المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

8 سورة الأنفال الآية (1) سورة الأنفال مدنية وهى خمس وسبعون - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٤

[أبو السعود]

الفصل: 8 سورة الأنفال الآية (1) سورة الأنفال مدنية وهى خمس وسبعون

8 سورة الأنفال الآية (1)

سورة الأنفال مدنية وهى خمس وسبعون آية

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

ص: 2

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ‌

‌ الانفال}

النفل الغنيمةُ سُمّيت به لأنها عطيةٌ من الله تعالى زائدة على ما هو أصلُ الأجرِ في الجهاد من الثواب الأخروي ويطلق على ما يعطى بطريق التنفيل زيادةً على السهم من المغنم وقرئ عَلنفال بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدغام نون عن في اللام

روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم ولمن الحُكم فيها ألمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا وقيل أن الشباب قد أبلَوا يومئذ بلاء حسناً فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا نحن المقاتلون ولنا الغنائم وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا رِدءاً لكم وفئةً تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما منعنا أن نطلبَ ما طلب هؤلاء زهادةٌ في الأجر ولا جبنٌ من العدو ولكن كرِهنا أن نعرِّيَ مصافّك فيعطِفَ عليك خيلٌ من المشركين فنزلت وقيل كان النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد شرط لمن كان له بلاءٌ أن يُنَفِّله ولذلك فعل الشبانُ ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه صلى الله عليه وسلم ما شرطه لهم فقال الشيوخُ المغنمُ قليلٌ والناسُ كثيرٌ وإن تُعطِ هؤلاءِ ما شرطتَ لهم حرمتَ أصحابَك فنزلت والأولُ هو الظاهُر لما أن السؤالَ استعلامٌ لحكم الأنفالِ بقضية كلمةِ عن لا استعطاءٌ لنفسها كما نطقَ به الوجهُ الأخير وادعاءُ زيادةٍ عن تعسف ظاهر والاستدلالُ عليه بقراءة ابن مسعودٍ وسعدُ بنُ أبي وقاص وعليِّ بنِ الحسين وزيدٍ ومحمد الباقي وجعفرِ الصادق وعكرمةَ وعطاءٍ يسألونك الأنفالَ غيرُ منتهضٍ فإن مبناهها كما قالوا على الخذف والإيصالِ كما يعرب عنه الجواب بقوله عز وجل

{قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول} أي حكمُها مختصٌّ به تعالى بقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم كيفما أُمر به من غير أن يدخُل فيه رأيُ أحدٍ ولو كان السؤالُ استعطاءً لما كان هذا جواباً له فإن اختصاصَ حكمِ ما شُرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافي إعطاءَها إياهم بل يحقّقه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرطِ الرسول صلى الله عليه وسلم الصادرِ عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبَق أيديَهم إليها ونحوِ ذلك مما يُخِلّ بالاختصاص المذكورِ وحملُ الجوابِ على معنى أن الأنفالَ بالمعنى المذكور مختصة برسولِ الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمُنفَّل كائناً من كان مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ ثبوتِ الاستحقاقِ بالتنفيل وادعاءُ أن ثبوتَه بدليل متأخر النزام لنكرر النسخِ من غير علمٍ بالناسخ

ص: 2

الأخير ولا مساغَ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهدٌ وعكرمةُ والسديّ من أن الأنفالَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً ليس لأحد فيها شيءٌ بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ لما أن المراد بالأنفال فيها قالوا هو المعنى الأولُ حتما كما نطق به قوله تعالى واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْء الآية على أن الحقَّ أنه لا نسخَ حينئذ أيضاً حسبما قاله عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلم بل بيّن في صدرِ السورةِ الكريمةِ إجمالاً أن أمرَها مفوضٌ إلى الله تعالى ورسوله ثم بين مصارفها وكيفيةَ قسمتِها على التفصيل وادعاءُ اقتصارِ هذا الحُكمِ أعني الاختصاصَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطةِ يوم بدر يجعل اللامِ للعهد مع بقاء استحقاقِ المُنفَّل في سائر الأنفالِ المشروطةِ يأباه مقامُ بيان الأحكام كما ينبئ عنه إظهارُ الأنفالِ في موقع الإضمارِ على أن الجوابَ عن سؤال الموعودِ ببيان كونه له صلى الله عليه وسلم خاصةً مما لا يليق بشأنه الكريمِ أصلاً وقد روي عن سعدَ بنَ أبي وقاصٍ أنه قال قُتل أخي عميرٌ يوم بدرٍ فقتلتُ به سعيدَ بنَ العاص وأخذتُ سيفَه فأعجبني فجئتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنَّ الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهَبْ لي هذا السيف فقال لي صلى الله عليه وسلم ليس هذا لي ولا لك اطرَحْه في القبض فطرحتُه وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذِ سلبي فما جاوزتُ إلا قليلاً حتى نزلت سورةُ الأنفال فقالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يا سعُد إنك سألتَنى السيفَ وليس لي وقد صار لي فاذهبْ فخُذْه وهذا كما ترى يقتضي عدمَ وقوعِ التنفيلِ يومئذ وإلا لكان سؤالُ السيفِ من سعد بموجب شرطِه ووعده صلى الله عليه وسلم لا بطريق الهِبَة المبتدَأةِ وحُمل ذلك من سعدٍ على مراعاة الأدبِ مع كون سؤالِه بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزولِ وتعليلُه بقوله ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدِرُ على إنجازه وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم بعد النزولِ وترتيبُه على قوله وقد صار لي ضرورةَ أن مناطَ صيرورتِه له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى الانفال لله والرسول والفرضُ أنه المانعُ من إعطاء المسئول ومَّما هُو نصٌّ في الباب قوله عز وجل

{فاتقوا الله} أي إذا كان أمرُ الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوه ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجِبِ لسخط الله تعالى أو فاتقوه في كل ما تأنون وما تذرون فيدخُل فيه ما هم فيه دخولاً أولياً ولو كان السؤالُ طلباً للمشروط لمّا كان فيه محذورٌ يجب اتقاؤُه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية الممابة وتعليلِ الحُكم

{وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} جُعل ما بينهم من الحال لملابستها التامةِ لبَيْنهم صاحبةً له كما جُعلت الأمورُ المضمرةُ في الصدور ذاتَ الصدور أي أصلِحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدةِ فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشرَ أصحابِ بدرٍ حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلافنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعةُ رسوله وإصلاحُ ذات البين وعن عطاء كان الإصلاحُ بينهم أن دعاهم وقال اقسموا غنائمَكم بالعدل فقالوا قد أكلْنا وأنفقْنا فقال ليرُدَّ بعضُكم على بعض

{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بتسليم أمرِه ونهيه وتوسيطُ الأمر بإصلاح ذاتِ البين بين الأمرِ بالتقوى والأمرِ بالطاعة لإظهار كمالِ العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرجَ الأمرُ به بعينه تحت الأمرِ بالطاعة

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلقٌ بالأوامرَ الثلاثةِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدِلالة المذكورِ عليه أو هو الجوابُ على الخلاف المشهور وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ تحقيقُ المعلقِ بناءً على تحقق المعلقِ به وفيه تنشيطٌ للمخاطَبين

ص: 3

وحثٌّ لهم على المسارعة إلى الامتثال والمرادُ بالإيمان كمالُه أي إن كنتم كاملي الإيمانِ فإن كمالَ الإيمان يدور على هذه الخِصالِ الثلاثِ طاعةُ الأوامرِ واتقاءُ المعاصي وإصلاحُ ذاتِ البين بالعدل والإحسان

الأنفال (2 4)

ص: 4

{إِنَّمَا المؤمنون} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان مَنْ أريد بالمؤمنين بذكر أوصافِهم الجليلةِ المستتبِعةِ لما ذكر من الخِصال الثلاثِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ لهم في الامتثال بالأوامر المذكورةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمان المخلِصون فيه

{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فِزعت لمجرد ذكرِه من غير أن يُذكرَ هناك ما يوجب الفزَعَ من صفاته وأفعاله استعظاما لشأنه الجليلِ وتهيباً منه وقيل هو الرجلُ يُهمّ بمعصية فيقال له اتقِ الله فينزع عنها خوفها من عقابه وقرىء وجَلت بفتح الجيم وهي لغة وقرئ فرِقَتْ أي خافت

{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أيَّ آيةٍ كانت

{زَادَتْهُمْ إيمانا} أي يقيناً وطُمأنينةَ نفسٍ فإن تظاهُرَ الأدلةِ وتعاضُدَ الحُججِ والبراهينِ موجبٌ لزيادة الاطمئنانِ وقوة اليقين وقيل إن نفسَ الإيمانِ لا يقبل الزيادةَ والنقصانَ وإنما زيادتُه باعتبار زيادةِ المؤمَنِ به فإنه كلما نزلت آية صدّق بها المؤمنُ فزاد إيمانه عددا وأما نفسُ الإيمان فهو بحاله وقيل باعتبار أن الأعمالَ تُجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها والأصوبُ أن نفسَ التصديقِ يقبل القوةَ وهي التي عُبّر عنها بالزيادة للفرق النيّر بين يقينِ الأنبياءِ وأربابِ المكاشفات ويقينِ آحادِ الأمةِ وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً وكذا بين ما قام عليه دليلٌ واحد وما قامت عليه أدلةٌ كثيرة

{وعلى رَبّهِمْ} مالكِهم ومدبرِ أمورِهم خاصة

{يَتَوَكَّلُونَ} يفوّضون أمورَهم لا إلى أحدٍ سواهُ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ وقولُه تعالى

ص: 4

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} مرفوعٌ على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول أو بدلٌ منه أو بيانٌ له أو منصوبٌ على القطع المنبئ عن المدح ذَكَر أولاً من أعمالهم الحسنةِ أعمالَ القلوب من الخشية والإخلاصِ والتوكل ثم عقّب بأعمال الجوارحِ من الصلاة والصدقة

ص: 4

{أولئك} إشارةٌ إلى مَن ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف

{هُمُ المؤمنون حَقّاً} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال القلبية والقالَبية وحقاً صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقاً كقولك هو عبدُ الله حقاً

{لَّهُمْ درجات} من الكرامة والزلفى وقيل درجاتٌ عاليةٌ في الجنة وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم

ص: 4

كأنه قيل ما لهم بمقابلة هذه الخِصالِ فقيل لهم كيت كيت أو خبرٌ ثانٍ لأولئك وقوله تعالى

{عِندَ رَبّهِمْ} إما متعلق بمحذوف وقع صفةً لدرجاتٌ مؤكدةٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ عنده تعالى أو بما يتعلق به الخبرُ أعني لهم من الاستقرار وفي إضافة الظرفِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ تشريفٍ ولطفٍ لهم وإيذانٌ بأن ما وعد لهم متيقَّنُ الثبوتِ والحصولِ مأمونُ الفواتِ

{وَمَغْفِرَةٌ} لما فرَط منهم

{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا ينقضي أمدُه ولا ينتهي عددُه وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة

الأنفال آية 5

ص: 5

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} الكافُ في محلِ الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه هذه الحالُ كحال إخراجِك يعني أن حالَهم في كراهتهم لِما رأيتَ مع كونه حقاً كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حقٌّ أو في محلِّ النصبِ على أنَّه صفةٌ لمصدر مقدرٍ في قوله تعالى الانفال لِلَّهِ أي الأنفالُ ثبتتْ لله والرسولِ مع كراهتهم ثباتاً مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة إخراجاً ملتبساً بالحق

{وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} أي والحالُ أن فريقاً منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبعِ عن القتالِ أو لعدم الاستعدادِ وذلك أن عِيرَ قريشٍ أقبلت من الشام وفيها تجارةٌ عظيمةٌ ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيانَ وعمرو بنُ العاص وعمْرُو بنُ هشام فأخبر جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجَبَهم تلقِّي العِيرِ لكثرة الخيرِ وقلةِ القوم فلما خرجوا بلغ أهلَ مكةَ خبرُ خروجِهم فنادى أبو جهلٍ فوق الكعبة بأهل مكة النجاة النجاة على كل صعب وذلول عِيرُكم أموالُكم إن أصابها محمدٌ لم تُفلِحوا بعدها أبداً وقد رأت أختُ العباسِ بنِ عبد المطلبِ رضي الله عنه رؤيا فقالت لأخيها إني رأيت كأن ملَكاً نزل من السماء فأخذ صخْرةً من الجبل ثم حلّق بها فلم يبق بيتٌ من بيوت مكةَ إلا أصابه حجرٌ من تلك الصخرة فحدّث بها العباسُ رضي الله عنه فقالَ أبو جهل ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأَ نساؤُهم فخرج أبو جهلٍ بجميع أهلِ مكةَ وهم النفيرُ فقيل له إن العِيرَ أخذت طريق الساحل ونجت فارجِعْ بالناس إلى مكَة فقال لا واللاتِ لا يكون ذلك أبدا حتى ننحَرَ الجَزورَ ونشربَ الخمور ونُقيمَ القينات والمعازِفَ ببدر فيتسامع جميعُ العرب بمَخْرَجنا وأن محمداً لم يُصِب العير وأنا قد أعضضاه فمضى بهم إلى بدر وبدر ماءٍ كانت العربُ تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزلَ جبريلُ عليه السلام فقال يا محمدُ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العِيرَ وإما قريشا فاستشار النبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه فقال ما تقولون إن القومَ قد خرجوا من مكةَ على كل صَعْبٍ وذَلولٍ فالعِيرُ أحبُّ إليكم أم النفيرُ فقالوا بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوِّ فتغير وجهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال إن العير قد مضت على ساحل البحرِ وهذا أبو جهل قد أقبل فقالُوا يا رسولَ الله عليك بالعِير ودعِ العدوَّ فقام عندما غضِبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ثم قام سعدُ بن عُبادةَ فقال انظُر أمرَك فامضِ فوالله لو سِرتَ إلى عدنِ أَبْيَنَ ما تخلف عنك رجلٌ من الأنصار ثم قال المقدادُ بنُ عمرو رضي الله عنه يا رسولَ الله امضِ لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببْتَ لا نقول لك كما قال بنو إسرائيلَ لموسى عليه السلام اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا ههنا قاعدون ولكن اذهب أَنتَ وربُّك فَقَاتِلا إِنَّا معكما مقاتلون

ص: 5

ما دامت عينٌ منا تطرِفُ فضحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا بُرَآءُ من ذِمامِك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه أبناءَنا ونساءَنا فكان النبيِّ صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن تكون الأنصارُ لا ترى عليهم نُصرتَه إلا على عدو دَهِمَهُ بالمدينة فقام سعدُ بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول لله قال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحقُّ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعةِ فامضِ يا رسولَ الله لما أردتَ فو الذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا وإنا لصُبرٌ عند الحرب صُدقٌ عند اللقاء ولعل الله يُريك منا ما تَقَرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله ففرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبسَطه قولُ سعد ثم قال سيروا على بركة الله وأبشِروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظرُ إلى مصارع القوم

روي أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين فرَغ من بدر عليك بالعِير ليس دونها شيء فناداه العباس رضي الله عنه وهو في وِثاقه لا يصلح فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك

الأنفال (6 7)

ص: 6

{يجادلونك فِي الحق} الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى

{بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} منصوبٌ بيجادلونك وما مصدرية أي بعد تبين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجُنا إلا للعِير وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ

{كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} الكافُ في محل نصبٍ على الحاليةِ من الضميرِ في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل

{وَهُمْ يَنظُرُونَ} حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان

ص: 6

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ جميلِ صنعِ الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءةِ الهِمّةِ وقُصورِ الرأي والخوفِ والجزعِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوينِ والالتفات وإحدى الطائفتين مفعولٌ ثانٍ ليعدُكم أي اذكروا وقتَ وعدِ الله إياكم إحدى الطائفتين وتذكيرُ الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضراً مفصّلاً كأنه مشاهَدٌ عياناً وقرئ يَعدْكم بسكون الدال تخفيفاً وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ

ص: 6

الماضيةِ لاستحضار صورتِها وقوله تعالى

{أَنَّهَا لَكُمْ} بدلُ اشتمالٍ من إحدى الطائفتين مُبينٌ لكيفية الوعدِ أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنةٌ لكم مختصّةٌ بكم مسخّرةٌ لكم تتسلطون عليها تسلّطَ الُملاّكِ وتتصرفون فيهم كيف شئتم

{وَتَوَدُّونَ} عطفٌ على يعدكم داخلٌ تحت الأمرِ بالذكر أي تحبون

{أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} من الطائفتين لا ذاتَ الشوْكةِ وهي النفيرُ ورئيسُهم أبو جهلٍ وهم ألفُ مقاتلٍ وغيرُ ذاتِ الشَّوكة هي العِيرُ إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ورأسُهم أبو سفيانَ والتعبيرُ عنهم بهذا العنوانِ للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجبِ كراهتِهم ونفرتِهم عن موافاة النفيرِ والشوْكةُ الحدة مستعارةٌ من واحدة الشَّوْك وشوك القنا شباها

{وَيُرِيدُ الله} عطفٌ على تودّون منتظمٌ معه في سلك التذكيرِ ليُظهِرَ لهم عظيمَ لطفِ الله بهم مع دناءة هِممِهم وقصور آرائِهم أي اذكُروا وقت وعِده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتِكم لأدناهما وإرادتَه تعالى لأعلاهما وذلك قولُه تعالى

{إِنَّ يُحِقَّ الحَقَّ} أي يُثْبِتَه ويُعلِيَه

{بكلماته} أي بآياته المنزلةِ في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضَى من أسرهم وقتلهم وطرحِهم في قليب بدر وقرئ بكلمته

{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي آخِرَهم ويستأصِلَهم بالمرة والمعنى أنتم تريدون سَفْسافَ الأمور والله عز وعلا يريد معالِيَها وما يرجِعُ إلى علو كلمةِ الحقِّ وسموِّ رتبةِ الدين وشتان بين المرادين وقوله تعالى

الأنفال (9 8)

ص: 7

{لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان الحِكمةِ الداعيةِ إلى اختيار ذاتِ الشوكة ونصرِهم عليها مع إرادتهم لغيرها واللامُ متعلقةٌ بفعل مقدر مؤخر عنها أي لهذه الغايةِ الجليلةِ فعلَ ما فعَل لا لشيء آخرَ وليس فيه تكرارٌ إذ الأولُ لبيان تفاوتِ ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحِكمةِ الداعية إلى ما ذكر ومعنى إحقاقِ الحقِّ إظهارُ حقّيتِه لا جعلُه حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل

{وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي المشركين ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل

ص: 7

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بدلٌ من إذ يعدكم معمولٌ لعامله فالمراد تذكيرُ استمدادِهم منه سبحانه والتجائِهم إليه تعالى حين ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل وإمدادُه تعالى حينئذ وقيل متعلقٌ بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية وما قيل من أن قوله تعالى ليُحِق مستقبلٌ لأنه منصوبٌ بأن فلا يمكن عمله في إذ لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونَه مستقبَلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدرِ لا بالنسبة إلى زمان الاستغائة حتى لا يعملَ فيه بل هما في وقت واحد إنما عبّر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمان النزولِ وصيغةُ الاستقبالِ في تستغيثون لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة وقيل متعلقٌ بمضمر مستأنف أي ذكروا وقت استغاثتِكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين أيْ ربُّ انصُرنا على عدوك ياغياث المستغيثين أغِثْنا وعن عمرَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ فاستقبل القِبلةَ ومد يديه يدعو

ص: 7

اللهَّم أنجِزْ لي ما وعدتني اللهم إنْ تهلِكْ هذه العِصابةُ لا تعبَدْ في الأرض فما زال كذلك حتى سقط رداؤُه فأخذه أبُو بكرٍ رضي الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال يا نبيَّ الله كفاك مناشدتُك ربَّك فإنه سيُنجز لك ما وعدك

{فاستجاب لَكُمْ} عطفٌ على تستغيثون داخلٌ معه في حكم التذكيرِ لِما عرفت أنه ماضٍ وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة

{أَنّي مُمِدُّكُمْ} أي بأني فحُذف الجارُّ وسُلّط عليه الفعلُ فنصَب محله وقرئ بكسر الهمزةِ على إرادة القولِ أو على إجراء استجابَ مجرى قال لأن الاستجابةَ من مقولة القول

{بألف من الملائكة مُرْدِفِينَ} أي جاعلين غيرَهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤُهم المستتبِعون لغيرهم وقد اكتفى ههنا بهذا البيانِ الإجماليِّ وبيِّن في سورة آل عمران مقدار عددهم وقيل معناه مُتْبعِين أنفسَهم ملائكةً آخرين أو متْبعين المؤمنين أو بعضَهم بعضاً من أردفتُه إذا جئتُ بعده أو متبعين بعضَهم بعضَ المؤمنين أو أنفسَهم المؤمنين من أردفتُه إياه فردِفَه وقرىء مردَفين بفتح الدال أي مُتْبَعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقَتَهم وقرىء مرُدّفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلُهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاءُ في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أبو بالضم على الاتباع وقريء بآلاف ليوافقَ ما في سورة آل عمران ووجهُ التوفيق بينه وبين المشهورِ أن المرادَ بالألفِ الذين كانوا على المقدمة أو الساقةُ أو وجوهُهم وأعيانُهم أو من قاتل منهم واختُلف في مقاتلتهم وقد روي أخبارٌ تدل على وقوعها

الأنفال (10)

ص: 8

{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وإنما التأثيُر مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنين ولا يقنَطوا من النصر عند فُقدانِ أسبابِه والجعلُ متعدَ إلى مفعول واحد هو الضميرُ العائدُ إلى مصدر فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ اقتضاء ظاهر مُغنياً عن التصريحِ بهِ كأنهُ قيل فأمدكم بهم وما جعل إمدادَكم بهم

{إِلَاّ بشرى} وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيءٍ من الأشياءِ إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون

{وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} أي بالإمداد

{قُلُوبُكُمْ} وتسكنَ إليه نفوسُكم كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك فكلاهما مفعولٌ له للجعل وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه وبقيَ الثاني على حاله لفقدانها وقيل للإشارة إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما قيل في قولِه تعالى والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بعدم مباشرةِ الملائكةِ للقتال وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوب المباشرين وتكثيرِ سوادِهم ونحوِه كما هو رأيُ بعضِ السلف وقيل الجعلُ متعدٍ إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناءٌ من أعم المفاعيلِ أي وما جعله الله شيئاً من الأشياءِ إلا بشارةً لكم فاللام في ولتطمئن متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه ولتطمئن به قلوبُكم فعَلَ ذلك لا لشيء آخَرَ

{وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصر على الإطلاق

{إِلَاّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده عز وجل من غيرِ أن يكون فيه شِرْكةٌ

ص: 8

من جهة الأسبابِ والعَدد وإنما هي مظاهرُ له بطريق جريانِ السنةِ الإلهية

{أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يغالَب في حُكمه ولا يُنازَع في أقضيته

{حَكِيمٌ} يفعلُ كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ والجملةُ تعليلٌ لما قبلها متضمنٌ للإشعار بأن النصرَ الواقعَ على الوجه المذكورِ من مقتَضيات الحِكم البالغةِ

الأنفال آية (11)

ص: 9

{إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس} أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليهِ لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا وقيل هو متعلقٌ بالنصر أو بما في مِنْ عِندِ الله منْ مَعْنى الفعلِ أو بالجعل وليس بواضح وقرىء يُغْشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرىء يغشاكم على إسنادِ الفعلِ إلى النعاس وقوله تعالى

{أَمَنَةً مّنْهُ} على القراءتين الأُوليين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنَّه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون آمِنا كما في قوله تعالى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا على أحد الوجهين وقيل منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ والأَمَنةُ بمعنى الإيمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنَّه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر وقرىء أمْنةً كرحمة {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاءً} تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له فعند ورودِه يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ وتقديمُ عليكم لما أن بيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بيان كونه من السماء وقرئ بالتخفيف من الإنزال

{لّيُطَهّرَكُمْ به} أي من الحدث الأصغرِ والأكبر

{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش

روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركين على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عز وجل المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضئوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ وذلك قوله تعالى

{وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعد مشاهدة طلائعِه

{وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} فلا تسوخ في الرمل فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون المربط فإن القلبَ إذا قوِي

ص: 9

وتمكن فبه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب وقوله تعالى

الأنفال آية 12

ص: 10

{إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة} منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيِّ صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيره صلى الله عليه وسلم فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ وقيل منصوب بقوله تعالى وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام فلا بد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال ولا يخفى أن تقييد التثبيت المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخطاب به صلى الله عليه وسلم مع ما عرفتَ من أنَّ المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة

{إِنّى مَعَكُمْ} أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي وقرئ بالكسرِ على إرادةِ القولِ أو إجراءِ الوحي مُجراه وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قولهِ تعالى إِنَّ الله مَعَ الصابرين والفاءُ في قوله تعالى

{فَثَبّتُواْ الذين آمنوا} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحراب والجِدّ في مقاساة شدائد القتال وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول إنى سمعتُ المشركين يقولون والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قولَه تعالى

{سَأُلْقِى في قلوب الذين كفروا الرعب} تفسير لقوله تعالى إِنّى مَعَكُمْ وقولَه تعالى

{فاضربوا} الخ تفسيراً لقوله تعالى فَثَبّتُوا مبيناً لكيفية التثبيت وقد روي عن أبي داود المازني رضي الله عنه وكان ممن شهد بدراً أنه قال اتبعتُ رجلاً من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنَّه قال لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقفُ على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى سألقى الخ ليس بنص فيما ذكر بل يجوز أن يكون ذلك إثرَ قوله تعالى فَثَبّتُواْ الذين آمنوا تلقيناً للملائكة ما يثبّتونهم به

ص: 10

كأنه قيل قولوا لهم سألقى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا الخ فالضاربون هم المؤمنون وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة وقوله تعالى

{فَوْقَ الاعناق} أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات

{واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قيل البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين وقيل هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان المفاصلُ وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلِها وقيل المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومنهم متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقع حالا مما بعده

سورة الأنفال (13 14)

ص: 11

{ذلك} إشارة إلى ما أصابهم من العقاب وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الشدة والفظاعةِ والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب ومحلُّه الرفعُ على الابتداء وخبرُه قوله تعالى

{بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك العقابُ الفظيعُ واقعٌ عليهم بسبب مُشاقّتِهم ومغالبتِهم مَنْ لا سبيلَ إلى مغالبته أصلاً واشتقاقُ المشاقةِ من الشِّق لِما أنَّ كُلاًّ من المشاقين في شق خلاف شِقّ الآخر كما أن اشتقاقَ المُعاداةِ والمُخاصمة من العَدْوة والخَصْم أي الجانب لأن كلاًّ من المتعاديَيْن والمتخاصمَين في عَدوةٍ وخصمٍ غيرِ عدوةِ الآخر وخصمِه

{وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ} الإظهار في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإظهار كمالِ شناعة ما اجترءوا عليه والإشعارِ بعلة الحُكم وقولُه تعالى

{فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} إمَّا نفسُ الجزاءِ قد حُذف منه العائدُ إلى مَنْ عندِ منْ يلتزمُهُ أي شديدُ العقابِ له أو تعليلٌ للجزاءِ المحذوفِ أي يعاقبْه الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقابِ وأيَّاً مَا كانَ فالشرطيةُ تكملةٌ لما قبلها وتقريرٌ لمضمونِهِ وتحقيقٌ للسببيةِ بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيل ذلك العقابُ الشديد بسببِ مشاقّتِهم لله تعالى ورسولِه وكلُّ من يشاقق الله ورسولَه كائناً مَنْ كان فلهُ بسببِ ذلكَ عقابٌ شديدٌ فإذن لهم بسبب مشاقّتِهم لهما عقابٌ شديد وأما أنه وعيدٌ لهم بما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بعد ما حاقَ بهم في الدُّنيا كما قيل فيرده ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى

ص: 11

{ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار} فإنه مع كونه هو المسوقَ للوعيد بما ذُكر ناطقٌ بكون المرادِ بالعقاب المذكورِ ما أصابهم عاجلاً سواءٌ جُعل ذلكم إشارةً إلى نفس العقابِ أو إلى ما تفيده الشرطيةُ من ثبوت العقابِ لهم أما على الأول فلأن الأظهرَ أن محلَّه النصبُ بمضمر يستدعيه قولُه تعالى فَذُوقُوهُ والواو في قوله تعالى وأن للكافرين الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقابَ الذي أصابكم فذوقوه عاجلاً مع أن لكم عذابَ النارِ آجلاً فوضْعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ لتوبيخهم بالكفر وتعليلِ الحُكم به وأما على الثاني فلأن الأقربَ أن محلُّه الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف وقولُه تعالى وَأَنَّ للكافرين الخ معطوفٌ عليه والمعنى حُكمُ الله ذلكم أي ثبوتُ هذا

ص: 11

العقابِ لكم عاجلاً وثبوتُ عذابِ النارِ آجلاً وقوله تعالى فَذُوقُوهُ اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوفَيْن للتهديد والضميرُ على الأول لنفس المشارِ إليه وعلى الثاني لما في ضمنه وقد ذُكر في إعراب الآيةِ الكريمةِ وجوُهُ أُخرُ مدار الكلِّ على أن المرادَ بالعقاب ما أصابهم عاجلاً والله تعالى أعلم وقرئ بكسر إن على الاستئناف

سورة الأنفال من الآيات (15 16)

ص: 12

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ للمؤمنين بحكم كليَ جارٍ فيما سيقع من الوقائع والحروبِ جيءَ به في تضاعيفِ القصةِ إظهاراً للاعتناء بشأنه ومبالغةً في حضهم على المحافظة عليه

{إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} الزحفُ الدبيبُ يقال زحَف الصبيُّ زحفاً إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً سُمّي به الجيشُ الداهُم المتوجِّهُ إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفِه يُرى كأنه يزحَف وذلك لأن الكلَّ يرى كجسم واحدٍ متصلٍ فيُحَسُّ حركتُه بالقياس إليه في غاية البُطء وإن كانت في نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم

وأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم

قوف لِجاجٌ والركابُ تُهملَج

ونصبُه إما على حالٌ من مفعول لقِيتم أي زاحفين نحوَكم وإما على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ منه أي يزحَفون زحفاً وأما كونُه حالاً من فاعله أو منه ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى

{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الادبار} إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابقِ إلى العدو أو بكثرتهم بل توجُّهُ العدوِّ إليهم وكثرتُهم هو الداعي إلى الإدبار عادةً والمُحوِجُ إلى النهي عنه وحملُه على الإشعار بما سيكون منهم يومَ حُنينٍ حيث تَوَلَّوا مدْبرين وهم زحفٌ من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيدٌ والمعنى إذا لقِيتموهم للقتال وهم كثيرٌ جمٌّ وأنتم قليلٌ فلا تولوهم أدبارَكم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتِلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم

ص: 12

{وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم اللقاء

{دُبُرَهُ} فضلاً عن الفرار وقرىء بسكون الباء

{إِلَاّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ} إما بالتوجه إلى قتال طائفةٍ أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفرّ للكرّ بأن يخيل عدوه أنه منهزمٌ ليغُرَّه ويُخرِجَه من بين أعوانه ثم يعطِفَ عليه وحدَه أو مع مَنْ في الكمين من أصحابه وهو باب من خِدعِ الحربِ ومكايدِها

{أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ} أي منحازاً إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضمّ إليهم ثم يقاتلَ معهم العدو

عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال إن سريةً فرّوا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيَوْا ودخلوا البيوتَ فقلت يا رسولَ الله نحن الفرارون فقال صلى الله عليه وسلم بل أنتم العكّارون أي الكرارون من عكر أي رجع وأنا فئتُكم

وانهزم رجلٌ من القادسية فأتى المدينة إلى عمرَ رضي الله عنه فقالَ يا أميرَ المؤمنينَ هلكتُ ففرَرْتُ من الزحف فقال رضي الله عنه أنا فئتُك ووزنُ متحيِّز متفيعل لا متفعّل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يجوز وانتصابُهما إما على الحالية وإلا لغولا عمَلَ لها وإما على الاستثناء من المُولّين أي ومن يولهم دبرَه إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً

{فَقَدْ بَاء} أي رجع

{بِغَضَبٍ} عظِيمٌ لا يُقادرُ قَدرُه ومِنْ في قولِه

ص: 12

تعالى {مِنَ الله} متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لغضب مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامة والهولِ بالفخامة الإضافيةِ أي بغضب كائنٍ منه تعالى

{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي بدلَ ما أراد بفراره أن يأويَ إليه من مأوى ينجيه من القتل

{وَبِئْسَ المصير} في إيقاع البَوْءِ في موقع جوابِ الشرطِ الذي هو التوليةُ مقروناً بذكر المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيدَ عليه

عن عباس رضي الله عنهما أن الفرارَ من الزحف من أكبر الكبائرِ وهذا إذَا لم يكُن العدوُّ أكثرَ من الضِّعف لقوله تعالى الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ الآية وقيل الآية مخصوصةٌ بأهل بيتهِ والحاضرين معه في الحرب

سورة الأنفال من الآية (17)

ص: 13

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} رجوعٌ إلى بيان بقيةِ أحكام الواقعة وأحوالِها وتقريرُ ما سبق منها والفاءُ جوابُ شرطٍ مقدر يستدعيه مامر من ذكر إمدادِه تعالى وأمرِه بالتثبيت وغيرِ ذلك كأنَّه قيلَ إذَا كانَ الأمرُ كذلك فلم تقتُلوهم أنتم بقوتكم وقدرتِكم

{ولكن الله قَتَلَهُمْ} بنصركم وتسليطِكم عليهم وإلقاءِ الرعب في قلوبهم ويجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتُلوهم أي فاعلَموا أو فأُخبركم أنكم لم تقتُلوهم وقيل التقديرُ إن افتخرتم ثم بقتلهم فلم تقتُلوهم على أحد التأويلين لما رُوي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون قتلتُ وأسرتُ وفعلتُ وتركتُ فنزلت وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين طلعت قريشٌ من العقنقل قال هذه قريشٌ جاءت بخُيلائها وفخرِها يكذّبون رسولَك اللهم إني أسألك ما وعدتي فأتاهُ جبريلُ عليه السلام فقال خُذْ قبضةً من تراب فارمِهم بها فلما التقى الجمعانِ قال لعلي رضي الله عنه أعطني قبضةً من حصباءِ الوادي فرمى بها في وجوههم وقال شاهت الوجوهُ فلم يبْقَ مُشركٌ إلا شُغل بعينيه فانهزموا وذلك قوله عز وجل بطريق تلوينِ الخطاب

