الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الخامس: في الاستدلال
وهو دليل ليس بنص ولا إجماع ولا قياس فيدخل الاقتراني والاستثنائي، وقياس العكس.
(ش): لما انتهى الكلام في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وكان الأئمة أجمعوا على أن الأدلة لا تنحصر فيها، وأنه ثم دليل شرعي غيرها، واختلفوا في تشخيصه من استصحاب واستحسان، وغيرها، عقد هذا الكتاب لذلك، وإنما أفردوه عما قبله، لأن تلك الأدلة قام القاطع عليها ولم يتنازع المعتبرون في شيء منها فكان قيامها لم ينشأ من اجتهادهم، بل أمر ظاهر، وأما المعقود في هذا الكتاب فهو شيء قاله كل إمام بمقتضى اجتهاده وإنما سمعوه استدلالاً، لأنه في وضع اللسان عبارة عن طلب الدليل، أو اتخاذه دليلاً كاستأجر أجيراً أي اتخذه كما تقول احتج بكذا، وعرفه في الاصطلاح بما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس
والمراد بقوله ولا قياس أي شرعي بالمعنى الخاص لا نفي القياس مطلقاً وإلا يخرج عنه القياس الاقتراني والاستثنائي، وهذا خلاف عنده في الاستدلال، لا يقال: هذا تعريف بالمساوي في الجلاء والخفاء، لأنه عرف الاستدلال ببعض الأنواع وهو ما ليس بنصه إلى آخره، لدخول الاستدلال وغيره تحت العام وهو ذكر الدليل، ولا يجوز التعريف بالمساوي كما لا يعرف الإنسان بأنه ليس بحمار ولا فرس، للاستواء فيهما، لأنا نسلم تساويهما، فإن النص والإجماع والقياس كل منهما متقدم معلوم فصارت أعرف من الاستدلال فهو إذا تعريف للمجهول بالمعلوم.
واعلم: أن هذا اصطلاح حادث، وقد كان الشافعي، رضي الله عنه يسمي القياس استدلالا، لأنه فحص ونظر، ويسمي الاستدلال قياساً لوجود التعليل فيه حكاه أبو الحسين في (المعتمد) وقوله: (فيدخل فيه أي في هذا التعريف أمور منها القياس الاقتراني: وهو الذي لا تذكر النتيجة ولا نقيضها في المقدمتين وهو مراد المنطقيين بقولهم: قول مؤلف من قضايا متى سلمت لزم عنه لذاته قول آخر كقولنا
العالم متغير وكل متغير حادث، فإنه متى سلم أن العالم متغير (وسلم أن كل متغير) حادث، لزم من هذا القول لذاته من غير واسطة قضية أخرى لزوماً ذهنياً، وإن كابر الخصم، وتلك القضية: العالم حادث، لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم، والتغيير (46/ك) مستلزم للحدوث، وهو حجة في العقليات على المشهور، وفي الشرعيات: اختلف فيه فقيل: ليس بحجة إلا إذا تأيد بأحد الأدلة الأربعة كما يقال: لو كان القيء ناقضاً للطهارة لكان قليله ناقضاً لأن خروج النجس يوجب الانتقاض كما في السبيلين ومنها الاستثنائي: وهو ما تكون
النتيجة أو نقيضها مذكوراً فيه كقولنا: إن كان هذا إنساناً فهو حيوان ولكن ليس هذا بحيوان فليس بإنسان، قال الله تعالى:{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} والتقدير، والله أعلم (لو كان في خلق السماوات والأرض اجتماع آلهة لفسدتا لكن لم يتحقق الفساد، بل يقينا منتظمين، فلم يكن خالقهما آلهة وسمي هذا والذي قبله بالقياس العقلي، ويختص الاستثنائي بالشرطيات (ووضع المقدم أعني الملزوم فيه غير منتج، وكذا رفع التالي أعني اللازم) ورفع المقدم ووضع التالي غير منتج لاحتمال عموم اللازم، كما يقال: لو كان هذا إنساناً فهو حيوان، لكنه إنسان فهو حيوان، أو هذا ليس بحيوان فلا يكون إنساناً، أما لو قلت: فليس هذا بإنسان فلا ينتج أنه ليس بحيوان، وكذا لو قلت: هذا حيوان، فلا ينتج أنه إنسان، ولما قلنا من عموم اللازم، فالقياس إذاً لم ينتج في مادة من المواد لا نعتمد عليه في
الإنتاج، مثال وضع المقدم، قوله تعالى:{ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاًَ} أي لو جعلنا الرسول ملكاً لجعلناه في صورة رجل، وقد أنزل جبريل عليه السلام في صورة دحية، وأخرى في صورة أعرابي، ولولا بيان محمد صلى الله عليه
وسلم لالتبس عليهم الأمر، ومثال رفع التالي قوله تعالى:{وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} أي لو كان مع الله تعالى آلهة لأفنى كل ما خلقه الآخر، ولعلا بعضهم على بعض، ومنها قياس العكس وهو إثبات نقيض حكم الشيء في شيء آخر لافتراقهما في العلة، كقولنا في الصبح: لا تقصر شفع فلا تصير وتراً كما أن الوتر لا يصير شفعاً يعني صلاة المغرب، وحكى الشيخ أبو إسحاق في (الملخص): والاستدلال به وجهين لأصحابنا أصحهما وقال إنه المذهب أنه يصح، وقد استدل به الشافعي في عدة مواضع ويدل عليه أن الله تعالى دل على التوحيد بالعكس، قال تعالى:{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} وهذه دلالة بالعكس فدل على أن ذلك طريق
الأحكام: انتهى، وقد سبق من المصنف في العكس ذكر حديث:((أيأتي أحدنا بضعه ويؤجر عليه)).
(ص): وقولنا: الدليل يقتضي أن لا يكون كذا خولف في كذا لمعنى مفقود في صورة النزاع فيبقى على الأصل.
(ش): الدليل الملقب بالنافي، كقولنا: الدليل يقتضي تحريم قتل الإنسان مطلقاً إلا أنا خالفناه في الأصل لمعنى يختص به، فيجب العمل بالدليل (127/ ز) النافي فيما عداه، وكقولنا في تزويج المرأة نفسها: الدليل النافي للصحة موجود، وما خولف لأجله مفقود فوجب استصحاب حكم الدليل وتقريره أن النكاح إذلال للمرأة في إرقاق، والإنسانية تأبى ذلك إظهاراً، لشرفها، وقد ظهر اعتبار ما ذكرناه في السفاح غير أنا خالفنا هذا الدليل فيما إذا صدر عن الرجل لكمال عقله وصحة نظره، وهذا مفقود في المرأة فوجب أن يبقى على مقتضى الدليل.
(ص): وكذا انتفاء الحكم لانتفاء مدركه، كقولنا الحكم يستدعي دليلاً وإلا لزم تكليف الغافل ولا دليل بالسبر أو الأصل.
(ش): ومن أنواعه الاستدلال على انتفاء الحكم بانتفاء دليله، وتقريره: أن الحكم الشرعي لا بد له من دليل لأنه لو ثبت من غير دليل، فإما أن نكون مكلفين به أولا والثاني باطل لأنه لا معنى للحكم الشرعي إلا خطاب يتعلق بعقل المكلف والأول باطل أيضاً، لأن التكليف بالشيء من غير الشعور به، ومن غير طريق يفضي إلى الشعور به تكليف ما لا يطاق فثبت أنه لو كان ثابتاً لكان عليه دليل، والدليل إما النص أو الإجماع أو القياس، وهو هنا منتف بالسبر أو بأن يقول شيء من هذه الملازمة غير موجود، إذ الأصل عدمه، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا ما اختاره البيضاوي، وجعله من جملة الأدلة وهو بناء على أن النفي حكم شرعي سواء استفدناه من دليل ناف أو انتفاء دليل مثبت وقد يتعين دليلاً في بعض المسائل لإعواز سائر المسالك والاعتراض عليه بأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
(ص): وكذا قولهم وجد المقتضى أو المانع أو فقد الشرط خلافاً للأكثر.
