المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب التاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود - تخجيل من حرف التوراة والإنجيل - جـ ٢

[صالح الجعفري]

الفصل: ‌الباب التاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود

‌الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود

في إثبات الواضح المشهود من فضائح النصارى واليهود: / (2/41/أ)

نذكر في ما اشتملت عليه التوراة وإنجيل النصارى من الفضائح التي يأنف من إيرادها مجان الصبيان والمغفلون من النسوان، ولنبدأ بذكر فضائح اليهود، وتقدمهم هنا لتقدم كفرهم:

1-

فضيحة عبدت قدماء اليهود عزيراً1، وقالوا: إنه ابن الله. وساووا في ذلك النصارى في عبادتهم المسيح. وقد أخبر الكتاب العزيز بالقصة

1 عزير: اسمه في العبرانية (عزرا) ومعناه: عون. وهو كاهن بان سرايا. لُقِّب بالكاتب أو الوراق. كان من أحبار اليهود في الأسر البابلي. وقام بقيادة الجماعة التي أذن لها ملك الفرس بالعودة إلى أورشليم سنة 457 ق. م. ويزعم اليهود بأنه أعاد التوراة المفقودة من حفظه. وبأنه الذي جمع أسفار الكتاب المقدس ونظمها. وبأنه مؤسس نظم اليهودية المتأخرة (في القرن 5 ق. م) . وأما الحياة الخاصة لعزرا فلا يعلم عنها شيء إلاّ ما نسجته الأساطير اللاحقة، كما لا يعرف أين قبره، وينسب إليه سفر باسمه مكون من عشرة إصحاحات.

(ر: سفر عزرا، السنن القويم في تفسيرالعهدالقديم5/80،81،قاموس ص621،622) .

ونظراً للدور الكبير الذي قام به عزرا فقد غلا فيه اليهود غلوّاً كبيراً. حتى قالوا فيه: "عزرا أوجد حل البقاء لإسرائيل، فهو من إسرائيل عن طريق التلمود كموسى عن طريق التوراة، وكما أن موسى خلق أمة من العبودية كذلك خلق عزرا أمة من السبي. وكان حَرِياً بأن يعطي الله التوراة على يد عزرا لو لم يعطها على يد موسى". وهذا القول يعزى إلى مجلس السنهدرين. (ر: المقدمة من كتاب التلمود) ، بالإنكليزية EVERYMAN'S TALMUD أكوهين) .فليس غريباً أن يذهب فريق من اليهود في تعظيم عزرا إلى حدّ تأليهه والقول بأنه ابن الله كما ورد ذلك في القرآن الكريم.

أما في المصادر الإسلامية فإنه لم يثبت فيها نبوة عزير بنصّ صحيح. (ر: قصص الأنبياء 416-422 لابن كثير) . بل إن كثيراً من العلماء الذين كتبوا في الأديان منهم إمام الحرمين الجويني وابن حزم وابن القيم ينسبون إلى عزير (عزرا) تحريف التوراة وتبديلها. (ر: شفاء الغليل ص 31، الفصل 1/287، 298، هداية الحياري ص 207، 208) .

وقيل: إن عزرا ليس هو (العزير) كما يظن؛ لأن العزير هو تعريب (العازار) . فأما عزرا فإنه إذا عُرِّب لم يتغير عن حاله؛ لأنه اسم خفيف الحركات والحروف. (ر: إفحام اليهود ص 152، للسموأل المغربي) .

ويقول العلامة ابن عاشور في تفسيره: (التحرير والتنوير 10/167، 168) : "إن (عزرا) ذُكِر مصغراً، فيحتمل أنه لما عُرِّب عُرِّب بصيغة تشبه صيغة التصغير فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة. ويحتمل أن تصغيره على لسان يهود المدينة تحبباً فيه". اهـ. والله أعلم.

ص: 527

والمتأخرون من اليهود ينكرون ذلك ويجحدونه1. وليس الأمر كما يظنون بل قد صحّ أن تلك طائفة من أسلافهم يقال لها: المؤتمنية2. قال الله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابن الله

} إلى قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدوا إِلَهاً وَاحِداً} 3. فمن عبد المسيح وعَدَّه من الآدميين إنما تأسى بهم وتسبب بأسبابهم.

1 قال الفخر الرازي في تفسيره 16/33: "المسألة الثانية في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ

} . على أقوال:

الأوّل: قال عبيد بن عمير: إنما قال الله هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه: "فنحاص بن عازوراء".

الثاني: قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة: أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى ومالك بن الصيف وقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية.

وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود، إلاّ أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد.

الثالث: ولعلّ هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع، فحكى الله ذلك عنهم. ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك. فإن حكاية الله عنهم أصدق. (ر: أيضاً تفسير ابن جرير الطبري 10/110-112) .

2 قال ابن حزم في الفصل 1/178: "الصدوقية: ونسبوا إلى رجل يقال له: (صدوق) ، وهم يقولون من أثر اليهود أن العزير هو ابن الله - تعالى الله عن ذلك - وكانوا بجهة اليمن".اهـ. ونقله ابن تيمية عنه في الجواب الصحيح 3/185. وقال المقريزي في الخطط 3/511: "وأما يهود فلسطين فزعموا أن العزير بن الله تعالى، وأنكر أكثر اليهود هذا القول".

3 قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [سورة التوبة، الآية: 30، 31] .

ص: 528

2-

فضيحة أخرى: عبدت قدماء اليهود الكواكب والزهرة. / (2/41/ب) وقرَّبت لها القرابين، وقد أخبر بذلك نبي الله أرميا في نبوته. فقام أرميا فيهم فوعظهم وخوَّفهم بأس الله وسرعة بطشه وذكرهم بأيامه وما صنعه من الآيات. فتواثب عليه الشعب بأسرهم. وقالوا: إنا لا ندع البخور للزهرة والكواكب وهمّوا بقتله1.

3-

فضيحة أخرى: عبدت اليهود العجل في حياة نبي الله موسى عليه السلام، وذلك حين ذهب عليه السلام إلى مناجاة ربّه وترك هارون خليفة عندهم. وكانوا حين أنجاهم الله من الغرق وأصعدهم من البحر ورأوا قوماً يعبدون أصناماً على صور البقر، فبقي ذلك في2 نفوسهم. فلما استبطأوا موسى صنع لهم السامري من الذهب عجلاً، فأقبلوا على عبادته، وتركوا عبادة الله الذي صنع لهم العجايب وأراهم الآيات3 فقام هارون فيهم خطيباً ووعظهم. فهمّوا أن يقتلوه فاعتزل عنهم في طائفة من قومه. وقد نطق بذلك الكتاب العزيز، قال الله تعالى:{وّاتَّخَذَ قَومٌ مُّوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِم عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُم / (2/42/أ) وَلَا يَهْدِيهُم سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 148] .

ص: 529

4-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يقال لها الأشمعية1. مشبهة مجسمة يعتقدون أن خالقهم في صورة شيخ أبيض الرأس واللحية2، ويزعمون

1 الأشمعية أو الشمعونية (الفريسيون PHARISEES) : نسبة إلى شمعون الصديق (ت 135 ق. م) من بقايا رجال الكنيس الكبرى والمؤسس للدولة الأسمونية أو الحشمنية في أيام المكابيين. واشتهر إطلاق اسم (الفريسيون) بالعبرية (فروشيم) على هذه الطائفة. ومعنى هذا الاسم أنهم المفروزون أو المنعزلون الذين امتازوا عن العامة. وهم طائفة علماء الشريعة من الربانيين قديماً. ويطلقون على أنفسهم اسم (حسيديم) أي: الأتقياء و (حبيريم) أي: الزملاء.

أما الربانيون (RABBINATE) فهم امتداد لفريسيين في أفكارهم، ويمثلون جمهور اليهود قديماً وحديثاً. وأطلق عليهم هذا اللقب لإيمانهم بأسفار التلمود التي ألَّفها الربانيون وهم الحاخاميم أوالفقهاء لهذه الطائفة. ومن أبرزمبادئ هذه الطائفة ما يأتي:

أ- أنها تعترف بجميع أسفار العهد القديم، وتذهب إلى تأويل النصوص.

ب- تؤمن بأسفار التلمود.

جـ تؤمن بالبعث، وتعتقد أن الصالحين من الأموات سينتشرون في هذه الأرض ليشتركوا في ملك المسيح المنتظر، الذي يزعمون أنه سيأتي لينقذ الناس ويدخلهم في اليهودية.

د- أشدّ طوائف اليهود عداوة لغيرهم من الأمم. وينظرون إلى من عداهم بعين النقص والازدراء وبأنهم حيوانات خلقوا في صورة البشر لخدمة اليهود.

ومن هذه الطائفة نشأت الحركة الصهيونية والحركات الهدّامة الأخرى التي تهدف إلى إخضاع العالم لليهود. (للتوسع ر: دائرة المعارف اليهودية 13/363-366، 1445-1458، وتاريخ الإسرائيليين ص 54، 117-119، شاهين مكاريوس، تنقيح الأبحاث ص 48، لابن كمونه اليهودي، إفحام اليهود ص 174، للسموأل المغربي، قاموس ص674، تمهيد الأوائل ص 187، للباقلاني، الملل والنحل1/212، لرشهرستاني، الفصل1/178 لابن حزم، الداعي إلى الإسلام ص318، للأنباري، الخطط ص510، للمقريزي، الفكر الديني اليهودي ص210-213،د. حسن ظاظا، الأسفار المقدسة ص 63 د. عليّ وافي. اليهودية ص 226-229 د. أحمد شلبي) .

2 ورد في سفر دانيال 7/9، 10، وسيأتي تفصيله في ص 556.

ص: 530

أن له في السماء الثالثة خليفة يسمّونه الله الأصغر. ويزعمون أنه مُدَبِّر العالم1. وهم يقولن بالنسخ2.

5-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يقال لهم: العنانية3. وهم يوحدون ولكنهم يحيلون النسخ من جهة العقل والسمع جميعاً.

1 قال ابن حزم عن اليهود: "واعلموا أنهم أفردوا عشرة أيام من أوّل أكتوبر يعبدون فيه ربّاً آخر غير الله عزوجل. فحصلوا على الشرك المجرد. واعلموا أنّ الرّبّ الصغير الذي أفردوا له الأيام المذكورة يعبدونه فيها من دون الله عزوجل هو عندهم (صندلفون) الملك خادم التاج الذي في رأس معبودهم هذا أعظم من شرك النصارى - ولقد أوقفت بعضهم على هذا، فقال لي: (ميططرون) ملك من الملائكة". اهـ. (ر: الفصل 1/328) .

2 اتّفقت اليهود قاطبة على منع نسخ شريعتهم بشريعة نبي آخر، واختلفوا في جواز النسخ عقلاً وشرعاً:

أ- فذهبت طائفة الأشعنية إلى النسخ يجوز عقلاً ولا يجوز توقيفاً (لم يقع شرعاً) . (ر: تمهيد ص 187، الداعي ص 318) . وعلى هذا فإن قول المؤلِّف عن هذه الطائفة بأنهم يقولون بالنسخ محمول على أنهم يجوزون وقوع النسخ عقلاً لا شرعاً. ولكن يذكر الآمدي في كتابه: (الإحكام 3/106) : "بأن هذه الطائفة تقول بامتناع النسخ عقلاً".

ب- وذهبت طائفة العنانية إلى أنه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً. (ر: تمهيد ص 187) . ولكن الآمدي يذكر بأنهم يجيزونه عقلاً لا سمعاً. وخالف الأنباري في قوله بأنهم يجيزونه عقلاً وشرعاً. (ر: الإحكام 3/106، الداعي إلى الإسلام ص 318) .

جـ وذهبت طائفة العيسوية إلى جوازه عقلاً وسمعاً. واعترفوا بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب لا إلى بني إسرائيل. (ر: الإحكام 3/106، الداعي ص 319) .

3 العنانية (القراؤون)(ANANITES – KARAITES) : نسبة إلى عنان بن داود أحد كبار الأحبار في القرن الثامن الميلادي (كان موجوداً سنة 136هـ) في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وحيث إن هذه الطائفة تتمسك بأسفار العهد القديم وحده - التي كانت تسمى عند اليهود (المقرا) أي: المقروء - وتفكر بالتلمود، فقد سمي أتباع هذه الطائفة بـ:(القرائين) في القرن التاسع الميلادي. ويرى بعض المؤرخين أن القرائين إنما هم امتداد فكري لطائفة (الصدوقيين) القديمة. أما أعداؤهم من اليهود الربانين فيسمون القرائين بـ: (مينيم) أي: الزنادقة، و (أبيقوريم) أي: الأبيقوريين نسبة إلى المدرسة الفلسفية اليونانية الوثنية. والعداء مستحكم بين الطائفتين إلى حدّ أنّ كلاً منها تُكَفِّر الأخرى وتُنَجِّسها وتُحرِّم التعامل والزواج من أتباعها، ومن أبرز مبادئهم ما يأتي:

أ- تأثّروا بالصدوقيين والعيسوية في التمسك بأسفار العهد القديم فقط وإنكار التلمود.

ب- تأثّروا بالإسلام فقالوا بأن عيسى عليه السلام ليس زنديقاً وإنما كان رجلاً من بني إسرائيل تقياً صالحاً ومصلحاً، وبأن محمّداً صلى الله عليه وسلم نبي حقّ إلاّ أنهم زعموا بأن عيسى لم يكن نبيّاً وبأن محمّداً صلى الله عليه وسلم لم ينسخ شريعة التوراة. وقالوا: بنفي التجسيم والتشبيه عن الله عزوجل.

جـ يخالفون سائر اليهود في أحكام السبت والأعياد. وينهون عن أكل الطيور والظباء والسمك والجراد. ويذبحون الحيوان على القفا.

د- يعتبرون مؤسس فرقتهم عنان قديساً ويجعلون له دعاءً خاصاً في صلواتهم.

هـ يعادون الحركة الصهيونية وينفرون منها؛ لأنهم يرون أن استيلاء الكفرة الربانيين على مقدسات إسرائيل خطرٌ يهددهم.

وقد كان أكثر القرائين يقيمون في مصر والشام وتركيا والعراق وإيران وبعض أجزاء من روسيا وأوربا الشرقية والأندلس. وعددهم قليل بالنسبة إلى اليهود عموماً حالياً يوجد منهم حوالي عشرة آلاف يتركزون حول الرملة وعدد معابدهم تسعة.

(ر: دائرة المعارف اليهودية 2/919-922، 10/761-785، تاريخ الإسرائلييتن 119، 120، إفحام اليهود ص 171-175، تمهيد الأوائل ص 178، الملل والنحل 1/215، الفصل 1/178، الداعي إلى الإسلام ص 318، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 82، للفخر الرازي، الخطط 3/507، الفكر الديني ص 247-256، اليهودية ص 231، د. أحمد شلبي، اليهودية ص 178، 179، د. محمّد بحر.

ص: 531

6-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف بـ: الأصبهانية1. أصحاب أبي عيسى الأصبهاني، يزعمون أن أبا عيسى كان نبيّاً مبعوثاً قبل موسى وذلك على خلاف رأي سائر اليهود. فليس تعتقد اليهود أنه كان قبل

1 الأصبهانية (العيسوية)(ISFAHANIANS – ISAWITES) : أتباع إسحاق بن يعقوب (عوبديا) المعروف بأبي عيسى الأصفهاني، من مواليد أصفهان ببلاد فارس، الذي ادّعى النبوة وبأنه رسول المسيح المنتظر، ثم زعم بأنه هو المسيح المنتظر لليهود. وزعم بأن الله كلّمه وأرسله ليُخلّص بني إسرائيل من السبيّ. فلذلك جمع جيشاً قوامه عشرة آلاف رجل لتحقيق أهدافه. إلاّ أنه انهزم في معركة الري وقتل فيها.

ويذكر الحبر القرائي القرقشاني أن أبا عيسى ظهر في عهد الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان (685-705م) . ويخالفه الشهرستاني الذي يقول: بأنه كان في زمن المنصور. (750-754م) . وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أمية مروان بن محمّد (744-750م) . وقد رجحت دائرة المعارف اليهودية قول الشهرستاني على القرقشاني. وأبرز مبادئهم ما يأتي:

أ- ادعى أتباع أبي عيسى له المعجزات. واعتقدوا بأنه حيّ لم يمت. وأنه اختفى في كهف وسيظهر ليتم رسالته بإنقاذ اليهود.

ب- أنكر أبو عيسى التلمود. وأدخل تعديلات كثرة على الأحكام اليهودية ضمنها كتابه: (سفر همصفوت) أي: كتب الوصايا. ومنها: أنه حرم الذبائح كلّها، ونهى عن أكل كلّ روح على الإطلاق. وأوجب عشر صلوات على أتباعه. وألغى الطلاق وغير ذلك من التشريعات التي خالف بها أحكام التوراة.

جـ يعترفون بنبوة عيسى عليه السلام ونبوة محمّد صلى الله عليه وسلم، غير أنهم يقولون: بأنهما لم يؤمروا بتبليغ شريعة موسى عليه السلام، بأن محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلاّ إلى العرب.

وقد بقيت من هذه الطائفة بقية في أصبهان ودمشق والعراق إلى القرن العاشر الميلادي ثم انقرضت.

(ر: دائرة المعارف 1/183، 184، 9/77، تمهيد الأوائل ص 189، الفصل 1/179، الملل والنحل 1/215، 216، اعتقادات ص 83، الخطط 3/510، في الفكر الديني ص 115، 244، اليهودية ص 147، د. محمّد بحر، الأسفار ص 72، د. عليّ وافي) .

ص: 532

موسى نبيّ ألبتة. فينكرون نبوة شيث ونوح وإبراهيم وغيره ويقولون: "إن موسى هو مفتاح النبوة وبكر الرسالة". والتوراة التي بأيديهم تكذبهم. إذ هو مصرحة بأن أوامر الله قد وردت على من ذكرنا/ (2/42/ب) وانتهضوا دعاة إلى الله. وهذه نبوة دانيال تشهد بأن بختنصر حين غزا البيت المقدس حرق كتب الله المنَزَّلة على إبراهيم وشيث وغيره. قال دانيال: "وعدتها مائة كتاب وأربعة كتب"1. فمن زعم أنه لا نبي قبل موسى عليه السلام فنبوة دانيال حجّة عليه.

7-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف باليوزعانية2 مشبهة. تزعم أن المسيح هو يوزعان. وأنه قد جاء مرة وسيأتي مرة أخرى. وتقول إن

1 لم أجد في سفر دانيال بالنسخة التي بين يدي على النصّ الذي ذكره المؤلِّف. ولكن ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاحين (24، 25) أن بختنصر قد أخذ خزائن بيت الرّبّ (الهيكل) وما فيها من كنوز ثم أحرقها وأحرق ما فيها.

2 اليوذعانية أو اليودجيانة (YUDGHANITES) : أتباع يوذعان (يودجان) من همذان. وقيل: كان اسمه: يهوذا. وكان تلميذاً لأبي عيسى الأصفهاني. وقام من بعده في منتصف القرن الثامن الميلادي مدعياً النبوة. ويزعم أتباعه بأنه المسيح المنتظر وأنه سيرجع من السماء مرة ثانية. ولقّبوه باسم (الراعي) . وأهم ما يعرف من تعاليم يودجان التي يقال إنها نفس تعاليم أبي عيسى الأصفهاني، إذ إنهما أوصيا بالتقشف والنسك. والإكثار من الصوم والصلاة. وجعلا تناول اللحم والخمر حراماً في وقت النسك. كما أعلنا أن طقوس السبت والأعياد ليست فرضاً واجبَ الأداء في فترة تشريد اليهود في الأرض. كذلك عطل يودجان عدداً من الشرائع مدعياً بأنها واجبة التنفيذ فقط عندما تكون لليهود دولة في فلسطين. وزعم بأن للتوراة ظاهراً وباطناً وتنْزِيلاً وتأويلاً. وخالف بتأويلاته عامة لليهود. وخالفهم في التشبيه. ومال إلى القدر. وأثبت الفعل حقيقة للعبد وقدّر الثواب والعقاب عليه وشدد في ذلك.

وذكر الشهرستاني شعبة من اليودجانية كانت تسمى بـ: (الموشكانية) أتباع (موشكان) . وكان يوجب الخروج على مخالفيه ونصب القتال معهم. فخرج في تسعة عشر رجلاً فقتل بناحية (قم) بإيران. وذكر عن جماعة من الموشكانية أنهم أثبتوا نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم إلى العرب وسائر الناس سوى اليهود. لأنهم أهل ملّة وكتاب".اهـ.

ومن اليودجانية طائفة تسمى بـ: (الشادجاينة) يتَزَعمها يافث بن عليّ. ويقول أتباعها بإسقاط الشعائر وأحكام النجاسة والطهارة طالماً شعب الله المختار يعيش مشرداً في البلاد.

وفي غضون القرن العاشر الميلادي (سنة 938م) - في حكم الخلفاء العباسيين - تقلص أتباع اليودجانية وتجمعوا كلّهم تقريباً في مدينة أصفهان. ومالوا إلى التأثر بالمعتزلة من المسلمين. وما أن ظهرت فرقة اليهود القرائين حتى اتبعوها. (ر: دائرة المعارف 16/867، 868، الملل والنحل 1/216، 217، اعتقادات ص 83، الفكر الديني ص 244-246) .

ص: 533

مافي التوراةمما يظنه اليهودعلى ظاهره كالسبت وغيره إنماهي معانٍ وأسرارتشيرإلى مجيء مسيحهم يوزعان.

8-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تسمى البنيامية1 أصحاب بنيامين. موحدة غير أنها تعتقد أن لله تعالى

[مضاداً] 2 يضاده. وهو فاعل الشّرّ غير أنه مخلوق من خلقه.

1 البنيامينية (المقارية)(BENJAMINTES) :فرقة متشعبة من طائفة العنانية (القرائين) .وهم أتباع بنيامين بن موسى النهاوندي الفارسي. (830-860م) . الذي نادى بتعاليمه في أوائل القرن التاسع الميلادي. وهي في جملتها مستمدة من تعاليم (عنان) مع بعض المسائل التي خالفه بها متأثراً بالمعتزلة والفلاسفة. فقد قرر لأتباعه أن النصوص المتشابهات في التوراة كلّها لا مؤولة. فجعل الله روحانياً. ومن النقص في حقّه أن يتصل بالماديات إلى حد أنه أنكر أن يكون الله قد تولى عملية الخلق في صورة مباشرة. وبأن الله خلق الملائكة - وهم كائنات روحية - ليتولوا خلق هذا العالم المادي. كما قرر بنيامين بأن الله - لا يوصف بأوصاف، ولا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها. وبأن كلّ ما في التوراة وسائر الكتب من وصف الله تعالى بالكلام والاستواء ونحوه فإن المراد بذلك الوصف ملك عظيم خلقه الله وقدَّمه على جميع الخلائق واستخلفه عليهم.

ويبدو لنا أن بنيامين كان متأثراً أيضاً بعقائد المغاربة أو أصحاب المغار وسيأتي الحديث عنهم. وقد انضم إلى نحلة بنيامين عدد كبير من القرائين. وعظمت مكانته بين أتباعه حتى رفعوه إلى مرتبة عنان. وقد عُرِفَ أتباعه أيضاً باسم (المقارية أو المقاريت) . (ر: دائرة المعارف 10/767، 768، الملل والنحل 1/217، 218، إفحام اليهود ص 171، الأسفار ص 72، 73، اليهودية ص 150، د. محمّد بحر) .

2 في ص، م (مضاد) والتصويب من المحقِّق.

ص: 534

9-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تسمى الملكية1. يقولون بالتوحيد غير أنهم يزعمون أن الذي خلق العالم ليس هو الله بل ملك من الملائكة أقدره الله على ذلك. قالوا: (2/43/أ) وهذا الملك هو الذي كلَّم موسى من الشجر وفلق له البحر، ورأس هذه الطائفة:"مالك الصيدلاني". من أهل الرملة2.

1 الملكي (الرملية)(RAMILITES) : من الفرق المتشعبة عن طائفة القرائين وهم أتباع (مالك الرملي) الذي كان في منتصف القرن التاسع الميلادي. وكان متأثراً في آرائه بالسامريين. إذ كان مالك يعتقد - مثل السامريين - بأن عيد الحصاد أو عيد الأسابيع ويسمى عندهم بـ: (شبوعوت) لا تكون بدايته إلاّ في يوم الأحد. وقد اندثرت طائفة الملكية في نهاية القرن التاسع. وذابت ضمن الفرق الكبيرة من طائفة القرائين.

وذكر المقريزي أن المالكية يزعمون أن الله تعالى لا يحيي يوم القيامة من الموتى إلاّ من احتج عليه بالرسل والكتب. (ر: دائرة المعارف اليهودية 10/766، 11/826، السامريون واليهود ص 188، 189، د. سيد فراج، الخطط 3/511) .

2 بلدة في فلسطين شمال شرقي القدس. (ر: المنجد في الأعلام ص 310) .

ص: 535

10-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة يعرفون بأصحاب المغار، وإنما سموا بذلك لأنهم صنفوا كتباً وتركوها في مغار وانقرضوا، فوجدت تلك الكتب وفيها تأويلات تخالف ما عليه اليهود1.

11-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة أخرى تعرف بالفارجية أصحاب يوحنا بن فارج2 وكان على زمن أمريا. كانوا يعبدون صنماً يقال له "بعل" ويقربون لنجوم السماء كما هو مذكور في نبوة أرمياً. ونزلوا أرض مصر وتكلموا باللسان القبطي. والتوراة والنبوات عندهم مترجمة بالقبطي، ولا يعرفون شيئاً من العبراني ألبتة.

1 أصحاب المغار أو الكهوف (المغاربة)(MAGHARIYA) : ذكرت دائرة المعارف اليهودية 14/1088: "أن هذه الطائفة قد انقرضت في القرن الأوّل الميلادي - نقلاً عن العالم القرائي القرقشاني -. وبأنهم كانوا يحفظون كتبهم في كهوف التلال المحيطة بفلسطين. ومن أبرز الاختلافات العقائدية بينهم وبين بقية المجتمع اليهودي هو: اعتقادهم بتنْزِيه الإله وعدم اختلاطه بالمادة. ورفضوا القول أن العالم خلق مباشرة بواسطة الله. ولكنه خلق بواسطة قوة وسيطة (وهو الملك) مسؤول عن الخلق. وحل محله الإله في العالم المخلوق. ونسبوا الشريعة والاتصال الإلهي إلى الملك وليس إلى عزوجل. ويرى بعض المؤرخين بأن هذه الطائفة هي الفرقة المعروفة باسم (الأسينيين) نظراً لتشابه عقائدها وتاريخ انقراضها". اهـ. باختصار.

2 ورد في سفر أرميا أن اسم مؤسس هذه الطائفة هو: يوحانان بن قاريح - فعلى ذلك يكون الصواب في اسم هذه الطائفة هو: (القاريحية) - وهو أحد رؤساء سبط يهوذا من بني إسرائيل الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى. فعظموا الأصنام وقدموا لها القرابين. فسلط الله عليهم نبوخذ نصر فقتلهم وسبي أغلبهم إلى بابل. وكان يوحانان ممن بقي في فلسطين بعد السبي البابلي إلاّ أنه بعد ثورة أحد زعماء اليهود على الوالي المكلف من نبوخذ نصر. ومقتله فإن يوحانان ومن اتبعه أرادوا الفرار إلى مصر خوفاً من انتقام نبوخذ نصر، لكن نبيهم أرميا أخبرهم أن ذلك مخالف لإرادة الله الذي يأمرهم بالبقاء في فلسطين. فكذبوه وأخروا ما بقي من الشعب إلى مصر. وتنبأ أرميا بموتهم هناك. (ر: سفر أرميا الإصحاحات (40، 41، 42، 43، 44، قاموس ص 1105) .

فهذه الطائفة التي يذكرها المؤلِّف من سلالة الشعب الذي سار مع يوحانان إلى مصر وتكلموا باللسان القبطي. والله أعلم.

ص: 536

وقال الشهرستاني1: "يهود الروم على مذهب الأشمعية العراقيين".

12-

فضيحة أخرى: من اليهود طائفة تعرف بالعيسوية2 أصحاب أبي عيسى الأصفهاني، وهم يعترفون بنبوة عيسى ومحمّد عليهما السلام غير أنهم يقولون: لم يرسلا / (2/43/ب) إلاّ لقومهما خاصة. ولم يؤمرا بنسخ شريعة موسى عليه السلام3.

13-

فضيحة أخرى: من اليهود السامرة4 وهم طائفتان: طائفة تقر بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون لا غير. وتجحد نبوة من عداهم من النّبيّين. والطائفة الأخرى تعترف بنبوة كلّ من عدا عيسى ومحمّد عليهما

1 هو أبو الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني. كان إماماً في علم الكلام وأديان الأمم ومذاهب الفلاسفة. يلقّب بالأفضل. ولد في شهرستان سنة 479هـ. وتوفي سنة 548هـ. (ر: ترجمته في طبقات الشافعية 4/78، شذرات الذهب 4/49، وفيات الأعيان 4/273، الأعلام للزركلي 6/215) .

2 في م: بالعيساوية.

3 ذكر ذلك عنهم أيضاً الباقلاني في التمهيد ص 189، وابن حزم في الفصل1/179، والرازي في اعتقادات فرق ص 83، وقد تقدم الحديث عن هذه الطائفة ر: ص532.

4 السامريون (SAMARITANS) : نسبة إلى مدينة السامرة القديمة التي يعيشون حولها والتي قامت على أنقاضها مدينة نابلس. وعرفوا أيضاً باسم (الشكميين) نسبة إلى مدينة شكيم (نابلس) . ويسميهم أعداؤهم من الطوائف اليهودية الأخرى باسم (الكوتيين) أي: المرتدين. ويزعم السامريون أنهم البقية على الدين الصحيح. وينتسبون إلى هارون عليه السلام، ويسمون أنفسهم بـ:(بني إسرائيل أو بني يوسف) . وأبرز مبادئهم الدينية ما يأتي:

أ- الإيمان بإله واحد روحاني. وأن موسى خاتم الرسل. وأن جبل جريزيم هو القبلة الصحيحة الوحيدة لبني إسرائيل.

ب- يؤمنون بالتوراة وسفر يوشع - لأن التوراة نصت على أنه خليفة موسى من بعده - وسفر الفضاة باعتباره سفراً تاريخياً، وينكرون ما عدا ذلك من أسفار العهد القديم والجديد. ونسخة التوراة التي يؤمنون بها تخالف النسخة التي بأيدي سائر اليهود. وتسمى توراتهم بـ:(التوراة السامرية) .

جـ ينكرون كلّ الأنبياء الذين جاؤوا بعد موسى ويوشع عليهما السلام إلاّ أنهم ينتظرون المسيح المخلص لهم الذي يعلن عن مولده ظهور نجم يستمر طوال الوقت في سماء جريزيهم.

وقد تقلص عدد أفراد هذه الطائفة فأصبحوا لا يزيدون عن بضع مئات فقط يعيشون جوار مدينة نابلس ولا يستحلون الخروج منها.

(ر: دائرة المعارف اليهودية 14/725-758، تاريخ الإسرائيليين ص 122، السامريون واليهود د. سيد فرج راشد، قاموس ص 448-425، الملل والنحل 1/218، 219، تمهيد الأوائل ص 188، الفصل 1/177، 178، الفكر الديني ص 205-209، صبح الأعشى 13/268، للقلقشندي) .

ص: 537

السلام1. وتزعم أن المسيح لم يبعث بعد وأنه سيأتي. ولهم خط غير الخط العبراني. وآراء غير آراء اليهود. ويخالفون اليهود في القبلة ولا يصلون إلى صخرة بيت المقدس ويتوجهون في صلاتهم إلى جبل بالشام2 وإليه يحجون وهو قريب من نابلس. وهم الذين يقال لهم

1 ذكر الشهرستاني أن السامرة افترقوا إلى فرقتين:

الأولى: الدوستانية ومعناها: (الفرقة المتفرقة الكاذبة) ، وهم الألفانية (أتباع رجل يقال له الألفان، ادعى النّبوّة، وبأنه المسيح المنتظر) . وهذه الفرقة تنكر البعث وتزعم بأن الثواب والعقاب في الدنيا. (ولعل هذه الفرقة هي التي قصدها ابن حزم في الفصل 1/178، بقوله: إن السامرية لا يقرون بالبعث ألبتة) .

الثانية: الكوستانية، ومعناها (الجماعة الصادقة) وهم يقرون بالآخرة والثواب والعقاب فيها. (ر: الملل والنحلل 1/218، 219) .

وإن الباحثين المحدّثين مثل: د. حسن ظاظا، ود. سيد راشد، يذكرون بأن السامريين يؤمنون بيوم القيامة ويسمونه يوم البعث أو يوم الموقف العظيم، وذلك ناشيء من تأثر السامريين بالإسلام فيما يتعلق بيوم القيامة. والله أعلم.

2 وهو جبل (جرزيم) الذي يرتفع (700قدم) فوق مدينة نابلس. والاسم الثابت لهذا الجبل في التراث السامري هو: (جريزيم - بيت - إيل - لوزا) وبأن جنة عدن سوف تكون عليه. وبأنه البداية إلى السماء. (ر: قاموس ص 258، السامريون واليهود ص 131-133) .

ص: 538

: لا مساس. ويرون تحريم أكل ما مسَّه غيرهم1. واليهود تزعم أنهم ليسوا من بني إسرائيل2.

وبالجملة فقد ذكر العلماء أن عدة فرق اليهود إحدى وسبعون فرقة3. وكلّ فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى وتُبدِّعها. والمعروف الآن منهم أربع فرق: فرقة تعرف بالقرائين. وفرقة تعرف بالربانيين. وفرقة تعرف بالعيسوية. وفرقة / (2/44/أ) تعرف بالسامرة.

1 تذكر بعض المصادر الإسلامية طائفة السامرية باسم (الإمساسية) نسبة إلى أنهم يرون تحريم أكل ما مسّه غيرهم. وقيل: نسبة إلى السامري الذي صنع العجل لبني إسرائيل وزيَّن لهم عبادته في زمن موسى فعاقبه الله عزوجل: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ

} . [سورة طَه، الآية: 97] . (ر: الخطط 3/508، للمقريزي، صبح الأعشى 13/268 للقلقنشدي) .

2 يزعم اليهود أن السامريين جاؤوا من بابل. وأسكنهم ملك آشور مكان الأسباط العشرة من بني إسرائيل (في المملكة الشمالية) الذين أخذهم آشور سبياً إلى بابل. فامتلك القادمون الجدد السامرة واستوطنوا بها. ويعتمد أصحاب هذا الرأي على ما ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاح (17) .

أما المعتدلون من اليهود فيرون أن أصل السامريين يرجع إلى من بقي من اليهود الجهلة الضعفاء في فلسطين بعد السبي البابلي. (ر: دائرة المعارف العبرية المجلد العاشر المقال الخاص بالسامرة، نقلاً من الفكر الديني ص 207، د. ظاظا. السامريون واليهود ص 21-24. د. سيد راشد) .

3 ذكر ذلك الأسفرائيني في كتابه: التبصير في الدين ص 150، والشهرستاني في الملل 1/219، اعتماداً منهم على حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". أخرجه أبو داود 4/198، والترمذي 4/134، وابن ماجه 2/479، والحاكم 1/128، وأحمد 2/332. وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحصح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي. والألباني. (ر: الأحاديث الصحيحة 1/356-367، ح 203، 204) .

ص: 539

فأما هذه الفرق الأربع فيزعمون أنهم أهل توحيد لا يذكر بينهم اختلاف في ذلك. فأما القراؤون فمشبهة، وأما الربانيون فمعتزلة1، وأما العيسوية فتقرُّ بنبوة عيسى ومحمّد عليهما السلام، وأما السامرة فهم طائفتان كما تقدم.

الكلام على اليهود:

أما العيسوية المعترفون بنبوة محمّد عليه السلام ورسالته إلى العرب خاصة. فنقول لهم: إذا صدقتم محمّداً في قوله: (إنه نبي) لزمكم تصديقه في كلّ ما أخبر به، ومن جملة ما أخبر به أنه رسول الله إلى الناس أجمعين. قال الله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم جَمِيعاً} . [سورة الأعراف، الآية:158] .

فإن قالوا: (الناس) أهل مكة لا غير. إذ كلّ ما في كتابه من هذه الآي فهو مخاطب به أهل مكة، وما كان منه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . فالمخاطب به أهل المدينة.

