الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا كله حق مأخوذ من النصوص فالله سبحانه هو المحمود. المحمود من الحمد، والحمد ذكر أوصاف المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، وهو أبلغ من المدح، المدح هو أن تثني على الشخص بصفاته ولا يلزم من ذلك أن تحبه. تثني على الشيء سواء كان إنسانا أو حيوانا أو غيره بأوصاف ولا يلزم من ذلك المحبة، كما تثني على الأسد تقول: إنه قوي مفتول العضلات، هذا ثناء ولا يقال إنه حب بخلاف الحب فإنه ذكر أوصاف المحبوب مع حبه وإجلاله وتعظيمه؛ ولهذا جاء في جناب الرب الحمد دون المدح:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } (1) ولم يقل أمدح الله رب العالمين، الحمد هو ذكر أوصاف المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، الله تعالى هو المحمود له الصفات الكاملة وله الحب والإجلال والتعظيم سبحانه وتعالى، وفيه إثبات قضاء الله وقدره إثبات أسمائه وصفاته، وأنه سبحانه وتعالى يعلم كل شيء، وأنه مستحق للعبادة، وأنه سبحانه لا يحيط به أحد من خلقه، ولا تمثله العقول، ولا تصوره القلوب سبحانه وتعالى فهو لا يماثله شيء من خلقه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) وقد أحاط بكل شيء علما، ووسع كل شيء رحمة وعلما كل هذا من صفاته سبحانه وتعالى.
ما تضمنته خطبة الكتاب
أولا البداءة بالبسملة
قال المؤلف رحمه الله:
ما تضمنته خطبة الكتاب: تضمنت خطبة المؤلف في هذا الكتاب ما يأتي:
أولا: البداءة بالبسملة، اقتداء بكتاب الله العظيم، واتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى بسم الله الرحمن الرحيم أي: أفعل الشيء مستعينا ومتبركا بكل اسم من أسماء الله تعالى الموصوف بالرحمة الواسعة، ومعنى الله المألوه أي: المعبود حبا وتعظيما وتألها وشوقا.
(1) - سورة الفاتحة آية: 2.
(2)
- سورة الشورى آية: 11.
بدأ بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بحديث " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أو أقطع " والحديث وإن كان فيه ضعف لكن له طرق.
الله: لفظ الجلالة أعرف المعارف، وهو علم على الرب سبحانه وتعالى، ومتضمن لصفة الألوهية فالله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما قال ابن عباس، وأصل الله: الإله ثم حذفت الهمزة فاجتمعت لامين إحداهما ساكنة وأدغمت إحداهما في الأخرى فصارت الله. الله اسم مشتق مشتمل على صفة الألوهية، وهو أعرف المعارف، علم على الرب لا يطلق على غيره، وكل الأسماء راجعة إليه.
والرحمن ذو الرحمة الواسعة.
وكذلك الرحمن من الأسماء المختصة بالله عز وجل لا تطلق على غيره، وهو اسم مشتمل على صفة الرحمة كل أسماء الله مشتقة، الاسم يدل على الذات وعلى الصفة، والرحمن لا يطلق على غير الله؛ ولهذا لما تسمى مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة تسمى بالرحمن لزمه وصف الكذب فلا يطلق مسيلمة إلا ويلصق به الكذب فيقال مسيلمة الكذاب؛ لأنه تسمى باسم من أسماء الله مع أنه ادعى النبوة غيره الأسود العنسي في اليمن ادعى النبوة ولا يقال له الأسود العنسي الكذاب -وهو كذاب- لكن مسيلمة اختص بلزوم الوصف لما تسمى بالرحمن فلزمه وصف الكذب لا ينفك عنه -نسأل الله السلامة والعافية-.
والرحيم الموصل رحمته من يشاء من خلقه.
الرحيم من أسماء الله وليست مختصة تطلق على المخلوق، تطلق عليه وعلى غيره، ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحيم كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } (1) هذا من الأسماء المشتركة الرحيم والعزيز والحي والعلي هذه من الأسماء المشتركة.
الثناء على الله بالحمد
(1) - سورة التوبة آية: 128.
فالفرق بين الرحمن والرحيم أن الأول باعتبار كون الرحمة وصفا له، والثاني باعتبارها فعلا له يوصلها من يشاء من خلقه.
ثانيا: الثناء على الله بالحمد، والحمد ذكر أوصاف المحمود الكاملة وأفعاله الحميدة مع المحبة له والتعظيم.