{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} تحقيقاً لكون الرمي الظاهرِ على يده صلى الله عليه وسلم حينئذ من أفعاله عز وجل وتجريدُ الفعلِ عن المفعول به لما أن المقصودَ الأصليَّ بيانُ حالِ الرمي نفياً وإثباتاً إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغيّر المرميِّ به في نفسه وتكثّرِه إلى حيث أصاب عينَيْ كلِّ واحد من أولئك الأمةِ الجمّةِ شيءٌ من ذلك أي وما فعلت أنت يا محمدُ تلك الرميةَ المستتبِعةَ لهذه الآثارِ العظيمةِ حقيقةً حين فعلتَها صورةً وإلا لكان أثرُها من جنس آثارِ الأفاعيلِ البشرية ولكن الله فعلها أي خلقها حين باشَرْتها لكن لا على نهج عادتِه تعالى في خلق أفعالِ العبادِ بل على وجه غيرِ معتادٍ ولذلك أثرت هذا التأثيرَ الخارجَ عن طوق البشرِ ودائرةِ القُوى والقدر فمدارُ إثباتِها لله تعالى ونفِيها عنه صلى الله عليه وسلم كونُ أثرِها من أفعالِه صلى الله عليه وسلم وقرىء ولكنِ الله بالتخفيف والرفع في المحلين واللام في قوله تعالى

{وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ} أي ليعطيهم من عنده تعالى

{بَلاء حَسَنًا} أي عطاءً جميلاً غيرَ مَشوبٍ بمقاساة الشدائدِ والمكاره إما متعلقةٌ بمحذوف متأخرٍ فالواوُ اعتراضيةٌ أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعلَ ما فعل لا لشيء غير ذلك مما لا يجديهم نفعا وإما يرمي فالواوُ للعطف على علةٍ محذوفةٍ أي ولكن الله رمى ليمحَق الكافرين وليُبلي إلخ وقولُه تعالَى

{إِنَّ الله سَمِيعٌ}

ص: 13

أي لدعائهم واستغائتهم

{عَلِيمٌ} أي بنياتهم وأحوالِهم الداعيةِ إلى الإجابة تعليلٌ للحكم

سورة الأنفال من الآيات (18 20)

ص: 14

{ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسنِ ومحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى

{وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} بالإضافة معطوفٌ عليه أي المقصِدُ إبلاءُ المؤمنين وتوهينُ كيدِ الكافرين وإبطالُ حِيلِهم وقيل المشارُ إليه القتلُ والرميُ والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل فيكونُ قولُه تعالَى وَأَنَّ الله الآية من قبيل عطفِ البيانِ وقرىء مُوهِّن بالتنوين مخففاً ومشدداً ونصبِ كيد الكافرين

ص: 14

{إِن تَسْتَفْتِحُواْ} خطابٌ لأهل مكةَ على سبيلِ التهكمِ بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروجَ تعلقوا بأستار الكعبةِ وقالوا اللهم انصُرْ أعلى الجُندَيْن وأهدي الفئتين وأكرمَ الحِزبين أي إن تستنصروا لأعلى الجندين

{فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} حيث نصَر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكمُ في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمةُ والقهرُ فالتهكم في نفس الفتحِ حيث وضع موضعَ ما يقابله

{وَإِن تَنتَهُواْ} عما كنتم عليه من الحراب ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم

{فَهُوَ} أي الانتهاء

{خَيْرٌ لَّكُمْ} أي من الحِراب الذي ذُقتم غائلته لِما فيه من السلامة من القتل والأسرِ ومبنى اعتبارِ أصلِ الخيرية في المفضل عليه هو التهكم

{وَإِن تَعُودُواْ} أي إلى حِرابه صلى الله عليه وسلم

{نَعُدُّ} لما شاهدتموه من الفتح

{وَلَن تُغْنِىَ} بالتاء الفوقانية وقرى بالياء التحتانية لأن تأنيثَ الفئةِ غيرُ حقيقي وللفصل أي لن تَدفعَ أبداً

{عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتُكم التي تجمعونهم وتستعينون بهم

{شَيْئاً} أي من الإغناء أو من المضار وقوله تعالى

{وَلَوْ كَثُرَتْ} جملةٌ حالية وقد مر التحقيق

{وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} أي ولأن الله معينُ المؤمنين كان ذلك أو والأمرُ أن الله مع المؤمنين ويقرب منه بحسب المعنى قراءةُ الكسر على الاستئناف وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصِروا فقد جاءكم النصرُ وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبةِ عما يرغّب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مناطٌ لنيل سعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعُدْ عليكم بالإنكار وتهييجِ العدو ولن تغنيَ حينئذٍ كثرتُكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر والأمرُ أن الله مع الكاملين في الإيمان

ص: 14

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْاْ} بطرح إحدى التاءين وقرىء بإدغامها

{عَنْهُ} أي لا تتولوا عن الرسول فإن المرادَ هو الأمرُ بطاعته والنهيُ عن الإعراض عنه وذكرُ طاعتِه تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعتَه تعالى في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وقيل الضمير للجهاد وقيل للأمر الذي دل عليه الطاعة وقوله تعالى

{وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} جملةٌ حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً كما في قوله تعالى فَلَا تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ لا لتقييد النهي

ص: 14

عنه بحال السماع كما في قوله تعالى لَا تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وإذعان

سورة الأنفال من الآيات (21 23)

ص: 15

{وَلَا تَكُونُواْ} تقريرٌ للنهي السابق وتحذيرٌ عن مخالفته بالتنبيه على أنها مؤديةٌ إلى انتظامِهم في سِلك الكفرةِ بكون سماعِهم كَلا سماعٍ أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي

{كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا} بمجرد الادعاءِ من غير فهمٍ وإذعان كالكفرة والمنافقين الذين يّدعون السماعَ

{وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} حالٌ من ضمير قالُوا أي قالوُا ذلكَ والحالُ أنهم لا يسمعون حيث لا يصدّقون ما سمعوه ولا يفهمونه حقَّ فهمِه فكأنهم لا يسمعونه رأساً

ص: 15

{إِنَّ شَرَّ الدواب} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ كمالِ سوءِ حالِ المشبه بهم مبالغةً في التحذير وتقريرا للنهي إثرَ تقريرٍ أي إن شرَّ ما يدب على الأرض أو شرَّ البهائم

{عَندَ الله} أي في حكمه وقضائه

{الصم} الذين لا يسمعون الحق

{البكم} الذي لا ينطِقون به وُصفوا بالصمم والبَكَم لأن ما خُلق له الأذنُ واللسانُ سماعُ الحق والنطقِ به وحيث لم يوجد فيهم شيءٌ من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأساً وتقديم الصمِّ على البكم لما أن صممهم متقدمٌ على بُكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدمِ سماعِهم له كما أن النطقَ به من فروعِ سماعِه ثم وُصفوا بعدم التعقل فقيل

{الذين لَا يَعْقِلُونَ} تحقيقاً لكمال سوءِ حالِهم فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان له عقلٌ ربما يفهم بعضَ الأمور ويُفهمُه غيرُه بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبِه وأما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فهو الغايةُ في الشرّية وسوءِ الحال وبذلك يظهرُ كونُهم شراً من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضّلون على كثير من خلقِ الله عز وجل فصاروا أخسّ من كل خسيس

ص: 15

{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا} شيئاً من جنس الخيرِ الذي من جملته صرفُ قواهم إلى تحرّي الحقِّ واتباعِ الهدى

{لاسْمَعَهُمْ} سماع تفهم وتدبر ولو قفوا على حقية الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئاً من ذلك لخلوّهم عنه بالمرة فلم يُسمِعْهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجِه عن الحكمة وإليه أُشير بقوله تعالى

{وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} أي لو أسمعهم سماعَ تفهّمٍ وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية لتولّوا عما سمِعوه من الحق ولم ينتفعوا به قطُّ أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلاً وقوله تعالى

{وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حالٌ من ضمير تولوا أي لتولوا على أدبارهم والحالُ أنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم وإما اعتراضٌ تذييلىٌّ أي وهم قوم عادتهم الإعراض وقيل كانُوا يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحّيِ قُصَيّاً فإنه كان شيخَاً مباركاً حتى يشهدَ لك ونؤمنَ بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصيَ الخ وقيل هم بنو عبدِ الدار بن قصي لم يُسلم منهم إلا مصعبُ بنُ عميرٍ وسويدُ بن حرْملة كانوا يقولون نحن صمٌّ بكمٌ

ص: 15

عميٌ عما جاء به محمدٌ لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقُتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحابَ اللواءِ وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسنِ رضي الله عنه أنهم أهل الكتاب

سورة الأنفال من الآيات (24 25)

ص: 16

{يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تكريرُ النداء مع وصفهم بنعت الإيمانِ لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يردُ بعدَه من الأوامر وتنببههم على أنَّ فيهمْ ما يوجبُ ذلك 2

{استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} بحسن الطاعة

{إِذَا دَعَاكُمْ} أي الرسولُ إذ هو المباشرُ لدعوة الله تعالى

{لِمَا يُحْيِيكُمْ} من العلوم الدينيةِ التي هي مناطُ الحياة الأبدية كما أن الجهَل مدارُ الموتِ الحقيقيِّ أو هي ماءُ حياةِ القلبِ كما أن الجهلَ موجبٌ موتَه وقيل لمجاهدة الكفارِ لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما في قوله تعالى وَلَكُمْ فِي القصاص حياة

روي أنه صلى الله عليه وسلم مر على أُبيَّ بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجّل في صلاته ثم جاء فقال صلى الله عليه وسلم ما منعك من إجابتي قال كنت في الصلاة قال ألم تخبَرْ فيما أوحِيَ إلي استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ الخ واختلف فيه فقيل هذا من خصائص دعائه صلى الله عليه وسلم وقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاةَ وقيل كان ذلك الدعاءُ لأمر مهمَ لا يحتمل التأخيرَ وللمصلي أن يقطع الصلاةَ لمثله

{واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} تمثيلٌ لغاية قربِه تعالى من العبد كقوله تعالى وَنَحْنُ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد وتنبيهٌ على أنه تعالى مطلعٌ من مكنونات القلوب على ما عسى يغفُل عنه صاحبُها أو حثٌّ على المبادرة إلى إخلاص القلوبِ وتصفيتِها قبل إدراك المنيةِ فإنها حائلةٌ بين المرء وقلبِه أو تصويرٌ وتخييلٌ لتملّكه على العبد قلبَه بحيث يفسخ عزائمهُ ويغيّر نياتِه ومقاصدَه ويحول بينه وبين الكفر إن إراد سعادتَه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور المعترضةِ المفوتةِ للفرصة وقرىء بين المرِّ بتشديد الراء على حذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف وأنه أي الله عز وجل أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتبِ أعمالِكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعةِ رسولِه وبالغوا في الاستجابة لهما

ص: 16

{واتقوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختصّ إصابتُها بمن يباشر الظلمَ منكم بل يعُمه وغيرَه كإقرار المُنكَر بين أظهُرِهم والمداهنةِ في الأمر والنهي عن المنكر وافتراقِ الكلمةِ وظهورِ البدع والتكاسلِ في الجهاد على أن قوله لا تصيبن الخ إما جوابُ الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيبن الخ وفيه أن جوابَ الشرط مترددٌ فلا يليق به النونُ المؤكدةُ لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى ادخلوا مساكنكم لَا يَحْطِمَنَّكُمْ وإما صفةٌ لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذٌ لأن النون لا تدخُل المنفيَّ في غير القسمِ أو للنهي على إرادة القولِ كقول من قال

حتى إذا جَنّ الظلامُ واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذنب قطّ

وإما جوابُ قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما وقد جُوِّز أن يكون نهياً عن التعرض للظلم بعد الأمرِ باتقاء الذنبِ فأن

ص: 16

وبالَه يصيب الظالمَ خاصةً ويعود عليه ومِنْ في منكم على الوجوه الأُوَلِ للتبعيض وعلى الآخيرين للتبيين وفائدتُه التنبيهُ على أن الظالم منكم أقبحُ منه من غيركم

{واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشِرْ سببه

سورة الأنفال من الآيات (26 27)

ص: 17

{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} أي وقتَ كونِكم قليلاً في العدد وإيثارُ الجملةِ الاسمية للإيذان باستمرار ما كانُوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف وقوله تعالى

{مُّسْتَضْعَفُونَ} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لقليل وقوله تعالى

{فِى الأرض} أي في أرض مكةَ تحت أيدى قريشٍ والخطابُ للمهاجرين أو تحت أيدي فارسَ والرومَ والخطاب للعَرَب كافةً فإنهم كانوا أذلاء تحت أيدي الطائفتين وقوله تعالى

{تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} خبرٌ ثالثٌ أو صفةٌ ثانية لقليلٌ وُصِفَ بالجملة بعد ما وصف بالمُفرد أو حالٌ من المستكنِّ في مستضعفون والمرادُ بالناس على الأول وهو الأظهرُ إما كفارُ قريشٍ وإما كفارُ العرب لقربهم منهم وشدة عدواتهم لهم وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قِلتِكم وذِلتكم وهَوانِكم على الناس وخوفِكم من اختطافهم

{فَآوَاكُمْ} إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم

{وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة

{وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم الجليلة

ص: 17

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ الله والرسول} أصلُ الخَوْنِ النقصُ كما أن الأصل الوفاءِ التمام واستعمالهُ في ضد الأمانة لتضمنه إياه أي لا تخونوهما بتعطيل الفرائضِ والسنن أو بأن تُضمِروا خلافَ ما تظهرون أو في الغلول في الغنائم روى أنه صلى الله عليه وسلم حاصَر بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً فسألوا الصُّلْحَ كما صالح بني النضيرِ على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرِعاتٍ وأريحاءَ من الشام فأبى إلا أن ينزِلوا عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ رضي الله عنه فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لُبابةَ وكان مناصِحاً لهم لِما أن ماله وعيالَه كانا في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حُكم سعدٍ فأشار إلى حلقه إنه الذبحُ قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني خُنتُ الله ورسولَه فنزلت فشد نفسَه على سارية من سواري المسجدِ وقال والله لا أذوقُ طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوبَ الله عليّ فمكث سبعةَ أيامٍ حتى خرَّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيبَ عليك فحُلَّ نفسَك قال لا والله لا أحُلّها حتى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحُلّني فجاءه صلى الله عليه وسلم محله فقال إن من تمام توبتي أن أهجُرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ وأن أنخلِع من مالي فقال صلى الله عليه وسلم بحزئك الثلثُ أن تتصدقَ به

{وَتَخُونُواْ أماناتكم} فيما بينكم وهو مجزومٌ معطوفٌ على الأول أو منصوبٌ على الجواب بالواو

{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}

ص: 17

أنكم تخونون أو أنتم علماءُ تميِّزون الحسنَ من القبيح

سورة الأنفال من الآيات (28 30)

ص: 18

{واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} لأنها سببُ الوقوعِ في الإثم والعقاب أو محنة من الله عز وجل ليبلُوَكم في ذلك فلا يحمِلَنّكم حبُّهما على الخيانة كأبي لُبابة

{وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثرَ رضاه تعالى عليهما وراعى حدودَه فيهما فنيطوا هِممَكم بما يؤديكم إليه

ص: 18

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تكريرُ الخطابِ والوصفِ بالإيمان لإظهار كمالِ العنايةِ بما بعده والإيذانِ بأنه مما يقتضي الإيمانُ مراعاتَه والمحافظةَ عليه كما في الخطابين السابقين

{إَن تَتَّقُواْ الله} أي في ما تأتونَ وما تذرونَ

{يَجْعَل لَّكُمْ} بسبب ذلك

{فُرْقَانًا} هدايةً في قلوبكم تفرِّقون بها بينَ الحقِّ والباطلِ أو نصراً يفرّق بين المُحِقِ والمُبطل بإعزاز المؤمنين وإذلالِ الكافرين أو مخرجاً من الشبهات أو نجاةً عما تحذرون في الدارين أو ظهوراً يشهَرُ أمرَكم وينشرُ صِيتَكم من قولهم بتّ أفعلُ كذا حتى سطح الفُرقانُ أي الصبح

{وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي يسترها

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبَكم بالعفو والتجاوزِ عنها وقيل السيئاتُ الصغائرُ والذنوبُ الكبائرُ وقيل المرادُ ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم وقولُه تعالى

{والله ذُو الفضل العظيم} تعليلٌ لما قبله وتنبيهٌ على أنَّ ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضّلٌ منه وإحسانٌ لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيدُ عبدَه إنعاماً على عمل

ص: 18

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم معطوف على قوله تعالى واذكروا إِذْ أَنتُمْ الخ مسوق لتذكير النعمة الخاصة به صلى الله عليه وسلم بعد تذكير النعمةِ العامةِ للكل أي واذكر وقتَ مكِرهم بك

{لِيُثْبِتُوكَ} بالوَثاق ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ ليقيدوك أو الإثخانِ بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح وقرىء ليثبّتوك بالتشديد وليبّيتوك من البيات

{أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي بسيوفهم

{أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم له صلى الله عليه وسلم فرِقوا واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل إبليسُ عليهم في صورة شيخٍ وقال أنا من نجد سمعتُ باجتماعكم فأردت أن أحضُركم ولن تعدَموا منى رأياً ونُصحاً فقال أبو البَحْتري رأيي أن تحبِسوه في بيت وتسدّوا منافذه غيرَ كوّةٍ تلقون إليه طعامَه وشرابَه منها حتى يموت فقال الشيخ بئسُ الرأيُ يأتيكم من يقاتلُكم من قومه ويخلِّصه من أيديكم فقال هشامُ بنُ عمْرو رأيي أن تحمِلوه على جمل وتخوجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال وبئس الرأي يُفِسدُ قوماً غيرَكم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخُذوا

ص: 18

من كل بطنٍ غلاماً وتعطوه سيفاً فيضرِبوه ضربةً واحدة فيتفرقَ دمُه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريشٍ كلِّهم فإذا طلبوا العقلَ عقَلْناه فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريلُ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيّت علياً رضي الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى الغار

{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} أي يرد مكرَهم عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملةَ الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حمَلوا عليهم فلقُوا منهم ما لقُوا

{والله خَيْرُ الماكرين} لا يُعبأ بمكرهم عند مكرِه وإسنادُ أمثالِ هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة ولا مساغَ له ابتداءً لما فيهِ من إيهامِ ما لا يليقُ به سبحانه

سورة الأنفال من الآيات (31 33)

ص: 19

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} التي حقها أن يخِرَّ لها صُمُّ الجبال

{قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} قاله اللعين النضر بن الحرث وإسنادُه إلى الكل لما أنه كان رئيسَهم وقاضيَهم الذي يقولون بقوله ويأخُذون برأيه وقيل قاله الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وهذا كما ترى غايةُ المكابرة ونهايةُ العِناد كيف لا ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد اتحدوا عشرَ سنين وقُرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرَّيْن ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنَفتهم وفرْطِ استنكافِهم أن يُغلَبوا لاسيما في باب البيان

{إِنْ هذا إِلَاّ أساطير الاولين} أي ما يسطرونه من القصص

ص: 19

{وإذ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا أيضاً من أباطيل ذلك اللعين

روي أنه لما قال إِنْ هذا إِلَاّ أساطير الأولين قال له النبيِّ صلى الله عليه وسلم ويلَك أنه كلامُ الله تعالى فقال ذلك والمعنى أن القرآن إن كان حقاً منزلاً مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الحجارةَ عقوبةً على إنكارنا أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ سواه والمرادُ منه التهكمُ وإظهارُ اليقينِ والجزمِ التامِّ على أنه ليس كذلك وحاشاه وقرىء الحقُّ بالرفع على أن هو مبتدأ لأفضل وفائدةُ التعريفِ فيه الدِلالةُ على أن المعلق به كونُه حقاً على الوجه الذي يدعيه صلى الله عليه وسلم وهو تنزيلُه لا الحقُّ مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غيرَ منزلٍ كالأساطير

ص: 19

{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} جوابٌ لكلمتهم الشنعاءِ وبيانٌ للموجِب لإمهالهم والتوقفِ في إجابة دعائِهم واللامُ لتأكيد النفي والدِلالةِ على أن تعذيبَهم عذابَ استئصال والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرِهم خارجٌ عن عادته تعالى غيرُ مستقيمٍ في حُكمه وقضائه والمرادُ باستغفارهم في قوله تعالى

{وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إما استغفارُ مَنْ بقِيَ منهم من المؤمنين أو قولُهم اللهم

ص: 19

اغفِرْ أو فرضُه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بظلم وأهلها مصلحون

سورة الأنفال من الآيات (34 36)

ص: 20

{وما لهم ألا يُعَذّبْهُمُ الله} بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون

{وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالُهم ذلك ومن صدهم عند إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية

{وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء

{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَاّ المتقون} من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى

{ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أنه لا ولايةَ لهم عليه وفيه إشعارا بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند وقيل أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم

ص: 20

{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ البيت} أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاةً أو ما يضعون موضعها

{إِلَاّ مُكَاءً} أي صفيراً فُعال من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبُكى

{وَتَصْدِيَةً} أي تصفيقاً تفعِلةً من الصَّدَى أو من الصدّ على إبدال أحدِ حرفي التضعيف بالياء وقرئ صلاتَهم بالنصب على أنه الخبر لكان مساق الكلام لتقرير استحقاقِهم العذابَ أو عدمِ ولايتِهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاتُه

رُوي أنهم كانوا يطوفون عراةً الرجالُ والنساء مشبكين بين أصابعِهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلِطون عليه ويُرَون أنهم يصلون أيضاً

{فَذُوقُواْ العذاب} أي القتلَ والأسرَ يومَ بدرٍ وقيل عذابَ الآخرة واللامُ يحتمل أن تكون للعهد والمعهودُ ائتنا بعذاب أليم

{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} اعتقاداً وعملاً

ص: 20

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً من قريش يطعم كل واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أو قية أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله

{فَسَيُنفِقُونَهَا} بتمامها ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ ويحتمل أنْ يُرادَ بهما واحدٌ على أن مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد

{ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}

ص: 20

ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصودِ جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً

{ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالاً قبل ذلك

{والذين كَفَرُواْ} أي تموا على الكفر وأصروا عليه

{إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها

سورة الأنفال من الآيات (37 40)

ص: 21

{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} أي الكافر من المؤمن أو الفسادَ من الصلاح واللامُ متعلقةٌ بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوته صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نُصرته واللامُ متعلقةٌ بقوله ثم تكون عليهم حسرة وقرئ ليميز بالتشديد للمبالغة

{وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يضم بعضَه إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامِهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابَه كما للكافرين

{فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ} كلَّه

{أولئك} إشارةٌ إلى الخبيث إذ هو عبارةٌ عن الفريق أو إلى المنفقين وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد درجتِهم في الخبث

{هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران لأنهم خسِروا أنفسَهم وأموالَهم

ص: 21

{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} هم أبو سفيانَ وأصحابُه أي قل لأجلهم

{إِن يَنتَهُواْ} عمَّا هُم فيهِ من معاداة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام

{يغفرُ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من الذنوب وقرىء إن تنتهوا يُغفرْ لكم ويَغفِرْ لكم على البناءِ للفاعلِ وهو الله تعالى

{وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتالهم

{فَقَدْ مضت سنة الاولين} الذين تحزّبوا على الأنبياءِ عليهم السلام بالتدبير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثلَ ذلك

ص: 21

{وقاتلوهم} عطف على قل وقد عُمّم الخطابُ لزيادة ترغيبِ المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قولُه تعالى فقد مضت سنة الاولين من الوعيد

{حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي لا يوجَدَ منهم شركٌ

{وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} وتضمحِلَّ الأديانُ الباطلةُ إما بإهلاك أهلِها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل

{فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر بقتالكم

{فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامِهم وقرئ بتاء الخطاب أي بما تعملون من الجهاد المُخرِجِ لهم إلى الإسلام وتعليقُه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشِرون بالمباشرة

ص: 21

{وَإِن تَوَلَّوْاْ} ولم ينتهوا عن ذلك

{فاعلموا أَنَّ الله مَوْلَاكُمْ} ناصرُكم فثِقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم

{نِعْمَ المولى} لا يَضيعُ مَنْ تولاه

{وَنِعْمَ النصير} لا يُغلب مَنْ نصره

ص: 21

سورة الأنفال من الآية (41)

ص: 22

{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} عن الكلبي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي كان الخُمسُ في غزوة بني قينُقاع بعد بدر بشهر وثلاثةِ أيامٍ للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة وما موصولةٌ وعائدُها محذوفٌ أي الذي أصبتموه من الكفار عُنوةً وأصلُ الغنيمة إصابةُ الغَنَم من العدو ثم اتُسع وأطلق على ما أصيب منهم كائناً ما كان وقوله تعالى

{مِن شَىْء} بيانٌ للموصول محلُّه النصبُ على أنَّهُ حالٌ من عائد الموصول قصد به الاعتناءُ بشأن الغنيمة وأن لا يشِذُّ عنها شيءٌ أي ما غنِمتموه كائناً مما يقع عليه اسمُ الشيءِ حتى الخيطُ والمَخيطُ خلا أن سلَبَ المقتولِ للقاتل إذا نفّله الإمامُ وأن الأسارى يُخيَّر فيها الإمامُ وكذا الأراضي المغنومةُ وقوله تعالى

{فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي فحق أو واجب أن له تعالى خُمسَه وهذه الجملةُ خبر لأنما الخ وقرئ بالكسر والأول آكَدُ وأقوى في الأيجاب لِما فيه من تكرر الإسنادِ كأنه قيل فلا بد من ثبات الخُمس ولا سبيل إلى الإخلال به وقرئ فلله خمسه وقرئ خمس بسكون الميم والجمهورُ على أن ذكرَ الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وأن المرادَ قسمةُ الخُمس على المعطوفِين عليه بقوله تعالى {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وإعادةُ اللامِ في ذي القربى دون غيرِهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهُّمِ اشتراكِهم في سهم النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالهم به صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب دون بني عبدِ شمس وبني نَوْفل لما روي عن عثمانَ وجبير بن مطعم رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء إخوتُك بنو هاشم لا نُنكر فضلَهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيتَ إخوانَنا بني المطلب أعطيتَهم وحرمتنَا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وسلم إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشمٍ وبنو المطلب شيءٌ واحد وشبّك بين أصابعِه وكيفيةُ قسمِتها عندنا أنها كانت في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم سهمٌ له صلى الله عليه وسلم وسهمٌ للمذكورين من ذوي قرباه وثلاثةُ أسهمٍ للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى الله عليه وسلم فسهمُه ساقطٌ وكذا سهمُ ذوي القُربى وإنما يعطَوْن لفقرهم فهم أسوةٌ لسائر الفقراء ولا يُعطي أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة ويؤيده ما رُوي عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه منع بني هاشمٍ الخمسَ وقال إنما لكم أن يُعطى فقيرُكم وتُزوَّجَ أيِّمُكم ويخدَمَ من لا خادم له منكم ومن عداهم فهو بمنزلة ابنِ السبيل الغني لا يعطى من الصدقة شيئاً وعن زيد بن علي مثله قال ليس لنا أن نبنيَ منه قصورا ولا نركَب منه البراذينَ وقيل سهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوليّ الأمرِ بعده وأما عند الشافعيِّ رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف إلى ما كان يصرفه صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين كعُدّة الغُزاة من الكُراعِ والسلاح ونحوِ ذلك وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائِهم يُقسم بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين والباقي للفِرَق الثلاث

ص: 22

وعند مالك رحمه الله الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى اجتهاد الإمامِ إن رأى قسمَه بين هؤلاءِ وإن رأى أعطاه بعضاً منهم دون بعض وإن رأى غيرَهم أولى وأهمَّ فغيرُهم وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال يُقسم ستةَ أسهمٍ ويُصرف سهمُ الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منه قبضةً فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسِمُ ما بقيَ على خمسة أسهمٍ وقيل سهمُ الله لبيت المال وقيل هو مضمومٌ إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا شأنُ الخمسِ وأما الأخماسُ الأربعةُ فتقسم بين الغانمين للراجل سهمٌ وللفارس سهمان عند أبي حنيفة رضى الله عنه وثلاثةُ أسهم عندهما رحمهما الله

قال القرطبيُّ لما بين الله تعالى حكمَ الخمسِ وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى

{إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ} متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه المذكورُ أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمسَ من الغنيمة يجب التقربُ بهِ إلى الله تعالَى فاقطعوا أطماعَكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة ليس المرادُ به مجردَ العلم بذلك بل العلمَ المشفوعَ بالعمل والطاعةِ لأمره تعالى

{وَمَا أَنزَلْنَا} عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه

{على عبدنا} وقرئ عُبُدِنا وهو اسمُ جمعٍ أريد به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فإن بعضَ ما نزل نازلٌ عليهم بالذات كما ستعرفه

{يَوْمَ الفرقان} يوم بدرٍ سمي به لفَرْقه بين الحقِّ والباطل وهو منصوبٌ بأنزلنا أو بآمنتم

{يَوْمَ التقى الجمعان} أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدلٌ من يومَ الفرقان أو منصوبٌ بالفرُقان والمرادُ ما أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من الوحي والملائكةِ والفتحِ على أن المرادَ بالإنزال مجردُ الإيصالِ والتيسير فينتظم الكلَّ انتظاماً حقيقياً وجعلُ الإيمانِ بإنزال هذه الأشياءِ من موجبات العلم بكون الخُمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحيَ ناطقٌ بذلك وأن الملائكةَ والفتحَ لمّا كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفةً إلى الجهات التي عينها الله تعالى

{والله على كُلّ شيء قَدِيرٌ} يقدِر على نصر القليلِ على الكثير والذليلِ على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم

سورة الأنفال من الآية (42)

ص: 23

{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بدلٌ ثانٍ من يومَ الفرقان والعُدوةُ بالضم شطُّ الوادي كذا بالفتح والكسر وقد قرئ بهما أيضاً

{وَهُم بالعدوة القصوى} أي البُعدى من المدينة وهي تأنيثُ الأقصى وكان القياسُ قلبَ الواوِ ياءً كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو لكنها جاءت على الأصل كالقود واستُصوب وهو أكثرُ استعمالاً من القُصيا

{والركب} أي العِيرُ أو قُوّادُها

{أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي في مكانٍ أسفلَ من مكانكم يعني الساحلَ وهو نصبٌ على الظرفية واقعٌ موقعَ الخبر والجملةُ حالٌ من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارِهم بالركب وحِرصِهم على المقاتلة عنها وتوطينِ نفوسِهم على أن لا يُخْلوا مراكزَهم ويبذُلوا منتهى جهدِهم وضعفِ شأن المسلمين والتياثِ أمرِهم واستبعادِ غَلَبتِهم عادةً وكذا ذكرُ مراكزِ الفريقين فإن العُدوةَ الدنيا كانت

ص: 23

رِخوةً تسوخُ فيها الأرجلُ ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماءٌ بخلاف العُدوة القصوى وكذا قوله تعالى

{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي لو تواعدتم أنتم وهم القتالَ ثم علمتم حالَكم وحالَهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هَيْبةً منهم ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صُنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات فيزدادوا إيماناً وشكر وتطمئن نفوسُهم بفرض الخُمس

{ولكن} جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد

{لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} حقيقاً بأن يُفعل مِن نصْرِ أوليائِه وقهرِ أعدائِه أو مقدراً في الأزل وقوله تعالى {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بينة ويحيى مِنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} بدلٌ منه أو متعلقٌ بمفعولاً أي ليموتَ من يموتُ عن بينة عاينها ويعيشَ من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكونَ له حجةٌ ومعذرةٌ فإن وقعةَ بدرٍ من الآيات الواضحة أو ليصدُرَ كفرُ من كفر وإيمانُ من آمن عن وضوح بينةٍ على استعارة الهلاك والحياةِ للكفر والإيمان والمرادُ بمن هلك ومن حي المشارفُ للهلاكِ والحياة أو مَنْ حالُه في علم الله تعالى الهلاكُ والحياة وقرئ ليهلك بالفتح وحي بفك الإدغام حملاً على المستقبل

{وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي بكفر من كفر وعقابِه وإيمانِ من آمن وثوابِه ولعل الجمعَ بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد

الأنفال آيات (43 44)

ص: 24

{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً} منصوبٌ باذكُرْ أو بدلٌ آخرُ من يومَ الفرقان أو متعلقٌ بعليم أي يعلم المصالحَ إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكونَ تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم

{وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} أي لجبُنتم وهِبتم الإقدام

{ولتنازعتم فِى الامر} أي أمر القتال وتفرقتْ آراؤُكم في الثبات والفرار

{ولكن الله سَلَّمَ} أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازعِ

{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجُبن والصبر والجزَعِ ولذلك دبّر ما دبر 2

ص: 24

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به الكلُّ بطريق التلوينِ والتعميم معطوفٍ على المُضمر السابقِ والضميرانِ مفعولا يُري وقليلاً حالٌ من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم

{وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل إنما أصحابُ محمد أكلةُ جَزور قللهم في أعينهم قبل التحامِ القتالِ ليجترئوا عليهم ولا يستعدّوا لهم ثم كثّرهم حتى رأوْهم مثليهم لِتُفاجِئَهم الكثرةُ فيُبهَتوا ويهابوا وهذه من عظائم آياتِ تلك الوقعةِ فإن البصرَ قد يرى الكثيرَ قليلاً والقليلَ كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصارَ عن إبصار بعضٍ دون بعض مع التساوي

ص: 24

في الشرائط {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} كُرر لاختلاف الفعل المعلَّلِ به أو لأن المرادَ بالأمر ثَمةَ الالتقاءُ على الوجه المذكور وههنا إعزازُ الإسلام وأهلِه وإذلالُ الكفر وحِزبه

{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} كلُّها يصرِفها كيفما يريد لأراد لأمره ولا معقِّبَ لحُكمه وهو الحكيم المجيد

سورة الأنفال من الآيات (45 47)

ص: 25

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} صدر الخطاب بحر في النداء والتنبيه إظهاراً لكمال الاعتناءِ بمضمون ما بعده

{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي حاربتم جماعةً من الكفرة وإنما لم يوصَفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحارِبون إلا الكفَرة واللقاءُ مما غلبَ في القتال

{فاثبتوا} أي للقائهم في مواطن الحربِ

{واذكروا الله كَثِيراً} أي في تضاعيف القتال مستمدين منه مستعينين به مستظهِرين بذكره مترقّبين لنصره

{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تفوزون بمرامكم وتظفَرون بمُرادكم من النُّصرة والمَثوبةِ وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ ينبغي أن لا يشغَلَه شيءٌ عن ذكرِ الله تعالى وأن يلتجيء إليه عند الشدائد ويُقبلَ إليه بكليته فارغَ البال واثقاً بأن لطفَه لا ينفكُّ عنه فِى حالٍ من الأحوالِ

ص: 25

{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أمروا به ههنا اندراجاً أولياً

{وَلَا تنازعوا} باختلاف الآراءِ كما فعلتم ببدر أو أحُد

{فَتَفْشَلُواْ} جوابٌ للنهي وقيل عطفٌ عليه

{وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالنصب عطفٌ على جواب النهي وقرئ بالجزم على تقدير عطفِ فتفشلوا على النهي أي تذهبَ دولتُكم وشَوْكتُكم فإنها مستعارةٌ للدولة من حيث إنها في تمشّي أمرِها ونفاذِه مشبهةٌ بها في هُبوبها وجَرَيانها وقيل المرادُ بها الحقيقةُ فإن النُصرةَ لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث نصرت بالصبا وأهلكت عادٌ بالدَّبور

