أن تصلي في وسط القبور؟ أو في مسجد إلى قبر؟ قال: نعم كان ينهى عن ذلك أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "(1 / 404) . فإذا كان هذا التابعي الجليل (عطاء بن أبي رباح) لم يعتبر جدار المسجد فاصلا بين المصلى وبين القبر وهو خارج المسجد فهل يعتبر فاصلا النوافذ والشبكة والقبر في المسجد؟

ص: 66

فهل في هذا ما يقنع أولئك الكاتبين بجهلهم وخطئهم وهجومهم على القول بما لا علم لهم به؟ لعل وعسى

وأما المسجد النبوي الكريم فلا كراهة في الصلاة فيه خلافا لما فتروه علينا وسيأتي تفصيل القول فيه في " الفصل السابع " إن شاء الله تعالى

على أني لا أريد أن يفوتني أن أنبه القراء الكرام على أن أولئك الكاتبين يعترفون بكلمتهم السابقة في أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر غير محاط بمقصورة أنها صلاة مكروهة لانتفاء العلة التي من أجلها نفوا الكراهة عن الصلاة في مسجد بني أمية بزعمهم فهل لهم أن يجهروا للناس باعترافهم هذا؟ أم هو شئ اضطرهم إلى القول به التهرب من معارضة الأحاديث السابقة علنا وإن كانوا لا يدعون الناس إلى العمل به لغاية لا تخفى على العقلاء؟

ص: 67

قلت: ومما يؤسف له أن هذا البناء قد بني عليه منذ قرون إن لم يكن قد أزيل تلك القبة الخضراء العالية وأحيط القبر الشريف بالنوافذ النحاسية والزخارف والسجف وغير ذلك مما لا يرضاه صاحب القبر نفسه صلى الله عليه وسلم بل قد رأيت حين زرت المسجد النبوي الكريم وتشرفت بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 1368 هـ رأيت في أسفل حائط القبر الشمالي محرابا صغيرا ووراءه سدة مرتفعة عن أرض المسجد قليلا إشارة إلى أن هذا المكان خاص للصلاة وراء القبر فعجبت حينئذ كيف ضلت هذه الظاهرة الوثنية قائمة في عهد دولة التوحيد أقول هذا مع الاعتراف بأنني لم أر أحدا يأتي ذلك المكان للصلاة فيه لشدة المراقبة من قبل الحرس الموكلين على منع الناس من يأتوا بما يخالف الشرع عند القبر الشريف فهذا مما تشكر عليه الدولة السعودية ولكن هذا لا يكفي ولا يشفي وقد كنت قلت منذ ثلاث سنوات في كتابي " أحكام الجنائز وبدعها "(208 من أصلي) :

فالواجب الرجوع بالمسجد النبوي إلى عهده السابق وذلك بالفصل بينه وبين القبر النبوي بحائط يمتد من الشمال إلى الجنوب بحيث أن الداخل إلى المسجد لا يرى فيه أي محالفة لا ترضى مؤسسه صلى الله عليه وسلم اعتقد أن هذا من الواجب على الدولة السعودية إذا كانت تريد أن تكون حامية التوحيد حقا وقد سمعنا أنها أمرت بتوسيع المسجد مجددا فلعلها تتبنى اقتراحنا هذا وتجعل الزيادة من الجهة الغربية وغيرها وتسد بذلك النقص الذي سيصيبه سعة المسجد إذا نفذ الاقتراح أرجو أن يحقق الله ذلك على يدها ومن أولى بذلك منها؟)

ولكن المسجد وسع منذ سنتين تقريبا دون إرجاعه إلى ما كان عليه في عهد الصحابة والله المستعان

الجواب عن الشبهة الثالثة

وأما الشبهة الثالثة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبيا

فالجواب: أننا لا نشك في صلاته صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبيا لا حجة فيه من وجهين:

الأول: أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به قال الطبراني في

معجمه الكبير " (3 / 204 / 2) : حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان نا أبو همام الدلال نا إبراهيم بن طمهان عن منصور عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: " في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا "

وأورده الهيثمي " المجمع "(3 / 298) بلفظ:

قبر سبعون نبيا

وقال: " رواه البزار ورجاله ثقات "

وهذا قصور منه في التخريج فقد أخرجه الطبراني أيضا كما رأيت

قلت: ورجال الطبراني ثقات أيضا غير عبدان بن أحمد وهو الأهوازي كما ذكر الطبراني في " المعجم الصغير "(ص 136) ولم أجد له ترجمة وهو غير عبدان بن محمد المروزي وهو من شيوخ الطبراني أيضا في " الصغير "(ص 136) وغيره وهو ثقة حافظ له ترجمة في " تاريخ بغداد "(11 / 135) و " تذكرة الحفاظ "(2 / 230) وغيرها

لكن في رجال هذا الإسناد من يروي الغرائب مثل عيسى بن شاذان قال فيه ابن حبان في " الثقات ": " يغرب "

وإبراهيم بن طمهان قال فيه ابن عمار الموصلي: ضعيف الحديث مضطرب الحديث "

وهذا على إطلاقه وإن كان مردودا على ابن عمار فهو يدل على أن في حديث

ابن طهمان شيئا ويؤيده قول ابن حبان في " ثقات أتباع التابعين "(2 / 1) :

أمره مشتبه له مدخل في الثقات ومدخل في الضعفاء وقد روى أحاديث مستقيمة تشبه أحاديث الأثبات وقد تفر عن الثقات بأشياء معضلان سنذكره إن شاء

