الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الباب الثامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة
…
الباب الثّامن: في الإبانة عن تناقض الأمانة
في الإبانة عن تناقض الأمانة:
نبيّن فيه فساد أمانتهم التي يلقبونها بشريعة الإيمان، وهي التي لا يتمّ لهم عيد ولا قربان إلاّ بها. وكيف أكذب بعضها بعضاً، وناقضه وعارضه، وأنه لا أصل لها في شرع الإنجيل.
قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: "ذكر المؤرخون1 وأرباب النقل أنّ الباعث لأوائل للنصارى على ترتيب هذه الأمانة / (2/27/أ) - الملقبة2 أيضاً بالتسبيحة والشريعة ولعن من يخالفها منهم وحرمه - هو أن أريوس3 أحد أوائلهم، كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره، ولا يرى في المسيح ما يراه
1 يشير المؤلِّف إلى مجمع نيقية المسكوني الأوّل عام 325م، وقد اقتبس المؤلِّف خبر المجمع من كتاب التاريخ المعتمد عند النصارى وهو:"نظم الجوهر" لبطريرك الإسكندرية سعيد بن البطريق المتوفى سنة 328هـ والموافق 940م، وفي الكتاب ذكر مبدأ الخلق وتواريخ الأنبياء والملوك والأمم وأصحاب الكراسي بروما والقسطنطينية وغيرهما. ووصف دين النصرانية وفرق أهلها. (ر: أيضاً: مجموع الشرع الكنسي ص 40-50، جمع حناينا إلياس، موجز تاريخ المسيحية ص 268) .
وقد اشترك في النقل من كتاب ابن البطريق الكثير من علماء المسلمين الذين كتبوا عن النصرانية وفي الرّدّ عليها، ومن هؤلاء العلماء: الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح. (ر: بداية الجزء الثالث) ، والإمام القرافي في أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية ص 32-55، وابن القيم في هداية الحياري ص 313-339.
2 في م: المقلبة، وهو خطأ
3 آريوس: كان قسيساً بالإسكندرية عاش بين (256-336م) وكان ليْبِي الأصل وكان يقول: إن الله واحد فرد غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى، وبأن المسيح مخلوق ومصنوع. فهو يدعو إلى التوحيد ونبوة المسيح عليه السلام، وله ثلاثة آثار تنسب إليه هي: أ- بعض منثورات من كتابه (ثاليا) . ب- رسالتان: أحدهما إلى أوزيبيوس، والأخرى إلى أسقف الأسكندرية. جـ- العقيدة التي وجهها إلى الإمبراطور قسطنطين سنة 330م. (ر: فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية 2/286، 287، لويس غرديه، مختصر علم اللاهوت 2/35، عيسى يبشر بالإسلام ص 128، 149، م. عطاء الرحيم) .
النصارى؛ بل يعتقد نبوته ورسالته، وأنه مخلوق بجسمه وروحه، ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية1 عند الملك قسطنطين2 وتناظروا فشرح آريوس مقالته فردّ عليه الأكصيدروس3 بطريك الإسكندرية وشنع مقالته عند الملك قسطنطين ثم جلس الأكصيدروس وجماعة من حضر
1 نيقية: مدينة قديمة بآسيا الصغرى اسمها اليوم: (أزنيق)، أسست في القرن (4 ق. م) وكانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية (1204-1206م) . (ر: الموسوعة الميسرة ص 1867، المنجد في الأعلام ص 721) .
2 الإمبراطور قسطنطين الكبير: ابن غير شرعي لضابط روماني اسمه: (قنسطنطيوس) من خادمة إحدى الحانات اسمها: (هيلانة) ، ولم ينل قسطنطين حظاً وافراً من العلم، إذ انحرط في الجندية مبكراً، وبعد وفاة والده - الذي تقاسم الإمبراطورية الرومانية مع جليروس بعد اعتزال الإمبراطور دقلديانوس، نادى به الجند إمبراطور سنة 306م إلاّ أن القائد مكسنيوس نازعه عرش الإمبراطورية، وبعد معارك طاحنة استطاع قسطنطين القضاء على منافسه في معركة جسر ملفيان سنة 312م، بفضل دعم النصارى له بسبب تسامحه الديني الذي أظهره نحوهم بعد ما رأى كثرة عددهم في إمبراطوريته، وليضمن تأييدهم فقد أدَّعى أنه رأى - قبل معركة - في حلمه صليباً من نور في السماء وصوتاً يقول له: بأنه سينتصر بهذا الشعار، وبعد المعركة أصدر مرسوم ميلاد سنة 313م وفيه اعتبار النصرانية ديانة مرخصة، ثم في 324م ادّعى قسطنطين اعتناقه النصرانية بدلاً عن الوثنية الرومانية إلاّ أنه لم يعتمد ويعلن اعتناقه النصرانية رسمياً إلاّ وهو على فراش الموت سنة 330م. (ر: قصة الحضارة 11/382-403، حياة قسطنطين - يوسابيوس القيصري، الموسوعة الميسرة ص 1379، المسيحية نشأتها ص 172، 173، شارل جنيبر، يا أهل الكتاب ص 206-211، الدكتور رؤوف شلبي) .
وعُذري في هذا الاستطراد هو أن دور قسطنطين في انحراف المسيحية لا يقل أهمية وخطراً عن دور بولس اليهودي، فإن كان بولس قد زرع بذرة التثليث وما يتبعها من الانحرافات فإن قسطنطين هو الذي نمى شجرة التثليث ورعاها ونشرها بقوة السلطان، حيث إن الوثنية الرومانية يعتنقها قسطنطين دفعته إلى تأييد القائلين بالتثليث وألوهية المسيح - وهم أقلية - في مجمع نيقية ضدّ الأكثرية وهم الآريوسية القائلون بالتوحيد وبشرية المسيح.
أما حقيقة تنصر قسطنطين فيوضحه لنا المؤرخ ول ديورانت بقوله: "إن اعتناق قسطنطين المسيحية حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية!! وبأنه قلما كان يخضع لما تتطلبه العبادات المسيحية من شعائر وطقوس، وبأنه لم يكن مسيحياً حقّاً وإنما كانت المسيحية عند قسطنطين وسيلة لا غاية". اهـ. وبنحو ذلك ذكره أيضاً المؤرخ فاسيليف، والمؤرخ فيشر في كتابه:(تاريخ أوربا، العصور الوسطى) .
3 ذكر ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/20، أن اسمه الإكصندروس، والصحيح أنه إلكسندروس أو إلكسندر (ALEXANDAR) ولد بالإسكندرية، وأصبح سنة 295م البطريرك التاسع عشر للكرازة المرقسية (بابا الكنيسة القبطية بالإسكندرية) . وقد كان تلميذ البابا بطرس وروفيق أرشلاوس البابا الذي كان قبله، وكانت مدة جلوس إلكسندروس على كرسي الكرازة المرقسية (15) سنة. ومات في 17 أبريل سنة 328م. (ر: أخبار بطاركة كرسي المشرق ص 182-201/ عمرو بن متى، السنكسار 2/127، 128، جمع مجموعة من القساوسة) .