{واصبروا} على شدائد الحرب

{إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالنُصرة والكَلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متّبعون من تلك الحيثية ومعيَّتُه تعالى إنما هي من حيث الإمدادُ والإعانة

ص: 25

{وَلَا تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} بعد ما أُمروا بَما أُمروا به من أحاسن الأعمالِ ونُهوا عما يقابلها من قبائحها والمرادُ بهم أهلُ مكةَ حين خرجوا لحماية العِير

{بَطَراً} أي فخراً وأشَراً

{ورئاء الناس} ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا جَحفةَ أتاهم رسولُ أبي سفيان وقال ارجِعوا فقد سلِمت عِيرُكم فأبَوا إلا إظهارَ آثارِ الجلادة فلقُوا ما لقوا حسبما ذُكر في أوائل السورةِ الكريمة فنُهي المؤمنون أن يكونوا أمثالَهم مرائين بطِرين وأُمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهيَ عن الشيء مستلِزمٌ للأمر بضده

{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عطفٌ على

ص: 25

بطرا إن جُعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جع مفعولاً له لكن على تأويل المصدر

{والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم عليه

سورة الأنفال من الآيات (48 49)

ص: 26

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} منصوب بمصر خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر وقتَ تزيينِ الشيطانِ أعمالَهم في معاداة المؤمنين وغيرِها بأن وسوس إليهم

{وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} أي ألقَى في رُوعِهم وخيّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون لكثرة عددِهم وعُددهم وأوهمهم أن اتّباعَهم إياه فيما يظنون أنها قُربات مجيرٌ لهم حتى قالوا اللهمَّ انصُرْ إحدى الفئتين وأفضلَ الدينَين ولكم خبرُ لا غالب أو صفتُه وليس صلته وإلا لا نتصب كقولك لا ضارباً زيداً عندنا

{فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان} أي تلاقى الفريقان

{نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} رجَع القهقرى أي بطل كيدُه وعاد ما خيَّل إليهم أنه مجيرُهم سبباً لهلاكهم

{وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لَا تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم ويئِس من حالهم لما رأى إمدادَ الله تعالى للمسلمين بالملائكة وقيل لما اجتمعت قريشٌ على المسير ذَكَرت ما بينهم وبين كِنانةَ من الإحنةِ فكاد ذلك يَثْنيهم فتمثل لهم إبليسُ في صورة سُراقةَ بنِ مالك الكِناني وقال لَا غَالِبَ لَكُمُ اليوم من الناس وإني مجيرُكم من كِنانةَ فلما رأى الملائكةَ تنزِل نكَص وكان يده في يد الحرث بن هشام فقال له إلى أين أخذلتنا في هذه الحالة فقال إني أرى مالا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكةَ قالوا هزَم الناسَ سراقةُ فبلغه ذلك فقال والله ما شعَرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتُكم فلما أسلموا علِموا أنه الشيطانُ وعلى هذا يحتملُ أنُ يكون معنى قولهِ إني أخاف الله أخافه أن يُصيبَني بمكروه من الملائكة أو يُهلكَني ويكونُ الوقتُ هو الوقتُ الموعود إذ رأى فيه ما لم يرَه قبله والأول ما قاله الحسنُ واختاره ابن بحر

{والله شَدِيدُ العقاب} يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفاً من جهةِ الله عزَّ وجل

ص: 26

{إِذْ يَقُولُ المنافقون} منصوبٌ بزيّن أو بنكَص أو بشديد العقاب

{والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي الذين لم تطمئن قلوبُهم بالإيمان بعد وبقيَ فيها نوعُ شبهة وقيل هم المشركين وقيل هم المنافقون في المدينة والعطفُ لتغايُر الوصفين كما في قوله

يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانم فالآديب

غَرَّ هَؤُلاء يعنون المؤمنين

{دِينَهُمُ} حتى تعرّضوا لما لا طاقةَ لهم به فخرجوا وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ إلى زُهاء ألف

{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} جوابٌ لهم من جهتِه تعالى وردٌّ لمقالتهم

{فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ لا يذِلُّ من توكل

ص: 26

عليه واستجار به وإن قلَّ

{حَكِيمٌ} يفعل بحكمته البالغةِ ما تستبعده العقولُ وتحار في فهمه ألبابُ الفحول وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة المذكور عليه

سورة الأنفال من الآيات (50 52)

ص: 27

{وَلَوْ تَرَى} أي ولو رأيتَ فإن لو الامتناعيةَ تردّ المضارعَ ماضياً كما أن إنْ تردّ الماضيَ مضارعاً والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظٌّ من الخطاب وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار وكلمةُ إذ في قوله تعالى

{إِذْ يَتَوَفَّى الذين كفروا الملائكة} ظرفٌ لترى والمفعولُ محذوفٌ أي ولو ترى الكفرةَ أو حالَ الكفرةِ حين يتوفاهم الملائكةُ ببدر وتقديمُ المفعولِ للاهتمام به وقيل الفاعلُ ضميرٌ عائدٌ إلى الله عز وجل والملائكةُ مبتدأٌ وقوله تعالى

{يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} خبرُه والجملةُ حالُ من الموصول قد استُغني فيها بالضَّميرِ عن الواوِ وهو على الأول حالٌ منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما

{وأدبارهم} أي وأستاهَهم أو ما أَقبل منهم وما أَدبر من الأعضاء

{وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} على إرادة القولِ معطوفاً على يضربون أو حالاً من فاعلهِ أي ويقولون أو قائلين ذوقوا بشارةً لهم بعذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامِعُ من حديد كلما ضَربوا التهبت النارُ منها وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن حدود البيانِ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف

ص: 27

{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذابِ وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونهما في الغايةِ القاصيةِ من الهَولِ والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه

{بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك الضرب والعذاب واقعٌ بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي ومحلُّ أنَّ في قوله

{وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الرفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً قد مر تحقيقُه في سورة آلِ عمرانَ والجملُة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرر لمضمون ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنها معطوفةْ على ما للدِلالة على أن سببيته مقيدةٌ بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبهم فليس بسديد لما أن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنبٍ بل وقوعُه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاء الكفرةِ المعينة بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه نعم لو كان المدعى كونَ جميعَ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك

ص: 27

{كدأب آل فِرْعَوْنَ} في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مَسوقٌ لبيان أن ما حلَّ بهم من العذاب بسبب كفرِهم لا بشيء آخرَ من جهة غيرِهم بتشبيه حالهم بحال

ص: 27

المعروفين بالإهلاك بسبب جرائمِهم لزيادة تقبيحِ حالِهم وللتنبيه على أن ذلك سنةٌ مطردةٌ فيما بين الأمم المهلَكةِ أي شأنُهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفُعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعونَ المشهورين بقباحة الأعمالِ وفظاعةِ العذابِ والنكال

{والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقُوا من العقاب ما لقُوا كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم من أهل الكفر والعِناد وقولُه تعالى

{كَفَرُواْ بآيات الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فعلوه لا لدأب آلِ فرعونَ ونحوِهم كما قيل فإن ذلك معلومٌ منه بقضية التشبيهِ وقوله تعالى

{فَأَخَذَهُمُ الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم والفاء لبيان كونِه من لوازم جناياتِهم وتبعاتِها المتفرِّعةِ عليها وقوله تعالى

{بِذُنُوبِهِمْ} لتأكيد ما أفاده الفاءُ من السببية مع الإشارةِ إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أُخَرَ لها دخلٌ في استتباع العقابِ ويجوز أن يكون المرادُ بذنوبهم معاصيَهم المتفرِّعةَ على كفرهم فتكونُ الباءُ للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها فدأبُهم مجموعُ ما فعلوا وفُعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل قال ابن عباس رضي الله عنهما إن آلَ فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبيُّ الله فكذّبوه كذلك هؤلاء جاء محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبتَه كما أنزل بآل فرعونَ وجعلُ العذابِ من جملة وأبهم مع أنه ليس مما يُتصوَّر مداومتُهم عليه واعتيادُهم إياه كما هو المعتبرُ في مدلول الدأبِ إما لتغليب ما فعلوه على ما فُعل بهم أو لتنزيل مداومتِهم على ما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي منزلةَ مداومتِهم عليه لما بينهما من الملابسة التامةِ وقوله تعالى

{إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله من الأخذ وقوله تعالى

سورة الأنفال آية 53

ص: 28

{ذلك} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما يفيد النظمُ الكريمُ من كون ما حلَّ بهم من العذاب منوطاً بأعمالهم السيئةِ غيرَ واقعٍ بلا سابقةِ ما يقتضيه وهو المشارُ إليه لا نفسُ ما حلَّ بهم من العذاب والانتقام كما قيل فإنه مع كونه معللاً بما ذُكر من كفرهم وذنوبِهم لا يتصور تعليلُه بجريان عادتِه تعالى على عدم تغييرِ نعمتِه على قوم قبل تغييرِهم لحالهم وتوهُّمِ أن السببَ ليس ما ذُكر كما هو منطوقُ النظم الكريم بل ما يستفاد من مفهوم الغايةِ من جريان عادتِه تعالى على تغيير نعمتِهم عند تغييرِ حالِهم بناءً على تخيل أن المعلِّلَ ترتبَ عقابِهم على كفرهم من غير تخلُّف عنه ركوبٌ شططٌ هائل وإبعادٌ عن الحق بمراحلَ وتهوينٌ لأمر الكفر بآيات الله وإسقاطٌ له عن رتبة إيجابِ العقاب في مقام تهويله والتحذيرِ منه فالمعنى ذلك أي ترتبُ العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداءً مع قدرتِه تعالى على ذلك

{بِأَنَّ الله} أي بسببِ أنَّه تعالى

{لَمْ يَكُ} في حد ذاتِه

{مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا} أي لم ينْبغِ له سبحانه ولم يصِحَّ في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمةً أنعم بها

{على قَوْمٍ} من الأقوام أيَّ نعمةٍ كانت جلّت أو هانت

{حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستِهم بالنعمة ويتصفوا بها ينافيها سواءٌ كانت أحوالُهم السابقةُ مرضيةً صالحة أو قريبةً من

ص: 28

الصلاحِ بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاءِ الكفرةِ حيث كانوا قبل البعثةِ كفَرةً عبدةَ أصنامٍ مستمرِّين على حالة مصحِّحة لإفاضة نعمةِ الإمهال وسائر النعمِ الدنيوية عليهم فلما بُعث إليهم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالبينات غيّروها إلى أسوأَ منها وأسخطَ حيث كذبوه صلى الله عليه وسلم وعادوه ومن تبِعه من المؤمنين وتحزّبوا عليهم يبغونهم الغوائلَ فغيّر الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهالِ وعاجلَهم بالعذاب والنَّكال وأصلُ يكُ يكن فحذُفت النونُ تخفيفاً لشبهها بالحروف اللينة

{وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عطفٌ على أنَّ الله الخ داخلٌ معه في حيزِ التعليل أي وبسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميعَ ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعالِ السابقةِ واللاحقة فيرتب على كلَ منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها وقرئ وإن الله بكسر الهمزةِ فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها وقوله تعالى

سورة الأنفال من الآية (54)

ص: 29

{كدأب آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييراً كائناً كدأبِ آلِ فرعونَ أي كتغييرهم على أن دأبهَم عبارةٌ عما فعلوه فقط كما هو الأنسبُ بمفهوم الدأبِ وقوله تعالى

{كَذَّبُواْ بآيات ربهم} تفسير له بتمهامه وقوله تعالى

{فأهلكناهم} إخبارٌ بترتب العقوبةِ عليه لا أنه من تمام تفسيرِه ولا ضيرَ في توسط قوله تعالى وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ بينهما كما مر نظيرُه في سورة آل عمرانَ حيث جوّزوا انتصابَ محلِّ الكافِ بلن تغنيَ مع ما بينهما من قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار وهذا على تقدير عطفِ الجملةِ على ما قبلَها وأما على تقدير كونِها اعتراضاً فلا غبارَ في توسطها قطعاً وقيل في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كما قبله فالجملة حينئذٍ استئنافٌ آخَرُ مسوق لتقرير ما سيق له الاستئنافُ الأول بتشبيه دأبِهم بدأب المذكورين لكنْ لا بطريقِ التكريرِ المحضِ بل بتغيير العُنوانِ وجعل الدأبِ في الجانبين عبارةً عما يلازم معناه الأول من تغيير الحالِ وتغييرِ النعمة أخذاً مما نطق به قوله تعالى ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً الآية أي دأبُ هؤلاء وشأنُهم الذي هو عبارةٌ عن التغييرَيْن المذكورين كدأب أولئِك حيث غيّروا حالهم فغير الله تعالى نعمتَه عليهم فقوله تعالى كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم وقوله تعالى فأهكناهم تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته وأما دأبُ قريشٍ فمستفادٌ منه بحكم التشبيهِ فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ حيث اكتَفى في كل من التشبيهين بتفسير أحدِ الطرفين وإضافة الآياتِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم لزيادة تقبيحِ ما فعلوا بها من التكذيب والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في أهلكنا جريا على سَنن الكبرياءِ لتهويل الخطبِ والكلامُ في الفاء وفي قوله تعالى

{بِذُنُوبِهِمْ} كالذي مر وعطفُ قوله تعالى

{وأغرقنا آل فرعون} على أهلكنا مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هولِ الإغراقِ وفظاعتِه كعطف جبريلَ عليه السلام على الملائكة

{وَكُلٌّ} أي وكلٌّ من الفِرَق المذكورين أو كلٌّ من هؤلاء وأولئك أو كلٌّ من غرقى القِبط وقتلى قريشٍ

{كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي أنفسَهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للهلاك

ص: 29

أو واضعين للكفر والتكذيب مكانَ الإيمانِ والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم

سورة الأنفال من الآيات (55 57)

ص: 30

{إِنَّ شَرَّ الدواب} بعد ما شرَح أحوال المهلَكين من شرار الكَفَرة شرَع في بيان أحوالِ الباقين منهم وتفصيلِ أحكامِهم وقوله تعالى

{عَندَ الله} أي في حكمه وقضائه

{الذين كَفَرُواْ} أي أصروا على الكفر ولجّوا فيه جُعلوا شرَّ الدوابِّ لا شرَّ الناسِ إيماءً إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدوابِّ ومع ذلك شرٌّ من جميع أفرادِها حسبما نطقَ به قوله تعالى إِنْ هُمْ إِلَاّ كالأنعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقولُه تعالى

{فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} حكمٌ مترتبٌ على تماديهم في الكفر ورسوخِهم فيه وتسجيلٌ عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ أصلا جيء به على وجه الاعتراضِ لا أنه عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ التي لا حكم فيها بالفعل وقوله تعالى

ص: 30

{الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو عطف بيان له أو نصبٌ على الذم أي عاهدتَهم ومِنْ للإيذان بأن المعاهدَة التي هي عبارةٌ عن إعطاء العهدِ وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى الله عليه وسلم عهدَهم إذ هو المناطُ لقباحة مانعي عليهم من النقض لا إعطاؤه صلى الله عليه وسلم إياهم عهدَه كأنه قيل الذين أخذت منهم عهدَهم وقيل هي للتبعيض لأن المباشِرَ بالذات للعهد بعضُهم لا كلُّهم

{ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} عطفٌ على عاهدتَ داخل معه في حكم الصلةِ وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على تجدّد النقضِ وتعدُّدِه وكونِهم على نيته في كل حالٍ أي ينقضون عهدَهم الذي أخذتَه منهم

{فِي كُلّ مَرَّةٍ} أي من مرات المعاهدةِ إذ هي التي يُتوقعُ فيها عدمُ النقضِ ويُستقبح وجودُه لا من مرات المحاربة كما قيلَ إذْ لا يتوقع فيها عدم النقض بل لا يُتصور أصلاً حتى يُستقبَح فيها وجودُه لكونها مَظِنةً لعدمه فلا فائدةَ في تقييد النقضِ بالوقوع في كل مرةٍ من مراتها بل لا صِحةَ له قطعاً لأن النقضَ لا يتحقق إلا في المرة الواردةِ على المعاهدة لا في المرات الواقعةِ بعدها بلا معاهدة ولئن سلم أن المرادَ هي المراتُ الواقعةُ إثرَ المعاهدةِ يبقى النقضُ الواقعُ بلا محاربةٍ كبيع السلاحِ ونحوه خارجاً من البيان ولئن عُدّ ذلك من المحاربة فلا محيصَ من لزوم خلوِّ الكلامِ عن الفائدة بالمرة لأن المحاربةَ بهذا المعنى عينُ النقضِ فيؤولُ الأمرُ إلى أن يقال ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات النقض وحملُ المحاربةِ على محاربة غيرهِم ليكونَ المعنى ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداءِ مع كونِه في غايةِ البُعد والركاكة يستلزِمُ خروجَ بدئِهم بالنقض من البيان

{وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} حالٌ من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحالُ أنهم لا يتقون سُبّةَ الغدرِ ولا يبالون بما فيه من العار والنار وقوله تعالى

ص: 30

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} شروعٌ في بيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ

ص: 30

بهم {فِى الحرب} أي في تضاعيفها

{فَشَرّدْ بِهِم} أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقاً عنيفاً موجباً للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل

{مّنْ خَلْفِهِمْ} أي مَنْ وراءَهم من الكفرة وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريب من هؤلاء وقرئ شرِّذْ بالذال المعجمةِ ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق وقرئ مِنْ خلفِهم أي افعلِ التشريدَ من ورائهم والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم

{لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بما شاهدوا مما ينزيل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر وقوله تعالى

سورة الأنفال من الآيات (58 59)

ص: 31

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} بيانٌ لأحكام المشرِفين إلى نقض العهدِ إثرَ بيانِ أحكامِ الناقضين له بالفعل والخوفُ مستعارٌ للعلم أي وإما تعلَمنَّ من 2 قوم من المعاهِدين نقضَ عهدٍ فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائلِ الغدرِ ومخايلِ الشر

{فانبذ إِلَيْهِمْ} أي فاطرَح إليهم عهدَهم

{على سَوَاء} على طريق مستوٍ قَصْدٍ بأن تظهر لهم النقض وتُخبِرَهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعتَ ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجِزْهم الحربَ وهم على توهم بقاءِ العهدِ كيلا يكونَ من قِبَلك شائبةُ خيانةٍ أصلا فالجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو حال من النابذ أي فانِبذْ إليهم ثابتاً على سواءٍ وقيل على استواءٍ في العلم بنقض العهدِ بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأولِ حالٌ من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبين

{إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين} تعليلٌ للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة التي هي خيانةٌ فيكونُ تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها وإما باعتبار استتباعِه للقتال بالآخرة فيكونُ حثاً له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً كأنه قيل وإما تعلَمنَّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم ثم قاتِلْهم إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم

ص: 31

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى

{سَبَقُواْ} أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضاً مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبيه على أن ذلك ممَّا لا يحومُ حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط وقيل الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضاً وقيل هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا وهيَ مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين والتقديرُ وَلَا يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أنْ سبقوا ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قولُه تعالى ومن آياتِه يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وقولُه تعالى أغير الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الآية قاله الزجاج وقرئ بالتاء على خطاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرئ ولا تحسب الذين بكسر الباء وبقتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى

{إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئناف وقرئ بفتح الهمزة عَلى

ص: 31

حذف لام التعليلِ وقيل الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم من الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه وقيل نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرئ لا يعجزونِ بكسر النون ولا يعجزون بالتشديد

سورة الأنفال آيات (60 61)

ص: 32

{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} توجيهُ الخطاب إلى كافة المؤمنين لما أن المأمورَ به من وظائف الكلِّ كما أن توجيهَه فيما سبقَ وما لحِق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكون ما في حيِّزِه من وظائفه صلى الله عليه وسلم أي أعِدّوا لقتال الذين نُبذ إليهم العهدُ وهيِّئوا لحِرابهم أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأنسبُ بسياقِ النظمِ الكريم

{مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} من كل ما يُتقوَّى به في الحرب كائناً ما كان وعن عقبةَ بن عامر رضي الله عنه سمعته صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر ألا إن القوةَ الرميُ قالها ثلاثا ولعل تخصيصه صلى الله عليه وسلم إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القُوى

{وَمِن رّبَاطِ الخيل} الرباطُ اسمٌ للخيل التي ترُبط في سبيلِ الله تعالى فِعال بمعنى مفعول أو مصدرٌ سميت هي به يقال رَبَط ربطاً ورِباطاً ورابط مُرابطة ورِباطاً أو جمعُ رَبيطٍ كفصيل وفصال أو جمع رَبْطٍ ككعْبٍ وكَعاب وكلب وكلاب وقرئ رُبُط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفُها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادِها كعطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة

{تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوّفون وقرئ ترهبون بالتشديد وقرئ تُخزون به والضميرُ لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسبُ ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهِبين به أو منَ الموصولِ أو مِنْ عائده المحذوفِ أي أعدوا ما استطعتموه مُرهَباً بِهِ

{عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} وهم كفارُ مكة خُصّوا بذلك من بين الكفار مع كون الكلِّ كذلك لغاية عتوِّهم ومجاوزتِهم الحدَّ في العداوة

{وآخرين من دونهم} من غيرهم من الكفرة وقيل هم اليهودُ وقيل المنافقون وقيل الفرسُ

{لَا تَعْلَمُونَهُمُ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى

{الله يَعْلَمُهُمْ} أي لا غيره فإن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضاً

{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} لإعداد العَتادِ قل أوجل

{فِى سَبِيلِ الله} الذي أوضحه الجهاد

{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي جزاؤه كاملاً

{وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} بترك الإثابة أو بنقض الثوابِ والتعبيرُ عن تركها بالظلم مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يكون تركُ ترتيبِه عليها ظلماً لبيان كمالِ نزاهتِه سبحانه عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه تعالى كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ

ص: 32

{وَإِن جَنَحُواْ} الجُنوحُ الميلُ ومنه الجنَاح ويعدّى باللام وبإلى أي إن مالوا

{لِلسَّلْمِ} أي للصلح بوقوع الرهبةِ في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعدادِ وإعناد العتاد

{فاجنح لَهَا}

ص: 32

أي للسلم والتأنيثُ لحمله على نقيضه قال

السِّلمُ تأخذ منها أرضيت به

والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جرع

وقرئ فاجنُحْ بضم النون

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ولا تخَفْ أن يُظهروا لك السلمَ وجوانحُهم مطويةٌ على المكر والكيد

{أَنَّهُ} تعالى

{هُوَ السميع} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخِداع

{العليم} فيعلم نياتِهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويردُّ كيدَهم في نحرهم والآيةُ خاصّةٌ باليهود وقيل عامة نسختها آية السيف

سورة الأنفال آيات (62 64)

ص: 33

{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بإظهار السلم وإبطالِ الحراب

{فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرُك عليهم

{هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} تعليلٌ لكفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم بطريق الاستئنافِ فإن تأييدَه تعالى إياه صلى الله عليه وسلم فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيدِ من الوقوع من دلائل تأييدِه تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد مِنْ عنده بلا واسطة كقوله تعالى {وَمَا النصر إِلَاّ مِنْ عِندِ الله} أو بالملائكة مع خَرقه للعادات

{وبالمؤمنين} من المهاجرين والأنصار

ص: 33

{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالُك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة وهذا من أبهر معجزاته صلى الله عليه وسلم

{لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً} أي لتأليف ما بينهم

{مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ مقررٌ لما قبله ومبين لعزة المطلبِ وصعوبةِ المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفقٌ منفقٌ في إصلاح ذاتِ البين جميعَ ما فى الأرض من الأموال والذخائر لم يقدِرْ على التأليف والإصلاحِ وذكرُ القلوب للإشعار بأن التأليف بينها الا يتسنى وإن أمكن التأليفُ ظاهراً

{ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قلباً وقالَباً بقدرته الباهرة

{إِنَّهُ عَزِيزٌ} كاملُ القدرةِ والغلبة لا يستعصي عليه شيءٌ مما يريده

{حَكِيمٌ} يعلم كيفيةَ تسخيرِ ما يريده وقيل الآيةُ في الأوس والخزرج كان بينهم إِحَنٌ لا أمدَ لها ووقائعُ أفنت ساداتِهم وأعاظِمَهم ودقت أعناقَهم وجماجمَهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافَوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصارا

ص: 33

{يا أيها النبى} شروعٌ في بيانِ كفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم في جميع أموره وأمور المؤمنين أو في الأمور الواقعة بينهم وبين الكفرة كافة إثر بيان كفايتِه تعالى إياه صلى الله عليه وسلم في مادة خاصةٍ وتصديرُ الجملة بحر في النداءِ والتنبيهِ للتنبيه على مزيد الاعتناءِ بمضمونها وإيرادهُ صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم

{حَسْبَكَ الله} أي كافيك في جميع أمورِك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحِراب

{وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} في محل النصب على أنه مفعولٌ معه أي كفاك وكفي أتباعَك الله ناصراً كما في

ص: 33

قول من قال

فحسبُك والضحّاكَ عضْبٌ مهندُ

وقيل في موضع الجر عطفاً على الضمير كما هو رأيُ الكوفيِّينَ أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفعِ عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآيةُ نزلت في البيداء في غزوة بدرٍ قبل القتالِ وقيل أسلم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثم أسلم عمرُ رضي الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه

سورة الأنفال من الآية (65)

ص: 34

{يا أيها النبي} بعدما بين كفايتَه إياهم بالنصر والإمداد أمر صلى الله عليه وسلم بترتيب مبادي نصرِه وإمدادِه وتكريرُ الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن المأمور به

{حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي بالِغْ في حثّهم عليه وترغيبِهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغّبة التي أعظمُها تذكيرُ وعدِه تعالى بالنصر وحُكمُه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصلُ التحريضِ الحَرَضُ وهو أن ينهكه المرضُ حتى يُشفيَ على الموت وقال الراغبُ كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَض وهو ما لا خيرَ فيه ولا يعتد به قلت فالأوجهُ حينئذ أن يُجعل الحرَضُ عبارةً عن ضعف القلب الذي هو من باب نَهْكِ المرض وقيل معنى تحريضِهم تسميتُهم حرضاً بأن يقال إني أراك في هذا الأمر حَرَضاً أي محرّضاً فيه لتهيجه إلى الإقدام وقرئ حرِّص بالصاد المهملة وهو واضح

{إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} وعدٌ كريمٌ منه تعالى بتغليب كلِّ جماعةٍ من المؤمنين على عشرة أمثالِهم بطريق الاستئنافِ بعد الأمر بتحريضهم وقوله تعالى

{وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا} مع انفهام مضمونِه مما قبله لكون كل منهما عدةً بتأييد الواحدِ على العشرة لزيادة التقريرِ المفيدةِ لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوتَ فيما بين كلَ من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبيّن أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى

{مِنَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ للألف وهذا القيدُ معتبرٌ في المِائتين أيضاً وقد تُرك ذكرُه تعويلاً على ذكره ههنا كما ترك قيدُ الصبر ههنا مع كونه معتبراً حتماً ثقةً بذكره هناك

{بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ} متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قومُ جَهلةٌ بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً بأمر الله تعالى وإعلاءً لكلمته وابتغاءً لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهليةِ واتّباعِ خطواتِ الشيطانِ وإثارةِ ثائرةِ البغي والعُدوانِ فلا يستحقون إلا القهرَ والخِذلانَ وأما ما قيل من أن مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخِر لا يؤمن بالميعاد فالسعادةُ عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشِحّ بها ولا يعرِّضها للزوال بمزاولة الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ فيميل إلى ما فيه السلامةُ فيفِر فيُغلب وأما من اعتقد أن لا سعادةَ في هذه الحياة الفانية وإنما السعادةُ هي الحياةُ الباقية فلا يبال بهذه الحياةِ الدنيا ولا يقيم لها وزناً فيُقدم على الجهاد بقلب قوي وعزمٍ صحيحٍ فيقوم الواحدُ من مثله مقامُ الكثير فكلامٌ حقٌّ لكنه لا يلائم المقام

ص: 34

سورة الأنفال من الآيات (66 67)

ص: 35

{الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} لمّا كان الوعدُ السابقُ متضمناً لإيجاب مقاومةُ الواحد للعشرة وثباتُه لهم كما نُقلَ عن ابنِ جريج أنه كان عليهم أن لا يفِرّوا ويثبُتَ الواحدُ للعشرة وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزةَ في ثلاثين راكباً فلقى أبا جهل في ثلثمائة راكبٍ فهزمهم ثقُل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة فنُسخ وخُفف عنهم بمقاومة الواحدِ للاثنين وقيل كان فيهم قلةٌ في الابتداء ثم لما كثُروا نزل التخفيفُ والمرادُ بالضعف ضعفُ البدنِ وقيل ضعفُ البصيرةِ وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعفِ في الدين كما قيل وقرئ ضُعفاً بضم الضاد وهي لغةٌ فيه كالفَقر والفُقر والمَكْث والمُكث وقيل الضعفُ بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن وقرئ ضُعفاءَ جمعُ ضعيف والمرادُ بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحققٌ بالفعل لا علمُه تعالى به مطلقاً كيف لا وهو ثابتٌ في الأزل وقوله تعالى

{فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} تفسيرٌ للتخفيف وبيان لكيفيته وقرئ تكن ههنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية

{وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} أي بتيسيره وتسهيلِه وهذا القيدُ معتبرٌ فيما سبق من غلبة المائةِ المائتين والألفِ وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبرِ معتبر ههنا وإنَّما تُرك ذكرُه ثقةً بما مر وبقوله تعالى

{والله مَعَ الصابرين} فإنه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والمرادُ بالمعية معيَّةُ نصرِه وتأييدِه ولم يتعرض ههنا لحال الكفرةِ من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدارَ الغلبة في الصورتين مجموعُ الأمرين أعني نصرَ المؤمنين وخذلانَ الكفرةِ اكتفاء بما ذكر في كل مقامٍ عما ترك في المقام الآخر وما تشعرُ به كلمةُ مع من متبوعية مدخولِها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مراراً

ص: 35

{ما كان لنبي} وقرئ للنبي على العهد والأولُ أبلغُ لما فيه من بيانِ أنَّ ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أي ما صح وما استقام لنبيَ من الأنبياءِ عليهم السلام

{أَن يَكُونَ له أسرى} وقرئ بتأنيث الفعلِ وأُسارى أيضاً

{حتى يُثْخِنَ فِي الارض} أي يُكثر القتلَ ويبالغَ فيه حتى يذل الكفرة ويقِلُ حزبُه ويعِزّ الإسلامُ ويستوليَ أهلُه من أثخنه المرَضُ والجُرحُ إذا أثقله وجعله بحيث لا حَراكَ به ولا براحَ وأصلُه الثخانة التي هي الغلط والكثافة وقرئ بالتشديد للمبالغة

{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} استئنافٌ مَسوقٌ للعتاب أي تريدون حطامها بأخذكم الفداء وقرئ يريدون بالياء

{والله يُرِيدُ الاخرة} أي يريد لكم ثوابَ الآخرة الذي لا مقدار عندَهُ الدُّنيا وَمَا فِيْهَا أو يريد سببَ نيلِ الآخرة من إعزاز دينِه وقمعِ أعدائِه وقرئ بجر الآخرةِ على إضمار المضافِ كما في

ص: 35

قوله

أكل امرئ تحسبين أمرا

ونارٍ تَوقَّدُ بالليل ناراً

{والله عَزِيزٌ} يغلب أوليائه على أعدائه

{حَكِيمٌ} يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوْكةُ للمشركين وخيّر بينه وبين المنِّ بقوله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء لما تحولت الحال وصارت الغلبةُ للمؤمنين

رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسبعين أسيراً فيهم العباسُ وعقيل بنُ أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر قومُك وأهلك استَبْقِهم لعل الله يتوب عليهم وخُذ منهم فديةً تقوِّي أصحابَك وقال عمر اضرب أعناقَهم فإنهم أئمةُ الكفر والله أغناك عن الفداء مكّنْ علياً من عقيلٍ وحمزةَ من العباس ومكني من فلان نسيبٍ له فلنضرِب أعناقَهم فقال صلى الله عليه وسلم إن الله ليُلين قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدد قلوبَ رجالٍ حتى تكون أشدَّ من الحجارة وإن مثلَك يا أبا بكر مثلُ إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلُك يا عمرُ مثل نوحٍ قال ربِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض من الكافرين ديار فخيّر أصحابَه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضي الله عنه على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقالَ يا رسولَ الله أخبرني فإن وجدت بكاءً بكَيْتُ وإلا تباكيتُ فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداءَ ولقد عُرِضَ على عذابُهم أدنى من هذه الشجرةِ لشجرة قريبةِ منه وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال لو نزل عذابٌ من السماء لما نجا غيرُ عمرَ وسعدُ بنُ معاذ وكان هو أيضاً ممن أشار بالإثخان

سورة الأنفال من الآيات (68 70)

ص: 36

{لَّوْلَا كتاب مّنَ الله سَبَقَ} أي لولا حكمٌ منه تعالى سبق إثباتُه في اللوح المحفوظِ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهلَ بدر أو قوماً لم يصرِّح لهم بالنهي وأما أن الفدية التي أخذوها ستحِل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساسِ العذاب فإن الحِلَّ اللاحقَ لا يرفع حكمَ الحرمةِ السابقة كما أن الحرمةَ اللاحقة كما في كما في الخمر مثلالا ترفع حكمَ الإباحةِ السابقة على أنه قادحٌ في تهويل ما نُعي عليهم من أخذ الفداء

{لَمَسَّكُمْ} أي لأصابكم

{فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي لأجل ما أخذتم من الفداء

{عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قدرُه

ص: 36

{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزلت قالوا الفاءُ لترتيب ما بعدها على سبب محذوفٍ أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم والأظهر أنها للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقام أي دعوه فكلوا مما غنمتم وقيل ما عبارةٌ عن الفدية فإنها من جملة الغنائم ويأباه سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه

{حلالا} حال من المغنوم أو صفةٌ للمصدر أي أكلاً حلالاً وفائدتهُ الترغيبُ في أكلها وقوله تعالى

{طَيّباً} صفةٌ لحلالاً مفيدةٌ لتأكيد الترغيبِ

{واتقوا الله} أي في مخالفة أمرِه ونهيِه

{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفرُ لكم ما فرَط منكُم من استباحة الفداءِ قبل ورود الإذنِ فيه ويرحمُكم ويتوبُ عليكم إذا اتقيتموه

ص: 36

{يا أيها النبى قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم} أي في مِلكتكم كأن أيديَكم قابضةٌ عليهم

{من الأسرى}

ص: 36

سورة الأنفال من الآيات (71 72) وقرئ من الأُسارى

{إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} خلوصَ إيمانٍ وصحةَ نيةٍ

{يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ منكم} من الفداء وقرئ أخَذَ على البناء للفاعل