(ش): من أنواع الاستدلال ما يقتصر فيه على إحدى المقدمتين اعتماداً على شهرة الأخرى كقولنا: وجد المقتضى أي السبب فيوجد المسبب، أو وجد المنافع
فينتفي الحكم (أو فقد الشرط فينتفي الحكم) فإنه ينتج بناء على مقدمة أخرى مقدرة وهي: قولنا: كل سبب إذا وجد وجد الحكم فأهملت لظهوروها= كما في قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} فإنه لولا إضمار وما فسدتا لأعقلت النتيجة مثال قولنا في مسألة الأيدي باليد: وجد سبب وجوب القصاص فيجب وعلى المستدل وظيفتان: بيان السبب وبيان وجوده، وقد اختلف فيه فقيل: ليس بدليل، بل دعوى دليل، لأن معنى قولنا: وجد السبب أنه وجد الدليل، فهو دعوى وجوده، وكذا الباقي، وقيل: بل دليل، فإنه يلزم من ثبوته ثبوت المطلوب والقائلون بهذا اختلفوا في أنه استدلال أم لا؟ فقيل: إنه استدلال مطلقاً لدخوله في تعريف الاستدلال، فإنه ليس بنص ولا إجماع ولا قياس وقيل: إن أثبت السبب أو المانع أو الشرط بغير النص أو الإجماع أو القياس، فهو الاستدلال وإلا فلا والأصح عند المصنف الأول لأن أحد الثلاثة حينئذ دليل على إحدى مقدمتي) استدلال المثبت للحكم لا نفس الاستدلال.
(ص): مسألة: الاستقراء بالجزئي على الكلي إن كان تاماً، أي بالكل إلا صورة النزاع فقطعي عند الأكثر أو ناقصاً أي: بأكثر، الجزئيات فظني ويسمى إلحاق الفرد بالأغلب.
(ش): من أنواع الاستدلال الاستقراء وهو ينقسم إلى تام، وناقص، فالتام: هو إثبات الحكم في جزئي لثبوته في الكلي كقولنا: كل جسم متحيز، فإنا استقرينا جميع الأجسام كذلك، وهذا هو القياس القطعي المنطقي المفيد للقطع عند الأكثرين قال الهندي، وهو حجة لا خلاف والناقص إثبات الحكم في كلي لثبوته في أكثر جزئياته من غير أن يبين العلة المؤثرة في الحكم (47/ك) وهو المسمى عند الفقهاء بإلحاق الفرد بالأعم الأغلب، وقد اختلف فيه، واختيار المتأخرين كالبيضاوي وصاحب الحاصل والهندي أنه يفيد الظن لا القطع، لاحتمال أن يكون ذلك الجزئي مخالفاً لباقي الجزئيات المستقراة وقال الإمام الرازي: الأظهر أنه لا يفيد الظن إلا بدليل منفصل ثم بتقدير الحصول يكون حجة، وبهذا يعلم أن الخلاف في
أنه هل يفيد الظن لا في أن الظن المستفاد منه هل يكون حجة؟ ومثاله تمسك أصحابنا في أن الوتر ليس بواجب، لأنه يؤدى على الراحلة (وهذه مقدمة مجمع عليها ثم قالوا: لا شيء من الواجبات يؤدى على الراحلة) وتمسكوا في هذه المقدمة بالاستقراء فقالوا: إنا استقرينا الواجبات من الصلوات أداء وقضاء فرأيناها لا تفعل على الراحلة وبقي من التقسيم إثبات الحكم في جزئي لثبوته في جزئي آخر بجامع، وهو القياس الشرعي، ويخالف الاستقراء الناقص فإنه حكم بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته.
(ص): مسألة: قال علماؤنا: استصحاب العدم الأصلي، والعموم أو النص إلى ورود المغير وما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه حجة مطلقاً وقيل في الدفع دون الرفع، وقيل: بشرط أن لا يعارضه ظاهر مطلقا ًوقيل: ظاهر غالب وقيل: ذو سبب ليخرج بول وقع في ماء كثير فوجد متغيراً واحتمل كون التغير به، والحق سقوط الأصل إن قرب العهد، واعتماده إن بعد.
(ش): أطلق جماعة من الأصوليين الخلاف في الاستصحاب، والتحقيق أن للاستصحاب عندنا صوراً.
إحداها: استصحاب العدم الأصلي، وهو الذي عرف العقل نفيه بالبقاء على العدم الأصلي، كنفي وجوب صلاة سادسة وصوم شوال فالعقل يدل على وجوب انتفاء ذلك، لا لتصريح الشارع، لكن لأنه لا مثبت للوجوب، فيبقى على النفي الأصلي، لعدم ورود السمع وأصحابنا مطبقون على أنه حجة وفيه خلاف لغيرهم، كذا قال المصنف وغيره، لكن ذكر جماعة من أصحابنا لما ذكروا الأقوال في الأفعال قبل ورود الشرع أن فائدة الخلاف أن من حرم شيئاً أو أباحه فسئل عن
حجته فقال طلبت دليلاً في الشرع فلم أجد فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة، هل يصح ذلك أم لا؟ ثم هل يلزم خصمه المحاجة لهذا (128/ز) القول أم لا؟
ثانيها: استصحاب مقتضى العموم أو النص إلى أن يرد المخصص أو الناسخ، ولم يختلف أصحابنا في أنه حجة، ومنع ابن السمعاني من تسميته (بالاستصحاب، قال: لأن ثبوت الحكم فيه من ناحية اللفظ لا الاستصحاب.
ثالثها: استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه لوجود سببه كالملك عند حصول السبب، وشغل الذمة عن قرض أو إتلاف، وهذا إن لم يكن حكماً أصلياً فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعاً، ولولا أن الشرع دل على دوامه إلى أن يوجد السبب المزيل أو المبرئ لما جاز استصحابه، ولا نعرف
في الثلاثة خلافاً عندنا، ولهذا قال المصنف حجة مطلقاً، ونقل عن بعض المتكلمين أنه ليس بحجة، وعزاه الإمام للحنفية، والموجود في كتبهم: المذهب أنه حجة لإبقاء ما كان لأنه ترجيح جانب الوجود في الوجود، وليس بحجة لإثبات أمر لم يكن ولهذا قالوا مسألة المفقود لا يرث ولا يورث منه، أما أنه لا يورث منه لإبقاء ما
لي= ما كان، والأصل الحياة، وأما أنه لا يرث فباعتبار أنه لم يكن مالكاً لمال مورثه قبل هذه الحالة، والأصل دوامه، إذ في الحياة شك وإلى هذا أشار المصنف بقوله: وقيل: في الدفع دون الرفع وهو حسن، وينبغي أن يخرج عندنا وجهاً مثله، فإنه لو بلغ مصلحاً لماله صالحاً لدينه ارتفع عنه الحجر، فلو عاد المفسق في الدين دون المال فقال ابن سريج: يحجر عليه كما يستدام به الحجر، وقال الجمهور: لا يحجر، ويخالف الاستدامة، لأن الحجر كان ثابتاً، والأصل بقاؤه وههنا يثبت الإطلاق والأصل بقاؤه، فلا يلزم من الاكتفاء بالفسق للاستصحاب الاكتفاء به لترك الاستصحاب، ونظيره إذا ظهر لبنت تسع لبن فارتضع منه صغير حرم ولا يحكم ببلوغها، قالوا: لأن احتمال البلوغ قائم، والرضاع كالنسب، يكفي فيه الاحتمال والمذهب وجوب فطرة العبد الغائب المنقطع الخبر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة وأشار بقوله: وقيل: بشرط أن لا يعارضه، إلى أن شرط العمل
بالأصل بالاتفاق أن لا يعارضه ظاهر، فإن عارضه ظاهر، فهي قاعدة الأصل، والظاهر المشهورة في الفقه، وللشافعي فيما إذا تعارض أصل وظاهر قولان في ترجيح أحدهما على الآخر، قال ابن عبد السلام في القواعد: لا من جهة كونه استصحاباً، بل لمرجح ينضم
إليه من خارج، ثم قيل: القولان يجريان دائماً، وقيل غالباً ثم قيل: الأصح الأخذ بالأصل دائماً، وقيل: غالباً، والأول هو الذي أطلق الرافعي ترجيحه في باب الاجتهاد في الأواني، قال: لأن الأصل أصدق وأضبط من الغالب الذي يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، والنقل يعضده فقد حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمامة في الصلاة.