وهذا هو الفرق بينه وبين المدح، المدح يذكر فيها أوصاف الممدوح لكن ما يلزم من ذلك المحبة، أما الحمد فهو ذكر أوصاف المحمود والثناء عليه بها مع حبه وإجلاله وتعظيمه، فأنت قد تمدح الأسد ولكن لا يلزم من ذلك أن تحب الأسد، قد تمدح الجبار أو الظالم في بعض الصفات وأنت لا تحبه، فالمدح لا يلزم منه المحبة بخلاف الحمد؛ ولهذا جاء في حق الرب الحمد ولم يأت المدح:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } (1) ولم يأت أمدح الله.
سعة علم الله وكمال قدرته
ثالثا: أن الله محمود بكل لسان، ومعبود بكل مكان أي: مستحق وجائز أن يحمد بكل لغة، ويعبد بكل بقعة.
رابعا: سعة علم الله بكونه لا يخلو من علمه مكان وكمال قدرته وإحاطته حيث لا يلهيه أمر عن أمر.
لكماله سبحانه وتعالى فهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله لا يخلو علمه منه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن بخلاف المخلوق الضعيف الناقص فعلمه ناقص مسبوق بالجهل، وينتهي أيضا بالموت فلا يعلم إذا مات، وكذلك المخلوق ضعيف يلهيه شأن عن شأن.
أما الرب سبحانه وتعالى فلا يلهيه شأن عن شأن، ولا يتضرر بسؤال السائلين ولا بإلحاح الملحين، من يحصي الخلائق؟ لا يحصيهم إلا الله في البراري والبحار وفي الجو والسماوات والأرضين كلهم يسألون الله في وقت واحد يلهجون بذكره وثنائه فيثيبهم ويجيب سؤالهم ويرزقهم ويعافيهم في وقت واحد لا يلهيه شأن عن شأن، خلقهم وأوجدهم {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } (2) .
(1) - سورة الفاتحة آية: 2.
(2)
- سورة الملك آية: 14.
وفي يوم القيامة يحاسب الله الخلائق في يوم واحد فلا يلهيه شأن عن شأن سبحانه وتعالى، ويفرغ من حسابهم في قدر منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة. القيلولة تكون في الجنة قال الله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) } (1) ، لكماله سبحانه وتعالى، أما المخلوق الضعيف الناقص ما يستطيع يكلم اثنين، ولا يستطيع يسمع كلام ثلاثة أو أربعة؛ لضعفه ونقصه، أما الله فهو كامل سبحانه وتعالى لا يلهيه شأن عن شأن، ولا يشغله شيء عن شيء سبحانه لا إله إلا هو.
عظمته وكبرياؤه وترفعه عن كل شبيه وند
وتنزهه وتقدسه عن كل زوجة وولد
الخامس: عظمته وكبرياؤه وترفعه عن كل شبيه وند مماثل لكمال صفاته من جميع الوجوه.
السادس: تنزهه وتقدسه عن كل زوجة وولد وذلك لكمال غناه.
(1) - سورة الفرقان آية: 24.
سبحانه وتعالى لأنه لا يحتاج لأحد بخلاف المخلوق الناقص، كماله أن يكون له زوجة وولد، المخلوق الذي له زوجة وولد أكمل من الذي ليس له زوجة ولا ولد؛ لضعفه ونقصه يحتاج لزوجة وولد؛ ولذلك لا زوجة له ولا ولد، ومن نسب الزوجة إلى الله أو الولد فهو كافر {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) } (1) بل إن نسبة الولد إلى الله أمر عظيم عظمه الله؛ ليبين أن هذا الأمر العظيم تكاد السماوات أن تنفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) } (2) كل من في السماوات والأرض يأتي معبدا مقهورا مصرفا مدينا مغلوبا تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، ليس له من نفسه حول ولا طول ولا قوة.
(1) - سورة الجن آية: 3.
(2)
- سورة مريم آية: 88-93.
كل من في السماوات والأرض يأتون عبيدا لله، ينتظرون أمره، وتنفذ فيهم قدرته ومشيئته، ولا يخرجون عن إرادته، كل من في السماوات والأرض من الملائكة والآدميين والطيور والوحوش والحيوانات، والطيور والوحوش والحيوانات تبعث يوم القيامة ويقتص بعضها من بعض، ثم يقول الله لها كوني ترابا؛ لذلك يقول الكافر:{يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) } (1) فجميع من في السماوات والأرض يأتون عبيدا لله، والله سبحانه هو الواحد الذي لا شبيه له ولا نظير له، وليس له أحد يعينه من عباده ولا زوجة له ولا ولد ولا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، ولا أحد يعينه يساعده لكماله، وهو الحي القيوم القائم بنفسه المقيم لغيره له ملك السماوات والأرض، لا يخفى عليه شيء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا السماء.