رُوِيَ أنَّها نزلتْ في العباس كلفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَفدِيَ ابني أخيه عَقيلَ بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال يا محمد تركتَني أتكفف قريشاً ما بقِيتُ فقال له صلى الله عليه وسلم فأين الذهبُ الذي دفعتَه إلى أم الفضلِ وقت خروجِك من مكة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدثٌ فهو لك ولعبد اللَّه وعبيد اللَّه والفضلِ فقال العباس ما يدريك فقال أخبرني به ربي قال العباس فأنا أشهد أنك صادقٌ وأن لا إله إلا الله وأنك عبدُه ورسوله والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله ولقد دفعتُه إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب قال العباس بعد حين فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإنّ أدناهم ليُضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزمَ ما أُحب أن لي بها جميعَ أموالِ أهل مكة وأنا أنتظر المغفرةَ من ربي يتأول به ما في قوله تعالى

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنه وعد بالمغفر مؤكدٌ بما بعده من الاعتراض التذييلي

ص: 37

{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} أي نكثَ ما بايعوك عليه من الإسلام وهذا كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى لتسليته صلى الله عليه وسلم بطريق الوعدِ له والوعيد لهم

{فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} بكفرهم ونقضِ ما أخذ على كل عاقلٍ من ميثاقه

{فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي أقدرَك عليهم حسبما رأيتَ يومَ بدر فإن أعادوا الخيانةَ فاعلم أنه سيُمكنك منهم أيضاً وقيل المرادُ بالخيانة منعُ ما ضمِنوا من الفداء وهو بعيد

{والله عَلِيمٌ} فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب

{حكيم} يفعل كل يفعله حسبما تقتضيه حكمتُه البالغة

ص: 37

{إن الذين آمنوا وَهَاجَرُواْ} هم المهاجرون هاجروا أوطانَهم حباً لله تعالى ولرسوله

{وجاهدوا بأموالهم} بأن صرفوها إلى الكُراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج

{وَأَنفُسِهِمْ} بمباشرة القتال واقتحامِ المعارك والخوضِ في المهالك

{فِى سَبِيلِ الله} متعلقٌ بجاهدوا قيدٌ لنوعي الجهادِ ولعل تقديمَ الأموال على الأنفس لما أن المجاهدةَ بالأموال أكثرُ وقوعاً وأتمُّ دفعاً للحاجة حيث لا يُتصور المجاهدةُ بالنفس بلا مجاهدة بالمال

{والذين آووا وَّنَصَرُواْ} هم الأنصارُ آوَوا المهاجرين وأنزلوهم منازلَهم وبذلوا إليهم أموالَهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم

{أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الفاضلة وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتِهم وبعد منزلتهم في الفضيلة وهو مبتدأُ وقولُه تعالى

{بَعْضُهُمْ} إما بدلٌ منه وقوله تعالى

{أَوْلِيَاء بعض} خبره

ص: 37

سورة الأنفال من الآيات (73 75) وإما مبتدأٌ ثانٍ وأولياءُ بعضٍ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الميراث وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنُصرة دون الأقاربِ حتى نُسخ بقوله تعالى وَأُوْلُو الارحام الآية وقيل في النُصرة والمظاهرة ويردُه قوله تعالى فَعَلَيْكُمُ النصر بعد نفي موالاتِهم

{والذين آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} كسائر المؤمنين

{مَا لَكُم مّن ولايتهم مِن شَىْء} أي من تولّيهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربِكم

{حتى يُهَاجِرُواْ} وقرئ بكسر الواو تشبيهاً بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة

{وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} فواجبٌ عليكم أن تنصُروهم على المشركين

{إِلَاّ على قَوْمٍ} منهم

{بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} معاهدةٌ فإنه لا يجوز نقضُ عهدِهم بنصرهم عليهم

{والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمرَه كيلا يحِلَّ بكم عقابُه

ص: 38

{والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بعض} آخر منهم في الميراث أو في الموازرة وهذا بمفهومة مُفيدٌ لنفي الموارثة والموازرة بينهم وبين المسلمين وإيجابِ المباعدةِ والمصارمة وإن كانوا أقارب

{إِلا تَفْعَلُوه} أي ما أُمرتم بهِ منَ التواصل بينكم وتولِّي بعضِكم بعضا حتى التوراث ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار

{تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرض} أي تحصُل فتنةٌ عظيمة فيها وهي ضعفُ الإيمان وظهورُ الكفر

{وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} في الدارين وقرئ كثير

ص: 38

{والذين آمنوا وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين آووا وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً} كلامٌ مسوقٌ للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلَّى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى

{لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تبعةَ له ولا منة فيه فلا تكرارَ لما أن مساقَ الأولِ لإيجاب التواصلِ بينهم

ص: 38

{والذين آمنوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} بعد هجرتِكم

{وجاهدوا مَعَكُمْ} في بعض مغازيكم

{فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصارُ وهم الذين جاءوا من بعدهم يقولون رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً في الإيمان والهجرة وفي توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من تشريفهم ورفعِ محلِّهم ما لا يخفى

{وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} آخرَ منهم في التوارث من الأجانب

{فِى كتاب الله} أي في حُكمهِ أو في اللَّوحِ أو في القرآن واستُدِل به على توريث ذوي الأرحام

{أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} ومن جملته ما في تعليق التوارثِ بالقرابة الدينيةِ أولاً وبالقرابة النسبيةِ آخِراً من الحِكَم البالغة

عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الأنفالِ وبراءةٌ فأنا شفيعٌ له يوم القيامة وشاهدٌ أنه برئ من

ص: 38

النفاق وأُعطِيَ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ منافقٍ ومنافقةٍ وكان العرشُ وحملتُه يستغفرون له أيامَ حياتِه والله تعالَى أعلمُ

9 سورة براءة الآية (1)

سورة براءة وهي مدينة وآياتها مائة وتسع وعشرون آية

ولها أسماء أخر سورة التوبة والمقشقشة والبحوث والمنقرة والمبعثرة والمثيرة والحافرة والمخزية والفاضحة والمنكلة والمشردة والمدمدمة وسورة العذاب لما فيها من ذكر التوبة ومن التبرية من النفاق والبحث والتنقير عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويشردهم ويدمدم عليهم واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضا من سورة الأنفال وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعا بوصف الرحمة كما رُوي عن ابنِ عيينة رضي الله عنه لا الاشتباه في استقلالها وعدمه كما يحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا رعاية ما وقع بين الصحابةِ رضي الله عنهم من الاختلاف في ذلك على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية وأن مناط إثباتها في المصاحف وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها ههنا وإلا لا متنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه صلى الله عليه وسلم تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم

ص: 39

{بَرَاءةٌ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ وتنوينه للتفخيم وقرئ بالنصب أي اسمعوا براءةً ومِنْ في قولِه تعالَى

{مّنَ الله وَرَسُولِهِ} ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لها ليفيدَها زيادةَ تفخيمٍ وتهويلٍ أي هذه براءةٌ مبتدأةٌ من جهة الله تعالى ورسوله وصلة

{إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين} وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذُكر في قوله تعالى إن الله برئ مّنَ المشركين اكتفاءً بما في حيز الصلةِ فإنه منئ عنه إنباءً ظاهراً واحترازاً عن تكرير لفظة من قيل هي مبتدأٌ لتخصصها بالصفة وخبرُه إلى الذين الخ والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ هو الأولُ لأن هذه البراءةَ أمرٌ حادثٌ لم يُعهَدْ عند المخاطَبين ذاتُها ولا عنوانُ ابتدائِها من الله تعالى ورسولِه حتى يخرُجَ ذلك العنوانُ مخرَجَ الصفةِ لها ويُجعلَ المقصودَ بالذات والعمدةُ في الإخبار شيئاً آخرَ هو وصولُها إلى المعاهَدين وإنما الحقيقُ بأن يعتنى بإفادته حدوثُ تلك

ص: 39

9 سورة براءة الآية (2) البراءةِ من جهته تعالى ووصولِها إليهم فإن حق الصفاتِ قبل علم المخاطَب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخيارا وحقُّ الأخبار بعد العلمِ بثبوتها لما هيَ له أن تكون صفاتٍ كما حُقّق في موضعه وقرئ منِ الله بكسر النون على أن الأصلُ في تحريك الساكنِ الكسرُ ولكن الوجهَ هو الفتحُ في لام التعريفِ خاصةً لكثرة الوقوع والعهدُ العقدُ الموثقُ باليمين والخطابُ في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العربِ من أهل مكةَ وغيرِهم بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فنكَثوا إلا بني ضَمْرَةَ وبني كِنانةَ فأُمر المسلمون بنبذ العهدِ إلى الناكثين وأُمهلوا أربعةَ أشهر ليسيروا أين شاءوا وإنما نُسبت البراءةُ إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكِهم في حكمها ووجوبِ العملِ بموجبها وعُلّقت المعاهدةُ بالمسلمين خاصةً مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم للإنباء عن تنجُّزها وتحتُّمها من غير توقفٍ على رأي المخاطبين لأنها عبارةٌ عن إنهاء حكمِ الأمانِ ورفع الخطر المترتبِ على العهد السابقِ عن التعرض للكفرة وذلك مَنوطٌ بجناب الله عز وجل لأنَّه أمرٌ كسائر الأوامرِ الجاريةِ على حسب حكمةٍ تقتضيها وداعيةٍ تستدعيها تترتب عليها آثارُها من غير توقفٍ على شيء أصلاً واشتراكُ المسلمين في حكمها ووجوبِ العمل بموجبها إنما هو على طريقةُ الامتثالِ بالأمر لا على أنْ يكونَ لهم مدخلٌ في إتمامها أو في ترتب أحكامِها عليها وأما المعاهدةُ فحيث كانت عقداً كسائر العقود الشرعيةِ لا تتحصّل في نفسها ولا تترتب عليها أحكامُها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصةٍ اعتبرها الشرعُ لم يُتصوَّرْ صدورُها عنه سبحانه وإنما الصادرُ عنه في شأنها هو الإذنُ فيها وإنما الذي يباشرُها ويتولى أمرَها المسلمون ولا يخفى أن البراءةَ إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنُسبت كلُّ واحدة منهما إلى من هو أصلٌ فيها على أن في ذلك تفخيماً لشأن البراءةِ وتهويلاً لأمرها وتسجيلاً على الكفرة بغاية الذلِّ والهوانِ ونهايةِ الخِزْيِ والخِذلان وتنزيهاً لساحة السبحان والكبرياءِ عما يوهم شائبةَ النقصِ والنداء تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وإدراجه صلى الله عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجُه عن الثانية لتنويه شأن الرفيعِ وإجلالِ قدرِه المنيع في كلا المقامين صلى الله عليه وسلم وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية كأن يقال قد برئ الله ورسولُه من الذين أو نحوُ ذلك للدلالة على دوامها واستمرارِها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيميِّ كما أشير إليه

ص: 40

{فَسِيحُواْ} السياحةُ والسَّيْحُ الذهابُ في الأرض والسيرُ فيها بسهولة على مقتضى المشيئةِ كسيح الماءِ على موجب الطبيعة ففيه من الدِلالة عَلى كمالِ التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة قوله عز وجل

{فِى الارض} لقصد التعميمِ لأقطارها من دار الإسلامِ وغيرِها والمرادُ إباحةُ ذلك لهم وتخليتُهم وشأنَهم من الاستعداد للحرب أو تحصينِ الأهل والمال وتحصيل المهاب أو غيرِ ذلك لا تكليفُهم بالسياحة فيها وتلوينُ الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهِه إليهم مع حصول المقصودِ بصيغة أمرِ الغائبِ أيضاً للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسماً لمادة تعلّلِهم بالغفلة وقطعاً لشأفة اعتذارِهم بعدم الاستعداد وإيثارُ صيغةِ الأمرِ مع تسنّي إفادةِ ذلك المعنى بطريق الإخبارِ أيضاً كأن يقالَ مثلاً فلكم أن تسيحوا أو نحوُ ذلك لإظهار كمالِ القوةِ والغلبةِ وعدمِ الاكتراث

ص: 40

9 سورة براءة الآية (3) لهم ولاستعدادهم فكأن ذلك أمرٌ مطلوبٌ منهم والفاءُ لترتيب الأمرِ بالسياحة وما يعقُبه على ما تؤذن به البراءةُ المذكورةُ من الحِراب على أن الأولَ مترتبٌ على نفسه والثاني بكلا متعلِّقَيْه على عنوان كونِه من الله العزيز لا لترتيب الأولِ عليه والثاني على الأول كما في قوله تعالى قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ الخ كأنه قيل هذه براءةٌ موجبةٌ لقتالكم فاسعَوْا في تحصيل العددِ والأسباب وبالغوا في إعتاد العَتادِ من كل باب

{أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ} بسياحتكم في أقطار الأرضِ في العَرْض والطول وإن ركبتم متن كل صعب وذلول

{غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي لا تفوّتونه بالهرب والتحصُّن

{وَأَنَّ الله} وُضع الاسمُ الجليلُ موضِعَ المضمر لتربية المهابةِ وتهويلِ أمر الإخزاءِ وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعار

{مُخْزِى الكافرين} أي مخزيكم ومُذِلُّكم في الدنيا بالقتل والأسرِ وفي الآخرة بالعذاب وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك والإشعار بأن علةَ الإخزاءِ هي كفرُهم ويجوز أن يكون المرادُ جنسَ الكافرين فيدخلُ فيه الخاطبون دخولاً أولياً والمرادُ بالأشهر الأربعةُ هي الأشهرُ الحرمُ التي عُلِّق القتالُ بانسلاخها فقيل هي شوَّالٌ وذو القَعدة وذو الحجة والمحرم وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرَّمُ وصفرُ وشهرُ ربيعٍ الأول وعشرٌ من شهر ربيعٍ الآخَر وجُعلت حُرَماً لحرمة قتالِهم فيها أو لتغليب ذي الحجة والمحرَّم على البقية وقيل من عشر ذي القعدة إلى عشرٍ من شهر ربيعٍ الأول لأن الحجَّ في تلك السنةِ كان في ذلك الوقت للنسئ الذي كان فيهم ثم صار في العام القابل في ذي الحجة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ الله السمواتِ والارض

روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكرٍ رضيَ الله تعالَى عنه على موسم سنةِ تسعٍ ثم أتبعه علياً رضي الله تعالى عنه على العضباء ليقرأَها على أهل الموسم فقيل له صلى الله عليه وسلم لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم لا يؤدّي عني إلا رجلٌ مني وذلك لأن عادة العرب أن لا يتولى أمرَ العهد والنقض على القبيلة إلا رجلٌ منها فلما دنا على سمع أبو بكر الرُّغاءُ فوقف فقال هذا رُغاءُ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحِقه قال أميرٌ أو مأمورٌ قال مأمورٌ فمضياً فلما كان قبل يوم الترويةِ خطَب أبُو بكرٍ رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يومَ النحِر عند جَمرةِ العقبة فقال يأيها الناسُ إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال أُمرت بأربعٍ أن لا يقرَبَ البيتَ بعد العام مشركٌ ولا يطوفَ بالبيت عُريانٌ ولا يدخلَ الجنةَ إلا كلُّ نفسٍ مؤمنة وأن يُتمَّ إلى كل ذي عهد عهدُه

ص: 41

{وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} أي إعلامٌ منهما فعَال بمعنى الإفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء ورفعُه كرفع براءةٌ والجملةُ معطوفةٌ على مثلها وإنما قيل

{إِلَى الناس} أي كافةً لأن الأذانَ غيرُ مختصٍ بقوم دون آخرين كالبراءة الخاصة

ص: 41

9 سورة براءة الآية (4) بالناكثين بل هو شاملٌ لعامة الكفرةِ وللمؤمنين أيضاً

{يَوْمَ الحج الاكبر} هو يومُ العيدِ لأن فيه تمامَ الحجِّ ومعظَم أفعالِه ولأن الإعلامَ كان فيه ولما روى أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحِر عند الجَمَرات في حَجة الوداع فقال هذا يومُ الحجِّ الأكبر وقيل يومُ عرفةَ لقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة ووصفُ الحجِّ بالأكبر لأن العُمرة تسمى الحجَّ الأصغرَ أو لأن المرادَ بالحج ما يقع في ذلكَ اليومِ من أعماله فإنه أكبرُ من باقي الأعمال أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون أو لأنه ظهر فيه عزُّ المسلمين وذلُّ المشركين

{أَنَّ الله} أي بأن الله وقرئ بالكسر لِما أن الأذانَ فيه معنى القول

{بَرِىء مّنَ المشركين} أي المعاهِدين الناكثين

{وَرَسُولُهُ} عطفٌ على المستكنِّ في برئ أو على محلِّ إنَّ واسمِها على قراءة الكسر وقرئ بالنصبِ عطفاً على اسمِ أنّ أو لأن الواوَ بمعنى مع أي برئ معه منهم وبالجر على الجوار وقيل على القسم

{فَإِن تُبْتُمْ} من الشرك والغدر التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب لزيادة التهديدِ والتشديد والفاءُ لترتيب مقدّمِ الشرطيةِ على الأذان بالبراءة المذيّلةِ بالوعيد الشديد المُؤذِنِ بلِين عَريكتِهم وانكسارِ شدة شكيمتِهم

{فَهُوَ} أي فالتوب

{خيرٌ لَّكُمْ} في الدارين

{وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن التوبة أو ثبَتُّم على التولي عن الإسلام والوفاء

{فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله} غيرُ سابقين ولا فائتين

{وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن البشارة

{بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وإن كانت بطريق التهكمِ إنما تليق بمن يقفُ على الأسرار الإلهية

ص: 42

{إِلَاّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين} استدراكٌ من النبذ السابقِ الذي أُخّر فيه القتالُ أربعةَ أشهرٍ كأنه قيل لا تُمهلوا الناكثين فوق أربعةِ أشهرٍ لكن الذين عاهدتم ثم لم ينكُثوا عهدَهم فلا تُجْروهم مُجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدَهم ولا يضُرّ في ذلك تخللُ الفاصلِ بقوله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ الخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية بل هو أمر بإعلام تلك البراءةِ كأنه قيل وأَعلِموها وقيل هو استثناءٌ متصلٌ من المشركين الأوّل ويرده بقاءُ الثاني على العموم مع كونهما عبارةً عن فريق واحد وجعلُه استثناءً من الثاني يأباه بقاء الأولُ كذلك وقيل هو استدراك من المقدر في فسيحوا أي قولوا لهم سيحوا أربعة أشهر لكن الذين عاهدتم منهم

{ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من شروط الميثاقِ ولم يقتُلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وقرئ بالمعجمة أي لم ينقضوا عهدَكم شيئاً من النقض وكلمة ثم للدِلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة

{وَلَمْ يظاهروا} أي لم يعاونوا

{عَلَيْكُمْ أَحَداً} من أعدائكم كما عدَتْ بنو بكر على خُزاعةَ في غَيْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهَرَتْهم قريشٌ بالسلاح

{فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي أدوه إليهم كملا

{إلى مُدَّتِهِمْ} ولا تفاجئوهم بالقتال عند مضيِّ الأجل المضروبِ للناكثين ولا تعاملوهم معاملتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما بقي لِحيَ من بني كنانةَ من عهدهم تسعةُ أشهر فأتم إليهم عهدَهم

{إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} تعليلٌ لوجوب الامتثال وتنبيهٌ على أن مراعاةَ حقوقِ العهدِ من باب التقوى وأن التسويةَ بين الوفيِّ

ص: 42

9 سورة براءة الآية (5) والغادر منافيةٌ لذلك وإن كان المعاهَدُ مشركاً

ص: 43

{فَإِذَا انسلخ} أي انقضى استُعير له من الانسلاخ الواقعِ بين الحيوان وجلدِه والأغلبُ إسناده إلى الجلد والمعنى إذا انقضى

{الاشهر الحرم} وانفصلت عما كانت مشتملةً عليه ساترةً له انفصالَ الجلدِ عن الشاة وانكشفت عنه انكشافَ الحجاب عما وراءَه كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال أهلَلْنا شهرَ كذا أي دخلنا فيه ولبِسناه فنحن نزداد كلَّ ليلة لباساً منه إلى مُضيِّ نصفِه ثم نسلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً حتى نسلَخَه عن أنفسنا كلَّه فينسلِخ وأنشد

إذا ما سلختُ الشهرَ أهلَلْتُ مثلَه

كفى قاتلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي

وتحقيقُه أن الزمانَ محيطٌ بما فيه من الزمانيات مشتملٌ عليه اشتمالَ الجلد للحيوان وكذا كلُّ جزءٍ من أجزائِه الممتدة من الأيام والشهورِ والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه وفيه مزيدُ لطفٍ لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهرَ كانت حِرْزاً لأولئك المعاهَدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالُهم بزوالها والمرادُ بها إما ما مر من الأشهر الأربعةِ فقط ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ ليكون ذريعةً إلى وصفها بالحُرمة تأكيدا لما ينبئ عنه إباحةُ السياحةِ من حرمة التعرضِ لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناءِ بشأنها أو هي مع ما فُهم من قوله تعالى فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ من تتمة مدةٍ بقِيَتْ لغير الناكثين فعلى الأول يكون المرادُ بالمشركين في قوله تعالى

{فاقتلوا المشركين} الناكثين خاصةً فلا يكون قتالُ الباقين مفهوماً من عبارة النصِّ بل من دِلالته وعلى الثاني مفهوماً من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخُ وما نيط به من القتال حينئذ شيئاً فشيئاً لا دفعةً واحدةً كأنه قيل فإذا تم ميقاتُ كلِّ طائفةٍ فاقتُلوهم وحملُها على الأشهر المعهودو الدائرةِ في كل سنة لا يساعده النظمُ الكريم وأما أنه يستدع بقاءَ حُرمةِ القتالِ فيها إذ ليس فيما نزل بعدُ ما ينسخها فلا اعتدادَ به لا لأنها نُسخت بقوله تعالى وقاتلوهم حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ كما تُوهم فإنه رجمٌ بالغيب لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عَقيبَ غزوةِ بدرٍ وقد صح أن المرادَ بالذين كفروا في قوله تعالى قل الذين كفروا الخ أبو سفيانَ وأصحابُه وقد أسلم في أواسط رمضانَ عام الفتحِ سنة ثمانٍ وسورةُ التوبةِ إنما نزلت في شوالٍ سنةَ تِسعٍ وإنْ أُريدَ ما في سُورة البقرةِ فإنه أيضاً نزل قبل الفتح كما يعرب عنهُ ما قبلَهُ من قوله تعالى وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكةَ وقد فعل ذلك يوم الفتح فكيف يُنسخ به ما ينزِل بعده بل لأن انعقادَ الإجماعِ على انتساخها كافٍ في الباب منْ غيرِ حاجةٍ إلى كون سندِه منقولاً إلينا وقد صح أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ الطائفَ لعشرٍ بقِين من المحرم

{حَيْثُ وجدتمُوهم} من حِلَ وحِرْم

{وَخُذُوهُمْ} أي أيسروهم والأَخيذُ الأسير

{واحصروهم} أي قيّدوهم أو امنعوهم من التقلب في البلاد

قال ابن عباس رضي الله عنهما حِيلوا بينهم وبين المسجدِ الحرام

{واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي كلَّ ممرٍ ومُجتازٍ يجتازون منه في أسفارهم وانتصابُه على الظرفية أي ارصُدوهم وارقبُوهم حتى لا يمروا به

ص: 43

9 سورة براءة الآيات (6 7) وفائدتُه على التفسير الثاني دفعُ احتمالِ أن يُراد بالحصر المحاصرةُ المعهودة

{فَإِن تَابُواْ} عن الشرك بالإيمان بعد ما اضطُرّوا بما ذكر من القتل والأسر والحصر

{وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ} تصديقاً لتوبتهم وإيمانِهم واكُتفى بذكرهما عن ذكر بقيةِ العبادات لكونهما رأسَي العباداتِ البدنية والمالية

{فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} فدعوهم وشأنَهم ولا تتعرَّضوا لهم بشيء مما ذكر

{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر ويثيبهم بإيمانهم وطاعاتِهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل

ص: 44

{وَإِنْ أَحَدٌ} شروعٌ في بيان حكم المتصدِّين لمبادي التوبة من سماع كلامِ الله تعالى والوقوفِ على شعائر الدين إثرَ بيانِ حُكمِ التائبين عن الكفر والمُصِرِّين عليه وهو مرتفعٌ بشرط مضمرٍ يفسِّره الظاهرُ لا بالابتداء لأن إنْ لَا تدخلُ إلَاّ على الفعل

{مّنَ المشركين استجارك} بعد انقضاءِ الأجل المضروبِ أي سألك أن تُؤَمِّنه وتكونَ له جاراً

{فَأَجِرْهُ} أي أمِّنه

{حتى يَسْمَعَ كَلَامَ الله} ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحة وحتى سواءٌ كانت للغاية أو للتعليل متعلقةٌ بما بعدها لا بقوله تعالى استجارك لأنه يؤدّي إلى إعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورةِ الشعر كما في قوله

فلا والله لا يلقى أناس

فتىً حتاك يا ابنَ أبي يزيدِ

كذا قيل إلا أن تعلّق الإجارةِ بسماع كلامِ الله تعالى بأحد الوجهين يستلزمُ تعلقَ الاستجارةِ أيضاً بذلك أو بما في معناه من أمور الدين وما رُوي عن عليَ رضي الله عنه أنه أتاه رجلٌ من المشركين فقال إن أراد الرجلُ منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجلِ لسماع كلامِ الله تعالى أو لحاجة قتل قال لا لأن الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ الخ فالمرادُ بما فيه من الحاجة هي الحاجةُ المتعلقةُ بالدين لا ما يعمُّها وغيرَها من الحاجات الدنيوية كما ينبئ عنه قوله أن يأتي محمداً فإن من يأتيه صلى الله عليه وسلم إنما تأتيه للأمور المتعلقةِ بالدين

{ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد استماعِه له إن لم يؤمِنْ

{مَأْمَنَهُ} أي مسكنَه الذي يأمَن فيه وهو دارُ قومِه

{ذلك} يعنى الأمرَ بالإجارة وإبلاغِ المأمن

{بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم

{قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} ما الإسلامُ وما حقيقتُه أو قومٌ جَهَلةٌ فلا بد من إعطاء الأمانِ حتى يفهموا الحقَّ ولا يبقى لهم معذرة أصلاً

ص: 44

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما سبق من البراءة وأحكامِها المتفرِّعة عليها وتبيينِ الحكمة الداعيةِ إلى ذلك والمرادُ بالمشركين الناكثون لأن البراءةَ إنما هي في شأنهم والاستفهامُ إنكاريٌّ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله الخ بل بمعنى إنكار الوقوعِ ويكون من الكون التامِّ وكيف في محل

ص: 44

9 سورة براءة الآية (8) النصب على التشبيه بالحال أو الظرف وقيل من الكون الناقصِ وكيف خبرُ يكون قُدّم على اسمه وهو عهدٌ لاقتضائه الصدارة وللمشركين متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من عهد ولو كان مؤخراً لكان صفةً له أو بيكون عند من يجوز عملَ الأفعالِ الناقصة في الظروف وعند متعلق بمحذوف وقع صفة لعهدٌ أو بنفسه لأنه مصدرٌ أو بيكون كما مر ويجوزُ أن يكون الخبرُ للمشركين وعند كما ذكر أو متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين ويجوز أن يكون الخبرُ عند الله وللمشركين إما تبيينٌ وإما حالٌ من عهدٌ وإما متعلقٌ بيكون أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونه حرفَ جرّ وكيف على الوجهين الآخيرين نصبٍ على التشبيه بالظرف أو الحال كما في صورة الكون التام وهو الأولى لأن في إنكار ثبوتِ العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوتِه للمشركين لأن ثبوتَه الرابطي فرعُ ثبوتِه العيني فانتفاءُ الأصلِ يوجب انتفاءَ الفرعِ رأساً وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية ثبوتِ العهدِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني أي على أي أو في أي حالٍ يوجد لهم عهدٌ معتدٌ به

{عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} يستحِقُّ أن يراعى حقوقُه ويُحافَظَ عليه إلى إتمام المدة ولا يُتعرَّضَ لهم بحسَبه قتلاً ولا أخذاً وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرةِ كما قيل فلا سبيلَ إلى اعتباره أصلاً إذ لا دخلَ لعهدهم في ذلك الأمنِ قطعاً وإن كان مرعياً عندَ الله تَعَالَى وعندَ رسولِه كعهد غيرِ الناكثين وتكريرُ كلمة عند للإيذان بعدم الاعتدادِ به عند كلَ منهما على حدة

{إِلَاّ الذين} استدراكٌ من النفي المفهومِ من الاستفهام المتبادرِ شمولُه لجميع المعاهَدين أي لكن الذين

{عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} وهم المستثنَوْن فيما سلف والتعرُّضُ لكون المعاهَدةِ عند المسجدِ الحرامِ لزيادة بيانِ أصحابِها والإشعارِ بسبب وكادتِها ومحلُّه الرفعُ على الابتداء خبره قوله تعالى

{فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} والفاءُ لتضمُّنهِ معنى الشَّرطِ وما إما مصدرية منصوبةُ المحلِّ على الظرفية بتقدير المضافِ أي فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم وإما شرطيةٌ منصوبةُ المحلِّ على الظرفية الزمانية أي أيّ زمانَ استقاموا لكم فاستقيموا لهم أو مرفوعةٌ على الابتداء والعائدُ محذوفٌ أي أي زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه وقيل الاستثناءُ متصلٌ محلُّه النصبُ على الأصل أو الجرُّ على البدل من المشركين والمرادُ بهم الجنسُ لا المعهودُ وأياً ما كان فحكمُ الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدةِ العهدِ لأن استقامتَهم التي وُقّت بوقتها الاستقامةُ المأمورُ بها عبارةٌ عن مراعاة حقوقِ العهدِ وبعد انقضاءِ مدتِه لا عهدٌ ولا استقامةٌ فصار عينَ الأمرِ الواردِ فيما سلف حيث قيل فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم خلا أنه قد صرح ههنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبراً قطعاً وهو تقييدُ الإتمامِ المأمور به ببقائهم على ما كانُوا عليهِ من الوفاء

{إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} تعليلٌ للأمر بالاستقامة وإشعارٌ بأن القيامَ بموجب العهدِ من أحكام التقوى كما مر

ص: 45

{كَيْفَ} تكريرٌ لاستنكار ما مر من أن

ص: 45

9 سورة براءة الآية (9) يكون للمشركين عهدٌ حقيقٌ بالمراعاة عند الله سبحانه وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وأما ما قيل من أنه لاستبعاد ثباتِهم على العهد فكما ترى لأن ما يُذكر بصدد التعليلِ للاستبعاد عينُ عدمِ ثباتِهم على العهد لا أنه شيءٌ يستدعيه وإنما أعيد الاستنكارُ والاستبعادُ تأكيداً لهما وتمهيداً لتعداد العللِ الموجبةِ لهما لإخلال تخلّلِ ما في البين من الارتباط والتقريب حذف الفعل المستنكَر للإيذان بأن النفسَ مستحضِرةٌ له مترقِّبةٌ لورود ما يوجب استنكارَه لا لمجرد كونِه معلوماً كما في قوله

وخبّرتماني أنما الموتُ بالقُرى

فكيف وهاتا هضبةٌ وقليبُ

فإنه علةٌ مصححةٌ لا مرجِّحةٌ أي كيف يكون لهم عهدٌ معتدٌ به عِندَ الله تَعَالَى وعندَ رسولِه صلى الله عليه وسلم

{وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي وحالُهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفَروا بكم

{لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ} أي لا يُراعوا في شأنكم وأصلُ الرقوبِ النظرُ بطريق الحفظِ والرعايةِ ومنه الرقيبُ ثم استُعمل في مطلق الرعايةِ والمراقبةُ أبلغُ منه كالمراعاة وفي نفي الرقوبِ من المبالغة ما ليس في نفيها

{إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} أي حِلفاً وقيل قرابةً ولا عهداً أو حقاً يُعاب على إغفاله مع ما سبق لهم من تأكيد الأَيمان والمواثيقِ يعني أن وجوبَ مراعاةِ حقوقِ العهد على كل من المتعاهدين مشروطٌ بمراعاة الآخَر لها فإذا لم يُراعِها المشركون فكيف تراعونها على منوال قولِ من قال

علامَ تُقبلُ منهم فديةٌ وهم

لا فضةً قبِلوا منّا ولا ذهبا

وقيل الإلُّ من أسماء الله عز وجل أي لا يُراعوا حقَّ الله تعالى وقيل الجِوار ومآلهُ الحِلفُ لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتَهم لتشهيره ولما كان تعليقُ عدمِ رعايةِ العهدِ بالظفر موهماً للرعاية عند عدمِه كُشف عن حقيقة شئونهم الجليةِ والخفية بطريق الاستئنافِ وبيِّن أنهم في حالة العجزِ أيضاً ليسوا من الوفاء في شيء وأن ما يُظهرونه مداهنةٌ لا مهادنه فقيل

{يُرْضُونَكُم بأفواههم} حيث يُظهرون الوفاءَ والمصافاةَ ويعِدون لكم بالإيمان والطاعةِ ويؤكدون ذلك بالأَيمان الفاجرةِ وتعللون عند ظهورِ خلافِه بالمعاذير الكاذبة ونسبةُ الإرضاءِ إلى الأ فواه للإيذان بأن كلامَهم مجردُ ألفاظٍ يتفوّهون بها من غير أن يكون لها مِصداقٌ في قلوبهم

{وتأبى قلوبهم} ما يفيده كلامُهم

{وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} خارجون عن الطاعة فإن مراعاةَ حقوق العهد من باب الطاعةِ متمرِّدون ليست لهم مروءةٌ رادعةٌ ولا عقيدةٌ وزاعة ولا يتسترون كما يتعاطاه بعضُهم ممن يتفادى عن الغدر ويتعفّف عما يجرُّ أحدوثة السوء

ص: 46

{اشتروا بآيات الله} بآياته الآمرةِ بالإيفاء بالعهود والاستقامةِ في كل أمرٍ أو بجميع آياتهِ فيدخُل فيها ما ذُكر دخولا أوليا أي تركوها وأخذوا بدلها

{ثَمَناً قَلِيلاً} أي شيئاً حقيراً من حُطام الدنيا وهو أهواؤُهم وشهواتُهم التي اتبعوها أو ما أنفقه أبو سفيانَ من الطعام وصَرَفه إلى الأعراب

{فَصَدُّواْ} أي عدَلوا ونكبوا منْ صَدَّ صُدوداً أو صرَفوا غيرَهم من صدّ صداً والفاء للِدلالة على سببية الاشتراءِ لذلك

{عن سبيله} أي الذين الحق الذي لا محيد عنه والإضافةُ للتشريف أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصُدّون الحجّاجَ والعُمّارَ عنه

{إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس ما كانوا يعلمونه أو عملُهم المستمرّ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ وقد جُوِّز أن تكون كلمةُ ساء على أصلها من التصرف لازمةً بمعنى قبُح أو متعديةً والمفعولُ محذوفٌ أي ساءهم الذي