وكانت بحيث لا تحترز عن النجاسة، انتهى، والتحقيق الأخذ بأقوى الظنين فيترجح الأصل جزماً إن عارضه احتمال مجرد كاحتمال حدث لمن تيقن الطهر بمجرد مضي الزمان وعلى الأصح: إن استند الاحتمال إلى سبب ضعيف عام كثياب مدمني الخمر وطين الشوارع، ويرجح الظاهر، منها: إن استند إلى سبب منصوب
شرعاً كالشهادة، تعارض الأصل براءة الذمة، وقوله: وقيل مطلقاً يشير إلى أن القائلين بالظاهر الغالب اختلفوا، فقيل: يشترط السبب، وقيل: مطلقا إلا أنه أطلق السبب، وعلى الصحيح إن كان سبباً قوياً خاصاً، كحيوان يبول في ماء كثير ثم يوجد متغيراً، فإن استند إلى سبب، كما لو رأى ظبية تبول في الماء الكثير وكان بعيداً عن الماء فانتهى إليه فوجده متغيراً وشك أنه تغير بالبول، أو بغيره فنص الشافعي رضي الله عنه على أنه نجس، وتابعه الأصحاب إعمالاً للسبب الظاهر، ومثله: ما لو جرح صيداً وغاب عنه فوجده ميتاً، حل أكله على المشهور، وكذا لو جرح رجلاً، ومات فإنه يضمنه وإن جاز أن يموت بسبب آخر سواه لأنه قد وجد سبب يمكن الإحالة عليه، لكن يشكل (48/ك) على هذا ما لو جرح المحرم صيداً ثم غاب عنه ثم وجده ميتاً، ولم يدر أمات بجراحه أم بحادث، فهل يلزمه جزاء كامل أم أرش الجرح فقط؟ قولان أظهرهما في (زوائد الروضة) الثاني قلت: ونص عليه في (الأم) فلم يعمل السبب الظاهر، وما قال المصنف: إنه الحق ذكره القفال في (شرح التلخيص) في هذه المسألة، أي بول الظبية، فقال: هذا إذا
رأى الماء قبل بول الظبية عن قرب غير متغير، فإن لم يتعهده أصلاً أو طال عهده به، فهو طاهر عملاً بالأصل وذكره الجرجاني المعروف بالختن مثله في (شرح التلخيص)، فقال: هذا إذا تعقب التغير البول فإن لم يتعقبه بأن غاب عنه زماناً ثم وجده متغيراً لم يحكم عليه بالنجاسة، لأن إحالته على السبب الظاهر قد ضعف بطول الزمان.
(ص): ولا يحتج باستصحاب حال الإجماع في محل الخلاف خلافاً للمزني والصيرفي وابن سريج والآمدي.
(ش): الرابعة: من صور الاستصحاب، استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف، وهو: أن يحصل الإجماع على حكم في حال فيتغير الحال، ويقع الخلاف، فهل يستصحب حال الإجماع؟ هذا محل الخلاف بين أصحابنا، والأكثرون منهم الغزالي على أنه ليس بحجة.
وما نقله ابن الحاجب عنه بخلافه مردود قال أصحابنا: والقول به في موضع الخلاف يؤدي إلى التكافؤ لأنهما ما من أحد يستصحب حال الإجماع في موضع الخلاف وإلا ولخصمه أن يستصحب حال الإجماع في مقابله، وبيانه أن من قال في مسألة التيمم: إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل، لأن أجمعنا على صحة صلاته فلا يبطل الإجماع إلا بدليل، قيل له: أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الصلاة ولا يسقط إلا بدليل.
(ص): فعرف أن الاستصحاب ثبوت أمر في الثاني (129/ز) لثبوته في الأول لفقدان ما يصلح للتغيير أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب وقد يقال فيه: لو لم يكن الثابت اليوم ثابتاً أمس لكان غير ثابت فيقضي استصحاب أمس بأنه الآن غير ثابت وليس كذلك فدل على أنه ثابت.
(ش): علم مما سبق أن الاستصحاب ثبوت أمر في الثاني لثبوته في الأول لعدم وجدان ما يصلح أن يكون مغيراً بعد البحث التام وأما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فهو الاستصحاب المقلوب، كما إذا وقع النظر في هذا الكيل، هل كان على
عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: نعم إذ الأصل موافقة الماضي للحال، قال الشيخ الإمام: ولم يقل الأصحاب به إلا في مسألة واحدة فيمن اشترى شيئاً، وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة، فقالوا: يثبت له به الرجوع على البائع بل لو باع المشتري، أو وهبه وانتزع الثاني المتهب أو المشترى منه كان للمشتري الأول الرجوع أيضاً، وهذا استصحاب الحال في الماضي، فإن البينة لا توجب الملك، ولكنها تظهره فيجب أن يكون الملك سابقاً على إقامتها، ويقدر له لحظة لطيفة، ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، ولكنهم استصحبوا مقلوباً وهو عدم الانتقال منه قلت: قالوا به في صور كثيرة بينتها في غير هذا الموضع منها: لو قذفه فزنا المقذوف سقط الحد عن القاذف، وأشار بقوله: وقد يقال: إلى أن الطريق في الاستصحاب المقلوب أن يقال: لو لم يكن الحكم
الثابت الآن ثابتاً أمس لكان غير ثابت، إذ لا واسطة، وإن كان غير ثابت فيقضى الاستصحاب بأنه الآن غير ثابت، فدل أنه كان ثابتاً أيضاً.
(ص): مسألة لا يطالب النافي بالدليل إن ادعى علماً ضرورياً وإلا فيطالب به في الأصح.
(ش): النافي للشيء إن دل عليه أمر ضروري لم يطالب بالدليل إذ الضروريات لا يذكر عليها الدليل بل يثبته عليها، وإلا لكانت نظرية، وإن لم يكن ضرورياً فاختلفوا فيه فذهب الأكثرون إلى أنه يجب عليه الدليل مطلقاً كما في الإثبات وقيل: لا يجب عليه مطلقاً، وعزاه المصنف في (شرح المختصر) للظاهرية والذي في كتاب (الإحكام) لابن حزم أن عليه الدليل محتماً.
بقوله تعالى: {قل هاتوا برهانكم} {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} والثالث: يجب في العقليات دون الشرعيات وأطلق الهندي حكاية الأقوال، ثم قال: لا يتجه فيها الخلاف، لأنه إذا أريد بالنافي من يدعي العلم أو الظن بالنفي فهذا يجب عليه الدليل، لأنه إذا لم يكن المنفي معلوماً بالضرورة، إذ الكلام مفروض فيه، إذ الضروري لا يستدل عليه فإما أن يكون معلوماً بالنظر والاستدلال أو مظنوناً بالنظر في العلامات والأمارات، وإلا استحال حصول العلم أو الظن، وعلى التقديرين يجب عليه ذكر ذلك، كما في الإثبات وإن أريد من يدعى عدم علمه أو ظنه فهذا لا دليل عليه لأنه يدعي جهله بالشيء والجاهل بالشيء غير مطالب بالدليل على جهله.
(ص): وهل يجب الأخذ بأقل المقول، وقد مر.
(ش): هذه المسألة قد مرت عند الإجماع السكوتي، فلم يحتج لشرحها، وإنما ذكرها هنا لئلا يتوهم أنه أهملها وكان ينبغي له أن ينبه على دلالة الاقتران
أيضاً فإنها من جملة أنواع الاستدلال، وقد مرت له في تعقب الاستثناء الجمل.
(ص): وهل يجب الأخذ بالأخف أو الأثقل فيه أو لا يجب شيء أقوال.
(ش): ذهب بعضهم إلى أن من جملة طرق الاستدلال الأخذ بأخف القولين وأنه واجب على المكلف كما قيل هناك: يجب الأخذ بأقل ما قيل لقوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر} {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) ويرجع حاصل هذا أن الأصل في الملاذ الإذن والمضار المنع، أو الأخف فيهما هو ذلك، وذهب بعضهم إلى
أن الأخذ بأثقل القولين واجب كما قيل هناك يجب بالأكثر، لأنه أكثر ثواباً، فكان المصير إليه واجباً، لقوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} ومنهم من لم يوجب الأخذ بشيء.
واعلم أن هذه المسألة قد تكون في المذاهب وقد تكون بين أقوال الرواة، وقد تكون بين الاحتمالات التي تتعارض أماراتها.