تمام إرادته وسلطانه بنفوذ قضائه في جميع العباد
وعظمة الله فوق ما تتصور العقول والقلوب
السابع: تمام إرادته وسلطانه بنفوذ قضائه في جميع العباد فلا يمنعه قوة ملك ولا كثرة عدد ومال.
الثامن: عظمة الله فوق ما يتصور بحيث لا تستطيع العقول له تمثيلا، ولا تتوهم له القلوب صورة؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2)) كما قال عن نفسه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (3) .
{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (4) لا سمي له ولا مثيل {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (5) .
اختصاص الله بالأسماء الحسنى والصفات العلى
التاسع: اختصاص الله بالأسماء الحسنى والصفات العلى.
أسماء الله كلها حسنى بالغة الكمال في الحسن، وصفاته كلها عليا بخلاف المخلوقين قد يكون له أسماء غير حسنى وصفات غير عليا.
(1) - سورة النبأ آية: 40.
(2)
- سورة الشورى آية: 11.
(3)
- سورة الشورى آية: 11.
(4)
- سورة مريم آية: 65.
(5)
- سورة النحل آية: 74.
المخلوق قد يكون له أسماء غير حسنى وصفات غير عليا المخلوق قد يكون له صفات ذميمة، وقد يكون له أسماء غير حسنة، أما الله فأسماؤه كلها حسنة، وصفاته كلها عليا، كما قال سبحانه {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) } (1) وقال سبحانه:{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } (2) له الوصف الكامل.
استواء الله على عرشه على الوجه اللائق به
العاشر: استواء الله على عرشه هو علوه واستقراره عليه على الوجه اللائق به.
والاستواء علو خاص، فالعلو من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الباري، فالله تعالى علي على المخلوقات فوق المخلوقات ولا يكون في وقت ليس عاليا، أما الاستواء فهذا من الصفات الفعلية، وهو علو خاص استواؤه على العرش وكان بعد خلق السماوات والأرض.
فالله تعالى خلق العرش ثم قدر المقادير، مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش بعد ذلك، فهو علو خاص الله أعلم بكيفيته، فعل يفعله سبحانه وتعالى كما يليق بجلالته وعظمته وكان بعد خلق السماوات والأرض، الاستواء والنزول من الصفات الفعلية، أما العلو فهذا من الصفات الذاتية.
عموم ملكه للسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى
الحادي عشر: عموم ملكه للسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.
(1) - سورة الأعراف آية: 180.
(2)
- سورة الروم آية: 27.
لا شك أن كل شيء داخل تحت ملك الله ليس هناك شيء يخرج عن ملك الله وعن إرادته ومشيئته. وهو سبحانه يعطي الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء كما قال الله سبحانه:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) } (1) هذه صفاته سبحانه وتعالى.
سعة علمه وقوة قهره وحكمه
الثاني عشر: سعة علمه وقوة قهره وحكمه، وأن الخلق لا يحيطون به علما؛ لقصور إدراكهم عما يستحقه الرب العظيم من صفات الكمال والعظمة.
الخلق لا يحيطون به علما؛ لكمال علمه وقصورهم كما أنهم لا يحيطون بعظمته ولا يحيطون بعلمه، كما أنهم يرون ربهم يوم القيامة ولا يحيطون به رؤية، لكمال عظمته سبحانه وتعالى، والخلق أضعف من أن يحيطوا به رؤية، بل إن الإنسان يرى شيئا من المخلوقات في الدنيا ولا يحيط بها رؤية.
فالإنسان يرى الجبل العظيم ولا يحيط به رؤية ما يستطيع يحيط به من جميع الجهات، ويرى البستان الواسع ولا يحيط به رؤية، ويرى البلد ولا يحيط به رؤية، فالرب -تعالى- أعظم وأكمل، فالعباد المؤمنون يرون ربهم يوم القيامة، وهو أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة لكنهم لا يحيطوا به رؤية؛ لكمال عظمته -سبحانه-.
تقسيم نصوص الصفات وطريقة الناس فيها
(1) - سورة آل عمران آية: 26-27.
تنقسم نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة إلى قسمين: واضح جلي، ومشكل خفي، فالواضح ما اتضح لفظه ومعناه، فيجب الإيمان به لفظا، وإثبات معناه حقا بلا رد ولا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل؛ لأن الشرع ورد به فوجب الإيمان به، وتلقيه بالقبول والتسليم.