الله في كتاب الفصل بين النقلة إن قضى الله سبحانه ذلك وكذلك كل شئ توقفنا في أمره

ممن له مدخل في الثقات

ولذلك قال فيه الحافظ ابن حجر في " التقريب ": " ثقة يغرب " وشيخ منصور

وهو ابن المعتمر ثقة وقد روى له ابن طهمان حديثا آخر في مشيخته (244 / 2)(73) فالحديث من غرائبه أو من غرائب ابن شاذان (74)

وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرف على أحدهما فقال: " قبر " بدل " صلى " لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث فقد أخرج الطبراني في " الكبير (3 / 1551) بإسناد رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا:

صلى في مسجد الخيف سبعون نبيا. . .) الحديث وكذلك رواه الطبراني في

الأوسط " (1 / 119 / 2زوائده) (75) وعنه المقدسي في " المختارة " (249 / 2) والمخلص في "

الثالث من السادس من المخلصيات " (70 / 1) وأبو محمد بن شيبان العدل في " الفوائد " (2 / 222 / 2) وقال المنذري (2 / 116) :

رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن

ولا شك في حسن الحديث عندي فقد وجدت له طريقا اخرى عن ابن عباس

رواه الأزرقي في " أخبار مكة "(ص 35) عنه موقوفا عليه وإسناده يصلح للإستشهاد به كما بينته في كتابي الكبير " حجة الوداع "(ولم ينجز بعد)

ثم رواه الأزرقي (ص 38) من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن عباس به موقوفا. فهذا هو المعروف في هذا الحديث والله أعلم

وجملة القول أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته فإن صح فالجواب عنه

(73)

- مخطوط في المكتبة الظاهرية بدمشق

(75)

- مخطوط ناقص الأول والآخر محفوظ في المكتبة الظاهرية ومنه نسخة كاملة في مكتبة الحرم المكي

(74)

- ثم رأيته قد توبع فقد وقفت على إسناد البزار للحديث في " زوائده "(ص 123 مصورة المكتب الإسلامي) فإذا هو يقول: حدثنا إبراهيم عن المستمر العروقي ثنا محمد ثنا إبراهيم بن طهمان به وقال البزار " تفرد به إبراهيم عن منصور ولا نعلمه عن ابن عمر باحسن من هذا إسنادا ". وهذه متابعة لا بأس بها العروقي بالقاف صدوق يغرب كما في التقريب ". فالعهدة في الحديث على ابن طهمان وجرى الهيثمي على ظاهر إسناده فقال في " زوائد البزار ": " قلت: هو إسناد صحيح ". ولعل قوله السابق " ورجاله ثقات " أدق لما ذكرنا من الغرابة ذلك لأن مثل هذه الكلمة لا تقتضي الصحة كما لا يخفى على من مارس هذه الصناعة لأن عدالة الر واة وثقتهم شرط واحد من شروط الصحة الكثيرة بل إن العالم لا يلجأ إلى هذه الكلمة معرضا عن التصريح بالصحة إلا لأنه يعلم أن في السند مع ثقة رجاله علةى تمنع من القول بصحته أو على الأقل لم يعلم تحقق الشروط الأخرى فيه فلذلك لم يصرح بصحته وهذه مسألة مهمة طالما غفل عنها المبتدئون في هذا العلم الشريف وغيرهم ولذلك نبهت عليها في مقدمة " تمام المنة على فقه السنة للسيد سابق "

هذا ولو كنت متحتجا بما ليس صوابا عندي لا حتججت على تصحيح بعض المعاصرين المقلدين للحديث بأن السيوطي ضعفه بالرمز إليه بالضعف في " الجامع الصغير " وقع ذلك في النسخة المطبوعة بمطبعة بولاق بمصر وفي النسخة التي عليها شرح المناوي وفي نسخة خطية في المكتبة الظاهرية (2329 عام) وغيرها ولكن لا أثق برموز (الجامع الصغير) لأسباب ذكرتها في المقدمة المذكورة آنفا ثم في مقدمته كتابي " صحيح الجامع الغير وزياداته " و " وضعيف الجامع الصغير وزياداته " (وقد تم طبعهما في المكتب الإسلامي ولكن على الرغم من ذلك فالتضعيف وارد عليهم لأنهم لا تحقيق عندهم بل هم مقلدون في كل شئ باعترافهم فغالب الظن أنهم يعتدون بتلك الرموز وعليه فالتضعيف المذكور حجة عليهم إن أنصفوا "

من الوجه الآتي وهو:

الثاني: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف وقد عقد

الأزرقي في تاريخ مكة (406 410) عدة فصول في وصف مسجد الخيف فلم يذكر أن فيه قبورا بارزة ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنى أحكامها على الظاهر فإذا ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة فلا محظور في الصلاة فيه البتة لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه

سبعين قبرا ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور

الظاهرة والمشرفة

الجواب عن الشبهة الرابعة

وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد

الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه فالجواب:

لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (76) ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه اسماعيل عليهما السلام ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه ن ومن زعم خلاف ذلك فقد ضل ضلالا بعيدا وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عن هم ولا جاء به حديث تقوم الحجة به

فإن قيل: لا شك فيما ذكرت ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟

(76) - وقد خرجت بعض الأحاديث الواردة في ذلك في " إرواء الغليل "(971 و 1129)

ص: 68

فالجواب: كلا ثم كلا وهاك البيان من وجوه:

الأول: أنه لم يثبت في حديث مرفوع أن اسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام ولم يرد شئ من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب السنة ومسند أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها ضعيفا بل موضوعا عند بعض المحققين (77) وغاية ما وري في ذلك من آثار معضلات بأسانيد واهيات موقوفات أخرجها الأزرقي في " أخبار مكة "(ص 39 و 219 و 220) فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (78) . ونحو ذلك ما أورد السيوطي في " الجامع " من رواية الحاكم في " الكنى " عن عائشة مرفوعا بلفظ:

إن قبر إسماعيل في الحجر

الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله الله تعالى فقال في " مرقاة المفاتيح "(1 / 456) بعد أن حكى قول المفسر الذي أشرت إليه في التعليق:

وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيا

قال القاري:

وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح

الاستدلال

وهذا جواب عالم نحرير وفقيه خريت وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفا وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة وأن ما في بطن الأرض من القبور فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى:} ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا {. قال الشعبي:

بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم

(79)

(77) - نقل السيوطي في " التدريب " عن ابن الجوزي " قال:

ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين العقول أو يخالف المنقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجا من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة

كذا في الباعث الحثيث " (ص 85 من الطبعة الثانية)

(78)

- " انظر إحياء المقبور "(4748)

ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثارالواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته (1) لا للتعظيم له والتوجه نحوه وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ولهذا رد المناوي احتجاج المفسر المشار إليه بقوله:

لكن خبر الشيخين كراهة () بناء المساجد على القبور مطلقا والمراد قبور المسلمين خشية أن يعبد فيها المقبور لقرينة خبر: اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد

وقال الصنعاني في " سبل السلام "(2 / 214) معتقبا عليه أيضا:

قوله: (لا لتعظيم له) يقال: قصد التبرك به تعظيم له ثم أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على التعليل بما ذكر والظاهر أن العلة سد للذريعة والبعد عن التشبه بعبدة الأوثان الذين يعظمون الجمادات التي لا تنفع ولا تضر ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر

(79)

- رواه الدولابي (1 / 129) عنه ورجاله ثقات

ص: 69

قلت: وقولهن " الملعون فاعله " يشير إلى حديث ابن عباس الذي بينت ضعفه فيما سبق (ص 43) فتنبه

ومنه قول الشاعر:

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب

فأين القبور من عهد عاد؟

خفف الوطأ ما أظن اديم

الأرض إلا من هذه الأجساد

سر إن استطعت في الهواء رويدا

لا اختيالا على رفات العباد

ومن البين الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهرا غير معروفا مكانه فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة حتى ولو كانت مزورة لا عند القبور المندرسة ولو كانت حقيقة فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين وهذا ما جاءت به الشريعة كما بينا سابقا فلا يجوز التسوية بينهما والله المستعان

الجواب عن الشبهة الخامسة:

أما بناء أبي جندل رضي الله عن هـ مسجدا على قبر أبي بصير رضي الله عن هـ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فشبهة لا تساوي حكايتها ولولا أن بعض ذوي الأهواء من المعاصرين اتكأ عليها في رد تلك الأحاديث المحكمة لما سمحت لنفسي أن أسود الصفحات في سبيل الجواب عنها وبينا بطلانها والكلام عليها من وجهين:

الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به ولم يروه أصحاب " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " وغيرهم وإنما أورده ابن عبد البر في ترجمة أبي بصير من " الاستيعاب "(4 / 2123) مرسلا فقال:

وله قصة في المغازي عجيبة ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية قال:

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلت قريش في طلبه رجلين فقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلما. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان فاستله الآخر وقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال له أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الاخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد بعده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله وفى الله ذمتك: قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم

ويل امه مسعر جرب لو كان معه أحد " فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير. . . وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظا وأكمل سياقا قال:. . . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه ومن معهما من المسلمين فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرؤه فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبر مسجدا "

قلت: فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار انه تابعي صغير سمع من أنس بن مالك رضي الله عن هـ وإلا فهي معضلة وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: " وبنى على قبره مسجدا " لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري ولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه بل هو من رواية موسى بن عقبة كما صرح به ابن عبد البر لم يجاوزه وابن عقبة لم يسمع أحدا من الصحابة فهذه الزيادة أعني قوله " وبنى على قبره مسجدا " معضلة (80) بل هي عندي منكرة لأن القصة رواها البخاري في " صحيحة "(5 / 351371) وأحمد في " مسنده "(4 / 328331) موصولة من طريق عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة وكذلك أوردها ابن إسحاق في " السيرة " عن الزهري مرسلا كما في " مختصر السيرة " لابن هشام (3 / 331339) ووصله أحمد (4 / 323326) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه (3 / 271285) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة لإعضالها عدم رواية الثقات لها. والله الموفق

الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:

أولا: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره

ثانيا: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم على فرض صحته عند التعارض وهذا بين لا يخفى نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى

الجواب عن الشبهة السادسة

وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلة وهي خشية الافتتان بالمقبور وقد زالت فزال المنع

لا أعلم أحدا من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة إلا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الآحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها فقال ما نصه (ص 81 19) :

(80)

- ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف " إحياء المقبور " فإنه ساق (ص 44) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر غير أن المؤلف حذف من كلامه " وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر " ووصل رواية عبد الرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبد الرزاق عن الزهري وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد

ص: 70

ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في " تاريخ ابن عساكر "(8 / 334 / 1) رواه بإسنادين عن عنه عن ابن شهاب مرسلا ومعضلا بلفظ: " وجعل عند قبره مسجدا " وهذا اللفظ لو صح أقل مخالفة لأنه ليس نصا في أن البناء كان على القبر بل عنده وشتان ما بينهما وليس فيه أيضا أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد فتأمل

ص: 71

" وأما النهي عن بناء المساجد على القبور فاتفقوا على تعليله بعلتين: إحداهما أن يؤدي إلى تنجيس المسجد (81) . . . وثانيهما وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر لأنه إذا وقع بالمسجد وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه إذا كان في قبلة المسجد فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك "

ثم ساق شيئا من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي وقد تقدم نصه في ذلك (ص 4344) ثم قال المؤلف المشار إليه (ص 2021) :

والعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين ونشأهم على التوحيد الخالص واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف () وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين

قلت: والجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش

أثبت أولا أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي ثم أثبت أنها قد انتفت ودون ذلك خرط القتاد

أم الأول فإن لا دليل مطلقا على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط نعم من الممكن أن يقال: انها بعض العلة وأما حصولها بها فباطل لأن من الممكن أيضا أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى كما تقدم في كلام الفقيه الهيتمي والمحقق الصنعاني وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعا وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد

(81)

- قلت: وهذه العلة باطلة من وجوه لا مجال لبيانها الآن ومن أدلة ذلك بخصوص قبور الأنبياء أن أجسادهم لا تبلى كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف تنجس الأرض بهم

ص: 72

وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين الخ. فهو زعم باطل أيضا وبيانه من وجوه:

الأول: أن الزعم بني على أصل باطل وهو أن الإيمان بأنه الله هو المنفرد بالخلق والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى وليس كذلك فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:} ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله { (82) ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئا لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة وأنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار بقولهم فيما حكاه الله عنهم} أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب { (83) . ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله وترك الدعاء والذبح لغير الله وغير ذلك مما خاص بالله تعالى من العبادات فمن جعل شيئا من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به وجعل له ندا وإن شهد له بتوحيد الربوبية فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وإفراد الله بذلك وهذا مفصل في غير هذا الموضوع

فإذا تبين هذا نعلم أن الإيمان الصحيح غير راسخ في نفوس كثير من المؤمنين بتوحيد الربوبية ولا أريد أن أبعد بالقارئ الكريم في ضرب الأمثلة فحسبي هنا أن أنقل ما ذكره المؤلف الذي نحن في صدد الرد عليه فإنه قال بعد أسطر من كلامه السابق (ص 2122) :

ونراهم (يعني العامة) يحلفون بالأولياء وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولا شك. . . فكثير من جهلة العوام بالمغرب ينطق بما هو كفر صراح في حق مولانا عبد القادر الجيلاني رضي الله عن هـ. . . فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر مولانا عبد السلام ابن مشيش رضي الله عن هـ أنه الذي خلق الدين والدنيا ومنهم من قال والمطر نازل بشدة: يا مولانا عبد السلام الطف بعبادك فهذا كفر

(82) - سورة لقمان الآية 25

(83)

- سورة ص الآية 5

ص: 73

قلت: فهذا الكفر أشد من كفر المشركين لأن هذا فيه التصريح بالشرك في توحيد الربوبية أيضا وهو مما لا نعلم أنه وقع من المشركين أنفسهم وأما الشرك في الألوهية فهو أكثر في جهال هذه الأمة ولا أقول عوامهم فإذا كان هذا حال المسلمين اليوم وقبل اليوم فكيف يقول هذا الرجل:

وقد انتفت العلة برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين

؟

وإذا كان يريد ب " المؤمنين " الصحابة رضي الله عن هم فلا شك أنهم كانوا مؤمنين حقا عالمين بحقيقة التوحيد الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الشريعة الإسلامية شريعة عامة أبدية فلا يلزم من انتفاء العلة ولو ثبت بالنسبة إليهم أن ينتفي الحكم بالنسبة لمن بعدهم لأن العلة لا تزال قائمة والواقع أصدق شاهد على ذلك

الوجه الثاني:

علمت مما سبق من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته بل في مرض موته فمتى زالت العلة التي ذكرها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته صلى الله عليه وسلم فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه صلى الله عليه وسلم لأن القول بذلك يستلزم بناء على ما سبق من كلامه أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعد في نفوس الصحابة رضي الله عن هم وإنما رسخ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم وهذا مما لا أتصور أحدا يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم قلنا: وكيف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك في آخر نفس من حياته؟ ويؤيده:

الوجه الثالث: أن في بعض الأحاديث المتقدمة باستمرار الحكم إلى قيام الساعة كالحديث (12)

الوجه الرابع: أن الصحابة رضي الله عن هم إنما دفنوه في حجرته صلى الله عليه وسلم خشية أن يتخذ قبره مسجدا كما تقدم عن عائشة رضي الله عن ها في الحديث (4) فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت منصبة على الصحابة أنفسهم أو على من بعدهم فإن قيل بالأول قلنا فالخشية على من بعدهم أولى وإن قيل بالثاني وهو الصواب عندنا فهو دليل قاطع على أن الصحابة رضي الله عن هم كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم لا في عصرهم ولا فيما بعدهم فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بين. ويؤيده:

ص: 74

الوجه الخامس: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه مما يستلزم بقاء العلة السابقة وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها وهذا بين لا يخفى والحمدلله وإليك بعض الأمثلة على ما ذكرنا:

ص: 75

1 -

عن عبد الله بن شرحبيل بن حسنة قال: رأيت عثمان بن عفان يأمر بتسوية القبور فقيل له هذا قبر أم عمرو بنت عثمان فأمر به فسوي (84)

ص: 76

2 -

عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب:

ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته (85)

ولما كان هذا الحديث حجة واضحة على إبطال ما ذهب إليه الشيخ الغماري في كتابه المشار إليه سابقا حاول التقصي منه من طريقين:

الأول: تأويله حتى يتفق مع مذهبه

والآخر: التشكيك في ثبوته فقال (ص 57) :

فلا بد من أحد أمرين: إما أن يكون غير ثابت في نفسه أو هو محمول على غير ظاهره ولا بد