فتناظروا، فطال تنازعهم، فتعجب الملك من انتشار مقالاتهم وكثرة اختلافهم وأقام لهم [النّزل] 1 وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي، فاتّفق رأي الإكصيدروس وجماعة2 على نظم هذه الأمانة بعد أن أفسدوها دفعات وزادوا ونقصوا3 وهي هذه: "نؤمن بالله الواحد الأبّ ضابط الكلّ، مالك كلّ شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرّبّ الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق / (2/27/ب) كلّها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كلّ شيء، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح
1 في ص (النّزول) والصواب ما أثبتّه.
2 انتدب المجمع ثلاثة لوضع قانون الإيمان (الأمانة) وهم: إلكسندروس (البابا الإسكندري) ، وشماسه اثناسيوس، وليونتيوس (أسقف قيسارية) . (ر: قصة الكنيسة ص 189، إيريس حبيب) .
3 من العجب أن قانون الإيمان (الأمانة) قد وضع على عدة مراحل، ففي مجمع نيقية وضع الجزء الأوّل من الأمانة ابتداء من عبارة:"نؤمن بإله واحد" حتى عبارة: "للقضاء بين الأموات والأحياء وليس لملكه انقضاء". وكان ذلك بسبب مقالة آريوس إن الابن أصغر ومخلوق، وقد عقد المجمع بأمر الأمبراطور قسطنطين.
وفي مجمع القسطنطينية سنة 381م وضعت مؤخرة الأمانة ابتداء من عبارة: "ونؤمن بروح القدس
…
" الخ.
وكان ذلك بسبب مقالة مكدونيوس أن روح القدس مخلوق، وقد عقد المجمع بأمر الإمبراطور ثاؤديوس الكبير.
والمرحلة الأخيرة في مجمع أفسس سنة 431م وضعت مقدمة الأمانة ونصّها: "نعظمك يا أم النور الحقيقي، ونمجدك أيتها العذراء المقدسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم أتى وخلص نفوسنا، المجد لك يا سيدنا وملكنا المسيح فخر الرسل. أكليل الشهداء. تهليل الصدّيقين، ثبات الكنائس، غفران الخطايا، نبشر بالثالوث المقدس، لاهوت واحد، نسجد له ونمجده، يا ربّ ارحم، يا ربّ بارك آمين".
وكان ذلك بسبب مقالة نسطور إن مريم ليست أم الله، فانعقد المجمع لوضع المقدمة السابقة بأمر الإمبراطور ثيودوسيوس (أوثاديوس) الصغير. (ر: تاريخ الأقباط 1/178، 179، زكي شنوده، مجموعة الشرع الكنسي ص 82-90، جمع حنانيا إلياس) .
القدس وصار إنساناً. وحبل به وولد من مريم البتول1، [وأوجع] 2 وصلب أيام فيلاطس النبطي، ودفن وقام في اليوم الثّالث - كما هو مكتوب - وصعد إلى السّماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحقّ الذي يخرج من أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية3 وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين4.
1 البتول: من النساء العذراء المنقطعة عن الأزواج. وقيل: هي المنقطعة إلى الله تعالى عن الدنيا. (ر: مختار الصحاح ص 40) .
2 في م: ص (واتجع)، والتصويب من نصّ الأمانة التي ذكرها عبد الله الترجمان في كتابه:(تحفة الأريب ص 174) ، ومن معنى نصّ الأمانة في الفصل في الملل والنحل 1/118، لابن حزم، وقد وردت فيه بلفظ:(وألم) .
3 الجثيليق والجاثليق: ج جثالقة، متقدم الأساقفة (يوناينة) . (ر: المنجد ص 79 مادة: (جثل) . هي كلمة معربة. (ر: الصحاح ص 145) . ومعنى الجملة: أنهم المؤمنون بالكنيسة المقدسة المنَزَّهة الكهنونية.
4 إني أدعو القارئ الكريم إلى أن يقارن تسبيحة النصارى هذه بما ذكره ما لغيرو في كتابه المطبوع في باريس سنة 1895م والذي ترجمة إلى العربية (نخلة شفوات) سنة 1913م ما يأتي: "لقد ذكر في الكتب القديمة الهندية التي ترجمت إلى اللغة الإنجليزية عن عقيدة الهنود القدماء ما يأتي: (نؤمن بـ (سافسترى) - أي: الشمس - إله واحد ضابط الكلّ خالق السماوات والأرض وبابنه الوحيد (أكني) - أي: النر - نور من نور مولود غير مخلوق مساوٍ للأب في الجوهر تجسد من (فايو) - أي: الروح - في بطن (مايا) العذراء. ونؤمن بـ (فايو) الروح المحيي المنبثق من الأب والابن الذي هو مع الأب والابن يسجد له ويمجد". فالثالو ث القديم هو: (سافستري) أي: الأب السماوي و (أكني) النار، أي: الابن وهو النار المنبثقة من الشمس و (فايو)، نفخة الهواء أي: الروح. وهو أساس المذهب عند الشعوب الآرية (الهنود القدماء". اهـ. (نقلاً من كتاب: "إله واحد أم ثالوث - محمّد مجدي مرجان ص 81) . وانظر كتاب (البهائية) - عبد الرحمن الوكيل ص 173، 174) .
فهذا دليل من أدلة كثيرة على تأثر النصرانية المنحرفة بالقعائد الوثنية، فإن نصّ عقيدة الهنود القدماء مطابقة تماماً لما يسمى عند النصارى بـ: قانون الرسل أو الأمانة أو التسبيحة.
وقد علَّق على ذلك المشرف بقوله: "إن هذا الكلام المنسوب إلى عقيدة الهنود القدماء ليس له أساس يذكر، إنما الثالوث المعروف عند الهنود القدماء والمحدثين هو المكون من ثلاثة أقانيم هي: براهما ومعناه: (الخالق) ، وفشنو (الحافظ أو المدبر)، وسيفا (المهلك) من حقيقة واحدة هي (بارميشوار) . أي: الإله الأكبر أو الإله الأم.
قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: هذه الأمانة التي أجمع عليها اليوم سائر فرق النصارى من اليعاقبة والملكية والنسطورية، وهي التي يزعمون أنهم لا يتمّ لهم عيد ولا قربان إلاّ بها، وهي مع كونها لا أصل لها في شرع الإنجيل ولا1 مأخوذة من قول المسيح ولا أقوال تلاميذه مضطربة متناقضة / (2/28/أ) متهافتة2 يكذب بعضها بعضاً ويعارضه ويناقضه3.
وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: قولهم: "نؤمن بالله الواحد الأب ضابط الكلّ مالك كلّ شيء صانع ما يرى ولا يرى". فهذا أوّل الأمانة قد أثبتوا فيه الانفراد لله4 بالألوهية والربوبية والوحدانية. وأنه المستبد بالخلق والاختراع. وأنه مالك كلّ شيء وضابطه وخالقه. فدخل في هذه المخلوقات المسيح روح القدس وغير ذلك. وذلك أنهما إن كانا مرئيين كالأجسام والأعراض فالأب الواحد خالقهما، وأن كانا غير مرئيين كالأرواح والعقول فالأب خالقهما وصانعهما، فهذا كلام حسن لو ثبتوا عليه ولم يشوشوه بالتشريك، غير أنهم نقضوا5 ذلك على الفور
1 و (2) في م: (وألا) .
2 في ص (متاهفتة) والصواب ما أثبتّه.
3 لقد اهتم علماء المسلمين بهذه الأمانة لأهميتها عند النصارى كما ذكر المؤلِّف. فلا يخلو كتاب في الرّدّ عليهم من ذكر هذه الأمانة والإشارة إلى تناقضها واستحالتها أو تحليلها ونقدها بالعقل والنقل. ومن تلك الكتب: تثبيت دلائل النبوة 1/94، 95، للقاضي عبد الجبار، الملل والنحل 1/223، للشهرستاني، الفصل في الملل والنحل 1/118 لابن حزم، والجواب الصحيح 2/119-121، لابن تيمية، وهداية الحياري ص 268، 269، لابن القيم، تحفة الأريب ص 174-184، لعبد الله الترجمان، أدلة الوحدانية ص 98-101، للقرافي، النصيحة الإيمانية ص 185-160، لنصر المتطبب.
ولقد تتبع المؤلِّف نصّ هذه الأمانة فقرة فقرة ونقدها نقداً علمياً بأدلة العقل والنقل. وهذا مما يميّز ردّ المؤلِّف رحمه الله عن سائر الرذود الأخرى ويجعل ردّه على هذه الأمانة من أشمل الردود التي وقفت عليها من كتب التراث - حسب علمي القاصر -. وقد اختصر أبو الفضل المالكي هذا الكتاب في مختصره سمّاه: (المنتخب الجليل من تخجيل مَنْ حرَّف الإنجيل) .ونقل هذه الردود بأكملها في الباب الرابع منه.
كما تتبع د. أحمد حجازي السقا في كتابه القيِّم: (أقانيم النصارى ص59-66) فقرات هذه الأمانة بالتحليل والنقد الشامل.
4 في م: الله.
5 في م: نقضوه.
فقالوا: "ونؤمن أيضاً أن مع هذا الإله الواحد المستبد بخلق ما يرى وما لا يرى [رباً آخر1 واحداً2 أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيء". وفي أوّل الأمانة بأن الله هو خالق كلّ شيء. ثم لم يلبثوا أن قالوا: كلا ولكن المسيح ابن مريم هو خالق كلّ شيء ومتقنه. وهذا غاية التناقض. وفيه عبادة رجل من بني آدم مع الله سبحانه. لأن يسوع المسيح اسم / (2/28/ب) للإنسان المنفصل من مريم، وذلك مناقض لاعتقاد الماضين من أسلافهم وأكابر دينهم ومُدوِّني إنجيلهم كما قدمناه في مواضعه. ومناقض لما اشتملت عليه التوراة والمزامير وسائر النبوات من توحيد الله وإفراده بالربوبية والألوهية.
- الوجه الثّاني: قول الأمانة: "إن يسوع المسيح ابن الله بكر الخلائق الذي ولد من أبيه". وذلك مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلاّ تأخره عنه وتقدم والده عليه في الوجود. إذ الولد والوالد لا يكونا معاً في الوجود. إذ كونهما معاً مستحيل ببداية العقول.
وكذلك قولهم: "إن يسوع بكر الخلائق كلّها". مع ما في لفظه من الزيادة، لا يفهم منه إلاّ أن المسيح خلقه الله قبل خلق كلّ الخلائق؛ لأن باكورة الشيء أوّله. وذلك مناقض لقولهم في الأمانة:"وليس المسيح بمصنوع بل هو إله حقّ". فبينا هو في الأمانة مولود مصنوع إذ نعتوه بكونه غير مصنوع، فصار حاصل هذا الكلام أن المسيح مخلوق غير مخلوق، وكفى بذلك تجاهلاً وخذلاناً؛ لأن الأب لا [يخلو] 3 أن يكون / (2/29/أ) ولد وَلَداً لم يزل. أو وَلَدَ ولداً لم يكن. فإن قالوا: ولد ابناً لم يزل.
1 في ص (رب آخر واحد) والصواب ما أثبتّه
2 ليست في (م) .
3 في ص (يخلوا) والصواب ما أثبتّه.
قلنا لهم: فما ولد شيئاً إذ كان الابن لم يزل. وإن ولد ابناً لم يكن فالولد1 حادث مخلوق. وذلك مكذب لقول الأمانة: "إنه إله حقّ من جوهر أبيه. وإنه أتقن العوالم بيده وخلق كلّ شيءٍ".
- الوجه الثّالث: قول الأمانة في المسيح: "إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه". ينقضه قول المسيح في الإنجيل وقد سئل عن يوم القيامة، فقال:"لا أعرف ذلك، ولا يعرفه إلاّ الأب وحده"2.
فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب، لكنه إنسان حقّ من إنسان حقّ من جوهر أبيه داود. إذ سئل داود وغيره من الأنبياء عن القيامة وأشياءكثيرة فقالواكقول المسيح هذا: لا نعلم ذلك، ولا يعلمه إلاّ الله وحده.
ولو قال قائل: إن جوهر الماء من جوهر النار لكان [أحمق]3. فكذلك من يقول: إن جسم إنسان وهو مركب من لحم ودم4 وشعر وظفر وأقذار وأسنان من جوهر الإله الذي يستحيل عليه هذه الأمور.
ثم لو جاز أن يكون إله يأتي من إله أوّل لجاز أن يكون ثالث من ثاني ورابع من ثالث ولما وقف الأمر على غاية. وإذ5 أبطل / (2/29/ب) ذلك من أصله وجب الرجوع إلى قول المسيح: "إن أوّل الوصايا: الرّبّ واحد6. وقوله في إنجيل
1 في م: قالوا. وهو خطأ
2 مرقس 13/32.
3 في ص (أحمقا) والصواب ما أثبتّه.
4 ليست في (م) .
5 في م: وإن.
6 متى 22/35.
يوحنا: "الله الإله الحقّ هو الذي أرسل يسوع المسيح1. وإلى قوله في إنجيل مرقس وغيره: "لا صالح إلاّ الله وحده"2. وإلى أوّل الأمانة: "إن الله واحد مالك كلّ شيء صانع ما يرى وما لا يرى".