قلنا: لا نُسَلِّم لكم هذا التأويل. بل الناس المذكورون بالألف واللام لاستغراق جميع الناس من بني آدم. وقد أكَّده بقوله: {جَمِيعاً} ، والدليل على ذلك قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَلَ الفُرْقَانَ عَلَى2عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [سورةالفرقان، الآية:1] .وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلْنَّاسِ} . [سورة سبأ، الآية: 28] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء، الآية:107] .

1 قال الشهرستاني عن اليهو: "وأما القول بالقدر: فهم مختلفون فيه حسب اختلاف الفريقين في الإسلام. والربانيون كالمعتزلة فينا. (الذين يقولون بنفي القدر) والقراؤون كالجبرة والمشبهة (الذين ينفون الفعل حقيقة عن العبد ويضيفونه إلى الله تعالى)(ر: الملل والنحل ص 212) .

2 / (2/44/ب) .

ص: 540

وقد صحّ عنه عليه السلام أنه قال: "بعثت إلى الأحمر والأسود"1. يريد العربي والعجمي. وقد تواتر عنه عليه السلام أنه لم يختص بدعوته قوماً دون قوم، وأنه أرسل رسله إلى ملوك الأطراف والنواحي يدعوهم إلى دينه. والتواتر لا سبيل إلى ردّه. فمن صدَّقه عليه السلام في بعض أقواله لزمه تصديقه في جميع أقواله.

وقد قتل عليه السلام المخالفين لملته من اليهود2 كما قتل موسى ويوشع وداود-عليهم السلام-من خالفهم من أهل الأديان، فهذا قولنا للعيسوية.

فأما غير العيسوية فإنهم أنكروا النسخ، فمنهم من أنكره عقلاً، ومنهم من أنكره شرعاً. فالذين أنكروه عقلاً قالوا: يستحيل في العقل أن يتعبد الله عباده بشرع يأمرهم فيه بأمر في وقت ثم يأمر بنقيضه في وقت آخر. قالوا: وهذا هو البداء3. والبداءة لا يجوز إلاّ من جاهل بعواقب الأمور فأما الباري فلا يجوز منه ذلك. إذ الأمر الأوّل إن كان حقّاً / (2/45/أ) وحكمة فنقضه باطل وسفه وذلك لا

1 أخرجه مسلم 1/371، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، والبخاري بلفظ:"وكان النبيّ يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة". (ر: فتح الباري 1/435، 436) .

2 كيهود بني قريظة، ويهود خيبر. (ر: السيرة لابن هشام 3/324-354، 455-468) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بِيَ أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلاّ كان من أصحاب النار". أخرجه مسلم 2/143.

3 قال الشهرستاني في الملل والنحل 1/148: "البداء له معانٍ:

البداء في العلم: وهو أن يظهر له ما علم، ولا أظن عاقلاًيعتقد هذا الاعتقادفي الله عزوجل.

والبداء في الإرادة: وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم.

والبداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف لك. ومن لم يُجَوِّز النسخ ظنّ أن الأوامر المختلفة في الأوقات المختلفة متناسخة". اهـ.

والفرق بين النسخ والبداء من وجهين:

أحدهما: أن البداء: هو أن يأمر بالأمر والآمر لا يدري ما يؤول إليه الحال. والنسخ هو: أن يأمر بالأمر والآمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بدَّ قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه.

والثاني: أن سبب النسخ لا يوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأوّل، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأوّل. مثل: أن يأمره بعمل يقصد به مطلوباً، فيتبيّن أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه. (ر: نواسخ القرآن ص 83، لابن الجوزي، الإحكام في أصول الأحكام 4/446 لابن حزم) .

ص: 541

يليق بالحكيم سبحانه. فالتزموا ردّ ما جاء من الناسخ بعد موسى عليه السلام. و1 إنكار شرع من كان قبله من شرائع الأنبياء فالتزموه. وقالوا: ليس قبل موسى نبيّ أصلاً. فردّوا نبوة شيث وإدريس ونوح وإبراهيم ولوط وغيره. وقالوا: أوّل الأنبياء موسى بن عمران عليه السلام. وزعموا أن الأنبياء أربعة و [عشرون] 2 نبيّاً أوّلهم موسى3.

فيقال لهم: إذا كان إنما مستندكم تعاقل العقلاء وتعارفهم وقياس الغائب على الشاهد، فاعلموا أن السيد قد يأمر عبده في وقت بفعل وينهاه عنه في وقت آخر. لعلمه بمصلحته في إيقاع الفعل وتركه في الوقتين جميعاً. وكذلك الوالد قد يأمر ولده في أوّل نشوئه بتحصيل الفضائل، فإذا بلغ مبالغ الرجال واحتاج إلى ما لا بُدَّ له منه أمره بالكسب، ونهاه4 عما كان يأمره به أوّلاً لعلمه

1 في ص م (وليفهم إنكار) ولعل حذف كلمة (ليفهم) موافق لسياق الكلام.

2 في ص م: (عشرين) والصواب ما أثبتّه.

3 يحتل موسى عليه السلام مكان الصدارة بين الأنبياء عند اليهود. ويقولون: إن كلّ معجزة لنبي جاء بعده - وهو على دين موسى ويدعو إليه - فهي كالمعجزة له. ويقول موسى بن ميمون في الأصل السابع من (الأصول الثلاثة عشر) التي جعلها ابن ميمون أركان الإيمان اليهودي: "أنا أؤمن إيماناً كاملاً بأن نبوة سيدنا موسى عليه السلام كانت حقّاً، وأنه كان أباً للأنبياء، من جاء منهم قبله، ومن جاء بعده". (ر: الفكر الديني اليهودي ص 134 د. ظاظا) ويبدو تأثر علامة اليهود في العصور الوسطى الإسلامية ابن ميمون طبيب الدولة الأيوبية - يبدو تأثره واضحاً بالعقائد الإسلامية في الأصول التي وضعها. ففي النّصّ السابق الاعتراف بنبوة الأنبياء السابقين على موسى عليه السلام مع أن التراث اليهودي يعتبرهم مجرد آباء للشعب الإسرائيلي.

4 ليست في م.

ص: 542

بمصلحته في الحالين.

وكذلك الطبيب الماهر قد ينهى العليل في وقت عن الأغذية المقوية للمادة، ويأمره باستعمال اللطيف الذي لا / (2/45/ب) يخصب البدن ويزيد في المادة، فإذا نَقِه1 عاد فأمره بما كان ينهاه عنه لمعرفته بما يصلحه في الحالين. وقد عَلِمَ أوّلاً أنه سينهاه عما أمره به ويأمره بتناول ما نهاه عنه أوّلاً، وإذا كان ذلك حسناً من الوالد في ولده والطبيب في سقيمه، فما المانع أن يتعبد الله عباده في وقت بحكم يعلم أن مصلحتهم في التكليف به، ويطلق لهم الأمر من غير تقييد بمدة ليكون أدعى2 إلى المسارعة والامتثال، ثم يأمرهم في وقت آخر بترك تلك التكاليف واستعمال غيرها؛ لعلمه بكونها مصلحة لهم في ذلك الوقت، والشرائع مصالح للعباد. والله تعالى هو العالم بمصالح عباده على اختلاف أحوالهم وأوقاتهم! فما الذي جَوَّز ذلك للوالد والطبيب مع الجهل3 بالعاقبة، وأحاله4 من العَالِم بعواقب الأمور الذي لا يخفى عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء المدبِّر لعباده كما يشاء. {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ العَالِمِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 54] .

واعلم أن النسخ لا يدخل على الأخبار؛ لأن المخبر عنه يصير كذباً، وإنما يدخل / (2/46/أ) على الأحكام؛ لاختلاف المصالح باختلاف أحوال المكلّفين واختلاف الأوقات. فهذا بيان جواز النسخ عقلاً5.

1 نقه من مرضه نقهاً ونقوها: أي: صحّ وبرئ وفيه ضعف. (ر: القاموس ص1619) .

2 في م: إذعان.

3 في م: الجهد.

4 في م: وإحالته.

5 النسخ في اللغة: قد يطلق بمعنى الإزالة. ومنه يقال: نسخت الشمس الظلّ أي: أزالته. وقد يطلق بمعنى نقل الشيء وتحويله من حالة إلى حالة مع بقائه في نفسه. كنسخ الكتاب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . [سورة الجاثية، الآية: 29] .

وفي الاصطلاح: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر.

ودليل إثباته عقلاً، هو: أن التكليف لا يخلو أن يكون موقوفاً على مشيئة المُكَلِّق أو على مصحلة المُكَلّف. فإن كان الأوّل فلا يمتنع أن يريد تكليف العباد عبادة في مدة معلومة ثم يرفعها ويأمر بغيرها. وإن كان الثاني فجائز أن تكون المصلحة للعباد في فعل عبادة في زمان دون زمان. ويوضح هذا أنه قد جاز في العقل تكليف عبادة متناهية كصوم يوم، وهذا تكليف انقضى بانقضاء زمان.

وأما عن الشبهة العقلية التي احتج بها المنكرون للنسخ، فنقول: بأننا لا نسلم بما قالوه إن النسخ يستلزم البداء على الله تعالى أو العبث، بل إن النسخ يكون لحكة معلومة لله تعالى الذي أحاط بكلّ شيء ولم تخف عليه، غاية الأمر أن مصالح العباد تتجدد بتجدد الأزمان وتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وأسراره وحكمه سبحانه وتعالى لا تتناهى.

فإذا نسخ الله تعالى حكماً بحكم لم يخل الحكم الثاني من حكمة جديدة غير حكمة الحكم الأوّل، وما يظهر في النسخ من جديد فإنما يعتبر جديداً بالنسبة لنا. أما بالنسبة لله عزوجل فقد سبق علمه المحيط الشامل وعليه فلا يستلزم نسخ الله تعالى لأحكامه البداء والعبث، وإنما هو كما قيل: تغير في المعلوم لا في العلم. (للتوسع ر: الداعي إلى الإسلام ص 319، وما بعدها، تمهيد الأوائل ص 212-217، نواسخ القرآن ص 80 لابن الجوزي، الإحكام 2/238-240، للآمدي، إظهار الحقّ ص 295-296، لرحمة الله، فتح المنان في نسخ القرآن ص 80-186، عليّ العريفي، النسخ بين الإثبات والنفي ص 40/132 د. محمّد فرغلي) .

ص: 543

فأما جوازه شرعاً فيستدل عليه من توراتهم التي يعتقدون صحّتها ليكون أفحم لهم وأقطع لعذرهم ونحن نثبت ما فيها من النسخ. والله الموفّق والمعين.

فنقول: إن في توراتهم عدة مواضع تدل على تبدل الأحكام وذلك لاختلاف مصالح الأنام:

الموضع الأوّل: قالت التوراة في السفر الأوّل يدعى سفر الخليقة: "إن الله تعالى خلق آدم وخلق من ضلعه حواء زوجه وبارك عليهما وقال: أنميا وأكثرا واملآ1 الأرض. وتسلطا على سمك البحور وطائر السماء والأنعام والدواب

1 في م: واملاا.

ص: 544

وكلّ شيء على وجه الأرض، وقال لهما سبحانه: هائنذا1 قد أعطيتكما كلّ ما على وجه الأرض من شجر ودواب وعشب وطير من البحر والبر ليكون لمأكلكم"2.

فهذا إخبار من الله أنه قد أباح لآدم وزوجه جميع الحيوان مطلقاً لمأكلهم، فهل ما أباحه الله لآدم مباح لكم / (2/46/ب) في شرع التوراة أم قد حرَّم عليكم كثيراً من ذلك؟!.

وهَا هنا لا يحيرون جواباً ولا يجدون إلى الانفصال سبيلاً، فقد قال الله في التوراة لموسى وهارون:"قولا لبني إسرائيل لا تأكلوا من الأنعام التي على وجه الأرض إلاّ ما شقّ ظلفه وهو يجتر، الجمل حرام عليكم، والخنْزِير حرام، ولا تأكلوا من طير السماء النسر والحدأة والغراب، ولا أجناسهم، ولا البوم والعقعق والصعوة والرخمة وأجناسهم، ولا الهدهد والطاوس فهذا كله عليكم حرام"3. ومعلوم عندكم أن هذا مما أبيح لآدم وحواء بنصّ أوّل التوراة. فهل4 النسخ إلاّ أن يبيح الله الشيء على لسان نبيّ ثم يحرمه على لسان نبي آخر أو بالعكس. فكيف تقرأ اليهود ذلك ثم تكفر به؟! وإذا كفروا بما في أيديهم من كتب الله، كيف يطمع فيهم أن يؤمنوا بما ليس في أيديهم من عند الله؟!.

الموضع الثّانيّ: قالت التوراة: "كان آدم يزوج بنيه من بناته بإذن الله له في ذلك"5. حُرم بعد ذلك6 فهذا نسخ / (2/47/أ) لشرع آدم نفسه. فإن قالوا: ذلك

1 في م: ها أنا.

2 تكوين 1/27-30.

3 لاويين 11/1-18.

4 في م: فهذا.

5 سفر التكوين 4/17-22.

6 ورد تحريم ذلك في سفر اللاويين 18/9: "عورة أختك بنت أبيك أو بنت أمك المولودة في البيت أو المولودة خارجاً لا تكشف عورتها

". و (ر: أيضاً سفر التثنية 27/22) .

ص: 545

لضرورة عدم اتساع الخلق.

قلنا: قد كان الله تعالى قادراً على أن يخلق لهم أزواجاً ولا يحوجهم إلى وطء الأخوات.

الموضع الثّالث: قالت التوراة: "جمع إسرائيل بين أختين في عصمته وهما1 ليئا وراحيل [ابنتا] 2 لابان"3. وإسرائيل نبي ثابت العصمة وهو عند اليهود والنصارى من الصالحين لا غير. وهو إسرائيل4 الله. ومنصبه يَجِل5 عن الإقدام على ما لا يحل ومن ظن به سوى ما ذكرناه فقد قدح فيه، ثم قالت التوراة في السفر الثالث منها:"لا تنكح المرأة على أختها فتغبطها وتجتلى عورتها في حياتها ولا يقترب من امرأة طامث في حيضها فمن فعل شيئاً من هذه النجاسات منكم أو ممن يقبل إلي ويسكن بينكم فلتبد تلك النفس"6.

وهذا فاعلموا تحريم ما كان مباحاً لإسرائيل، ولا جواب لكم عن ذلك.

الموضع الرّابع: "قال الله تعالى في التوراة: إبراهيم، قال: هائنذا يا رب. قال اذهب بابنك الذي تحبه فقربه لي قربانا / (2/47/ب) على أحد الجبال التي آمرك. فبكّر إبراهيم وذهب بالولد وبني مذبحاً وأوثق الولد ورفعه على المذبح وجذب السكين لينحره فناداه الملك: إبراهيم لا تذبحن الصبي فقد علم الله أنك تخشاه إذ لم تبخل عليه بولدك، ورفع إبراهيم بصره فرأى الكبش فذهب فأخذه ورفعه على المذبح"7. وهذا فاعلموا أنه لا معنى له غير النسخ

1 في ص (هم) والتصويب من نسخة م.

2 في ص، م (ابنتي) والصواب ما أثبتّه.

3 تكوين 29/16-30.

4 تقدم التعليق على قول المؤلِّف بأن اليهود والنصارى لا يؤمنون بنبوة يعقوب عليه السلام. (ر: ص 432) .

5 في م: بحد.

6 لاويين 18/9.

7 تكوين 22/1-14، في سياق طويل.

ص: 546

أفتقولون - ويلكم - إن ذلك بداء من الله - تعالى عن كفركم علوّاً كبيراً -؟!.

الموضع الخامس: الجمع في النكاح بين الحرّة والأمة. قد كان جائزاً في شرع يعقوب فجمع في عصمته بين حُرتين وأمتين1 ثم نسخته التوراة بعد ذلك فلم تجزه.

الموضع السّادس: قالت التوراة: "قال الله تعالى لموسى: اخرج انت وشعبك من مصر ليرثوا الأرض المقدسة التي وعدت بها أباكم إبراهيم أن أُوَرِّثها نسله2. فلما صار بهم موسى في التيه - قالت التوراة - قال الله تعالى: لا تدخلوها/ (2/48/أ) أنتم لأنكم أغضبتموني"3.فلم يدخلوها هم ولا موسى وهارون ولم يدخلها أحد ممن خرج من مصر سوى رجلين: يوشع بن نون وكالاب4 بن يوفينا. وهذا نسخ لشرع موسى نفسه.

1 سفر التكوين 30/1-9، وذكر بأن اسم الزوجتين الحرتين، هما: راحيا وليئة ابنتا لابان. واسم الأمتين هما: بلهة جارية راحيل، زلفة جارية ليئة.

2 سفر الخروج 33/1، 2.

3 سفر العدد الإصحاح (14) .

4 ورد في النّصّ أن اسمه: كالب: وهو اسم عبري معناه: كلب. وهو ابن يفئة. وكان رأساً لأحد آباء سبط يهوذا. وأحد الجواسيس الاثني عشر الذين أرسلهم موسى ليتجسسوا على أرض كنعان. وأحد أفراد الجماعة التي أقامها موسى قبل الدخول إلى أرض كنعان لتقسيم الأرض. وكان عمره 85 سنة لما تم الاستيلاء على أرض كنعان. (ر: قاموس ص 758) .

ص: 547

الموضع السّابع: قالت التوراة: "قال الله تعالى لموسى: تنح عن هذا الشعب الخبيث القلوب القاسي الرقاب. فإني أهلكه وأبيده عن جديد الأرض وأبدلك شبعاً خيراً منه. فلم يزل موسى يصلي ويشفع فيهم حتى عفا الله عنهم فلم يهلكهم ولم [يبدهم1]2. وهذا نسخ.

الموضع الثّامن: تحريم السبت3. وقد أقام الناس من لدن آدم إلى زمن موسى لم يُتعبَّدوا بتحريم الأعمال فيه. بل كانت الأعمال فيه مباحةً ثم حرِّمت على لسان موسى.

ولولا إيثار الاختصار لتلونا عليكم من هذا الجنس [كثيراً]4. فهذه نصوص التوراة تصرح بنسخ الأحكام وتبديل الحرام حلالاً والحلال حراماً. فمن أشد كفراً وأبين ضلالاً من قوم يقرؤون التوراة ثم يكفرون بها / (2/48/ب) بعد اعتقاد صحّتها وينسبون أنبياء الله إلى تعاطي المحرمات ولاستباحة الفروج بغير أمر الله؟! ومن قدح في أنبياء الله فقد كفر بالله. ولو كان اليهود أولي أحلام لما رَدُّوا النسخ واعتلوا بأنه بداء مع وصفهم الله تعالى بالندم والأسف وذلك أشد شناعة من البداء. فرووا5 في السفر الأوّل من توراتهم: "أن الله رأى ظلم الناس

1 في ص، م (يبيدهم) والصواب ما أثبتّه.

2 سفر الخروج 32/9-15، يرى العلامة ابن حزم 1/181، أن ذلك ليس بنسخ فقد قال بعد ذكره للنّصّ السابق:"وهذا هو البداء - الذي هو أشد من النسخ - والكذب المنفيان عن الله تعالى. لأنه ذكر أن الله تعالى أنه سيهلكهم ويقدمه على غيرهم ثم لم يفعل. فهذا هو الكذب بعينه - تعالى الله عنه - " اهـ. (ر: الفصل 1/181) .

3 خروج 20/8-10، ونصّه:"اذكر يوم السبت لتقدسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرّبّ إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك".

4 في ص، م (كثير) والصواب ما أثبتّه.

5 في م: وقرروا.

ص: 548

وشرّهم قد كثر على وجه الأرض فأسف الله إذ خلق آدم على الأرض فقال: لأزيلن ما على الأرض من البشر والأنعام والدواب وطير السماء؛ لأني قد ندمت على خلقي إيّاهم"1. فوصفوا ربّهم تعالى بالأسف والندم الدالين على غاية النقص والجهل بالعواقب ثم أنكروا النسخ وهو ضدّ البداء، إذ النسخ أمر بمصالح العباد في أوقاتهم وأحوالهم.

وقد حكوا في توراتهم ما هو أقبح من البداء صريحاً فرووا في السِّفر الأوّل من التوراة: "أنه لما نظر بنو الله بنات الناس حساناً ونكحوا منهم ما أحبوا قال الله: لا تسكن الروح بعدها في بشر ولتكن أيامهم مائة وعشرين سنة"2. / (2/49/أ) فهذا إخبار من الله أنه لا يعمر بشراً أكثر من مائة وعشرين سنة ولا يسكن الروح في بشر، ثم نصت التوراة بعد هذا القول أن أرفخشد عاش من بعد ما ولد له شالح أربعمائة وثلاث سنين3. وعاش رعوا من بعد ما ولد ساروج مائتي سنة وسبع سنين4. وعاش إبراهيم مائة سنة [وخمساً وسبعين] 5 سنة6. وعاش إسحاق مائة سنة وثمان سنة7. وجماعة كثيرة عُمّروا أعماراً تزيد على ما حكوه عن الله تعالى. وهذا أشدّ من البداء لأنه كذب في الأخبار. وإذا كان هذا [جائزاً] 8 عندكم معشر اليهود فكيف تمنعون النسخ وتتعللون9 بأنه بداء من الله؟!!.

1 تكوين 6/5-13.

2 تكوين 6/1-3.

3 تكوين 11/10-13، وفيه أن اسمه:(أرفكشاد) ، وهو ابن سام بن نوح عليه السلام.

4 تكوين 11/20، 21، وهو رعو بين فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد.

5 في ص (خمس وسبعون) والصواب ما أثبتّه.

6 تكوين 25/7.

7 تكوين 35/28.

8 في ص (جائز) والصواب ما أثبتّه.

9 في م: وتتقولون.

ص: 549

وقد جاء في قصة [حزقيا] 1 ملك يهوذا "أنه مرض فأوحى الله إلى أشعيا النبي عليه السلام أن قل لحزقيا يوصي فإنه ميت من علته هذه، فدخل عليه أشعيا وأخبره بوحي الله إليه في شأنه. فاستقبل حزقيا الجدار وبكى وتضرع إلى الله فنَزل الوحي على أشعيا النبي قبل خروجه من الدار يقول له، إن جزقيا يقوم من علته وينْزل إلى الهيكل / (2/49/ب) بعد ثلاثة أيام وأنه قد زيد في عمره خمس2 عشرة سنة"3. وإذا كانت كتب اليهود وتشهد بمثل هذه الأشياء لم يلتفت إليهم بعدها في ردّ النسخ. هذا وقد ابتدأ الله تعالى العالم بعد أن لم يكن وفرض تكاليف بعد أن لم تَجِب وأحدث أموراً ولم يدل ذلك على البداء، وقد نقل سبحانه عباده من حال إلى حال ومن صحة إلى سقم ومن حياة إلى موت ولم يدل على البداء. وكذلك نقلهم من جنس من التكاليف إلى جنس آخر لا يدلّ على البداء، وكأنه سبحانه يأمر عباده بالأمر فيتمرنوا عليه المدة الطويلة حتى يصير عندهم من قبيل الاعتياد، فيأمرهم بتركه والتزام سواه اختباراً لهم وامتحاناً لطاعتهم له. وهل امتثالهم لأمره طاعة محضة أو عادة مستصحبة4. وكلّ ذلك منه حسن. فلا يدل شيء من ذلك على البداء والاستدراك.

فإذا وردت العبارة مطلقة بلفظ يوهم التأبيد ثم نسخت تَبَيَّنَّا5 أن المراد بها وقت دون وقت. وقد تمسكت اليهود بقول التوراة: "تمسكوا بالسبت أبدا الدهر"6. (2/50/أ) فظنوا أنّ ذلك للتأبيد، وأن لفظه نصّ لا يحتمل التأويل،

1 في ص، م: حزقيال، والتصويب من النّصّ. وحزقيا: تقدمت ترجمته. (ر: ص 377) .

2 في م: عشر.

3 سفر أشعيا 38/1-5.

4 في م: مستطحبه.

5 في م: بينا.

6 سفر الخروج 31/16، 17.

ص: 550

وقالوا: أمرت التوراة بقتل من أحل السبت وجوز فيه الأعمال1. قالوا: وقد أحدث سلفنا في السب حدثاً فمسخوا.

واعلم أنّهم لما ألزموا بما في التوراة والنبوات من الأحكام التي نسخت وتجدد غيرها عدلوا إلى هذه اللفظة، وليس كما ذهبوا إليه إذ قوله:"تمسكوا بالسبت أبد الدهر" يحتمل صلة محذوفة وهي: "ما لم يأتكم نبيّ يأمركم بحِلِّه". والدليل على هذا الاحتمال أنه لو قرن بآخر الكلام وسيق معه لم يتناقض ولم ينب عنه وإذ كان الكلام يقبله حملناه عليه إذ نبوة عيسى ومحمّد لا سبيل إلى ردّها.

وقول التوراة إن صحّ يمكن تخصيصه، فواجب أن يُخَصَّ لضرورة الجمع بين أقوال الصادقين حتى لا تقع المعارضة بين الأدلة القطعية، فتحريم العمل في السبت حكم من جملة الأحكام التكليفية فنسخه كنسخ سائر الأحكام. والدليل على أن قوله:"تمسكوا بالسبت أبد الدهر" / (2/50/ب) ليس للتأبيد بل لدهر مخصوص وزمان مؤقت، قول التوراة:"قال الله تعالى لنوح لما كثرت خطايا البشر: لا تسكن روحي2 في البشر إلى الدهر"3 - ثم قال بعد ذلك لموسى عليه السلام: "يعمل لك قبة الزمان [بصلئيل] 4 الذي من سبط يهودا5 الذي ملأته روح الله بالعلم والحكمة". - وقال أيضاً -: "كذلك في رفيقه الذي من سبط دان"6. وهما من البشر. فوضع أن لفظة الدهر لا تقتضي التأبيد.

1 سفر الخروج 31/15، سفر 15/32-36.

2 في م: روح.

3 تكوين 6/3.

4 في ص، م (بصل إلي) والتصويب من النّصّ.

5 في م: اليهود.

6 خروج 31/1، 2، 6، 35/30-35.

ص: 551

وفي نبوة حزقيال أيضا: "إن الله تعالى قال له: تنبأ على هذه العظام وأنا أبث روحي فيهم فيحيون، ففعل"1. فقد سكنت روح الله في البشر.

وفي التوراة: "إن الله تعالى قال لإبراهيم: إن أرض الشام له ولذريته من بعده أبد الدهر"2. في عدة مواضع من التوراة. وذلك لا يتقاضى إلاّ دهراً مخصوصاً بدليل خروجها من أيديهم3. فلم يرد سبحانه إلاّ المدة التي أقامت في أيديهم.

وقالت التوراة: "إن الله تعالى قال لموسى: اصنع قبة الزمان ومن صفتها كيت وكيت وليلبس هارون ثياباً للتكهن من صورتها كذا وكذا للدهر"4. وليس بقاء القبة ولا هارون / (2/51/أ) مؤبداً.

1 سفر حزقيال 37/1-10.

2 ورد النّصّ في سفر التكوين 17/8، كالآتي:"وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كلّ أرض كنعان ملكاً أبدياً". وتكرر في نفس السفر 13/14-17، 15/18-21. إلاّ أن هذا الوعد من الله كان مشروطاً بالإيمان والطاعة لله عزوجل. والتمسك بشرائعه وفرائضه. فستحقه من آمن بالله وطبق شريعته، ويحرم منه من أشرك مع الله آلهة أخرى أو كذب بأنبيائه ونقض العهد والميثاق. فحينئذٍ تحل عليه اللعنة والغضب من الله كما ورد ذلك في سفر اللاويين 26/1-46، في سياق طويل جداً. كما أن هذا الوعد مع إبراهيم عليه السلام كان بعد ميلاد إسماعيل وقبل ميلاد يعقوب عليهما السلام. فالسياق يدل إذن على أن المراد بالوعد هو إسماعيل عليه السلام وذريته من بعده.

3 فقد أخرجهم الآشوريون إلى بابل سنة 72 ق. م. (ر: سفر الملوك الثاني 17/6) . وأخرجهم كذلك نبوخذ نصر البابلي سنة 587 ق. م. (ر: المرجع السّابق 25/7، وسفر أخبار الأيام الثاني 36/5-21) . وقد كان ذلك عقاباً لهم من الله عزوجل لكفرهم بالله وعبادتهم الأصنام وقتلهم الأنبياء ونقضهم الميثاق وفسادهم في الأرض. فكتب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، فتشردوا في أنحاء العالم.

وفي ذلك ردّ على ما يروجه اليهود ويخدعون به الناس، بأن الله تعالى قد أعطى أجدادهم وعداً أن يمنحهم أرض كنعان (فلسطين) كما يقول بيجن: إن هذه الأرض أعطيت لنا وعداً. ولنا عليها حقّ. (للتوسع ر: فلسطين أرض الرسالات الإلهية - رجاء جاروري ص 241-257، اليهودية د. أحمد شلبي ص 90-92) .

4 سفر الخروج الإصحاحات (25، 26، 27، 29، 30) .

ص: 552

وقالت التوراة في السِّفر الربع منها لموسى: "اصنع قرنين من فضة تستعين بهما على الدعوة للرحلة، فإذا نفخ فيهما اجتمع [بنو] 1 إسرائيل عند قبة الزمان [وبنو] 2 هارون هم الذين يهللون بالقرون ولتكن هذه سنة لكم إلى الدهر"3. وليس ذلك للتأبيد بل لدهر مخصوص. فثبت بذلك أن الذي وعد به إبراهيم من تمليك ولده الأرض مخصوص به ولد يعقوب في ذلك الدهر الذي انقضى ومضى ثم قد زالت من أيديهم وزال ملكهم عنها. وإذ قد ثبت بهذه النصوص أن لفظ: (الدهر) لا يقتضي التأبيد في سكنى روح الله في البشر ولا في ملك الأرض ولا في لباس هارون الثياب وضربه بالقرون للرحيل بل لدهر مخصوص في علم الله. فكذلك لفظ الدهر في تحريم السبت. وهذا هو أقوى ما تمسك به اليهود في تأبيد تحريم السبت ولا جواب لهم عما ألزمناهم من نصوص توراتهم.

وأما احتجاجهم بمسخ من مسخ من أسلافهم قردة وخنازير، فذلك لتعديهم في السبت قبل نسخه إذ كانوا مكلّفين في ترك الأعمال فيه / (2/51/ب) فلما دلسوا على الله وخالفوا أمره وارتكبوا نهيه مع بقاء حرمته عاقبهم بالمسخ4، فلما

1 و (2) في ص، م (بنوا) والصواب ما أثبتّه.

3 سفر العدد 10/1-8.

4 قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . [سورة الأعراف، الآية: 163-166] .

وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} . [سورة المائدة، الآية: 60] .

ص: 553

بعث الله نبيّه المسيح ابن مريم عليه السلام نسخ السبت وأباح الأعمال فيه1، وغيَّر كثيراً من الأحكام وآمن طوائف من اليهود بالمسيح عليه السلام وتركوا السبت فلم يُنسبوا بعد إلى عدوان ولم يمسخوا.

1 عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضلّ الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا والأوّلون يوم القيامة. المقضي لهم قبل الخلائق". أخرجه مسلم 2/586، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بلفظ:"ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدا، والنصارى بعد غد". (ر: فتح الباري 2/354) .

قال ابن بطال: "ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه، لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن، وإنما يدل - والله أعلم - أنه فرض عليهم يوم من الجمعة وُكِّل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم، فاختلفوا في أيّ الأيام هو، ولم يهتدوا ليوم الجمعة". اهـ. ومال عياض إلى هذا ورجّحه.

وقال النووي: "يمكن أن يكونوا أمروا به صريحاً، فاختلفوا هل يلزم تعيّه أم يسوغ إبداله بيوم آخر؟ فاجتهدوا في ذلك فأخطأو". ويشهد له ما رواه الطبري بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} . قال: "أرادوا الجمعة فأخطأوا وأخذوا السبت مكانه، ويحتمل أن يراد بالاختلاف اختلاف اليهود والصارى في ذلك"(ر: فتح الباري 2/355، شرج النووي لصحيح مسلم 6/143، 144) .

وعلى هذا فإن المسيح عليه السلام لم يمر أتباعه بتقديس يوم الأحد بدلاً من السبت. (ر: هدية الحياري ص 265) . لأنه كان متّبعاً شريعة موسى عليه السلام. وقد كانت رسالة عيسى عليه السلام كما قال عزوجل وحكاية عن عيسى: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ

} . [سورة آل عمران، الآية: 50] . إنما ينسب إلى بولس استبدال السبت بالأحد عند النصارى فيما ورد من تعاليمه في رسالته الأولى إلى كورنثوس 16/1-2، وهذا الاستبدال من الانحرافات التي أحدثها بولس في دين المسيح كما سبق بيانه. (ر: ص: 100) .

ومما يدلّ على تحريف النصارى واستبدالهم السبت بالأحد هو ما ذكرته أناجيلهم من أن المسيح كان يعظم السبت وبأنه كان يذهب إلى المجامع للصلاة في السبت. (ر: لوقا 4/16) .

ويقول مؤلِّفو قاموس الكتاب المقدس ص 454، 455:"إن المسيحيين الأوّلين قد قدسوا يوم السبت، ولكن يوم الأحد حلَّ تدريجياً محل يوم السبت، فقد جعلت قيامة ربّنا (أي: قيامة المسيح من الموت) . قيمة خاصة ليوم الأحد. وفي قرار المجمع المسيحي الأوّل لم يفرض قادة الكنيسة الأولى حفظ يوم السبت اليهودي.... وقد كانت هناك جماعة من المسيحيين يعتقدون بأن عليهم أن يحفظوا يوم السبت لا يوم الأحد. وقد كان بعض المسيحيين الأوّلين يحفظون كلاً من السبت اليهودي ويوم الرّبّ المسيحي (الأحد) ، واستمر مدة أربعة قرون ثم انتهى أمره بعد أن منعه مجمع خلقدونية الكنسي في عام 364م. ويخبرنا تاريخ الكنيسة أنها حفظت يوم الأحد بناء على أوامر الرسل، حيث يقول جستينوس: نجتمع سوية يوم الأحد، لأنه اليوم الأوّل الذي فيه غيَّر الله الظلمة إلى نور. والعدم إلى وجود، وفي هذا اليوم قام مخلصنا يسوع المسيح من الأموات. وشهد اثناسيوس الإسكندري: أن الله قد غيَّر يوم السبت إلى يوم الأحد". اهـ. بتصرف.

ص: 554

فقد ثبت جواز النسخ عقلاً ودللنا على وقوعه شرعاً واننقطعت معاذير اليهود1. - والله ربّنا المحمود 14- فضيحة أخرى: زعم اليهود: "أن روح الله قبل خلقه العالم كانت ترفرف على المياه"2. انظر - عافاك الله - إلى سوء هذا التعبير وسماجته، كأنهم يعتقدون أن حياة الباري تزايله وتفارق ذاته. فإن قالوا: إنما عنينا أن المياه كانت مصونة بحفظه عن الضياع.

قلنا لهم: فليس للمياه اختصاص بذلك فهلا قلتم: وصان الله المياه وحفظها كي لا تضيع، ولِمَ استعملتم هذا اللفظ الموهم الموجب للالتباس، القاضي بالفكر الرديء والوسواس؟!

1 ر: في إثبات انسخ وإلزام اليهود والنصارى بذلك: إفحام اليهود ص 86-102، للسموأل المغربي، مقامع هامات الصلبان ص 265-267، لأبي عبيدة الخزرجي، التمهيد ص 204-219، للباقلاني، الداعي إلى الإسلام ص 319-340، للأنباري، إغاثة اللهفان ص 646-652، لابن القيم، إظهار الحقّ ص 295-313، لرحمة الله. وغيرها.

2 سفر التكوين 1/2.

وقد ورد في السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم 1/18، تفسير النّصّ كالآتي:"وروح الله يرف على وجه المياه، أو ريح الله، وأكثر مفسري اليهود يفسّرون الروح هنا بريح عظيمة من الله واعتاد العبرانيّون أن ينسبوا إلى الله ما يريدون تعظيمه، وعلى هذا، ذهب جماعة من علماء التفسير إلى أنّ المقصود (بالروح) هنا: ريح عظيمة بدد الله بها ظلمات الغمر والخلو". اهـ.

ويقول الفيلسوف اليهودي سبينوزا في: (رسالة اللاهوت والسياسة ص: 135-138) : "تدلّ كلمة (رواه) في معناه الأصلي على الريح كما هو معروف، ولكنها تستعمل أيضاً في كثير من الأحيان بمعانٍ أخرى مشتقة من المعنى الجأول، فتقول مثلاً: 1- نسمة. 2- نفخ أو تنفس. 3- الشجاعة أو القوة. 4- الصفة أو القدرة. 5- الرأي أو الفكرة إلى غير ذلك - ثم يقول: وهكذا يسهل علينا تفسير كلّ نصوص الكتاب التي يرد فيها ذكر روح الله، فعبارة (روح الله) أو روح (يهوه) لا تعني في بعض النصوص إلاّ ريحاً قويّة جافة عاتية، كما في سفر التكوين 1/2". اهـ.