ص: 46

9 سورة براءة الآيات (10 12) يعملونه أو عملُهم وقوله عز وعلا

ص: 47

{لَا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} ناعٍ عليهم عدمَ مراعاةِ حقوقِ عهدِ المؤمنين على الإطلاق فلا تكرارَ وقيل هذا في اليهود أو في الأعراب المذكورين ومَنْ يحذو حذوهم وأما ما قيل من أنه تفسير لقوله تعالى يَعْمَلُونَ أو دليلٌ على ما هو مخصوصٌ بالذم فمُشعِرٌ باختصاص الذمِّ والسوء بعملهم هذا دون غيره

{وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما عُدِّد من الصِّفاتِ السيئةِ

{هُمُ المعتدون} المجاوزون الغايةَ القُصوى من الظلم والشرارة

ص: 47

{فَإِن تَابُواْ} أي عمَّا هُم عليهِ من الكفر وسائرِ العظائمِ والفاءُ للإيذان بأن تقريعَهم بما نُعيَ عليهم من مساوى أعمالهم مزجرة عنها ومِظنةٌ للتوبة

{وَأَقَامُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ} أي التزموهما وعزموا على إقامتهما

{فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم وقوله تعالى

{فِى الدين} متعلقٌ بإخوانُكم لما فيه من معنى الفعلِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فعاملوهم معاملةَ الإخوان وفيه من استمالتهم واستجلابِ قلوبِهم ما لا مزيدَ عليه والاختلافُ بين جوابِ هذه الشرطيةِ وجوابِ التي مرت من قبلُ مع اتحاد الشرطِ فيهما لما أن الأولى سيقت إثرَ الأمرِ بالقتل ونظائرِه فوجب أن يكون جوابُها أمراً بخلافِ ذلك وهذه سيقت بعد الحُكم عليهم بالاعتداء وأشباهِه فلا بد من كون جوابِها حُكماً بخلافه البتة

{وَنُفَصّلُ الايات} أي نبيّنها والمرادُ بها إما ما مر من الآيات المتعلقةِ بأحوال المشركين من الناكثين وغيرِهم وأحكامِهم حالتي الكفرِ والإيمان وإما جميعُ الآياتِ فيندرج فيها تلك الآيات اندارجا أولياً

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ما فيها من الأحكام أو لقوم عالمين وهو اعتراضٌ للحث على التأمل في الأحكام المندرجةِ في تضاعيفها والمحافظةِ عليها

ص: 47

{وَإِن نَّكَثُواْ} عطفٌ على قوله تعالى فَإِن تَابُواْ أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا

{أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الموثقِ بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوةِ إلى الفعلِ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ الآية أو ثبتوا على ما هم عليه من النَّكْث لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل

{وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} قدَحوا فيه بصريح التكذيبِ وتقبيحِ الأحكام

{فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي فقاتلوهم وإنما أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسةٍ وتقدم في الكفر أحقّاءَ بالقتل والقتال وقيل المرادُ بأئمتهم رؤساؤُهم وصناديدُهم وتخصيصُهم بالذكر إما لأهميتة قتلِهم أو للمنع من مراقبتهم لكونهم مظِنةً لها أو للدِلالة على استئصالهم فإن قتلَهم غالباً يكون بعد قتلِ مَنْ دونهم وقرئ أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والأفصحُ إخراج الثانية بين بين

ص: 47

9 سورة براءة الآية (13) وأما التصريحُ بالياء فلحنٌ ظاهرٌ عند الفراء

{إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ} أي على الحقيقةِ حيثُ لا يراعونها ولا يعدّون نقضَها محذوراً وإن أجْرَوها على ألسنتهم وإنما علّق النفيُ بها كالنَكْث فيما سلف لا بالعهد المؤكدِ بها لأنها العُمدةُ في المواثيق وجعلُ الجملة تعليلاً للأمر بالقتال لا يساعده تعليقُه بالنكث والطعنِ لأن حالَهم في أن لا أيمانَ لهم حقيقةً بعد النكثِ والطعن كحالهم قبل ذلك وحملُه على معنى عدمِ بقاءِ أيمانِهم بعد النَّكثِ والطعن مع أنه لا حاجةَ إلى بيانه خلافُ الظاهرِ ولعل الأولى جعلُها تعليلاً لمضمون الشرطِ كأنه قيل وإن نكثوا وطعَنوا كما هو المتوقَّعُ منهم إذ لا أيمانَ لهم حقيقةً حتى لا ينكُثوها أو لاستمرار القتالِ المأمورِ به المستفادِ من سياق الكلامِ كأنه قيل فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أَيمانَ لهم حتى يُعقدَ معهم عهدٌ آخر وقرئ بكسرِ الهمزةِ على أنَّه مصدرٌ بمعنى إعطاءِ الأمانِ أي لا سبيلَ إلى أن تُعطوهم أماناً بعد ذلك أبداً وأما العكسُ كما قيل فلا وجه له لإشعاره بأن معاهدتَهم معنا على طريقة أن يكون إعطاءُ الأمانِ من قِبَلهم وذلك بيِّنُ البُطلان أو بمعنى الإسلام ففي كونه تعليلاً للأمر بالقتال إشكالٌ بل استحالةٌ لأنه إن حُمل على انتفاء الإسلامِ مطلقاً فهو بمعزل عن العِلّية للقتال أو للأمر به كما قبل النكثِ والطعن وإن حُمل على انتفائه فيما سيأتي فلا يلائم جعلَ الانتهاءِ غاية للقتال فيما سيجئ فالوجهُ أن يُجعل تعليلاً لما ذُكر من مضمون الشرطِ كأنه قيل إن نكثوا وطعَنوا وهو الظاهرُ من حالهم لأنه لا إسلامَ لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنسِ أَيمانهم وعن الطعن في دينكم

{لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلقٌ بقوله تعالى فقاتلوا أي قاتلوهم إرادةَ أن ينتهوا أي ليكن غرضُكم من القتال انتهاءَهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر وسائرِ العظائمِ التي يرتكبونها لا إيصالَ الأذية بهم كما هو ديدنُ المؤذِين

ص: 48

{أَلَا تقاتلون} الهمزةُ الداخلةُ على انتفاء مقاتَلتِهم للإنكار والتوبيخ تدل على تحضيضهم على المقاتلة بطريق حملِهم على الإقرار بانتفائها كأنه أمرٌ لا يمكن أن يُعترف به طائعاً لكمال شناعته فيلجئون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون المقاتلة

{قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم} التي حلَفوها عند المعاهدة على أن لا يعاوِنوا عليهم فعاوَنوا بني بكرٍ على خُزاعة

{وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكةَ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حسبما ذُكر في قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ فيكون نعياً عليهم جنايتُهم القديمةُ وقيل هم اليهودُ نكثوا عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهموا بإخراجه من المدينة

{وهم بدؤوكم} بالمعاداة والمقاتلة

{أَوَّلَ مَرَّةٍ} لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحداهم به فعدلوا عن المُحاجّة لعجزهم عنها إلى المقاتلة أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأن إعانة بني بكر عليهم قتالٌ معهم

{أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي أتخشون أن ينالَكم منهم مكروهٌ حتى تتركوا قتالهم وبخهم أو لا بترك مقاتلتِهم وحضَّهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الرغبةَ فيها ويحقق أن مَنْ كان على تلك الصفاتِ السيئةِ حقيقٌ بأن لا تترك مصادمتُه ويوبَّخَ من فرّط فيها

{فالله أحق أن تخشوه}

ص: 48

9 سورة براءة الآيات (14 16) بمخالفة أمرِه وترك قتالِ أعدائهِ

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنَّ قضيةَ الإيمانِ تخصيصُ الخشيةِ به تعالى وعدمُ المبالاة بمن سواه وفيه من التشديد ما لا يخفى

ص: 49

{قاتلوهم} تجريدٌ للأمر بالقتال بعد التوبيخِ على تركه ووعدٌ بنصرهم وبتعذيب أعدائِهم وإخزائِهم وتشجيعٌ لهم

{يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} قتلاً وأسراً

{وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يجعلُكم جميعاً غالبين عليهم أجمعين ولذلك أُخّر عن التعذيب والإجزاء

{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ممن لم يشهد القتالَ وهم خُزاعةُ قال ابن عباس رضي الله عنهما هم بطونٌ من اليمن وسبإٍ قدِموا مكةَ فأسلموا فلقُوا من أهلها أذىً كثيراً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى الله عليه وسلم أبشِروا فإن الفرجَ قريب

ص: 49

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} بما كابدوا من المكاره والمكايدِ ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعِه معجزةً عظيمة

{وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء} كلامٌ مستأنفٌ ينبئ عما سيكون من بعض أهلِ مكةَ من التوبة المقبولةِ بحسب مشيئتِه تعالى المبنية على الحكم البالغة فكان كذلك حيث أسلم ناسٌ منهم وحسُن إسلامُهم وقرئ بالنصب بإضمار أن ودخولُ التوبةِ في جملة ما أجيب به الأمرُ بحسب المعنى فإن القتالَ كما هو سبب لفل شوكتِهم وإلانةِ شَكيمتِهم فهو سبب للتدبر في أمرهم وتوبتِهم من الكفر والمعاصي وللاختلاف في وجه السببية غُيِّر السبكُ والله تعالى أعلم

{والله} إيثارُ إظهارِ الجلالة على الإضمار لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة

{عَلِيمٌ} لا يَخفى عليهِ خافيةٌ

{حَكِيمٌ} لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمةٌ ومصلحةٌ

ص: 49

{أم حسبتم} أم منقطعة جئ بها للدِلالة على الانتقال من التوبيخ السابقِ إلى آخَرَ وما فيها من همزة الاستفهامِ الإنكاريِّ توبيخٌ لهم على الحُسبان المذكورِ أي بل أحسِبتم

{أَن تُتْرَكُواْ} على ما أنتُم عليهِ ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُبْتلوا بما يُمحِّصكم والخطابُ إما لمن شق عليهم القتالُ من المؤمنين أو للمنافقين

{وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا منكم} الواو حالية ولمّا للنفي مع التوقع والمرادُ من نفي العلم نفيُ المعلومِ بالطريق البرهاني إذ لو شُمَّ رائحةُ الوجود لعُلم قطعاً فلما لم يُعلم لزِم عدمُه قطعاً أي أم حسبتم أن تتركوا والحالُ أنه لم يتبين الخُلّصُ من المجاهدين منكم من غيرهم ومَا في لمَّا مِنْ التوقع منبِّهٌ على أن ذلك سيكون وفائدةُ التعبير عما ذكر من عدم التبينِ بعدم علم الله تعالى أن المقصودَ هو التبينُ من حيث كونُه متعلقاً للعلم ومداراً للثواب وعدمُ التعرّضِ لحال المقصّرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادةِ أكرم الأكرمين

{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} عطف على جاهدوا داخلٌ في حيز

ص: 49

9 سورة براءة الآية (17) الصلة أو حالٌ من فاعلِه أي جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متّخذين

{مِن دُونِ الله وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المؤمنين وَلِيجَةً} أي بِطانةً وصاحب سِرّ وهو الذي تُطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفيةِ من الولوج وهو الدخولُ ومن دون الله متعلق بالاتخاذ إن أبق على حاله أو مفعولٌ ثانٍ له إن جعل بمعنى التسيير

{والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بجميع أعمالكم وقرئ على الغَيبة وهو تذييلٌ يُزيح ما يُتوَهّم من ظاهرِ قولِه تعالى وَلَمَّا يَعْلَمِ الخ أو حال متداخلةٌ من فاعله أو من مفعوله والمعنى وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا منكم والحالُ أنه يعلم جميعَ أعمالِكم لا يَخْفى عليه شيءٌ منها

ص: 50

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي ما صح وما استقام لهم على معنى نفي الوجودِ والتحققِ لا نفيِ الجواز كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَاّ خَائِفِينَ أي ما وقع وما تحقق لهم

{أَن يَعْمُرُواْ} عمارةً معتداً بها

{مساجد الله} أي المسجدَ الحرامَ وإنما جُمع لأنه قِبلةُ المساجد وإمامُها فعامرُه كعامرها أو لأن كلَّ ناحيةٍ من نواحيه المختلفةِ الجهات مسجدٌ على حياله بخلاف سائرِ المساجدِ إذ ليس في نواحيها اختلافُ الجهةِ ويؤيده القراءةُ بالتوحيد وقيل مَا كَانَ لَهُمْ أَن يعمُروا شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام الذي هو صدرُ الجنسِ ويأباه أنهم لا يتصَدَّوْن لتعمير سائرِ المساجدِ ولا يفتخرون بذلك على أنه مبنيٌ على كون النفي بمعنى نفي الجوازِ واللياقةِ دون نفي الوجود

{شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} أي بإظهار آثارِ الشركِ من نصب الأوثان حول البيتِ والعبادةِ لها فإن ذلك شهادةٌ صريحةٌ على أنفسهم بالكفر وإن أبَوْا أن يقولوا نحن كفارٌ كما نقل عن الحسن رضي الله عنه وهو حالٌ من الضمير في يعمُروا أي محالٌ أن يكون ما سمَّوْه عمارةً عمارةَ بيتِ الله مع ملابستهم لما ينافيها ويُحبِطها من عبادة غيرِه تعالى فإنها ليست من العمارة في شيء وأما ما قيل من أن المعنى ما استقام لهم أن يجمَعوا بين أمرين متنافيين عمارةِ بيتِ الله تعالى وعبادةِ غيرِه تعالى فليس بمُعربٍ عن كُنه المرامِ فإن عدمَ استقامةِ الجمعِ بين المتنافيَيْن إنما يستدعي انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود

روي أن المهاجرين والأنصارَ أقبلوا على أُسارى بدرٍ يعيِّرونهم بالشرك وطفِق عليٌّ رضي الله تعالى عنه يوبِّخ العباس بقتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقطيعةِ الرحم وأغلظَ له في القول فقال العباس تذكُرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال ولكم محاسنُ قالوا نعم إنا لنعمُر المسجدَ الحرام ونحجّب الكعبة ونسقي الحجيجَ ونفك العاني فنزلت

{أولئك} الذين يدّعون عمارةَ المسجدِ وما يضاهيها من أعمال البرِ مع ما بهم من الكفر

{حَبِطَتْ أعمالهم} التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثوراً

{وَفِى النار هُمْ خالدون} لكفرهم ومعاصيهم وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في الدلالة على الخلود والظرفُ متعلقٌ بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاةِ الفاصلة وكلتا الجملتين مستأنفةٌ لتقرير النفيِ السابق

الأولى من جهة نفيِ استتباعِ الثواب والثانيةُ من جهة نفي استدفاع العذاب

ص: 50

سورة براءة الآيات (18 19)

ص: 51

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر خلا أن إرادةَ جميع المساجد وإدراج المسجد الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرئ بالإفراد أيضا والمراد ههنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها

{مَنْ آمن بالله} وحده

{واليوم الاخر} بما فيه من البعث والحسابِ والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ

{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمان بنبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتماً وقيل هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها وتنظيفُها وتزيينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه وعنه صلى الله عليه وسلم من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان وعن أنسٌ رضي الله عنه من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دامَ في ذلك المسجد ضوءه

{وَلَمْ يَخْشَ} في أمور الدين

{إِلَاّ الله} فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخد له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عند القتال ونحوُ ذلك وأما الخوفُ الجِبِليُّ من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب وقيل كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم

{فعسى أُوْلَئِكَ} المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة

{أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} إلى مباغيهم من الجنَّةَ وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ المطالبِ العليةِ وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالاتِ إذا كان أمرُهم دائراً بين لعل وعسى فما بالُ الكفرة وهم هُمْ وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى

ص: 51

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} أي في الفضيلة وعلوِّ الدرجة

{كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله} السقايةُ والعِمارةُ مصدران لا يتصور تشبيهُهما بالأعيان فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ في أحد

ص: 51

9 سورة براءة الآية (20) الجانين أي أجعلتم أهلَهما كمن آمن بالله الخ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ سُقاةَ الحاجِّ وعُمرةَ المسجد الحرام أو أجعلتموها كإيمان من آمن الخ وعلى التقديرين فالخطابُ إما للمشركين على طريقة الالتفاتِ وهو المتبادر من تخصيص ذكرِ الإيمانِ بجانب المشبَّهِ به وإما لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهجرة والجهادِ ونظائرِهما وهو المناسبُ للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدمِ مساواتِهم عند الله للفريق الثاني وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأوّلين بالكلية وجعلُ معنى التفضيلِ بالنسبة إلى زعم الكفرةِ لا يُجدي كثيرَ نفعٍ لأنه إن لم يُشعِرْ بعدم الحِرمانِ فليس بمُشعر بالحِرمان أيضاً أما على الأول فهو توبيخٌ للمشركين ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم من حيث اتصافُهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظرِ عمَّا هُم عليهِ من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد أو على إنكار تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حد ذاتِهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهادِ وأما اعتبارُ مقارنتِهما له كما قيل فيأباه المقامُ كيف لا وقد بيِّن آنفاً حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة وكونُها بمنزلة العدم فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهادِ ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ التنزيليُّ ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلاناً من تشبيه المعدومِ بالموجود فالمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ في الفضيلة كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهادِ وشتانَ بينهما فإن السقايةَ والعمارةَ وإن كانتا في أنفسِهما من أعمال البرِّ والخيرِ لكنهما وإن خَلَتا عن القوادح بمعزل عن صلاحيةِ أن يُشبَّه أهلُهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهادِ وذلك قوله عز وجل

{لَا يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يساوي الفريقُ الأول الثانيَ من حيث اتصافُ كلَ منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدمُ التساوي بين الوصفَين الأولين وبين الآخَرَين لأنه المدارَ في التفاوت بين الموصفين وإسنادُ عدمِ الاستواءِ إلى الموصوفين لأن الأهمَّ بيانُ تفاوتهم وتوجيه النفي ههنا والإنكارُ فيما سلف إلى الاستواء والتشبيهِ مع أن دعوى المفتخِرين بالسقاية والعمارةِ من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضليةُ دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى والجملةُ استئنافٌ لتقرير الإنكارِ المذكورِ وتأكيدِه أو حال من مفعولي الجَعل والرابطُ هو الضميرُ كأنه قيل أسوَّيتم بينهم حال كونِهم متفاوتين عنده تعالى وقولُهُ تعالى

{والله لَا يَهْدِى القوم الظالمين} حُكمٌ عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعلِ غيرُ مهتدين إلى طريق معرفةِ الحقِّ وتمييزِ الراجحِ من المرجوح وظالمون بوضع كل منهما موضع الآخر وفيه زيادةُ تقريرٍ لعدم التساوي بينهم وقوله تعالى

ص: 52

9 سورة براءة الآيات (21 22) لبيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذانِ بأنَّ ذلكَ من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمر لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة

{أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائناً مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة

{وَأُوْلئِكَ} أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة

{هُمُ الفائزون} المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم وأما على الثاني فهو توبيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد روي أن علياً قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام فلما نزلت قال ما أُراني إلا تاركَ سقايتنا فقال صلى الله عليه وسلم أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً وروى النعمانُ بن بشير قال كنت عند منبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ ما أبالي أن لا أعملَ عملاً بعد أن أسقي الحاجَّ وقال آخَرُ ما أبالي أن لا أعملَ عملاً بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام وقال آخرُ الجهادِ في سبيل الله أفضلُ مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآيةَ والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهادِ وإنما لم يُذكر الإيمانُ في جانب المشبَّه مع كونه معتبَراً فيه قطعاً تعويلاً على ظهور الأمرِ وإشعاراً بأن مدارَ إنكارِ التشبيه هو السقايةُ والعمارةُ دون الإيمانِ وإنما لم يُترك ذكرُه في جانب المشبَّه به أيضاً تقويةً للإنكار وتذكيراً لأسباب الرجحانِ ومبادي الأفضلية وإيذاناً بكمال التلازمِ بين الإيمان وما تلاه ومعنى عدمِ الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهر وكذا أعظيمة درجةِ الفريقِ الثاني وأما قوله تعالى والله لَا يَهْدِى القوم الظالمين فالمرادُ به عدمُ هدايتِه تعالى لهم لى معرفة الراجحِ من المرجوح وظلمُهم بوضع كل منهما موضعَ الآخر لا عدمُ الهدايةِ مطلقاً ولا الظلمُ عموماً والقصرُ في قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ الفائزون بالنسبة إلى درجة الفريقِ الثاني أو إلى الفوز المطلق ادعاءٌ كما مر والله أعلم

ص: 53

{يبشرهم} وقرئ بالتخفيف

{رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ} عظيمة

{مّنْهُ ورضوان} كبير

{وجنات} عاليةٍ

{لَّهُمْ فِيهَا} في تلك الجنات

{نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} نِعمٌ لا نفادَ لها وفي التعرض لعنوان الربوبية تأكيدٌ للمبشَّر به وتربيةٌ له

ص: 53

{خالدين فِيهَا} أي في الجنات

{أَبَدًا} تأكيدٌ للخلود لزيادة توضيحِ المرادِ به إذ قد يُراد به المُكث الطويل

{إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا قدرَ عنده لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً لما سبق

ص: 53

9 سورة براءة الآيات (23 24)

ص: 54

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أَوْلِيَاء} نهيٌ لكلِّ فردٍ من أفراد المخاطَبين عن موالاة فردٍ من المشركين بقضية مقابلةِ الجمعِ بالجمع الوجبة لانقسامِ الآحادِ إلى الآحادِ كما في قوله عز وجل وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ لا عن موالاة طائفةٍ منهم فإن ذلك مفهومٌ من النظم دِلالةً لا عبارةً والآية نزلت في المهاجرين فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا إنْ هاجرنا قطَعْنا آباءَنا وأبناءَنا وعشيرتَنا وذهبت تجاراتنا وهلكتْ أموالُنا وخَرِبَتْ ديارُنا وبقِينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجلُ يأتيه ابنُه أو أبوه أو أخوه أو بعضُ أقاربه فلا يلتفت إليه ولا يُنزِله ولا يُنفق عليه ثم رُخِّصَ لهم في ذلك وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحِقوا بمكةَ نهياً عن موالاتهم

وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يطعَمُ أحدُكم طعمَ الإيمانِ حتى يُحب في الله ويبغض في الله حتى يُحب في الله أبعدَ الناس منه ويُبغضَ في الله أقربَ الناس إليه

{إِنِ استحبوا الكفر} أي اختاروه

{عَلَى الإيمان} وأصرّوا عليه إصراراً لا يُرجى معه الإقلاعُ عنه أصلاً وتعليقُ النهي عن الموالاة بذلك لما أنها قبلَ ذلك ربما تؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورِهم بمحاسن الدين

{وَمَن يتولهم} أي واحد منهم كما أشير إليه وإفرادُ الضميرِ في الفعل لمراعاة لفظِ الموصولِ وللإيذان باستقلال كلُّ واحدٍ منهم في الاتصاف بالظلمِ لا أن المرادَ تولي فردٍ واحدٍ وكلمةُ مِنْ في قوله تعالى

{مّنكُمْ} للجنس لا للتبعيض

{فَأُوْلَئِكَ} أي أولئك المتولّون

{هُمُ الظالمون} بوضعهم الموالاةَ في غير موضعِها كأنّ ظلمَ غيرِهم كلا ظلمٍ عند ظلمِهم

ص: 54

{قُلْ} تلوين للخطاب وأمرٌ له صلى الله عليه وسلم بأن يُثبِّت المؤمنين ويقوّيَ عزائمَهم على الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ من موالاة الآباءِ والإخوانِ ويزهِّدَهم فيهم وفيمن يجري مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطعَ علائقَهم عن زخارف الدنيا وزينتِها على وجه التوبيخ والترهيب

{إن كان آباؤكم وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وَأَزْوَاجُكُم} لم يُذكر الأبناءُ والأزواجُ فيما سلف لأن موالاةَ الأبناءِ والأزواج غير معتاد بخلاف المحبة

{وَعَشِيرَتُكُمْ} أي أقرباؤهم مأخوذ من العِشرة أي الصحبة وقيل من العشَرة فإنهم جماعةٌ ترجِع إلى عقد كعقد العشرة وقرئ عشيراتكم وعشائرُكم

{وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماءً إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين

{وتجارة} أي أمتعةٌ اشتريتموها للتجارة والربح

{تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقتِ رواجِها بغَيْبتكم عن مكةَ المعظمةِ في أيام الموسم

{ومساكن تَرْضَوْنَهَا} أي منازلُ تعجبكم الإقامةُ فيها من الدور والبساتينِ والتعرُّضُ للصفات المذكورة للإيذان بأن اللومَ على محبة ما ذكر

ص: 54

من زينة الحياةِ الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادئ المحبة وموجباتِ الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسنِ بمعزل عن أن يُؤثَرَ حبُّها على حبه تعالى وحبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله عز وجل مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم

{أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدمُ المفارقةِ لا الحُبُّ الجِبِليُّ الذي لا يخلُو عنه البشرُ فإنه غيرُ داخلٍ تحت التكليفِ الدائرِ على الطاقة

{وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} نُظم حبُّه في سلك حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم تنويهاً لشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يُحَبَّ فضلاً عن أن يُكرَه وإيذاناً بأن محبتَه راجعةٌ إلى محبتهما فإن الجهادَ عبارةٌ عن قتال أعدائِهما لأجل عداوتِهم فمَن يحبُّهما يجب أن يحِبَّ قتالَ من لا يحبُّهما

{فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا

{حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فتحُ مكةَ وقيل هي عقوبةٌ عاجلةٌ أو آجلة

{والله لَا يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القومَ الفاسقين كافةً فيدخل في زمرتهم هؤلاءِ دخولاً أولياً أي لا يرشدهُم إلى ما هو خيرٌ لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يَتخلّص منه إلا من تداركه لطفٌ من ربه والله المستعان

سورة براءة آية (25)

ص: 55

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} الخطابُ للمؤمنين خاصة

{فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} من الحروب وهي مواقُعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة

{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطفٌ على محل في مواطن بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين وقيل يومَ حنين منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين

{إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنَّه لم يكنْ في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً عشرة آلاف منهم من شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ ابن سلامةَ الأنصاري لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل

{فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئاً من الإغناء

{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بما رحبت} أي برَحْبها وسَعتها عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرّاً تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان

{ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} رُوي أنه

ص: 55

بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذاً بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيان ابن الحرث آخذاً بركابه وهو يركُض البغلةَ نحو المشركين وهو يقول أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطَّلب روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه صلى الله عليه وسلم كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقاً للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال يا رب ائتني بما وعدتَني وقال للعباس وكان صيِّتاً صِحْ بالناس فنادى الأنصارَ فخِذاً فخِذاً ثم نادى يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون لبيك لبيك وذلك قوله تعالى

سورة براءة آيه (26 27)

ص: 56

{ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} أي رحمتَه التي تسكُن بها القلوبُ وتطمئنُّ إليها اطمئناناً كلياً مستتبِعاً للنصر القريبِ وأما مطلقُ السكينةِ فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أيضاً

{وَعَلَى المؤمنين} عطفٌ على رسولِه وتوسيطُ الجارِّ بينهما للدِلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل على الذين ثبتوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو على الكل وهو الأنسبُ ولا ضيرَ في تحقق أصلِ السكينةِ في الثابتين من قبل والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ للإشعار بعلية الإنزال

{وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} أي بأبصاركم كما يرى بعضُكم بعضاً وهم الملائكةُ عليهم السلام عليهم البياضُ على خيول بُلْقٍ فنظر النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمِيَ الوطيسُ فأخذ كفاً من التراب فرمى به نحو المشركين وقال شاهت الوجوه فلم يبق منهم أحدا إلا امتلأت به عيناه ثم قال صلى الله عليه وسلم انهزَموا وربِّ الكعبة واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل خمسةُ آلافٍ وقيل ثمانيةُ آلافٍ وقيل ستةَ عشَرَ ألفاً وفي قتالهم أيضاً فقيل قاتلوا وقيل لم يقاتلوا إلا يومَ بدر وإنما كان نزولُهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطِر الحسنةِ وتأييدِهم بذلك وإلقاءِ الرعبَ في قلوب المشركين قال سعيدُ بنُ المسيِّب حدثني رجل كان في المشركين يوم حُنين قال لما كشَفْنا المسلمين جعلْنا نسوقُهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلةِ الشهباءِ تلقانا رجالٌ بِيضُ الوجوه فقالوا شاهت الوجوهُ ارجِعوا فرجَعنا فركِبوا أكتافنا

{وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر والسبي

{وَذَلِكَ} أي ما فُعل بهم مما ذكر

{جَزَاء الكافرين} لكفرهم في الدنيا

ص: 56

{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء} أنْ يتوبَ عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام

{والله غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي

{رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم روي أن ناساً منهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا يا رسول الله أنت خيرُ الناسِ وأبرُّ الناس وقد سُبيَ أهلونا وأولادنا وأُخذت أموالُنا قيل سُبيَ يومئذ ستةُ آلافِ نفسٍ وأُخذ من الإبل والغنمِ ما لا يُحصى فقال صلى الله عليه وسلم إن عندي ما ترون إن خيرَ القولِ أصدقُه اختاروا

ص: 56

إما ذرارِيَكم ونساءَكم وإما أموالَكم قالوا ما كنا نعدِل بالأحساب شيئاً فقام النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيَّرناهم بين الذراري والأموالِ فلم يعدِلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبْيٌ وطابت نفسُه أن يرُدَّه فشأنُه ومن لا فليعطنا وليكن فرضا علينا حتى نُصيبَ شيئاً فنعُطِيَه مكانه قالوا قد رضينا وسلمنا فقال صلى الله عليه وسلم إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمُروا عُرفاءَكم فليرفعوا ذلك إلينا فرَفَعتْ إليه العرفاءُ أنهم قد رضوا

سورة براءة آية 28

ص: 57

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} وُصفوا بالمصدر مبالغةً كأنهم عينُ النجاسة أو هم ذو نجسٍ لخُبث باطنِهم أو لأن معهم الشركَ الذي هو بمنزلة النجَس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاساتِ فهي ملابسةٌ لهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعيانَهم نجِسةٌ كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشرِكاً توضأ وأهلُ المذاهبِ على خلاف هذين القولين وقرئ نجس لكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككِبْدٍ في كَبِد كأنه قيل إنما المشركون جنسٌ نجسٌ أو ضرْبٌ نجس وأكثرُ ما جاء تابعاً لرِجْس

{فَلَا يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} تقريع على نجاستهم وإنما نُهي عن القرب للمبالغة أو للمنع عن دخولِ الحرمِ وهو مذهبُ عطاءٍ وقيل المرادُ به النهيُ عن الدخول مطلقاً وقيل المرادُ المنعُ عن الحج والعمرةِ وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى ويؤيده قوله عز وجل

{بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فإن تقييدَ النهي بذلك يدل على اختصاص المنهيِّ عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجُّوا ولا يعتمِروا بعد حجِّ عامِهم هذا وهو عامُ تسعةٍ من الهجرة حين أُمّر أبُو بكرٍ رضي الله عنه على الموسم ويدل عليه قول علي رضي الله عنه حين نادى ببراءة ألا لا يحُجَّ بعد عامِنا هذا مشركٌ ولا يُمنعون من دخول الحرمِ والمسجد الحرام وسائرِ المساجدِ عنده وعند الشافعي يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون من جميع المساجد ونهيُ المشركين أن يقرَبوه راجعٌ إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك وقيل المرادُ أن يُمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيامِ بمصالحه ويُعزَلوا عن ذلك

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً بسبب منعِهم من الحج وانقطاعِ ما كانوا يجلُبونه إليكم من الإرفاق والمكاسب وقرئ عائلةً على أنها مصدرٌ كالعافيةِ أو حالاً عائلة

{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من عطائه أو من تفضله بوجهٍ آخَرَ فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدراراً أغزر بها خيرَهم وأكثر ميرَهم وأسلم أهلُ تبالةَ وجرشٍ فحمَلوا إلى مكة الطعامَ وما يُعاش به فكان ذلك أعودَ عليهم مما خافوا العَيلةَ لفواته ثم فتح عليهم البلادَ والغنائمَ وتوجه إليهم الناسُ من أقطار الأرض

{إِن شَاء} أن يغنيكم مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها وإنما قيد ذلك بها لتنقطعَ الآمالُ إلى الله تعالى ولأن الإغناءَ ليس مطرداً بحسب الأفراد والأحوال والأوقات

{إِنَّ الله عَلِيمٌ} بمصالحكم

{حَكِيمٌ} فيما يعطي ويمنع

ص: 57

سورة براءة آية 29

ص: 58

{قاتلوا الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله وَلَا باليوم الاخر} أمرَهم بقتال أهلِ الكتابين إثرَ أمرِهم بقتال المشركين وبمنعهم من أن يحوموا حول ما كانوا يفعلونه من الحج والعمرةِ غيرَ خائفين من الفاقة المتوهَّمةِ من انقطاعهم ونبّههم في تضاعيف ذلك على بعض طرقِ الإغناء الموعودِ على الوجه الكليِّ وأرشدهم إلى سلوكه ابتغاءً لفضله واستنجازاً لوعده والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلِّية مَا في حيزِ الصلةِ للأمر بالقتال وبانتظامهم بسببِ ذلكَ في سلكِ المشركين فإن اليهودَ مُثَنّيةٌ والنصارى مُثلِّثةٌ فهم بمعزل من أن يؤمنوا بالله سبحانه ولا باليوم الآخر فإن عملهم بأحوال الآخرة كلا علمٍ فإيمانُهم المبنيُّ عليه ليس بإيمان به

{وَلَا يحرِّمون مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي ما ثبت تحريمُه بالوحي متلوّاً أو غيرَ متلوٍ وقيل المرادُ برسوله الرسولُ الذي يزعُمون اتباعَه أي يخالفون أصلَ دينهم المنسوخِ اعتقاداً وعملاً

{وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحق} الثابتَ الذي هو ناسخٌ لسائر الأديان وهو دينُ الإسلام وقيل دين الله

{مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} من التوراة والإنجيل فمن بيانيةٌ لا تبعيضيةٌ حتى يكونَ بعضُهم على خلاف ما نُعت

{حتى يُعْطُواْ} أي يقبَلوا أن يعطوا

{الجزية} أي ما تقرَّرَ عليهم أن يُعطوه مشتقٌّ من جزَى دَينَه أي قضاه أو لأنهم يَجْزُون بها مَنْ مَنّ عليهم بالإعفاء عن القتل

{عَن يَدٍ} حال من الضمير في يُعطوا أي عن يد مؤاتيةٍ مطيعةٍ بمعنى منقادين أو من يدهم بمعنى مسلّمين بأيديهم غيرَ باعثين بأيدي غيرِهم ولذلك مُنع من التوكيل فيه أو عن غِنىً ولذلك لم تجِب الجزيةُ على الفقير العاجزِ أو عن يد قاهرةِ عليهم أي بسبب يد بمعنى عاجزين أذلاء أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءَ مُهجتِهم بما بذلوا من الجِزية نعمةٌ عظيمةٌ عليهم أو من الجزية أي نقداً مسلّمةً عن يد إلى يد وغايةُ القتالِ ليست نفسَ هذا الإعطاء بل قبولَه كما أشير إليه