وأما المشكل فهو ما لم يتضح معناه؛ لإجمال في دلالته، أو قصر في فهم قارئه فيجب إثبات لفظه؛ لورود الشرع به، والتوقف في معناه، وترك التعرض له؛ لأنه مشكل لا يمكن الحكم عليه، فنرد علمه إلى الله ورسوله.
وقد انقسم طريق الناس في هذا المشكل إلى طريقين: الطريق الأول: طريقة الراسخين في العلم الذين آمنوا بالمحكم والمتشابه وقالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (1) وتركوا التعرض لما لا يمكنهم الوصول إلى معرفته والإحاطة به؛ تعظيما لله ورسوله، وتأدبا مع النصوص الشرعية، وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (2) .
الطريقة الثانية: طريقة الزائغين الذين اتبعوا المتشابه؛ طلبا للفتنة، وصدا للناس عن دينهم وعن طريقة السلف الصالح، فحاولوا تأويل هذا المتشابه إلى ما يريدون لا إلى ما يريده الله ورسوله، وضربوا نصوص الكتاب والسنة بعضها ببعض، وحاولوا الطعن في دلالتها بالمعارضة والنقض؛ ليشككوا المسلمين في دلالتها، ويعموهم عن هدايتها، وهؤلاء الذين ذمهم الله بقوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (3) .
(1) - سورة آل عمران آية: 7.
(2)
- سورة آل عمران آية: 7.
(3)
- سورة آل عمران آية: 7.
تنقسم نصوص الصفات إلى قسمين: قسم واضح بمعنى أنه واضح المعنى جلي لا إشكال فيه مثل إثبات القدرة والعلم والسمع والبصر: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) } (1){وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) } (2) إثبات الإرادة إثبات أن الله بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وسائر الصفات إثبات العلو للرب والاستواء على العرش هذه كلها نصوص محكمة واضحة.
والقسم الثاني: ما فيه اشتباه وهذا الاشتباه يشتبه على بعض الناس دون البعض، وهو الذي لم يظهر معناه للإنسان، وهذه الطريقة الطريقة في أن الشيء المتشابه لا يعلمه الإنسان يرده إلى المحكم الواضح، ويفسره به حتى يزول الإشكال هذه طريقة الراسخين في العلم، طريقة أهل الحق، كل شيء يشكل عليك رده إلى الواضح حتى تفسره به، الطريقة الثانية هي طريقة أهل الزيغ وهم الذين يتعلقون بالمتشابه، ويردون المحكم إليه، فيكون كله متشابها مثلا جاء في الحديث:" إذا صلى أحدكم فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ".
(1) - سورة الأحزاب آية: 40.
(2)
- سورة الأحزاب آية: 27.
وفي لفظ: " فإن الله أمامه " بعض أهل الزيغ تعلق بالمتشابه قالوا: كيف إن الله قبل وجهه؟ إن الله أمامنا في الجدار هؤلاء أهل الزيغ نقول لهم: هذا متشابه ردوه إلى المحكم ما هو المحكم؟ النصوص الكثيرة التي دلت على أن الله في العلو أكثر من ثلاثة آلاف دليل منها قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) في سبعة مواضع، وقوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } (2) وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } (3){سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } (4){يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (5){وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (6){إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (7){تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (8) .
هذه نصوص كثيرة تزيد أفرادها كما ذكر العلماء على ثلاثة آلاف دليل كلها صريحة واضحة في أن الله فوق العرش، فوق الخلق، فوق سماواته فوق عرشه بعد أن تنتهي المخلوقات التي سقفها عرش الرحمن الله فوق العرش، فهذا الحديث نرده إلى النصوص الواضحة "إن الله قبل وجهه" يعني: هو فوق العرش، ومن كان فوقك فهو أمامك، ولا منافاة فالله تعالى قبل المصلي، وهو فوق العرش، ومن كان فوقك فهو أمامك، وبهذا نعمل بالنصوص، لكن أهل الزيغ يقولون: هذا دليل على أن الله مختلط بالخلق، وأن الله مع الخلق -نعوذ بالله-.
(1) - سورة الأعراف آية: 54.
(2)
- سورة الملك آية: 16.
(3)
- سورة البقرة آية: 255.
(4)
- سورة الأعلى آية: 1.
(5)
- سورة النحل آية: 50.
(6)
- سورة الأنعام آية: 18.
(7)
- سورة فاطر آية: 10.
(8)
- سورة المعارج آية: 4.