- الوجه الرّابع: قول الأمانة: "إن يسوع المسيح أتقن العوالم وخلق كلّ شيء". وذلك مناقض للإنجيل ومكذب له إذ يقول متى: "هذا مولد يسوع المسيح ابن داود"3. ومن أتقن العوالم وخلق كلّ شيء لا يكون متأخراً عن العوالم وتكون العوالم سابقة له. ثم مِن العالَم أمه مريم فكيف يوصف بأنه خالق أمه قبل أن تلده؟ ! ومِنَ العالَم الثياب التي لُفَّ بها والمعلف الذي أَكنَّه وهو طفل والطعام الذي نمَّى أعضاءه. وذلك من الغلوّ الذي لا يخفى فساده عن لبيب.
أما كان في شيوخ الأمانة من تصفح فساد هذا الكلام قبل تسطيره؟ ألم يسمعوا إلى قول الإنجيل: "إن إبليس قال للمسيح: اسجد لي وأعطيك جميع ما في العالم وأملكك كلّ شيء"4. وإبليس بزعمهم / (2/30/أ) من جملة مَنْ خلقه المسيح، فكيف بقي خالق العوالم محصوراً في يد بعض العَالَم يسحبه من مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له وجعله من جملة أتباعه؟!.
أعوذ بالله من العماء والضلال والغلوّ في الرجال.
- الوجه الخامس: قول الأمانة: "إن المسيح الإله الحقّ الذي خلق كلّ شيء، نزل من السماء لخلاص الناس، وتجسد من روح القدس إنساناً وحبل به وولد".
1 يوحنا 17/1-3
2 مرقس 10/18، لوقا 18/18.
3 متي 1/1.
4 متى 4/8، 9.
في هذا الكلام عدة مفاسد، منها: أن المسيح اسم لا يخص الكلمة على تجردها ولا الجسد على تجرده. بل هو اسم يخص هذا الجسد المأخوذ من مريم والكلمة معاً. ولم تكن الكلمة في الأزل تسمى مسيحاً. فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء. والدليل على ذلك قولهم: "وتجسد من روح القدس". لأنه لو كان الذي نزل هو المسيح لم يكن لتجسده ثانية معنى. وتجسد المتجسد محال.
ومنها: قولهم:"إنه نزل من السماء".وهذا الموصوف بالنُّزُول لا يخلو أن يكون الكلمةأوالناسوت، فإن/ (2/30/ب) زعموا أن الذي هو الناسوت فذلك مكذّب بنصوص الإنجيل إذ صرّحت بأن الناسوت مكتسب من جسد مريم.
وإن زعموا أنه اللاهوت، قلنا لهم: أتعنون الأب أم صفته، وهي العلم؟! فإن زعموا أنه الأب نزل وتجسد لزمهم لحوق النقائص [بالباري] 1 من الأكل والشرب والقتل وحصر الشيطان وغير ذلك. ثم ذلك لا يقول به أحد منهم.
وإن زعموا أن النازل المتجسد هو العلم المعبر عنه بالكلمة قلنا لهم: لو جاز على ما وصفتموه من التجسد لجاز أَحَدُ مَخذُورَيْن، وهو إما بقاء الباري ولا علم له، أو جعله عالماً بعلم قائم بغيره. ثم النُّزُول والصعود والحركة والانتقال والتفريغ والاشتغال، كلّ ذلك مستحيل على الباري وعلى صفاته2. وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون النّازل من السماء هو المسيح؛ لأن المسيح اسم موضوع للمعنيين: الكلمة والجسد عندهم.
1 في ص (به الباري) والصواب ما أثبتّه
2 سبق بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، والرّدّ على شبهة المبتدعة.
ومنها قولهم: "إنه إنما نزل وتجسد وحبل به لخلاص معشر الناس". فهم يريدون أن آدم لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان / (2/31/أ) وأوجب عليهم الخلود تحت طباق النيران، فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به، فإنهادعوى لا دلالة عليها، وقدأبطلناها فيما تقدم.
وهب أنا سلمنا لكم، فأخبرونا عن هذا الخلاص الذي يعني الإله الرّبّ الأزلي وفعل بنفسه ما فعل من الدنايا التي جرت عليه في زعمكم، ما هو؟ أو ممن خَلصكم؟! وبمَ خَلَّصكم؟! وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينه وبينهم أثلاثاً؟! وكيف صار مبتذلاً ممتهناً في خلاصكم دون الأب والروح؟!.
فهذه عدة أسئلة، فإن زعموا أن الخلاص قد حصل لهم من تكاليف1 الدنيا وهمومها وأمراضها وأعلالها وهرمها وموتها، أكذبهم الحسُّ، فإنا نراهم ولا مزية لهم على سائر البشر.
وإن زعموا أنهم قد خلصوا من هموم السعي في طلب الرزق والتكسب للعيال والتبذل في تحصيل ضرورات العيش أكذبهم الحسُّ أيضاً.
وإن زعموا أنهم/ (2/31/ب) قد خصلوا من تكاليف الشرع، وأنهم قد حطّ عنهم المسيح بمجيئه الصوم والصلاة وسائر وظائف التكليف، وأنهم غير مؤاخذين بشيء منها، أكذبهم العافرون بما وُظِّف عليهم من الصوم والصلاة والقرابين وغير ذلك.
وإن زعموا أنهم خلصوا من أحكام الدار الآخرة، وأن من تعاطى في الدنيا جريرة فزنى منهم وسرق وقتل وقذف لا يؤاخذ يوم القيامة بشيء من ذلك
1 في م: تكليف
أكذبهم الإنجيل والنبوات، إذ يقول المسيح في الإنجيل:"إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعدِّ لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم"1.
وإذا كان هذا حالكم في الدنيا والآخرة، فأين الخلاص الذي تدعون أن الإله تعنى ونزل إلى الأرض وأكل وشرب وخامرته الهموم والغموم وذاق الموت ليحصِّله لكم، وسميتموه بسببه:"مخلص العالم". وإذا لم يحصل لكم الخلاص الذي تدعون فقد بطلت الأمانة.
فهذا بحثنا عن ماهية الخلاص الذي جاء لأجله فلم / (2/32/أ) يتهيأ له؛ بل بقيتم مركوسين منكوسين على ما كنتم عليه قبل مجيئه.
فأخبرونا ممن خلّصكم؟! هل كان قد غلبه عليكم غالب؟ أو سلبكم من يديه سالب؟ وهل كان معه مزاحم له عليكم أوقع بكم من المكروه ما اضطرّه إلى تجشمه هذه النقائص لخلاصكم؟!.
فإن قلتم: إنه كان له عدوّ مناصب، قد عاث في مملكته حتى استولى2 عليها وحاز أطرافها وجرت3 فيها أحكامه شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، فما نرى هذا العدوّ الذي تدعون إلاّ أعظم منه مملكة. وأعزّ جانباً، وأنفذ قدرة، ومن كان هذا حاله فهو لا شكّ أحقّ بالعباد والبلاد منه.
1 متى 25/31-46، في سياق طويل. قد ذكره المؤلِّف مختصراً.