ص: 555

15-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أنّ الله تعالى حين أكمل خلقة العالم قال: / (1/52/أ)"تعالوا حتى نخلق بشراً شبهنا ومثالنا فخلق آدم"1. فلذلك اعتق كثير من اليهود التجسيم، فقال: إن الله في صورة آدمي وأنه شيخ أبيض الرأس واللحية وأنه جالس على كرسي والملائكة قيام بين يديه والكتب تقرأ بحضرته2 - والويل لليهود - من أين الله [شبه ومثال؟!] 3. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} . [سورة الشورى، الآية: 11] .

1 تكوين 1/26.

2 ورد ذلك التجسيم في سفر دانيال 7/107 كالآتي: "كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي. وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة. نهر نار جرى وخرج من قدامه. ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه. فجلس الدين وفتحت الأسفار".

كما ورد في التلمود أن الله - تعالى عما يقولون علوّاً كبيراً - يطالع الشريعة (التوارة) في الساعات الثلاث الأولى من النهار، وبأنه لا شغل لله في الليل غير تعلمه التلمود مع الملائكة ومع ملك الشياطين". (ر: الكنْزالمرصودفي قواعدالتلمود ص55) .

فهذا التصور المنحرف لليهود للذات الإلهية العلية ناشئ من تأثرهم بالوثنية التي كانوا تحت سلطتها في السبي البابلي. وللمادية التي طغت على نفوسهم وتحكّمت في تصوراتهم.

3 في ص، م (شبها ومثالا) والصواب ما أثبتّه.

ص: 556

16-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الباري لما خلق الخلق في ستة أيام استراح في اليوم السابع1. واعتقدوا بغلط2 أفهامهم أن الباري يعتوره التعب والنصب، وربما نُقل عن بعض اليهود أن الباري في اليوم السابع استلقى على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى. وهذه الزيادة لم أقف عليها في نسخ التوراة غير أنها قد نقلت عن بعضهم3. ولست أبعد من عقولهم اعتقادها والبوح بها.

17-

فضيحة أخرى: زعم اليهود: "أن الله تعالى قال لآدم وحواء: إنكما في اليوم الذي تأكلان فيه من الشجرة التي نيتكما عنها [تموتان] 4 موتاً"5. وذلك من الكذب الفاحش على الله فإن التوراة تشهد إنهما / (2/52/ب) عاشا بعد الأكل دهراً حتى رزقا الأولاد ورأيا فيهم البر والفاجر6.

واليهود تزعم أن الجنة لا أكل فيها ولا شراب7. وهذا الموضع يكذبهم. وقد قررت ذلك في مسألة مفردة أثبت فيها اشتمال الجنة على أصناف من الملاذ من الأكل والشراب والنكاح8.

1 ورد ذلك في سفر التكوين 2/1-3. وقد ردّ الله عزوجل على زعمهم الكاذب بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} . [سورة ق، الآية: 38] . قال قتادة: "قالت اليهود - عليهم لعائن الله - خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة. فأنْزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه". (ر: تفسير ابن كثير 4/245) .

2 في م: بلغط.

3 نقل الشهرستاني ذلك عنهم. فقال: "اجتمعت اليهود عن آخرهم على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض استوى على عرشه مستلقياً على فقاه، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى". (ر: الملل النحل 1/219) .

4 في ص، م (تموتا) والصواب ما أثبتّه.

5 تكوين 2/17.

6 تكوين 4/1، 2، 25.

7 في م: ولا شرب.

8 ر: ص: 112، 113.

ص: 557

18-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نمرود1 لما بنى الصرح وشيَّده نزلالباري إلى الأرض حتى هدمه وحال بين نمرود2 وبين ما أراد من ذلك. واليهود كثيراً ما يطلقون في توراتهم نزول الباري فكأنما يعجزون الله تعالى عن القدرة على ما أراد حتى يصفونه بالحركة والانتقال والتفريغ والاشتغال. وذلك كلّه من صفات المحدثين ويتعالى عن ذلك ربّ العالمين.

أين هذا من ألفاظ الكتاب العزيز حيث يقول: {فَأَتَى الله بُنْيَاهُم مِّن القَوَاعِد} 3. وقوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} 4.

19-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن إبراهيم حين مرت به الملائكة لهلاك سدوم وعامورا مدائن لوط عليه السلام أضافهم وأطعمهم / (2/53/أ) خبزاً ولحماً وسقاهم سمناً ولبناً ولما باتوا عند لوط عشاهم فطيراً5. وذلك جهل عظيم إذ اعتقدوا أن الملائكة شأنهم شأن الآدميين يتناولون ما يتناوله الآدميون من الأغذية. وتلك أجسام روحانية إنما غذاؤها وقوت أرواحها جنس آخر روحاني لا يعرفه اليهود.

ص: 558

وقد قال أهل الكتاب: "إن المؤمنين في الجنان لا يأكلون ولا يشربون بل يكون حالهم عند الله كحال الملائكة". فكيف ناقضوا هَاهنا فزعموا أن الملائكة أكلت الطعام وشربت الشراب. وبهذا التحريف وشبهه تعلم أن أهل الكتاب ليس بأيديهم من كتب أنبيائهم إلاّ الرسوم1. وقد قال الكتاب العزيز: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُم لَا تَصِلُ إِلَيهِ نَكِرَهُم وَأَوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} . [سورة هود، الآية: 70] . وذلك كناية عن عدم الأكل ويشبه أن يكون الملائكة وضعوا أيديهم على الطعام وتقدموا به إلى الفقراء وأبناء السبيل.

20-

فضيحة أخرى: زعم اليهود - أبعدهم الله - أنّ نبيّ الله لوطاً لما2 تقدم / (2/53/ب) الله إليه بالخروج من تلك القرية الظالمة لم يسارع إلى الخروج وتباطأ في الامتثال. حتى جعل الملائكة يدفعون في ظهره دفعاً عنيفاً حتى أخرجوه كرهاً3. والأنبياء محاشون عن عوارض الشكوك فيما يأمر به الله سبحانه - أعوذ بالله من القد في عصم الأنبياء والتشبه بأمثال اليهود الأغبياء.

21-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نبيّ الله إبراهيم حين حضرته الوفاة وأشرف على القدوم على الله تعالى، ورّث ماله كلّه إسحاق ولده وحرّم

1 مفرده: الرّسم. وهو الأثرأوبقيته، أو ما لا خص له من الآثار. (ر: القاموس ص1438) .

2 ليست في م.

3 تكوين 19/15-22. ونصّه: "ولما طلع الفجر كان الملكان يعجلان لوطاً قائلين: قم خذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرّبّ عليه أخرجاه ووضعاه خارج المدينة".

ص: 559

باقي أولاده1. فنسبوه - وهو خليل الله - إلى جهل وحيف يتَنَزه عنه جهال الصبيان وقد قال خاتم النّبيين: "إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"2.

1 سفر التكوين 25/5، 8. ونصّه: "وأعطى إبراهيم إسحاق كلّ ما كان له. وأما بنو السراري اللواتي كانت لإبراهيم فأعطاهم إبراهيم عطايا وصرفهم عن إسحاق ابنه إلى أرض المشرق وهو بعد حيّ. وهذه أيام سني حياة إبراهيم التي عاشها مئة وخمس وسبعون سنة. وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة شيخاً

".

إن ما نسبه اليهود إلى إبراهيم عليه السلام من محاباة ابنه إسحاق وتفضيله على سائر إخوته في توزيع ممتلكاته-ليتسنى لليهود الادعاء بأنهم الصفوة المختارة من البشر والموعودون بالبركة من الله-يخالف قانون الوراثة المذكورة في سفر التثنية 21/15-17. ونصّه: "إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة، فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة. فإن كان الابن البكر للمكروهة فيوم يُقسّم لبنيه ما كان له. لا يحل له أن يقدّم ابن المحبوبة بكراً على ابن المكروهة البكر. بل يعرف ابن المكروهة بكراً ليعطيه نصيب اثنين من كلّ ما يوجد عنده. لأنه هو أوّل قدرته. له حقّ البكورية". بناء عليه فإ، حقّ إسماعيل عليه السلام في الميراث حقّ شرعي وعادل باعتباره الابن البكر الشرعي لإبراهيم. إذ إن إسماعيل يكبر إسحاق بأربع عشرة سنة. فمن المعلوم من التوراة أن هاجر ولدت إسماعيل وعمر إبراهيم 86 سنة. (تكوين 16/16) . ولكن عندما ولدت سارة إسحاق كان عمر إبراهيم 100 سنة. (تكوين 21/5) وهذا يدل على أن إسماعيل الابن البكر لإبراهيم.

فإن كان هناك إرث لإبراهيم عليه السلام-كم يزعم اليود-فلإسماعيل الحقّ في الضعف مما يأخذه أولاد إبراهيم ومن بينهم إسحاق عليه السلام. وإلاّ فإن حقيقة الأمر كما أخبرنا به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: "بأنا معاشر الأنبياء لا يورثون، وأنّ ما تركوه فهو صدقة".

فإن الميراث القحيقي للأنبياء هو علم الشريعة والوحي الإلهي فقد ورد في الحديث: "إن العلماء ورثة الأنبياء، ورّثوا العلم. من أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ". أخرجه أبو داود 4/57، وبن ماجه. (صحيح ابن ماجه للألباني 1/43) ، والترمذي 5/47، 48، وأحمد 5/196، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح.

2 أخرجه أحمد في مسنده 2/463، والبخاري في كتاب الفرائض باب (2) . (ر: فتح الباري 12/5-7) ، ومسلم 3/1379-1383، الترمذي في سننه 4/157، 158، وفي الشمائل ص 314، وأبو داود 3/142، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"لا نورث ما تركناه صدقة".

ص: 560

22-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أنّ نبيّ الله يعقوب احتال على أبيه وقد كذب عليه قولاً وفعلاً وأوهمه أنه العيص1 ولده إذ كان إسحاق يحب العيص أكثر من يعقوب. وأنه لبس حلة أخيه العيص وجعل على ذراعيه وعنقه جلد ماعز حتى ذهب بدعوة [إسحاق] 2 التي ادّخرها3 للعيص فتمّت حيلته على أبيه ونجحت مكيدته وأن / (2/54/أ) إسحاق لما عرف حقيقة الحال تعجب من ذلك. وقال: "ليت شعري من هذا الذي ذهب بدعوتي"4.

والأنبياء وأولادهم منَزّهون عن الكذب5 والتدليس وسائر الكبائر وعن كلّ ما يجر إليهم جرحاً أو يقتضي قدحاً. والعجب أن اليهود يظنّون أن هذه حيلة على إسحاق وهي في الحقيقة على الله عزوجل.

1 ورد في التوراة أن اسمه: (عيسو) ومعناه: (شَعَر) . وهو توأم يعقوب وبكر أبناء إسحاق. لأنه خرج أوّلاً، وتزعم التوراة المحرفة أن يعقوب قد اشترى البكورية من عيسو بحصن عدس. وبأنه سكن جبل سعير وذريته من بعده. (سفر التكوين الإصحاحات (25-35) ، قاموس ص 649) .

2 إضافة يقتضيها السياق. ولعلّها سقطت من الناسخ. والله أعلم.

3 في م: ادخروا.

4 تكوين 27/1-33، في سياق طويل وقد ذكره المؤلِّف مختصراً.

5 اتّفقت الأمة الإسلامية على أن الأنبياء معصومون في التبليغ عن الله عزوجل، وعن ارتكاب الكبائر من الذنوب. أما غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين ولو كانوا أبناء الأنبياء أو أولياء الله. فهذا ابن نوح عليه السلام يعصي ربه وأباه. قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِي قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ

} . [سورة هود، الآية:42-47] . وهؤلاء أبناء يعقوب عليه السلام وأخوة يوسف عليه السلام قد حالوا قتل يوسف حسداً من أنفسهم ثم كذبوا على أبيهم يعقوب عليه السلام واحتالوا عليه وقصتهم مبسوطة في سورة يوسف.

ص: 561

23-

فضيحة أخرى1: زعم اليهود أن الذبيح هو إسحاق وليس هو إسماعيل2، فأكذبهم التواتر وسخر منهم البادي والحاضر، وذلك أن التواتر يشهد بأن الذبح والنحر إنما هو بمنى وهي موطن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. ولم تزل قرون الكبش - كبش إسماعيل - معلقة في جوف الكعبة إلى أيام ابن3 الزبير فاحترقت في فتنة الحجاج4 بن يوسف5.

1 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من كتاب مقامع هامات الصلبان. (ر: ص 247) لأبي عبيدة الخزرجي.

2 سفر التكوين الإصحاح (22) .

3 هو الصحابي المعروف عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه. توفي سنة 74هـ. وله ثلاثة وثلاثون حديثاً.

4 هو: الحجاج بن يوسف الثقفي. كان ظلوماً. سفاكاً للدماء. ذا شجاعة ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة. رمى الكعبة بالمنجنيق. مات بواسط سنة 95هـ.

قال الإمام الذهبي في ترجمة الحجاج: "فَنَسُبُّه ولا نحبه. بل نبغضه في الله. فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه. وأمره إلى الله. وله توحيد في الجملة. ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء". اهـ. (ر: ترجمته في: سير أعلام النبلاء 4/243، تهذيب التهذيب 2/210، الأعلام 2/168) .

5 قال الإمام أحمد في منسده 5/380: "ثنا سفيان ثنا منصور عن حاله مسافح عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولّدت عامة أهل دارنا قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقالت مرة - إنها سألت عثمان: لِمَ دعاك النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما. فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي. قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت فاحترقا". اهـ.

قلت: إسناده صحيح. فإن صفية بنت شيبة صحابية رضي الله عنها. (ر: التقريب 2/603) .

قال الإمام ابن كثير: "وكذا روي عن أن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقاً عند ميزاب الكعبة قد يبس وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل. لأنه كان هو المقيم بمكة. إسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغر. (ر: قصص الأنبياء، ص 143) .

ص: 562

والدليل على أن الذبيح إسماعيل وأن القصة كانت قبل أن يولد إسحاق قول التوراة: "إن إبراهيم لما أهوى بالسكين إلى نحر ولده ناداه الملك: إبراهيم، إبراهيم قد علمت أنك تخشى الله حيث لم تمنعه ابنك وحيدك"1. وهذا من أدلّ الدليل على أنه إسماعيل.

فإن قالوا: فقد / (2/54/ب) نصت التوراة على أنه إسحاق.

قلنا: ذلك من تحريفكم. والدليل على كذبكم قوله: "ابنك وحيدك" فلو قلنا: إنه إسحاق لكان قوله: "وحيدك" باطلاً. وكيف يكون إسحاق واحده وابنه إسماعيل أكبر منه؟! 2. فليس واحده سوى إسماعيل. وقد نقلنا التواتر ومن خالف المتواتر فهو مخصوم به.

تابع للباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود

24-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى لما رأى معاصي بني آدم قد كثرت على الأرض، قال: لقد ندمت إذ خلقت آدم. فأرسل ماء الطوفان وأباد ما على الأرض من الحيوان3 وزعموا أنه لما فعل ذلك ندم أيضاً وقال: لا أعود أفعل ذلك.

وذلك مذكور في سفر الخليقة4 من توارتهم، فقبح الله هذه الأحلام التي تترفع5 عن أمثالها الأنعام. وهل خفي عن علام الغيوب ما سيقترفه العباد ويجري في مستقبل الزمان من الصلاح أو الفساد؟. وإنما يتصور الندم والأسف

1 تكوين 22/10-12) .

2 لقد ظلّ إسماعيل الابن البكر الوحيد لإبراهيم عليهما السلام مدة أربع سنة إلى أن ولد إسحاق عليه السلام. والدليل على ذلك ما ورد في سفر التكوين 16/16: "كان أبرام ابن ست وثمانين سنة لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام". وفي نفسه السفر 21/5: "وكان إبراهيم ابن مئة سنة حين ولد له إسحاق ابنه". إذن فالوحيد لدى إبراهيم هو إسماعيل - وهو الذبيح - وهو يكبر إسحاق عليهم السلام بأربع عشرة سنة.

3 في م: الحياة.

4 سفر التكوين 6/5-13، 7/6، 8/21.

5 في م: يرتفع.

ص: 563

من الجهل بعواقب الأمور، والباري تعالى عالم بالخفيات محيط بجزئيات ما فات وما هو آت.

25-

فضيحة أخرى: / (2/55/أ) زعم اليهود أن الذي وسوس لآدم وحواء حتى أكلا من الشجرة ليس هو إبليس وإنما هي الحية1. قالوا: وكانت أحكم الدواب.

فأما إبليس فلا يعتقدون بوجوده وليس له في توراتهم ذكر ألبتة2. والله تعالى يقول: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَان} . [سورة الأعراف، الآية: 20] .

1 ورد ذلك في سفر التكوين 3/1-7.

2 لم يرد في التوراة المحرفة ذكر إبليس اللعين. ولكن ورد الشيطان في بعض أسفار العهد القديم كسفر أخبار الأيام الأوّل 21/1، وسفر أيوب 1/6، ومزمور 109/6.

أما قول المؤلِّف بأن اليهود لا يعتقدون وجود إبليس، فإنه يحمل على اعتقاد فرقة الصدوقيين من اليهود التي تنكر وجود الملائكة والشياطين. وتنكر التلمود أيضاً. أما جمهور اليهود من الرّبّانيين ونحوهم، فإنهم يثبتون وجود الشيطان. حيث إنه مذكور في نصوص كثيرة من كتاب التلمود الذي يقدسونه. ومن تلك النصوص:

- أن الله خلق الشياطين في غسق يوم الجمعة. ولم يخلق لهم أجساداً أو ملابس لأن يوم السبت كان قريباً. فما كان لديه الوقت لعمل كلّ ذلك؟!!. وفي رواية أخرى أن الله لم يخلق لهم أجساداً عقاباً لهم لأنهم كانوا يريدون أن يخلق الإنسان بدون جسد!!!.

وبأن الشياطين على أنواع: فبعضهم مخلوق من مركب مائي وناري. وبعضهم من الهواء. وبعضهم من الطين. أما أرواحهم فمخلوقة من مادة موجودة تحت القمر. وبعض الشياطين من نسل آدم

(ر: الكنْز المرصود في قواعد التلمود ص 60-63. د. روهلنج. همجية التعاليم الصهيونية ص 36-43، بولس حنا مسعد. اليهودية ص 144 د. محمّد بحر عبد المجيد) .

ص: 564

والنصارى وهم أفخاذ منهم يخالفونهم في ذلك ويثبتونه ويعتقدون وجوده، وذكره في الأناجيل كثير1.

26-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن نوحاً عليه السلام نام في خيمته فكشف الريح عورته فضحك منه ابنه حام فدعا عليه وعلى عقبه2. وذلك من ترهات العوام وخرافات العجائز، فجعله اليهود قرآنا يتلى في المحاريب.

1 ورد ذكر الشيطان في الأناجيل وبقية الأسفار العهد الجديد مرات كثيرة منها: متى 4/10، 9/33، 11/18، مرقس 1/13، 3/26، لوقا 4/33، 8/29، يوحنا 6/70، 7/20، أعمال الرسل 5/3، رسالة إلى رومية 16/20، وغير ذلك. ويعتقد النصارى أن الشيطان كائن حقيقي. وهو أعلى شأناً من الإنسان ورئيس رتبة من الأرواح النجسة. وبأن نهايته أن يعذب أبد الآبدين. (ر: قاموس ص 533-535) .

2 ورد النّصّ في سفر التكوين 9/20-27، كالآتي:"وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافها ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما. ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمر علم ما فعل له ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال مبارك الرّبّ إله سام وليكن كنعان عبدا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم".

إن هذه القصة من افتراءات بني إسرائيل على أنبياء الله تعالى واتهامهم بارتكاب الكبائر. وتفضح عنصرية اليهود البغيضة حيث قصدوا بهذه القصة اللعنة إلى الكنعانيين سكان فلسطين قبل اليهود. ونسبوا أنفسهم إلى سام وادعوا اختصاصهم بذلك ليتسنى لهم ادعاء حقّ السيطرة على الكنعانيين وأرضهم فلسطين.

- ولنا على هذه القصة المكذوبة عدة ملاحظات تفضح افتراءها، منها:

- كيف يلام حام وهو لم يفعل شيئاً يستحق اللوم عليه إضافة إلى أنه كان طفلاً صغيراً

؟.

- وكيف يلعن نوح كنعان بن حام - الذي سيولد بعد 20 سنة؟ -. فما ذنب كنعان؟.. كيف يتحمل ذنب أبيه - إن كان لأبيه ذنب؟.

ص: 565

27-

فضيحة أخرى: زعم اليهود-أخزاهم الله-أن نبي الله لوطاً لما نجاه الله من عذاب سدوم، سكن كهف جبل. ومعه ابنتاه اللتان سلمتا من أهله. فلما استقر بهم الحال قالت إحداهما للأخرى: هلمي نسقي أبانا الخمر حتى إذا سكر ضاجعناه وأقمنا من أبينا نسلا. وأنهما فعلتا ذلك فوطئهما لوط فحملتا منه بولدين/ (2/55/ب) وهما مؤاب وعمون1.

أبعد الله اليهود، كيف يحسن أن يبتلي الله من اصطفاه وارتضاه لرسالته بهذه الكبيرة؟ وكيف يحميه بالأمس ويهتك ستره اليوم؟ فأيّ فائدة في نشر هذه الفاحشة وتخليدها الكتب ليقرع بها الأنبياء قرناً بعد قرن وحقباً بعد حقب؟ 2. الله أكرم من ذلك.

1 ورد ذلك في سفر التكوين 19/30-38. و (مؤاب) فإليه ينسب المؤابيون أو بنو مؤاب وسكنوا في القسم الشرقي من البحر الميت. وأما (عمون) فينسب إليه بنو عمون الذين سكنوا في الشمال بجبال جلعاد بين نهري أرنون ويبوق. وقد كان المؤابيون وبنو عمون في صراع مستمر مع بني إسرائيل. (ر: قاموس ص640، 928) .

2 علق المهتدي السموأل المغربي - الذي كان يهودياً فأسلم - على هذه الفضيحة بقوله: "ومما يؤكّد استحالة ذلك، أنهم زعموا أن ابنته فعلت كذلك به في الليلة الثانية فعلقت أيضاً. وهذا ممتنع مع المشائخ الكبار أن يعلق من أحدهم في ليلة ويعلق منه أيضاً في الليلة الثانية. إلاّ أن العداوة التي ما زالت بين (بني عمون ومؤاب) وبين بني إسرائيل؛ بعث واضع هذا النّصّ على تلفيق هذا المحال ليكون أعظم الأخبار فحشا في حقّ بني عمون وبني مؤاب

وأيضاً فإن عندهم أن موسى جعل الإمامة في الهارونيين فلما ولى طالوت وثقلت وطأته على الهارونيين وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم انتقل الأمر إلى داود. بقي في نفوس الهارونيين. التشوق إلى الأمر الذي زال عنهم. وكان عزرا هذا خادماً لملك الفرس حظيا لديه. فتوصل إلى بناء بيت القدس وعمل لهم هذه التوراة التي بأيديهم. فلما كان هارونيا كره أن يتولى عليهم في الدولة الثانية داودياً. فأضاف في التوراة فصلين طاعنين في نسب داود. أحدهما: قصة بنات لوط. والآخر: قصة ثامار. ولقد بلغ - لعمري - غرضه. فإن الدولة الثانية التي كانت لهم في بيت المقدس لم يملك عليهم فيها داوديون بل كانت ملوكهم هارونيين". اهـ. (ر: إفحام اليهود ص 151، 152، ونقله القرافي في الأجوبة الفاخرة ص 81) .

ص: 566

28-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن رؤبيل1 بكر يعقوب من ولده. زنى بسرية أبيه يعقوب وافتراشها2. وأن أباه يعقوب لما حضر أجله ودنت وفاته قرّع رؤبيل ابنه بذلك وعَيّره بين إخوته وقال له: يا رؤبيل حقاً لقد نجست فراشي وامتهنته فلذلك لست أعطيك السهم الزائد3. قالوا: وكان من سنة إبراهيم أن يرث الولد البكر سهمين من الميراث وغيره يرث سهماً واحداً4.

فأي فائدة وأي حكمة في نقل هذه الفاحشة يُعيّر بها سبط عظيم من الأسباط؟ ومآثر الآباء مفاخر الأبناء. وهاهنا حَرْفٌ يتبيّن به كذب اليهود في توريث إبراهيم إسحاق / ماله كله وحرمان إسماعيل5. وهو أن سُنَّة إبراهيم توريث البكر من الأولاد سهمين. فكيف حرموه الميراث؟ هل ذلك من اليهود إلاّ غفلة وجهالة بما في أيديهم من كتب الله.

29-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن يهوذا6 بن يعقوب زنى بكنتّه ثامار7 ورهنها على ذلك خاتمه وعصاه. وأنها حملت منه واشتهرت قصته وقصتها في بني إسرائيل وصارا بذلك شهرة8. هذا مع حظوته عند أبيه

1 في النّصّ (رأوبي) : اسم عبري معناه: (هوذا ابن) وهو بكسر يعقوب ولدته ليئة. وإليه ينسب أحد أسباط إسرائيل الاثني عشر وهو سبط رأوبين. (ر: قاموس ص 393) .

2 تكوين 35/21، 22.

3 تكوين 49/3-5.

4 تثنية 21/17.

5 تقدم التعليق على ذلك. (ر: ص 399) .

6 يهوذا: اسم عبري معناه: (حمد) وهو رابع أبناء يعقوب عليه السلام من ليئة. وأعطي هذا الاسم بسبب أم أمه شكرت الله عند ولادته. ولا يذكر العهد القديم شيئاً كثيراً عنه. (قاموس ص 1085) .

7 ثامار: اسم عبري منعاه: (نخلة) وهي زوجة (عير) بكر يهوذا. ولما توفي عير أعطيت زوجته لأخيه (أونان) الذي مات أيضاً عاجلاً لشره. (ر: قاموس ص 233) .

8 تكوين الإصحاح (38) .

ص: 567

ودعائه له بتخليد الملك والنبوة في عقبه حتى يأتي محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم1. فأي فخر في ذلك وأي فضل يودعوه التوراة ويعظموه تعظيم الوحي والتّنْزيل جيلا بعد جيل؟!.

30-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن دينا2 بنة يعقوب خرجت وهي عذارء فرآها مشرك من عبدة الأوثان وهو سحيم بن خمون3 رئيس القرية فوقع عليها وافترعها، وأزال بكارتها، وأنْزل العار بأبيها نبيّ الله يعقوب، وأن حمور أباه جاء إلى بني يعقوب وتنصل وآمن والتزم أحكامهم هو وجميع أهل القربة. وأن بني يعقوب قالوا: لأهل القرية. إن أحببتم / (2/56/ب) الاستنان بسنتنا والدخول في ديننا فاختتنوا لنصير شعبا واحداً، ومكروا بهم واحتالوا عليهم. فلما اختتن كل من في القرية دخلوا عليهم فوجاً وهم بالسلاح وهم لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم وقتلوهم عن بكرة أبيهم وانتهبوا أموالهم وحريمهم. وأن يعقوب لما انتهت إليه القصة قال لنيه: أنا رجل قليل العدد. الساعة يميل عليّ أهل هذه القرى والشعوب فيبيدوا [حضرائي] 4 وأنه اتخذ الليل جملاً فأصبح ولا أثر له بتلك البلاد5. فحكموا على أولاد نبي الله يعقوب بأنهم قتلوا المؤمنين وأبادوا

1 ونصّه كما في سفر التكوين 49/8-10: "يهوذا إياك يحمد إخوتك. يدك على قفا أعدائك. يجسد لك بنو أبيك. يهوذا جرو أسد. من فريسة صعدت يا ابني. جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه. ولا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب".

2 في م: لينا. وفي النسخ المتداولة من التوراة (دينه) وهو اسم عبري معناه: (دينونة) . وهي الابنة الوحيدة ليعقوب عليه السلام من زوجته ليئة. (ر: قاموس ص 383) .

3 ورد اسمه في التوراة (شكيم بن حمور الحوي) وكان أميراً لمدينة شكيم (نابلس) .

4 وفي نص التوراة: "فأبيد أنا وبيتي".

5 تكوين الإصحاح (34) .

ص: 568

الموحدين وانتهبوا الأموال الحرام. ونحن نورك1 على اليهود في نقل هذه الأحاديث عن الأنبياء وأولاد2 الأنبياء.

31-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن يعقوب عند منصرفه من حران3 طالبا بلاده تصارع مع الملك فغلبه يعقوب وتألم ورك يعقوب حين دنا منه الملك. وأن الملك بقي في يد يعقوب مقهوراً حتى قال له: دعني وأباركك4. فلهذا لا يأكل اليهود عرق الفخذ5. وربما قال بعض جهال اليهود: "إن الذي / (2/57/أ) صارعه يعقوب هو الله - تعالى الله عن جهلهم علواً كبيراً - وأستغفره من حكاية أقوالهم.

32-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى نزل إلى الجنة ومشى فيها حين كلّم6 آدم. وأنه تعالى نزل إلى الأرض حتى أنقذ بني إسرائيل من

1 في م: نورد.

2 في م: وأبناء.

3 حران: مدينة بين النهرين على نهر بليخ وهوفرع للفرات. وتقع على مسافة 280. ميلا إلى الشمال الشرقي من دمشق. (ر: قاموس ص 281) .

4 تكوين 22/24-32.

5 في م: العجل. وقد ورد في نفس السفر 32/32. ما يأتي: "لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذي على حقّ الفخذ إلى هذا اليوم. لأنه ضرب حقّ فخذ يعقوب لى عرق النسا".

وتصحيح هذا التحريف الواقع في توراتهم، فما أخرجه الحاكم 1/292، وابن جرير في تفسيره 4/4، عن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن إسرائيل أخذه عرق النساء، فكان يبيت وله زقاء. فجعل إن شفاه الله ألا يأكل لحماً في عروق. قال: فحرمته اليهود. فنَزلت الآية: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلاّ مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ..} . [سورة آل عمران، الآية: 93] . قال الحاكم:"حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".ووافقه الذهبي. وقال به ابن جريج والعوفي والضحاك والسدي. (ر: تفسيرابن كثير1/390) .والله أعلم.

6 في م: كلمه. وقد ورد النّصّ في تكوين 3/7-19.

ص: 569

سحرة فرعون1. وأنه نزل إلى الأرض عندما كلم موسى من شجرة العليق2. وأنه نزل عندما كلم إبراهيم وبشره بالولد3. وأنه نزل حتى بلبل ألسن نمرود وقومه ومعهم من بنمء الصرح4.

وكلّ ذلك جهل منهم بأن الباري يتقدس عن الحركات والتنقل في الجهات. فظنوا أن سماع آدم ونوح وإبراهيم وموسى كلام الباري من الجنة وشجرة العليق يقتضي الحلول أو يوجب على الباري الصعود أو النُّزُول5.

33-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن هارون ومريم أخته وقعا في موسى وتناولوه وجرى بينهم شرّ وتحاسد. وأن مريم عابت على موسى نكاحه امرأة سوداء. وأنهما قالا له: أتظن أن الله تعالى إنكما كلمك وحدك كلمنا نحن أيضاً. قال اليهود فنَزل الله تعالى [إلى] 6 قبة / (2/57/ب) الزمان ودعا هارون ومريم وتوعدهما. وبرَّص مريم فصارت برصاء من ساعتها7.

وكذب اليهود هذا ما لا يبتلى به أمثال هؤلاء الأعلام. إذ الحسد مرغمة لمقدور8 الله وهو كبيرة لا تجوز على الأنبياء. وهارون نبي ثابت العصمة.

1 خروج 14/19-24.

2 خروج 3/2-4.

3 تكوين 18/1-23.

4 تكوين 11/1-9.

5 تقدم بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك. ر: ص 458.

6 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم.

7 ورد ذلك في سفر العدد 12/1-10.

8 في م: لقدور.

ص: 570

ومريم لا خلاف بين أهل الكتاب في نبوتها1. فصدور الكبائر منهم تخرم الثقة بهم والطمأنينة إليهم. فلعن الله اليهود ما أكثر ما يتناولون أنبياء الله قتلاً وقذفاً.

34-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن أسلافهم الذين شاهدوا الآيات مع موسى عندما خرجوا من البحر. قال لهم موسى: ادخلوا الأرض المقدسة التي وعدكم الله بها على لسان أبيكم إبراهيم. وأنهم أبوا عليه وخالفوا أمره2. قال الله عزوجل حكاية عنهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخَلَهَا أَبَداً مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُون} . [سورة المائدة، الآية: 24] . وقال بعضهم لبعض: هلم فلنول علينا ولاة ويؤمر كلّ سبط رجلاً عليه وندع موسى ونرجع إلى مصر فقد كان الموت بين يدي فرعون [خيراً] 3 لنا من الدخول إلى الأرض التي وعدنا بها4.

وهذا / (2/58/أ) مع ما شاهدوا من الآيات وعاينوا من العبر والمعجزات. فإن صدقوا في نقلهم فبئس السلف سلفهم. وإن كذبوا عليهم فبئس الخلف خلفهم.

1 يقول الحاخام سيجال في كتابه حول تاريخ الأنبياء عند بني إسرائيل ص 79: "نجد أن مريم - أخت موسى - تتزعم جوقة النساء في أنشودة بمصاحبة الدفوف والرقص قد سميت نبية. (خروج 15/20، 21) لأنها في عملها هذا كانت تقوم بما يقوم به الأنبياء. فهي إذن قد تنبأت. ومن هناك يتأكد لنا أن التغني بالأناشيد بمصاحة آلات الموسيقي والرقص كان من عمل الأنبياء". اهـ.

نقول: لعن الله اليهود الذين يقذفون أنبياءهم بالفحشاء والمنكر. ليكون ذلك ذريعة لهم في ارتكاب الفحشاء والمنكر. وهذا من خبث نفوسهم ورداءة طبائعهم. فلا غرو أن كانوا من المغضوب عليهم في الدنيا والآخرة. وقد تقدم ذكر الراجح عند المسلمين بعدم صحّة نبوة النساء.

2 سفر العدد إصحاح (13، 14) .

3 في ص، م (خير) والصواب ما أثبتّه.

4 سفر العدد، إصحاح (13، 14) .

ص: 571

35-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى حين أراد قتل أبكار فرعون وجنوده قال لموسى: مُرْ بني إسرائيل أن يذبحوا حملاً وينضحون من دمه على أبواب دورهم حتى إذا جزت الليلة في أرض مصر ورأيت الدم عرفت أبوابكم من أبواب المصريين كيلا أهلككم معهم1. كأنهم يعتقدون أن الباري تعالى لا يرى إلاّ بإمارة ولا يعلم إلاّ بإشارة. {أَلَا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير} . [سورة الملك، الآية: 14] .

36-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن موسى عليه السلام لما جاء لميقات ربّه واستخلف هارون على قومه وأمره بإصلاح أحوالهم ونهاه عن اتباع سبيل من أفسد منهم خالف موسى في ذلك واتّخذ لهم عجلاً وأمرهم بعبادته2.

وذلك مردود عليهم بما حكاه دانيال نبي الله في نبوته3؛ إذ قال: إن الذي صنع العجل لبني إسرائيل حتى عبدوه هو ميخا / (2/58/ب) السامري وكان آباؤه يعبدون البقر فاستتابه موسى ونفاه إلى الشام4. فالسامرة بالشام أكثر منهم بغيرها. وذلك موافق للكتاب العزيز حيث يقول: {

وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} . [سورة طَه، الآية: 85] .

1 خروج 12/12، 13.

2 خروج 32/1-6.

3 لم أجد في سفر دانيال النّصّ الذي ذكره المؤلِّف.

4 أخرج ابن جرير في تفسيره 1/282 عن ابن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: وكان السامري رجلاً من أهل باجرما. وكان من قوم يعبدون البقر. وكان حبيبة عبادة البقر في نفسه. وكان قد أظهر الإسلام في بني إسرائيل

وكان اسم السامري موسى بن ظفر. وقع في أرض مصر فدخل في بني سرائيل.