ومن ذلك أن أهل الزيغ يتعلقون بنصوص المعية: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) وأبطلوا بها نصوص الفوقية والعلو: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) قالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات، وقالوا: إن هذه النصوص تبطل نصوص الفوقية والعلو، وهذا من أبطل الباطل، المعية لا تفيد الاختلاط، المعية في لغة العرب التي نزل بها القرآن لمطلق المصاحبة، تأتي لمطلق المصاحبة، (مع) في لغة العرب لا تفيد الاختلاط ولا الامتزاج، لها ألوان متعددة من ألوانها: أكون أنا بنفسي معك وأحيانا أقول: اذهب وأنا معك يعني: لأن اهتمامي معك، أو لأن قوتي معك، أو لأن مالي معك، ويقال فلان معه زوجته وهي في المشرق وهو في المغرب، وتقول العرب: لا زلنا نسير والقمر معنا والنجم معنا والقمر فوق وليس مختلطا بالمخلوقات، وهذا أسلوب عربي معروف يقال مع فلان دار كذا وضيعة كذا، ويقال فلان معه المتاع، وإن كان فوق رأسه فالمعية لا تفيد الاختلاط.
(1) - سورة الحديد آية: 4.
(2)
- سورة الحديد آية: 4.
لكن أهل الزيغ قالوا: المعية تفيد الاختلاط، وأبطلوا نصوص الفوقية، وضربوا النصوص بعضها ببعض، فالذين في قلوبهم زيغ يتعلقون بالنصوص المتشابهة ويتركون المحكم، أما أهل الحق فإن الأصل عندهم المحكم، ويردون إليه النصوص المتشابهة، ويفسرونها بها فيزول الإشكال كما قال سبحانه:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) } (1) فطريقة أهل الحق أن الأصل النصوص المحكمة الواضحة، وإذا جاء نص مشكل اشتبه علي أرده على المحكم فتتفق النصوص ولا تختلف، أما أن يتعلق الإنسان بالمتشابه ويترك المحكم فهذه طريقة أهل الزيغ؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها:(إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) وهي قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (2) .
تحرير القول في النصوص من حيث الوضوح والإشكال
(1) - سورة آل عمران آية: 7.
(2)
- سورة آل عمران آية: 7.
إن الوضوح والإشكال في النصوص الشرعية أمر نسبي يختلف فيه الناس بحسب العلم والفهم، فقد يكون مشكلا عند شخص وهو واضح عند شخص آخر، والواجب عند الإشكال اتباع ما سبق من ترك التعرض له والتخبط في معناه، أما من حيث واقع النصوص الشرعية فليس فيها -بحمد الله- ما هو مشكل لا يعرفه أحد من الناس معناه فيما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؛ لأن الله وصف القرآن بأنه نور مبين، وبيان للناس وفرقان، وأنه أنزله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وهذا يقتضي ألا يكون في النصوص ما هو مشكل بحسب الواقع بحيث لا يمكن أحدا من الأمة معرفة معناه.
معنى الرد والتأويل والتشبيه والتمثيل وحكم كل منها. الرد: التكذيب والإنكار مثل أن يقول قائل: ليس لله يد لا حقيقة ولا مجازا وهو كفر؛ لأنه تكذيب لله ورسوله.
وهذا بالإجماع من كذب الله ورسوله كفر، هذا من أنواع الردة تكذيب الله أو تكذيب الرسول، تكذيب الله في شيء مما جاء في القرآن، وتكذيب رسوله في شيء مما جاء في السنة. تكذيب رد صريح هذا كفر هذا بخلاف التأويل، فإذا قال شخص: إن الله لم يستو على العرش. نقول: هذا كفر؛ لأنه كذب الله بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1) لكن شخص قال: إن الله استوى على العرش لكن معنى الاستواء الاستيلاء هذا متأول له شبهة لا يكفر لأنه متأول، أما الأول رد القرآن قال لم يستو على العرش كذب الله في قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (2) هذا تكذيب.
يقول: إن الله استوى على العرش لكن معنى استوى يعني استولى، نقول: هذا تأويل هذا باطل يكون هذا متأولا والأول راد، والراد كافر، والمتأول قد لا يكفر.
والتأويل التفسير والمراد به هنا تفسير نصوص الصفات بغير ما أراد الله بها ورسوله، وبخلاف ما فسر الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وحكم التأويل على ثلاثة أقسام:
(1) - سورة الأعراف آية: 54.
(2)
- سورة الأعراف آية: 54.
الأول: أن يكون صادرا عن اجتهاد وحسن نية بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله، فهذا معفو عنه، أن هذا منتهى وسعه، فقد قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) .
الثاني: أن يكون صادرا عن هوى وتعصب وله وجه في اللغة العربية فهو فسق وليس بكفر إلا أن يتضمن نقصا أو عيبا في حق الله فيكون كفرا.