{وَهُمْ صاغرون} أي أذلاءُ وذلك بأن يأتيَ بها بنفسه ماشياً غيرَ راكبٍ ويسلِّمَها وهو قائمٌ والمتسلِّمُ جالسٌ ويُؤخَذَ بتَلْبيبه ويقال له أدِّ الجزية وإن كان يؤديها وهي تؤخذ عند أبي حنيفة رضي الله عنه من أهل الكتاب مطلقاً ومن مشركي العجَم لا من مشركي العرب عند أبي يوسف رضي الله عنه لا تؤخذ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من الأعجميِّ كتابياً كان أو مشركاً وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ من أهل الكتابِ عربياً أو عجمياً ولا تؤخذ من أهل الأوثانِ مطلقاً وذهب مالكٌ والأوزاعيُّ إلى أنها تؤخذ من جميع الكفارِ وأما المجوسُ فقد اتفقت الصحابةِ رضي الله عنهم على أخذ الجزيةِ منهم لقوله صلى الله عليه وسلم سُنوا بهم سُنّةَ أهلِ الكتابِ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنَّه كان لهم كتابٌ يدرُسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرُفع من بين أظهُرِهم واتفقوا على تحريم ذبيحتهم ومناكحتهم لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر ما نقل من الحديث غيرَ ناكحي نسائهم وآكلي ذبيحتِهم ووقت الأخذ عند أبي حنيفة رضى الله عنه أولُ السنة وتسقطُ بالموت والإسلام ومقدارُها على الفقير المعتمِل اثنا عشر درهماً وعلى المتوسط الحالِ أربعةٌ وعشرون درهما وعلى الغني ثمانيةٌ وأربعون درهماً ولا جزيةَ على فقير

ص: 58

عاجزٍ عن الكسب ولا على شيخ فانٍ أو زَمِنٍ أو صبيَ أو امرأة وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينارٌ غنياً كان أو فقيراً كان له كسبٌ أو لم يكن

سورة براءة آية 30

ص: 59

{وَقَالَتِ اليهود} جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقرير ما مرَّ من عدم إيمانِ أهلِ الكتابين بالله سبحانه وانتظامِهم بذلك في سلك المشركين

{عُزَيْرٌ ابن الله} مبتدأٌ وخبر وقرئ بغير تنوينٍ على أنه اسمٌ أعجميٌّ كعازَرَ وعزَارَ غيرُ منصرفٍ للعجمة والتعريف وأما تعليلُه بالتقاء الساكنين أو بجعل الابن وصفاً على أن الخبرَ محذوفٌ فتعسّفٌ مستغنىً عنه قيل هو قولُ قدمائِهم ثم انقطع فحَكى الله تعالى دلك عنهم ولا عبرةَ بإنكار اليهودِ وقيل قولُ بعضٍ ممن كان بالمدينة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ منهم وهم سلامُ بنُ مِشْكَم ونعمانُ بنُ أوفى وشاس ابن قيسٍ ومالكُ بنُ الصيف فقالوا ذلك وقيل قاله فنحاصُ بنُ عازوراءَ وهو الذي قال إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغنياء وسببُ هذا القولِ أن اليهودَ قتلوا الأنبياءَ بعد موسى عليه السلام فرفع الله تعالى عنهم التوراةَ ومحاها من قلوبهم فخرج عزيرٌ وهو غلامٌ يَسيح في الأرض فأتاهُ جبريلُ عليه السلام فقال له أين تذهب قال أطلبُ العلم فحفّظه التوراةَ فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرِم حرفاً فقالوا ما جمع الله التوراةَ في صدره وهو غلامٌ إلا أنه ابنُه قال الإمام الكلبي لما قَتل بُختُ نَصَّرُ علماءَهم جميعاً وكان عزيرٌ إذ ذاك صغيراً فاستصغره ولم يقتُلْه فلما رجع بنو إسرائيلَ إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيراً ليجدد لهم التوراةَ ويكونَ آيةً بعد ما أماته مائةَ عامٍ يقال إنه أتاه ملكٌ بإناء فيه ماءٌ فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم إني عزيرٌ كذّبوه فقالوا إن كنت كما تزعُم فأمْلِ علينا التوراةَ ففعل فقالوا إنَّ الله تعالى لَمْ يقذِف التوراةَ في قلب رجلٍ إلا لأنه ابنُه تعالَى الله عن ذلكَ علوا كبيرا وعن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ اليهود أضاعوا التوراة وعمِلوا بغير الحقِ فأنساهم الله تعالى التوراةَ ونسخها من صدورهم ورفع التابوتَ فتضرع عزيرٌ إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظُ التوراةِ إلى قلبه فأنذر قومه به ثم إن التابوت نزلَ فعرضوا ما تلاه عزيرٌ على ما فيه فوجدوه مثلَه فقالوا ما قالوا

{وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} هو أيضا قول بعضهم وإنما قالوه استحالةً لأن يكون ولدٌ بغير أبٍ أو لأن يفعَلَ ما فعله من إبراء الأكمهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى مَنْ لم يكن إلها

{ذلك} إشارةٌ إلى ما صدر عنهم من العظيمتين وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد درجة المشارِ إليه في الشناعة والفظاعة

{قَوْلُهُم بأفواههم} إما تأكيدٌ لنسبة القولِ المذكورِ إليهم ونفي التجوّزِ عنها أو إشعارٌ بأنه قولٌ مجرد عن البرهان وتحقيقٍ مماثل للمُهمل الموجودِ في الأفواه من غير أن يكون له مصِداقٌ في الخارج

{يضاهئون} أي في الكفر والشناعة وقرئ بغير همز

{قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} أي يشابه قولُهم على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه عند انقلابِه مرفوعاً قولَ الذين كفروا

{مِن قَبْلُ} أي من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون الملائكةُ بناتُ أو اللاتُ والعزّى

ص: 59

بناتُ الله لا قدماؤهم كما قيلَ إذْ لا تعددَ في القول حتى يتأتّى التشبيهُ وجعلُه بين قولي الفريقين مع اتحاد المقولِ ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقيل الضميرُ للنصارى أي يضاهي قولُهم المسيحُ ابنُ الله قولَ اليهودِ عزير الخ لأنهم أقدمُ منهم وهو أيضاً كما ترى فإنه يستدعي اختصاصَ الردِّ والإبطالَ بقوله تعالى ذلك قَوْلُهُم بأفواههم بقول النصارى

{قاتلهم الله} دعاءٌ عليهمْ جميعاً بالإهلاك فإن مَنْ قاتله الله هلك أو تعجّبٌ من شناعة قولِهم

{أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يُصْرفون من الحق إلى الباطل والحالُ أنه لا سبيل إليه أصلا

سورة براءة آية 31

ص: 60

{اتخذوا} زيادةُ تقريرٍ لما سلف من كفرهم بالله تعالى

{أحبارهم} وهم علماءُ اليهود واختُلف في واحده قال الأصمعي لا أدري أهو حَبْرٌ أم حِبْرٌ وقال أبو الهيثم بالفتح لا غير وكان الليثُ وابنُ السِّكِّيتِ يقولان حِبْرٌ وحَبْرٌ للعالِم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن كان من أهل الكتاب

{ورهبانهم} وهم علماءُ النصارى من أصحاب الصوامعِ أي اتخذ كلُّ واحد من الفريقين علماءَهم لا الكلُّ الكلَّ

{أَرْبَابًا من دُونِ الله} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليلِ ما حرمه أو بالسجود لهم ونحوِه تسميةُ اتِّباعِ الشيطان عبادةً له في قوله تعالى يا أبت لَا تَعْبُدِ الشيطان وقوله تعالى بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن قال عديُّ بنُ حاتم أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب وكان إذ ذاك على دين يسمَّى الركوسية فريق من النصارى وهو يقرأ سورةَ براءة فقال يا عديُّ اطرَحْ هذا الوثنَ فطرحتُه فلما انتهى إلى قوله تعالى اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله قلتُ يا رسولَ الله لم يكونوا يعبدونهم فقال صلى الله عليه وسلم أليس يحرِّمون ما أحل الله فتُحرِّمونه ويُحِلّون ما حرم الله فتَستحلّونه فقلتُ بلى قال ذلك عبادتُهم قال الربيع قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبيةُ في بني إسرائيلَ قال إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوالَ الأحبارِ فكانوا يأخُذون بأقوالهم ويترُكون حُكمَ كتابِ الله

{والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطفٌ على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابنُه تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وتخصيصُ الاتخاذِ به يشير إلى أن اليهودَ ما فعلوا ذلك بعزيرٍ وتأخيرُه في الذكر مع أن اتخاذهم له صلى الله عليه وسلم رباً معبوداً أقوى من مجرد الإطاعةِ في أمر التحليل والتحريمِ كما هو المرادُ باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً لأنه مختصٌّ بالنصارى ونسبته صلى الله عليه وسلم إلى أمه من حيث دلالتها على مروبوبيته المافية للربوبية للإيذان بكمال ركاكةِ رأيِهم والقضاءِ عليهم بنهاية الجهل والحماقة

{وَمَا أُمِرُواْ} أي والحالُ أن أولئك الكفرةَ ما أُمروا في كتابيهم

{إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} عظيمَ الشأنِ هو الله سبحانه وتعالى ويطيعوا أمرَه ولا يطيعوا أمرَ غيرِه بخلافه فإن ذلك مُخِلٌّ بعبادته تعالى فإن جميعَ الكتبِ السماوية متفقةٌ على ذلك قاطبةً وقد قال المسيح عليه السلام إنه من يشرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وأما إطاعة الرسولِ صلى الله عليه وسلم وسائرِ مَنْ أمرِ الله تعالَى بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله عز وجل أو وما أُمر الذين اتخذهم الكفرةُ أرباباً من المسيح والأحبارِ والرهبانِ إلا ليوحِّدوا الله

ص: 60

تعالى فكيف يصِحُّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبَدون مثلَهم ولا يقدحُ في ذلك كونُ ربوبيةِ الأحبار والرهبان بطريق الإطاعةِ فإن تخصيصَ العبادةِ به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعَةِ أيضاً به تعالى وحيث لم يخُصوها به تعالى لم يخصّوا العبادةَ به سبحانه

{لَا إله إِلَاّ هُوَ} صفةٌ ثانيةٌ لإلها أو استئنافٌ مقرِّرٌ للتوحيد

{سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن الإشراك به في العبادة والطاعة

سورة براءة آية (32 33)

ص: 61

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} إطفاءُ النار عبارةٌ عن إزالة لهبا الموجبةِ لزوال نورِها لا عن إزالة نورِها كما قيل لكن لما كان الغرضُ من إطفاء نارٍ لا يراد بها إلا النورُ كالمصباح إزالةَ نورِها جُعل إطفاؤُها عبارةً عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارةً عن مطلق إزالةِ النور وإن كان لغير النار والسرِّ في ذلك انحصارُ إمكانِ الإزالةِ في نورها والمرادُ بنور الله سبحانه إما حجتُه النيرةُ الدالةُ على وحدانيته وتنزُّهِه عن الشركاء والأولادِ أوالقرآن العظيمِ الناطقِ بذلك أي يريد أهلُ الكتابين أن يردّوا القرآنَ ويكذِّبوه فيما نطَق به من التوحيد والتنزُّه عن الشركاء والأولادِ والشرائعَ التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحِلِّ والحُرمة

{بأفواههم} بأقاويلهم الباطلةِ الخارجةِ منها من غير أن يكون لها مصداقٌ تنطبقُ عليه أو أصلٌ تستند إليه حسبما حُكي عنهم وقيل المرادُ به نبوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم هذا وقد قيل مُثِّلت حالُهم فيما ذكر بحال من يريد طمسن نورٍ عظيم منبثَ في الآفاق بنفخة

{ويأبى الله} أي لا يريد

{إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دينِ الإسلامِ وإنما صح الاستثناءُ المفرَّغُ من الموجَب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلةِ قوله تعالى يُرِيدُونَ وفيه من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ أي لا يريد شيئاً من الأشياءِ إلا إتمامَ نورِه فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء وفي إظهار النورِ في مَقام الإضمارِ مضافاً إلى ضميره عز وجل زيادةُ اعتناءٍ بشأنه وتشريفٌ له على تشريف وإشعارٌ بعِلة الحُكم

{وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} جوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على جملة قبلها مقدرةٍ وكلتاهما في موقعِ الحالِ أي لا يريد الله إلا إتمامَ نوره ولو لم يكرَهِ الكافرون ذلك ولو كره أي على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفاً مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً لأن الشيءَ إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في إنْ ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادةُ تحقيق لهذا مرار

ص: 61

{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ملتبساً

{بالهدى} أي القرآنَ الذي هُو هدى للمتقين

{وَدِينِ الحق} الثابتِ وهو دينُ الإسلام

{لِيُظْهِرَهُ} أي رسولُه

{عَلَى الدين كُلّهِ} أي على أهل الأديانِ كلِّهم أو ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحِكمةُ والجملةُ بيانٌ وتقريرٌ لمضمون الجملةِ السابقة والكلامُ في قولِه عز وجل

{وَلَوْ كَرِهَ المشركون} كما فيما سبق خلاً أن وصفَهم بالشرك بعد وصفِهم

ص: 61

بالكفر للدلالة على أنهم ضمُّوا الكفرَ بالرسول إلى الكفر بالله

سورة براءة الآية (34 35)

ص: 62

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في بيان حال الأحبارِ والرهبانِ في إغوائهم لأراذلهم إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يُطيعونهم في الأوامر والنواهي واتباعِهم لهم فيما يأتُون وما يَذَرُون

{إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} يأخذونها بطريق الرِّشوةِ لتغيير الأحكامِ والشرائعِ والتخفيفِ والمسامحة فيها وإنما عبِّر عن ذلك بالأكل بناءً على أنه معظمُ الغرَضِ منه وتقبيحا لحالهم وتنفير للسامعين عنهم

{وَيَصُدُّونَ} الناس

{عَن سَبِيلِ الله} عن دين الإسلامِ أو عن المسلك المقرَّر في التوراة والإنجيل إلى ما افتَرَوْه وحرفوه بأخذ الرشا أو يصدون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموالَ بالباطل

{والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} أي يجمعونهما ويحفَظونهما سواءٌ كان ذلك بالدفن أو بوجه آخرَ والموصولُ عبارةٌ إما عن الكثير من الأحبار والرهبانِ فيكون مبالغةً في الوصف بالحِرْص والضّنِّ بهما بعد وصفِهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيلِ في الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غيرِ المنفقين وهو الأنسبُ بقوله عز وجل

{وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} فيكون نظمُهم في قَرْن المرتشين من أهل الكتابِ تغليظاً ودِلالةً على كونهم أسوةً لهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم فالمرادُ بالإنفاق في سبيل الله الزكاةُ لما رُوي أَنَّهُ لمَّا نزل كبُرَ ذلك على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنَّ الله تعالى لم يفرِض الزكاةَ إلا ليُطيِّبَ بها ما بقيَ من أموالكم ولقوله صلى الله عليه وسلم ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز أي بكنز أو عد عليه فإن الوعيدَ عليه مع عدم الإنفاقِ فيما أمر الله بالإنفاق فيه وأما قوله صلى الله عليه وسلم مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوي بها ونحوُه فالمرادُ بها ما لم يؤد حقها لقوله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحَتْ له صفائحُ من نار فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه

{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ ويجوز أن يكون الموصولُ منصوباً بفعل يفسِّره فبشرهم

ص: 62

{يَوْمَ} منصوبٌ بعذاب أليمٍ أو بمضمر يدلُّ عليه ذلك أي يعذّبون أو باذكر

{يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم توقد النارُ ذاتُ حَمْيٍ شديدٍ عليها وأصلُه تُحمى النارُ فجعل الإحماءُ للنار مبالغةً ثم حُذفت النارُ وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرورِ تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة التأنيثِ إلى التذكير كما تقول رُفعت القصةُ إلى الأمير فإن طرحْتَ القِصةَ قلت رُفع إلى الأمير وإنما قيل عليها والمذكور شيئان لأن المرادَ بهما دنانيرُ ودراهمُ كثيرةٌ كما قال علي رضي الله عنه أربعةُ آلافٍ

ص: 62

وما دونها نفقةٌ وما فوقها كنزٌ وكذا الكلامُ في قولِه تعالى وَلَا يُنفِقُونَهَا وقيل الضميرُ للأموال والكنوزِ فإن الحُكمِ عامٌّ وتخصيصُهما بالذكر لأنهما قانونُ التموّلِ أو للفضة وتخصيصُها لقربها ودَلالة حكمِها على أن الذهبَ كذلك بل أولى

{فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} لأن جمعَهم لها وإمساكَهم كان لطلب الوجاهةِ بالغنى والتنعُّم بالمطاعم الشهيةِ والملابس البهيةِ أو لأنهم ازوَرُّوا عن السائل وأعرضوا عنه وولَّوْه ظهورَهم أو لأنها أشرفُ الأعضاءِ الظاهرةِ فإنها المشتملةُ على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغُ والقلبُ والكبِدُ أو لأنها أصولُ الجهات الأربعةِ التي هي مقاديمُ البدن ومآخِرُه وجنباه

{هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول

{لانفُسِكُمْ} لمنفعتها فكان عينَ مَضرَّتها وسببَ تعذيبها

{فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبالَ كنزِكم أو ما تكنزونه وقرئ بضم النون

سورة براءة آية (36)

ص: 63

{إِنَّ عِدَّةَ الشهور} أي عددَها

{عَندَ الله} أي في حكمه وهو معمولٌ لها لأنها مصدرٌ

{اثنا عَشَرَ} خبرٌ لإن

{شَهْراً} تمييزٌ مؤكدٌ كما في قولك عندي من الدنانير عشرون ديناراً والمرادُ الشهورُ القمريةُ إذ عليها يدور فلَكُ الأحكام الشرعية

{فِى كتاب الله} في اللوحِ المحفوظِ أو فيما أثبته وأوجبه وهو صفةُ اثنا عشر أي اثنا عشر شهراً مُثبتاً في كتاب الله وقوله عز وجل

{يوم خلق السماوات والارض} متعلقٌ بما في الجارِّ والمجرور من معنى الاستقرار أو بالكتاب على أنه مصدرٌ والمعنى إن هذا أمرٌ ثابتٌ في نفس الأمرِ منذ خلق الله تعالى الأجرامَ والحركاتِ والأزمنة

{مِنْهَا} أي من تلك الشهورِ الاثنىْ عشر

{أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في خُطبته في حجة الوداع ألا إن الزمانَ قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ الله السموات والارض السنةُ اثنا عشرَ شهراً منها أربعةٌ حرُمٌ ثلاثٌ متوالياتٌ ذو القَعدةِ وذو الحِجة والمحرَّم ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبانَ والمعنى رجعت الأشهرُ إلى ما كانَتْ عليهِ من الحِل والحُرمة وعاد الحجُّ إلى ذي الحِجّة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسيءِ الذي أحدثوه في الجاهلية وقد وافقت حَجةُ الوَداعِ ذا الحِجة وكانت حَجةُ أبي بكرٍ رضي الله عنه قبلها في ذي القَعدة

{ذلك} أي تحريم الأشهرِ الأربعة المعينة المعدودةِ وما في ذلك من معنى البُعد لتفخيم المشار إليه هو

{الدين القيم} المستقيمُ دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثةً منهما وكانوا يعظّمون الأشهرَ الحرمَ ويكرهون القتال فيها حتى إنه لو لقيَ رجلٌ قاتلَ أبيه أو أخيه لم يَهِجْهُ وسمَّوا رجباً الأصمَّ ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا

{فَلَا تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بهتك حرمتِهن وارتكابِ ما حرّم فيهن والجمهورُ على أن حرمةَ القتال فيهن منسوخةٌ وأن الظلم ارتكابُ المعاصي فيهن فإنه أعظمُ وزراً كارتكابها في الحرَم وعن عطاء أنه لا يحِلّ للناس أن يغزوا في الحَرَم ولا في الأشهر الحرُم إلا أن يقاتلَوا وما نسخت ويؤيد الأول أنه

ص: 63

صلى الله عليه وسلم حصرَ طائفاً وغَزَا هَوازنَ بحُنين في شوال وذي القعدة

{وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} أي جميعاً وهو مصدرُ كفّ عن الشيء فإن الجميع مكفوفٌ عن الزيادة وقع موقعَ الحال

{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي معكم بالنصر والإمداد فيما تباشِرونه من القتال وإنما وضع المُظهرُ موضعَه مدحاً لهم بالتقوى وحثاً للقاصرين عليه وإيذاناً بأنه المدارُ في النصر وقيل هي بشارةٌ وضمانٌ لهم بالنصرة بسبب تقواهم

سورة براءة آية 37

ص: 64

{إِنَّمَا النسىء} هو مصدرُ نسَأَه إذا أخَّره نسْأً ونَساءً ونسيئاً نحوُ مسَّ مسا ومساسا ومسيسا وقرئ بهن جميعا وقرئ بقلب الهمزة ياءً وتشديدِ الياء الأولى فيها كانوا إذا جاء شهرٌ حرامٌ وهم محارِبون أحلُّوه وحرَّموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوصَ الأشهر واعتبروا مجردَ العددِ وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشَر ليتسعَ لهم الوقت ويجعلوا أربعةَ أشهر من السنة حُرُماً ولذلك نصّ على العدد المعين في الكتاب والسنة أي إنما تأخيرُ حرمةِ شهرٍ إلى شهر آخر

{زِيَادَةٌ فِى الكفر} لأنه تحليلُ ما حرمه الله وتحريمُ ما حلله فهو كفرٌ آخر مضمون إلى كفرهم

{يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} ضلالاً على ضلالهم القديم وقرئ على البناءِ للفاعلِ منْ الأفعال على أن الفعلَ لله سبحانه أي يخلُق فيهم الضلال عند مباشرتِهم لمباديه وأسبابِه وهو المعنيُّ على القراءةِ الأولى أيضاً وقيل المُضِلّون حينئذ رؤساؤُهم والموصولُ عبارةٌ عن أتباعهم وقرئ يَضَلُّ بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل ونُضِلّ بنون العظمة

{يُحِلُّونَهُ} أي الشهرَ المؤخر

{عَاماً} من الأعوام ويحرِّمون مكانه شهراً آخرَ مما ليس بحرام

{وَيُحَرّمُونَهُ} أي يحافظون على حُرمته كما كانت والتعبير عن ذك بالتحريم باعتبار إحلالِهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء

{عَاماً} آخرَ إذا لم يتعلقْ بتغييره غرضٌ من أغراضهم قال الكلبي أول من فعل ذلك رجلٌ من كنانة يقال له نُعيم بنُ ثعلبة وكان إذا همّ الناسُ بالصدَر من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مردَّ لما قضيْتُ وأنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن يَنْسئَهم شهراً يغيِّرون فيه فيقول إن صفرَ العامَ حرامٌ فإذا قال ذلك حلّوا الأوتارَ ونزعوا الأسنةَ والأزِجّة وإن قال حلالٌ عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجةَ وأغاروا وقيل هو جُنادةُ بنُ عوفٍ الكنانيُّ وكان مطاعاً في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوتِه إن آلهتَكم قد أحلت لكم المحرَّم فأحِلّوه ثم يقوم في العام القابل فيقول إن آلهتَكم قد حرمت عليكم المحرَّمَ فحرِّموه وقيل هو رجلٌ من كنانةَ يقال له القَلمّسُ قال قائلهم

ومنا ناسئ الشهرِ القَلَمَّسْ

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أولُ من سنَّ النسيءَ عمر بن لحي ابن قُمعةَ بن خندِفَ والجملتان تفسيرٌ للضلال أو حالٌ من الموصول والعاملُ عاملُه

{لّيُوَاطِئُواْ} أي ليوافقوا

{عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} من الأشهر الأربعةِ واللام متعلقةٌ بالفعل الثاني أو بما يدل عليه بمجموع الفعلين

{فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} بخصوصه من الأشهر المعينة

{زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} وقرئ على البناءِ

ص: 64

للفاعلِ وهو الله سبحانه والمعنى جَعلَ أعمالَهم مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ وقيل خَذَلهم حتى حسِبوا قبيحَ أعمالِهم حسناً فاستمروا على ذلك

{والله لَا يَهْدِي القوم الكافرين} هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ البتةَ وإنما يهديهم إلى ما يوصِلُ إليه عند سلوكِه وهم قد صدّوا عنه بسوء اختيارِهم فتاهوا في تيه الضلال

سورة براءة الآية (38 39)

ص: 65

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} رجوعٌ إلى حث المؤمنين وتجريدِ عزائمِهم على قتال الكفرةِ إثرَ بيان طرَفٍ من قبائحهم الموجبةِ لذلك

{مَا لَكُمْ} استفهامٌ فيه معنى الإنكارِ والتوبيخ

{إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم} تباطأتم وتقاعستم أصلهُ تثاقلتم وقد قرئ كذلك أيُّ شيءٍ حصل أو حاصلٌ لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبيِّ صلى الله عليه وسلم انفِروا أي اخرُجوا إلى الغزو في سبيل الله متثاقلين على أن الفعلَ ماضٍ لفظاً مضارعٌ معنىً كأنه قيل تتثاقلون فالعاملُ في الظرف الاستقرارُ المقدرُ في لكم أو معنى الفعلِ المدلولِ عليه بذلك ويجوز أن يعملَ فيه الحالُ أي ما لكم متثاقلين حين قيل لكم انفروا وقرئ أَثّاقلتم على الاستفهام الإنكاريِّ التوبيخيِّ فالعاملُ في الظرف حينئذ إنما هو الأول

{إِلَى الارض} متعلقٌ باثاقلتم على تضمينه معنى المَيْلِ والإخلاد أي اثاقلتم ماثلين إلى الدنيا وشهواتِها الفانيةِ عما قليل وكرِهتم مشاقَّ الغزو ومتاعبه المستتبعة للراحلة الخالدة كقوله تعالى أَخْلَدَ إِلَى الارض واتبع هَوَاهُ أو إلى الإقامة بأرضكم وديارِكم وكان ذلكَ في غزوةِ تبوكَ في سنة عشرٍ بعد رجوعِهم من الطائف استُنفِروا في وقت عُسرةٍ وقَحطٍ وقَيْظ وقد أدركت ثمارُ المدينة وطابت ظلالُها مع بعد الشُّقةِ وكثرةِ العدوِّ فشق عليهم ذلك وقيل ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا ورَّى بغيرها إلا في غزوة تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم بيّن لهم المقصِدَ فيها ليستعدوا لها

{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وغرورِها

{مِنَ الاخرة} أي بدلَ الآخرة ونعيمِها الدائم

{فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير أي فما التمتعُ بها وبلذائذها

{فِى الاخرة} أي في جنب الآخرة

{إِلَاّ قَلِيلٌ} أي مستحقَرٌ لا يُؤبَه له وفي ترشيح الحياةِ الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعي الرغبةَ فيها وتجريدِ الآخرة عن مثل ذلك مبالغةٌ في بيان حقارة الدنيا ودناءتِها وعِظَمِ شأن الآخرة وعلوها

سورة براءة الآية 39

ص: 65

{إِلَاّ تَنفِرُواْ} أي إن لا تنفِروا إلى ما استُنفرتم إليه

{يُعَذّبُكُم} أي الله عز وجل

{عَذَاباً أَلِيماً} أي يُهلكْكم بسبب فظيعٍ هائل كقَحط وحوه

{وَيَسْتَبْدِلْ} بكم بعد إهلاكِكم

{قَوْماً غَيْرَكُمْ} وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيدِ والتشديد في التهديد بالدِلالة على المغايرةِ الوصفيةِ والذاتيةِ المستلزِمة للاستئصال أي قوماً مطيعين مُؤْثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامِكم كأهل اليمنِ وأبناءِ فارسَ وفيه من الدِلالة على

ص: 65

شدة السُّخط ما لا يخفى

{وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي لا يقدح تثاقلُكم في نُصرة دينِه أصلاً فإنه الغنيُّ عن كلِّ شيءٍ في كل شيء وقيل الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده بالعصمة والنصرةِ وكان وعدُه مفعولاً لا محالة

{والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على إهلاككم والإتيان بقوم آخرين

سورة براءة الآية (40)

ص: 66

{إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي إن لم تنصُروه فسينصُره الله الذي قد نصره في وقت ضرورةٍ أشدَّ من هذه المرة فحُذف الجزاءُ وأقيم سببُه مُقامَه أو إن لم تنصُروه فقد أوجب له النُصرة حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذُله في غيره

{إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي تسببوا لخروجه حيث أذن له صلى الله عليه وسلم في ذلك حين همّوا بإخراجه

{ثَانِيَ اثنين} حالٌ من ضميره صلى الله عليه وسلم وقرئ بسكون الياء على لغة من يُجري الناقصَ مُجرى المقصور في الإعراب أي أحدَ اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله عليه وسلم ثانياً فإن معنى قولِهم ثالثُ ثلاثةٍ ورابع أربعة ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ولذلك منع الجمهورُ أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً وقد مرَّ في قولِه تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة وجعلُه صلى الله عليه وسلم ثانيَهما لمشي الصديقِ أمامَه ودخولِه في الغار أولاً لكنسه وتسوية البساط كما ذكر في الأخبار تمحّلٌ مُستغنىً عنه

{إِذْ هُمَا فِى الغار} بدلٌ من إذ أخرجه بدلَ البعضِ إذ المرادُ به زمانٌ متسعٌ والغارُ ثقبٌ في أعلى ثوْرٍ وهو جبلٌ في يمنى مكةَ على مسيرة ساعةٍ مكثاً فيه ثلاثاً

{إِذْ يَقُولُ} بدلٌ ثانٍ أو ظرفٌ لثانيَ

{لِصَاحِبِهِ} أي الصدّيق

{لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالعون والعصمةِ والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبها شائبةُ شيءٍ من الحزن وما هو المشهورُ من اختصاص مَعَ بالمتبوع فالمرادُ بما فيه من المتبوعية هو المتبوعية في الأمر المباشر روى أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبُو بكرٍ رضي الله عنه على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال إنْ نُصَبْ اليومَ ذهب دينُ الله فقال صلى الله عليه وسلم ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما وقيل لما دخلا الغارَ بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوتَ فنسَجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أعمِ أبصارَهم فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطَنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه وفيه من الدِلالة على علو طبقة الصدِّيقِ رضي الله عنه وسابقةِ صُحبتِه ما لا يخفى ولذلكَ قالوا من أنكر صُحبةَ أبي بكرٍ رضي الله عنه فقد كفر لإنكاره كلامَ الله سبحانه وتعالى

{فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} أمَنتَه التي تسكُن عندها القلوب

{عَلَيْهِ} على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فالمراد بها مالا يحوم حوله شائبةُ الخوفِ أصلاً أو على صاحبه إذ هو المنزعِج وأما النبيِّ صلى الله عليه وسلم فكان على طُمَأْنينة من أمره

{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} عطفٌ على نصره الله والجنودُ هم الملائكةُ النازلون يوم بدرٍ والأحزابِ وحُنينٍ وقيل هم الملائكةُ أنزلهم الله ليحرِسوه في الغار ويأباه وصفُهم بعدم رؤيةِ المخاطَبين لهم وقوله عز وعلا

{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} يعني الشركَ أو دعوةَ الكفرِ فإن ذلك الجعلَ لا يتحقق بمجرد

ص: 66

الإنجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك

{وَكَلِمَةُ الله} أي التوحيدُ أو دعوةُ الإسلام

{هِىَ العليا} لا يدانيها شيءٌ وتغييرُ الأسلوب للدِلالة على أنها في نفسها كذلك لا يتبدل شأنُها ولا يتغيرُ حالُها دون غيرِها من الكلم ولذلك وُسِّط ضمير الفعل وقرئ بالنصب عطفاً على كلمة الذين

{والله عَزِيزٌ} لا يغالَب

{حَكِيمٌ} في حكمه وتدبيره

سورة براءة الآية (41 42)

ص: 67

{انفروا} تجريدٌ للأمر بالنفور بعد التوبيخِ على تركه والإنكار على المساهلة فيه وقوله تعالى

{خِفَافًا وَثِقَالاً} حالان من ضمير المخاطبين أي على أيّ حالٍ كان من يُسر وعُسر حاصلَين بأي سببٍ كان من الصِحة والمرض أو الغِنى والفقر أو قلة العيال وكثرتِهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدةُ الأسباب وعدمُها بعد الإمكان والقدرةِ في الجملة وما ذكر في تفسيرهما من قولهم خفاقا لقلة عيالِكم وثقالاً لكثرتها أو خفاقا من السلاح وثِقالاً منه أو رُكباناً ومُشاةً أو شباناً وشيوخاً أو مهازيلَ وسِماناً أو صِحاحاً ومِراضاً ليس لتخصيص الأمرَين المتقابلَين بالإرادة من غير مقارنةٍ للباقي وعن ابن أمّ مكتومٍ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعليّ أن أنفِر قال صلى الله عليه وسلم نعم حتى نزل لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وعن ابن عباس رضي الله عنهما نسخت بقوله عز وجل لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلَا على المرضى الآية

{وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله} إيجابٌ للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانِه وإعوازِ الآخَر حتى إن من ساعده النفسُ والمالُ يجاهدُ بهما ومن ساعده المالُ دون النفسِ يغزى مكانَه مَنْ حالُه على عكس حالِه إلى هذا ذهب كثيرٌ من العلماء وقيل هو إيجابٌ للقسم الأول فقط

{ذلكم} أي ما ذُكر من النفير والجهادِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببعد منزلِته في الشرف

{خَيْرٌ لَّكُمْ} أي خيرٌ عظيمٌ في نفسه أو خير مما يبتغى بتركه من الراحة والدعةِ وسَعةِ العيشِ والتمتع بالأموال والأولاد

{إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون الخيرَ علمتم أنه خيرٌ أو إنْ كنتُم تعلمونَ أنه خيرٌ إذ لا احتمال لغير الصدقِ في أخبار الله تعالى فبادروا إليه

سورة براءة الآية 42

ص: 67

{لَّوْ كَانَ} صرفٌ للخطاب عنهم وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تعديداً لما صدَر عنهم من الهَنات قولاً وفعلاً على طريق المباثةِ وبياناً لدناءة هممِهم وسائرِ رذائلِهم أي لو كان ما دعَوا إليه

{عَرَضًا قَرِيبًا} العرَضُ ما عرَض لك من منافعِ الدنيا أي لو كان ذلك غُنماً سهل المأخذ قريب المال

{وَسَفَرًا قَاصِدًا} ذا قصدٍ بين القريبِ والبعيد

{لَاّتَّبَعُوكَ} في النفير طمعاً في الفوز بالغنيمة وتعليقُ الاتباعِ بكلا الأمرين يدل على عدم تحققِه عند توسّط السفرِ فقط

{ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} أي المسافةُ الشاطة الشاقة التي تقطع بمشقة وقرئ بكسر العين والشين