(ص): مسألة اختلفوا هل كان المصطفى صلى الله عليه وسلم متعبداً قبل النبوة بشرع، واختلف المثبت فقيل: نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم، وما ثبت أنه شرع أقوال والمختار الوقف تأصيلاً وتفريعاً وبعد النبوة المنع.
(ش): في المسألة بحثان أحدهما فيما كان النبي صلى الله (49/ك) عليه وسلم قبل أن يبعث برسالته، قال إمام الحرمين: وهذا يرجع فائدته إلى ما يجري مجرى التواريخ، وقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:
أحدها: أنه كان قبل النبوة متعبداً بشرع، واختاره ابن الحاجب والبيضاوي
وضبط المصنف بخطه متعبداً بفتح الباء وعلى هذا، فقيل: كان على شريعة آدم وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم وقيل: موسى، وقيل: عيسى صلى الله عليهم وسلم، وقال بعضهم: ما ثبت أنه شرع من غير تخصيص.
والثاني: لم يكن قبل البعثة متعبداً بشيء أصلاً، ونقله القاضي عن جمهور المتكلمين، واختلف القائلون به هل انتفى ذلك عقلاً لما فيه من التنفير عنه أو نقلاً وعزاه القاضي عياض
لحذاق أهل السنة فإنه لو كان لنقل ولتداولته الألسنة.
والثالث: الوقف وبه قال إمام الحرمين والغزالي والآمدي: وهو المختار وقد اعتمد القاضي على ما ذهب إليه أنه لم يقع، ولكنه غير ممتنع عقلاً فإنه لو كان على ملة لاقتضى العرف ذكره لها لما بعثه نبياً، ولتحدث أحد بذلك، في زمانه وبعده، وعارض ذلك إمام الحرمين بأنه لو لم يكن على دين أصلاً لنقل فإن ذلك أبدع وأبعد عن المعتاد مما ذكره القاضي، قال: فقد تعارض الأمران والوجه (130/ز) أن يقال: كانت العادة انخرقت لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور منها: انصراف همم الناس عن أمر دينه والبحث عنه، ولا يخفى أن الخلاف في هذه المسألة إنما هو بالنسبة للفروع التي تختلف فيها الشرائع، أما ما اتفقوا
عليه كالتوحيد فلا شك في حصوله للكل قبل النبوة.
الثاني: وهو نظير الخلاف في التي قبلها في أنه صلى الله عليه وسلم، هل تعبد بعد النبوة بشرع من قبله، والخلاف هنا مع من لم ينفه فيما قبله، وأما من نفاه قبل النبوة فقد نفاه بعدها بطريق أولى، وقد ذهب الأكثرون منا والمعتزلة إلى أنه لم يكن متعبداً بشرع أصلاً ثم افترقوا، فقالت المعتزلة: إن التعبد غير جائز عقلاً لتضمنه نقيضه في شرعنا، وقال آخرون العقل لا يحيله ولكنه ممنوع شرعاً واختاره الإمام والآمدي، وقالت طائفة: كان متعبداً بما لم ينسخ من شرع من قبله، على أنه موافق لا متابع، واختاره ابن الحاجب قال إمام الحرمين: وللشافعي
رضي الله عنه ميل إلى هذا وبنى عليه أصلاً من أصوله في كتاب الأطعمة وتابعه معظم أصحابه.
(ص): مسألة حكم المنافع والمضار قبل الشرع مر وبعده الصحيح أن أصل المضار التحريم، والمنافع الحل، قال الشيخ الإمام إلا أموالنا لقوله صلى الله عليه وسلم:((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)).
(ش): حكم المنافع والمضار فيما قبل الشرع مر في أول الكتاب عند قوله: ولا حكم قبل الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده، والكلام الآن فيما بعد ورود الشرع، والأصل في المنافع الإذن وفي المضار التحريم خلافاً لبعضهم، لنا قوله
تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} ذكره في معرض الامتنان، فلو لم يجز لم يمتن به، وقوله عليه الصلاة والسلام:((لا ضرر ولا ضرار)) وأطلق الجمهور أن الأصل في المنافع الإباحة، قال والد المصنف: ولك أن تقول الأموال من جملة المنافع، والظاهر أن الأصل فيها التحريم لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم
…
)) الحديث، وهو أخص من الدلائل المتقدمة التي استدلوا بها على الإباحة، فيكون قاضياً عليها إلا أنه أصل طارئ على أصل سابق، فإن المال من حيث كونه من المنافع الأصل فيه الإباحة بالدلائل السابقة، ومن خصوصيته الأصل فيه التحريم بهذا الحديث.
(ص): مسألة الاستحسان قال به أبو حنيفة وأنكره الباقون، وفسر بدليل ينقدح في نفس المجتهد تقصر عنه عبارته، ورد بأنه إن تحقق فمعتبر، وبعدول عن قياس إلى أقوى ولا خلاف فيه، أو عن الدليل إلى العادة، ورد بأنه إن ثبت
أنها حق فقد قام دليلها، وإلا ردت فإن تحقق استحسان مختلف فيه فمن قال به فقد شرع.
(ش): حكايته القول به عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى خاصة يقدح في حكاية ابن الحاجب له عن الحنابلة أيضاً وذكر أبو الخطاب الحنبلي قول أحمد: أصحاب أبو حنيفة إذا قالوا شيئاً خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه، قال أبو الخطاب: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان من غير دليل، فلو كان عن دليل لم ينكره، لأنه حق وهو معنى قوله: أنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه، أي أنا أترك القياس بالخبر وهو الاستحسان بالدليل وقال القاضي
عبد الوهاب: ليس بنصوص عن مالك إلا أن كتب أصحابنا مملوءة بذكره، والقول نص عليه ابن القاسم وأشهب، وغيرهما. انتهى.
ولا بد أولاً من تبيين المراد بالاستحسان، وذكر المصنف ثلاث مقالات لهم:
الأولى: أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر أن يفوه به، ورده ابن الحاجب بأنه لم يتحقق كونه دليلاً فمردود اتفاقاً، وإن تحقق فمعتبر اتفاقاً ورده البيضاوي بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه عن فاسده، فإن ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وهماً لا عبرة له.
الثانية: أنه عدول عن قياس إلى قياس أقوى، ولا خلاف فيه أي أن أقوى القياس معمول به عند التعارض.
الثالثة: أنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس كدخول الحمام من غير تقدير الماء، وشرب الماء من السقاء، ورد بأن العادة إن ثبت جريانها بذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام فهو ثابت بالسنة أو في زمانهم من غير إنكار فهو إجماع وإلا فهو مردود وظهر بهذا أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه، فإن تحقق استحسان مختلف فيه فمن قال به فقد شرع وهو بتشديد الراء أي لو جاز أن يستحسن بغير دليل لكان هذا نصب شريعة على خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا دليل عليه يوجب تركه.
(ص): أما استحسان الشافعي رضي الله عنه التحليف على المصحف والخط في الكتابة ونحوها فليس منه.
(ش): هذا جواب عن سؤال (50/ ك) مقدر وهو أن الشافعي رضي الله عنه استحسن في مسائل كثيرة، وجوابه يعلم مما سبق وأن الخلاف لفظي راجع إلى معنى التسمية، وأن المنكر عند أصحابنا، إنما هو جعل الاستحسان أصلاً من
أصول الشريعة مغايراً لسائر الأدلة، أما استعمال لفظ الاستحسان مع موافقة الدليل فلا ينكر، فقد قال الشافعي رضي الله عنه أستحسن التحليف على المصحف وأستحسن أن يترك للمكاتب شيء من نجوم الكتابة، وحسن أن يضع أصبعيه في صماخي أذنيه إذا أذن واستحسن في المتعة ثلاثين درهماً، ونحو ذلك فلم يرد الشافعي رضي الله عنه أن دليل هذه الأمور الاستحسان، ألا ترى أنه
لم يوجب التحليف، ولا الخط، وإنما استحسن ذلك لمآخذ فقهية لا من الاستحسان المجرد، كيف؟ والشافعي رضي الله عنه من أشد المنكرين للاستحسان؟ وقال: من استحسن فقد شرع، هذا حاصل ما أجاب به الأصحاب، لكن رأيت في سنن الشافعي رضي الله عنه وقد ذكر خيار الشفعة (131/ ز) ثلاثاً وقال الشافعي رحمه الله ورضي الله عنه: قلت: هذا استحسان مني ليس بأصل، ولا بد من تأويله.