قلت: أما ثبوته فلا شك فيه لأن له طرقا كثيرة بعضها في " الصحيح " كما سبق ولكن أصحاب الأهواء لا يتلزمون القواعد العلمية في التصحيح والتضعيف بل ما كان عليهم ضعفوه ولو كان في نفسه صحيحا كهذا الحديث (86) وما كان لهم صححوه أو مشوه ولو كان في نفسه ضعيفا وسيأتي لذلك بعض الأمثلة الأخرى والله المستعان

وأما تأويله فقد ذكر له وجوها واهية أقواها قوله:

إنه خبر متروك الظاهر بالاتفاق لأن الأئمة متفقون على كراهة تسوية القبر وعلى استحباب رفعه قدر شبر

(

) مخطوطان قيمان الأول محفوظ بعض مجلداته في المكتبة الظاهرية ويوجد منه نسخة تامة في غيرها. والآخر منه نسخة مصورة في المجمع العلمي العربي بدمشق

(84)

- رواه ابن أبي شيبة في " المصنف "(4 / 138) وأبو زرعة في " تاريخه "(66 / 2، 121 / 2) (

) بسند صحيح عن عبد الله هذا وقد أورده ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(3 / 2 / 8182) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا

(85)

- رواه مسلم (3 / 61) وابو داود (3 / 70) والنسائي (1 / 285) والترمذي (2 / 153 154) والبيهقي (4 / 3) والطيالسي (1 / 168) وأحمد (رقم 7411064)

وله طرق عند الطيالسي وأحمد (رقم 657 و 658 و 889 و 1175 و 1176 و 1177 و 1238 و 1283) وابن أبي شيبة (4 / 139) والطبراني في " الصغير " ص 29 "

ولا مخالفة بين هذا الحديث وبين ما ثبت في السنة من مشروعية رفع القبر شبرا أو شبرين حتى يتنميز فيصان عن أن يهان لأن المراد به تسوية ما رفع عليه من البناء وإن قيل بخلافه قال الشيخ علي القارئ في " المرقاة "(2 / 372) في شرح الحديث: " (قبرا مشرفا) هو الذي بني عليه حتى ارتفع دون الذي أعلم عليه بالرمل والحصباء أو محسومة () بالحجارة ليعرف ولا يؤطأ (إلا سويته) في الأزهار: قال العلماء: يستحب أن يرفع القبر قدر شبر ويكره فوق ذلك ويستحب الهدم وفي قدره خلاف قيل إلى الأرض تغليظا وهذا أقرب إلى اللفظ أي لفظ الحديث من التسوية "

(86)

- وكذلك فعل بعض غلاة الشيعة في كتابه " كشف الارتياب "(ص 366 فصرح فيه بتضعيف الحديث من طريق مسلم وطعن في رجاله وكلهم ثقات وكذلك غمز من صحته الكوثري الجهمي في " مقالاته " (ص 159) وهكذا ترى أهل الأهواء على اختلاف مذاهبهم يتتابعون على رد الحديث الصحيح بأوهى الشبه اتباعا لأهوائهم ونعوذ بالله تعالى من الخذلان

وكذا في تحفة الأحوذي " 2 / 154) نقلا عن المرقاة "

ص: 77

قلت: العجب ممن يدعي الاجتهاد ويحرم التقليد كيف يصرف الأحاديث ويتأولها حتى تتفق مع أقوال الأئمة بزعمه بينما الاجتهاد الصحيح يقتضي عكس ذلك تماما على أن الحديث لا ينافي الاتفاق المذكور لأنه خاص بالقبر المبني عليه فحينئذ يسوى بالأرض كما سبق عن الأزهار واتفاق الأئمة إنما هو في الأصل الذي ينبغي أن يراعى حين دفن الميت فيرفع قليلا فهذا لا يعنيه الحديث كما أفاده القارئ رحمه فيما تقدم نقله قريبا في الحاشية (ص 73)

ثم نقل الغماري في تأويل الحديث عن الشافعية أنهم قالوا:

لم يرد تسويته بالأرض وإنما أراد تسطيحه جمعا بين الأحاديث

قلت: لو سلم هذا فهو دليل على الغمار لا له لأنه لا يقول بوجوب تسطيحه بل يقول باستحباب رفعه بدون حد وباستحباب البناء عليه قبة أو مسجد

ثم قال الغماري في الجواب الأخير عن الحديث:

وهو الصحيح عندنا أنه أراد قبور المشركين التي كانوا يقدسونها في الجاهلية وفي بلاد الكفار التي افتتحها الصحابة رضي الله عن هم بدليل ذكر التماثيل معها

قلت: في بعض طرق الحديث عند أحمد أن بعث علي رضي الله عن هـ إنما كان إلى بعض نواحي المدينة حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فهذا يبطل ما ادعاه من أن الإرسال كان إلى بلاد الكفار

ثم إن موضع الشاهد من الحديث إنما هو بعث علي أبا الهياج إلى تسوية القبور وكان رئيس الشرطة ففيه دليل واضح على أن عليا وكذا عثمان رضي الله عن هما في الأثر المتقدم كانا يعلمان هذا الحكم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم خلافا لما زعمه الغماري

ص: 78

3 -

عن أبي بردة قال: أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال: إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا المشي ولا يتبعني مجمر ولا تجعلوا في لحدي شيئا يحول بيني وبين التراب ولا تجعلوا على قبري بناء وأشهدكم أنبي برئ من كل حالقة أو سالقة أو خارقة (87) قالوا أو سمعت فيها شيئا؟ قال: نعم من رسول الله صلى الله عليه وسلم (88)

(87)(الحالقة) هي التي تحلق شرها عند المصيبة - (السالقة) : التي ترفع صوتها (الخارقة) : التي تخرق ثيابها عند المصيبة

(88)

- 2 أخرجه أحمد (4 / 397) وإسناده قوي

ص: 79

4 -

عن أنس: كان يكره أن يبنى مسجد بين القبور (89)