2 في م: اسوى
3 في م: جرب
فما نرى هذا الرّبّ الذي تشيرون1 إليه إلاّ معزّاً2 بنفسه في مقاومة هذا العدوّ، مخاطراً بمهجته، مهوراً في رأيه، مدخولاً عقله، خفيفاً حكمه، إذ رام مكافحة من هو أثبت جناناً وأعزّ مكاناً، وأكثر أعواناً، فهذا بحثنا عمن كنتم في يده.
فأخبرونا بمَ خلَّصكم؟ فإن زعموا أنه نزل إلى الأرض فربط الشيطان واستنقذكم من يده، وأهانه ونكل به غاية التنكيل، وعاقبه أشدّ العقوبة ومحى آثاره وطمس معالمه، وأهان جنده3 ومن يقول بقوله، فلعمري إن ذلك لقمن/ (2/32/ب) أن يعبد4 ويفزع إليه في النوازل ويصمد.
وإن زعموا أن الأمر على العكس من ذلك، وإن المسيح الإله الرّبّ الذي يعبدونه، نزل إلى الأرض يروم خلاصكم، فاستعمل التقية وأعمل5 الروية وسكن إهاب امرأة، يقلب الأمر بطناً وظهراً ويُقْدِم تارة ويحجم أخرى، ثم استعار منها صورة إنسان، وأخفى نفسه بغاية الإمكان. وكان يفر من الناصرة إلى الجليل. ويتحول من خليل إلى خليل، والشيطان يطلبه ويرقبه. والمسيح يتباعد عنه ولا يقربه. ولما رآه الشيطان قد أعمل مطايا الحذار، و [اختار] 6 طول الاستتار بالحذار، وَكَّل به شرذمة من أتباعه، فآذوه ضرباً ثم قتلوه صلباً، لقد كذبوا وكذبت الأمانة التي لهم في دعوى الخلاص. فهذا بحثنا عن سبب خلاصكم الذي عوّلتم عليه.
فأخبرونا أليس الأقانيم المعبودة الثلاثة
1. في م: الرّب يسرون
2.
في م: معراً.
3 في م: جمعه.
4.
في م: يعبده
5.
في م: وأغمد.
6 في ص (اختال) والصواب ما أثبتّه
قديمة أزلية، وهي: أب وابن وروح قدس. فما الذي أوجب اختصاص الابن بالنُّزُول ومحاربة الشيطان، دون الأب والروح، مع استوائهم في الربوبية؟!.
أكان أحْنى على العباد منهما وأرحم؟! أم جريمة الشيطان إليه أكبر وأقحم؟! وما الذي أصاره أولى بالتبدّل والتبديل من الأب والروح ونسبتهم في / (2/33/أ) الربوبية واحدة؟!.
- الوجه السّادس: قول الأمانة: "وتجسد من روح القدس". وذلك باطل بنصّ الإنجيل؛ إذ يقول1 متى في الفصل الثاني من إنجيله: "إن يوحنا المعمداني حين عمَّد المسيح جاءت وروح القدس إليه من السماء في شبه حمامة"2. وذلك بعد ثلاثين سنة من عمر المسيح. وإذا كان ذلك كذلك بطل أن يكون متجسداً من روح القدس وكذبت الأمانة. وإذا كان لا بدَّ من تصديق المُخْبِر، فإخبار نبي الله يحيى بن زكريا أولى بالتصديق من أخبار مَن جاء بعد المسيح بمدة متطاولة، ونظم هذه الأمانة المتناقضة، ثم التجسد من شيء إنما يصح لو كان من جنسه كالماء مع الماء وكالنار والنار3. ولا تجانس بين الإله والإنسان، وبين القديم والحادث، وكلّ ذلك يرد الأمانة. ويبيّن زلل مَن4 عقدها.
- الوجه السّابع: دعوى النصارى بأجمعهم أن المسيح ابن الله:
إن كان كما يقولون فقد كذبت الأمانة في قولها: "إن المسيح تجسد من روح القدس".
وإن كانت الأمانة صحيحة فالمسيح ابن روح القدس، وليس هو ابن الله. فقد تناقضت الأمانة واعتقادهم؛ إذ في صحّة / (2/33/ب) أحدهما بطلان الآخر.
- الوجه الثّامن: قول الأمانة: "إن المسيح نزل من السماء، وحبلت به امرأة
1 في م: قال
2 متى 3/16، 17.
3 ليست في (م) .
4 ليست في (م)
وسكن رحمها". مُكَذَّب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه: "إن الله هو خالق العالم بما فيه، وهو ربّ السماء والأرض، لا يسكن الهياكل، ولا يناله أيدي الرجال، ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء؛ لأنه هو الذي أعطى الناس الحياة فوجودنا به، وحياتنا وحركاتنا منه1. فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا يسكن الهياكل، ولا تدنه أيدي الرجال، وذلك مُكذّب للأمانة في دعواها سكون الكلمة في هيكل، مريم، وتحولها إلى هيكل المسيح، ومفسد عليهم دعوى قتل المسيح وصلبه، إذ يقول لوقا: "إن الباري لا تناله أيدي الرجال".
وشهد أيضاً بأن المسيح مخلوق؛ لأنه من جملة العالم الذي خلقه الله وذلك تكذيب لدعوى النصارى، ومَشَوَّش نظام الأمانة إذ يقول:"إن المسيح هو إله خالق غير مخلوق". وقد شهد فولس بأن المسيح عبد الله، وأن الله إله وربه، فقال في صدر رسالته الخامسة:"إني قد سمعت بإيمانكم، لست أَفْتَر من الدعاء/ (2/34/أ) لكم في صلاتي أن يكون إله سيدي يسوع المسيح الأب المجيد يعطيكم روح الحكمة والبيان، وينير عيون قلوبكم"2.
فهذا فولس المؤتمن عندهم يشهد بأن الله هو إله المسيح، وذلك مما يبطل الأمانة التي لفقوها، والوثوق بهذا القول من فولس أولى من قول غيره، ممن جاء بعد المسيح. وهذا القول من فولس موافق لقول المسيح حيث يقول:"إني ذاهب إلى إلهي وإلهكم"3.
- الوجه التّاسع: تسمية يسوع: "المسيح" يستدعي ماسحاً مسحه، وفاعلاً
1 أعمال الرسل 17/24، 25
2.
رسالته إلى أهل أفسس 1/15-18
3 يوحنا 20/17.
فعله، وإذا كان مسيحاً بمعنى ممسوح، وقد ثبت بقول الأمانة:(أنه مصنوع) . فإذا قالت: إنه ليس بمصنوع، صار تقدير الكلام أن المسيح مصنوع، ليس بمصنوع ومخلوق ليس بمخلوق؟!.
ولم تزل بني إسرائيل من زمن موسى يتخذون دهناً مجموعاً من عدة أنواع من الطيب في قرن معلق في الهيكل، تمسح به الكهنة من أرادوا تمليكه، وربما فار القرن عند دخول من يقع الاختيار على تمليكه، فيكون علامة على تمليكه1.