القسم الثالث: أن يكون صادرا عن هوى وتعصب وليس له وجه في اللغة العربية فهذا كفر؛ لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له.
والتشبيه: إثبات مشابه لله فيما يختص به من حقوق أو صفات وهو كفر؛ لأنه من الشرك بالله، ويتضمن النقص في حق الله حيث شبهه بالمخلوق الناقص.
كمن يقول: إن لله يدا مثل أيدي المخلوقين، أو له وجه مثل أوجه المخلوقين هذا متنقص لله، الله تعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) .
والتمثيل: إثبات مماثل لله فيما يختص به من حقوق أو صفات وهو كفر؛ لأنه من الشرك بالله، ويتضمن التكذيب لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) ويتضمن النقص في حق الله حيث مثله بالمخلوق الناقص، والفرق بين التمثيل والتشبيه أن التمثيل يقتضي المساواة من كل وجه بخلاف التشبيه.
(1) - سورة البقرة آية: 286.
(2)
- سورة الشورى آية: 11.
(3)
- سورة الشورى آية: 11.
تعقيب: قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في قول صاحب اللمعة: (وجب الإيمان به لفظا) ، وأما كلام صاحب اللمعة فهذا مما لوحظ في هذه العقيدة فقد لوحظ فيها عدة كلمات أخذت على المصنف إذ لا يخفى أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الإيمان بما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته لفظا ومعنى، واعتقاد أن هذه الأسماء والصفات على الحقيقة لا على المجاز، وأن لها معاني حقيقية تليق بجلال الله وعظمته، وأدلة ذلك أكثر من أن تحصى، ومعاني هذه الأسماء ظاهرة معروفة من القرآن كغيرها لا لبس فيها ولا إشكال ولا غموض، وقد أخذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه القرآن، ونقلوا عنه الأحاديث ولم يستشكلوا شيئا من معاني هذه الآيات والأحاديث؛ لأنها واضحة صريحة، وكذلك من بعدهم من القرون الفاضلة كما يروى عن مالك رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك يروى معنى ذلك عن ربيعة وأنس بن مالك، ويروى عن أم سلمة مرفوعا وموقوفا، أما كنه الصفة وكيفيتها فلا يعلمه إلا الله سبحانه؛ إذ الكلام في الصفة فرع عن الكلام في الموصوف، وكما لا يعلم كيف هو إلا هو فكذلك صفاته وهو معنى قول مالك: والكيف مجهول، أما ما ذكره في اللمعة فهو ينطبق على مذهب المفوضة، وهو من شر المذاهب وأخبثها.
حتى قالوا: إن مذهب المفوضة شر من المؤولة: المفوضة هم الذين يفوضون المعنى يقولون لا ندري ما معناه مثل كلام العجم كأنه حروف أعجمية لا ندري معنى آيات الصفات: {اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) } (2) لا ندري معنى قدير، السميع البصير لا ندري ما معنى السميع، ولا ندري ما معنى البصير.
(1) - سورة طه آية: 5.
(2)
- سورة البقرة آية: 20.
هذا غلط المعنى معلوم كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، نعرف أن السمع ضد الصمم، والبصر ضد العمى، الاستواء معناه في اللغة معروف. معناه: الصعود والاستقرار والعلو والارتفاع لكن كيفية هذه الصفة هو الذي لا نعلمه، كلام المؤلف موهم، المؤلف من أئمة أهل السنة يرد إلى كلامه الواضح الذي يوضح هذا المعنى وإلا ظاهره يقول إثبات اللفظ فقط بدون المعنى، هذا مذهب المفوضة؛ لأن أهل البدع طائفتان المفوضة والمؤولة، المفوضة الذين يفوضون المعنى يؤمنون باللفظ فقط، ولا يعتقدون أن لها معنى، يقولون: ما نعرف المعنى كأنه حروف أعجمية لا ندري ما معناها.
هذا غلط المعنى معروف كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والمؤولة يقولون: استوى معناها استولى يحرفون، والمفوضة يقولون: لا ندري ما معناه المعنى غير معلوم هذا غلط، أهل السنة يثبتون ويفوضون الكيفية وهو غير مذهب المفوضة وغير مذهب المؤولة، أهل السنة يقولون نعرف المعنى الاستواء معناه: الصعود والاستقرار والعلو والارتفاع، والكيف هو المجهول كيفية الصفة لا نعلمها.
ابن قدامة من أئمة أهل السنة وإن كانت هذه العبارة موهمة ترد إلى كلامه الواضح، يحمل على محمل حسن، وإلا هذه الكلمة موهمة.