ص: 80

5 -

عن إبراهيم أنه كان يكره أن يجعل على القبر مسجدا

وإبراهيم هذا هو ابن يزيد النخعي الثقة الإمام وهو تابعي صغير مات سنة (96) فقد تلقى هذا الحكم بلا شك من بعض كبار التابعين من الصحابة ففيه دليل قاطع على أنهم كانوا يرن بقاء هذا الحكم واستمراره بعده صلى الله عليه وسلم فمتى نسخ؟

ص: 81

6 -

عن المعرور بن سويد قال:

خرجنا مع عمر في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر} ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل { (90) و} لإيلاف قريش { (91) فلما قضى حجه ورجع والناس يتبدرون فقال: ما هذا؟ فقال: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم فيها الصلاة فليصل ومن لم يعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل

(92)

ص: 82

7 -

عن نافع قال:

بلغ عمر بن الخطاب أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها فأمر بها فقطعت

(93)

ص: 83

8 -

عن قزعة قال سألت ابن عمر: آتي الطور؟ فقال: دع الطور ولا تأتها وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (94)

ص: 84

9 -

عن علي بن حسين:

أنه رأى رجلا يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه (كذا الأصل) فيدخل فيها فيدعو فدعاه فقال:

ألا أحدثك بحديث سمعته من أبي عن جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم "(95)

ويقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة أيضا وابن خزيمة في " حديث علي ابن حجر "(ج 4 / رقم 48) وابن عساكر (4 / 217 / 1)(96) من طريقين عن سهيل بن أبي سهيل أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فالتزمه ومسح قال: فحصبني حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر [وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني] " (97)

حيثما كنتم " (99)

ص: 85

11 -

ورأى ابن عمر فسطاطا (100) على قبر عبد الرحمن فقال: " انزعه يا غلام فإنما يظله عمله "(101) 13 وروى ابن أبي شيبة وابن عساكر (7 / 96 / 2) مثله عن أبي سعيد الخدري (103)

ص: 86

14 -

عن محمد بن كعب قال: هذه الفساطيط التي على القبور محدثة (104)

ص: 87

15 -

سعيد بن المسيب أنه قال في مرضه الذي مات فيه: إذا ما مت فلا تضربوا على قبري فسطاطا (105)

ص: 88

16 -

عن سالم مولى عبد الله بن علي بن حسين قال:

أوصى محمد بن علي أبو جعفر قال:

لا ترفعوا قبري على الأرض

(106)

ص: 89

17 -

عن عمرو بن شرحبيل قال:

لا ترفعوا جدثي يعني القبر فإني رأيت المهاجرين يكرهون ذلك

(107)

واعلم أن هذه الآثار وإن اختلفت دلالاتها فهي متفقة على النهي في الجملة عن كل ما ينبئ عن تعظيم القبور تعظيما يخشى منه الوقوع في الفتنة والضلال مثل بناء المساجد والقباب على القبور وضرب الخيام عليها ورفعها أكثر من الحديث المشروع والسفر والاختلاف إليها (108) والتسمح بها ومثل التبرك بآثار الأنبياء ونحو ذلك فهذه الأمور كلها غير مشروعة عند السلف الذين سميناهم من الصحابة وغيرهم وذلك يدل على أنهم كانوا جميعا يرون بقاء علة النهي عن بناء المساجد على القبور وتعظيمها بما لم يشرع ألا وهي خشية الإضلال والافتتان بالموتى كما نص عليها الإمام الشافعي رحمه الله فيما سبق بدليل استمرارهم على القول بالحكم المعلول بهذه العلة فإن بقاء أحدهم يستلزم بقاء الآخر كما لا يخفى وهذا بالنسبة لمن نص منهم على كراهية بناء المساجد على القبور ظاهرا أما الذين صرحوا بالنهي عن غير ذلك مثل رفع القبر وضرب الخيمة عليه ونحوه مما أجملنا الكلام عليه آنفا فهم يقولون ببقاء الحكم المذكور من باب أولى وذلك لوجهين:

قال ابن عباس رضي الله عن هـ:

كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين

(110)

قال ابن عروة الحنبلي في { {الكوكب} } (6 / 212 / 1) :

} } وهذايردقول من زعم من أهل التاريخ من أهل الكتاب أن قابيل وبنيه عبد وا النار { {

قلت: وفيه ردأيضا على بعض الفلاسفه والملا حده الذين

يزعمون أن الأصل في الإنسان الشرك وأن التوحيد هو الطارىء

ويبطل هذا ويؤيد الآيه السابقه حديثان صحيحان:

عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركو ابي مالم أنزل به سلطانا ") (112)

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:} } ما من مولودإلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمه بهيمة " جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ { {

قال أبو هريرة: وقرأوا إن شئتم} فطرة الله التي فطر الناس عليهلا لا تبديل لخلق الله { (113)

الآيه (114)

إذا تبين هذا

فإن من المهم جدا " أن يتعلم المسلم كيف طرأ الشرك على المؤمنين بعد أن كانوا موحدين؟

لقدورد عن جماعة من السلف روايات كثيرة في تفسير قول الله سبحانه في قوم نوح:} وقالو لاتذرن آلهتكم ولا تذرن ودا " ولا سواعا " ولا يغوث ويعوق ونسرا { (115) أن هؤلاء الخمسه ودا " ومن ذكر معه كانو عبادا " صالحين

فلما ماتو أوحى الشيطان إلى قومهم أن يعكفوا على قبورهم ثم أوحى إلى الذين جاؤو من بعدهم أن يتخذوا لهم أصناما "