{وَسَيَحْلِفُونَ} أي المتخلفون عن الغزو وقوله تعالى

{بالله} إما متعلقٌ بسيحلفون أو هو من جملة كلامِهم والقولُ مرادٌ على الوجهين أي سيحلفون

ص: 67

بالله اعتذاراً عند قفولك قائلين

{لَوِ استطعنا} أو سيحلِفون قائلين بالله لو استطعنا الخ أي لو كان لنا استطاعةٌ من جهة العدة أو من جهة الصحةِ أو من جهتهما جميعاً حسبما عنّ لهم من الكذب والتعللِ وعلى كلا التقديرين فقوله تعالى

{لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} سادٌّ مسدَّ جوابي القسمِ والشرط جميعاً أما على الثاني فظاهرٌ وأما على الأول فلأن قولَهم لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيانٌ لقوله تعالى سَيَحْلِفُونَ بالله وتصديقٌ له والإخبارُ بما سيكون منهم بعد القُفولِ وقد وقع حسبما أُخبر به من جملة المعجزات الباهرة وقرئ لو استطعنا بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمعِ كما في قوله عز وجل فَتَمَنَّوُاْ الموت

{يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدلٌ من سيحلفون لأن الحلِفَ الكاذبَ إهلاكٌ للنفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اليمينُ الفاجرةُ تدع الديارَ بلاقِعَ أو حالٌ من فاعلِه أي مهلِكين أنفسَهم أو من فاعل خرَجْنا جئ به على طريقة الإخبارِ عنهم كأنه قيل نهلك أنفسَنا أي لخرَجْنا معكم مهلِكين أنفسَنا كما في قولك حلَف ليفعلن مكان لأفعلن

{والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} أي في مضمون الشرطيةِ وفيما ادّعَوا ضمناً من انتفاء تحققِ المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا

سورة براءة الآية (43)

ص: 68

{عَفَا الله عَنكَ} صريحٌ في أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه صلى الله عليه وسلم ما وقع منه عند استئذانِ المتخلفين في التخلف معتذرين بعدم الاستطاعةِ وإذنُه اعتماداً على أَيْمانهم ومواثيقِهم لخلوها عن المزاحِم من ترك الأولى والأفضلِ الذي هو التأنّي والتوقفُ إلى انجلاء الأمرِ وانكشافِ الحالِ وقوله عز وجل

{لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أي لأي سببٍ أذِنْتَ لهم في التخلف حين اعتلّوا بعللهم بيانٌ لما أُشير إليه بالعفو من ترك الأولى وإشارةٌ إلى أنه ينبغي أن تكون أمورُه صلى الله عليه وسلم منوطةً بأسباب قويةٍ موجبةٍ لها أو مصححةٍ وأن ما أبرزوه في معرض التعلل والاعتذارِ مشفوعاً بالأيمان كان بمعزل من كونه سبباً للإذن قبل ظهورِ صدقِه وكلتا اللامَين متعلقةٌ بالإذن لاختلافهما في المعنى فإن الأولى للتعليل والثانيةُ للتبليغ والضميرُ المجرورُ لجميع المستأذِنين وتوجهُ الإنكار إلى الإذن باعتبار شمولِه للكل لا باعتبار تعلّقِه بكل فرد فردٍ لتحقق عدمِ استطاعةِ بعضهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه

{حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} أي فيما أَخبروا به عند الاعتذارِ من عدم الاستطاعةِ من جهة المالِ أو من جهة البدن أو من جهتهما معاً حسبما عنّ لهم هناك

{وَتَعْلَمَ الكاذبين} في ذلك فتعامِلَ كلاًّ من الفريقين بما يستحقه وهو بيانٌ لذلك الأولى الأفضل وتخصيص له صلى الله عليه وسلم عليه فإن كلمة حتى سواءٌ كانت بمعنى اللامِ أو بمعنى إلى لا يمكن تعلقُها بقوله تعالى لِمَ أَذِنتَ لاستلزامه أن يكون إذنه صلى الله عليه وسلم لهم معلّلاً أو مُغيّاً بالتبين والعلم ويكون توجُّهُ الاستفهامِ إليه من تلك الحيثيةِ وذلك بيِّنُ الفسادِ بل بما يدل عليه ذلك كأنه قيل لم سارعت إلى الإذن لهم وهلاّ تأنّيت حتى ينجليَ الأمر كما هو قضيةُ الحزْم قال قتادة وعمرو بنُ ميمون اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمَر فيهما بشيء إذنُه للمنافقين وأخذهُ الفداءَ من الأُسارى فعاتبه الله تعالى كما تسمعون وتغييرُ الأسلوب بأن عبّر عن الفريق الأولِ بالموصول الذي صِلتُه فعلٌ دالٌ على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعلِ المفيدِ للدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأوّلين صدقٌ حادثٌ في أمر خاص غيرُ مصحِّحٍ لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخَرين

ص: 68

وإن كان كاذبا حادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه أمرٌ جارٍ على عادتهم المستمرة ناشئ عن رسوخهم في الكذب والتعبيرُ عن ظهور الصدقِ بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهورُ من أن مدلولَ الخبر هو الصدقُ والكذبُ احتمالٌ عقلي فظهورُ صدقِه إنما هو تبيّنُ ذلك المدلولِ وانقطاعُ احتمالِ نقيضِه بعد ما كان محتمِلاً له احتمالاً عقلياً وأما كذبُه فأمرٌ حادثٌ لا دِلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكونَ ظهورُه تبيّناً له بل هو نقيضٌ لمدلوله فما يتعلق به يكون عِلْماً مستأنفاً وإسنادُه إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لا إلى المعلومين ببناء الفعلِ للمفعول مع إسناد التبيّنِ إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه صلى الله عليه وسلم بهم ومؤاخذتُهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذةَ عليهم ومن لم ينتبه لهذا قال حتى يتبين لك مَنْ صدق في عذره ممن كذَب فيه وإسنادُ التبيُّنِ إلى الأولين وتعليقُ العلمِ بالآخَرين مع أن مدارَ الإسنادِ والتعلقِ أولا وبالذات هو وصفُ الصدقِ والكذب كما أشير إليه لما أن المقصِدَ هو العلمُ بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورَين ومعاملتِهما بحسب استحقاقِهما لا العلمُ بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامِهما بموصوفيهما هذا وفي تصدير فاتحةِ الخطابِ ببشارة العفوِ دون ما يوهم العتابَ من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم وتعهده بحسن المفاوضةِ ولُطفِ المراجعةِ ما لا يخفى على أولي الألباب قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطفِ بدأ بالعفو قبل ذكر المعفوّ ولقد أخطأ وأساء الأدبَ وبئسما فعل فيما قال وكتب مَنْ زعم أن الكلام كنايةٌ عن الجناية وأن معناه أخطأتَ وبئسما فعلتَ هبْ أنه كنايةٌ أليس إيثارُها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيفِ في العتاب وهب أن العفوَ مستلزِمٌ للخطأ فهل هو مستلزمٌ لكونه من القبح واستتباعِ اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبةَ من المشافهة بالسوء أو يسوِّغُ إنشاءَ الاستقباحِ بكلمة بئسما المنبئةِ عن بلوغِ القبحِ إلى رتبة يتُعجَّب منها ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحةٌ للدين أو منفعةٌ للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عز وجل لَوْ خَرَجُواْ الخ وقد كرِهه سبحانه كما يفصحُ عنه قولُه تعالى ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم الآية نعم كان الأولى تأخيرُ الإذن حتى يظهر كذبُهم آثرَ ذي أثيرٍ ويفتضحوا على رءوس الأشهادِ ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعةِ ولا يتسنّى لهم الابتهاجُ فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضَوْه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيشٌ ولا قرت لهم عينٌ إذ لم يكونوا على أمن واطمئنانٍ بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان

سورة براءة آية (44)

ص: 69

{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} تنبيهٌ على أنه كان ينبغي أن يُستدل باستئذانهم على حالهم ولا يُؤذَنَ لهم أي ليس من عادة المؤمنين أي يستأذنوك في

{أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ} وإن الخُلَّصَ منهم يبادرون إليه من غير توقفٍ على الإذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مَئِنّةً للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم وقيل المستأذَنُ فيه محذوفٌ ومعنى قوله تعالى أَن يجاهدوا كراهةَ أن يجاهدوا ثم

ص: 69

قيل المحذوفُ هو التخلّفُ والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهةَ الجهاد فيتوجّه النفيُ إلى القيد وبه يمتاز المؤمنُ من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمراً خفياً لا يوقف عليه بادئ الأمرِ لكن عامةَ أحوالِهم لما كانت مُنبئةً عن ذلك جُعل أمراً ظاهراً مقرراً وقيل هو الجهادُ أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهةَ أن يجاهدوا بناءً على أن الاستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهتة ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يُعقل ولو سَلِم وقوعُه فالاستئذانُ لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهرِ من الاستئذان لعلة الرغبةِ ولو سلِم فالذي نُفيَ عن المؤمنين يجب أن يثبُتَ للمنافقين وظاهرٌ أنهم لم يستأذِنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف

{والله عَلِيمٌ بالمتقين} شهادةٌ لهم بالانتظام في سلك المتَّقين وعِدَةٌ لهم بأجزل الثوابِ وتقريرٌ لمضمون ما سبق كأنه قيل والله عليم بأنهم كذلك وإشعارٌ بأنَّ ما صدرَ عنُهم معلل بالتقوى

سورة براءة آية (45 46)

ص: 70

{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} أي في التخلف مطلقاً على الأول أو لكراهة الجهادِ على الثاني

{الذين لَا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} تخصيصُ الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعثَ على الجهاد ببذل النفسِ والمالِ إنما هو الإيمانُ بهما إذ به يتسنى للمؤمنين استبدالُ الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ الخالدِ بالحياة الفانية والمتاعِ الكاسد

{وارتابت قُلُوبُهُمْ} عطفٌ على الصلة وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق الريب وتقرُّره

{فَهُمُ} حالَ كونهم

{فِى رَيْبِهِمْ} وشكِّهم المستقرِّ في قلوبهم

{يَتَرَدَّدُونَ} أي يتحيرون فإن الترددَ ديدنُ المتحيَّرِ كما أن الثباتَ ديدنُ المستبصِر والتعبيرُ عنه به مما لا يخفي حسب موقعِه

ص: 70

{وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} يدل على أن بعضَهم قالوا عند الاعتذارِ كنا نريد الخروجَ لكن لم نتهيأ له وقد قرُب الرحيلُ بحيث لا يمكننا الاستعدادُ فقيل تكذيباً لهم لو أراده

{لاعَدُّواْ لَهُ} أي للخروج في وقته

{عِدَّةَ} أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وغيرِ ذلك مما لا بد منه للسفر وقرئ عُدَّه بحذف التاءِ والإضافةِ إلى ضمير الخروج كما فعل بالعِدَة مَنْ قال

وَأَخْلفُوك عِدَ الأمرِ الذي وعدوا

أي عدته وقرئ عِدّةً بكسر العين وعِدَّهُ بالإضافة

{ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي نهوضَهم للخروج قيل هو استدراك عما يُفهم من مقدم الشرطيةِ فإن انتفاءَ إرادتِهم للخروج يستلزم انتفاءَ خروجِهم وكراهةَ الله تعالى انبعاثَهم تستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبَّطوا والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوعَ بين طرَفي لكنْ بعد تحققِ الاختلافِ نفياً وإثباتاً في اللفظ كقولك ما أحسن إلى زيد ولكنْ أساء والأظهرُ أن يكون استدراكاً من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائيةِ والمعنى

ص: 70

لو أرادوا الخروجَ لأعدوا له عُدةً ولكن ما أرادوه لِما أنه تعالى كره انبعاثَهم لما فيه من المفاسد التي ستَبِين

{فَثَبَّطَهُمْ} أي حبسهم بالجُبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له

{وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} تمثيلٌ لإلقاء الله تعالى كراهةَ الخروجِ في قلوبهم أو لوسوسة الشيطانِ بالأمر بالقعود أو هو حكايةُ قولِ بعضِهم لبعض أو هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود والمرادُ بالقاعدين إما المعذورون أو غيرُهم وأياً ما كان فغيرُ خالٍ عن الذم

سورة براءة آية (47 48)

ص: 71

{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} بيانٌ لسر كراهتِه تعالى لانبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم

{مَّا زَادُوكُمْ} أي ما أورثوكم شيئاً من الأشياءِ

{إِلَاّ خَبَالاً} أي فساداً وشراً فالاستثناءُ مفرَّغٌ متصلٌ وقيل منقطعٌ وليس بذلك

{ولَاوْضَعُواْ خلالكم} أي ولسعَوْا فيما بينكم بالنمائم والتضريبِ وإفسادِ ذاتِ البين من وضَع البعيرُ وضعاً إذا أسرع وأوضعتُه أنا أي حملتُه على الإسراع والمعنى لأوضعوا ركائبَهم بينكم والمرادُ به المبالغةُ في الإسراع بالنمائم لأن الراكبَ أسرع من الماشي وقرئ ولأرقصوا من رقصت الناقة أسرعت وأرقصتها أنا وقرئ ولأوفضوا أي أسرعوا

{يَبْغُونَكُمُ الفتنة} يحاولون أن يفتنوكم بإيقاع الخلافِ فيما بينكم وإلقاءِ الرعبِ في قلوبكم وإفسادِ نياتِكم والجملةُ حالٌ من ضمير أوضعوا أو استئنافٌ

{وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} أي نمّامون يسمعون حديثَكم لأجل نقلِه إليهم أو فيكم قومٌ ضَعَفةٌ يسمعون للمنافقين أي يُطيعونهم والجملةُ حالٌ من مفعولِ يبغونكم أو من فاعله لاشتمالها على ضميريهما أو مستأنَفةٌ ولعلهم لم يكونوا في كمية العددِ وكيفية الفسادِ بحيث يُخِل مكانُهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهادِ إخلالاً عظيماً ولم يكن فسادُ خروجِهم معادلاً لمنفعته ولذلك لم تقتضِ الحكمةُ عدمَ خروجِهم فخرجوا مع المؤمنين ولكن حيث كان انضمامُ المنافقين القاعدين إليهم مستتبِعاً لخلل كليَ كرِه الله انبعاثَهم فلم يتسنَّ اجتماعُهم فاندفع فسادُهم ووجهُ العتابِ على الأذن في قعودهم مع تقرُّره لا محالة وتضمُّنِ خروجِهم لهذه المفاسد أنهم لو قعدوا بغير إذن منه صلى الله عليه وسلم لظهر نفاقِهم فيما بين المسلمين من أول الأمرِ ولم يقدِروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسنَّ لهم التمتعُ بالعيش إلى أن يظهرَ حالُهم بقوارعِ الآيات النازلة

{والله عَلِيمٌ بالظالمين} علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرِهم وما فعلوا فيما مضى وما يتأتى منهم فيما سيأتي ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعارِ بترتّبه على الظلم ولعله شاملٌ للفريقين السّماعين والقاعدين

ص: 71

{لَقَدِ ابتغوا الفتنة} تشتيتَ شملِك وتفريقَ أصحابِك منك

{مِن قَبْلُ} أي يومَ أحُدٍ حين انصرف عبدُ الله بن أبي بن سَلولٍ المنافقُ بمن معه وقد تخلف بمن معه عن تبوك أيضا بعد ما خرج مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى ذي جُدّة أسفلَ من ثنية الوداع وعن ابن جريج رضي الله عنه وقفوا لرسول صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلةَ العقبةِ وهم اثنا عشرَ رجُلاً من المنافقين ليفتِكوا به صلى الله عليه وسلم فردّهم الله تعالى خاسئين

{وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور} تقليبُ الأمر تصريفُه من وجه إلى وجه

ص: 71

وترديدُه لأجل التدبير والاجتهادِ في المكر والحيلة يقال للرجل المتصرِّف في وجوه الحِيَل حُوَّلٌ وقُلّبٌ أي اجتهدوا ودبروا لك الحِيلَ والمكايدَ ودّوروا الآراءَ في إبطال أمرك وقرئ بالتخفيف

{حتى جَاء الحق} أي النصرُ والتأييدُ الإلهي

{وَظَهَرَ أَمْرُ الله} غلب دينه وعلا عرشه

{وَهُمْ كارهون} والحالُ أنهم كارهون لذلك أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيانُ ما ثبّطهم الله تعالى لأجله وهتَك أستارَهم وكشف أسرارَهم وإزاحةِ أعذارِهم تداركاً لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الإذن وإيذاناً بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهوينا للخطب

سورة براءة آية (49 50)

ص: 72

{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي} في القعود

{وَلَا تَفْتِنّى} أي لا توقِعْني في الفتنة وهي المعصيةُ والإثمُ يريد إني متخلِّفٌ لا محالة أذِنتَ أو لم تأذن فأذن لي حتى لا أقعَ في المعصية بالمخالفة أو لا تُلقِني في الهلكة فإني إن خرجتُ معك هلَك مالي وعيالي لعدم مَنْ يقوم بمصالحهم وقيل قال الجدُّ بنُ قيس قد علمت الأنصارُ أني مشتهرٌ بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعنى نساءَ الروم ولكن أُعينُك بمالي فاتركني وقرئ ولا تُفْتِنِّي من أفْتنَه بمعنى فتنه

{أَلا فِى الفتنة} أي في عينها ونفسها وأكملِ أفرادِها الغنيُّ عن الوصف بالكمال الحقيقِ باختصاص اسمِ الجنسِ به

{سَقَطُواْ} لا في شيء مُغايرٍ لها فضلاً عن أن يكونَ مهرَباً ومخلَصاً عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءةِ على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعةِ ومن القعود بالإذن المبنيِّ عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة وقرئ بإفراد الفعلِ محافظةً على لفظ مَن وفي تصدير بحرف التنبيه مع تقديم الظرفِ إيذانٌ بأنهم وقعوا فيها وهم يحسَبون أنها مَنْجى من الفتنة زعماً منهم أن الفتنةَ إنما هي التخلفُ بغير إذن وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيلٌ لها منزلةَ المَهواة المُهلِكةِ المُفصحةِ عن تردّيهم في دَركات الرَّدى أسفلَ سافلين وقوله عز وجل

{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وعيدٌ لهم على ما فعلوا معطوفٌ على الجملة السابقة داخلٌ تحت التنبيهِ أي جامعةٌ لهم يومَ القيامة مِن كُلّ جانب وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على الثبات والاستمرارِ أو محيطةٌ بهم الآن تنزيلاً لشيء سيقع عن قريب منزلَة الواقعِ أو وضعاً لأسباب الشيءِ موضعَه فإن مبادئ إحاطةِ النارِ بهم من الكفر والمعاصي محيطةٌ بهم الآن من جميع الجوانبِ ومن جملتها ما فرّوا منه وما سقطوا فيه من الفتنة وقيل تلك المبادئ المتشكلةُ بصور الأعمالِ والأخلاق هي النارُ بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأةِ وإنما يظهر عند تشكُّلِها بصورها الحقيقيةِ في النشأة الآخرة والمرادُ بالكافرين إما المنافقون وإيثارُ وضعِ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالكفر والإشعارِ بأنه معظمُ أسبابِ الإحاطة المذكورة وإما جميعُ الكافرين الشاملين للمنافقين شمولاً أولياً

ص: 72

{إِن تُصِبْكَ} في بعض مغازيك

{حَسَنَةٌ} من الظَفَر والغنيمة

{تَسُؤْهُمْ} تلك الحسنةُ

ص: 72

أي تورِثُهم مساءةً لفرط حسدهم وعدواتهم لك

{وَإِن تُصِبْكَ} في بعضها

{مُّصِيبَةٌ} من نوع شدة

{يَقُولُواْ} متبجّحين بما صنعوا حامدين لآرائهم

{قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي تلافَيْنا ما يُهمّنا من الأمر يعنون به الاعتزالَ عن المسلمين والقعودَ عن الحرب والمداراةَ مع الكفرة وغيرَ ذلك من أمور الكفر والنفاقِ قولاً وفعلاً

{مِن قَبْلُ} أي من قبل إصابةِ المصيبة في وقت تدارُكِه يشيرون بذلك إلى أن المعاملةَ المذكورةَ إنما تروّج عند الكفرةِ بوقوعها حالَ قوةِ الإسلامِ لا بعد إصابةِ المصيبة

{وَيَتَوَلَّواْ} عن مجلس الاجتماعِ والتحدثِ إلى أهاليهم أو يُعرِضوا عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

{وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما صنعوا من أخذ الأمرِ وبما أصابه صلى الله عليه وسلم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في يقولوا ويتولوا لا في الأخير فقط لمقارنة الفرَحِ لهما معاً وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوام السرورِ وإسنادُ المَساءة إلى الحسنة والمَسرَّة إلى أنفسهم دون المصيبة بأن يقال وإن تُصِبْك مصيبةٌ تَسْرُرْهم للإيذان باختلاف حاليهم حالتي عروضِ المَساءة والمسرةِ بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون

سورة براءة آية (51 52)

ص: 73

{قُلْ} بياناً لبطلان ما بنَوْا عليه مسرتَهم من الاعتقاد

{لَّن يُصِيبَنَا} أبداً وقرئ هل يصيبنا وهل يصيِّبُنا من فيعل لا من فعل لأنه واويٌّ يقال صاب السهمُ يصوب واشتقاقُه من الصواب

{إِلَاّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي أثبته لمصلحتنا الدنيويةِ أو الأخروية من النُّصرة عليكم أو الشهادة المؤديةِ إلى النعيم الدائم

{هُوَ مولانا} ناصرُنا ومتولِّي أمورِنا

{وَعَلَى الله} وحده

{فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} التوكلُ تفويضُ الأمر إلى الله والرضا بما فعله وإن كان ذلك بعد ترتيب المبادئ العادية والفاءُ للدلالة على السببية والأصل ليتوكلِ المؤمنون على الله قدِّم الظرفُ على الفعلِ لإفادةِ القصِر ثم أدخل الفاء للدلالة على استيجابه تعالى للتوكل عليهِ كما في قولِهِ تعالى وإياى فارهبون والجملةُ إن كانت من تمامِ الكلامِ المأمورِ به فإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمارِ لإظهار التبرُّكِ والتلذذِ به وإن كانت مَسوقةً من قِبله تعالى أمراً للمؤمنين بالتوكل إثرَ أمرِه صلى الله عليه وسلم بما ذكر فالأمرُ ظاهرٌ وكذا إعادةُ الأمر في قولِه عزَّ وجلَّ

ص: 73

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} لانقطاع حُكم الأمرِ الأولِ بالثاني وإن كان أمرَ الغائب وأمَّا على الوجهِ الأولِ فهي لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المأمورِ به والإشعارِ بما بينه وبين ما أُمر به أولاً من الفرق في السياقِ والتربُّصُ التمكّثُ مع انتظار مجيءِ شيءٍ خيرا كان أو شرا والباءُ للتعدية وإحدى التاءين محذوفةٌ أي ما تنتظرون بنا

{إِلا إِحْدَى الحسنيين} أي العاقبتين اللتين كلُّ واحدةٍ منهما هي حُسنى العواقبِ وهما النصرُ والشهادةُ وهذا نوعُ بيان لما أبهم في الجواب الأول وكشفٌ لحقيقة الحالِ بإعلام أن ما يزعُمونه مضرَّةً للمسلمين من الشهادة أنفعُ مما يعُدّونه منفعةً من النصر والغنيمة

{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} أحدى السوأَيَيْن من العواقب إما

{أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ}

ص: 73

كما أصاب مَن قبلكم من الأممِ المهلَكة والظرفُ صفةُ عذاب ولذلك حُذف عاملُه وجوباً

{أَوْ} بعذاب

{بِأَيْدِينَا} وهو القتلُ على الكفر

{فَتَرَبَّصُواْ} الفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتُنا

{إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} ما هو عاقبتُكم فإذا لقِيَ كلٌّ منا ومنكم ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يُسرنا ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم

سورة براءة آية (53 56)

ص: 74

{قُلْ أَنفِقُواْ} أموالَكم في سبيل الله

{طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} مصدران وقعا موقعَ الفاعل أي طائعين أو كارهين وهو أمرٌ في معنى الخبر كقوله تعالى استغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ والمعنى أنفقتم طوعا أو كرها

{لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ونظمُ الكلامِ في سلك الأمرِ للمبالغة في بيان تساوي الأمرين في عدم القَبولِ كأنهم أمر وابأن يمتحنوا الحال فينفقوا على الحالين فينظروا هل يُتقبّل منهم فيشاهدوا عدمَ القبولِ وهو جوابُ قولِ جدِّ بنِ قيس ولكن أُعينك بمالي ونفيُ التقبُّلِ يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذِ منهم وأن يكون بمعنى عدمِ الإثابةِ عليه وقوله عز وجل

{إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} أي عاتين متمردين تعليل لرد إنفاقهم

ص: 74

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ منهم} وقرئ بالتحتانية

{نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} استثناءٌ من أعم الأشياء أي ما منعهم قَبولَ نفقاتِهم منهم شيءٌ من الأشياءِ إِلَاّ كفرهم وقرئ يَقبَلَ على البناءِ للفاعلِ وهو الله تعالى

{وَلَا يَأْتُونَ الصلاة إِلَاّ وَهُمْ كسالى} أي لا يأتونها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونهم متثاقلين

{وَلَا يُنفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كارهون} لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً فقوله تعالى طوعا أي من غير إلزامٍ من جهته صلى الله عليه وسلم لا رغبة أو هو فرْضيٌّ لتوسيع الدائرة

ص: 74

{فَلَا تُعْجِبْكَ أموالهم وَلَا أولادهم} فإن ذلك استدراجٌ لهم ووبالٌ عليهم حسبما ينبئ عنه قولُه عز وجل

{إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدُّنيا} بما يكابدون لجمعها وحفظِها من المتاعب وما يقاسون فيها من الشدائد والمصائب

{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك لهم نقمةً لا نعمةً وأصلُ الزهوقِ الخروجُ بصعوبة

ص: 74

{وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} في الدين والإسلام

{وَمَا هُم مّنكُمْ} في ذلك

{ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون أن يُفعلَ بهم ما يفعل بالمشركين فيظهرون الإسلام تقيةً ويؤيدونه

ص: 74

بالأيمان الفاجرة

سورة براءة آية (57 59)

ص: 75

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءَهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطراراً حتى إنهم لو وجدوا غيرَ ذلك ملجأ أي مكاناً حصيناً يلجأون إليه من رأس جبل أو قلعةٍ أو جزيرة وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرارِ عدمِ الوجدانِ فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس نصاً في إفادة انتفاء استمرار الفعل كما هو الظاهرُ بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً حسبما يقتضيه المقامُ فإن معنى قولِك لو تحسن إلي لشكرتك أن انتفاءَ الشكر بسبب استمرارِ انتفِاء الإحسانِ لا أنه بسبب انتفاءِ استمرارِ الإحسانِ فإن الشكرَ يتوقف على وجود الإحسانِ لا على استمرارِه كما حُقّق في موضعه

{أَوْ مغارات} أي غير انا وكهوفاً يُخفون فيها أنفسهَم وقرئ بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور وقيل هو معتد من غار إذا دخل الغور أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم وأهليهم ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومفار

{أَوْ مُدَّخَلاً} أي نفقاً يندسّون وينجحرون وهو مفتعلٌ من الدخول وقرئ مَدخْلاً من الدخول ومُدْخلاً من الإدخال أي مكاناً يدخلون فيه أنفسهم وقرئ مُتدخَّلاً ومنْدخَلاً من التدخل والاندخال

{لَوَلَّوُاْ} أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا وقرئ لوالَوْا أي لالتجأوا

{إِلَيْهِ} أي إلى أحد ما ذُكر

{وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يُسرعون بحيث لا يردُّهم شيء من الفرس الجَموحِ وهو الذي لا يثنيه اللجام وفيه إشعارٌ بكمال عتوهم وطغيانهم وقرئ يجمزون بمعنى يجمحون ويشتدون ومنه الجمازة

ص: 75

{وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} بكسر الميم وقرئ بضمها أي يَعيبُك سراً وقرئ يُلمِّزك ويلامزُك مبالغة

{فِي الصدقات} أي في شأنها وقسمتها

{فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} بيانٌ لفسادِ لمزِهم وأنه لا منشأ له سوى حرصِهم على حطام الدنيا أي إن أُعطوا منها قدرَ ما يريدون

{رَضُواْ} بما وقع من القسمة واستحسنوها

{وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا} ذلك المقدارَ

{إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي يفاجِئون السخط وإذا نائبٌ منابَ فاءِ الجزاء قيلَ نزلتِ الآيةُ في أبي الجواحظ المنافقِ حيث قال ألا تَروْن إلى صاحبكم يقسِم صدقاتِكم في رعاة الغنم ويزعُم أنه يعدل وقيل في ابن ذي الخُويصِرَةِ واسمه حرقوص ابن زهير التميمي رأسُ الخوارج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمُ غنائمَ حُنينٍ فاستعطف قلوبَ أهلِ مكةَ بتوفير الغنائم عليهم فقال اعدِلْ يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ويلك إن لم أعدِلْ فمن يعدِلُ وقيل هم المؤلفةُ قلوبُهم والأولُ هو الأظهر

ص: 75

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتاهم الله وَرَسُولُهُ} أي ما أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقات طيِّبي النفوسِ به وإن قلَّ وذكرُ الله عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان بأمره سبحانه

ص: 75

{وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} أي كفانا فضلُه وصنعُه بنا وما قسمه لنا

{سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} بعد هذا حسبما نرجو ونؤمّل

{إِنَّا إِلَى الله راغبون} في أن يُخوِّلنا فضلَه والآيةُ بأسرها في حيز الشرطِ والجوابُ محذوفٌ بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم

سورة براءة آية (60)

ص: 76

{إِنَّمَا الصدقات} شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم من القسمة ببيان المصارفِ وردٌّ لمقالة القالةِ في ذلك وحسمٌ لأطماعهم الفارغة المبنيةِ على زعمهم الفاسدِ ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق أي جنسُ الصدقات المشتملةِ على الأنواع المختلفة

{لِلْفُقَرَاء والمساكين} أي مخصوصةٌ بهؤلاء الأصنافِ الثمانيةِ الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقةَ بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوغهم أن يتكلموا فيها وفي قاسمها والفقيرُ من له أدنى شيءٍ والمسكينُ من لا شيء له هو المرويُّ عن أبي حنيفة رضي الله عنه وقد قيل على العكس ولكل منهما وجهٌ يدل عليه

{والعاملين عَلَيْهَا} الساعين في جمعها وتحصيلها

{والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} هم أصنافٌ فمنهم أشرافٌ من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم ليُسلموا فيرضَخ لهم ومنهم قومٌ أسلموا ونيّاتُهم ضعيفةٌ فيؤلّف قلوبَهم بإجزال العطاء كعيينةَ بنِ حصن والأقرعِ بن حابس والعباسِ بن مرداس ومنهم من يُترقَّب بإعطائهم إسلامُ نظرائِهم ولعل الصنفَ الأولَ كان يعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم من خُمس الخُمسِ الذي هو خالصُ مالَه وقد عد منهم من يؤلَّف قلبُه بشيء منها على قتال الكفار وما نعي الزكاة وقد سقط سهمُ هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سوادِ الإسلامِ فلما أعزّه الله عز وعلا وأعلى كلمتَه استُغنيَ عن ذلك

{وَفِي الرقاب} أي وللصَّرف في فك الرقاب بأن يُعانَ المكاتَبون بشيء منها على أداء نجومِهم وقيل بأن يُفدَى الأُسارى وقيل بأن يُبتاع منها الرقابُ فتُعتق وأياً ما كان فالعدولُ عن اللام لعدم ذكرِهم بعنوان مُصححٍ للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرارِ مِلكِهم فيما أعطوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم في استحقاق الصدقةِ لما أن في للظرفية المنبئةِ عن إحاطتهم بها وكونِهم محلَّها ومركزَها

{والغارمين} أي الذين تداينوا لأنفسهم في غير معصيةٍ إذا لم يكن لهم نصابٌ فاضلٌ عن ديونهم وكذلك عند الشافعي رضي الله عنه من غُرمٍ لإصلاح ذاتِ البين وإطفاءِ الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء

{وَفِى سَبِيلِ الله} أي فقراءِ الغزاةِ والحجيج والمنقطَعِ بهم

{وابن السبيل} أي المسافرَ المنقطِع عن ماله وتكريرُ الظرف في الأخيرين للإيذان بزيادة فضلِهما في الاستحقاق أو لما ذُكر من إيرادهما بعنوان غيرِ مصحَّحٍ للمالكية والاختصاص فهذه مصارفُ الصدقاتِ فللمتصدق أن يدفع صدقتَه إلى كل واحدٍ منهم وأن يقتصرَ على صنف منهم لأن اللام لبيان أنهم مصارفُ لا تخرُج عنهم لا لإثبات الاستحقاق وقد روي ذلك عن عمرَ وابنِ عباس وحذيفة رضي الله عنهم وعند الشافعيِّ لا يجوزُ إلا أن يُصرَف إلى ثلاثة من تلك الأصناف

{فَرِيضَةً مّنَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ

ص: 76

لما دل عليه صدْرُ الآية أي فرَضَ لهم الصدقاتِ فريضةً ونُقل عن سيبويه أنه منصوبٌ بفعله مقدراً أي فرَض الله ذلك فريضةً أو حالٌ من الضمير المستكنّ في قوله للفقراء أي إنما الصدقاتُ كائنةٌ لهم حالَ كونها فريضةً أي مفروضة

{والله عَلِيمٌ} بأحوال الناسِ ومراتبِ استحقاقِهم

{حَكِيمٌ} لا يفعلُ إلا ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور الحسنةِ التي من جُملتها سَوْقُ الحقوق إلى مستحقيها

سورة براءة آية (61)

ص: 77

{وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} نزلت في فِرقة من المنافقين قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم مالا ينبغي فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلُغه ذلك فيقعَ بنا فقال الجلاس بن سويد نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلِف فيصدقنا بما نقول إنما محمدٌ أذُنٌ سامعة وذلك قوله عز وجل

{وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يسمع كلَّ ما قيل من غير أن يتدبَّرَ فيه ويميّزَ بين ما يليق بالقَبول لمساعدة أَمارات الصدقِ له وبين مالا يليق به وإنما قالوه لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفَحُ عنهم حِلماً وكرماً فحملوه على سلامة القلبِ وقالوا ما قالوا

{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} من قبيل رجلُ صدقٍ في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذنٌ ولكن نِعمَ الأذُنُ ويجوز أن يكون المرادُ أذناً في الخير والحقِّ وفيما ينبغي سماعُه وقَبولُه لا في غير ذلك كما يدل عليه قراءةُ رحمةٍ بالجر عطفاً عليه أي هو أذنُ خيرٍ ورحمةٍ لا يسمع غيرَهما ولا يقبله وقرئ أذْن بسكون الذال فيهما وقرئ أذن خير على أنه صفةٌ أو خبرٌ ثان وقوله عز وجل