ص: 572

{فَأَخْرَجَ لَهُم عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ

} . [سورة طَه، الآية: 88] . وإلاّ فكيف يحسن بهارون نبي الله وخليفة موسى صفيه، أن ينتدبه موسى لإصلاح1 فيدعو إلى الكفر الصراح؟!.

37-

فضيحة أخرى: عبدت اليهود الكواكب والأصنام وقربوا لها القرابين وعاقروا الزنى وموسى بين أظهرهم حيّ فبينما هم مجتمعون إذ هجم (زمري) 2 رجل من قبيلة شمعون على بغي من البغايا يقال لها كشتي3 ابنة صور ففجر بها بحضرة الجمع. فضربهم الله بموت الفجأة فقتل منهم في يوم واحد أربعة وعشرين ألفا، كما شهد بذلك الإصحاح الثامن عشر من السفر الرابع من توراتهم4.

38-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن موسى عند خروجه ببني إسرائيل من مصر قال لهم: استعيروا حليّ المصريين عارية. فلما فعلوا واستعاروا حلي المصريين القوم وثيابهم / (2/59/أ) أمرهم موسى أن يهربوا بها ويغصبوها. وقال: هذه أجرة سخرتكم. فلبسوها وذهبوا ليلا5. ومعلوم أنهم لا أجرة لهم على الأيتام والأرامل والمستضعفين من أهل مصر بل على فرعون وذويه الذين استوفوا منافعهم. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمَرُكُم أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . [سورة النساء، الآية: 58] . وقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين المشركين كما فعل موسى غير أنه ترك من أهل بيته من أدّى

1 في م: (سد به موسى للاصاح) .

2 ورد في النّصّ أن اسمه: زمري بن سالور - رئيس بيت أب من الشمعونيين.

3 ورد النّصّ أن اسمها: كزبي بنت صور.

4 ورد ذلك في سفر العدد 25/1-15.

5 خروج 11/1-3، 12/35-37.

ص: 573

الودائع إلى أربابهاولم يخلل بأمانته صلى الله عليه وسلم1.

39-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى أمرهم بالربا في التوراة وأباحه لهم. فلذلك استحلوه. وقالوا: لم يحرم علينا إلاّ فيما بيننا فقط2. وقد أخبر الكتاب العزيز عنهم بذلك فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا

1 قال ابن إسحاق: "ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلاّ عليّ بن أبي طالب وأبو بكر الصدّيق وآل أبي بكر. أما عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، - فيما بلغني - أخبره وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلاّ وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانه صلى الله عليه وسلم". (ر: السيرة 2/142) ، ونقله البيهقي عن ابن إسحاق في الدلائل 2/464.

2 ورد ذلك في التوراة المحرفة سفر الخروج 25/22، كالآتي:"إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي. لا تضعوا عليه ربا" وكذلك في سفر اللاويين 25/35-37.

وورد في سفر التثنية 23/19، 20: "لا تقرض أخاك بربا. ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرّبّ إلهك

".

وبناء على هذه النصوص المحرفة فق احترف اليهود الربا منذ العصور الأولى واعتبروه مهنة لهم ووضعوا لها النصوص المتعددة. فقد جاء في التلمود التأكيد على أنه غير مصرح لليهودي أن يقرض الأجنبي إلاّ بالرّبا. (الكنْز المرصود ص 87-89) . ولكن نظرا لما جبل عليه اليهود من حبّ المال فإنهم تحايلوا - وتلك سجية فيهم - حتى على تحريم الربا فيما بينهم فيقول د. حسن ظاظا: "إنه جاء في المادة 585 من المجموعة القانونية التي ترجمها دي بولي، تقييد تحريم الربا بما يعطيه اليهودي من قرض لأخيه اليهودي ليواجه به ضرورات ملحة لا قبل له باحتمالها". "أما إذا اقترض اليهودي نقداً من يهودي آخر بقصد الاستثمار أو الوسع في التجارة أو تنفيذ بعض المشروعات التي تدر ريعاً. فإن الذي يقرضه المال يمكنه أن يفرض عليه نصيباًفي الأرباح يتفق عليه"(ر: الفكرالديني اليهودي ص196) .

وقد بيّن الله افتراء اليهود وتحريفهم التوراة بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا

} . [سورة البقرة، الآية:275، 276] . ففي هذه الآية وما بعدها الرّدّ على المشركين وغيرهم. لما قالوا: إنما البيع مثل الربا. وهذا يفيد بأن البيع كان حلالاً قبل الإسلام. وبأن الربا كان حراماً قبل الإسلام. وأكّد الله تعالى تحريم الربا بخصوصه وأنه كان حراماً على اليهود وهم يتعاطونه؛ بقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . [سورة النساء، الآية: 161] .

ص: 574

لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأَمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكَذبَ وَهُم يَعْلَمُون} . [سورة آل عمران، الآية: 75]1.

40-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى أمرهم أن يبنوا له قبة ينْزلها إذا سافر معهم وأنه اقترح عليهم صفتها فبنوها له على النعت الذي طلبه2. قالوا: فكان موسى / (2/59/ب) إذا أراد الرحيل قال: انهض إلينا يا رب لنكبِّتَ شانئيك. قالوا: فكان الباري جل اسمه يظعن بظعنهم ويقيم بإقامتهم3. وزعموا أن الله تعالى أبى مرة أن يسير معهم وقال: اظعنوا أنتم؛ فإني لا أظعن أنا بل أنا أبعث معكم ملكاً يغفر ذنوبكم4.

وهذه الأقاويل تؤذن باستخفافهم بالله عزوجل.

41-

فضيحة أخرى: زعم اليهود أن الله تعالى قال لإبراهيم: إن بني إسرائيل تستعبد بأرض مصر أربعمائة سنة5. وقد تضمنت توراتهم ذلك. ولا خلاف عند متأخريهم ومتقدميهم أن بني إسرائيل لم تستعبد بمصر سوى مائتي سنة وخمس عشرة سنة. ذكر ذلك محرور بن قصطنطين المنبجي أسقف منبج. وذلك خلف عظيم6.

1 روى ابن جرير في تفسيره 3/318، عن قتادة رحمه الله في قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . قال: "ليس علينا في المشركين سبيل. يعنون: من ليس من أهل الكتاب". اهـ.

وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . أي: وقد اختلفوا هذه المقالة وائتفكوها بهذه الضلالة؛ فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلاّ بحقّها، وإنما هم قوم بهت. (ر: تفسير ابن كثير 1/382) .

2 سفر الخروج الإصحاحات (23، 25، 40) .

3 ورد ذلك في سفر العدد 10/33-36.

4 ورد ذلك في سفر الخروج 33/1-5.

5 تكوين 15/13، 14، خروج 12، 40، 41.

6 سيأتي تفصيل هذا الخطأ التاريخي الواضح. (: ص 584، 585) .

ص: 575

42-

إخبار الله تعالى بما يؤول أمر اليهود إليه من الكفر والعناد وسلوك سبل الضلال والفساد: ذكرت التوراة في أواخر السفر الخامس منها: "أن الله تعالى قال لموسى: أنت ميت ومنتقل إلى أبائك وأن هذا الشعب - يعني بني إسرائيل - سيضل ويتبع آلهة أخرى من آلهة الشعوب التي تُعبد من دوني / (2/60/أ) ويخالفني ويترك عهدي الذي عهدت فيشتد غضبي عليهم. وأخذلهم وأدير وجهي عنهم وأجعلهم مأكلا لأعدائهم وأنزل بهم شرّاً شديداً وغماً طويلاً"1.

قال المؤلِّف: قد أخبر الله تعالى عنهم بذلك؛ فجاء الأمر2 كما أخبر سبحانه فكفروا وضلوا وعبدوا الأوثان والأصنام وقربوا القرابين للزهرة ونجوم السماء ونحروا لها النحور فلما بعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام قام فيهم فوعظهم وخوفهم وحرهم وأنذرهم. وقال: يا بني إسرائيل لِمَ تعملون هذا الشّرّ وتلتوون"3. عن طاعة الله وتهلكون الرجال والنساء من آل إسرائيل ولا تبقوا لكم بقية عند الله تعالى. بخرتم للنجوم والأوثان في أرض مصر وغيرها حتى أراد أن يهلككم ربكم ويصيركم عاراً بين الشعوب. فلما فرغ أرميا [من] 4 موعظته أجابوه وقالوا: أما ما قلت لنا عن الرّبّ فلا نقبله ولكنا نفعل ما أحببنا وحسن في أعينا. وننحر ونبخر5 لنجوم السماء ونقرب القرابين للزهرة كما كان يفعل آباؤنا / (2/60/ب) وأشرافنا في قرى يهودا وكنا بخير. ولم نعاين الشرّ والآن فمذ6 تركنا البخور للزهرة وأهملنا القرابين لها أعوزتنا الأشياء وجعنا، ثم تصايح الشعب كلّه على أرميا وقالوا

1 تثنية 31/16-18.

2 في م: الأرض.

3 في م: وتلثون.

4 إضافة يقتضيها السياق.

5 ليست في م.

6 في م: مذ.

ص: 576

: نحن لا ندع البخور لنجوم السماء والقاربين لها بل نفعل كما فعل آباؤنا.

فقال أرميا عليه السلام: "اجتمعوا1 يا معشر اليهود اسمعوا أقوال الرّبّ إله إسرائيل، قال الرّبّ: قد أقسمت باسمي العظيم أنه لا يذكر اسمي في جميع أفواه اليهود الذين بأرض مصر لأني معجل لهم الشّرّ ومهلكهم بالجوع والموت وسيعلمون أي القولين أصدق قولي أم قولهم"2.

وكذلك أخبر صفنيا بن كوش النبي عليه السلام في نبوته: "قال صفنيا: قال الرّبّ لأزيلن إسرائيل عن وجه الأرض زوالاً. ولأبيدن طير السماء وسمك البحور. ولأنزلن عذابي بالخطاة من بين إسرائيل. ولأصيرن أيامهم عبرة. ولأهلكنهم عن حديد الأرض. ولأرفعن يدي على يهودا وسكان أورشليم. ولأهلكن كلّ من عبد بعلا الصنم. ولأعاقبن الذين يسجدون لنجوم السماء. كما فعلت/ (2/61/أ) بآبائهم الذين عبدوا الأصنام والنجوم والعجل"3.

فالعجب من اليهود ينكرون أخبار الكتاب العزيز بعبادتهم عزيراً وهذه توراتهم ونبوات أنبيائهم تشهد عليهم بما هو أخبث من ذلك. وقد أخبر إليا النبي في كتابه وهو يشكو ببني إسرائيل إلى الله تعالى: "فقال: يا ربّ إن بني إسرائيل قد كفروا وضلّوا، فقتلوا أنبياءك وهدموا مذابحك، وها هم يريدون قتلي"4.

1 في م: استمعوا.

2 سفر أرميا الإصحاحات (11، 16، 17، 18) . في سياق طويل جدّاً. وقد أورده المؤلِّف مختصراً بالمعنى.

3 سفر صفنيا 1/2-6.

4 سفر الملوك الأوّل 19/10.

ص: 577

فقد تضافرت شهادات أنبيائهم بالكفر والضلال وعبادة غير الله تعالى. - شهادة موسى عليه السلام على خيار أسلاف اليهود بالكفر والفسق وارتكاب محارم الله واستحقاقهم الخزي واللعن في الدنيا والعذاب في الأخرى: - لما قربت وفاة موسى عليه السلام قال لمن حضره من اليهود: "قد عرفت جفاكم وقسوة قلوبكم وما تصيرون إليه. وكيف لا تكونون كذلك وقد أغضبتم الله وأنا حيّ بين أظهركم فمن بعد موتي أحرى أن تفعلوا ذلك". ثم قال عليه السلام: "أخطأ أولاد / (2/61/ب) الأنجاس الجيل المعوج المتقلب الجاهل الذي ليس بحكيم الناسي ما صنع الله إليه من الإحسان وأراه من العجائب. شرب الخمر وملأ بطنه فتبطن وغلظ وشحم ونسي الإله العظيم الذي خلقه وبعد من الله مخلصه - " ثم قال: "قال الله: أسخطوني بأوثانهم وأغضبوني بأصنامهم وذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله إبراهيم ولم يعرفه الجيل الجديد ونسي عهده. يا إسرائيل تركت الإله الذي أشبعك ونسيته وأسخطته، لأصرفن وجهي عنك ولأظهرن ما يكون من عاقبتك لأنك جيل خبيث أولاد من آسفني بآلهته وأسخطني بأوثانه. لأبتلينه بأمة جاهلة ضالة بعيدة عن الحكمة لا تعقل ولا تفهم".

يقول الرّبّ: هذا كلّه عندي ومحفوظ في خزانتي إلى يوم النقمة1 أجازيهم في اليوم الذي تزل فيه أقدامهم لأن يوم هلاكهم قريب معد لهم. أنا الله الرّبّ وليس غيري. أنا أميت وأحيي وأسقم وأبرئ وليس [هارب] 2 من يدي. أنا3 الذي أشحذ سيفي وتجري الأحكام بيدي وأجازي الأعداء بالنقمة وأسكر / (2/62/أ) نبلي من الدم ويأكل سيفي لحوم الجرحى. أين هي آلهتهم التي توكلوا عليها وأكلت قرابينهم؟! فلتقم الآن وتغني عنهم شيئاً. والرّبّ سبحانه يرحم

1 في م: القيامة.

2 في ص، م (هارباً) والصواب ما أثبتّه.

3 ليست في م.

ص: 578

شعبه وعلى الصالحين من عباده يترأف"1.

فقد أخبر الله تعالى عن اليهود بما أخبر. وشهد عليهم الصادق موسى بما شهد. وصدق الله ورسوله. وتعيّن علينا وعلى كافة عباد الله بغض اليهود ومقتهم وتكذيب أقوالهم وردّ روايتاهم2.

قال المؤلِّف - عفا الله عنه -: إنّا لم نعتمد فيما نقلناه على تعليقات علمائنا ومؤلّفاتهم حتى طالعنا توراة اليهود وأناجيل النصارى ومزامير داود ونبوات الأنبياء مرّة بعد أخرى. ونقلنا كما رأيناه واستنبطنا واستخرجنا مما وجدنا. فمنه ما نقلناه على نصّه ومنه ما أوجزناه لركاكة نصّه. وإن ما نقلناه من فضائحهم [قليل من كثير ويسير] 3 من خطير. والله الموفّق.

1 سفر التثنية 31/24-30، 32/1-42، في سياق طويل. وقد ذكره المؤلِّف مختصرا.

2 لقد تحققت نبوءة موسى عليه السلام في بني إسرائيل. فلم يمض وقت طويل على وفاته عليه السلام إلاّ وقد انحرفوا عن دين التوحيد الذي جاء به موسى والأنبياء جميعاً والشواهد على ذلك من أسفارهم المقدسة لديهم كالآتي:

فقد ارتدوا في زمن يشوع فتى موسى وخليفته من بعده عليهما السلام. (ر: سفر يشوع إصحاح 22) . وارتدوا كذلك بعد وفاة يشوع في عهد القضاة عدة مرات فعبدوا البعل وعشتاروت وآلهة الشعوب الوثنية فسلط الله عليهم كوشان ملك آرام الذي استعبدهم. (ر: سفر القضاة 3/5-11) . وعندما عاد بنو إسرائيل إلى عمر الشّرّ سلط الله عليهم عجلون ملك مؤاب. (ر: قضاة 3/12-30) . وعندما انحرفوا أيضاً سلط الله عليهم يابين ملك كنعان. (ر: قضاة 4/1-24) . ثم ارتدوا بعد ذلك عدة مرات. وفي كلّ مرة كان الله يسلط عليهم أعداءهم. (ر: سفر القضاة الإصحاحات 6، 10، 13، 17) .

وكذلك انحرفوا مرات عديدة في عهد الملوك. (ر: سفر الملوك الأوّل، الإصحاحات (12، 14، 15، 16-19، 22) . والملوك الثاني، الإصحاحات (1، 13، 15، 16، 17، 21، 23، 24) .

وبعد هذه الانحرافات المتكررة هل يوثق بتوراةٍ كانت بين ظهراني قوم لا يؤمنون بها وارتدوا عنها؟! وهل دينهم لا زال نقياً صافياً كما جاء به موسى والأنبياء من بعده؟! أم قد حرّف وبُدل واختلطت به شوائب الوثنية والشرك؟!!.

3 في ص، م (قليلا

يسيراً) والصواب ما أثبتّه.

ص: 579

فضائح النصارى:

اعلم أن جميع ما ذكرنا من فضائح اليهود لازم للنصارى أيضاً؛ لأن كلتاالطائفتين تعتقدحرمةالكتاب التي نقلنا/ (2/62/ب) منها وتعظمها جداً. وما النصارى إلاّفخذ من اليهود خلا الروم وقوم من المشرق فإنهم ليسوامن بني إسرائيل والذي يخصّ النصارى من الفضائح دون اليهودفمن ذلك:

43-

فضيحة: زعم كلّ النصارى أن الكلمة الأزلية نزلت إلى الأرض فولجت فؤاد امرأة عذراء وسكنت برحمها تسعة أشهر تغتذي بفاضل قوتها ثم خرجت من فرجها إنساناً فتردد في الأرض بين الناس وناله ما ينال الأطفال من الآلام والإعلال وتقلبت به الأحوال إلى أن بلغ مبالغ الرجال. فلما شرع يشهر نفسه ويظهر قدسه توثبت1 عليه طائفة من عبيده فكذبوا فمه وسفكوا دمه وقتلوه ظمآنا وصلبوه عريانا2.

فإذاقيل لهم: ماالذي أحوج الكلمة الأزلية إلى تجشم هذه القضية الدّنية؟

قالوا: إنما فعلت3 ذلك ليخلصنا من الجحيم ويخصصنا بالنعيم المقيم. تبالهم. أيزعمون أن الباري أوصفته عجز عن خلاص عباده حتى اعتضد بناسوت اكتسبه من امرأة منهم وما نراه أيضاً قدر / (2/63/أ) على خلاصهم وهو معافى بل جاء بخلاصهم فعطب. ورام سلامتهم فقتل وصلب، هذا لعمرك هو التلاعب بالدين. أعوذ بالله من الضلال واعتقاد الربوبية في الرجال.

1 في ص (توبت) والتصويب من نسخة م.

2 ما نقله المؤلِّف عنهم إنما هو اختصار لسيرة المسيح عليه السلام في الأناجيل الأربعة المعتمدة عند النصارى. والمحرفة عند المسلمين والعقلاء.

3 في م: فعل.

ص: 580

44-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أنّ1 إلههم صلب مع اللصوص ودفن في المقابر بين الأموات وقام في اليوم الثالث إلى السماء وجلس فيها2.

وذلك مما يأنف عن اعتقاده أهل الجنون وأرباب المجون، أسأل الله العافية.

45-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أن إبليس - لعنه الله - احتمل المسيح ورفعه على جبل عال وأراه الدنيا بأسرّها وقال: هذا كلّه لي وأنا أعطيكه3 إن خررت لي ساجداً4. هذا ينقض قولهم: إن المسيح ربّ إبليس وربّ كلّ شيء، وإذا كان إبليس عبداً للمسيح، فكيف يسومه السجود له؟!!.

46-

فضيحة أخرى: روى النصارى أن جبريل قال مريم: إنك ستلدين ولداً تسميه يسوع المسيح يكون عظيماً يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملك على بيت يعقوب5.

ثم رووا عن بطرس أن المسيح / (2/63/ب) وأصحابه كانوا يبذلون الجزية لقيصر أسوة سائر المستضعفين6. وذلك تناقض عجيب. والصحيح ما أخبر به جبريل الأمين عن ربّ العالمين. وأما الرواية الثانية فيلزم من القول بصحّتها تكذيب جبريل. ومن كان عدوّاً لجبريل الأمين فهو عدوّ لله7 ربّ العالمين.

1 في ص زاد (إبليس لعنه الله) وهو خطأ.

2 وذلك مما اتفقت عليه الأناجيل المرحفة.

3 في م: أعطيك هو.

4 متى 4/1-9، لوقا 4/1-8.

5 لوقا 1/30-33.

6 متى 17/24-27.

7 قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} . [سورة البقرة، الآية: 98] .

ص: 581

47-

فضحية أخرى: عند النصارى ثلاثة آلهة قديمة أزلية ورجل من بني آدم وعبّروا عن ذلك بالأب والابن والروح القدس. وعيسى بن مريم1 على ما تشهد به صلواتهم الثمانية. وذلك باطل وكفر. والدليل عليه قول التوراة والإنجيل: "إن الله خالق العالم واحد لا شريك له"2. وأنه الإله الحقّ الذي لا ربّ غيره ولا معبود سواه على ما تقدم فمن أشرك مع الله غيره فقد كفر بالتوراة والإنجيل.

48-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أن المسيح خلقها آدم وذريته وسائر الخلق أجمعين.

فيقال لهم: فمريم من خلقها؟ فإن قالوا: ليست من خلقه. نقضوا مقالهم. وإن زعموا أنه خلقها، فيقال لهم: يا نوكا كيف تلد المسيح وهو خالقها؟ أم كيف ترضعه وهو رازقها؟ / (2/64/أ) أسمعتم يا معشر العقلاء بامرأة ولدت خالقها وأرضعت ثديها رازقها؟!!.

49-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أن ربّهم وإلههم أكل وشرب ومشى وركب وهُزم وغُلب وصُفع وصُلب. وأكذبهم الإنجيل إذ يقول: "إن الله لا يأكل ولا يشرب ولا يراه أحد ولا رآه أحد قط إلاّ مات"3.

1 في م: (ابن مريم) ساقطة.

2 لقد تقدم ذكر النصوص الدالة على وحدانية الله عزوجل من التوراة والأناجيل. (ر: ص 236، 237، وسيأتي ذكرها أيضاً في ص: 459، 460) .

3 تقدم تخريجه. (انظر: ص: 129) .

ص: 582

50-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أن معبودهم ين ولدته أمه في السفر لفته في الخرق وتركته في مذود1 من مذاود البقر إذا لم تجد موضعاً تجعله فيه2، تعالى الله ربّ الأرباب أن تحويه معالف الدواب بل لا تحويه الأقطار ولا يحده المقدار ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السماوات3.

51-

فضيحة أخرى: من مشائخ النصارى رجل يقال له أفريم يعظمونه جدّاً ويرون فيه وهو الذي يقول: إن الأيدي التي جبلت طينة آدم هي التي سمرت على الصليب. وإن الشّبر التي مسحت السماوات هي التي علقت على الخشبة.

وهذا الرجل قد جمع إلى الكفر الجنون. والجنون فنون، ومن يعتقد فيه خير فهو أجهل وأكفر منه.

52-

فضيحة أخرى: النصارى يعظمون غرغوريس وهو القائل: "إن الذي لا يألم ولا يتجع صار متجعاً. وإن الذي لا يحس صار محسوساً، وإن الذي لا يحد صار محدوداً، وصار الخالق مخلوقاً وإن من لا يقول إن مريم ولدت الله فهو بعيد عن ولاية الله"4.

1 في م: مزود من مزواد.

2 لوقا 2/7.

3 قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . [سورة الزمر، الآية: 67] .

4 نقل ذلك أيضاً القاضي عبد الجبار في كتابه: (تثبيت دلائل النبوة 1/98-99)، والمهتدي نصر بن يحيى المتطبب في:(النصيحة الإيمانية ص 194) .

ص: 583

قال المؤلِّف: وهذا خلاف قول النصارى وذلك أن عندهم إنما كان خاصية الاتّحاد وثمرته أن يقع الفيض الإلهي على الشكل الإنساني فتكسبه شرفاً. فأما أن يقع الأمر بالعكس فيكتسب الإله خسة ونقيصة، فهذا ما لا يقول به إلاّ جهلة القبط من النصارى. فأما أذكياؤهم فيأنفون من القول به.

53-

فضيحة أخرى: على الطائفتين جميعاً رووا عن توراتهم: "أن الله تعالى قال لإبراهيم الخليل عليه السلام: إن ذريتك يستعبدون بأرض مصر أربعمائة سنة"1.

قال مؤرخهم: إن هذا القول لم يتم بل أخلف2. لأن بني إسرائيل لم يمكثوا بمصر أكثر من مائتين وثلاثين سنة. وقال المنبجي أسقف منبج3: مائتي سنة وخمس عشرة سنة لا غيره. - كما تقدم في حاشية [وعد] 4 خليله / (2/65/أ) إبراهيم - على أنا لو أضفنا لهم5 إلى إقامتهم بمصر سني التيه وهي الأربعون لم

1 ورد النّصّ في سفر التكوين 15/13، وورد أيضاً في سفر الخروج 12/40، بصيغة مختلفة كالآتي:"وأما إقامة بني إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربعمائة وثلاثين سنة". فزيد في عبارة سفر الخروج لفظ: (ثلاثين) .

2 في م: خلف.

3 منبج: اسم عجمي تكلمت به العرب. وهي مدينة في سورية. مركز قضاء منبج. (محافظة حلب) . (ر: معجم ما استعجم ص 1264، للبكري، المنجد في الإعلام ص 686) .

4 في ص، م (وعلى) ولعلّ الصواب ما أثبتّه.

5 اعترف مفسرو العهد القديم بوقوع الغلط في مدة إقامة بني إسرائيل في مصر. قالوا: "ومدة غربتهم في مصر على ما في التوراة العبرانية 430 سنة. وجاء في السبعينية (أي: النسخة اليونانية المعتمدة عد الصنارى الكاثوليك) والساميرة أنها كانت نصف ذلك أي: 215 سنة. ولكن لا سبب يحملنا على إثيار ما في هاتين على ما في الأصل العبراني. (أي: على اختيار 215 على 430) . فلنا أن نعتقد صحّة العدة في العراني". اهـ. (ر: السنن القويم 1/363) .

ص: 584

يكمل لهم العدد، والله تعالى محاشى عن وقوع الخلف في خبره. بل قوله الحقّ ووعده الصدق سبحانه وتعالى عما يشركون.

54-

فضيحة أخرى: النصارى إذا تقربوا في الكنيس الذي لهم فأكلوا الخبز وشربوا الخمر، قالوا: قد أكلنا جسد الرّبّ وشربنا دمه، ورووا عن المسيح

نقول: إن ترجيحهم هذا تحكم من غير دليل ومكابرة. والصواب أن المدة مائتان وخمس عشرة سنة. وبيانه كالآتي:

إن الزمن من دخول إبراهيم عليه السلام أرض كنعان إلى ولادة إسحاق عليه السلام (25) سنة، ومن ولادة إسحاق إلى ولادة يعقوب عليهما السلام (60) سنة. ولما دخل يعقوب أرض مصر كان عمره (130) سنة. فيكون مجموع السنوات من دخول إبراهيم أرض كنعان إلى دخول حفيده يعقوب عليهم السلام (215) سنة. وكانت مدة إقامة بني إرسرائيل في مصر (215) سنة. فمجموع الكلّ (430) سنة.

ولذلك صحّح المحقِّقون مهم عبارة النسخة السامرية واعتبروها صحيحة تزيل كل إشكال وقع في غيرها. لأنها تذكر سكنى بني إسرائيل وآبائهم في أرض كنعان وأرض مصر. ونصّها في سفر الخروج 12/40، كالآتي:"وسكنى بني إسرائيل وآبائهم ما سكنوا في أرض كنعان وفي أرض مصر ثلاثين سنة وأربعمائة سنة".

وقد ذهب إلى تأييد ذلك عدد من محققيهم منهم: الكاهن أبو الفتح السامري في كتابه: (التاريخ مما تقدم عن الآباء ص 6، 7)، ومؤلف كتاب:(مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين، وآدم كلاك في تفسيره، وجامعو تفسير هنري وإسكات وغيرهم) . (ر: الفصل 1/214-216، لابن حزم، إظهار الحقّ، لرحمة الله، نقد التوراة ص 128، 129، د. السقا) .

ص: 585

أنه أعطاهم خبزاً. وقال: هذا دمي فاشربوه1.

وهذا لعمرك إلى أن يعد جناية موجبة للعقاب أقرب من تسميته قربة مستدعية للثواب. فليت شعري أي شيء أبقوا لليهود ولم يبلغوا منه من النكاية إلى هذه الغاية بل قالوا: إنهم اقتصروا على قتله وصلبه. فأما النصارى فكأنهم لم يرضواله بهذاالقدرحتى ترقوا إلى تمزيق لحمه وشرب دمه. وهذالم يسمع به إلاّمن العدوّالمشاحن وأرباب الأحقادوالضغائن.

1 متى 26/26-28، لوقا 22/19،20 واستدل النصارى على ذلك أيضاً بما ورد في إنجيل يوحنا الإصحاح (6) ،وفي رسالة بولس الأولى إلى كورنثوس11/23-30.

وقد استدل النصارى بهذه النصوص على أداء ما يسمى بـ: (سرّ الشكر أو الإخار ستيا) وهو أحد الأسرار السبعة المختصة بالكنيسة ولا يجوز أداؤها إلاّ في الكنيسة. وهي: (1- سر المعمودية. 2- سر الميرون. 3- سر الشكر. 4- سر التوبة. 5- سر مسحة المرضى. 6- سر الزواج. 7- سر الكهنوت) .

وتعريف سر الشكر عندهم: أنه سر مقدس يأكل به المؤمن (النصراني) جسد المسيح الأقدس ويشرب دمه الزكي تحت أعراض الخبز والخمر.

وله عدة أسماء منها: العشاء الرباني. القربان المقدس. العشاء السري. المائدة المقدسة أو السرية. خبز الرّبّ. الخبز السماوي. وغير ذلك.

وصفة إيمان الكنيسة الأرثوذكشية بهذا السر كالآتي: إننا نؤمن أنه بعد تقديس سر الشكر واستدعاء حلول الروح القدس على القرايبن يستحيل الخبز والخمر استحالة سرية إلى جسد المسيح ودمه الأقدسين. حتى إن الخبز والخمر اللذين ننظرهما على المائدة ليسا خبزاً وخمراً بسيطين، بل هما جسد الرّبّ ذاته ودمه تحت شكلي الخبز والخمر. ونؤمن أن ربنا يسوع المسيح حاضر في هذه الخدمة لا بوجه الرمز أو الإشارة أو الرسم أو الصورة أو المجاز، ولا بأنه مستتر في الخبز بل هو حاضر حضوراً فعلياً. وهذا الإيمان هو إيمان الكنيسة كلّها شرقاً وغرباً منذ ابتدائها.

ولا يختلف اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية عن ذلك إلاّ أنّها تجيز أداء هذا السر بالفطير بدلاً عن الخبز الخمير الذي توجب الكنيسة الأرثوذكسية أداء السر به". اهـ.

ويزعمون أن من يتناول هذا السر فإنه يستحق أثماراً خلاصية من همها: 1- الثبات والاتّحاد مع المسيح. 2- النموّ في النعمة والكمال الروحي والحياة في الرّبّ يسوع. 3- ينال عربون الحياة والقيامة المجيدة.

ص: 586

_________

ومع أهمية هذا السر عندهم، فإنه ليس بمجمع عليه من النصارى جميعاً. فقد أنكره الكثيرون منهم. واعتبروا الخبز والخمر رمزاً لجسد المسيح ودمه وليس حقيقة. ومن أبرز هؤلاء المنكرين يوحنا أيجانا الإيرلندي في القرن (9م) . وبرنغاريوس رئيس مدرسة تورس بفرنسا في القرن (11م) . وطائفة البطروبروسيون (تلاميذ بطرس دي بريز بفرنسا) في القرن (12) . وطائفة الألبيجنسيين في القرن (13م) ثم يوحنا ويكلف الإنجليزي، وزوينكل وكلفن ولوثر في العصر الحديث زعماء طائفة البروتستان.

وكان إنكار هذا السر قديماً أيضاً في زمن أغناطيوس وإيريناوس وكيرلس الأورشليمي ويوحنا ذهبي الفم - آباء الكنيسة القدماء - الذين أنكروا على من أسموهم بالهراطقة الذين لا يؤمنون بهذا السر. (ر: أسرار الكنيسة السبعة ص 62-102، حبيب جرجس، قصة الكنيسة القبطية ص 502، إيريس حبيب) بتصرف واختصار.

وهذا السر الذي يؤمن به النصارى كعقيدة التثليث مستحيلة عقلاً وشرعاً. فالعقل السليم يرفض الإيمان بأن الخبز والخمر يتحولان حقيقة - بعد تقديسهما - إلى جسد المسيح ودمه

والاعتراضات العقلية والنقلية كثيرة في إبطال هذه العقيدة المستحيلة. (ر: إظهار الحقّ ص 326-328، للشيخ رحمة الله الهندي) .

ص: 587

قال المؤلِّف: صَرَّح لي بهذا الحرف بعض النصارى وكان معنا في المجلس / (2/65/ب) رجل من عقلائهم. فقطع عليه الكلام وانتهره حتى فهم القصة من حضر ذلك المجلس.

فأي فائدة وأي فضل وفخر في دعوى هذا المحال على عبد الله المسيح وجعله قرآناً يتلى؟

ولقباحة هذه الأقوال وسماجتها وبعدها من كلام الأنبياء صار كثير من النصارى يُسْلم من غير أن يطلع على محاسن دين الإسلام ونظافته من هذا الهذيان. بل تبرماً وتطيراً من قباحة ما عليه النصارى لا غير.

55-

فضيحة أخرى: ترك طوائف من النصارى الاختتان وحرموه ورأوا أنه معصية. وأن إطالة القلف دين يُدان الله به وشرع لا يسع المكلف خلافه. فيجامع أحدهم امرأته وجلدة قفلته مستطيلة والأخرى عضوها بارز نات كأنه عرف ديك [فيكونان] 1 أقبح شيء وأسمجه. وراغموا التوراة والإنجيل وسائر النبيّين. أما التوراة فنصّت: "إن إبراهيم الخليل أمره الله بالختان فقال له: هذه عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك أن يختتنوا غرلة كل ذكر منكم ومن عبدانكم ليكون عهدي مَيْسَماً / (2/66/أ) في أجسادكم عهداً دائماً إلى الأبد. وكلّ ذكر لا يختتق غرلته. فلتهلك تلك النفس من شعبها لأنها أبطلت عهدي. فعمد إبراهيم فاختتن وهو إذ ذلك شيخ كبير وختن أولاده وعبدانه"2.

فإذا كان هذا نصّ التوراة، أنه واجب إلى الأبد وأن تاركه يقتل؛ فقد وضح كفر من خالفه من النصارى. وغيرهم. وقد ترك الروم والفرنج وغيرهم الختان. هذا وقد اختتن المسيح وتلاميذه. والعجب من النصارى منهم من يَجُبُ مذاكيره ويخصي نفسه. وآخرون يحلقون لحاهم. ولم يأت ذلك في شرع ولا نزل به كتاب. ويتركون الختان.

ولم يزل النصارى يختتنون بعد رفع المسيح إلى أن أتاهم رجل يدعى عندهم

1 في ص، م (يكونا) والصواب ما أثبتّه.

2 تكوين 17/9-14، 23-27.

ص: 588

فولس بعد المسيح بمدة متطاولة فقال لهم: "إن الختان ليس بشيء وإن الغرلة ليس بشيء"1. وما أعلم على النصارى أشأم من هذا الرجل - أعنى فولس - فإنه حلهم من الدين بلطيف خدعه. فحلهم من سنة الختان إذ رأى عقولهم قابلة لكل ما يلقى إليها2.

56-

فضيحة أخرى: للنصارى كنيسة ببعض البلاد يحجون3 إليها ويعظمونها / (2/66/أ) ويزعمون أن يد الله تخرج إليهم من وراء ستر منها فتصافحهم وذلك في يوم من السنة، فبلغ ذلك بعض رؤساء دولتهم وقيل له: ألا4 تعجب من يد الله تعالى كيف تظهر للناس ويرونها؟! فمضى ذلك الرئيس إلى الكنيسة في ذلك اليوم. فلما ظهرت اليد قَرَّبه الأقساء إليها ليقبلها فلما رآها وضع يده فيها والتزمها فصاحوا به. وقالوا: الساعة يخسف بنا الأرض أو تسقط

1 رسالته إلى غلاطية 6 الشافعي: الأمّ 15.

2 تقدم التعليق على إبطال النصارى لشعيرة الختان (ر: ص 228)، ونضيف هنا بأن كثيراً من النصارى قد مالوا إلى الختان لتقليدهم المسلمين وتأثرهم بهم عن طريق التجارة والدراسة والحروب. وأيضاً لما لمسوه من الفوائد الصحية والنظافة الشخصية للختان. (ر: المجتمع القبطي ص 223، 224، إيريس حبيب، الصليب في الإسلام ص 6 حبيب زيات) .