وزين لهم ذلك بأنه أدعى لهم على أن يذكروهم

فيقتدوا بأعمالهم الصالحه

ثم أوحى إلى الجيل الثالث أن يعبوهم من دون الله تعالى وأوهمهم أن آباءهم كانو يفعلون ذلك فأرسل الله لهم نوحا " عليه السلام آمرا " لهم أن يعبدوا الله تعالى وحده

فلم يستجيبوا له إلى قليلا " منهم. وقد حكى الله عزوجل قصته معهم في سورة نوح

قال: وكان أول ماعبد غير الله في الأرض} } ود { {الذي سموه بود { { (117)

والحلف بأصحابها إذكل ذلك يؤدي إلى الغلو بها وعبادتها من دون الله تعالى لاسيما عند انطفاء العلم وكثره الجهل وقله الناصحين وتعاون شياطين الجن والإنس على إضلال الناس وإخراجهم من عبادة الله تبارك وتعالى ولا يخفى أنه إذاكان من المسلم عندنا معشر المسلمين أن من حكمة النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة هو سد الذريعة وعدم التشبه بالمشركين الذين يعبدون الشمس في تلك الأوقات فالذريعة في التشبه بهم في بناء المساجد على القبور والصلاة فيها أقوى وأوضح ألا ترى أننا حتى اليوم لم نجد أي أثر سيء لصلاة بعض الناس في هذه الأوقات المنهي عنها بينما نرى أسوأ الآثار للصلاة في هذه المساجد والمشاهد المبنيه على القبور من التمسح بها

(119)

والإستغاثه بأصحابها والنذر لها والحلف بل والسجود لها وغير ذلك من الضلال مما هو مشاهد معروف فاقتضت حكمة تبارك وتعالى تحريم كل هذه الأمور حتى يعبد الله تبارك وتعالى وحده ولا يشرك به شيء فيتحقق بذلك أمر تعالى بدعائه وحده في قوله} } وأن المساجدلله فلا تدعوامع الله أحدا { { (120)

وإن مما يأسف له كل مسلم طاهر القلب أن يجد كثيرا " من المسلمين قد وقعوا في مخالفة شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم التي جاءت بالابتعادعن كل مايخدج بالتوحيد ثم يزداد أسفا " حين يرى قليلا " أو كثيرا " من المشايخ يقرونهم على تلك المخالفة بدعوى أن نياتهم طيبه ويشهد الله أن كثيرا " منهم قد فسدت نياتهم وران عليها الشرك بسبب سكوت أمثال هؤلاء المشايخ بل تسويغهم كل ما يرونه من مظاهر الشرك بتلك الدعوى الباطله؟ (121) أين النية الطيبة يا قوم من أناس كلما وقعوا في ضيق جاءوا إلى ميت يرونه صالحا " فيدعونه من دون الله ويستغيثون به ويطلبون منه العافية والشفاء زغير ذلك مما لا يطلب إلى من دون الله ومالايقدر عليه إلى الله؟ بل إذا زلت قدم دابتهم نادوا: يالله ياباز

بينما هؤلاء المشايخ قد يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع يوما " بعض الصحابة يقول له: ما شاء الله وشئت فقال: أجعلتني لله ندا؟ (122) فإذا كان هذا إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم على من آمن به صلى الله عليه وسلم فرارا من الشرك فلماذا لا ينكر هؤلاء المشايخ على الناس قولهم: يا الله يا باز مع أنه في الدلالة على الشرك أوضح وأظهر من كلمة ما شاء الله وشئت؟ ولماذا نرى العامة يقولون دون أي تحرج: " توكلنا على الله وعليك " و " مالنا غير الله وأنت "؟ ذلك لأن هؤلاء المشايخ إما أنهم مثلهم في الضلال وفاقد الشئ لا يعطيه وإما أنهم يدارونهم بل يداهنوهم كي لا يوصموا ببعض الوصمات التي تقضي على وظائفهم ومعاشاهم غير مبالين بقول الله تعالى} إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يعلنهم الله ويعلنهم اللاعنون { (123)

يا حسرة على هؤلاء المسلمين لقد كان المفروض فيهم أن يكونوا دعاة لجميع الناس إلى دين التوحيد وسببا لإنقاذهم من الوثنية وأدرانها ولكنهم سبب جهلهم بدينهم واتباعهم أهواءهم عادوا مضرب مثل للوثنية من قبل المشركين أنفسهم فصاروا يصفونهم بأنهم كاليهود في بنائهم المساجد على القبور فقد جاء في كتاب " دعوة الحق " للأستاذ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله تعالى (ص 176177) :

كما كان يفعل اليهود "

علم الكفار الغربيون هذه الضلالة التي وقع فيها كثير من المسلمين لا سيما الشيعة منهم فاستغلوها حتى في سبيل تحقيق مطامعهم الاستمعارية فقد قال فضيلة الاستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري في فتوى له في النهي عن زخرفة القبور وبناء القباب والمساجد عليها:

وقال الكاتب القدير والمؤرخ الشهير الأستاذ المحقق رفيق بك العظم في خاتمة ترجمة أبي عبيدة رضي الله عن هـ من كتابه " أشهر مشاهير الإسلام "(ص 521 524) تحت عنوان (كلمة في القبور) : " لا نريد بهذا العنوان البحث عن تاريخ القبور كالنواويس والأهرام وما شاكلها من معالم الوثنية الأولى وإنما نريد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين في مكان قبر أبي عبيدة كاختلافهم في تعيين كثير من قبور جلة الصحابة الكرام الذين دوخوا هذا الملك العظيم وتحلوا بتلك الشيم الشماء وبلغوا من الفضل والتفضل والتقوى والصلاح غاية لم يبلغها أحد من الأولين والاخرين