(ص): مسألة: قول الصحابي رضي الله عنه على الصحابي غير حجة وفاقاً، وكذا على غيره، قال الشيخ الإمام: إلا في التعبدي، وفي تقليده قولان لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدون.
(ش): مذهب الصحابي المجتهد ليس حجة على صحابي آخر اتفاقاً، سواء كان مجتهداً أم لا، أما إن كان فواضح وأما إن لم يكن فوظيفته التقليد، وليس قول المجتهد حجة في نفسه، وإنما لم يقل المصنف مذهب الصحابي العالم كما قيده بعض الحنابلة، لأن العامي لا قول له، لأنه صادر عن غير نظر، ونقله الاتفاق تابع فيه ابن الحاجب، وغيره، لكن الشيخ أبا إسحاق في (اللمع) قال: إذا اختلفوا على قولين ينبني على القولين في أنه حجة أم لا، فإن قلنا: ليس بحجة لم يكن على قولين ينبني على القولين في أنه حجة أم لا، فإن قلنا: ليس بحجة لم يكن قول بعضهم حجة على بعض ولم يجز تقليد واحد منهما، بل يرجع إلى الدليل، وإن قلنا: إنه حجة فيها فهما دليلان تعارضا يرجح أحدهما على الآخر بكثرة العدد من أحد الجانبين أو يكون فيهما إمام. انتهى.
وأما قول الصحابي هل يكون حجة على غير الصحابي اختلفوا فيه وللشافعي رحمه الله ورضي عنه وأحمد رحمه الله قولان، والجديد أنه ليس بحجة وادعى الشيخ الإمام أن
الشافعي رحمه الله ورضي عنه استثنى من قوله في الجديد ليس بحجة الأمر التعبدي الذي لا مجال للقياس فيه، قال: لأن الشافعي رحمه الله رضي الله عنه قال في اختلاق الحديث: روي عن علي رضي الله عنه (أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات) ولو ثبت ذلك عن علي رضي الله عنه قلت به، فإنه لا مجال للقياس فيه، فالظاهر أنه نقله توقيفاً، هذا كلام الشافعي رحمه الله ورضي عنه،
وذكر الأصوليون هذا من تفاريع القديم فالظاهر أنه حجة قديماً وجديداً، لأنه يفيد ظناً لا معارض له، قلت: ولا نقل عند المصنف ووالده في ذلك، وقد جزم به ابن الصباغ في كتاب الإيمان من كتابه المسمى بـ (الكامل) والإمام في (المحصول) في باب الأخبار وإذا قلنا إنه ليس بحجة فهل يجوز للمجتهد تقليده ينبني على أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد فإن جوزناه مطلقاً فتقليد الصحابي
أولى، وإن منعناه ففي تقليد الصحابة ثلاثة أقوال للشافعي رحمه الله ورضي عنه الجديد: أنه لا يجوز مطلقاً، الثاني: يجوز، والثالث وهو قديم: إن انتشر جاز وإلا فلا وأما غير المجتهد من العامة فهل يجوز لهم تقليده وهو مراد المصنف؟ فيه خلاف حكاه إمام الحرمين وقال: إن المحققين على الامتناع، وليس هذا، لأنهم دون المجتهد من غير الصحابة، فهم أجل قدراً بل لأن مذاهبهم لا يوثق بها فإنها لم تثبت حق الثبوت، كما تثبت مذاهب الأئمة الذين لهم أتباع وبهذا جزم ابن الصلاح في كتاب (الفتيا) وزاد أنه لا يقلد التابعين أيضاً ولا غيرهم ممن لم يدون مذهبه وأن التقليد يتعين للأئمة الأربعة دون غيرهم، لأن مذاهبهم انتشرت وانبسطت حتى ظهر منها تقييد مطلقها وتخصيص عامها، وأما غيرهم فنقلت عنهم الفتاوى مجردة، فلعل لها مكملاً أو مقيداً أو مخصصاً لو انبسط كلام
قائله لظهر خلاف ما يبدو منه، بخلاف هؤلاء الأربعة فامتناع التقليد إذن لتعذر نقل حقيقة مذهبهم، وذهب غيرهم إلى أنهم يقلدون لأنهم قد نالوا رتبة الاجتهاد، وهم بالصحبة، يزدادون رفعة، قال المصنف: وهذا هو الصحيح عندي غير أني أقول: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقاً وإلا فلا لا لكونه لا يقلد بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت.
قلت: الخلاف يتحقق من وجه آخر ذكره ابن برهان في (الأوسط) فقال: تقليد الصحابة مبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه منع تقليدهم، لأن فتاويهم لا يقدر على استحضارها في كل واقعة، وإلى العلة الأولى أشار المصنف بقوله: لارتفاع الثقة بمعرفة مذهبه إذ لم يدون والمأخذ الذي ذكره ابن برهان للمنع حسن أيضاً، وما ذكره في هاتين المسألتين أعني الحجة والتقليد قد صرح به الغزالي والرازي والآمدي، وغيرهم وأفردوا لكل حكم مسألة فتوهم صاحب (الحاصل)
خلاف ذلك وخلط مسألة بمسألة وتابعه عليه البيضاوي فوقع في الغلط، ولا يلزم من كون قوله غير حجة أن لا يقلد ألا ترى إلى المقلدين غيرهم، فإنهم يقلدون وليست أقوالهم بحجة.
(ص): وقيل حجة فوق القياس فإن اختلف صحابيان فكدليلين، وقيل: دونه، وفي تخصيصه العموم قولان، وقيل: حجة إن انتشر، وقيل: إن خالف القياس، وقيل: إن انضم إليه قياس تقريب، وقيل: قول الشيخين فقط وقيل: الخلفاء الأربعة، وعن الشافعي رحمه الله ورضي عنه إلا علياً رضي الله عنه.
(ش): يخرج مما سبق ثلاثة أقوال أحدها: أنه غير حجة مطلقاً.
والثاني: غير حجة إلا في التعبدي.
والثالث: غير حجة ولكن يصلح للتقليد.
والرابع: عن القديم أنه حجة مطلقاً يقدم على القياس، وهو قول مالك وأكثر الحنفية وعلى هذا فإن اختلف صحابيان كان كدليلين تعارضا فيرجح أحدهما
بدليل.
والخامس: حجة دون القياس (51/ك) وعلى هذا فتخصيص العموم حكاهما الرافعي في الأقضية بلا ترجيح، أحدهما: الجواز لأنه حجة شرعية، والثاني: المنعئ= لأنه محجوج بالعموم وقد كانت الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم، قال المصنف: وهذه المسألة غير التي سبقت في باب التخصيص حيث قلنا: إن العام لا يخص بمذهب الراوي، ولو كان صحابياً، أي سواء كان قوله حجة أو لا، والمذكور هنا: أنا إن فرعنا على أن قوله حجة دون القياس ففي التخصيص به قولان، وهذا سواء كان الصحابي راوياً أم لا، قلت: لكن قوله في الأولى لا يخص به سواء كان قوله (132/ز) حجة أم لا فيه نظر، فإن الشيخ أبا إسحاق وغيره قالوا هناك: إن قلنا قوله ليس بحجة امتنع التخصيص به قطعاً، وإن قلنا: حجة، ففي التخصيص به وجهان، وإنما جعل المصنف الوجهين مفرعين على القول بأنه حجة دون القياس وإن أطلقهما مرة، لأنهما لو كانا مفرعين على أنه حجة فوق
القياس لم يجز خلافه عندنا في التخصيص به، وإذا قطع الشافعي رضي الله عنه وغيره من الأئمة قولهم بجواز التخصيص بالقياس فلئن يخص بما فوقه أولى.
والسادس: إن انتشر ولم يخالف فهو حجة ونقله الأصوليون عن القديم، أيضاً، لكن قال ابن الصباغ في (العدة): إنما احتج الشافعي رضي الله عنه بقول
عثمان في الجديد في مسألة البراءة من العيوب، لأن مذهبه أنه إذا انتشر ولم يظهر له مخالف كان حجة، انتهى، واعترض الغزالي، وقال: السكوتي ليس بقول فأي فرق بين إن انتشر أو لا قال الهندي: والعجب منه فإنه تمسك بمثل هذا الإجماع في القطع على أن خبر الواحد والقياس حجة، ولعله إنما قال ذلك لاعتقاده أن حجته لو قيل بها ليس على طريق الإجماع بل بغيره وهو الحق، وحينئذ فلا يكون لسكوت الغير في حجته مدخل.