3 الحج في تعريف النصارى هو: زيادة الأماكن المقدسة. ويُعرف من أدّى عبادة الحج عند النصارى باسم (المقدسي) نسبة أي: بيت المقدس. وتاريخ حجّ النصارى يبدأ على الأكثر منذ القرون الوسطى. فمنذ عهد قسطنطين سنة 306م أخذ النصارى يزورون الأماكن التي تقدست بولادة المسيح وموته وقيامته والأماكن التي لها تعلق بعجائب المسيح. ولكن لم يقتصر النصارى على زيارة ما ذكر من الأماكن فقد توسعوا في ذلك كثيراً فأصبحوا يحجون إلى الصوامع والأديرة التي كان يقيم فيها رهبانهم وقديسيهم وإلى روما حيث كنيسة بطرس بالفاتيكان وكنائس أخرى كثيرة في ألمانيا ومصر وسويسرا وأسبانيا وبريطانيا وتركيا وغيرها كثير جدّاً. (ر: دائرة المعارف 6/693-698، للمعلم بطرس البستاني - باختصار) وهذا يؤكّد لنا أن معظم عبادتاهم محرفة ومبتدعة. فالحجّ على الصفة السابقة إنما هو زيارة الأماكن المقدسة الأثرية أو السياحة الأثرية ولا أكثر من ذلك. وما يزعمون أنه الحجّ إنما هو من اتباعهم الهوى والشيطان.

4 في م: لا.

ص: 589

علينا السماء وترسل الصواعق فنهلك. فقال: دعوا عنكم هذا فإني والله لا أدع هذه اليد من يدي حتى أرى وجه صاحبها. فلما شاهدوا منه التصميم قالوا له: أرجعت عن دين النصرانية وهو دين آبائك وأسلافك؟ قال: لا ولكني أردت الوقوف على سر ذلك. قالوا: فإنها يد أسقف من أصحابنا وراء هذا الستر. فلما رآه وشاهده أرسل يده وخرج من تلك الكنيس1 فلم يعد بعد. واشتهرت القصة. قال المؤلِّف: سمعت ذلك من كثير من أصحابنا المغاربة ثم شاهدت القصة مسطورة في تصنيف لبعض المغاربة2.

57-

فضيحة أخرى: للنصارى صليب من حديد / (2/67/أ) معلق في قبة كنيسة لهم بالمغرب. قد وقف في الهواء بغير علاقة ولا دعامة والناس يحجون إليها ليشاهدوا الصليب ويتعجبون من تلك الآية. فأكثر التعجب من ذلك بعض ملوكهم. فقال لكاتب كان عنده من اليهود: ألا تعجب يا فلان من هذه الآية العظيمة التي في هذا الصليب؟ فذكر له اليهودي أن في جهات الصليب المذكورة حجارة المغناطيس العظام مخبأة في الجدار وفي ما يوازيه من سقف القبة وأرض الكنيسة فهي التي أوجبت قيامه ومنعته من السقوط. فحضر الملك إلى الكنيس المذكور في وقت خلوة وتقدم بالكشف عن الحجارة من بعض الجدران من الصليب. فاضطرب الصليب حتى خافوا أن يسقط فعرف حقيقة الحال وانصرف3.

58-

فضيحة أخرى: للنصارى في بلد من بلاد المغرب4 أيضاً كنيسة

1 في م: الكنسي.

2 هو كتاب: "مقامع هامات الصلبان في الرّدّ على عبدة الأوثان ومراتع روضات الإيمان". لأبي عبيدة الخزرجي الأندلسي ت 582هـ. وقد حققه. د. محمّد شامه ونشره بعنوان (بين الإسلام والمسيحية) ر: ص: 268، 269. من الكتاب المذكور.

3 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من المرجع السابق. (ر: مقامع هامات ص:269، 270) .

4 ذكر أبو عبيدة الخزرجي أن الكنيسة بالأندلس.

ص: 590

فيها ثريا معلقة نحو تعليق الصليب، ينْزل إليها نور من فوق فتتقد للوقت في وقت من السنة. فهم يعظمون ذلك اليوم ويفخمونه. فأطرق بها بعض ولاتهم فصار إليها فعرف حقيقة الحال / (2/67/ب) وذلك أنهم مَدُّوا من الجدار قصبة حديد مجوفة وأبرزوا لها أنبوباً دقيقاً على وزان طرف الذبالة. فإذا كان ذلك الوقت المخصوص أرسلوا نار. النفط في تيك القصبة فتخرج بسرعة فتتقد للوقت. فلما عرف وجه هذه الحيلة أمر بصفع السدنة وانصرف1.

59-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أن مريم أم المسيح تنّزل من السماء على الأرض دار المطران2 بطليطلة في يوم معروف من السنة بكسوة تلبسها له. وهم لا يشكون في صحّة هذا ببلادهم. قال بعض من نقلها: يا ليت شعري هل نزولها3 بغير إذن الأب أم بإذنه؟ فإن كان ذلك بإذنه فكيف لم يرسل بعض ملائكته ورسله ويوقر أم ولده ويصونها عن التبذل لرجل من جنسها أجنبي عنها؟ وإن كانت تنْزل بغير إذنه مستبدة برأيها، فكيف يجوز من الأب أن يصطفي لنفسه خائنة تخونه وتخرج من بيته بغير إذنه إلى رجل بكسوة تكسوه4 وتزينه بها؟ أترون الأب لا يعلم خيانتها وترددها إلى من ليس له بمحرم؟ / (2/68/أ) أو ترونها قد عشقت المطران فهي تتردد5 إليه شغفاً به؟ فما بالها لا تولي ذلك غيرها من خدمها حتى تتجشم هي بنفسها؟ 6.

60-

فضيحة أخرى: للنصارى عيد بيت المقدس مشهور يعرف بعيد

1 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من المرجع السابق. (ر: مقامع هامات ص:270، 271) .

2 ذكر أبو عبيدة الخزرجي أن اسم المطران: دون أقريس. وبأنها كانت عليه في ليلة النصف من شهر أغسطس.

3 في م: ترونها.

4 ليست في م.

5 في م: زاد (له) .

6 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من المرجع السابق. (ر: مقامع هامات، ص: 171) .

ص: 591

النور، يحجون إليه في يوم من السنة. وإذا اجتمعوا عنده نزلت نار من تجويف القبة فتعلقت بذبالة القنديل فيتقد بسرعة فتكثر الأصوات وتعج بالدعاء والابتهال، فلا يشك الغر ولا يرتاب الغمر1 أن تلك آية نزلت من السماء دالة على صحة دينهم. ووجه الحيلة في ذلك أن رجلاً يختبئ في أفرير القبة من داخل وهي غلسة جداً. فإذا كان ذلك الوقت الذي يُكمل فيه اجتماعهم وقُرأ الإنجيل والكتب؛ أرسل الرجل قبسا من نار النفط فجرت على خيط مدهون بدهن البلسان فتبتدر2 الذبالة فيتقد. فيجأرون حينئذٍ بالأدعية.

قال علماؤنا: وقد تفطّن لذلك بعض ولاة بيت المقدس فصار إليهم / (2/68/ب) في ذلك العيد وأراد أن يفضحهم بكشف القصة فبذلوا له مالاً فقنع به منهم وانصرف. ومعلوم أن ذلك لو كان نوراً لم يتقد منه المصابيح. إذ صفة النار الإحراف وصفة النور الإشراق فقط. ولو كان ذلك نازلاً من السماء كما يدعي النصارى لروئي خارج القبة. والدليل على كذبهم أن تلك البقعة أقامت في أيدي اليهود مدة طويلة ثم جاء الله بالإسلام ولم يُرَ شيء من هذا الجنس3.

61-

فضيحة أخرى: النصارى يصلون إلى مشرق الشمس ويتّخذونها قبلتهم4. وقد كان المسيح عليه السلام طول مقامه يصلي إلى قبلة بيت

1 في م: زاد (أن) .

2 في م: فتبدر.

3 ذكر أبو بكر الطرطوشي (474هـ) هذه الحيلة للنصارى، ونقلها عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان ص 619، ونقلها المؤلِّف عن كتاب مقامع هامات ص 75، 76، 272.

4 إنّ الأقباط الأرثوذكس والأقباط الكاثوليك يتجهون في صلاتهم إلى المشرق لعد أسباب (في زعمهم) منها: أن الشرق هو الجهة التي قال السيد المسيح إنه يظهر منها عند مجيئه الثاني. ولأن المسيح نور العالم، والشرق مطلع الأنوار. ولقد كان لاتّجاههم إلى الشرق تأثير في نظام الكنائس حيث جعلت جميع الهياكل تقام في الجهة الشرقية من الكنيسة.

أما الأقباط الإنجيليون (البروتستانت) فيتجهون في صلاتهم إلى أية جهة. (ر: المجتمع القبطي في مصر في القرن التاسع عشر ص 622، رياض سوريال) .

ص: 592

المقدس قبلة موسى بن عمران والأنبياء. "وقال: إني لم آت لأنقض1 التوراة بل لأكملها. وأن السماء والأر ليزولان وكلمة واحدة من الناسوت لا تزول حتى يتم بأسره"2. غير أن النصارى خالفوا المسيح والأنبياء واعتذروا في توجههم إلى المشرق بأنه الجهة التي صلب إليها ربّهم وقتل فيها إلههم فيقال لهم:

يا حمقى لو كنتم أولي ألباب لَمَقَتُّم جهة الشرق وأبغضتموها / (2/69/أ) وتَطَيَّرتم بها ورفضتموها في أمور العادة فضلاً عن العبادة. وذلك لأنها الجهة التي لم يصل إليها المسيح ولا شهدت [لها الأناجيل ولا3 صَلَّى] إليها نبي من الأنبياء البتة. ثم إنها الجهة التي4 تشتت بها شملكم وبددت5 كلمتكم وفرقت جموعكم. فتعظيمكم لهذه الجهة هي أشأم الجهات عليكم، أمر يقتضي السخرية بكم والإزراء عليكم. وكان الأولى بكم أن لا تتحولوا عن جهة بيت المقدس لقول الإنجيل:

"إن امرأة سامرية من اليهود قالت للمسيح: يا سيد، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل للأب فكيف تقولون أنتم إنه أورشليم؟. فقال لها: أيتها المرأة أنتم تسجدون لما لا تعلمون، ونحن نسجد لما نعلم، فهذا المسيح6 يشهد أنه ليس لله قبلة يصلي إليها إلاّ بيت المقدس الذي هو أورشليم". فأنتم أعرف وأعلم من المسيح بما يجب لله تعال؟ - إنا لله وإنا إليه راجعون على عقولكم -. لقد رميتم فيها بداهية.

1 في ص (لأجل الأنبياء) وفي م: (لأجد) . والصواب ما أثبتّه.

2 متى 5/17، 18.

3 في ص (ولا الأناجيل صلى إليها) وفي م (الأناجيل بأن صلى) والتصويب من المحقِّق. ولعلّ الناسخ أخطأ في التقديم والتأخير. والله أعلم.

4 في م: (إنها الجهة التي) ساقطة.

5 في م: وبدت.

6 يوحنا 4/19-22.

ص: 593

62-

فضيحة أخرى: الروم من النصارى / (2/69/ب) على كثرة طوائفها لا يرون وجوب الاستنجاء، فيبول أحدهم ويغوط ويقوم من فوره إلى مصلاه وهو متضمخ ببوله1. وذلك مما أحدثوه بعد المسيح. وإلاّ فشرائع الأنبياء عليهم السلام قد وردت أن العبد لا يقوم إلى الصلاة إلاّ وهو على أكمل أحواله. فيجتمع لهم في الصلاة بأمور] 2 قبيحة منها: أن يقوموا بغير طهارة. ومنها: استدبارهم3 قبلة المسيح التي كان يصلي إليها. ومنها: دعواهم وتضرعهم إلى رجل من بني آدم أن يغفر لهم خطاياهم، ويكفر عنهم سيّئاتهم. وربما سألوه

1 قال ابن القيم: "إن النصراني يقوم من على بطن المرأة يبول ويتغوط ولا يمس ماء ولا يستجمر. والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلي كذلك. وصلاته صحيحة تامة عنده. ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره؛ فضلاً عن أن يفسو أو يضرط. ويقولون: إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة؛ لأنها حينئذٍ أبعد من صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين". (ر: هداية الحياري ص 263، إغاثة اللهفان ص 616) .

ومما معلوم أن الطهارة في الديانتين: الإسلامية واليهودية تعتبر شرطاً أساسياً في صحّة الصلاة وقبولها. بعكس النصرانية التي تعتبر الطهارة الجسمية أموراً رمزية ثانوية لا قيمة لها أساساً. وهذا من التحريف الذي أحدثه النصارى في دينهم قطعاً. حيث إن الطهارة لأداء الصلاة وردت به شرائع الأنبياء جميعاً. وقد تطرف القساوسة والرُّهبان في العصور الوسطى إلى حد اعتبار القذارة من وسائل التقرب إلى الله. وأن النظافة من عمل الشيطان. فكان أزهدهم وأتقاهم أبعدهم عن الطهارة وأوغلهم في النجاسات. حيث يقول الراهب أتهينس: "إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طول عمره. وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين سنة. وقد أبت العذراء سلفياً أن تغسل جزءاً من جسدها عدا أصابعها. وكان في أحد الأديرة النسائية (130) راهبة لم تستحم واحدة منهم قط أو تغسل قدميها، إلاّ أن الرهبان مالوا إلى استخدام الماء في آخر القرن الرابع، وسَخِر الأب إسكندر من هذا الانحطاط. فأخذ يحن إلى تلك الأيام التي لم يكن فيها الرهبان يغسلون وجوههم قط. (للتوسع ر: قصة الحضارة 12/121-123، تاريخ أخلاق أوروبا الجزء الرابع، كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 168، 169. لأبي الحسن الندوي) .

2 في ص، م (أمورا) والصواب ما أثبتّه.

3 في م: استدبارها.

ص: 594

بحقّ المسامير التي سمر بها في يديه وبالخشبة التي صلب عليها بزعمهم على ما أذكر منه طرفاً في آخر فضائحهم.

63-

فضيحة أخرى: من النصارى من لا يقبل توبة [المذنب] 1 ما لم يعترف له بذنوبه. ويقر له بإجرامه ويشرح ما فعله في طول عمره. وأنه زنى وسرق وقتل وفعل كيت وكيت ويعدد الخائر2 ما ستره الله عليه ويبدي عورته لهم. فيجد أكابرهم الوسيلة إلى التحكم في ماله والتبسط في ما حواه من دنياه فيطوفون حوله3 / (2/70/أ) ويوظفون عليه ما رأوه4 لائقاً بماله واتسع حاله. ويبقى المثكل في أيديهم وفي قبضتهم طول عمره. وقد أُرِّخَت عليه سيّئاته وخلدت في دفاترهم قبائحه. وعرفها من لم يعرفها منهم ومن غيرهم. وعيرت بها أولاده وعقبه من بعده جيلاً بعد جيلٍ وقرناً بعد قرنٍ5.

ولقد بلغني عمن لا أشك في صدقه وثبته أن النصارى عندنا بمصر أرادوا نصب رجل من أفضلهم بطريكا عليهم. فبينما هم على ذلك إذ جاء آخر من أكابرهم وذوي الهيبة فيهم، فاعترف أنه وهذا

1 أضفنا هذه الكلمة لتستقيم العبارة ويتضح المعنى. والله أعلم.

2 الخائر: أي: الضعيف والجبان. كما في القاموس ص 497.

3 في م: (فيطوفون حوله) ساقطة.

4 في م: ما داؤه.

5 هذه الفضيحة التي ذكرها المؤلِّف تسمى عند النصارى بـ: (سر التوبة) . وهو أحد الأسرار السبعة للكنيسة. وتعريفه عندهم: هو سر مقدس يرجع الخاطئ إلى الله ويتصالح معه تعالى. والاعتراف جزء من سر التوبة. وتعريفه هو: إقرار الخاطئ بخطاياه أمام كاهن الله إقراراً مصحوباً بالندامة والتأسف والعزم والثابت على ترك الخطية وعدم الرجوع إليها. لينال الحِلَّ منه بالسلطان المعطى له من الله (المسيح) القائل: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت". يوحنا 20/21-23، وكذلك في متى 16/19، 18/17، 18.

وهناك عقوبات وتأديبات كنسية متعددة على المذهب منها: الصوم الخصوصي علاوة على الأصوام المفروضة على جميع النصارى. وصلوات يقدمها الخاطئ في مخدعه مع عدد من الركعات. وتأخير التناول من الأسرار المقدسة وقتاً مناسباً لثقل خطيئته. وتوزيع جزء من ماله صدقة على الفقراء.

وتختلف نظرة الكنيسة الأرثونكسية عن الكاثوليكية في أن الغرض من هذه التأديبات إصلاح حال الخاطئ ليس إلاّ، ولكن الكنيسة الكاثوليكية تعتبرها قصاصات حقيقية، الغاية منها وفاء العدل الإلهي الذي أهانه الخاطئ بخطاياه. وبناء على ذلك فقد تمادت الكنيسة الكاثوليكية في إصدار الغفرانات (صكوك الغفران) وقررته حقّاً لها في المجمع الإيتراني الرابع سنة 1215م. فأصبح البابا يوزع ذلك الصكوك. وتباع وتشترى كالسلع متضمنة الصفح والغفران ليس عن خطايا الماضية فقط بل والمستقبلة أيضاً. فأصبحت هذه الصكوك مصدراً لريادة ثراء رجال الكنيسة وتوفير الرفاهية والترف لهم. لذلك فقد اعترضت الكيسة الأرثوذكسية والبروتستانتية على هذه الصكوك واعترها عاراً على النصرانية. (ر: أسرار الكنيسة ص 103-127، حبيب جرجس - بتصرف - قصة الكنيسة القبطية ص 502-504، إيربس حبيب، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 173، لأبي الحسن الندوي) .

ص: 595

المرشح للبتركة قد فعل كلّ واحد بصاحبه الفعل المحذور أيام الحداثة فتصادقا على ذلك. فأفسدوا على النصارى ما راموا من نصب الرجل وتوليته عليهم، وهذا أمر لا أصل له في شريعة ولا نصّ عليه ناموس؛ ولكنه شيء اختلقه الجهلة من مشائخ النصارى اختلاقاً وابتدعوه بعقولهم ابتداعاً.

64-

فضيحة أخرى: (2/70/ب) زاد النصارى في صومهم الكبير1 جمعة يصومونها لهرقل2 ملك البيت المقدس. وسبب ذلك أن الفرس لما استولوا على البيت المقدس وقتلوا النصارى وهدموا الكنائس، أعانهم اليهود على ذلك وكانوا أشدّ فتكاً في النصارى من الفرس. فلما توجه هرقل إلى بيت المقدس تلقاه اليهود بالهدايا وسألوه الأمان فكتب لهم كتاباً يؤمنهم فيه على أنفسهم وأموالهم. فلما

1 ويسمى بالصوم المقدس وعدد أيامه (55)، يوماً. وهي عبارة عن الأربعين يوماً التي صامها المسيح مضافاً إليها أسبوعان: الأوّل قبل الأربعين ويسمى أسبوع الاستعداد والتهيئة للصوم الأربعيني المقدس. والأسبوع الثاني: أسبوع الآلام، ويأتي بعد الأربعين وينتهي بـ:(أحد القيامة) . ولهم مواسم للصوم كثيرة منها: صوم يوم الأربعاء. ذكرى التشاور للقبض على المسيح. وصوم يوم الجمعة ذكرى صلب المسيح - حسب زعمهم -. وصوم الميلاد، وعدد أيامه 43 يوماً، ينتهي بعيد الميلاد. ويزعمون أن الصوم ليس إجبارياً عليهم وإنما هو اختياري. وميقاته تتخالف فيه فرقهم. وكيفية صومهم: هو الامتناع عن تناول الطعام مدة من النهار قد تصل على الظهر أو العصر أو الغروب - حسب مقدرة الصائم - ويتناول الصائم بعدها أطعمة خالية من الدسم غير الحيواني. (ر: المجتمع القبطي ص 228، رياض سوريال، دائرة المعارف 11/70، بطرس البستاني، النصرانية والإسلام ص 82، محمّد الطهطاوي) .

2 هرقل (هيراكليوس) : إمبراطور الروم (610-641م) عرف عهده حروباً كثيرة مع الفرس وحرر بيت المقدس منهم سنة 628م.

ر: قصة الحضارة 12/295، فجر المسيحية ص: 208، حبيب جرجس، المنجد في الأعلام ص:727.

ص: 596

دخل البيت المقدس شكى إليه النصارى ما لقوا من اليهود وكيف مالؤوا عليهم الفرس وسألوه قتل اليهود. فقال: كيف أقتلهم بعد أن أمنتهم؟ فقالوا: نحن نصوم عنك جمعة في أوّل الصوم الكبير كفارة لخطيئتك هذه. وندع أكل اللحم في الصوم ما دامت النصرانية. ونلعن من يخالف ذلك ونُعيَّره ونكتب به إلى الآفاق غفراناً لذنبنك. فأجابهم مسألتهم وملتمسهم وقتل اليهود قتلاً ذريعاً. فصاموا له جمعة في أوّل الصوم وكتبوا بذلك إلى سائر البلاد، وأهل بيت المقدس ومصر يصومونها. وبقية أهل / (2/71/أ) الشام لا يأكلون اللحم1 فيها ويصومون الأربعاء والجمعة2.

ولا شكّ أنّ هذا وشبهه من باب التلاعب بالدين. وقد صار هذا النمط سجية للنصارى وخلقاً. أليس هم الذين عمدوا إلى إنسان قد تربى بينهم طفلاً ونشأ حتى صار كهلاً فاتّخذوه إلهاً،

1 قال ابن القيم: "وإذا شئت أن ترى التغيير في دينهم، فانظر إلى صيامهم الذي وضعوه لملوكهم وعظمائهم، فلهم صيام للحواريين وصيام لماري مريم، وصيام لماري جرجس، وصيام للميلاد، وتركهم أكل اللحم في صيامهم مما أدخلوه في دين المسيح. وإلاّ فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم. ولم يمنعهم منه لا في صوم ولا فطر. وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا في النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياماً فصاموا للمياد والحورايين، وماري مريم، وتركوا في هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب ماني، فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية فصارت سنة متعارفة بينهم ثم تبعهم على ذلك الملكانية". اهـ.

نقل ابن القيم ذلك من تاريخ ابن البطريق (نظم الجوهر) . (ر: إغاثة اللهفان ص 618، الجواب الصحيح 3/34) .

2 ذكر هذه الفضيحة بنصّها ابن القيم في إغاثة اللهفان ص 624، والمقريزي في خططه 3/533، 534.

ص: 597

وأعلنوا بعبادته سفاهاً وخاطبوه بالربوبية شفاهاً؟! نعوذ بالله من الضلال وأن نشرك مع الله الرجال.

65-

فضيحة أخرى: للنصارى عيد يقال له: (عيد ميكائيل) ليس له أصل في شرعهم ألبتة، بل هو مما أحدثوه وابتدعوه. وسبب إحداثه على ما ذكر أهل العلم: أنه كان بالإسكندرية صنم1 وكان أهل الإسكندرية ومصر يُعَيَّدون له عيداً عظيماً2، ويذبحون له الذبائح، فولي بطركة الإسكندرية رجل يقال له:(الأكصيدروس) 3، فرام إبطال هذا العيد وتعطيل الصنم فلم يقدر من عوام النصارى. فقال: إن تعبدكم لصنم لا يضرّ ولا ينفع لضلال وكفر. فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل المَلَك وذبحتم له الذبائح / (2/71/ب) لكان يشفع لكم عند الله. وذلك خير لكم من هذا الصنم. فأجابوه إلى ذلك فكسر ذلك الصنم واتّخذ منه صلباناً وسمي الهيكل (كنيسة ميكائيل) وتحول العيد فصار لمكيائيل إلى اليوم بمصر وتخومها ولا أصل له في زمن المسيح ولا في زمن الحواريين4. والشيء الضعيف لا يزيده الأمر الباطل إلاّ ضعفاً. والحقّ متسغن بنفسه عن أن يقوى بأمثال هذه الترهات.

1 ورد أنه كان صنماً من نحاس في هيكل عظيم، بنته أكلاً أو بطرة الملكة وسمّته باسم زحل.

2 كان ذلك العيد في شهر تشرين الثاني.

3 ورد أن اسمه: (الأسكندريس) .

4 ذكر أبو المكارم (النصراني) في كتابه المخطوط: (تاريخ الكنائس والأديرة 1/152، 153) قصة عيد ميكائيل والكنيسة التي يقام فيها هذا العيد، مثل ما أورده المؤلِّف رحمه الله، وأضاف أبو المكارم:"بأن الكنيسة تسمى بـ: (كنيسة الفيسارية) وقد أحرقت هذه الكنيسة في يوم الاثنين لثلاث خلون من شوال سنة ثلاثمائة، عند دخول المغاربة (القرامطة مع المسمى أبو عبيد الله) إلى الإسكندرية". اهـ.

وقد نقل هذه (الفضيحة) بعض علماء المسلمين في الرّدّ على النصارى وبيان سخافة عقولهم وتهاونهم في أمور دينهم وتأثرهم بالوثنية. ومن هؤلاء العلماء الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/20، 21، وابن القيم في هداية الحياري ص 322، وفي إغاثة اللهفان ص 625، والمقريزي في خططه 3/525، 539.

ص: 598

66-

فضيحة أخرى: للنصارى عيد يعرف بعيد الصليب1 لا أصل له ألتبة وهو مما أحدثوه بعد رفع المسيح كعيد ميكائيل وعيد النور وغيره. قال العلماء: "من ميلاد المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة سنة وثمان عشرة سنة. وسبب إحداثه أن اليهود اتّخذوا المقبرة التي دفن فيها الشبه مزبلة يطرحون فيها الكناست والأوساخ تحقيراً لشأن المصلوب، وتصغيراً لقدره. فأقامت مزبلة نحواً من ثلاثمائة سنة إلى أن جاءت زوجة2 قصطنطين الملك فأمرت بالكشف عن المقبرة فظهرت لها فإذا / (2/72/أ) فيها ثلاث صلب وهم صليب اللصين والشبه. فقالت: كيف لنا أن نَعْلَم خشبة ربّنا التي صلب عليها؟ وكان هناك مريض قد أشرف على الموت، فأمرت فوضع عليه الصليب فلم يقم، فأمسته الثاني فلم يقم، فأمسته الثالث فقام وبرأ من علته كأن لم يكن به بأس. قال النصارى: فعلمت أنه صليب الرّبّ فعلقته بالذهب وبعثت به إلى الملك3.

1 يحتفل النصارى عادة بهذا العيد في الثالث في شهر مايو كلّ عام ويسمى: (عيد اكتشاف الصليب) إحياء لذكرى قصة اكتشاف الصليب الذي صلب عليه الميسح - حسب زعمهم -.

أما الكنيسة القبطية فإنها تحتفل بعيد ظهور الصليب باحتفالين:

الأوّل: ذكرى اكتشاف الصليب على يد الإمبراطورة هيلانة في يوم 16 من شهر توت. (من الشهور القبطية) سنة 326م.

الثاني: ذكرى استرجاع الصليب من الفرس الغزاة على يد الإمبراطور هرقل في يوم 10 من شهر برمهات سنة 627م.

(ر: السنسكنار 2/29، 30، الأنبا بطرس الجميل وغيره. ما هي النصرانية؟ ص 74، محمّد تقي العثماني) .

2 الصواب أنها أم الإمبراطور قسطنطين وليست زوجته ويسمّيها النصارى (القديسة هيلانة) أو (هلينا) الملكة) كما ذكر ابن البطريق في تاريخه نظم الجوهر وغيره من المصادر النصرانية.

3 وردت هذه القصة في تاريخ سعيد بن البطريق (ت 940م) المسمى بـ: (نظم الجوهر) ونقلها عنه العلماء في باين سخافة دين النصارى. ومن هؤلاء العلماء ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/25، وابن القيم في إغاثة اللهفان ص 625، 626، والقرافي في أدلة الوحدانية في الرّدّ على النصرانية: 75-77، والمقريزي في خططه 3/525، 552، وغيرهم. كما نقلها المصادر النصراينة أيضاً مثل: كتاب السنكسار 2/162، 163، موجز تاريخ المسيحية ص 190، ليسطس الدويري.

لكننا نستغرب من أن المؤرخ يوسابيوس القيصري - الذي عاش في العصور الأولى 264-340م وكان معاصر للإمبراطور قسطنطين، وأسقفا لقيصرية - لم يذكر هذه القصة في كتابه:(حياة قسطنطين العظيم) الذي أَرَّخ فيه حوادث عصر قسطنطين. ومعن ثنائه في هذا الكتاب على الأعمال الخيرة التي قامت بها الإمبراطورة هيلانة أم قسطنطين فإنه لم يشر أبداً إلى القصة السابقة. (ر: حياة قسطنطين ص 103-105) . ويدلنا ذلك على كذب هذه القصة واختلاقها بعد عصر قسطنطين؛ إذ لو كانت القصة صحيحة لبادر إلى ذكرها المؤرخ يوسابيوس الذي يكيل الثناء والمديح بلا حساب لسيده الإمبراطور قسطنطين.

ص: 599

وإذا كان هذا إنما جرى بعد المسيح بهذه المدة فكيف يعد مأخوذاً عن المسيح؟ وهذه الأعياد لو كانت معتبرة لكان الأولى أن تكون مسطورة في الإنجيل ومأخوذة عن التلاميذ، ولو بعث الله التلاميذ الآن لم يعرفوا مها ولا مما عليه النصارى شيئاً. إذ ما في أيديهم شيء مما كان عليه المسيح وأصحابه.

ونحن - يرحمك الله - نسأل النصارى فنقول: أخبرونا بماذا استحق الصليب عندكم هذا التعظيم والتفخيم حتى صرتم تقبلونه وتمرونه على أعينكم وتصلبون به على وجوهكم؟ 1. فمنكم من يصلب على وجه بإصبع / (2/72/ب) واحد وهم القبط، ومنكم من يصلب بإصبعين وهم الروم. ومنكم من يصلب بالخمسة وبالعشرة وهم الفرنج2.

1 قال أفرايم السرياني - أحد كبار أحبار النصارى وقديسيهم الأوائل -: "لا تعمل عملاً إلاّ وتبدأ بإشارة الصليب، وكذلك اختم بإشارة الصليب الحي جميع أعمالك. لا تخرج من باب منْزلك قبل أن ترسم نفسك بالصليب، ولا تغفل عن ذلك في طعامك وشرابك. حين رقادك أو استيقاطك، في البيت أو في الطريق، في العمل أو الاستراحة". اهـ. (ر: الوسائل العلمية للإصلاحات القبطية ص 105، 106، حبيب جرجس) .

2 يقول حبيب زياد النصراني: "اختلف النصارى منذ القرون الأولى في كيفية التصليب على عدة أشكال:

أ- التصليب بأصبع واحد - وهي سنة اليعاقبة من سريان وأقباط وحبش ونوبة، ابتداء من العلوّ إلى الأسفل (إشارة إلى نزول المسيح من السماء إلى الأرض) . ومن الشمال إلى اليمن (إشارة إلى نقلهم من جهة الشمال التي هي الخطيئة إلى ناحية اليمين التي هي المغفرة ومحل النعمة حيث يكون سيدهم) .

ب- التصليب بأصبعين - وهو ما كان الأقباط والسريان والنساطرة يتهمون به الروم البيزنطيين والملكيين بالتصليب بأصبعين.

جـ التصليب بثلاثة أصابع - وهو الشكل القديم الذي عَمَّ الكنيستين: الشرقية والغربية قبلاً. ولا تزال تستعمله الكنيسة البيزنطية، وجرى عليه الأرمن.

د- التصليب بالأصابع الخمس-شاع ذلك في الكنيسة اللاتينية بعد القرن 13م، واختاره الموارنة والسريان الكاثوليك من الشرقيين تقليداً للإفرنج منذ القرنين 16م، 17م.

ثم يقول حبيب زيات مستغرباً مما ذكره المؤلِّف بأن منهم من يصلب بالخمسة والعشرة: "وأغرب من ذلك حكاية بعض كتبه الإسلام عنهم أنهم يصلبون بالخمسة والعشرة، ولا ندري ما الذي رأوه من إشارات الصليبيين حتى نسبوا لهم استعمال اليدين معاً في التصليب". (ر: الصليب في الإسلام ص 26-38) ، باختصار.

ص: 600

أفهذا دين نقلتموه عن الأنبياء وأخذتموه1 من شرائع الرسل؟ فأرونا ذلك في توراة موسى ونبوات أشعيا وأرميا ومزامير داود. وأَنَّى تجدون ذلك في هذه الكتب وهي مشحونة بالتوحيد كما قد بيّناه. وقد كان من حُكم الصليب لو كنتم أَلِبَّاء عقلاءً أن تمقتوه وتلعنوه وتميتوا ذكره وتخفوه فلا تعلنوه.

فإن قالوا: إنما عظمناه لأنه شَرُف بصعود المسيح عليه ونحن نقبله ونعظمه لذلك.

قلنا: فهلاّ تعظموا الحُمُر وتقبلوها وتسجدوا لها؛ لأن لوقا وغيره قد أخبر أن المسيح ركب حماراً عند دخوله المدينة والصبيان بين يديه ينادون: مبارك الآتي باسم الرّبّ2. فكان ركوبه لحمار في حال تعظيمه وكرامته وركوبه الصليب في حال تصغيره وإهانته. فهلاّ تعظمون الحمير وتضمخونها بالعير وتقبلونها فإنها أفضل من الصليب بكثير. / (2/73/أ) فشتان بين مركوب بالرئاسة مخصوص، ومركوب قرنه باللصوص. فلو عقل النصارى لأسقطوا ذكر الصليب ورفضوه ومقتوا ذكره3 وأبغضوه. فإن ذاكره يُعَرِّض بربّهم ويُنوِّه بثلبهم.

تابع الباب التّاسع: في إثبات الواضح المشهود من فضائح النّصارى واليهود

67-

فضيحة أخرى: النصارى مختلفون في السجود للصور. فمنهم من يؤثره ويهواه. ومنهم من كان يكرهه ويأباه. وأكثرهم على المذهب الأوّل بدليل أنّ كنائسهم لا تكاد [تخلو] 4 من الصور. وهذا مما أحدثوه بعد المسيح وأصحابه5 وهذه الأناجيل الأربعة في أيدينا ليس فيها شيء يدل على انتحال ذلك ألبتة. بل قد صرحت بالتوحيد من غير موضع كما قدمناه. وأيّ فرق بين السجود للصورة والسجود للوثن والصنم؟ ولو كان ذلك من الدين

1 في م: وأحدثتموه.

2 متى 21/9.

3 في م: ومنعتوا ذاكره.

4 في ص، م (تخلوا) والصواب ما أثبتّه.

5 ورد النهي عن صنع التماثيل والتصاوير (وتسمى عندم بالأيقونات) والسجود لها صريحاً في التوراة سفر اللاويين 26/1، كالآتي: "لا تصعنوا لكم أوثاناً ولا تقيموا لكم تمثالاً منحوتاً أو نًصَباً ولا تجعلوا

ص: 601

لكان أولى الصور السميح وأولى الناس بالسجود لها الحواريون. وقد بقوا بعد المسيح حتى اخترموا لم يؤثر عنهم شيء من هذا القبيل. وقد ذكرنا أن التوراة قد

في أرضكم حجراً مصوراً لتسجدوا له. لأني أنا الرّبّ إلهكم". وتكرر ذلك النهي أيضاً في سفر التثنية 4/15-20.

يقول ول ديورانت: "إن الكنيسة - أوّل أمرها - تكره الصور والتماثيل وتعدها بقايا من الوثنية. وتنظر بعين المقت إلى فن النحت الوثني الذي يهدي إلى تمثيل الآلهة. ولكن انتصار المسيحية في عهد قسطنطين وما كان للبيئة والتقاليد والتماثيل اليونانية من أثر في القسطنطينية والشرق الهلنستي - كلّ هذا قد خفف من حدة مقاومة هذه الأفكار الوثنية. ولما أن تضاعف عدد القديسين المعبودين نشأت الحاجة إلى معرفتهم وتذكرهم، فظهر لهم ولمريم العذراء كثير من الصور. وحَوَّل الشعب المسيحي الآثار والصور والتماثيل المقدسة إلى معبودات يسجدون لها ويقبلونها ويطلبون المعجزات بتأثيرها الخفي". اهـ.