وقد بسط المؤرخون أخبار أولئك الرجال العظام وعنوا بتدوين آثارهم العظيمة في فتوح الممالك والبلدان حتى لم يتركوا في النفوس حاجة للاستزادة ونعم ما خدموا به الأمة والدين

وأن أشرف الذكر في أشرف الأعمال لهذا اختفت عمن أتى بعد جيلهم ذلك قبور كبار الصحابة وجلة المجاهدين إلا ما ندر ثم اختلفت نقلة الأخبار في تعيين أمكنتها باختلاف الرواة وتضارب ظنون الناقلين. ولو كان في صدر الإسلام أثر لتعظيم القبور والاحتفاظ على أماكن الأموات بتشييد القباب والمساجد عليها لما كان شئ من هذا الاختلاف ولما غابت عنها إلى الآن قبور أولئك الصحابة الكرام كما لم تغب قبور الدجاجلة والمتمشيخين التي ابتدعها بعد العصور الأولى مبتدعة المسلمين وخالفوا فعل الصحابة والتابعين حتى باتت أكثر هذه القباب تمثل هياكل الأقدمين وتعيد سيرة الوثنية بأقبح أنواعها وأبعد منازعها عن الحق وأقربها إلى الشرك ولو اعتبر المسلمون بعد باختفاء قبور الصحابة الذين عنهم أخذوا هذا الدين وبهم نصر الله الإسلام لما اجترأوا على إقامة القباب على القبور وتعظيم الأموات يأباه العقل والشرع وخالفوا في هذا كله الصحابة والتابعين الذين أدوا إلينا أمانة نبيهم فأضعناها وأسرار الشريعة فعبثنا بها. وإليك ما رواه في شأن القبور مسلم في " صحيحه " عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عن هـ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته. وفي " صحيحه " أيضا عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ب " ردوس " فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها (127) . هكذا بلغونا الذين أدوا إلينا أمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأكيدا لعهد الأمانة بدؤوا بكل ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنفسهم لنستن بسنتهم ونهتدي بهدي نبيهم ولكن قصرت عقولنا عن إدراك معنى تلك الجزئيات وانحطت مداركنا عن مقام العلم بحكمة التشريع الإلهي والأمر النبوي القاضي بعدم تشييد القبور وتحكمنا التدرج في مدارج الوثنية فلم نحفل بتلك الحكمة وتحكمنا بقولنا القاصرة بالشرع فحكمنا بجواز تشييد القبور استحبابا لمثل هذه الجزئيات حتى أصبحت كليات وخرقا في الدين وإفسادا لعقيدة التوحيد إذ ما زلنا نتدرج حتى جعلنا عليها المساجد وقصدنا رفاتها بالنذور والقربات ووقعنا من ثم فيها لأجله أمرنا الشارع بطمس القبور (128) كل هذا ونحن لا نزال في غفلة عن حكمة التشريع

نصادم الحق ويصادمنا حتى نهلك مع الهالكين. "

قلت: وقد يظن بعض الناس خاصة من كان منهم ذا ثقافة عصرية أن الشرك قد زال وأنه لا رجعة له بسبب انتشار العلوم واستنارة العقول بها

وهذا ظن باطل فإن الواقع يخالفه إذ أن المشاهد أن الشرك على اختلاف أنواعه ومظاهره لا يزال ضاربا أطنابه في أكثر بقاع الأرض ولا سيما في بلاد المغرب عقر دار الكفر وعبادة الأنبياء والقديسين والأصنام والمادة وعظماء الرجال والأبطال ومن أبرز ما يظهر ذلك للعيان انتشار التماثيل بينهم وأن مما يؤسف له أن هذه الظاهرة قد أخذت تنتشر رويدا في بعض البلاد الإسلامية دون أي نكير من علماء المسلمين

وما لنا نذهب بالقراء بعيدا؟ فهذه كثير من بلاد المسلمين وخاصة الشيعة منهم ففيها عديد من مظاهر الشرك والوثنية كالسجود للقبور والطواف حولها واستقبالها بالصلاة والسجود ودعائهم من دون الله تعالى وغير ذلك مما سبق ذكره

على أننا لو فرضنا أن الأرض قد طهرت من أدران الشركيات والوثنيات على اختلاف أنواعها فلا يجوز لنا أن نبيح اتخاذ الوسائل التي يخشى أن تؤدي إلى الشرك لأننا لا نأمن أن تؤدي هذه الوسائل ببعض المسلمين إلى الشرك بل نحن نقطع بأن الشرك سيقع في هذه الأمة في آخر الزمان إن لم يكن قد وقع الآن وإليك بعض النصوص الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون على بينة من الأمر:

ص: 90

1 -

" لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات النساء دوس حول ذي الخلصة ". (129)

ص: 91

2 -

" لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى فقالت عائشة: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله:} هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون { (131) أن ذلك تاما قال: إنه سيكون من ذلك ماشاء الله (132) ثم يبعث الله ريحا طيبة فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم "(133)

ص: 92

3 -

" لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد القبائل من أمتي الأوثان "(134)

ص: 93

4 -

" لا تقوم الساعة حتتى لا يقال في الأرض: الله الله وفي رواية: لا إله إلا الله "(135)

ففي هذه الأحاديث دلالة قاطعة على أن الشرك واقع في هذه الأمة فإذا الأمر كذلك فيجب على المسلمين أن يبتعدوا عن كل الوسائل والأسباب التي قد تؤدي بأحدهم إلى الشرك مثل ما نحن فيه من بناء المساجد على القبور ونحو ذلك مما سبق بيانه مما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر أمته منه

ولا يغتر أحد بالثقافة العصرية فإنها لا تهدي ضالا ولا تزيد المؤمن هدى إلا ما شاء الله وإنما الهدى والنور فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم إذ يقول:} قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم { (136)

ص: 94