والسابع: إن خالف القياس كان حجة، وإلا فلا، وقال ابن برهان في
(الوجيز) إنه الحق البين، وإن نصوص الشافعي رحمه الله ورضي عنه يدل عليه.
والثامن: حجة إن انضم إليه قياس التقريب حكاه الماوردي قولاً للشافعي رضي الله عنه.
والتاسع: قول الشيخين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما.
والعاشر: قول الخلفاء الأربعة حجة دون غيرهم وإذا تأملت هذه المذاهب عرفت أن بعضها ينظر إلى القائلين كهذا وما فعله، وبعضها إلى صفة القول كالثلاثة التي قبلهما.
والحادي عشر: قول الخلفاء الأربعة إلا علياً، وهذا أخذوه من قول الشافعي رضي الله عنه في الرسالة القديمة أن الصحابة إذا اختلفوا وفي أحد الطرفين أبو بكر
أو عمر أو عثمان رجح ولم يذكر علياً فاختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه حكاها القفال في أول شرح (التلخيص).
أحدها: أن حكمة حكمهم وإنما تركه اختصاراً أو اكتفاء بذكر الأكثر، وهذا ما اختاره ابن القاص فقال: قاله يعني الشافعي رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان نصاً وقلته في علي تخريجاً.
والثاني: إنما لم يذكره لأنه كان يرمى بالتشيع فأراد نفي الريبة عن نفسه، وهذا ساقط.
والثالث: وصححه القفال وجماعة أنه إنما لم يذكره لأنه ليس في قوله من القوة والحجة، كما في قولهم: وليس ذلك لتقصير في قوته الاجتهادية معاذ الله بل قالوا: وسبب ذلك أن الصحابة كانوا كثيرين إذ ذاك، وكان الخلفاء الثلاثة تستشيرهم كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في مسألة الجدة وعمر رضي الله عنه
في الطاعون وغير ذلك فكان قول كل منهم كقول أكثر الصحابة، ولما آل الأمر إلى علي رضي الله عنه خرج إلى الكوفة، وما مات خلق من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكن قوله كقولهم لهذا المعنى لا نقصان فيه كرم الله وجهه، ورضي عنه، وهذا ما حكاه المصنف هنا من الأقوال في هذه المسألة، وإذا نظرت كلامه فيما سيأتي في باب التراجيح حيث قال: وثالثها في موافق الصحابي إن كان.
حيث ميزه النص كزيد إلى آخره يجتمع أقوال =آخر أحدها: أنه غير حجة
ولا ترجيح به.
وثانيها: غير حجة ولكن يصلح للترجيح.
وثالثها: غير حجة ولا ترجيح فيه إلا أن يكون أحد الأربعة فيرجح به فقط.
رابعها: يترجح بمن ميزه نص.
(ص): أما وفاق الشافعي رحمه الله زيداً رضي الله عنه في الفرائض فلدليل لا تقليداً.
(ش): لما بين أن الصحيح في المذاهب أن قول الصحابي لا يحتج به، استشعر سؤالاً، وهو أن الشافعي رضي الله عنه نظر في مواضع اختلاف الصحابة في الفرائض، واختار مذهب زيد حتى تردد قوله: حيث ترددت الرواية عن زيد، وأجاب: بأن ذلك لم يكن تقليداً، ولكن رجح عنده مذهبه من وجهين.
أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفرضكم زيد)).
والثاني: قال القفال: ما تكلم أحد من الصحابة في الفرائض إلا وقد وجد له قول في بعض المسائل هجره الناس بالاتفاق إلا زيداً فإنه لم يقل بقول مهجور بالاتفاق.
وذلك يقتضي الترجيح كالعمومين إذا وردا وقد خص أحدهما بالاتفاق دون
الثاني، كان الثاني أولى واعترض الرافعي رحمه الله بأنه إن رجح عنده مذهب زيد لدليل فهو اجتهاد وافق اجتهاده، وإن لم يكن عن دليل لم يخرج عن كونه تقليداً، والجواب: أنه لم يذهب إلى ما صار إليه إلا عن دليل لكنه استأنس بما يرجح عنده من مذهب زيد، وربما ترك به القياس الجلي في بعض الصور وعضض =قوله بالقياس الخفي، كما نقول في قول الواحد من الصحابة إذا اشتهر ولم يعرف له مخالف، فباعتبار الاستئناس قيل: إنه أخذ مذهب زيد، وباعتبار الاحتجاج، قيل: إنه لم يقلده.
واعلم أن الشافعي رضي الله عنه خرج في مواضع كثيرة من كتبه الجديدة بتقليد الصحابة، فقال في (الأم) في قتال المشركين، وكل من يحبس نفسه بالترهيب: تركنا قتله اتباعاً لأبي بكر يرحمه الله، ثم قال: وإنما قلنا: هذا اتباعاً لا قياساً، وقال في البويطي: لا يحل تفسير المتشابه إلا بسنة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خبر عن أصحابه أو عن واحد من أصحابه أو إجماع العلماء هذا لفظه.
(ص): مسألة الإلهام إيقاع شيء في الصدر يثلج له الصدر يخص به الله تعالى بعض أصفيائه وليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوماً بخواطره خلافاً لبعض (52/ ك) الصوفية.
(ش): معنى يثلج: يطمئن، وهو بضم اللام وفتحها لغة ذكرها الجوهري،
ويقال في ماضيه: بفتح اللام وجرها على اللغتين، ذكره الإلهام في هذا الباب لم يفعل أصحابنا، إنما ذكره الحنفية منهم أبو زيد وقد نقل ابن السمعاني كلامه في (القواطع) قال أبو زيد (133/ز): الإلهام ما حرك القلب بعلم يدعوك إلى العمل به من غير استدلال به ولا نظر في حجة، قال: والذي عليه جمهور العلماء أنه خيال لا يجوز العمل به إلا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح له علمه بغير علم وقال بعض الجبرية: إنه حجة بمنزلة الوحي المسموع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واحتج بقوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها
فجورها وتقواها} أي: عرفها بالإيقاع في القلب، وبقوله تعالى:{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا فراسة المؤمن)) وقوله عليه الصلاة والسلام ((الإثم ما حاك في قلبك فدعه وإن أفتاك الناس وأفتوك)) فقد جعله عليه الصلاة والسلام شهادة قلبه بلا حجة أولى من الفتوى، فثبت أن
الإلهام حق وأنه وحي باطن إلا أن العبد إذا عصى الله وعمل بهواه حرم هذه الكرامة، وأما حجة أهل السنة فقوله تعالى:{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فألزمهم الكذب لعجزهم عن إظهار الحجة، والإلهام حجة باطنة لا يمكن إظهارها، وأنات الأمر بالنظر والاعتبار، ولم يأمر بالرجوع إلى القلب، وكذلك حديث معاذ بم يحكم، ولم يذكر فيه إلهام القلب، ولأن الإلهام قد يكون من الله تعالى ومن الشيطان ومن النفس ولا علامة قطعية على التعيين، وأما قوله:{فألهمها فجورها} أي عرفها طريق العلم قال ابن السمعاني:
وإنكار أصل الإلهام لا يجوز، ويجوز أن يفعل الله تعالى ذلك بعبده بلطفه كرامة له، ويقول في التمييز بين الحق والباطل: والحق من ذلك أن كلما استقام على شرع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في الكتاب أو السنة ما يرده فهو مقبول، وما لا فمردود، ويكون من تسويلات النفس، على أنا لا ننكر زيادة نور من الله تعالى كرامة للعبد، وزيادة نظر فأما أنه يرجع إلى قلبه في جميع الأمور كلها فقول لا
نعرفه، قلت: وممن أثبته الإمام شهاب الدين السهروردي قال في بعض أماليه: هو علوم تحدث في النفوس المطمئنة الزكية، وفي الحديث:((إن من أمتي محدثين مكلمين وإن عمر منهم)) وقال تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} أخبر أن النفوس ملهمة، فالنفس الملهمة علوماً لدنية هي التي تبدلت صفتها واطمأنت بعد أن كانت أمارة، ثم نبه على أمر حسن يرتفع به الخلاف، فقال: وهذا النوع لا تتعلق به المصالح العامة من عالم الملك والشهادة، بل تختص فائدته بصاحبه دون غيره، إذا لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير على طريق العموم وإن كانت له فائدة تتعلق بالاعتبار على وجه خاص قال وإنما لم يكن له ثمرة السراية إلى الغير طريق العموم من مفاتيح الملك لكون محله النفس، وقربها من الأرض والعالم السفلي، بخلاف المرتبة الأولى، وهي الوحي الذي قام به الملك الملقى، لأنه محله القلب المجانس للروح الروحاني العلوي وقال في كتابه (رشف النصائح الإيمانية): قد غسلت بتوفيق الله كتاب ابن سينا المترجم (بالشفاء) نحو اثني عشر مجلداً بإذن شريف مقدس نبوي.