تعليق الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
أما ما ذكره ابن قدامة فإنه ينطبق على مذهب المفوضة وهو شر المذاهب وأخبثها، والمصنف رحمه الله هو إمام أهل السنة وهو من أبعد الناس عن المفوضة وغيره من المبتدعة -والله أعلم-. نقلا عن فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم جمع وتقديم عبد الرحمن بن قاسم.
قلت: ومن رجع إلى مصنفات ابن قدامة رحمه الله علم يقينا أنه بعيد كل البعد عن مذهب المفوضة وأهل التأويل لاسيما كتابه "ذم التأويل" الذي رد على أهل التأويل، ومن حذى حذوهم من المفوضة، وأثبت فيه مذهب أهل السنة من الإيمان بما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته لفظا ومعنى، وما ورد عن ابن قدامة هنا (وجب الإيمان به لفظا) من المجمل المتشابه الذي فسر صريحا واضحا بينا في مصنفاته الأخرى، فيجب رده إلى محكم كلامه -عليه رحمة الله-، وكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى المحكم من كلامه في سائر تصانيفه، والله أعلم.
ما تضمنه كلام الإمام أحمد في أحاديث النزول وشبهها
قال المؤلف رحمه الله: (قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله ينزل إلى سماء الدنيا " و " إن الله يرى في القيامة " وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها لا كيف ولا معنى ولا نرد شيئا منها، ونعلم أنما جاء به الرسول حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله مجمله ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كنه ذلك إلا بتصديق من الرسول صلى الله عليه وسلم وتثبيت القرآن.
ما تضمنه كلام الإمام أحمد في أحاديث النزول وشبهها:
تضمن كلام الإمام أحمد رحمه الله والذي نقله عنه المؤلف ما يأتي:
أولا: وجوب الإيمان والتصديق بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث الصفات من غير زيادة ولا نقص ولا حد ولا غاية.
ثانيا: أنه لا كيف ولا معنى أي: لا نكيف هذه الصفات؛ لأن تكييفها ممتنع لما سبق، وليس مراده أنه لا كيفية لصفاته؛ لأن صفاته ثابتة حقا، وكل شيء ثابت فلا بد له من كيفية، لكن كيفية صفات الله غير معلومة لنا، وقوله ولا معنى أي: لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها كما فعله أهل التأويل، وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها الذي فسرها به السلف، فإن هذا ثابت ويدل على هذا قوله: ولا نرد شيئا منها بما وصف به نفسه.
يعني: نثبت المعنى، والكيفية هي التي لا نعلمها. (لا معنى) يعني: لا نثبت معنى يخالف الظاهر (لا كيف لا معنى) الكيفية مجهولة، ولا معنى يخالف الظاهر كما يفعله أهل التأويل الذين يؤولونها بما يخالف ظاهرها.
ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نعلم كيفية كنه ذلك، فإن نفيه لرد شيء منها ونفيه لعلم كيفيتها دليل على إثبات المعنى المراد منها.
ثالثا: وجوب الإيمان بالقرآن كله محكمه -وهو ما اتضح معناه- ومتشابهه -وهو ما أشكل معناه- فنرد المتشابه إلى المحكم؛ ليتضح معناه، فإن لم يتضح وجب الإيمان به لفظا وتفويض معناه إلى الله تعالى.
المتشابه هذا يكون تشابها نسبيا فمثلا أهل الزيغ يتعلقون بالمتشابه ويتركون المحكم الواضح مثلا إذا تعلق نصراني بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } (1) قال: نحن للجمع دل على أن الآلهة متعددة. نقول: أنت من أهل الزيغ؛ لأنك تعلقت بالمتشابه رد هذا إلى المحكم وهو قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } (2) نحن للواحد المعظم لنفسه، أسلوب عربي أنت لماذا تتعلق بالمتشابه وتترك المحكم؟ لكن أهل الحق يعملون بالمحكم؛ لأنه هو الأصل والمتشابه يردونه إليه فـ (نحن) ردها إلى المحكم وهو قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (3){إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) } (4) هذا محكم نرد إليه المتشابه، ونفسره به فيتضح المعنى (نحن) للواحد المعظم نفسه، وهذا أسلوب عربي معروف.
ما تضمنه كلام الإمام الشافعي
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -ضي الله عنه-: آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
ما تضمنه كلام الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-:
تضمن كلام الإمام الشافعي رحمه الله ما يأتي:
أولا: الإيمان بما جاء عن الله تعالى في كتابه المبين على ما أراده الله من غير زيادة ولا نقص ولا تحريف.