وعندما تولى الإمبراطور ليو الثالث (713-741م) عرش الإمبراطورية - وكان متأثراً بالمسلمين في تحريمهم التماثيل والصور - فإنه عقدا مجلساً من الأساقفة وأعضاء مجلس الشيوخ وأذاع بموافقتهم في عام 726م مرسوماً يقضي فيه تحريم عبادة الأيقونات وإزالتها من الكنائس والأديرة. وسانده في هذا المرسوم المثقفون من النصارى. ولكن عارضه المؤيّدون لعبادة الأيقونات وهم الرهبان والأساقفة وقاموا بمساندة الشعب بثوراتهم ضدّه. وخلفه ابنه قسطنطين الخامس (741-775م) الذي عقد مجمعاً بالقسطنطينية سنة 754م للتأكيد على تحريم عبادة الأيقونات. كما سار على نهجه ابنه الرابع (775-780م) وبعد موته انتقلت السلطة إلى أرملته (إيريني) الوصية على ابنها الصغير قسطنطين السادس. وقد كانت من أشدّ أنصار عبادة الصور والتماثيل. فألغت تنفيذ المرسوم السابق وعينت طرسيوس - وهو من عادة الأيقونة - في منصب بطريرك القسطنطينية. ثم سعت إلى عقد المجمع المسكوني السابع في نيقية سنة 787م الذي أقر تعظيم الصور والتماثيل المقدسة لا عبادتها وبأنه تعبير مشروع عن التقي والإيمان النصراني. وبذلك انتصر المؤيّدون لمذهب الصور وعبادتها لكن الصراع لا زال دائراً حيث أيّدت طائفة البروتستانت القول بتحريم الصور والتماثيل وإزالتها من الكنائس.

(قصة الحضارة 14/154-158، المسيحية في العصور الوسطى ص 47، 52-54، جاد المنفلوظي، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء، ص 225-239، د. رؤوف شلبي) .

ص: 602

شددت وغلظت على من يفعل شيئاً من ذلك. / (2/73/ب) والمسيح عليه السلام قد1 قال في إنجيله: "إنه لم يأت لنقض التوراة بل جاء لإكمالها"2. فهذه التوراة مصرحة بتكفير عابد الصور. وهذا الإنجيل ليس فيه لها ذكر. وهذه كنائس النصارى مملوءة بها. فلم يبق إلاّ المجاهرة والعناد وعبادة الأنداد.

68-

فضيحة أخرى: للروم كنيسة ببعض بلادهم يحجون إليها في يوم من السنة فيشاهدون صنماً بها. إذا قُرأ الإنجيل بين يديه درَّت ثدياه وخرج منه اللبن فيشاهده من حضر ويتحدث فيه من غاب ويعدها آية بيّنة ودلالة على الدين ليست بالهينة. ويحصل للسدنة بسبب ذلك مال عظيم. فبحث ملكهم عن ذلك فوجد القَيِّم قد ثقب من وراء الجدار طاقة لطيفة وهندمها حتى أوصلها بثدي الصنم وجعل فيها أنبوبة من نحاس وأصلحها بالجير وأخفى أمرها. فإذا كان يوم العيد فتحها وصبّ فيها لبناً فيخرج من ثدي الصنم ويسقط نقطَةً نقطةً على تدريج فلا يشكّ من حضر أنها آية ظهرت عند / (2/74/أ) تلاوة الإنجيل وبركة العيد. فلما انكشف له وجه هذه الحيلة ضرب عنق القيم وتقدم أن لا يبقى في الكنائس ببلده صورة3. فوقع بينهم اختلاف بذلك وكفَّر بعضهم بعضاً وبَدَّعه وتبرأ منه.

69-

فضيحة أخرى: للنصارى صنم بالقسطنطينية له عيد في السنة تحج إليه النصارى من كلّ وجه في يوم مشهود. فإذا تلي الإنجيل بين يديه بكى بالدموع الغزار. فيشاهد ذلك من حضر ويكثرون الابتهال والدعاء ويعجون بالبكاء فاجتمع عنده مال واحتاج الملك إلى قرض فرام اقتراض ذلك وأخذه

1 في ص (فقد) والمثبت من م.

2 متى 5/17.

3 نقل ابن القيم هذه الفضيحة وذكر أنها حدثت في زمن المتوكل. (ر: إغاثة اللهفان ص 619) . ولكن ذكر المقريزي أن هذه الفضيحة وقعت في زمن (قسيما) - الذي تولى بطركية اليعاقية في مصر سنة 244م. وأقام فيها سبع سنين وخمسة أشهر ثم مات - وبأن اسم الملك الذي أمر بمحو الصور من الكنائس بسبب هذه الفضيحة - هو نوفيل بن ميخائيل ملك الروم. (ر: الخطط 3/539) .

ص: 603

فأبى عليه القَيِّم فحضر الملك إلى الكنيس بنفسه وقال للأسقف: اقرأ الإنجيل الساعة حتى نرى كيف يبكي الصنم. فقال: إنما يبكي في يوم واحد من السنة. فاستشعر الملك أن تلك مخرقة فتقدم يحفر ما تحت الصنم فوجد حفرة مصنوعة والصنم مُجَوّف من أسفله تجويفاً ضيّقاً فإذ كان ذلك اليوم وضع الأسقف في تلك الحفرة / (2/74/ب) قربة ماء وجعل فيها أنبوبة مستطيلة رقيقة متصلة برأس الصنم وستر الحفرة ستراً محكماً فإذا مسَّها ماسٌّ وأضغطها صعد الماء في الأنبوبة إلى رأس الصنم وقد حشي رأسه بالقطن فإن تشرب القطن الماء سالت منه دمعات وسقطت من عيني الصنم على تدريج بأمر قد أحكم وحيلة قد أتقنت. فلما اطلّع الملك على ذلك أمر بالصنم فأخرج وأخذ ما وجد بالكنيسة من المال وأدَّب القَوَمَة وشرّدهم1.

70-

فضيحة أخرى: افترقت النصارى فرقاً كثيرة2 وتقاطعوا وتدابروا وكفّر بعضهم بعضاً وضلّله. والكل ضلال. فمنهم اليعقوبية ومنهم الملكية ومنهم النسطورية. وقد تقدم ذكرهم. ومنهم الآريوسية أصحاب أريوس. واعتقادهم أن المسيح مخلوق جسمه وروح وأنه ليس بإله ولا ربّ غير أن له سلطاناً على السماء، وأنه قد قُتل وصُلب. واتّفق النصارى بنيقية3 على لعنه والتبري منه وبسببه عقدوا الأمانة التي أوضحنا فسادها / (2/75/أ) وجهل من ألفها.

ومن النصارى فرقة تعرف بالليانية4 شاركت السوفسطائية في السنلان في

1 نقل المؤلِّف هذه الفضيحة من كتاب أبي عبيدة الخزرجي. (ر: مقامع هامات الصلبان ص 269) .

2 قال ديورانت: "كان سلس - أحد الرومانيين المهاجمين للنصرانية - قد قال ساخراص: إن المسيحيين تفرقوا شيعاً كثيرة. حتى أصبح هَمَّ كلّ فرد منهم أن يكوِّن لنفسه حزباً. واستطاع إيرينيوس في عام 187م أن يحصي عشرين شيعة مختلفة من المسحيين. وأحصى إيفانيوس في عام 384م ثمانين. وكانت الأفكار الأجنبية تتسرب إلى العقيدة المسيحية في كلّ نقطة من نقاطها". (ر: قصة الحضارة 11/314) .

3 في م: بنفيه.

4 في م: باللياميته.

ص: 604

المسيح خاصة فقالت: إن الذي تراه العين من المسيح ليس هو المسيح، وإنما هو خيال وإلاّ فالمسيح ليس يُتصور أن يرى1.

وفي نفس دعواهم هذه ما يقضي بِرَدَّها إذ يقال لهم: إذا كان المسيح لا يرى وإنما هو خيال فمن أين لكم أن الذي أثبتموه خيالاً للمسيح أنه هو المسيح؟ ولعل الذي رأيتموه خيالاً ليس بخيالٍ أيضاً. ولعل أحدكم [حمار أو كلب أو حيوان] 2 آخر وإن كان آدميّاً في رأي العين وذلك قلب للحقائق.

ومن النصارى من يقول: إن مريم لم تلد إنساناً3 وإنما ولدت جسداً وجاءت الكلمة فاتّحدت به فصار بها إنساناً كاملاً.

ومن النصارى من يعتقد أن المسيح مولود من الأب والروح4. وأنّ الرّوح قوة تحل على الصالحين كما حلّت على يوحنا وهي التي تحلّ على القربان فتبارك فيه. وأنها إذاً من إرث الأنبياء أتتهم في صورة إنسان حسن الصورة. / (2/75/ب) .

1 القائلون من النصارى إن المسيح نزل في جسم خيالي يُسمون بالمتخيلة (DOCETISTS) وهم عدة مبتدعين منهم:

في القرن الثاني الميلادي: فالنتيوس، وسطرينس، ومركيون، وتاتيانس، وبرديياس.

وفي القرن الثالث الميلادي: ماني.

وفي القرن الرابع الميلادي: أبو ليناريوس.

وفي القرن الخامس الميلادي: أوطاخي (أفتيخوس) - رئيس دير بضواحي القسطنطينية وقد استمرت بدعته إلى القرن السادس فاعتنقها يولياناس الخيالي. (ر: موجز تاريخ المسيحية ص 308، 309، يسطس، قصة الحضارة 11/294) .

ويوليانس هو الذي تنسب إليه طائفة الإليانية، وأتباعها قوم من فرقة اليعقوبية وهم بالشام واليمن وأرمينيا.

(ر: الملل والنحل 1/227، للشهرستاني، الجواب الصحيح ظ/ 23، وهداية الحياري ص 335) .

2 في ص، م (حمارا أو كلباً أو حيوانا) والصواب ما أثبتّه.

3 لعل خطأ قد وقع من الناسخ في هذه الكلمة. وتصحيحها كالآتي: "إن مريم لم تلد إلهاً وإنما ولدت جسداً". وهذه مقالة النسطورية من فرق النصارى. وقد تقدم التعريف بها. ر: ص: 486.

4 هذه مقالة فرقة الملكية (الكاثوليك) من النصارى. وقد تقدم التعريف بها. ب: ص: 483.

ص: 605

ومن النصارى فرقة تسمى القافرونية تزعم أنّ أورشليم ليست بيت المقدس، وإنما هي قافرون بأفرنجة. ويزعمون أن المسيح ترائى لهم في تلك المدينة وهو يتّخذون القسيسين من النساء1.

ومن النصارى فرقة تعرف بالمريمية يزعمون أن مريم حين ولدت المسيح لم تكن عذراء وأنهاكانت ولدت قبله عدةأولاد من يوسف2.

1 ظهر في منتصف القرن الثاني الميلادي في مدينة (فريجيه) بآسيا الصغرى، رجل يدعى (مونتانوس) وهو كاهن وثني متنصر. ادّعى أنه نبي مسيحي. وزعم أن (فريجيه) مقر أورشليم الجديد. وأن لديه رسالة جديدة من الروح القدس. ونادى بتحريم الزواج. ووضع قوانين للصوم، ويزعم أتباعه بأن المرأتين اللتين اتبعتا مونتايوس - وهما مكسيميلا وبريسكلا وكانتا متزوجتين فتركا زوجيهما وتتلمذتا عليه - نبيّتان له وأصبحت عذراوين في كنيسته. وتسمى هذه الفرقة بـ:(المونتانية MONTANISM) . (ر: تاريخ الكنيسة ص 261-271، يوسابيوس القيصري، فجر المسيحية ص 121، 122، حبيب سعيد، قصة الحضارة 11/293، 294) .

2 يذكر المقص زكريا إبراهيم: "أن هذه الفرقة ظهرت في القرن الخامس الميلادي. وكان أصحاب هذه البدعة من الوثنيين الذين اعتنقوا المسيحية. وكانوا في وثنيتهم يعبدون الزهرة ويقولون عنها ملكة السماء. وعندما اعتنقوا المسيحية حالوا التقريب بين ما كانوا يعبدون وبين العقيدة المسيحية. فاعتبروا (مريم) ملكة النساء أو إلهة النساء بدلاً من الزهرة ولذلك أطلقوا على أنفسهم اسم (المريميين) " اهـ. (ر: الله واحد في الثالوث المقدس ص 41) .

وقد ذكر ابن البطريق هذه الطائفة في كتابه: (نظم الجوهر) ونقله عنه ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/22، وابن القيم في هداية الحياري ص 321، والمقريزي في خططه 3/524. وقد ذكرها ابن حزم باسم (البربرانية) وبأنها قد بادت. (الفصل في الملل والنحل 1/110) .

وقد ردّ الله عزوجل على هذه الطائفة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة، الآية: 116] .

ومع أن النصارى يقولون بانقراض هذه الفرقة وأن الكنيسة لا تعترف بألوهية مريم وتؤمن بأن العذراء مريم إنسانة بشرية. (ر: الله واحد في الثالوث ص 42) . إلاّ أن تقديس النصارى لمريم جاء في مجمع أفسس الأوّل سنة 431م، الذي وضع مقدمة قانون الإيمان كالآتي:"نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء المقدسة والدة الإله". ويؤكّده أيضاً ما جاء في أوامر الكنيسة وتعاليمها بالتوجه والدعاء إلى مريم. وأن تختم الصلاة الربانية عندهم بالصلاة المريمية عشرين مرة. (ر: الإنجيل الصليب ص 125، 126، للمهتدي عبد الأحد داود. المسيحية في العصور الوسطى ص 44 جاد المنفلوطي) .

ص: 606

ومن النصارى فرقة تخالف سائرهم في أمرين: أحدهما تقول: إن مُلكَ المسيح على الأرض لا غير. والآخر يقول: إن في الجنة طعاماً وشراباً لكنه لا يبقى أكثر من ألف سنة1.

ومن النصارى فرقة لا يدخلون الكنائس إلاّ عراة ويحرمون النكاح2.

ومن النصارى فرقة يعبدون حَيَّة ويعظمونها كتعظيم المسيح3.

ومن النصارى فرقة يزعمون أن المسيح جاء معه بجسد من السماء وجرى من مريم مجرى الماء في الميزاب4.

1 هذه اعتقادات طائفة (الكيرنثيون) وهم أتباع كيرنثوس (CERINTHUS) زعيم الهراطقة. وقال بها من بعد بابياس (ولعلّ اسم (بابياس) قد نقله الشهرستاني محرّفاً إلى (بليارس) . ثم قال بها نيبوس (NEPOS) أحد أساقفة مصر في القرن الثالث الميلادي. (ر: تاريخ الكنيسة ص 157، 158، 177، 371، يوسابيوس، موجز تاريخ المسيحية ص 152، والملل والنحل 1/227 للشهرستاني) .

2 ذكر يوسابيوس: "فرقة باسم (النيقولاويين) نسبة إلى نيقولاوس أحد الشمامسة الذين أقامهم الرسل مع استفانوس لخدمة الفقراء. وأن نيقولاس كانت له زوجة جميلة وعندما اتهمه الرسل بالغيرة والحسد بعد صعود المخلص أخذها ووضعها في وسطهم وسمح لأي واحد أن يتزوج بها. لأنه يقال إن هذا كان يتفق مع القول المعروف عنه أن المرء يجب أن يذل جسده. أما الذين اتبعوا هرطقته وقلدوا بحماقة كلّ ما فعله وقاله تقليداً أعمى فإنهم يرتكبون الزنى بلا خجل أو حياء". (ر: تاريخ الكنيسة ص 159) .

3 لا عجب في ذلك فإن أسلافهم اليهود قد عبدوا الحية النحاسية التي ورد ذكرها في التوراة المحرفة سفر العدد 21/9. أن موسى قد صنعها وأقامها على عمود في البرية لكي ينظر إليها بنو إسرائيل الذين لدغتهم الحيات فيشفون. وفي السنين التالية اتّخذها اليهود صنماً يعبدونها إلى أن حطمها نبيّهم حزقيا كما في سفر الملوك الثاني 18/4. وقد زعم النصارى أن تلك الحية النحاسية - المرفوعة على عامود - رمز ونبوءة على صلب المسيح. وأن تلك المقارنة قد وردت في إنجيل يوحنا 3/14، 15.

4 هذه مقالة فالنتيوس (VALENTINUS) الذي ظهر في منتصف القرن الثاني الميلادي. واشتهر في روما في عهد هيجينوس أسقف روما. وأسس شيعة تنتمي له. وقال أبيفانوس عنه: "إنه ولد في مصر ودرس الآدب اليونانية في الإسكندرية". ر: تاريخ الكنيسة ص194،195،يوسابيوس، موجز تاريخ المسيحية ص152، 308) .

وقد ذكر مقالته تلك ابن البطريق في نظم (الجوهر) ونسبها إلى اليان (يوليانس) الذي كان في القرن السادس الميلادي. ونقل ذلك عن ابن البطريق عدد من العلماء منهم ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/23، وابن القيم في هداية ص 323، والمقريزي في الخطط 3/524.

ص: 607

ومن النصارى فرقة تعرف بالوغانية ينكرون إنجيل يوحنا التلميذ لا يعترفون به ألبتة ويقولون: ليس المسيح إلهاً غير أنا قد أمرنا بعبادته1.

ومن النصارى / (2/76/أ) فرقة تقول: "إن المسيح من الأب بمنْزلة شعلة نار أخذت من شعلة نار لم تنقص بالأخذ"2. وقد بقيت من النصارى فرق لو ذكرناها لأطلنا وخرجنا عن شرطنا في الاختصار وقد ذكر العلماء أن عدّة فرق النصارى اثنتنان وسبعون فرقة.

71-

فضيحة أخرى: ترك طوائف من النصارى أكل اللحم في صيامهم وحرموه، وذلك مما أحدثوه بالرأي بعد المسيح وتلاميذه. فانتحلوا مذهب المانوية أصحاب ماني3 الزنديق. قال الشاعر في المانوية:

تركنا اللحم للإفلاس والقلة والضيق فقالوا منويين بقول غير تحقيق

ولو مَرَّ بنا ماني أكلناه على الريق

1 ورد أن فرقة (الوحين) التي كانت في القرن الثاني الميلادي تنكر إنجيل يوحنا وجميع تصانيفه. وقد سبق لنا في التعليق على إنجيل يوحنا ص 113 ذكر بعض الذين أنكروا هذا الإنجيل. (ر: إظهار الحق ص 90، 100، لرحمة الله) .

2 هذه مقالة (سابليوس) الذي كان رئيس شيعة تنسب إليه باسم (السابلية) في روما أثناء أسقفية زفيرينوس (198-217م) . (ر: تاريخ الكنيسة ص 349، قصة الحضارة 11/295) .

وقد ذكر مقالته تلك ابن البطريق في (نظم الجوهر) ونقلها عنه علماء المسلمين منهم: الإمام ابن تيمية في الجواب الصحيح 3/23، وابن القيم في هداية ص 323، والمقريزي في الخطط /524.

3 ماني الطشقوني: الذي ظهر في أواخر القرن الثالث الميلادي. كان فيلسوفاً من بلاد فارس. حاول إيجاد ديانة توفق بين الديانات الفارسية والبوذية واليهودية والنصرانية. وادّعى بأنه المسيح المنتظر وقد رحب به سابور الأوّل ملك الفرس في بداية الأمر. ولكن كهنة المجوس ثاروا ضده فاضطر إلى الهرب. ولما عاد تبعه جمع كثير. ولكن الملك فاراسن الأوّل حكم عليه بالإعلام سنة 276م. وقد انتشرت شيعته التي نسبت إليه باسم المانيكيين (MANICHEANS) في غربي آسيا وشمالي أفريقيا ونظريتها الأساسية الاتعقاد بوجود إلهين: إله للخير (النور) وإله للشّرّ (الظلمة) . (ر: تاريخ الكنيسة ص 386، موجز تاريخ المسيحية ص 154-156، قصة الحضارة 11/295) .

ص: 608

وبعد، فقد أكل الأنبياء والنجباء من عباد الله اللحم واغتذوا به فلو كان لذلك أصل لكان مذكوراً في نبواتهم ومأثوراً عنهم.

72-

فضيحة أخرى: جوَّز النصارى على الباري تعالى النّزول والصعود والحركة والسكون وتلك أدلة حدث العالم عند المحقِّقين1. فإذا وصفوا الباري بذلك / (2/76/ب) فقد أبطلوا الدلالة على حدث العالم وذلك يمنع من إثبات الصانع. فكأنهم يحاولون إثبات الروبية بما يستدعي نفيها وإبطالها2.

73-

فضيحة أخرى عظيمة: أكل النصارى لحوم الخنازير وأحلوه وذلك مما أحدثوه بعد المسيح وقد رفع الله المسيح وإن الخنْزير لحرام. فراغموا التوراة والإنجيل. أما التوراة فقال الله فيها: "الخنْزير حرام عليكم فلا تأكلوه"3.

1 قلت: تلك أدلة حدث العالم عند الفلاسفة ومن تابعهم من المعتزلة والأشاعرة. وفي ذلك يقول الإمام ابن تيمية: "وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم، فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال بإثبات الأعراض أوّلاً، وإثبات حدوثها ثانياً. وبيان استحالة خلوّ الجواهر عنها ثالثاً. وبيان استحالة حوادث لا أوّل لا رابعاً. وقد وافقهم عليها أكثر الأشعرية وغيرهم. وهذه هي التي ذمّها الأشعري وبيّن أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم". اهـ.

(ر: درء تعارض العقل والنقل 1/38-41، 7/223-232 لابن تيمية، رسالة إلى أهل الثغر، ص 178-187، لأبي الحسن الأشعري، وللتوسع في الرّدّ على تلك الأدلة، مجموع الفتاوى 6/49، 50، 247-302، لابن تيمية) .

والفرق ظاهر بين إثبات النصارى لتلك الصفات وبين إثبات المسلمين. فإثبات النصارى إثبات تجسيم لإلههم المجسم المُحدث وهو المسيح بزعمهم. وهو الضلال بعينه. أما إثبات المسلمين لصفات الله عزوجل فمبني على الوحي والنقل الصحيح من غير تشبيه أو تمثيل أو تكييف أو تعطيل. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ولا يحيطون به علماً. وقدتقدم بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك. ر: ص:90،91.

2 ليست في (م) .

3 لاويين 11/7، 8.

ص: 609

وهذا نصّ لا يحتمل التأويل.

وأما الإنجيل فقد حكى مرقس في إنجيله: "إن المسيح أتلف الخنْزير وغرق منهم في البحر قطيعاً كبيراً"1. وقال لتلاميذه: "لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قُدَّام الخنازير"2. فقرنها بالكلاب فمن أحلّ الخنْزير قد كفر بموسى والمسيح. فإن قالوا: إن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء فيها صور الحيوانات وصور الخنْزير وقيل له: يا بطرس كلّ منها ما أحببت"3.

قلنا لهم: الشرايع والأحكام لا تنسخ بالمنام والأحلام ونحن نحاشي بطرس أن يخالف التوراة والإنجيل / (2/77/أ) بمنام رآه. والتوريك على من نقل ذلك عنه أولى من رفع القواعد الثابتة بالرؤيا والأحلام.

74-

فضيحة أخرى: اعترض النصارى على قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نُوحِي إِلِيهِم فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} . [سورة النحل، الآية: 43] . قالوا: إنما عنى بأهل الذكر حملة التوراة والكتب العتيقة. وقد قال أهل الذكر: إن الله قد بعث أنبياء من النساء منهن مريم أخت موسى وخلدي ورفقا وأستار.

فافتضح النصارى لما حققوا جريان الآية على سبب وهو أن مشركي العرب أَنِفَتْ أن يأتيها برسالة الله رجل منها، وودَّت أن لو كان الرسول إليهم مَلَكاً من ملائكة السماء، فقالوا ما أخبر الله به في كتابه:{وَقَالُوا لَولَا أُنْزِلَ عَلَيهِ مَلَكٌ} . فقال الله: {وَلَو أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْر} 4.

1 مرقس 5/1-14، متى 8/28-32، لوقا 8/26-33.

2 متى 7/6.

3 أعمال الرسل 10/10-16.

4 قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} . [سورة الأنعام، الآية: 8] .

ص: 610

ثم قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً} . ولم نرسل الملائكة بل لم نبعث إلى البشر إلاّ من جنسهم فقل لمن تَعَنّد: فليسأل أهل الكتاب هل بعث الله قط الرسل إلى الناس / (2/77/ب) إلاّ من جنسهم فإنهم سيخبرونهم بصحّة ذلك. والنَّزاع لم يكن بين النبي عليه السلام وبين العرب في إرسال النساء أو الرجال، بل في إرسال الملائكة والآدميين1.

هذا، إن سلمنا ما ادّعوه من نبوة هؤلاء النسوة. ونحن لم نصدّقهم فيما لم تقم عليه حجّة ولا دلّ عليه دليل ولم نتجاوز بهم القدر اللائق بهم والمشهود به على لسان أرميا وأشعيا عليهم السلام من لعنهم وخزيهم ومقتهم ولنا في ذلك أسوة حسنة بمن تقدمنا من أنبياء الله. فقد قال أشعيا فيهم:"عرف الثور من اقتناه، والحمار مربط ربه، ولم يعرف ذلك بنو إسرائيل"2. ومن لا يعرف ربه فالأولى أن لا يعرف نبيّه. ومن جهل المرسل جهل الرسول لا محالة. ومن غلط فأخرج من ديوان النبوة مثل نوح وإبرهيم وإسرائيل فغير عجيب منه إثباتها للنسوة المجاهيل.

1 قال الضحاك عن ابن عباس: "لما بعث الله محمّداً رسولاً أنكرت العرب ذلك. أو من أنكر منهم. وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمّد. قال: فأنزل الله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} . وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعلمون بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} . فاسألوا أهل الذكر: يعني: أهل الكتب الماضية. أبشراً كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمّد رسولاً". أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 14/109. (ر: تفسير البغوي والخازن 4/76، أسباب نزول القرآن ص 285، لأبي الحسن الواحدي، تفسير القرطبي 10/107، تفسير ابن كثير 2/591، الجواب الصحيح 1/337، 38، لابن تيمية) .

2 سفر أشعيا 1/3.

ص: 611

75-

فضيحة أخرى: ترك طوائف من1 النصارى النكاح المباح ورفضوا النساء ولم يروا بالتناسل وإبراز الذرية الصالحة إلى الوجود/ (2/78/أ) هذا شيء لو ما لأهم الناس عليه لانقطع التناسل وانقرض جنس الآدميين. وهذا - فاعلم - مما أحدثوه بعد المسيح وكأنهم [نَحَوْ] فيه نَحْوَ المتفلسفين من الطبائعيين.

فإن تمسكوا بقوله في الإنجيل: "من ترك زوجة من أجلي فإنه يعطي للواحد مائة ضعف ويرث الحياة الدائمة"2.

قلنا: في الفصل كلام أسقطتموه وهو قوله: "من ترك بنين وبنات أو حقولاً فإنه يعطى"3. وذلك مما لا نصححه عن المسيح إذ لا يجوز إجراء هذا الكلام على ظاهره، فإن الفرار عن الأولاد والأطفال وتركهم بلا كافل يكفلهم ومنفق ينفق عليهم مما لا يجوز، ومن نسب المسيح إلى الجهل بذلك فقد كفر بالمسيح.

ثم ذلك على تقدير صحّته معارض بنصّين عن المسيح؛ أحدهما: قوله في جواب الزنادقة الذين جاؤوا متعنتين له: "إن الذي زَوَّجه الله لا يقدر أحد على تفريقه"4.

1 من المعلوم عن النصارى أن الرهبان والقساوسة ورجال الدين في الكنيسة حرموا النكاح المباح على أنفسهم وادّعوا التبتل وهم بذلك قد انحرفوا عن الفطرة الإنسانية مما نتج عنه انحراف أعظم وأخطر حيث انغمس الكثير منهم في الملذات والشهوات المحرمة واتّخذوا العشيقات والسراري. وخاصة البابوات منهم مثل: البابا إسكندر السادس. وتحولت الأديرة والكنائس من دور عبادة وطهر إلى مواخير دعارة ونجاسة - والعياذ بالله - وكتب مؤرخيهم تشهد بذلك. (ر: كتاب تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر لمؤلِّفه ميرل دوبينياه طبع بيروت سنة: 1878م، وقصة الحضارة 12/129-131، 18/84-86، في الباب العشرين من الانحلال الخلقي، كتاب (الديارات للشابشتي) .

وهناك طوائف أخرى من النصارى دعت إلى العزوبة وترك النكاح منهم: المارسينيون أتباع مرسيون الذي ظهر في عام 1410م. والمانوية أتباع ماني. والإنكراتيون أتباع تاتيان، والساويرسيون أتباع ساويروس. (ر: تاريخ الكنيسة ص 227، 228، قصة الحضارة 11/292-295) .

2 متى 19/29، مرقس 10/29.

3 متى 19/29، مرقس 10/29.

4 متى 19/3-6، مرقص 10/29.

ص: 612

والآخر: قوله عليه السلام: "إن من طلق زوجته باطلاً فقد عرضها للزنا ومن تزوج بمطلقة فقد زنا بها"1. / (2/78/ب) .

ثم النكاح والتناسل سنّة الأنبياء وخواص الأولياء ودأب النجباء والأقوياء. وقد امتن الله على إبراهيم وإسرائيل وزكريا ومريم وغيرهم بنعمة الأولاد كما هو مزبور مذكور في كتبهم. ومن رغب عن سنة الأنبياء التحق بالأغبياء2. وقد قال فولس في الرسالة الثانية عشرة: "إن القسيس محقوق أن يكون غير ملزم فإنه وكيل الله غير حقود. ولا يستبد برأيه ولا [مجاوزاً] 3 للمقصد4 في الخمر. ولا يسرع بيده إلى الضرب. وأن يكون محباً للغرباء والأعمال الصالحات. وأن يكون عفيفاً باراً ضابطاً لنفسه عن الشهوات. عنياً بالعلم والتعليم. ويكون له زوجة واحدة وبنون صالحون"5.

فمن رفض النكاح ومنع منه فقدخالف من ذكرنامن الأعلام والقدوة.

76-

فضيحة أخرى: مع غلبة الجهل على النصارى فهم أشدّ الناس دعاوى وأوسعهم تخرصاً على الله يزعمون أن فيهم اليوم من يمشي على الماء ويحيى الموت ويفعل العجائب. / (2/79/أ) ويدّعون أن بفارس بيعة لهم كانت على قنة جبل ولها مرتقى صعب وأن واحداً منهم دعا إلهه الذي صلبته اليهود فحطها له من أعلى الجبل حتى جعلها على وجه الأرض.

1 متى 19/9، مرقس 10/11، لوقا 16/18.

2 في م: (التحقق بالأغنياء) .

3 في ص، م (مجاورا) والصواب ما أثبتّه.

4 في م: القصد.

5 رسالته إلى نبطس 1/6-9.

ص: 613

ويزعمون أن كنيسة بالسوس كانت بأعلى تل ولها بئر في أسفله، وأن القَيِّم بالكنيسة كبر وعجز عن النّزول فدعا ربّه المصلوب وتوسل إليه وأقسم عليه بالخشبة التي صلب عليها فرفع البئر إليه، فيدعي ذلك اليعقوبي على النسطوري، والنسطوري على الملكي1.

1 يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: "قد قال بعض الحكماء: هَا هنا ديانات ومقالات تعرف كذب أهلها بأدنى تأمل. منها: النصرانية فإنهم يَدَّعون الآيات لكبرائهم وأنها لا تنقطع في زمان من الأزمنة. وأن الذين أجابوا إلى النصرانية إنما أجابوا بالمعجزات".

ثم يقول القاضي: - "ومن أكبر كيد رؤساء النصارى ادعاء المعجزات لأنفسهم ولأمثالهم ممن سلف من رؤسائهم. والنصارى تقبل ذلك منهم بغير برهان ولا حجّة. فإذا مات ذلك الرئيس من راهب أو قس، قعد راهب وقال: أنا كنت أخدمه فرأيت منه العجائب، فتحموا عليه معشر النصارى وتوسلوا إلى الله به فإنه شاهد فاشهدوا قبره وأكثروا زيارته. فيقول النصارى: يا ربّاني حدّثنا بما رأيت منه فيمتنع ويقول: اعفوني من الشرح. وكلما تمنَّع لَجُّوا في مطالبته. فيقول: قد كان انقطع بنا الزيت في البيعة. وكان لا يطلب الزيت من أحد ولا يدعني أطلبه. فإذا كان الليل أشعل القنديل وقام إلى جرة فيها خلّ فيصبه في القنديل فيصير من ساعته زيتاً. فيصطبح به كذا وكذا شهراً. - ثم يذكر القاضي أمثلة أخرى من تلك المعجزات التي يدعيها النصارى لرهبانهم ورءسائهم، مثل: إحياء الموتى وفعل الخوارق.

ثم يقول: - "فيصدق النصارى الرهبان فيما يدعونه ويكتبونه عنهم. ويجعلون له عيداً وذكراناً فيقولون: هذا ذكران جورجس وهذا ذكران مرقس، وهكذا. وهذا أصله ومخرجه وأوّله. فإذا تَخَلَّد وانبث ومرت عليه الدهور وأتت عليه الأعصار، ادعوا أنه شيء كان أصله بمشاهدة الأمم. لأن الكذب فيما تقادم عهده أمكن. وإنما يجعلون له كراناً وعيداً ويوماً بعينه لتتم الحيلة فيه. وليظن من يسمع أنه ما جعل له عيد ويوم معلعوم وتاريخ محدود مؤقت إلاّ هو حقّ. وله أصل ليتأكد الكذب ويتم التمويه. وليتصل البرّ والصّدقات على الرهبان في هذه الأعياد. والفطناء من النصارى يقولون: هذه الآيات والمعجزات إنما هي من احتيالات الجثالقة والرهبان ومن يبغض العمل ويفر من الكَدِّ. ويسمونهم بلغتهم السريانية: (عازق معناثا) معناه: أنه ترهب ولزم الدين ليأكل من غير ماله ويستريح من الكد". اهـ. (ر: تثبيت دلائل النبوة 1/175، 202-209، بتصرف) .

ص: 614

77-

فضيحة أخرى: النصارى أنزل الناس لما في كتبهم ولما نصّ عليه المسيح من التواضع واللطف والإيثار؛ وذلك أن القتال لم يكن من سنة المسيح ولا من طريق تلاميذه الذين صحبوه. بل كان مذهبهم الذي جاء به المسيح الاستسلام إذا عجزوا والعفو إذا قدروا. وهم الذين رووا عنه في الإنجيل: "من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر. ومن نازعك ثوبك فزده رداءك، ومن سَخَّرك مِيلاً فامض معه/ (2/79/ب) اثنين"1. وهم الذين حكوا عنه في الإنجيل: "أحبوا مبغضيكم، وصلوا على لاعنيكم، وأعطوا من حرمكم، وصلوا من قطعكم، وأحسنوا إلى من أساء إليكم"2.

وقالت أوائلهم: لو أراد المسيح نصب الحروب لم يستسلم فنحن لا نخالف سيدنا المسيح.

وقد قال المسيح: "طوبى للذين يرحمون وأن الرحمة تكون لهم، طوبى للذين يصلحون بين الناس، أولئك أصفياء الله ونور بني آدم"3.

فهم مع كونهم يروون ذلك عن المسيح أنزل الناس له وأبعدهم منه. وقد قال فولس في الرسالة الحادية عشرة: "اهرب من جميع الشهوات، وَاسْعَ للرّبّ وللإيمان والود والسلم. وتنكب المنازعات فإنها تولد القتال، وليس يحل لعبد

1 متى 5/39، لوقا 6/29.

2 متى 5/44، 6/27، 28.

3 متى 5/7-10.

ص: 615

من عبيد الله أن يقاتل"1. فأمر فولس بترك ما يؤدي إلى القتال سداً للذريعة، فكيف خالفه النصارى وشرعوا الحروب وسفكوا الدماء الحرام؟ "2.

78-

فضيحة أخرى: أخصت الحبشة من النصارى أولادهم وكذلك بعض الروم. / (2/80/أ) والخصي أشدّ المثلة وأفظع الذنوب. ثم هم يفعلون ذلك بأطفال لا دفاع عندهم. وتلك قسوة عظيمة وغلظة جسيمة. وقد قال المسيح عليه السلام: "طوبى للرحماء"3. ثم هم يخصونهم ويبيعونهم فيأكلون أثمانهم وهذه مَعَرَّة لو وافقتهم عليها الناس لذهب بنو آدم ومُحي جنس البشر. ثم هم يتصوفون في وجوههم ولحاهم بالحلق والنتف والكشط فيصيرون مع عوج ألسنتهم أسمج شيء خلق الله. وهذه كتب الأنبياء لم تأمر بشيء من هذا الجنس4.