فائدة: أهمل المصنف سد الذرائع عند المالكية وبسطه في (شرح المختصر).
(ص): خاتمة قال القاضي حسين: مبنى الفقه على أن اليقين لا يرفع الشك، والضرر يزال، والمشقة تجلب التيسير والعادة محكمة، قيل: والأمور بمقاصدها.
(ش): زعم القاضي الحسين أن مبنى الفقه على هذه القواعد الأربع وزعم بعضهم أنه أهمل خامسة وهي: الأمور بمقاصدها، وقال الإسلام بني على
خمس والفقه مبني على هذه واستحسنه بعضهم بأن الشافعي رضي الله عنه قال يدخل في حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) ثلث العلم واعتذر آخرون عن القاضي الحسين في إهمالها لرجوعها إلى قاعدة: تحكم العادة كما سنبينه، والتحقيق أنه إن أريد رجوع الفقه إلى الخمس فتعسف، وقول جملي وقد رجعها الشيخ عز الدين إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، ولو ضايقه مضايق لقال: أرجع الكل إلى اعتبار المصالح فإن درء المفاسد من جملتها وإن أريد الرجوع بوضوح تفصيلي فإنها تربوا على المائتين ثم المراد بها ما لا يخص باب من أبواب الفقه، وهو المراد هنا، ويسمى
بالقاعدة في اصطلاح الفقهاء، وأما ما يخص بعض الأبواب فيسمى الضوابط، ولا بد من الإشارة إلى قول جملي في هذه القواعد فتقول:
القاعدة الأولى: اليقين لا يرفع بالشك، وأصلها:((لا ينصرفن حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً)) وله أمثلة أحدها: انتفاء الأحكام عن المكلفين يقين فلا يزال بالشك، بل بدليل مثبت له أو لسببه، إذ لا حكم إلا بالشرع، والدليل منطوق وحي والمنبت له مفهومه أو معقوله، والمثبت لسببه البينات والعيان نحو الزوال وآلات المواقيت.
وثانيها: انتفاء الأفعال وعدم وقوعها من الإنسان يقين فلا يزال بالشك.
وثالثها: ثبوت الأحكام عند قيام سببها المقتضي بيقين شرعي فلا يزال بالشك، بل بمانع يزيل بنفيه أصل عدمه، من أجل هذا لا يصرف اللفظ عن حقيقة من شمول عام، ووجوب مأمور، وحرمة منهي إلا لعارض أرجح، ولا يزول
حكم فعل وضوء مثلاً إلا لناسخ فعل أخر كحدث وبهذا التقرير تبين أنه لا تختص هذه القاعدة بالفقه كما يوهمه كلام القاضي، بل تجرى في أصوله ويمكن رجوع غالب مسائل الفقه إلى هذه القاعدة إما بنفسها أو بدليلها، ولأجل هذه القاعدة كان الاستصحاب حجة، ولم يكن على المانع في المناظرة (53/ك) دليل وكان القول قول نافي الوطء غالباً، ولو وجد الماء الراكد متغيراً، فإن علم أنه لطول المكث فطهور أو لنجاسة فنجس وإن أشكل فهو على أصل الطهارة، نص عليه في (الأم) والبويطي ولو رأى كلباً يلغ في ماء كثير فشك هل شرب منه حتى نقص عن القلتين أم لا؟ فهو على الكثرة ما لم يعلم نقصه، ويكون طاهراً ذكره الحاوي قال في البحر: وهو صحيح.
القاعدة الثانية: الضرر يزال ولعلها شرط الفقه فإن مقصود الأحكام
الفقهية مهمات جلب المنافع ودفع المضار، فالقسم الثاني كله وبعض الأول مثال لهذه القاعدة (134/ز) إذ يشمل الباب على حدود الجنايات وفصل الخصومات، فالحدود لدفع الضرر عن الضروريات الخمس الشرعية في كل مسألة المجموعة في آية الممتحنة فما سبق في المناسبة، فالشرك مضرة في الدين فيزال بقتال المشركين المحاربين والمرتدين {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} فلا يبقى إلا مسلم أو مسالم بهدنة أو بجزية، ومن حفظ الدين الانقيادي الملازم للإيمان الحقيقي تقرير مباني الإسلام المزيلة ضرر الغفلة والقسوة على الشهوات الحسية، والدعوات النفسية، ومنهم إيجاب تبليغ الرواة المزيل ضرر الدين ودراية الدين المزيل ضرر الشبه والشكوك، ومن ثم كان الإقامة بحجج الأصول من فرائض الكفايات، والسرقة مضرة في المال، ومثلها المحاربة والإتلافات والغصب والتفويت فيزال بقطع السارق والمحارب، وبضمان المتلفات والغصوب بأنواعها، وبالحجر على الصبي والمجنون والسفيه والمفلس والراهن والعبد والمريض، فيما زاد على الثلث وسائر
أنواع الحجر التي أنهيت إلى نحو الخمسين، والزنا مضرة في النسل، ومثله الاستفراش قبل تبين الحال، والإلحاق البهتاني والاتهام فيزال بحد الزاني رجما وجلداً، فإنه مع ذلك ينزجر أو يقل فساده، وبالعدد والاستبراء، وباللعان وتحريم خفي البهتان، وبدعوى النسب والإقرار به، والقتل وقد يفضي إلى قطع الأطراف، ونحوه مضرة في النفس تزال بالقصاص أو الدية، وبحل الميتة للمضطر وإتلاف المكره مالاً وتلفظه بالكفر والبهتان إن ضر في النسل فقد تقدم، أو في العرض فيزال ضرره بالتعزير أو بحد القذف، وزوال العقل مضرة في ذلك كله فيزال بتحريم المسكر وبالحد، والصيال على الدين أو المال أو البضع أو النفس أو الأطراف أو غير ذلك مضرة فيزال بدفع الصائل، وإن أتى على نفسه، وأما الخصومات المضرة في ذلك كله
فيزال بأن يفصلها إمام مقسط فيعتمد الحق في الدعاوي والبينات والإقرار، قال بعضهم: فهذه القاعدة ترجع إلى تحصيل المقاصد أو تقريرها بدفع المفاسد أو تخفيفها ويدخل فيها: (الضرر لا يزال بالضرر) ومن ثم لا تجب العمارة على الشريك في الجديد، وإذا وقع جريح على جرحى، وإذا وقع في نار ولم يمكنه
الخلاص إلا بأن يرمي نفسه في ماء يموت فيه، وقطع السلعة التي يخاف منها ووجوب القصاص على المكره على القتل، وكذلك:(الضرورات تبيح المحظورات) بشرط عدم نقصانها عنها ومن ثم جاز، بل وجب أكل الميتة عند المخمصة.