وقد تنبأ داود على المسيح فقال: "من / (2/34/ب) أجل هذا مسحك ربك بدهن السرور أكثر مما مسح نظراءك"2. فشهد داود بأنه ممسوح، وأن الله ماسحه وأنه مربوب، وأن الله ربّه، وأن له نظراء قد مسحوا قبله، وذلك مناقض لقول الأمانة: "إن المسيح خالق غير مخلوق".
وقال داود أيضاً نبوءة على المسيح في المزمور الخامس والأربعين: "يا من فاق الناس جمالاً لقد أفرغت الرحمة على شفاهك"3. فبيَّن أنه إنسان، وأنه جميل الصورة، وأن الله أفرغ الرحمة على فيه، فلو كان المسيح هو الله أو صفة من صفاته لاتَّحَدَ الماسح والممسوح والقائل والمقول له، وذلك مما يفسد الأمانة، ويزحزح أركانها.
- الوجه العاشر: قول الأمانة: "إن يسوع بعد أن قُتل وصلب قام من الأموات،
1 ورد في قاموس الكتب ص 859: "أن المَسْح في الكتاب المقدس هو صبّ الزيت أو الدهن على الشيء؛ لتكريسه لخدمته تعالى، وقد صار التدهن علامة الفرح، وتركه علامة الحزن، فكانوا يمسحون الكهنة والأنبياء والملوك". اهـ. بتصرف.
2.
مزمور 45/7.
3 مزمور 45/2.
وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه"1. وذلك من الكذب الفاحش، والاعتقاد الفاسد، أما كونه من الكذب الفاحش فإنه ليس أحد من القائلين هذا الكلام صعد إلى السماء ورأى ذلك عياناً وعاد إلى الأرض فأخبر به.
وأما كونه من الاعتقاد الفاسد فإنه متى جلس شيء عن يمين شيء / (2/35/أ) أو عن جهة من جهاته دلَّ على حدث الشيئين، ثم لا خلاف عندهم أن جسد يسوع حادث؛ إذ قالوا: إن هذا الجسد الحادث قد جلس عن يمين الله - فقد اعتقدوا أن الباري تعالى [جسم] 2 من الأجسام. وسارووا في ذلك حشوية من اليهود القائلين بأن الله تعالى في صورة شيخ أبيض الرأس واللحية، وأنه ينْزل إلى الأرض، ويتردد فيها.
وقد جمعوا في هذا الموضع بين أمرين متناقضين، وهو أنهم قالوا في أوّل الأمانة:"إن المسيح إله حقّ خالق كلّ شيء". فإذا قالوا ها هنا: إنه قتل وصلب ودفن بين الأموات فقد اعترفوا بأن المخلوق قتل خالقه، والمصنوع صلب صانعه.
- الوجه الحادي عشر: قول الأمانة: "إن يسوع هذا الرّبّ الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى؛ لفصل القضاء بين الأحياء والموات". للمنكر عليهم أن يقول: إنه لما تجشَّم أوّل مرة فجرى عليه من الشيطان وحزبه ما وصفتم من الأذى والإهانة والقتل والصلب فرَّ إلى أبيه ليستريح برهة، وتثوب إليه نفسه وتستجم قوته، وليستظهر بالعدد والعدد من عند أبيه / (2/35/ب) ، ثم يأتي ثانية لمحاربة عدوه، فإما عليه وإما له.
1 في م: ربه
2.
في ص (جسما) والتصويب من المحقِّق
وأما قول الأمانة: "إنه يعود لفصل القضاء بين الأحياء والأموات". فهو نازل منْزلة قول القائل:
وفي حياتي ما زودتني زادا
لا ألفينك بعد الموت تندبني
إذا زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تَمَّ عليه من أعدائه ما تمّ، فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية؟!.
- الوجه الثّاني عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بروح القدس الذي يخرج من الله". فيه تصريح بأن المسيح وروح القدس [أخوان وأن الله أبوهما] 1 جميعاً. إذ تقول الأمانة: "إن يسوع ولد من أبيه، وإن روح القدس يخرج من أبيه". أيضاً.
وذلك مُكذِّب بقول لوقا في إنجيله: "إذ حكى عن الملك أن الذي ولدته مريم هو روح القدس"2. وإذا كان المسيح من روح القدس في الإنجيل، وروح القدس من الله في الأمانة، فقد تناقض الإنجيل والأمانة؛ إذ الأمانة تجعلهما أخوين قد ولدا3 من الله. والإنجيل يقول:"لا بل المسيح من روح القدس، وذلك خبط عظيم". فقد وضح لك بطلان قول/ (2/36/أ) الأمانة: "إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم كلّها، وأنه بكر الخلائق كلّهم، فكيف يكون قبل العوالم، وقد سبقه روح القدس، بشهادة الإنجيل.
- الوجه الثّالث عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الخطايا". فيه مناقضة عظيمة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لا يغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سمّوه:"حمل الله الذي يحمل خطايا العالم". ودعوه أيضاً: "مخلص العالم من الخطيئة". فإذا آمنوا بأن المعمودية
1 في ص (أخوين وأن الله أباهما) والصواب ما أثبتّه
2 لوقا 1/35
3.
في م: ولدوا
الواحدة هي التي تغفر خطاياهم من ذنوبهم فقد صرحوا أنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة، فإن كان التعميد كافياً فقد اعترفوا بوقوع القتل عبثاً.
وإن كان لا تحصل المغفرة بدون قتل المسيح فقد تناقضت الأمانة، وكذبت في دعوى المغفرة بالتعميد؛ إذ كان لا بدَّ من القتل.
- الوجه الرّابع عشر: قول الأمانة: "ونؤمن بجماعة واحدة قديسية". يعنون من عقد لهم هذه الأمانة، التي نحن نتكلم على تناقضها ونوضح فسادها، / (2/36/ب) وفي الإيمان بها [ولهؤلاء] 1 القوم كفرٌ بالمسيح، وردّ لأقواله وأقوال تلاميذه، وبيانه هو:
أن المسيح عليه السلام قد شحن إنجيله بتوحيد الله وتمجيده وتقديسه وتنْزِيهه عن الثاني والثالث وإفراده بالربوبية والألوهية، فقال عليه السلام:"الله واحد هو الله"2. وقال: "إن الله لم يره أحد قط"3. وقال: "لا ينبغي لأحد أن يعبد رَبيَّن"4. وقال: "لا صالح إلاّ الله وحده"5. ورفع وجهه إلى السماء وقال: "إلهي أنت الإله الحقّ الذي أرسلت المسيح"6. فهذه أقوال المسيح التي روتها عنه تلاميذه، ليس فيها تثنية ولا تثليث؛ بل مجردة لتوحيد الباري جلّ وعلا.
1. في ص، م (ولاي) . ولعل الصواب ما أثبته. - والله أعلم
2 -
. يوحنا 5/44.