79-

فضيحة أخرى: ليس بين النصارى شيء من الأحكام والفرائض والسنن والمحتاج إليها في المعاملات والمناكحات، والأناجيل التي بأيديهم ليس فيها سوى مواعظ ووصايا قد خلطت بكفر صريح وأكاذيب كثيرة لم يصدقهم عليها أحد من الأمم. وأكثر ما يفزعون إلى أحكام المسلمين لخلو أكابرهم عن معرفة الحلال والحرام. وأي شيء استحسنوه بعقولهم شَرَّعوه وحكموا به فمن نازعهم من (2/80/ب) أهل ملتهم أحرموه ومنعوه من دخول الكنائس فيحكمون فيهم

1 رسالته إلى تيموثاوس 2/22-24.

2 وردت في الأناجيل ثلاثة نصوص تشير إلى القتال وهي:

أحدها في إنجيل متى 10/34، كالآتي:"لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً. فإني جئت لأفرق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضدّ أمها والكِنة ضدّ حماتها". ثم تكرر هذا النّصّ في إنجيل لوقا 12/49-50، والنّصّ الثالث ورد أيضاً في لوقا 1927، كالآتي:"أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدّامي". ومع ذلك فإن النصوص الأخرى الكثيرة في الأناجيل - وقد ذكر المؤلِّف بعضها - تطغى على هذه النصوص، وتدعو إلى التسامح والعفو دفع السيئة بالحسنة والمغالاة في المثالية.

3 متى 5/7.

4 بل قد ورد النهي عن الخصي في سفر التثنية 23/1 كالآتي: "لا يدخل مخصي بالرّض أو مجبوب في جماعة الرّبّ".

ص: 616

بأحكام ما أنزل الله بها من سلطان1. قال أبو الطّاهر بن عوف رحمه الله: وليس يشتمل ديوان فقه النصارى على أكثر من خمسمائة مسألة ونيف وليست مأخوذة عن المسيح.

80– فضيحة أخرى: زعم النصارى أن يوحنا أحد مدوّني الإنجيل جلس بأفسس2 بلدة من بلاد الروم يكتب إنجيله فوقع مطر محى بعض ما كتب فغضب يوحنا ورفع وجهه إلى السماء وقال: أما تستتحيي أن تمحو اسم ابن إلهك، قالت النصارى: فلم تمطر تلك القرية من بين سائر البلاد3.

ليت شعري ما طريق تصحيح هذه الدعوى، وهل البلدة اليوم تمطر أم لا؟ وإن كانت قد محلت فهل كان ذلك بسبب غضب يوحنا على ربّه وتخطئته

1 لا عجب إن كانت النصرانية المحرفة من أفقر الديانات تشريعاً وأحكاماً فإن المسيح عليه السلام لم يأتِ بشريعة جديدة. وإنما كان متبعاً لشريعة بني إسرائيل. وقد كانت دعوته لإصلاح وهداية بني إسرائيل الذين ضلوا ولتخفيف بعض الأحكام عليهم. قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام قال: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} . [سورة آل عمران، الآية: 50-51] . وقال المسيح في إنجيل متى 5/17: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل". لذلك كانت الأحكام الواردة في الأناجيل محصورة في أمور محددة في الخطبة التي ألقاها المسيح على الجبل وعرفت بخطبة أو وصية الجبل. (ر: الإصحاحات 5، 6، 7. من إنجيل متى) - وإن كنا لا نسلم بصحّة نسبة جميع ما ورد في الخطبة إلى المسيح - وعندما حرّف النصارى دعوة المسيح عليه السلام فإنهم ابتدعوا عقائد جديدة وعبادات وطقوساً كنسية خالفوا بها شريعة التوراة وتحكموا فيها من خلال المجامع التي يقعدها قساوستهم فيحلون ويحرمون، ويشرعون بما شاؤوا مصداقاً لقول الله تعالى فيهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..} . [سورة التوبة، الآية: 31] .

2 أفسس: كلمة يونانية معناها: (المرغوبة) .وهي مدينة قديمة في آسيا الصغرى على بحر إيحة بتركيا. ويحسب الروايات النصرانية فإن يوحنا قام فيها في السنوات الأخيرة في حياته. كما وجه إليها بولس إحدى رسائله. وعقد فيها المجمع المسكوني الثالث عام 431م. (ر: قاموس ص 92، 93، المنجد في الأعلام ص 54) .

3 لقد زرت مدينة أفسس في شتاء عام 1407هـ الموافق 1987م. وكان المطر يهطل فيها بغزارة، وقد وقفت أيضاً في هذه المدينة على قبر يزعمون أن الحواري يوحنا قد دفن فيه.

ص: 617

لخالقه أم لا؟ وبعد فلعلّ في بلاد الله بلاداً وبقاعاً كثيرة لا تمطر وأخرى لا تخلو من المطر.

وقد حكى النصارى أن بين هذه [القرية] 1 وبين القسطنطينية نحواً من ألف فرسخ. وهذا دأبهم فيما يستشهدون به على/ (2/81/أ) أباطيلهم فإنهم يبعدون شاهدهم غاية البعد ليعسر على الممتحن مراجعته، وليت شعري هل كان يعدو أمر ذلك المطر إما أن يكون الله هو الذي ساقه أو مَلَكٌ من قِبَل الله أو سحابة سخرها الله، فإن كان إنما انتهر الغيم والسحاب فهذا سخيف العقل إذ وَبَّخ من لا يعقل ولا يفهم ولا ذنب له. وإن كان إنما وبخ الملك المتولي سوقها فهو جاهل إذ الملك إنما يصدر عن أمر الله تعالى. وإن كان إنما خاطب الله فقد زعم أن لله إلهاً فوقه.

وبالجملة ففي إنجيل يوحنا هذا أمور انفرد بها عن أصحابه ولم يوافقوه عليها، والنصارى يكاتمونا2 اختلافهم ولا يبوحون به لنا؛ لأنه اختلاف في الإله نفسه وليس هو في الفروع فيغتفر.

81-

فضيحة أخرى: قال النصارى: إن المسيح لم يتكلم في المهد ولم ينطق ببراءة أمه مريم صغيراً، بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار وتحكم بأنه ولد زنا. فلزم على سياق قولهم أنه لم تلقَ أُمٌّ بسبب ولدها من الشّرّ ما لقيت مريم من المسيح؛ لأنه فضحها وهتك سترها ودعا / (2/81/ب) إلى رميها3 بالزنا ولم يدفع عنها بحجّة تقطع شغب اليهود وهو قادر على ذلك. ثم إنه كَلَّفها عبادته فأوجب عليها الصوم والصلاة وألزمها ترك الشهوات ومخالفة الهوى فهي ملتزمة

1 في م، ص (الفرقة) والتصويب من المحقِّق.

2 في م: يكاتمون.

3 في م: خرمها.

ص: 618

لذلك إما خوفاً من عقابة أو رجاءً لثوابه. ثم قضى عليها الموت وجَرَّت غصصه1 وسلط عل جسدها البلى. وهذا شيء لم يُعرف في بِرِّ الأولاد وما سمعنا بعاقٍ بلغ هذا المبلغ من أمه. فبمقتضى قولهم إنه كان مشؤوماً عليها والله تعالى يقول في حقِّه: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنْتُ} - إلى قوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} 2.

82-

فضيحة أخرى: ربما عَرَّضَ بعض النصارى بردة ابن أبي السرح3 عن الإسلام. وقال: كيف يكون نبيّاً يوحي إليه ولا يعلم بحال من يرشحه ويختاره لكتابة الوحي. فيقال له: يا أخرق، النبيّ لا يعلم من المغيّبات إلاّ القدر الذي أعلمه الله به وكونه لا يعلم بفساد نية من يصحبه لا يقدح ذلك في نبوّته. فإن أبيت إلاّ القول بذلك فارغب بنفسك عن اتّباع المسيح؛ فإنك رويت وروى أصحابك وأهل دينك أن المسيح/ (2/82/أ) اختار رجلاً من تلاميذه الاثني عشر الذين شهد لهم بإدانة بني إسرائيل يوم القيامة وَوَلاّه صندوق مال الصدقات وقدمه على غيره من أصحابه ورشحه لأمانته وهو يهوذا

1 في م: غصه.

2 قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاًً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} . [سورة مريم، الآية:31-32] .

3 هو: عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري رضي الله عنه. أسلم قبل الفتح. وكان من كُتَّاب الوحي. ثم ارتد فأهدر النبيّ صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح. فاستجار له عثمان بن عفان - أخوه من الرضاعة - فعاد مسلماً. وكان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر. ثم ولي مصر في عهد عثمان رضي الله عنه. ولما وقعت الفتنة سكن عسقلان ولم يبايع عليّاً ولا معاوية. ومات سنة 59هـ. في آخر عهد معاوية. وقال الذهبي: "الأصح وفاته في خلافة عليّ رضي الله عنهم جميعاً". (ر: ترجمته في: الإصابة 4/77، سير أعلام النبلاء 3/33-35) .

ص: 619

الأسخريوطي - كفر وفجر وواطأ اليهود على المسيح وارتشى منهم على المسيح ثلاثين درهماً وزاد على ابن أبي السرح بأن قتل نفسه كافراً. فأما ابن أبي السرح فإنه راجع الإسلام ومات مؤمناً1.

فإذا كُفْر من كَفَر من أتباع النبيّ لا يقدح في نبوته بدليل أن اليهود كفروا بعد موسى في حياته عبدوا العجل. ولم يقدح ذلك في نبوة موسى وصحّة رسالته.

83-

فضيحة أخرى: عاب النصارى قول ربّنا: {وَلَو شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} . [سورة السجدة، الآية: 13]2. ونظائرها في إثبات الخير والشّرّ من الله تعالى3. وقالوا: لا يفعل

1 حديث إسلام عبد الله بن سعد بن أبي السرح بعد ردته رواه ابن إسحاق معلقاً. (ر: السيرة لابن هشام 4/73) . وأخرجه وأبو داود 3/133، 134، والنسائي في كتاب الحدود. (ر: صحيح النسائي للألباني 3/852) . والحاكم 3/45، وأبو يعلى في مسنده 1/216، كلهم من طريق أحمد بن المفضل ثنا أسباط بن نصر. قال: زعم السدي عن مصعب بن سعد عن سعد قال:

فذكره في سياق طويل.

قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.

قال الشيخ الألباني: "إلاّ أن أسباط بن نصر وأحمد بن المفضل قد تكلم فيهما بعض الأئمة من جهة حفظهما. لكن الحديث له شاهد يتقوى به يرويه نافع أبو غالب عن أنس رضي الله عنه. أخرجه أبو داود. (ح 3194، وأحمد 3/151، بسند حسن. فالحديث بهذا الشاهد صحيح إن شاء الله تعالى". اهـ. (ر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/300 ح 1723) .

2 وكقوله تعالى: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

} . [سورة النساء، الآية: 78] . وغيرهما من الآيات في سورة الأنعام: 39، 125، والإنسان: 30، والتكوير:29.

3 دلت النصوص الشرعية على نفي نسبة الشّرّ إلى الله تعالى. وأنه لا ينسب إليه عزوجل إلاّ الخير. فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [سورة آل عمران، الآية: 26] .

وقال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربّه دعاء الاستفتاح -: "لبيك سعديك والخير في يديك. والشّرّ ليس إليك. تباركت وتعاليت". أخرجه مسلم 1/534. وهذا يدل على أن الشّرّ لا يضاف إلى الله تعالى ولا وصفاً ولا فعلاً ولا يتسمّى باسمه بوجه من الوجوه. بل يدخل في مفعولاته ومخلوقاته. والله سبحانه لا يوصف بشيء من مخلوقاته ومفعولاته، وإنما يوصف بفعله وخلقه ولا يجيء في كلام الله تعالى إضافة الشّرّ وحده إلى الله. بل لا يذكر الشّرّ إلاّ على أحد وجوه ثلاثة:

ص: 620

الله سوى الخير المحض. فأما الشّرّ فهو من الشيطان لا من الله. فالتزموا مذهب الثنوية1 القائلين بأن الخير من النور، وأن الشّرّ من الظلمة. فلزمهم

1- إما أن يدخل في عموم مخلوقاته ومفعولاته، فإنه إذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق، وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم كقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . [سورة الزمر، الآية: 62] . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . [سورة البقرة، الآية: 284] .

2-

وإما أن يحذف فاعل الشّرّ كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} . [سورة الجن، الآية: 10] .

3-

وإما أن يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل عليه السلام: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . [سورة الشورى، الآية: 78-80] .

فلم يسند الخليل عليه السلام الأمراض إلى الله تعالى بل أسند المرض إلى نفسه التي هي محل المرض.

وإنما كان الشّرّ شرّاً لانقطاع نسبته إلى الله تعالى. لأنه إن أريد بالشّرّ وضع الشيء في غير موضعه فهو الظلم والله منَزَّه عنه. وإن أريد بالشّرّ الأذى اللاحق بالمحل بسب ذنب ارتكبه فإيجاد الله العقوبة على ذنب لا يعد ذلك شرّاً بالنسبة له بل ذلك عدل منه تعالى. وإن أريد بالشّرّ عدم الخير وأسبابه الموصلة إليه فالعدم ليس فعلاً حتى ينسب إلى الله. وليس للعبد على الله أن يوفقه. فهذا فضله يؤتيه من يشاء. ومنع الفضل ليس بظلم ولا شر.

يقول الإمام ابن القيم: "وأسماء الله الحسنى مثل القدوس والسلام تمنع نسبة الشّرّ والسوء والظلم إليه مع أنه سبحانه الخالق لكلّ شيء. فهو الخالق للعباد وأفعالهم. والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشّرّ والسوء. والرّبّ - تعالى - هو الذي جعله فاعلاً لذلك. وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب. فَجَعَلُه العبدَ فاعلاً خيرٌ وحسنٌ. والمفعول شرّ وقبيح. فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها فهو خير وحكمة ومصلحة. وإن كان وقوعه من العبد عيباً ونقصاً وشرّاً". اهـ. (ر: مجموعة الرسائل الكبرى 1/336، 337، لابن تيمية، وشفاء العليل ص 359-363، 436، 527-531، لابن القيم، وشرح العقيدة الطحاوية ص 283-286، لابن أبي العز الحنفي، لوامع الأنوار 1/341-343، للسفاريني، الحكمة والتعليل ص 199-204، د. محمّد المدخلي) . 1 الثنوية: هم طائفة من المجوس الذين أثبتوا أصلين اثنين، مدبرين قديمين، يقتسمان الخير والشر. والنفع والضر، يسمون أحدهما:(النور) وبالفارسية (يزدان) . والثاني (الظلمة) وبالفارسية أهرمن، ويزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان بخلاف المجوس الأصليين القائلين بحدوث الظلام. (ر: الفهرست ص 442-474، لابن النديم. الملل والنحل 1/132-244) .

ص: 621

أن يكون مراد الله أقلّ وقوعاً وأن إرادة الشيطان أنفذ من إرادة الباري./ (2/82/ب) وكذلك يلزمهم من عزو الشرور إلى النفوس ممن ينكر وجود الشياطين من اليهود وغيرهم - أن يكون سلطان النفوس أنفذ من سلطان الله.

ولو عقل النصارى واليهود لعرفوا في كتبهم ما أنكروا علينا إذ هو مسطور في صحفهم ولكن لا يهتدون إليه سبيلاً. قال الله تعالى في التوراة لموسى: "امض إلى فرعون وقل له: أرسل شعبي يعبدني وأنا أقسي قلب فرعون فلا يرسلهم"1. ثم قالت التوراة عقيب كلّ آية صنعها موسى بحضرة فرعون: "وقسى الله قلب فرعون فلم يؤمن كما قال الرّبّ"2. هذا تصريح من الله لا جمجمة3 بأنه سبحانه هو الذي يقذف في قلبه القسوة والكفر وهذا بعينه هو قول المسلمين أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ ولأنه تعالى لو أراد هداية فرعون لشرح صدره للإيمان ولم يقس قلبه كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرْدِ الله أَنْ يَهْدِيَه يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرْد أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} . [سورة الأنعام، الآية: 125] .

ولما أخرج الصاع من رَحْلِ بنيامين جزع إخوته / (2/83/أ) وقالوا: من عند الله نزلت هذه الخطيئة. كما نطقت به التوراة4. وهذا دليل على أنهم كانوا يعتقدون صدور الخير والشّرّ من الله تعالى. وهذا الجنس في التوراة كثير. وقال5 بلعام بن فعرو - لما قال له الملك: العن لنا بني إسرائيل. فقال: إني لا أستطيع أن أفعل خيراً ولا شرّاً من قبل نفسي وإنما أقول ما أمرني به الرّبّ. ذكرت التوراة6 ذلك.

1 خروج 9/1، 12.

2 خروج 9/12، 10/1، 20.

3 في م: حمه. والجَمْجَمَة: أن لا يبين كلامه وإخفاء الشيء في الصدر. (ر: القاموس ص 1408) .

4 تكوين 44/15، 16، 45/5، 7-8.

5 في م: (وقال بلعام

إلى

ذكرت التوراة ذلك) ساقطة.

6 عدد 22/38، 24/13.

ص: 622

وقد قال المسيح في الإنجيل: "إني لم آت لأعمل بمشيئتي بل بمشيئة من أرسلني"1. وهذا نظير قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُون إِلاّ أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ العَالَمِين} . [سورة التكوير، الآية: 29] .

وقالت التوراة في عدة مواضع: "وقَسَّى الله قلب فرعون فلم يرسل بني إسرائيل"2. وذلك نظير قوله: {وَإِذ يُرِيكُمُوهُم إِذِ التَقَيتُم فِي أَعْيُنِكُم قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُم فِي أَعْيُنِهُم لِيَقْضِي الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . [سورة الأنفال، الآية: 44] . وضرب المسيح مثلاً في الإنجيل: "فقال: إن ملكاً عمل وليمة ودعا إليها أهل مملكته وأمر ألا يتخلف عنها أحد فلما جلس فلم ير إلاّ بعض القوم فقال: المدعوّون كثير والحاضرون قليل"3. فبيّن عليه السلام عموم الدعوة وخصوص الهداية وذلك معنى قوله تعالى: {وَالله يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . [سورة يونس، الآية: 25] . فبيّن الله تعالى أن دعاء الأنبياء عموم / (2/83/ب) وهداية الله خصوص. فلا يستنكر قول الإسلام إن الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء. فلم ترد شريعة لم ينْزل كتاب الله إلاّ وهو متضمن ذلك. وبذلك يتحقق أن أصول الشرائع ومقاصدها واحد وإن اختلفت الأحكام التكليفية لاختلاف مصالح المكلفين4.

1 يوحنا 6/38.

2 خروج 10/20.

3 متى 22/1-14، في سياق طويل.

4 قال ابن القيم: "قد اتّفقت رسل الله من أوّلهم إلى آخرهم وكتبه المنَزَّلة عليهم أنه سبحانه يضل من يشاء. وأنه من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأن الهدى والإضلال بيده لا بيد العبد. وأن العبد هو الضال أو المهتدي. فالهداية والإضلال فعله سبحانه وقدره. والاهتداء والإضلال فعل العبد وكسبه. ومراتب الهدى أربعة:

إحدها: الهدي العام وهو هداية كلّ وهو هداية كلّ نفس إلى مصالح معاشها وما يقيمها. وهذا أعم مراتبه.

المرتبة الثانية: هداية الإرشاد والبيان للمكلفين. وهي التي أثبتها الله لرسوله. قال عزوجل: {وإنّك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .

المرتبة الثالثة: هداية التوفيق والإلهام. وتستلزم أمرين: أحدهما: فعل الرّبّ تعالى وهو الهدى. والثاني: فعل العبد وهو الاهتداء. وهو أثر فعله سبحانه فهو الهادي المهتدي. قال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} . وهي التي نفاها الله عن رسوله. قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} .

المرتبة الرابعة: الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة. قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} . (ر: شفاء العليل ص 141-179، باختصار.

ص: 623

84-

فضيحة أخرى: لازمة للنصارى واليهود وهي ما اشتملت عليه كتبهم من الاختلاف والتكاذب وقد ذكرنا فيما تقدم نُبذاً من ذلك ليستدل بها من وقف عليها على قلة ضبطهم لدينهم ولنذكر ها هنا ما وقع في التوراة من التكاذب. فمن ذلك ما وقع في تاريخ عمر آدم وأعمار مشاهير أولاده ففي نسخة من نسخ التوراة: أن آدم عاش مائة وثلاثين سنة ثم ولد على شبهه ولد فسماه شيت1. وفي نسخة أخرى: أنه لم يرزق شيت حتى صار له من العمر مائتان وخمسون سنة2.

وعاش آدم بعد أن ولد له شيت ثمانمائة سنة / (2/84/أ) فولد له بنين وبنات ثم مات. وكان جميع عمر آدم تسعمائة سنة3. وفي نسخة: ألف وثلاثون سنة4.

1 اتفقت النسختان العبرية والسامرية على ذلك. (ر: سفر التكوين 5/3) .

2 الصواب: أنه لم يرزق شيت حتى صار له من العمر مائتان وثلاثون سنة. وقد ورد ذلك في النسخة اليونانية أو السبعينية. (التي قام بترجمها 72 حبراً من اليهود عن النسخة العبرية فيما بين عام 285 ق. م إلى 150 ق. م) وهي النسخة المعتمدة عند النصارى - ما عدا طائفة البروتستانت الحديثة التي تعتمد النسخة العبرية - وهي النسخة المقصودة في كلام الجويني في كتابه: (شفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل ص 33، 34) . حينما يقول: التوراة التي بيد النصارى.

3 اتّفقت النسختان: العبرية والسامرية على ذلك. (ر: تكوين 5/4، 5) .

4 انفردت النسخة اليونانية بذلك.

ص: 624

ثم عاش شيت مائة وخمس [سنوات] 1 فولد له أنوش. وعاش من بعد ما ولد له أنوش تسعمائة واثنتي عشرة سنة ثم مات2. وفي نسخة تسعمائة وسبع سنين3. ثم رأيت هذا التناقض التكذيب جارياً في أعمار مشاهير أولاد آدم إلى نوح عليه السلام4. فلم تكد نسخة توافق أخرى وإذا كان هذا ضبطهم للتوراة وهي أُسُّ دينهم فكيف يوثق بهم فيما عداها؟.

1 في ص، م (سنة) والصواب ما أثبتّه.

2 اتّفقت النسختان: العبرية والسامرية على ذلك. (ر: تكوين 5/6-8) .

3 انفردت النسخة اليونانية بذلك.

4 يعترف مفسرو العهد القديم بوقوع الأغلاط في ذلك فقد ورد في السنن القويم 1/69، 70، ما نصّه:"إن معرفة حقيقة الأعداء في التوراة صعبة جدّاً. لأن الأسلوب العبراني في ضبط الأعداد كان بأحرف يضم بعضها إلى بعض. وإذ لم يكن لمجموعها معنى سهل تغييرها بلا قصد. ولذلك اختلف أعداد المواليد في العبرانية والسامرية والسبعينية. فالوقت بين طرد آدم من الجنة إلى الطوفان 1586 سنة بمقتضى العبرانية. و1307 سنة بمقتضى السامرية. و2262 بمقتضى السبعينية. على أنّ الثلاث تتفق على مدد أعمار الآباء. والظاهر أنه لا يوثق بأعداد السبعينية. وأما أعداد السامرية فتقرب من أعداد العبرانية". اهـ. وورد في تفسير (هنري وإسكات) جدول كتب فيه في مقابل اسم كلّ شخص سنة ولادة ابنه الذي يليه في الجدول. وكتب في مقابلة اسم نوح عليه السلام سنوات عمره وقت حدوث الطوفان. والجدول كالآتي:

الاسم

عدد السنوات في النسخة

العبرية

السامرية

اليونانية

آدم عليه السلام

130

130

230

شيت عليه السلام

105

105

205

أنوش

90

90

190

قينان

70

70

170

مهللئيل

65

65

165

يارد

162

62

262

أخنوخ

65

65

165

متوشالح

187

67

187

لامك

182

53

188

نوح عليه السلام

600

600

600

1586

1307

2262

كما ورد في نفس تفسير هنري وإسكات: "أن أكستائن كان يقول: إن اليهود قد حرفوا النسخة العبرانية في بيان زمان الأكابر الذي قبل زمن الطوفان وبعده إلى زمن موسى عليه السلام. وفعلوا هذا الأمر لتصير الترجمة اليونانية غير معتبرة. ولعناد الدين المسيحي. وكان قدماء المسيحيين يقولون: إن اليهود حرفوا التوراة في سنة مائة وثلاثين بعد الميلاد. وكان هيلز وكني كات يقولان بذلك أيضاً.

(ر: للتوسع إظهار الحقّ ص 205-208، 262، الفصل 1/122-124، لابن حزم شفاء الغليل ص 33-38، للجويني، أدلة اليقين ص 156-160، للجزيري. دراسة الكتب المقدسة ص 40-50 موريس بوكاي) .

ص: 625

وليس يمكن إضافة هذا التحريف إلى سواهم فإن التوراة لم ينقلها من اللسان السرياني إلى غيره إلاّ اليهود وذلك يشعر بتهاونهم بأمور دينهم وإلاّ فكيف يحسن أن يخبر عن شخص أن عمره مائة سنة. وأن عمر خمسين سنة ويكون الخبران صدقاً.

وإذا كان هذا تحريفهم لما لا يتعلق به غرض ظنك بتحريفهم لما يتحققون به الدلالة على نقض أصولهم وذلك من مرغوبات النفس وحبّ الانتصار والتعصب القاضي بعمي البصيرة. ولن يتخلص من ذلك إلاّ موق قد / (2/84/ب) أعانه الله على قمع هواه وجعل الحق مطلوبه والانقياد إليه مراده ومقصوده. فهو ينقاد إليه حيث دعاه لَبّاه ولو على لسان عدوّه وبذلك وعد الله تعالى فقال عزوجل من قائل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى} . [سورة النازعات، الآية: 40-41] .

85-

فضيحة أخرى: زعم النصارى أن المسيح أراد بقتل نفسه تطهيرهم من خطاياهم. فيقال لهم: تطهير من آمن به واتّبعه أو تطيره من كفر به وخالفه؟! فإن قالوا: تطهير من كفر به.

قلنا لهم: كيف يطهرهم من خطاياهم بأعظم من خطاياهم. وما هذا إلاّ بمثابة من غسل البول بالعذرة يريد تطهيره فإنه لا يزيد المحل إلاّ نجاسة. وعلى هذا ينبغي أن يكون اليهود الذين قتلوه

ص: 626

وصلبوه والأسخريوطي الذي نَمَّ عليه ونمرود وفرعون قد طهروا من خطاياهم وكذلك الهنود والمجوس وكلّ كافر على وجه البسيطة.

وإن قالوا: إنما أراد تطهير من آمن به واتّبعه. قلنا: فكيف تكون معصية العدوّ طهرةً لولي؟ وإنما يُطَهِّر / (2/85/أ) الإنسان عملُه الصالح وتوبته الصادقة دون كُفْر من كَفَر. ثم إن كانوا قد آمنوا بالمسيح فإيمانهم يطهِّرهم فلا حاجة إلى قتل المسيح وصلبه.

وإن قالوا: إنما أراد تطهير الحواريين. فيقال: وما هذا الذنب الذي لا يظهره إلاّ قتل الله وصلبه؟!

، وينبغي أن يكون [الحواريون] 1 شرار خلق الله؛ إذ كان لا يطهرهم إلاّ هذا القتل2 الذي لا يشابهه قتل3. فليت شعري أَيُّ ذنب لقوم هو عند النصارى خير من جبريل وميكائيل وسائر النبيين والمرسلين؟!.

وإن قالوا: إنما أراد بتسليمه نفسه ليتهذّب الخَلْق و [يتعلموا] 4 الصبر على الشدائد والمحن ولا يضطربوا تحت مجاري الأقدار ليفوزوا بأجور الصابرين.

قلنا: فإصلاحه لقلوبهم بخلق الصبر فيها والاحتمال مع بقاء جلاله وعظمته كان أليق بالربوبية. فإن كان إلهاً قادراً فهلا أصلح قلوبهم وهذّب نفوسهم من غير أن يتلبس بما وصفتهم من الصفح والضرب والقتل والصلب ليصلحهم.

ثم أيّ صلاح يظهر في العالم بقتله؟ وأيّ فساد زال؟ أليس العالم على ما كان عليه/ (2/85/ب) قبل مجيئه؛ السارق يسرق، والفاسق يفسق، والقاتل يقتل

1 في ص، م:(الحورايين) وهو خطأ. والتصويب من المحقِّق.

2 في ص (الغسل، غسل) والتصويب من م.

3 في ص (الغسل، غسل) والتصويب من م.

4 في ص، م (يتعلمون) والصواب ما أثبتّه.

ص: 627

والظالم يظلم، وأسواق الشرور قائمة وعيون الشياطين عن إغواء الآدميين غير نائمة. بل قد زادت الشرور بما ذكرتم زيادة كثيرة؛ لأن أهل العالم بزعمكم قتلوه وصلبوه ونكلوا به وبتلاميذه الذين هم عندكم أفضل من الأنبياء والمرسلين. فقد تفاقمت الشرور واتسعت بمصرعه دائرة المحذور. وقد كان أهل العالم قبل مجيئه يعبدون الله تعالى، وإن عُبد صنم ففي العقول السليمة مندوحة عن المتابعة عليه. فلما جاء1 هذا الذي زعمتم أنه قتل وصلب عبد مع الله غيره.

وإن كابرتم وقلتم: إن الخطيئة قد ارتفعت بمجيء المسيح وقتله صرتم ضحكة بين العقلاء على أنكم قد تأنستم بإزراء2 العقلاء بكم وتمرنتم على السخرية منكم. ألستم الذين تقرؤون بعد الفطر بجمعتين التسبيحة المشهورة عندكم وهي: "بصلبوت ربّنا يسوع المسيح بطل الموت / (2/86/أ) وانطفأت فِتَنَ الشياطين ودرست آثارها؟ "3.

ألستم تقرؤون يوم الأحد من الصوم التسبيحة المشهورة عندكم وهي: "أن المسيح هو الذي أنقذ رعيته من الفتن والكفر وغلب بصومه الموت والخطيئة؟ "4. ألستم الذين تقرؤون بعد كل قربان: "يا ربّنا يسوع الذي غلب بوجعه الموت الطاغي؟ "5. كذلك قولكم في ثاني جمعة من الفطير: "إن فخرنا إنما هو بالصليب الذي بطل به سلطان الموت. وصرنا إلى الأمل والنجاة بسببه"6.

1 في ص (جاهد) والمثبت في م.

2 في م: بارز.

3 وردت هذه التسابيح بألفاظها في رسالة المهتدي الحسن بن أيوب والتي نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منهما في كتابه: (الجواب الصحيح 3/330) . ووردت كذلك في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتطبب ص 232، 233.

(5) وردت هذه التسابيح بألفاظها في رسالة المهتدي الحسن بن أيوب والتي نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منها في كتابه (الجواب الصحيح 3/330) . ووردت كذلك في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتبب، ص 232، 233.

6 وردت هذه التسابيح بألفاظها في رسالة المهتدي الحسن بن أيوب والتي نقل الإمام ابن تيمية جزءاً كبيراً منها في كتابه (الجواب الصحيح 3/330) . ووردت كذلك في النصيحة الإيمانية للمهتدي نصر بن يحيى المتبب، ص 232، 233.

ص: 628

وفي هذه التسابيح التي لكم ما يضحك من تأملها إذ يحسن منه أن يقول: كيف بطل الموت بصلب المسيح وموته؟. ألسنا نرى الموت فافراً لا يشبع، والشيطان مستمراً على الإضلال والإغراء لا يقلع؟ وأنَّى يغلب الموت من قد مات وغلب. ويقهر الشيطان من قد قهر وصلب؟!!.

87-

فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في الصلاة الأولى وهي التي يسمونها صلاة السحر وصلاة الفجر1.: "تعالوا نسجد ونتضرع للمسيح إلهنا أيها الرّبّ

1 يزعم النصارى أن الصلوات المفروضة عليهم في كلّ يوم سبع صلوات كما ورد في مزمور 118/164، وكما جاء في كتاب قوانين الرسل وابن العسال. وإن كان الكثيرون منهم يرون أن الانتظام في الصلاة توجيه اختياري لا إجباري. وتنقسم الصلاة إلى فردية وجماعية. وأوقات الصلوات السبع وأسباب تخصيصها عندهم كالآتي:

1-

صلاة باكر (الفجر) . رتبت وقت شروق النور عند الفجر عند القيام من النوم. وفيها شكر الله على حراسته لهم فيما مضى من الليل. ويسألونه أن يحفظهم في هذا اليوم بغير خطيئة.

2-

صلاة الساعة الثالثة (حوالي التاسعة صباحاً) . لأنه في الساعة الثالثة من النهار حل الروح القدس على التلاميذ الأطهار.

3-

صلاة الساعة السادسة (وقت الظهر تقريباً) . لأنه في تلك الساعة صلب المسيح وسمرت يداه ورجلاه. فينبغي الصلاة فيه ليساعدهم المسيح على النصرة في جهادهم.

4-

صلاة الساعة التاسعة (حوالي الرابعة بعد الظهر) . ورتبت في هذا الوقت لأن يسوع نادى فيه بصوت عظيم: "يا أبتاه في يديك أستود روحي. ولما قال هذا أسلم الرو

". الخ. فَيُصَلّون ليصنع معهم رحمة.

5-

صلاة الغروب: رتبت شكراً لله على حفظه لهم طول النهار ومباركته أعمالهم ويسألونه أن يحرسهم.

6-

صلاة نصف الليل: رتبت شكراً لله الذي أجاز النهار بسلام ويسألونه أن يجيز الليل بسلام.

7-

صلاة نصف الليل: حيث يكون فيها الهدوء من قلق العالم.

ولما كانت كلمة (ساعة) هي: (آجب) بالقبطية كان الكتاب المتضمن لهذه الصلوات اليومية يعرف بـ: (الأجبية) . ويزعمون بأن هذه الصلوات شائعة الاستعمال منذ القرون الأولى. (ر: ترانيم ومدائح منتخبة (للكنيسة القبطية) ص 5-8، قصة الكنيسة القبطية ص506،إيريس حبيب، بتصرف، المسيحية ص234،د. أحمدشلبي) .

ص: 629

خروف الله ارحمنا. أنت وحدك القدوس المتعالي. أيها المسيح الرّبّ إنا بكل / (2/86/ب) كلّ يوم إلى الأبد".

اعلم أن هذه الصلاة للمسيح خاصة وقد صرحوا فيها بأن المسيح هو الله الرّبّ. وأنه وحده المتعالي المبارك إلى الأبد. وهو كما ترى الكفر الصراح الذي لا غبار عليه. وهو باطل بالتوراة والإنجيل والنبوات والمزامير.

فأما التوراة فليس فيها شيء من هذه النجاسات ألبتة بل هي مشحونة بتوحيد الباري إله إبراهيم وتنْزيهه وإفراده بالربوبية. وقد قال في السفر الخامس منها: "الرّبّ واحد في السماء والأرض ليس غيره"1. وقال سبحانه في العشر الكلمات: "أنا الله الذي أخرجتك من مصر لا يكن لك إله غيري"2. وقال الله تعالى في التوراة: "لا تتخذوا أصناماً ولا أشباهاً في السماء فوق ولا في الأرض أسفل ولا في البحر تحت، ولا تسجدوا لها ولا تعبدوها أنا الله إله غيور"3. وقد كلم الله في التوراة آدم ونوحاً وإبراهيم ويعقوب وموسى وهارون وأمرهم ونهاهم كل ذلك4 يقول: "أنا الله وحدي". وقال الله لموسى: "أنا الله إله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لا يكن لك إله غيري"5. / (2/87/أ) .

فحذرهم من الإشراك واتّخاذ إله آخر. وذلك من أدلّ الدليل على كفر النصارى6.

أما الإنجيل فقال المسيح: "لا يقدر أحد أن يعبد رَبَّين"7. وقال: "لا صالح إلاّ الله الواحد"8. وقال: "أوّل الوصايا كلّها في الناموس اسمع يا إسرائيل

1 تثنية 4/39.

2 خروج 20/2، 3.

3 تثنية 5/6-9.

4 في م: كذلك.

5 خروج 20/2، 3.

6 في م: الكفر.

7 متى 4/10، لوقا 16/13.

8 متى 19/17.

ص: 630

الرّبّ الإله واحد هو، فاحببه من كلّ قلبك"1. وقال المسيح لليهود:"أنتم تمجدون نفوسكم ولا تمجدون الله"2. وسئل عن القيامة، فقال: "لا يعرفها إلاّ الله وحده"3. ورفع وجهه إلى السماء وقال: (أنت الإله الحقّ وحدك"4.