(1) - سورة الحجر آية: 9.
(2)
- سورة البقرة آية: 163.
(3)
- سورة البقرة آية: 163.
(4)
- سورة طه آية: 14.
ثانيا: الإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص ولا تحريف، وفي هذا الكلام رد على أهل التأويل وأهل التمثيل؛ لأن كل واحد منهم لم يؤمن بما جاء عن الله ورسوله على مراد الله ورسوله، فإن أهل التأويل نقصوا وأهل التمثيل زادوا.
وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لتأويله، وقد أمرنا باقتفاء آثارهم والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، قال النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ".
هذه طريقة السلف الإقرار والإمرار لما جاء في نصوص الكتاب، وعدم التعرض لنصوص الصفات بالتحريف أو التأويل، تمر كما جاءت يثبت اللفظ والمعنى، أما الكيفية فيفوض أمرها إلى الله عز وجل يفوض علمها إلى الله عز وجل نثبت الاستواء، نثبت العلم، نثبت القدرة، نثبت السمع، نثبت البصر، نثبت لفظها ومعناها، نعرف أن السمع ضد الصمم والبصر ضد العمى والعلم ضد الجهل المعنى معروف كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، الاستواء معناه: الاستقرار والعلو والارتفاع معلوم معناه، معنى الصفات معلومة؛ لأنها باللغة العربية، والله أمرنا أن نتدبرها:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) } (1) ولم يقل إلا آيات الصفات فلا تتدبروها، كل يتدبر المعاني معروفة لكن الكيفية -كيفية اتصاف الله لهذه الصفات- هي المجهولة لنا.
(1) - سورة القمر آية: 17.
الذي درج عليه السلف في الصفات هو الإقرار والإثبات لما ورد من صفات الله تعالى في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعرض لتأويله بما لا يتفق مع مراد الله ورسوله، والاقتداء بهم في ذلك واجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني وجماعة.
وهذا واضح طريقة السلف إمرار الصفات لا يتعرض للكيفية، وإنما يثبت اللفظ والمعنى.
الترغيب في السنة والتحذير من البدعة
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) .
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاما معناه: قف حيث وقف القوم فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا الأقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقه محسر وما دونهم مقصر لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي رضي الله عنه عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول.
وهذا كله في التحذير من البدع، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة " فيه الأمر بلزوم سنته صلى الله عليه وسلم وفيه أن ما فعله الخلفاء الراشدون يكون سنة إذا لم يكن في المسألة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وفعله الخلفاء الراشدون يكون من السنة، ومن ذلك مثل الأذان الأول يوم الجمعة هذا أحدثه أمير المؤمنين عثمان بن عفان لما كثر الناس في المدينة فهذه سنة خليفة راشد.
أما إذا كانت المسألة فيها سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا. قد يجتهد الخلفاء الراشدون وغيرهم مثل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمتعة في الحج حث الصحابة بل ألزمهم بالمتعة فاجتهد الخلفاء الثلاثة الصديق وعمر وعثمان فكانوا يأمرون الناس بالإفراد بالحج اجتهادا منهم حتى يكثر العمار والزوار، وكان ابن عباس وكان علي وأبو موسى الأشعري يفتون بالمتعة والصواب معهم؛ لأن هذا هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما يقال إن هذا سنة الخلفاء الراشدين؛ لأن المسألة فيها نص لكن إذا لم يكن في المسألة نص فيأخذ من سنة الخلفاء الراشدين تمسكوا بها " عضوا عليها بالنواجذ " هذا فيه الحث والأمر بلزوم السنة، وفيه التحذير من البدعة في قوله:" وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة " وفي لفظ: " وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " وفيه أنه ينبغي للمسلم أن يحذر من البدع، وأن يلزم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح كما بين هؤلاء الأخيار؛ ولهذا قال: قف حيث وقف القوم فإنهم على علم وقفوا يعني: السلف الصحابة والتابعون ومن بعدهم (وببصر نافذ كفوا) .
السنة والبدعة وحكم كل منها:
السنة لغة: الطريقة.
واصطلاحا: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من عقيدة أو عمل، واتباع السنة واجب؛ لقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} (1) .
سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان عليه من عقيدة أو عمل، أفعال الرسول وأقواله وتقريراته كلها سنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " والبدعة لغة: الشيء المستحدث. واصطلاحا: ما أحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من عقيدة أو عمل) .
البدعة هي الحدث في الدين، إحداث شيء في الدين ليس عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
(1) - سورة الأحزاب آية: 21.