3 يوحنا 1/18.
4 متى /10، ونصّه:"قال له يسوع: لأنه مكتوب للرّبّ إلهك تسجدوا إياه وحده تعبد".
5 مرقس 10/18.
6 يوحنا 17/1-3.
فإذا قالوا في الأمانة: "إنهم يؤمنون بأن الآلهة ثلاثة أزلية، وإن إلهاً واحداً ولد إلهاً مثله، وإن امرأة من بني آدم ولدت ربّها، وأرضعت خالقها ثديها، وأفرشته حجرها، وإن الرّبّ الذي أتقن العالم بيده كلّ شيء قد قوتل فقتل، وغولب فغلب، ودفن في المقابر، كما رَتَّبوه في أمانتهم، فلا شكّ في كفرهم بالمسيح وتلاميذه، لأن من آمن بالثالوث فقد كفر بالتوحيد فإن كانت [الأمانة] 1 صادقة فقد كذب / (2/37/أ) الإنجيل، وإن كان الإنجيل صادقاً فقد كذبت الأمانة، وتَبَيَّن عِشُّ من ألفها أو غلطه.
وبعد - يرحمك الله - فقد أقام المسيح وتلاميذه وأكابر أصحابه برهة من الزمان بالناصرة والجليل وأورشليم وغيرها من البقاع، يصلون لله إله إبراهيم ويتعبدون له.
فهل حفظ عنهم أو عن أحد ممن روى عنهم أنه كان إذا قام إلى مصلاّه وشرع يناجي مولاه يقرأ هذه الأمانة المتضمنة عبادة ثلاثة آلهة، بعضها آب، وبعضها ابن، وبعضها قاتل، وبعضها قتيل، وبعضها والد، وبعضها مولود، فكون المسيح وخيار أصحابه لم يؤثر عن واحد منهم من ذلك لفظة ولا كلمة واحدة من أدل دليل على افتعال هذه الأمانة، وجهل من عقدها، وسخريته بدين النصرانية، وقصده الإزراء بهم وإبداء عوراهم.
- الوجه الخامس عشر: في طريق امتحان هذه الأمانة، ومعرفة حقّها من باطلها وصحتها من فسادها؛ بأقوال الأنبياء الذين تنبؤوا على المسيح، وأقوال أصحابه الذين شاهدوه وأخذوا عنه أقواله المروية عنه / (2/37/ب) وفي الإنجيل.
فنقول لمن نظم هذه الأمانة وعقد هذه الشريعة: قد زعمت أن المسيح إله حقّ، وأنه أتقن العالم بيده، وخلق كلّ شيء، فنحن نورد عليك نصوص2
1 إضافة يقتضيها السياق، ولعلها سقطت من الناسخ
2.
في م: بنصوص
كتبك وآيات صحفك، وأقوال مشائخك، وسلفك، وما تنبأ به الأنبياء على من ادعيت ربوبيته، ونحاكمك إلى نفسك فنقول: قالت التوراة في آيات تفوت الحصر: "إن الله تعالى إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب واحد لا شريك له". وقال في العشر كلمات من التوراة: "أنا الله ربّك الذي أخرجتك من مصر بيدي القوية، لا يكن لك إله غيري"1.
وقال: "لا تشبهوني بشيء مما في السماء ولا مما في الأرض ولا مما في البحار، أنا الله إله واحد جبار غيور، لا تتّخذوا آلهة غيري"2. وذلك في التّوراة كثير، وهو تكذيب لأهل الأمانة في قولهم: "إنّ مع الله إلهين آخرين؛ أحدهما إنسان من بني آدم".
وقال أشعيا في نبوته: "قال إله إسرائيل: أنا الأوّل والآخر، وليس بعدي غيري"3.
وقال: "عرف الحمار والثّور ربّه، ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"4.
فقد أكذبهم أشعيا في نظم هذه الأمانة، ودعواهم أنّ الآلهة / (2/38/أ) ثلاثة قديمة أزلية.
وقال داود في مزموره وهو يناجي ربّه: "يا ربّ إنك حين عبرت ببلاد أشيمون تزلزت5 الأرض من هيبتك، وانفطرت انفطاراً - ثم قال - ما لك أيها البحر هارباً مزبداً، وأنت يا نهر الأردن ما بالك وليت راجعاً، وما لكم أيّها الجبال طفرتن6 كالأيائل" - ثم أجاب عن ذلك بنفسه - فقال: "من هيبة الرّبّ تزلزت البقاع، واصطربت الشوامخ"7. فهذا الذي يليق بجلال الله وعظمته لا ما
1 سفر الخروج 30/2، 3
2.
سفر الخروج 30/2-4.
3 سفر أشعيا 44/6.
4 سفر أشعيا 1/3.
5 في م: تزلزل.
6 في م: اصطفرتن
7.
مزمور 114/1-7، بألفاظ متقاربة
وصفه به النصارى من الجوع والعطش، والتعب والسهر، والضعف والعجز، والانحصار في الرحم، والقتل والصلب، تعالى الله عن هذيانهم علوّاً كبيراً.
وقال المسيح في إنجيله: "الله لم يره أحد قط"1. وقال أيضاً فيما رواه تلاميذه عنه: "إنّ أوّل الوصايا كلّها: اسمع يا إسرائيل الرّبّ واحد فاحبّه من كلّ قلبك ومن كلّ قوتك"2. ففي هذه الوصية سائر وصايا الأنبياء، وقال فيما رواه عنه يوحنا التلميذ:"إلهي أنت الإله الحقّ، وحدك الذي أرسلت يسوع"3. وقال له إنسان: "يا معلم صالح". فقال: "لم [تدعونني] 4 صالحاً، لا صالح / (2/38/ب) إلاّ الله وحده"5. وقال: "أنا ذاهب إلى إلهي"6. وقال: "إلهي أعظم مني"7. وقال: "إلهَي إلَهِي لِمَ تركتني؟ "8. وقال لوقا: "قال جبريل لمريم: إنك ستلدين ابناً يكون عظيماً، يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود"9. فشهد عن الله تعالى بأن المسيح هو ابن داود.
وقال بطرس، الحواري في الفصل السّابع من رسالته الأولى:"إن الله هو إله النعمة كلّها، وهو الذي دعانا إلى مجده الدائم بالسيد المسيح، له التسبيح والعزّ إلى دهر الداهرين"10. فهذا توحيد أنبياء الله تعالى لخالقهم، وتنْزيههم له سبحانه مسطور مزبور في كتبهم، قد نهجوه لأتباعهم، فتلقوه عنهم، وكلّ
1. يوحنا 1/18.
2 متى 22/35-37
3.
يوحنا 17/1-3.
4 في ص، م (تدعني) والصواب ما أثبتّه
5.
مرقس 10/18، لوقا 18/18.
6 يوحنا 20/17.
7 يوحنا 14/28.
8 متى 27/46.
9 لوقا 1/32.