وأما المزامير والنبوات فكلّها توحيد أيضاً وليس فيها من كفر النصارى شيء ألتبة. قال داود في المزمور السابع عشر: "الله لا ريب في سلبه، كلام الرّبّ مختبر. وهو منجي من توكل عليه. لا إله إلاّ الرّبّ. لا عزيز مثله"5. وقال في المزمور التاسع عشر: "الرّبّ يستجيب لك. في يوم شدتك إله يعقوب ينصرك، ويرسل لك عوناً من قدسه. ومن صهيون يعضدك سؤلك. هؤلاء / (2/87/ب) بالخيل وهؤلاء بالمراكب. ونحن باسم إلهنا ندعو"6.

فقد وضح لك أن هذه الصلاة التي للنصارى مقصورة على عبادة رجل من بني آدم، وأنها باطلة بما نصت عليه كتب الله المنَزّلة.

88-

فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة الأولى7: "المسيح الإله الصالح الطويل الروح الكثير الرحمة الداعي الكلّ إلى الخلاص"8.

هذه

1 مرقس 12/29.

2 لوقا 16/15، 16.

3 متى 19/17.

4 يوحنا 17/3.

5 مزمور 18/30، 31.

6 مزمور 20/1-5.

7 يقصد المؤلِّف بها: "صلاة الساعة التاسعة".

8 وردت هذه القراءة في كتاب: (ترانيم ومدائح منتخبة للكنيسة القبطية ص 23) . وفي كتاب العبادات المسيحية ص 67 للأرسمنديرت إلياس. وذكر فيها أن هذه القراءة تقرأ أيضاً في آخر كلّ ساعة من الصلوات. ونصّها كالآتي: "ارحمنا يا الله ثم ارحمنا. يا من في كلّ وقت وكل ساعة في السماء وعلى الأرض مسجود له وممجد. المسيح إلهنا الصالح الطويل الروح، الكثير الرحمة الجزيل التخن. الذي يحب الصديقين ويرحم الخطاة الذين أوّلهم أنا. الذي لا يشاء موت الخاطئ مثل ما يرجع ويحيا. الداعي الكلّ إلى الخلاص لأجل الموعد بالخيرات المنتظرة

".

ص: 631

الصلاة أيضاً من1 النمط الأوّل وهي باطلة بشهادة المسيح إذ نطق الإنجيل: "بأن إنساناً قال: يا معلم صالح ما أعمل من الصلاح؟ فقال: أتدعوني صالحاً؟! لا صالح إلاّ الله وحده"2. وإذا لم يرض المسيح أن يكون معلماً صالحاً، بل3 أنكر ذلك وأولى الصلاح لله وحده. فكيف تَخَطَّا النصارى أمره وزادوا حتى سموه الإله الصالح؟ وإذا أنكر عليه السلام القول الأوّل فالأولى أن ينكر هذه الصلاة وهذه القراءة. ثم قول النصارى: "المسيح الإله الصالح". وتخصيصه بذلك دون الآب والروح القدس فيه إبطال لمذهبهم في الثالوث؛ إذ لا خلاف عندهم / (2/88/أ) أن التعبد لأقنوم الكلمة على تجردها لي بجائز. إذ الإله المحقوق بالعبادة هو عبارة عن ثلاثة أقانيم وهي: الآب والابن والروح القدس.

فما لم يتوجه المكلف بالعبادة إلى هؤلاء الثلاثة لم تعتبر عبادته. فإذا قصدوا المسيح بهذه الصلاة فإنما قصدوا أقنوماً واحداً والمسيح عندهم [ما] 4 اتّحد به سوى العلم. فأما الآب والروح فلما اتّحدا به. ثم هذه القراءة منهم تشعر بأن المسيح أصلح الثلاثة ثم لا يخلوا أن يقصدوا بهذا القول لاهوت المسيح أو ناسوته. فإن قصدوا ناسوته لزمهم أن يكون الجسد المخلوق إلهاً خالقاً وذلك جهل. وإن قصدوا لاهوته وهي صفة العلم لزمهم أن يكون صفات الله من العلم والقدرة آلهة معه وذلك لا يقول به عاقل.

أما قولهم: "الطويل الروح". فإن زعموا به الروح التي زعموا أنها جاءته عند المعمودية فتلك إن كانت قديمة لم يصح وصفها بطول ولا قصر؛ إذ كل ما دخله المساحة وكان له طول / (2/88/ب) وعرض وعمق فهو جسم مخلوق حادث. وإن عنوا به

1 ليست في (م) .

2 متى 19/17.

3 ليست في (م) .

4 في ص، م (فما) والأولى حذف الفاء.

ص: 632

روح الإنسان على معنى أن المسيح صبر في زعمهم على إهانة اليهود مع قدرته على الانتصار فقد ناقضوا قولهم: "إنه الإله الصالح"؛ إذ الإله هو الذي لا تمتد إليه الأيدي وهو الذي يأمر عباده بالصلاح. أما من يشرع الفساد فلا يستحق اسم الصلاح.

وأما قولهم: "الداعي الكلّ إلى الخلاص". فنقول: أدعاهم وأراد هدايتهم أم دعاهم ولم يرد ذلك؟ فإن كان قد أراد هدايتهم فلم يهتدوا فقد تحقق عجزه؛ إذ لم تنفذ إرادته ومثل هذا لا يصلح للربوبية. وإن كان قد دعاهم ولم يرد هدايتهم فقد ظلمهم بعدم إرادة هدايتهم وقد فعل الشّرّ وضد الصلاح. وهذا يهدم أصول النصارى في القول بالتحسين والتقبيح. وإن زعموا أنهم قد اهتدوا بدعائه أكذبهم شاهد الوجود.

89-

فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة الثالثة: "يا والدة الإله السماوي أنت هي الكرمة الحقانية الحاملة ثمرة / (2/89/أ) الحياة إليك نتضرح لترحمي نفوسنا يا والدة الإله السماوي افتحي لنا أبواب رحمتك"1.

أوّل ما نبدأ به أن نقول للنصارى: أخبرونا هل هذا القول منكم من أصول العقائد التي لا يسع المكلف جهله أو لا؟ فإن زعموا أنه لا بدّ للمكلفين من اعتقاده والصلاة به، وأنه لا رخصة لعبد حتى يعتقد أن لله والداً ولده وأُمّاً حملته وأرضعته.

فإن قالوا: لا يسع [مؤمناً] 2 إلاّ ذاك.

قلنا لهم: أخرجتم آدم وإبراهيم وموسى ومن بينهم من المؤمنين عن الإيمان؛ إذ لم يعرفوا ذلك ولا اعتقدوه ولا سمعوا به. ولو كان ذلك إيماناً وتوحيداً لم يجهلوه.

وإن زعموا أن موسى وإبراهيم ومن بينهم كانوا يعتقدون أن لله والدةً حملت به ووالداً ولده.

قلنا لهم: أرونا ذلك في توراة موسى ونبوات الأنبياء وأَنَّى يجدون إلى ذلك سبيلاً.

1 ورد معنى هذه القراءة في كتاب: (إنجيلك نور لحياتي) 3/1366، 1367.

2 في ص، م (مؤمن) والصواب ما أثبتّه.

ص: 633

ثم نقول لهم: ما قولكم فيمن خرج عن دين السيح وخالفه من طبقات بني آدم أكفارٌ هم أم مؤمنون؟.

فإن / (2/89/ب) قالوا: إنهم كفار فجار قد هلكوا بتكذيبهم المسيح. قلنا: فقولهم في أم المسيح: "إنها حملت ثمرة الحياة" كذب وزور وإفك وَمَين؛ إذ الذين هلكوا بانتهاك عرضها وقذفها من اليهود وغيرهم أكثر من أن يحصوا فقد كذبتهم في قولكم: "إنها الكرمة الحاملة ثمرة الحياة". وصارت بمقتضى ما ذكرتهم حاملة ثمرة الهلاك كما قال ولدها في الإنجيل: "لا تظنوا أني جئت لألقي على الأرض [سلاماً] 1 ما جئت لألقي عليها [سلاماً] 2 لكن سيفاً وأوقد بهاناراً"3.

وإذا كان هذا قول المسيح وهو الثمرة التي ذكرتهم فما صدقتم في تسميته في صلاتكم (ثمرة الحياة) .

واعلم أن هذه الصلاة أيضاً مقصورة على عبادة مريم عليها السلام وهي خارجة عن أصول النصارى؛ لأن جسد مريم لم يتّحد به شيء عند كافة النصارى بل جسدها كسائر أجساد بني آدم. فلو جاز أن يعبد مريم لكونها حملت بالمسيح عن عدة الله لجاز أن تعبد أليصابات4 وسارة وهاجر؛ إذ حملوا عن عدة الله تعالى. فقد زاد النصارى على الثالوث / (2/90/أ) إلهاً رابعاً وخالفوا أهل ملتهم من القدماء.

90-

فضحية أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة السادسة: "يا من سُمِّرت يداه على الصليب من أجل الخطيئة التي تجرأ عليها آدم. خرق العهدة المكتوب فيها خطايانا وخلصنا. يا من سُمِّر على الصليب وبقي حتى لصق على الخشبة

(3) في ص، م (سلامة) والتصويب من النّصّ.

2 متى 10/34، لوقا 12/51.

4 أليصابات: صيغة يونانية للاسم العبري (أليشبع) أي: (الله قسم) . وهي: امرأة زكريا وأم يوحنا المعمدان عليهما السلام. (ر: لوقا 1/5، 45، قاموس ص 113) .

ص: 634

بدمه قد أحببت الممات لموتك، أسألك بالمسامير1 التي سمّرت بهم. نجّني يا الله"2.

هذه القراءة وإن كانت تصلح لتعاليق المجان ومن يعتن بالأضاحيك فلا بُدّ أن نبيّن مراد النصارى بها، ومرادهم: أن آدم أبيح له كلّ شجر الجنة وقيل له: كُلْ مَا أحببت خلا شجرة معرفة الخير والشّرّ؛ فإنك في اليوم الذي تأكل تموت موتاً. قالوا: فلما أكل وخالف أمر ربّه وجب في حكم الله تعالى أن يميته موت الخطيئة لا موت الطبيعة؛ إذ سبق في علم الله أنه لا يفرغ العالم من نسله. فلما ورد عليه العتاب والتوبيخ أسف وندم على ما فعل. وأنه تعالى تاب عليه وبقي في عهدة قوله السابق / (2/90/ب) فلطف له وبعث المسيح فصام بدلاً من توسع آدم في تناول الشجرة. وصلب على خشبة بدلاً من تيك الشجرة. وسمّرت يداه بالجذع لامتدادها إلى الثمرة المنهي عنها. وسقي المرار لالتذاذ آدم بحلاوة ما أكله من الجنة. ومات بدلاً عن الموت الذي كان الله يهدد به آدم. وهذه دعوى لا برهان لهم عليها ولو ادّعاها بعض الناس لبعض من صلب في الدنيا قَبل المسيح أو بعده لما وجد النصارى إلى ردّ ذلك سبيلاً. وليس - وعزة الله - لما لفقوه من ذلك أصل في كتب الله لا في العتيقة ولا في الجديدة3.

وقولهم: "خرق العهدة التي كتبت فيها خطايانا وخلصنا". وذلك أنهم يعتقدون أن خطيئة آدم التي جناها على نفسه قد شمل وزرها وتبعتها سائر ولده حقباً بعد حقبٍ وقرناً بعد قرنٍ إلى مجيء المسيح. وقد أبطلنا ذلك فيما تقدم وتلونا ما ورد في التوراة والإنجيل والمزامير مما يكذب هذه الدعوى4.

1 ليست في م.

2 ورد معنى هذه القراءة في كتاب العبادات المسيحية ص 66. تحت عنوان: (صلاة الساعة السادسة) .

3 يقصد المؤلِّف أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد.

4 ر: ص: 372، 373.

ص: 635

وقد قالت التوراة: "إن الله / (2/91/أ) قال لقابيل بن آدم: إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة ببابك أنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك"1.

فقد أخبرت التوراة أن في إحسان المحسن وقبول البر من الرجل البار مندوحة عن قتل المسيح وغيره. وقالت التوراة أيضاً: "أما هابيل فإنه يجزئ للواحد سبعة"2. وفي ذلك مندوحة عن القتل والصلب إذ الجزاء خلاص وزيادة.

وقال الله تعالى في المزامير: "طوبى للرجل الذي لم يتبع رأي المنافقين ولم يقف في طريق المستهزئين ولم يجالس الخاطئين لكن في ناموس الرّبّ هواه، يدرس ليلاً ونهاراً"3. فقد شهد المزمور أن الاشتغال بقراءة كلام الله وعبادته مخلِّص لصاحبه وأن طوبى له. فلا حاجة إلى الخلاص بشيء آخر. وإلاّ فيلزم تكذيب داود في خبره عن الله تعالى. وقد قال التلاميذ للمسيح وسألوه: من العظيم في ملكوت الله تعالى؟ فقال: "من تواضع مثل الصبيان فهو العظيم في ملكوت الله"4.

قد أخبر المسيح أنه لا حاجة إلى قتل وصلب بل من تواضع لله ولم يتكبر كفاه الله وخلّصه. / (2/91/ب) والعجب كيف تحكَّم النصارى بصحّة توبة آدم ويقولون: "إن ذريته مأخوذون بجريرته". وقد رووا في بعض نبوات أنبيائهم عن الله: "لا آخذ الولد بذنب والده، ولا الوالد بذنب ولده. طهارة الطاهر له

1 تكوين 4/6، 7.

2 تكوين 4/15.

3 1/1، 2.

4 متى 18/1-4، مرقس 9/34-37.

ص: 636

تكون وخطيئة الخاطئ عليه تكون"1. وذلك موافق لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . [سورة الأنعام، الآية: 164] . والعجب كيف يثبتون عند سماع هذه القراءة ولا يستغربون ضحكاً؟! ولعمري ما بلغ أعداؤهم منهم ما بلغوا في أنفسهم في جعل مثل هذا السخف قرآناً يتلى.

91-

فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة الساعة التاسعة: "يا من ذاق الموت من أجلنا في الساعة التاسعة إليك ابتهالنا، يا من سلّم نفسه إلى الآب لمّا علّق على الصليب لا تغفل عنا. يا مَن مِن أجلنا ولد من العذراء، واحتمل الموت، لا تخيّب من خلقت بيديك واقبل من والدتك الشفاعة فينا. ولا تنقض عهدك الذي عاهدت عليه إبراهيم وإسحاق ويعقوب"2. وفي هذه الصلاة يقرؤون أيضاً: "لما رأت / (2/92/أ) الوالدة3 الحمل والراعي ومخلّص العالم على الصليب قالت وهي باكية: "أما العالم ففرح4 بقبوله الخلاص، وأما أحشائي فتلتهب عندما أنظر إلى صلبوتك يا بني".

والغَيّ قولهم: "يا من ذاق الموت من أجلنا". قد بيّنا خُلُو هذه الدعوى عن الفائدة، وأن القتل والصلب وقع باطلاً؛ إذ5 الخلاص الذي قتل لأجله لم يعرفوا له حقيقة ولا وقفوا من أمره على نبأ إلى الساعة. وما هو إلاّ عنقاء

1 سفر خزقيال 18/20.

2 وردت هذه القراءة في كتاب العبادات المسيحية ص 67.

3 في م: الولدات.

4 في م: فقدح.

5 ليست في (م) .

ص: 637

مغرب1 يُسمع به ولا يُرى. على أن هذه القراءة مع أنها سبَّةُ2 على قارئها ففيها تناقض لا يخفى على من تأمله. وذلك: أن أوّلها يشهد بأنه قتل وصلب وذاق الموت من أجل خلاصهم. وقد سمته أمه بزعمهم: "مخلص العالم". فما حاجتهم إلى التضرع إليه ألا يخيبهم ولا يغفل عنهم وأن يمدوا إليه بشفاعة والدته؟ أهم شاكون في خلاصهم بقتله وصلبه؟ أم يقولون إن الأب لم يفِ له فخسر نفسه ولم يحصل لهم خلاص؟!!.

وأما قولهم: "ولا تنقض عهدك الذي عاهدت عليه إبراهيم / (2/92/ب) وإسحاق ويعقوب"، فذلك غلط من النصارى. إذ ما عاهد إبراهيمُ وإسحاقُ ويعقوبُ الأبَ. قد قال المسيح:"الله لم يره أحد قط". وعلى مقتضى هذه الصلاة المدبرة يكون المصلوب المُسَمَّر اليدين بالمسامير هو الأب الذي عاهد إبراهيم وإسحاق ويعقوب. والذي غلّط النصارى هَا هنا أفريم - من جهال سلفهم -: "إن اليدين التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصليب. وإن الشبر الذي مسحت السماء هي التي سمرت في الخشبة". فأستغفر الله من حكاية أقوال هؤلاء الضلال.

وأما قولهم: "إن والدة إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب واقفة تبكي تحت خشبته وتناديه يا بني وإلهي أحشائي تحترق لصلبك". فلو سمعه بعض المجان لاتّخذه من أظرف ما يمجن به. لأن حاصله أن ابنها إلهها الذي ولدته. وخالقها هو ولدها الذي أرضعته.

1 العنقاء: الداهية. وطائر معروف لاسم مجهول الجسم. أو طائر عظيم يبعد في طيرانه. أو من الألفاظ الدالة على غير معنى. كما في القاموس ص 154.

2 في م: سيئة.

ص: 638

ولاشتمال صلوات النصارى على هذا السخف يبالغون في ستر أحوالهم ولا يُعجبهم أن يحضر بِيَعهم أحد غيرهم.

92-

فضيحة أخرى: / (2/93/أ) النصارى يقرؤون في صلاة الغروب: "يا والدة الإله العذراء أسعي في خلاصنا وافرحي يا والدة الإله. مباركة أنت في النساء ومبارك ثمرة بطنك لأنك ولدت لنا مخلّصاً. يا والدة الإله لا تغفلي عن وسائلنا1 ونجنا من المعاطب"2. وفي هذه الصلاة: "يا صابغ المسيح يوحنا اذكر جماعتنا ونجّنا".

قولهم: "يا والدة الإله"، اعلم أن الألوهية عندهم تكون حقيقة وتكون مجازاً. فالإله الحقيقي هو الله الآب عندهم. والإله المجازي هو المعظم في الدين الذي يدعو إلى الله ويعلم الناس أوامر الله ويبيّن لهم أحكامه. فإن عنوا هَا هنا الإله الحقيقي سقطت مكالمتهم لبيان جنونهم.

وإن عنوا القسم الثاني وهو الإله الذي هو مُعظم في الدّين كقول الله في التوراة لموسى عليه السلام: "أخوك هارون يكون لك مترجماً وأنت تكون له إلهاً مدبّراً"3. وكقول داود لعلماء بني إسرائيل في المزامير: "أنا قالت: إنكم آلهة وبني العلي كلكم تدعو"4. وكقول حبقوق النبيّ: / (2/93/ب)"إله يأتي من التيمن ومقدس من جبال فاران"5. يصف نبيّاً يخرج من الحجاز وصلوات الله عليه وسلامه.

1 في م: وساليفا.

2 وردت هذه القراءة في كتاب ترنيم ومدائح منتخبة ص 20، 21.

3 خروج 7/1.

4 مزمور 82/6.

5 سفر حقبوق 3/3.

ص: 639

فإذا قال النصارى في صلواتهم: "يا والدة الإله"، لَمْ يُعلم من هي المدْعوَّة. أهي أُمُّ1 إبراهيم فإنه في التوراة عظيم2 الله. أَمْ3 أُمُّ إسرائيل، فإنه في التوراة بكر الله4. أَمْ والدة موسى. فإنه في التوراة:[إله ومدبّر]5. أَمْ [إحدى] 6 أمهات أصحاب داود فإنهم في المزامير آلهة؟! 7. وإذا كان هؤلاء يُدْعَون آلهة فقد صار اللفظ مجملاً. فمن التي دعوها لتنجيهم من المعاطب وتسعى في خلاصهم؟!.

وقد زادوا في هذه الصلاة إلهاً سادساً، وهو يوحنا إذ قالوا:"يا يوحنا صابغ المسيح نجّنا من المعاطب". فصارت الآلهة ستة: الآب والابن وروح القدس والمسيح ومريم والمعمداني. وفي دعائهم يوحنا وطلبهم النجاة منه تكذيب لهم في دعوى الخلاص بقتل المسيح، إذ لو كانوا قد خلصوا بالمسيح لم يفتقروا إلى دعاء غيره. وحيث احتاجوا إلى الغير دلّ أنهم ما خلصوا وصار ما ادّعوه من قتل / (2/94/أ) المسيح خالياً عن الفائدة.

93-

فضيحة أخرى: النصارى يقرؤون في صلاة النوم: "الملائكة يمدحونك بتهليلات مثلثة. لأنك قبل الكلّ لم تزل أيّها الأب. وابنك نظيرك في الابتداء. وروح القدس مساويك في الكرامة. ثالوث واحد".

1 في م: امرأة.

2 يشير إلى ما ورد في سفر التكوين 12/2: "فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك".

3 ليست في (م) .

4 يشير إلى ما ورد في سفر الخروج 4/22: "هكذا يقول الرّبّ إسرائيل ابني البكر".

5 في ص، م (إلها ومدبرا) والصواب ما أثبتّه. يشير إلى ما ورد في سفر الخروج 4/22:"وهو يكون لك فماً وأنت تكون له إلهاً".

6 في ص، م (أحد) والصواب ما أثبتّه.

7 يشير إلى ما ورد في سفر المزامير 82/6: "إنكم آلهة وبنو العلي كلهم".

ص: 640

أما قولهم: إن الملائكة يعتقدون الثالوث الذي يقولون به فبهت قبيح وكذب صريح بَنَوْهُ على فاسد معتقدهم. وإلاّ فمن أين علموا أن اعتقاد الملائكة ما حكوه عنهم والدليل على تخرص ذلك على الملائكة التوراة والإنجيل والمزامير فإنها شاهدة بالتوحيد وتنْزيه الباري عن الثاني والثالث. وقد قال لوقا: "إن جبريل حين خاطب مريم وسلّم عليها ارتاعت منه. وقالت: ما هذا السلام؟ فقال لها جبريل: اعلمي أبي أنا جبريل الواقف قدّام الله جئتك أبشرك"1.

وقد أكثرنا من ذكر الشواهد على التوحيد مما يقضي ببطلان هذه القراءة وتبيّن تخرص من ألّفها.

وفي قول النصارى / (2/94/ب) هَا هنا: "لأنك قبل الكلّ لم تزل"، يدلّ على حدث الابن والروح القدس لتأخرهما2 عن الأب في الوجود. إذ لو كانا قديمين لم يكونا مسبوقين. فإن عبّر النصارى عن صفتي العلم والحياة بالابن والروح. قلنا لهم: فالصفتان قديمتان أيضاً. فكيف يكون الأب قبل الكل والصفة لا تتأخر عن موصوفها؟ فالقراءة على ذلك باطلة. فنحن نسألهم عن الابن والروح أهما [إلهان أزليان أو مخلوقان حادثان؟]3.

فإن كانا حادثين4 مخلوقين فقد أبطلوا القول بألوهيتهما وأبطلوا القول بالتثليث. وإن كانا إلهين خالقين بطل أن يكون الأب سابقاً لهما وفسدت هذه التلاوة.

1 لوقا 1/28-30.

2 في م: إذاخرهما.

3 في ص، م (إلهين أزليين أو مخلوقين حادثين) والصواب ما أثبتّه.

(فإن كانا حادثين) ليست في (م) .

ص: 641

وأما قولهم: "ثالوثاً واحداً". فلا تظن أنهم يعتقدون أنها صفات للذات بل مرادهم أن الآلهة ثلاثة فقط بغير رابع. والدليل عليه إفراد كل واحد منهم بالذكر والتعبد والسؤال كما شهدت به الصلوات والأمانة التي لهم والتسابيح. ولو كانوا يردون ذلك إلى أنهم صفات للذات لاقتصروا على إفراد / (2/95/أ) الله تعالى بالذكر كما أفرد موسى عليه السلام والأنبياء عليهم السلام. فهل تجدون في التوراة والنبوات للتثليث ذكراً ألتبة؟ على أن النصارى قد عبدوا بني آدم، ألا تراهم كيف يقرؤون في الصلاة:"تعالوا نسجد تعالوا نتضرع للمسيح إلهنا". والمسيح هو المولود الذي ولدته مريم عليهما السلام.

94-

فضيحة أخرى: النصارى يقرؤن في صلاة نصف الليل وهي الثامنة: "تبارك الرّبّ إله آبائنا وفوق المتعالي إلى الدهر. تبارك1 مجدك القدوس فوق المسيح وفوق المتعالي إلى الدهر. مبارك أنت فوق المسيح وفوق المتعالي إلى الدهر"2. وكرروا هذه الفوقية في هذه الصلاة دفعات. فوصفوا الله تعالى بأنه فوق المسيح وفوق مَن هو أعلى من المسيح وذلك مناقض لما قرؤوه في صلاة النوم إذ قالوا فيها: "إن المسيح نطير الله في الابتداء وإن روح القدس مساويه في الكرامة". فإن كان الله فوق المسيح بطل قولهم أنه نظيره. وإن كان المسيح نطيره بطل أن يكون فوقه. / (2/95/ب) فلا بدّ من إبطال أحد القراءتين ضرورة الوفاء3 بالأخرى.

ثم نقول لهم: أليس أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم متساوية في الأزلية والقِدَم واستحقاق الربوبية. فما الذي خصص أحدهم بالفوقية دون الآخرين وليس مقدماً عليهم؟.

(تبارك مجد

إلى آخر الصلاة) ليست في (م) .

2 ورد معنى هذه القراءة في كتاب: (ترانيم ومدائح منتخبة ص 33، 34) .

3 في م: بالوفاء.

ص: 642

فإن أبيتم إلاّ إثبات الفوقية له عليهما فقد أثبتم أنهما دونه. وذلك تشويش للثالوث وإن وفيتم1 بالثالوث أبطلتم هذه القراءة ولا سبيل إلى إبطالها. فإن التوراة والإنجيل والنبوات شاهد لها2 بالصحّة؛ إذ خصصت الباري بالألوهية ووصفته بأنه المتعالي فوق المسيح وفوق كل شيء. جلّ وعلا وتقدّس عما يقول الجاحدون علوّاً كبيراً.

فهذه بهديكم ثمان صلوات قد اشتملت على الكفر والبهت والفجر وقلة الحياة. وذلك أن أحدهم يقوم [مضمخاً] 3 ببوله فيتوجه إلى مشرق الشمس - وهي جهة كان المسيح وغيره من الأنبياء يتنكبها في صلاته - فيناجي رجلاً من بني آدم فيقول في قراءته: "يا من قتله اليهود وصلبوه، وسمّروا يديه على خشبة وتركوه على جذعة بين اللصوص حتى أسالت الشمس دمه وحتى لصق بالخشبة / (2/96/أ) جسده. برحمة المسامير التي سمّرت بها في يديك ارحم من خلقت بيديك4 يا الله".

وهذا - حوشيتم - لو خوطب به زعيم قرية أو رئيس محلة لتطيّر من سماعه وعجّل العقوبة لقائله. فكيف بمن يناجي بذلك إلهه وربّه جل وعلا؟!.

سؤال على النصارى:

نقول للنصارى: أخبرونا ما الذي صنعه الله بيسوع حتى صار ابناً له إذ لم تقولوا بالنبوة المعروفة المتّحدة من الزوجة والمملوكة؟.

1 في م: أفيتم.

2 ليست في (م) .

3 في ص، م (متضمخ) والصواب ما أثبتّه.

4 في م: تكرر: "ارحم من خلقت بيديك".

ص: 643

فإن قالوا: "مسحه فصار بمسحه له مسيحاً وابناً. قلنا: أبينوا لنا هل مسحه بدهن؟ فإن قالوا: نعم. ساووا بينه وبين داود وغيره. إذ قال داود في مزاميره: "صبياً كنت في غنم أبي فأخذني ربّبي ومسحني بدهن مسيحه"1.

وقال داود في مزمور آخر: "ائتمر2 الشعوب على الرّبّ وعلى مسيحه"3. يعني: نفسه.

وقال الله تعالي في السفر الثالث من التوراة ويسمى سفر الكهنة: "إن الحبر الممسوح من أولاد هارون هو الذي يتولى القرابين ورش الدم على زوايا المذبح"4. وذلك مشهور عندهم فالمسيح هو الممسوح فما زادوا أن وصفوه بوصف / (2/96/ب) كاهن.

وفي الإصحاح الخامس من هذا السفر: "قال الله لموسى: اعمد إلى هارون وبنيه وخذ اللباس ودهن5 المسيحين الذي يمسح به الأحبار وخذ الجماعة كلها إلى باب قبة الأمد. وقدم هارون وألبسه لباس الكهنة وكلله بأكليل من ذهب وصب على رأسه من دهن المسيحين [وامسحه] 6 وقدسه. ففعل موسى ذلك بهارون"7.

فما نرى المسيح له مَزِيَّة على داود وهارون في ذلك. وما نراه نسج له إلاّ على منوال من تقدم من صفوة الله تعالى.

وقد حكوا عن إنجيل لوقا أن جبريل بشّر مريم بأن ولدها المسيح ابن داود يجلسه الرّبّ على كرسي أبيه داود، ويملكه على بيت يعقوب. وذلك يتقاضى أن

1 مزمور 23/5، 89/20.

2 في م: أقيموا.

3 مزمور 2/2.

4 لاويين 4/5، 6.

5 في م: وهني.

6 في ص، م (ومسحه) والصواب ما أثبتّه.

7 سفر الخروج الإصحاح (8) .

ص: 644

يكون1 أفضل منه أو معه في رتبة الفضل - فيالله العجب - جبريل يخبر عن الله أن المسيح هو ابن داود، وأنتم تقولون كلا ولكنه ربّ داود. لقد تباعد ما بينكم وبين جبريل، ومن كان عدوّاً لجبريل الأمين فهو لا شكّ عدوّ لله ربّ العالمين.

وإن قالوا: إنما جعله مسيحاً وابناً بتسمية سماه بها وسمى نفسه ابناً له. قلنا: وكذلك يعقوب إذ حكيتم / (2/67/أ) لنا عن التوراة أن الله تعالى قال لموسى: "ابني بكري إسرائيل"2. والبكر أَجَلُّ قَدراً عند والده من غير البكر على ما لا يخفى. والتوراة تشهد بأن للولد الأكبر سهمين في الميراث ولغيره سهم واحد3 ثم4 هو جَدُّ المسيح وعامة الأنبياء من نسله فهلاّ عبدتموه واتّخذتموه إلهاً؟!.

وإن زعموا أن المسيح إنما سمّاه الله ابناً للتربية وحسن التأديب - فلعمري - لئن كان الله قد غَذَّاه بغير رضاع وقوته بسوى الطعام المألوف وألبسه غير الثياب المعهودة وبعث إليه مَلَكاً يؤدبه واختلفت الملائكة إلى بيت أُمّه لزيارته وامتثال أوامره ليخالف بينه5 وبين سائر الناس إن ذلك لموضع شبهة. فأما وأمره في جميع أحواله على ما يعهد من الناس ولم تطهر له آية6 في صباه ولم يتكلم في المهد كما زعموا ولا زاد أبلغ ثلاثين7سنة على رجل من بني آدم. فما وجه ادعاء ربوبيته وألوهيته؟.

1 في ص (يكونا) والتصويب في م.

2 خروج 4/22.

3 تثنية 21/15-17.

4 ليست في (م) .

5 في م: عينه.

6 في م: أنه.

7 في م: ثلاثون.

ص: 645

ولو أن النصارى قالوا: إنه تكلم في المهد وخلق من الطين كهيئة الطير كما يقول فيه المسلمون لوجدوا شعباً / (2/97/ب) يستريحون إليه ساعة وساعة.

وإن قالوا: إنه إنما صار مسيحاً وابناً بمعمودية يوحنا، فقد اعترفوا بأن مريم لم تلد الابن المسيح في الحقيقة وإنما هي امرأة ولدت طفلاً من أطفال بني آدم. وحينئذٍ تكون بنوة المسيح مجرد تسمية لا غير. ويستوي حاله وحال من تَقَدَّمه في هذه التسمية من بني إسرائيل. وإن قالوا: إنما اتّخذه الله مسيحاً وابناً لأنه أطاعه1 طاعةً لم يطعها أحد قبله. وعبده عبادة لا يتصور أن يبلغها أحد. فنقول: كيف ذلك وإنما أطاع الله تعالى منذ عقل وبلغ مبالغ الرجال. وذلك دون [العشرين] 2 سنة وأنتم حكيتم لنا في التوراة أن موسى عليه السلام عَمَّر مائة وعشرين سنة3. فإذا طرحنا سِنَّ الصبي كان عمر المسيح خُمْس عمر موسى. وإذا كان الأمر كذلك فقد زادت أعمال موسى وطاعاته4 وأَرْبَت على طاعة المسيح.

وقد حكيتم لنا أن موسى مَلَك جانباً كبيراً من الأرض وقاتل الجبابرة وجاهد العمالقة وأباد الفراعنة وقتل عوجاً مبارزة وواصل5 / (2/98/أ) لله أربعين يوماً وأربعين ليلة لا يذوق طعاماً وابتلى بخلاف قومه وكثرة تلونهم وتعنتهم بالجهل المركوز في طباعهم فصبر عليهم ورفق بهم وساسهم وتلقى أوامر ربّه بصدر فسيح وباع رحيب. فلم يهب جباراً وإن عَظُم قَدْرُه ولا نكل عن عدوّ وإن تفاقم أمره. حتى فتح الشام ودوخ البلاد. ولما دنا حمامه وزمه6

1 في ص: زاد "الله".

2 في ص (العشرون) والصواب ما أثبتّه.

3 تثنية 34/7.

4 في م: وطاعته.

5 في م: زاد: (من) .

6 ليس في م.

ص: 646

من المقدور زمامه. تقدم إلى خادم كان له يقال له: يوشع بن نون يفتح باقي بلاد الشام وأفاض عليه من فاضل همته وصحيح عزمته ما شَدَّد شكيمته وأَيَّد نحيزته فقاتل أربعة وعشرين مَلِكاً وأبادهم عن جديد الأرض. وهذه عبادات لم يتفق للمسيح عليهما السلام مع نزول سنه. وأنتم أخبرتمونا في الإنجيل أن المسيح كان مذ بلغ الحلم إلى أن ناهز الثلاثين مشتغلاً بتعلم التوراة واقتباس العلم من أتباع موسى فلم يكن يُحَارِب ولا يُحَارَب ولا امتحن بما امتحن به موسى. فقد كذبتم في قولكم / (2/98/ب) إنه اتّخذ ابناً لتقدمه في الطاعات على غيره.

وكيف تستقيم لكم هذه الدعوى والمزامير تشهد بخلافهم. قال داود عليه السلام متنبئاً على المسيح: "أقسَم الرّبّ ولا يكذب إنك أنت الكاهن المؤيّد تشبه مملكي صادق"1. فشبه المسيح برجل كاهن كان في زمن إبراهيم الخليل وأقصى درجات الشبه أن يساوي المشبه به في الفضل. وهذا الكلام من داود يفضي بانحطاط درجة المسيح عن درجة إبراهيم وموسى - عيلهما السلام - إذ لا خلاف بين أهل الكتاب أن إبراهيم وموسى أفضل من ملكي صادق هذا الذي شُبه به المسيح فاعلم ذلك.

وإن قالوا: إنه كان [له] 2 من النية ما لم يكن لموسى ولا غيره - والأعمال بالنيات. - قلنا: لو عكس عليكم الأمر وقيل لكم: بل نية موسى كانت أعظم وقصده كان أتم وأفخم. فبماذا كنتم تجيبون؟ فإن من كان له من أنواع العبادات والقُربات ما وصفنا فهو أحق بأن يقال إن نيته أعظم من نية غيره فقد بطل جميع ما تمسك / (2/99/أ) النصارى به في بنوة المسيح واستوت حاله وحال أحبار بني إسرائيل في المسيحية والبنوة.

1 مزمور 110/4.

2 إضافة يقتضيها السياق. والله أعلم.

ص: 647

وإنما أوردنا ما أوردنا من ذلك كسراً لحجج النصارى وهدماً لأباطيلهم. ونحن والحمد لله أسلم قلوباً لأنبياء الله وأحسن قولاً منهم وأجمل اعتقاداً صلوات الله عليهم أجمعين. اهـ.

ص: 648