الثالثة: المشقة تجلب التيسير ومثالها موجود في العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات أما العبادات: فكون الصلاة خمساً فقط، وكون مجموعها سبعة عشر ركعة وتفريقها على أوقات الفراغ توسعاً، وإباحة الجمع والقصر فيها للمسافر واغتفار الفعل الفاحش في الصلاة للخائف، وكيف أمكنه لمن اشتد خوفه وإسقاطها بالأعذار من حيض أو صبى أو جنون، واشتراط الطهارة فيها عن نجاسة
تفحش لا غير، والاكتفاء فيها بالتطهير برش في بول صبي أو إبقاء أثر إذا عسر زواله، وإخراج شعر المأكول ولبنه وأنفحته والمسك وقاربه، ونحو ذلك منها، واشتراط الوضوء في الأعضاء الأربعة دون جميع البدن وعند الحدث لا عند كل صلاة، وحصر الأحداث فيما يقل وجوده مع أنه أربعة فقط، والجنابة فيما ندر، وإقامة التراب بدل الماء في مواضعه، ومسح الخف والرأس مقام الغسل، وأحكام الحيض والاستحاضة وجعل المطهر الماء العام الموجود المتيسر الحصول، وعدم تنجيسه ببعض النجاسات، وعدم إفساده ببعض المغسولات والمغيرات وإعادة الطهورية إليه بعد سلبها باستعمال أو
تنجس أو غير ذلك، والاكتفاء في القبلة بمجتهد
البلد ومحاريب المسلمين وعدم اعتبارها في حق العاجز والخائف، ومسافر يتنفل، وفي عورة غير الحرة السرة والركبة، والعفو عن بعض الأفعال والأقوال، والاكتفاء بما يستطاع في أركان الصلاة وشروطها في الخوف والأمن وإسقاط الأعذار للجمعة والجماعة، وعدم مخاطبة الناقص بهما وندبية العبد، والاستسقاء والكسوفين دون إيجابها، وجعل الجنازة فرض كفاية، كل ذلك تيسير جلبه مشقة ما سوى ذلك، وتقريره تعالى نصب الزكوات مع اشتراط الحول، والسوم، وتقليل الواجب ورعاية العشر ونصفه، واعتبار المتمكن للأداء والضمان وما يعفى عنه من خيل ورقيق وعقار وغير ذلك وتعيين الأصناف المستحقين، وتجويز التعجيل والتوكل واستحباب صدقة التطوع الشاق تركها على سخي أو متقرب إلى الله تعالى، أو رقيق القلب رحمة من غير تقييد بجنس ولا قدر ولا مصرف ولا زمان ولا مكان وتقديره الصيام بشهر، وإلى الليل فقط، والعفو عما يشق وإباحة الفطر، وبالعذر واستحباب صيام التطوع، وكونه بنية من النهار وإباحة الخروج منه لمن يشاء وتوسيع القضاء وفدية لحواملهم ونحوه، وتقديره تعالى وجوب الحج بالاستطاعة والمواقيت بأماكنها المقاربة للحرم، وتقليل الأعمال، وتوسيع وجوبه، وتجويز النيابة فيه، وإباحة محظوراته بالعذر، وتقدير كفاراته، وتجويز التحلل بالإحصار والفوات وشبهه،
وإيجابه تعالى الجهاد (54/ك) على الكفاية، وفي السنة كلها مرة واحدة، وتجويز المتحرف للقتال والتحيز إلى فئة، والفرار لأكثر من الضعف وإحلال الغنائم، وتملك النساء والصبيان، وقبول الجزية ونحوه، وعفوه تعالى عن لغو اليمين وتكفيرها قبل الحنث، والتخيير بينها وبين المنذور لجاجاً، واستحبابه تعالى العتق والتدبير والكتابة من غير وجوب ولا تحريم، وإباحته تعالى الطيبات والتشبع منها، والتداوي حتى بالنجس ولبس غير النقدين والحرير الصرف وإباحة الذبائح من كل مناكح ونحوه، وأنواع الصيد
وأما (135/ز) الأموال فإحلال الله تعالى البيع من غير إيجاب له وإطلاقه في الأماكن والأزمان، وإثبات الخيار فيه، ثم جعله لازماً، وإباحة الرد بالعيب وخلف الشرط، وتجويز الإقالة والتحالف، وتأجيل الثمن في أي جنس، وبأي قدر، والنهي عن العقود المؤدية وإباحة العرايا والقرض، والسلم والحوالة والرهن والصلح، والضمان وإحلاله الإجارة والعارية وتجويز عقد الإرفاق
وجعلها غير لازمة كالوكالة والقراض والشركة العارية والوديعة، وشرعية الأوقاف والهبات والهدايا والمواريث والوصايا، وإحياء الموات واللقطة، ومن ذلك الشفعة والقسمة وما يوهم ضرراً، وأما النكاح فإباحته من غير إيجاب وإطلاقه في غير المحارم، وتجويز مثنى وثلاث ورباع ومن غير معاينة، وإطلاق الاستمتاع فيه، وتفويضه للأولياء، وتقرير أنكحة الكفار وتجويز فسخه بأسباب الفسخ وإطلاق الصداق في الجنس والقدر وتشطيره، وإسقاطه بالمفارقة، وإيجاب القسم وحسن المعاشرة، وإباحة الخلع والطلاق والرجعة ومطالبة الولي، وتحريم الظهار، وإعادة الحل للمظاهر بالكفارة، وإيجاب النفقات وجعلها على الموسر قدره وعلى المقتر قدره وأما الجنايات فبالعصمة في غير العمد المحض ورعاية المماثلة، وتحريم المثلة، وتجويز العفو وقتال البغات والإعلام بأنه تعالى لم يجعل شفاء فيما حرم، وإنما الخمر داء وأن التعريض ليس بقذف وجعل الإمامة والقضاء على الكفاية، واعتماد الظاهر ولو بالاجتهاد وإثابة من أخطأ دون تأثيمه ورد شهادة المتهم وقبول غيرها، واليمين
مع الشاهد، ورجل مع امرأتين والنسوة الخلص في مواطن الحاجة ومن جعل الدية من هذا فقد وهم، لأنها زاجرة عن ضرر المجني عليه وجابرة ما فات عليه، والعفو عليها رافع ضرر القتل عن الجاني قال الأئمة، وقد تقوم الحاجة مقام المشقة في نظر عورة أو امرأة.
القاعدة الرابعة: العادة تحكم وذكر القاضي الحسين أصلها من حديث ((ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)) والمعروف عند المحدثين في هذا: الوقف على ابن مسعود، والأحسن الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم لهند:((خذي من ماله ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف))
وقوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف} وقال ابن السمعاني في (القواطع): والعرف في الآية ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم، وكذا قال ابن عطية: معناه بكل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة، وقال ابن ظفر في (الينبوع): ما عرفته العقلاء أنه حسن وأقرهم الشارع عليه فمنه الرجوع إلى العرف، والعادة في معرفة أسباب الأحكام من الصفات الإضافية كصغر صبية وكبرها، وإطلاق ماء وتقييده، وكثرة تغيره وقلته، وغالب الكثافة ونادر العذر ودائمة، وقرب منزلة وبعدها، وطول فصل في السهو وقصره، وكثرة فعل أو كلام وقلته ومشقة احتراز من نجاسة مثلاً وسهولته، وقوة خف وضعفه وتكلب الجوارح وما
يعد ساتراً وطيباً للمحرم، ومقابلاً بعوض في البيع، وعيناً وفضلاً بين المتعاقدين وثمن مثل، وكفء نكاح، وتهيؤ زفاف، وحفظ ماشية وزرع ومؤنة وكسوة وسكنى مثل، ومردود وظرف هدية وفرس غاز وما يليق بحال الشخص في متعة وفي عدواة برد الشهادة والحكم، ومنها الرجوع إليها في مقادير الحيض والنفاس، والطهر وأكثر مدة الحمل وسن اليأس، ومهر مثلها، ومنها الرجوع إليها في فعل غير منضبط رتبت عليه الأحكام كالقصر والإحياء والحد وإعراض عن معدن ومتحجر وضال، والإذن في الضيافات وإباحة نحو أكل وشرب دابة، ودخول بيت حميم والتبسط مع الأصدقاء، وما يعد قبضاً وإيداعاً وإعطاء وهدية وغصباً ومعروف المعاشرة، وتصرف الملاك، وانتفاع عارية، وحفظ وديعة وتجارة قراض ونحل ومساقاة، وصيغة إجارة، وصغار ذمي وناقض عهده وموجب لوث، ومنها الرجوع إليها في تخصيص عين أو فعل أو مقدار يحمل اللفظ عليه كألفاظ الأيمان والأوقات والوصايا والتعويضات،
والدينار والدرهم والصاع والوسق، والقلة والأوقية، وكذا إطلاق النقود في المعاملات ينصرف إلى الغالب ومنه صحة المعاطاة بما يعده الناس بيعاً على المختار في الفتوى.