10 رسالة بطرس الأولى 5/10، 11
ذلك تكذيب لهذه الأمانة، وردٌّ على من عقدها؛ فإنها تقول: إنه إله، وإنه أتقن العالم بيده وخلق كلّ شيء. وهذا جبريل يخبر عن الله أنه ولد من الناس وأن والده داود، وهذا المسيح يخبر عن نفسه بما سطرناه، فلا التفات بعدها للمحال المضمَّن في هذه الأمانة، التي هي في الحقيقة فساد الأمانة.
وقد قال داود في المزامير: "إن المسيح رجل قد فاق الناس جمالاً"1. وشبَّهه برجل / (2/39/أ) كاهن، كان في زمن إبراهيم الخليل خادماً للبيت المقدس، فقال في مزموره: "يا مسيح أقسم الرّبّ إنك أنت الكاهن المؤيّد يشبه ملك الصادق"2.
فما بال داود لم يقل إن المسيح هو الإله الحقّ الذي أتقن بيده العالم وخلق كلّ شيء، وإنه المولود من الله قبل الدهور، كما هذوا به الأمانة التي لهم؟!.
وكيف يقول نبي الله داود إن المسيح رجل من الآدميين، يشبه كاهناً من الكهان؟! ويقول أصحاب الأمانة: كلا، ولكنه الإله الذي خلق الكاهن ملكي صادق وغيره.
فإن قالوا: قد خبر جبريل مريم حين بشرها بأن الرّبّ معها، فقال لها:"مريم ربنا معك".
قلنا: ليس كم ذهبتم إليه. وإنما أراد بالمعية ها هنا المعاضدة والمؤازرة وحسن الإرفاق والتعهد بالمعونة. والدليل عليه قول الله في التوراة لموسى: "اذهب برسالتي إلى فرعون، وأنا أكون معك، وراقبا للسانك"3. وقال ليوشع بعد وفاة موسى: "أنا أكون معك كما كنت مع عبدي موسى"4.
1 مزمور 45/2.
2 مزمور 110/4.
3 خروج 4/12
4.
يشوع 1/5.
وقال حملة الإنجيل: "وكان الله مع الصبي"1. / (2/39/ب) وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٌ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُم وَلَا خَمْسَةٌ إّلَاّ هُوَ سَادِسُهُم وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرُ إِلَاّ هُوَ مَعَهُم أَيْنَمَا كَانُوا
…
} . [سورة المجادلة، الآية: 7] . وقد قال المسيح: "إنه أفضل من يونس وأفضل من سليمان"2.
وقال فولس: "إن يسوع أفضل من موسى"3. وقال المعمداني حين عمد المسيح: "هذا الذي قلت لكن إنه يأتي بعدي وهو أقوى مني"4.
فما نرى الحواريين ولا يوحنا ولا فولس قالوا كما قالت الأمانة: "إن المسيح إله الحقّ وأنه خلق كلّ شيء".
والعجب من النصارى [يخبروننا] 5 أنّ المسيح كان رجلاً تجري عليه أحكام الآدميين، وأنه أقام مع الشياطين أربعين يوماً محصوراً في البرية وهو يجره من مكان إلى مكان، وأنه جاع وعطش، وفرح وحزن، ولبس الثياب، وركب الحمار، وبذل الجزية كسائر المستضعفين.
فكيف تقول الأمانة: إن المسيح هو الإله الذي أتقن العالم، وخلق كلّ شيء؟!. هل ذلك إلاّ حمق ورعونة؟!.
فإن كانت الأمانة صحيحة فقد كذب الإنجيل، وإن كان الإنجيل صادقاً فقدكذبت الأمانة وكذب من ألفها، فقد وضح أن هذه الأمانة منتقضة فاسدة / (2/40/أ) لا تثبت لأدنى نفخة من الحقّ.
1 لوقا 1/66
2 متى 12/41، 42، لوقا 11/31، 32.
3 رسالة بولس إلى العبرنيين 3/1.
4 متى 3/11-16
5.
في م: (يخبرونا) ، والصواب ما أثبتّه.
ولنختم هذا الباب بإبطال التثليث1 المسطور في هذه الأمانة. فنقول للنصارى: قد زعمتم أن معبودكم عبارة عن ثلاثة أقانيم، وهي: الوجود والحياة والعلم. فما دليلكم على حصرها في هذا العدد؟! وبِمَ تنكرون على من يرى أنها أربعة، ويزيد القدرة فيصير التثليث تربيعاً؟!.
فإن قالوا: لا حاجة إلى ذلك إذ في أقنوم العالم مندوحة عن إثبات القدرة.
قلنا: لا نسلم لكم ذلك. فمن أين يلزم من حصول العلم حصول القدرة؟!. فقد يكون الواحد عالماً ولا يكون قادراً، إذ حظ العلم [كشف] 2 للمعلوم ومعرفته على ما هو به، وحظ القدرة الاختراع والإيجاد، فلا يلزم من معرفة الشيء إيجاده ولو جاز الاجتزاء بالعلم عن القدرة لجاز الاجتزاء بالحياة عن العلم، وكما لا يلزم من الحيّ أن يكون عالماً، فكذلك لا يلزم من العالم أن يكون قادراً وكما أن العلم لا يُفْقَدُ إلاّ ويخلفه ضدّه وهو الجهل، فكذلك القدرة لا يجوز أن تفقد إلاّ ويخلفها ضدّها وهو / (2/40/ب) العجز.
وقد أوجد الباري تعالى العالم بعد أن لم يكن، وذلك أنثر القدرة لا أثر العلم، وإلاّ فقد كان العلم حاصلاً لله تعالى قبل الإيجاد وهو التعلق، فقد وجب وصفه تعالى بالقدرة. وإذا ثبت وصفه بالقدرة فقد وجب وصفه بالإرادة، إذ حظ القدرة الاختراع والإبداع. وحظ الإرادة التخصيص بالمقادير والأشكال والأزمان والأحوال. فقد بطل القول بالتثليث ووجب وصفه تعالى بالجلال والكمال. وذلك يستدعي وصفه سبحانه وتعالى بأنه واحد حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم. وهذه الصفات الزائدة على الثالوث قد نطقت به صحف أهل الكتاب. وهي موجودة في التوراة والإنجيل
1 لقد سبق لنا التعليق على عقيدة التثليث عند النصارى في الباب السابع.
2 في ص (يكشف) ولعل الصواب ما أثبتّه
، والزبور. ولو أردنا انْتزَاعها من كتبهم وإثباتها في هذا المختصر لما أعوزنا ذلك. ولكنا نؤثر الاختصار، فقد ثبت بهذه الوجوه الخمسة عشر بطلان الأمانة وانتقاضها وانتثار1 نظمها. وإذا بطلت شريعة الدين بطل الدين المبني عليها، ووجب الرجوع إلى / (2/41/أ) أقوال الأنبياء في توحيد الله سبحانه وإفراده بالربوبية سبحانه لا إله غير ولا ربّ سواه.
1 في م: وانتشار.