{يُؤْمِنُ بالله} تفسيرٌ لكونه أذنَ خيرٍ لهم أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة الموجبةِ له وكونُ ذلك خيراً للمخاطَبين كما أنه خيرٌ للعالمين مما لا يخفى

{وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدّقهم لِما علم فيهم من الخلوص واللامُ مزيدةٌ للتفرقة بين الإيمان المشهورِ وبين الإيمان بمعنى التسليمِ والتصديق كما في قوله تعالى أَنُؤْمِنُ لَكَ الخ وقوله تعالى فَمَا آمن لموسى الخ

{وَرَحْمَةً} عطفٌ على أذنُ خيرٍ أي وهو رحمةٌ بطريق إطلاقِ المصدرِ على الفاعل للمبالغة

{للذين آمنوا مِنكُمْ} أي للذين أظهروا الإيمانَ منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقاً لَهُم في ذلك بل رفقاً بهم وترحماً عليهم ولا يكشف أسرارَهم ولا يهتِك أستارَهم وإسنادُ الإيمان إليهم بصيغة الفعلِ بعد نسبتِه إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئةِ عن الرسوخ والاستمرارِ للإيذان بأن إيمانَهم أمرٌ حادثٌ ما له من قرار وقرئ بالنصب على أنها علةٌ لفعل دلَّ عليه أذنُ خيرٍ أي يأذن لكم رحمةً

{والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله} بما نُقل عنهم من قولهم هو أذنٌ ونحوِه وفي صيغة الاستقبالِ المُشعِرة بترتب الوعيدِ على الاستمرار على ما هم عليه إشعارٌ بقبول توبتِهم كما أفصح عنه قولُه تعالى فيما سيأتي فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ

{لَهُمْ} بما يجترئون عليه من أذيته صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه بناءُ الحُكمِ على الموصول

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا اعتراضٌ مَسوقٌ من قِبَله عز وجل على نهج الوعيدِ غيرُ داخلٍ تحت الخطابِ وفي تكرير الإسنادِ بإثبات العذابِ الأليم لهم ثم جعلِ الجملة خبرا للموصول مالا يخفى من المبالغة وإيرادُه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالةِ مضافاً إلى الاسم الجليلِ لغاية التعظيمِ والتنبيهِ على أن أذيته

ص: 77

راجعة إلى جنابه عز وجل موجبةٌ لكمال السخطِ والغضب

سورة براءة آية (62 63)

ص: 78

{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} الخطابُ للمؤمنين خاصةً وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرَهم بالأيمان ليعذُروهم ويرضَوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل إليهم مما يورث أذاةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأما التخلفُ عن الجهاد فليس بداخل في هذا الاعتذارِ

{لِيُرْضُوكُمْ} بذلك وإفرادُ إرضائِهم بالتعليل مع أن عمدةَ أغراضِهم إرضاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قبل صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ولم يكذّبْهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكونَ وسيلةً إلى إرضائه صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقاً بهم وستراً لعيوبهم لا عن الرضا بما فعلوا كما أشير إليه

{والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي أحقُّ بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلى الله عليه وسلم في باب الإجلالِ والإعظامِ مَشهداً ومَغيباً وأما ما أتَوا به من الأَيمان الفاجرة فإنما يرضى به من انحصر طريقُ علمِه في الأخبار إلى أن يجئ الحقُّ ويزهَقَ الباطلُ والجملةُ نصب على الحالية من ضمير يحلفون أي يحلفون لكم لإرضائكم والحالُ أنه تعالى ورسولُه أحقُّ بالإرضاء منكم أي يُعرضون عما يهمهم ويجديهم ويشتغلون بمالا يَعنيهم وإفرادُ الضمير في يُرْضوه إما للإيذان بأن رضاه صلى الله عليه وسلم مندرجٌ تحت رضاه سبحانه وإرضاؤه صلى الله عليه وسلم إرضاءٌ له تعالى لقوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وإما لأنه مستعارٌ لاسم الإشارةِ الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما في قول رؤية

فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلق

كأَنَّهُ فِي الجلدِ توليعُ البهقْ

أي كأن ذلك لا يقال أيُّ حاجةٍ إلى الاستعارة بعد التأويل المذكورِ لأنا نقول لولا الاستعارةُ لم يتسنَّ التأويل لما أن الضميرَ لا يتعرض إلا لذات ما يرجِع إليه من غير تعرضٍ لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكوريةُ وإنما المتعرضُ لها اسمُ الإشارةِ وإما لأنه عائدٌ إلى رسوله والكلامُ جملتان حُذف خبرُ الأولى لدلالة خبرِ الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه ومنه قولُ مَن قالَ

نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأيُ مختلف أو إلى الله على أن المذكورَ خبرُ الجملة الأولى وخبرُ الثانيةِ محذوف كما هو رأي المبرد

{إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ تعويلاً على دِلالة ما سبق عليه أي إن كانوا مؤمنين فليُرْضوا الله ورسولَه بما ذكر فإنهما أحقُّ بالإرضاء

ص: 78

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي أولئك المنافقون والاستفهامُ للتوبيخ على ما أقدَموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتها وقرئ بالتاء على الالتفات لزيادةِ التقريعِ والتوبيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارعِ والإنذارات

{إٍِنَّهُ} أي الشأنَ

{مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} المحادَّةُ من الحدّ كالمُشاقّة من الشَّق والمعاداةُ من العُدوة بمعنى الجانبِ فإن كلَّ واحدٍ من مباشري كلِّ من الأًفعالِ المذكورة في محل غيرِ محلِّ صاحبِه ومَنْ شرطيةٌ جوابُها قوله تعالى

{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} على أن خبرَه محذوفٌ أي فحَقٌّ أنَّ له نارَ جهنَم وقرئ بكسر الهمزةِ والجملةُ الشرطيةُ في محلِ الرفعِ على أنها خبرٌ لأن وهي مع خبرها سادةٌ مسدَّ مفعولي يعلموا وقيل المعنى

ص: 78

فله وإنّ تكريرٌ للأولى تأكيداً لطول العهدِ لا من باب التأكيدِ اللفظيِّ المانعِ للأولى من العمل ودخولُ الفاءِ كما في قول من قال

لقد علم الحيُّ اليمانُونَ أنني

إذا قلتُ أما بعدُ أني خطيبُها

وقد جوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه وجوابُ الشرط محذوفٌ تقديرُه ألم يعلموا أنه من يحاددِ الله ورسولَه يهلِكْ فإن له الخ ورُدّ بأن ذلك إنما يجوز عند كونِ فعلِ الشرط ماضياً أو مضارعاً مجزوماً بلم

{خَالِداً فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المجرورِ إن اعتُبر في الظرف ابتداءُ الاستقرار وحدوثُه وإن اعتبر مطلقُ الاستقرارِ فالأمرُ ظاهر

{ذلك} أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالدِ بذلك إيذاناً ببُعد درجتِه في الهول والفظاعةِ

{الخزى العظيم} الخزي الذل والهو أن المقارِنُ للفضيحة والندامة وهي ثمراتُ نفاقِهم حيث يفتضحون على رءوس الأشهادِ بظهورها ولُحوقِ العذاب الخالدِ بهم والجملةُ تذييلٌ لما سبق

سورة براءة آية (64 65)

ص: 79

{يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازلٌ عَلَيْهِمْ

{سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من الأسرار الخفيةِ فضلاً عما كانوا يُظهِرونه فيما بينهم من أقاويل الكفرِ والنفاقِ ومعنى تَنْبئتِها إياهم بما في قلوبهم مع أنه معلومٌ لهم وأن المحذورَ عندهم إطلاعُ المؤمنين على أسرارهم لا إطلاعُ أنفسِهم عليها أنها تُذيع ما كانوا يُخفونه من أسرارهم فتنتشرُ فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجالِ مُذاعةً فكأنها تخبرهم بها أو المرادُ بالتنبئة المبالغةُ في كون السورة مشتملةً على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنةِ ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعي عليهم قبائحَهم وقيل معنى يحذر لِيحذر وقيل الضمير أن الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين ولا يبالى بالتفكيك عند ظهورِ الأمرِ بعَوْد المعنى إليه أي يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ على المؤمنين سورةٌ تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتِك عليهم أستارَهم قال أبو مسلم كان إظهارُ الحذرِ منهم بطريق الاستهزاءِ فإنهم كانوا إذا سمعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يذكر كلَّ شيء ويقول إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به ولذلك قيل

{قل استهزؤوا} أي افعلوا الاستهزاءَ وهو أمر تهديد

{إِنَّ الله مُخْرِجٌ} أي من القوةِ إلى الفعلِ أو من الكُمون إلى البروز

{مَّا تَحْذَرُونَ} أي ما تحذرونه من إنزال السورةِ ومن مخازيكم ومثالبِكم المستكنةِ في قلوبكم الفاضحةِ لكم على ملأ الناسِ والتأكيدُ لرد إنكارِهم بذلك لا لدفع ترددِهم في وقوع المحذورِ إذ ليس حذرُهم بطريق الحقيقة

ص: 79

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عما قالوا

{لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونلعب} روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوكَ وبين يديه ركبٌ من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون انظُروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتحَ حُصون الشامِ وقصورَها هيهاتَ هيهات فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فقال احبِسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبيَّ الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابِك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركبُ ليقصُرَ بعضنا على بعض السفر

{قُلْ} غيرَ ملتفتٍ إلى اعتذارهم ناعياً

ص: 79

عليهم جناياتِهم منزِّلاً لهم منزلةَ المعترفِ بوقوع الاستهزاء موبخاً لهم على أخطائهم موقع الاستهزاء

{أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون} حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ولا يستقيم ذلك إلا بعد تحققِ الاستهزاء وثبوته

سورة براءة آية (66 68)

ص: 80

{لَا تَعْتَذِرُواْ} لا تشتغلوا بالاعتذار وهو عبارةٌ عن محو أثرِ الذنبِ فإنه معلومُ الكذبِ بيِّنُ البطلان

{قَدْ كَفَرْتُمْ} أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه

{بَعْدَ إيمانكم} بعد إظهارِكم له

{إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} لتوبتهم وإخلاصِهم أو تجنّبهم عن الإيذاء والاستهزاء وقرئ إن يعفُ على إسنادِ الفعلِ إلى الله سبحانه وقرئ على البناءِ للمفعول مُسنداً إلى الظرف بتذكير الفعلِ وبتأنيثه أيضاً ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل إن ترحم طائفةٌ

{نُعَذّبْ} بنون العظمه وقرئ بالياء على البناء للفاعل وبالتاء على البناءِ للمفعول مُسنداً إلى ما بعده

{طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصِرِّين على الإجرام وهو غيرُ التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين قال محمد بن إسحق الذي عُفي عنه رجلٌ واحد وهو يحيى بنُ حُمَيِّر الأشجعيُّ لم نزلت هذه الآيةُ تاب عن نفاقه وقال اللهم إني لا أزال أسمع آيةً تقشعر منها الجلودُ وتجِبُ منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقولُ أحدٌ أنا غسلتُ أنا كفنتُ أنا دفنتُ فأصيب يومَ اليمامة فما أحدٌ من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيرَه

ص: 80

{المنافقون والمنافقات} التعرّضُ لأحوال الإناثِ للإيذان بكمال عراقتِهم في الكفر والنفاق

{بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} أي متشابهون في النفاق والبُعدِ عن الإيمان كأبعاض الشئ الواحدِ بالشخص وقيل أريد به نفيُ أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبُهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقريرٌ لقوله تعالى وَمَا هُم مّنكُمْ وقوله تعالى

{يَأْمُرُونَ بالمنكر} أي بالكفر والمعاصي

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} أي عن الإيمان والطاعةِ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما سبق ومُفصِحٌ عن مضادة حالِهم لحال المؤمنين أو خبرٌ ثان

{وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي عن المبرات والإنفاقُ فِى سَبِيلِ الله فإن قبضَ اليد كنايةٌ عن الشح

{نَسُواْ الله} أغفلوا ذكرَه

{فَنَسِيَهُمْ} فتركهم من رحمته وفضلِه وخذلَهم والتعبيرُ والتعبيرُ عنه بالنسيان للمشاكلة

{إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} الكاملونَ في التمرد والفسقِ الذي هو الخروجُ عن الطاعة والانسلاخُ عن كل خيرٍ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قوله تعالى

ص: 80

{نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود فيها

{هِىَ حَسْبُهُمْ} عقاباً وجزاءً وفيه دليلٌ على عظم عقابِها وعذابِها

{وَلَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط مالا يخفى

{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي نوعٌ من العذاب غيرَ عذابِ النار دائمٌ لا ينقطع أبداً أو لهم عذاب مقيم معهم في الدنيا لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من تعب النفاقِ الذي هم منه في بلية دائمةٍ لا يأمنون ساعةً من خوف الفضيحةِ ونزولِ العذاب إن اطُّلع عن أسرارهم

سورة براءة آية (69)

ص: 81

{كالذين مِن قَبْلِكُمْ} التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب للتشديد والكافُ في محلِ الرفعِ على الخبرية أي أنتم مثلُ الذين مِن قَبْلِكُمْ من الأممِ المهلَكة أو في حيزِ النصبِ بفعل مقدر أي فعلتم مثل فعل الذين مِن قبلكم

{كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا} تفسيرٌ وبيانٌ لِشَبَههم بهم وتمثيلٌ لحالهم بحالهم

{فاستمتعوا} تمتعوا وفي صيغة الاستفعالِ ما ليس في صيغة التفعل من الاستزادة والاستدامةِ في التمتع

{بخلاقهم} بنصيبهم من ملاذ الدنيا واشتقاقُه من الخَلْق بمعنى التقدير وهو ما قُدّر لصاحبه

{فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ} الكاف في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي استمتاعاً كاستمتاع

{الذين مِنْ قَبْلِكُم بخلاقهم} ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسةِ من الشهوات الفانيةِ والتهائِهم بها عن النظر في العواقب الحقةِ واللذائذ الحقيقيةِ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائِهم أثرَهم

{وَخُضْتُمْ} أي دخلتم في الباطل

{كالذي خَاضُواْ} أي كالذين بإسقاط النونِ أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه

{أولئك} إشارةٌ إلى المتَّصفين بالأوصاف المعدودةِ من المشبَّهين والمشبه بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حُبوطُ أعمالِ المشبهين وخسرانُهم مفهومَين ضمناً لا صريحاً ويؤدي إلى خلوّ تلوينِ الخطابِ عن الفائدة إذ الظاهرُ حينئذ أولئكم والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلُح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة

{حَبِطَتْ أعمالهم} ليس المرادُ بها أعمالَهم المعدودةَ كما يُشعر به التعبيرُ عنهم باسم الإشارةِ فإن غائلتَها غنيةٌ عن البيان بل أعمالَهم التي كانوا يستحقون بها أجوراً حسنةً لو قارنت الإيمان أي ضاعت وبطَلت بالكلية ولم يترتب عليها أثرٌ

{فِى الدنيا والاخرة} بطريق المثوبةِ والكرامةِ أما في الآخرة فظاهرٌ وأما في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحةِ والسعة وغيرِ ذلك حسبما ينبئ عنه قولُه عز وجل من كان يريد الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ليس ترتبُه عليها على طريقه المثوبةِ والكرامة بل بطريق الاستدراج

{وَأُوْلئِكَ} أي الموصوفون بحُبوط الأعمالِ في الدارين

{هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابِه طراً فإنه قد ذهبت رءوس أموالِهم التي هي أعمالُهم فيما ضرهم ولم ينفعهم قطّ ولو أنها ذهبت فيما لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا

ص: 81

ينفعهم لكفى بهم خسراناً وإيرادُ اسمِ الأشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصافِ المُشارِ إليها للحبوط والخسران

سورة براءة آية (70 71)

ص: 82

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي المنافقين

{نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خبرُهم الذي له شأن وهو ما فعلوا وما فُعل بهم والاستفهامُ للتقرير والتحذير

{قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} وهم قومُ شعيبٍ

{والمؤتفكات} قَرْياتُ قومِ لوطٍ ائتفَكَت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلَها وأُمطروا حجارةً من سجيل وقيل قريات المكذبين وائتفاكُهن انقلابُ أحوالِهن من الخير إلى الشر

{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} استئنافٌ لبيان نبئهم

{فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} الفاءُ للعطف على مقدر ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيهِ النظامُ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للمبالغة في تنزيه ساحة السبحان عن الظلم أي ما صح وما استقام له أن يظلِمهم ولكنهم ظلموا أنفسَهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقيل في قولِه عز وجل

{ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} للدِلالة على استمرار ظلمِهم حيث لم يزالوا يعرِّضونها للعقاب بالكفر والتكذيب وتقديمُ المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم على رأي مَن لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجيء لهذا مزيدُ بيان في قوله سبحانه إِنَّ الله لَا يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

ص: 82

{والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} بيانٌ لحسنِ حالِ المُؤمنين والمؤمنات حالاً ومآلاً إثرَ بيانِ قبحِ حالِ أضدادِهم عاجلاً وآجلاً والتعبيرُ عن نسبة هؤلاء بعضِهم إلى بعض بالولاية وعن نسبة أولئك بمن الاتصالية للإيذان بأن نسبةَ هؤلاء بطريق القرابة الدينيةِ المبنية على المعاقدة المستتبعةِ للآثار من المعونة والنصرة وغيرِ ذلك ونسبةُ أولئك بمقتضى الطبيعةِ والعادة

{يَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي جنسِ المعروف والمنكرِ المنتظمَين لكل خير وشر

{وَيُقِيمُونَ الصلاة} فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ماسبق من قوله تعالى نسُوا الله

{وَيُؤْتُونَ الزكاة} بمقابلة قوله تعالى وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ

{وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي وهو بمقابله وصفِ المنافقين بكمال الفسقِ والخروج عن الطاعة

{أولئك} إشارةٌ إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافِهم بما سلف من الصفات الفاضلة وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الفضل أي أولئكَ المنعُوتون بما فُصّل من النعوت الجليلة

{سَيَرْحَمُهُمُ الله} أي يُفيض عليهم آثارَ رحمتِه من التأييد والنصرة

ص: 82

البتة فإن السين مؤكدةٌ للوقوع كما في قولك سأنتقم منك

{أَنَّ الله عَزِيزٌ} تعليلٌ للوعد أي قويٌّ قادرٌّ على إعزاز أوليائه وقهر أعدائه

{حَكِيمٌ} يبني أحكامَه على أساس الحِكمةِ الداعيةِ إلى إيصال الحقوقِ من النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهلِ المعصية وهذا وعدٌ للمؤمنين متضمِّنٌ لوعيد المنافقين كما أن ما سبق في شأن المنافقين من قوله تعالى فَنَسِيَهُمْ وعيدٌ لهم متضمنٌ لوعد المؤمنين فإن منعَ لطفِه تعالى عنهم لطفٌ في حق المؤمنين

سورة براءة آية (72)

ص: 83

{وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} تفصيل لآثارِ رحمتهِ الأخرويةِ إثرَ ذكر رحمتِه الدنيوية والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادة التقرير والإشعارِ بعلية وصفِ الإيمان لحصول ما تعلق به الوعدُ وعدمُ التعرض لذكر ما مر من الأمر بالمعروف وغيرِ ذلك للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبِعاته أي وعَدهم وعداً شاملاً لكل أحدٍ منهم على اختلاف طبقاتِهم في مراتب الفضل كيفاً وكماً

{جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} فإن كلَّ أحد منهم فائزٌ بها لا محالة

{ومساكن طَيّبَةً} أي وعد بعضَ الخواصِّ الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش في الخبر أنها قصورٌ من اللؤلؤ والزبرجدِ والياقوتِ الأحمر

{فِى جنات عَدْنٍ} هي أبهى أماكنِ الجناتِ وأسناها عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عدْنٌ دارُ الله لم ترها عينٌ ولم تخطُرْ على قلب بشر لا يسكنها غيرُ ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك وعن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّ في الجنة قصراً يقال له عدْن حوله البروج والمروج وله خمسةُ آلاف باب على كل باب خمسةُ آلافِ حَوْراء لا يدخُله إلا نبيٌّ أو صدّيقٌ أو شهيد وعن ابن مسعود رضي الله عنه هي بُطنانُ الجنة وسُرَّتُها فعدن على هذا عَلَم وقيل هو بمعناه اللغوي أعني الإقامة والخلود فمرجِعُ العطفِ إلى اختلاف الوصفِ وتغايُرِه فكأنه وصَفه أولاً بأنه من جنس ما هو أشرفُ الأماكنِ المعروفة عندهم من الجنات ذاتِ الأنهار الجارية ليميل إليها طباعُهم أولُ ما يقرَعُ أسماعَهم ثم وصفه بأنه محفوفٌ بطيب العيشِ مُعرّى عن شوائب الكدوراتِ التي لا تكاد تخلو عنها أماكنُ الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفسُ وتلَذّ الأعينُ ثم وصفه بأنه دارُ إقامةٍ وثباتٍ في جوار العلّيين لا يعتريهم فيها فناءٌ ولا تغيُّرٌ ثم وعدهم بما هو أعلى من ذلك كله فقال

{ورضوان مّنَ الله} أي وشئ يسيرٌ من رضوانه تعالى

{أَكْبَرُ} إذ عليه يدور فوزُ كل خيرٍ وسعادة وبه يُناط نيلُ كلِّ شرفٍ وسيادة ولعل عدمَ نظمِه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحققٌ في ضمن كل موعودٍ ولأنه مستمرٌّ في الدارين روي أنه تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون مالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك قالوا وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك قال أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم أبداً

{ذلك} إشارةٌ إلى ما سبق ذكرُه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتِه في العِظَم والفخامة

{هُوَ الفوز العظيم} دون ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظرِ عن فنائها وتغيُّرِها وتنغُّصِها وتكدّرِها ليست

ص: 83

بالنسبة إلى أدنى شيءٍ من نعيم الآخرة بمثابة جناحِ البعوض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شربة ماء ونِعِمّا قال من قال

تالله لو كانت الدنيا بأجمعها

تبقي علينا ويأتي رزقُها رغَدا

ما كان من حق حر أن يدل بها فكيف وهي متاعٌ يضمحل غدا

سورة براءة آية (73 74)

ص: 84

{يا أيها النبى جاهد الكفار} أي المجاهرين منهم بالسيف

{والمنافقين} بالحجة وإقامة الحدود

{واغلظ عَلَيْهِمْ} في ذلك ولا تأخُذْك بهم رأفة قال عطاء نسَخت هذه الآيةُ كلَّ شيء من العفو والصفح

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مستأنفةٌ لبيان آجل أمرِهم إثرَ بيانِ عاجلِه وقيل حالية

{وَبِئْسَ المصير} تذييلٌ لما قبله والمخصوصُ بالذم محذوف

ص: 84

{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} استئنافٌ لبيان ما صدرَ عنهُم من الجرائمِ الموجبةِ لما مر من الأمر بالجهاد والغِلظة عليهم ودخولِ جهنم رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوكَ شهرين ينزلِ عليه القرآنُ ويَعيب المنافقين المتخلّفين فيسمعه مَنْ كان منهم معه صلى الله عليه وسلم فقال الجلاس بن سويد منهم لئن كانَ ما يقولُ محمدٌ حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا فنحن شرٌّ من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمداً لصادقٌ وأنت شرٌّ من الحمار فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستُحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامرٌ يده فقال اللهم أنزِل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزل وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في يحلفون لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على تكرير الحلف وصيغةُ الجمعِ في قالوا مع أن القائلَ هو الجلاس للإيذان بأن بقيتَهم برضاهم بقوله صاروا بمنزلة القائل

{وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي ما حُكي آنفاً والجملةُ مع ما عطف عليها اعتراضٌ

{وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} أي وأظهروا ما في قلوبِهِم منَ الكفر بعد إظهارِهم الإسلامَ

{وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ ينالُوا} هو الفنك برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه توافقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يدفعوه صلى الله عليه وسلم عن راحلته إذا تسنّم العقبةَ بالليل وكان عمارُ بنُ ياسر آخذاً بخِطام راحلته يقودها وحذيفةُ بنُ اليمان خلفها يسوقُها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفافِ الإبل وبقعقعة السلاحِ فالتفت فإذا قومٌ متلثّمون فقال إليكم إليكم يا أعداءَ الله فهربوا وقيل هم المنافقون همّوا بقتل عامر لرده على الجلاس وقيل أرادوا أن يتوِّجوا عبدَ اللَّه بن أبي بن سلول وإن لم يرضَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم

{وَمَا نَقَمُواْ} أي وما أنكروا وما عابوا أو وما وجدوا ما يورث نَقِمتَهم

{إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في غايةِ ما يكونُ من ضنْك العيشِ لا يركبون الخيلَ ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقُتل للجلاس مولى فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشَرَ ألفَ درهم فاستغنى والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ المفاعيلِ أو من أعمِّ العللِ أي وما

ص: 84

أنكروا شيئاً من الأشياءِ إلا أغناه الله تعالى إياهم أو وما أنكروا ما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم

{فَإِن يَتُوبُواْ} عمَّا هُم عليهِ من الكفر والنفاق

{يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} في الدارين قيل لما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الجلاس يَا رسولَ الله لقدْ عرض الله عليّ التوبةَ والله لقد قلت وصدق عامرٌ فتاب الجلاسُ وحسُنت توبته

{وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي استمروا على ما كانُوا عليهِ من التولي والإعراض عن الدين أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض

{يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا} بالقتل والأسرِ والنهب وغير ذلك من فنون العقوبات

{والاخرة} بالنار وغيرها من أفانين العقاب

{وَمَا لَهُمْ فِى الارض} مع سعتها وتباعُدِ أقطارِها وكثرة أهلِها المصحّحة لوجدان ما نفى بقوله عز وجل

{مِن وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ} ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة

سورة براءة آية (75 77)

ص: 85

{وَمِنْهُمُ} بيانٌ لقبائح بعضٍ آخرَ منهم

{مَّنْ عاهد الله لئن آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} لنؤتين الزكاةَ وغيرَها من الصدقات

{وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد الحج وقرئ بالنون الخفيفة فيهما قيل نزلت في ثعلبةَ بنِ حاطب أتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ يا رسولَ الله ادعُ الله أن يرزُقَني مالا فقال صلى الله عليه وسلم يا ثعلبةُ قليلٌ تؤدّي حقه خيرٌ من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذِي حقَ حقَّه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدودُ حتى ضاقت بها المدينةُ فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل كثرُ مالُه حتى لا يسعُه وادٍ فقال يا ويحَ ثعلبةَ فبعث مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناسُ بصدقاتهم ومرا بثعلبةَ فسألاه الصدقة وأقرآه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائضُ فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أختُ الجزية وقال ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قولِه عزَّ وجلَّ

ص: 85

{فلما آتاهم مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} أي منعوا حق الله منه

{وَتَوَلَّواْ} أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه يا ويحَ ثعلبةَ مرتين فنزلت فجاء ثعلبةُ بالصدقة فقال صلى الله عليه وسلم إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال صلى الله عليه وسلم هذا عملُك قد أمرتك فلم تطعني فقبض صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكرٍ رضي الله عنه فلم يقبلها وجاء بها إلى عمرَ رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمانَ رضي الله عنه وقيل نزلت فيه وفي سهل بن الحرث وجَدِّ بنِ قيس ومعتب بن قُشير والأول هو الأشهرُ

{وَهُم مُّعْرِضُونَ} جملة معترضة أي وهم قوم عادتُهم الإعراضُ أو حالية أي تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم

ص: 85

{فَأَعْقَبَهُمْ} أي جعل الله عاقبةَ فعلِهم ذلك

{نِفَاقاً} راسخاً

{فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} إلى يوم موتِهم الذي يلقون الله تعالى عنده أو يلقَون فيه جزاءَ عملِهم وهو يومُ القيامة وقيل فأورثهم البخلَ نفاقاً متمكناً في قلوبهم ولا يلائمه

ص: 85

قوله عز وجل

{بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إخلافِهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح

{وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي وبكونهم مستمرِّين على الكذب في جميع المقالاتِ التي من جملتها وعدُهم المذكورُ وتخصيصُ الكذبِ به يؤدّي إلى تخلية الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبلِ عن المزية فإن تسببَ الإعقابِ المذكورِ بالإخلاف والكذب يقضي بإسناده إلى الله عز وجل إذ لا معنى لكونهما سببين لأعقاب البخل النفاق والتحقيقُ أنه لما كانت الفاءُ الدالةُ على الترتيب والتفريعِ منبئةً عن ترتب إعقابِ النفاقِ المخلّدِ على أفعالهم المحكيةِ عنهم من المعاهدة بالتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض وفيها مالا دخل له في الترتب المذكور كالمعاهدة أزيح ما في ذلك من الإبهام بتعيين ما هو المدارُ في ذلك والله تعالى أعلم وقرئ بتشديد الذال

سورة براءة آية (78 79)

ص: 86

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء الفوقانية خطاباً للمؤمنين فالهمزةُ على الأول للإنكار والتوبيخِ والتهديد أي ألم يعلمُوا

{أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي ما أسرُّوا به في أنفسهم وما تناجَوا به فيما بينهم من المطاعن وتسميةِ الصدقةِ جزيةً وغيرِ ذلك مما لا خير فيه وسرُّ تقديمِ السر على النجوى سيظهر في قوله سبحانه وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة

{وَأَنَّ الله علام الغيوب} فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأشياء حتى اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم وإظهارُ اسمِ الجلالةِ في الموقعين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وفي إيراد العلم المتعلّق بسرهم ونجواهم بصيغة الفِعلِ الدالِّ على الحدوث والتجدد والعلمِ المتعلقِ بالغيوب الكثيرةِ الدائمةِ بصيغة الاسم الدالِّ على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة مالا يخفى وعلى الثاني لتقرير علم المؤمنين بذلك وتنبيههم على أنه تعالى مؤاخِذُهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم

ص: 86

{الذين يَلْمِزُونَ} نُصِب أو رُفع على الذم ويجوز جرُّه على البدليَّةِ من الضَّميرِ في سرَّهم ونجواهم وقرئ بضم الميم وهي لغة أي يعيبون

{المطوعين} أي المتطوعين المتبرِّعين

{مِنَ المؤمنين} حالٌ من المطّوعين وقوله تعالى

{فِي الصدقات} متعلق بيلمزون رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حث الناسَ على الصدقة فأتى عبدُ الرحمن بنُ عوف بأربعين أوقيةً من ذهب وقيل بأربعةِ آلافِ درهم وقال كان لي ثمانيةُ آلافٍ فأقرضتُ ربي أربعة وأمسكتُ لعيالي أربعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك له حتى صولحت تُماضِرُ رابعةُ نسائِه عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً وتصدق عاصمُ بنُ عدي بمائة وَسْقٍ من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر فقال بتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثُره على الصدقات فلمَزَهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبدُ الرحمن وعاصمٌ إلا رياءً وإنْ كان الله ورسولُه لغنيَّيْن عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكِّر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت

{وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَاّ جُهْدَهُمْ} عطف على المطوعين أي ويلمزون

ص: 86

الذين لا يجدون إلا طاقتهم وقرئ بفتح الجيم وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه وقيل هو بالضم الطاقةُ وبالفتح المشقة

{فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} عطف على يلمِزون أي يهزءون بهم والمرادُ بهم الفريقُ الأخير

{سَخِرَ الله مِنْهُمْ} إخبارٌ بمجازاته تعالى إياهم على ما فعلوا من السخرية والتعبيرُ عنها بذلك للمشاكلة

{وَلَهُمْ} أي ثابت لهم

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} التنوينُ للتهويل والتفخيم وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار

سورة براءة آية (80)

ص: 87

{استغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إخبارٌ باستواء الأمرَين الاستغفارُ لهم وتركُه في استحالة المغفرة وتصويرُه بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما كأنه صلى الله عليه وسلم أُمر بامتحان الحالِ بأن يستغفر تارة ويتركَ أخرى ليظهرَ له جليةُ الأمر كما مر في قوله عز وجل قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كرها لن يتقبل منكم

{إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} بيانٌ لاستحالة المغفرة بعد المبالغةِ في الاستغفار إثرَ بيانِ الاستواءِ بينه وبين عدمِه رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان من المخلِصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت فقال صلى الله عليه وسلم محافظةً على ما هو الأصلُ من أن مراتبَ الأعداد حدودٌ معينةٌ يخالف حكمُ كلَ منها حكمَ ما فوقها إن الله قد رخّص لي فسأزيد على السبعين فنزلت سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ وقد شاع استعمالُ السبعةِ والسبعين والسبعِمائةِ في مطلق التكثيرِ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العددِ فكأنها العددُ بأسره وقيل هي أكملُ الأعدادِ لجمعها معانيَها ولأن الستة أولُ عددٍ تامَ لتعادل أجزائِها الصحيحةِ إذ نصفُها ثلاثة وثلثُها اثنان وسدسُها واحد وجملتها ستةٌ وهي مع الواحد سبعةٌ فكانت كاملةً إذ لا مرتبةَ بعد التمام إلا الكمالُ ثم السبعون غايةُ الكمالِ إذ الآحادُ غايتُها العشرات والسبعُمائة غايةُ الغايات

{ذلك} إشارةٌ إلى امتناع المغفرةِ لهم ولو بعد المبالغةِ في الاستغفار أي ذلك الامتناعُ ليس لعدم الاعتدادِ باستغفارك بل

{بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم

{كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} كفراً متجاوزاً عن الحد كما يلوح به وصفُهم بالفسق في قولِه عز وجل

{والله لَا يَهْدِى القوم الفاسقين} فإن الفسقَ في كل شيء عبارةٌ عن التمرُّد والتجاوز عن حدوده أي لا يهديهم هدايةً مُوصلةً إلى المقصد البتةَ لمخالفة ذلك للحكمة التي عليها يدورُ فلكُ التكوين والتشريعِ وأما الهدايةُ بمعنى الدِلالة على ما يوصِل إليه فهي متحققةٌ لا محالة ولكنهم بسوء اختيارِهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا وهو تذييلٌ مؤكدٌ لما قبله من الحُكم فإن مغفرةَ الكافرِ إنما هي بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمتهمك فيه المطبوعُ عليه بمعزل من ذلك وفيه تنبيهٌ على عذر النبيِّ صلى الله عليه وسلم في استغفاره لهم وهو عدمُ يأسِه من إيمانهم حيث لم يعلم أنهم مطبوعون على الغي والضلالِ إذ الممنوعُ هو الاستغفارُ لهم بعد تبيُّن حالِهم كما سيتلى من قولهِ عز وجل مَا كَانَ لِلنَّبِىّ الآية

ص: 87

سورة براءة آية (81 82)

ص: 88

{فَرِحَ المخلفون} أي الذين خلفهم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القعود عند استئذانِهم أو خلّفهم الله بتثبيطه إياهم لِما علم في ذلك من الحِكمة الخفية أو خلّفهم كسلُهم أو نفاقُهم

{بِمَقْعَدِهِمْ} متعلقٌ بفرِحَ أي بقعودهم وتخلّفِهم عن الغزو

{خلاف رَسُولِ الله} أي خلفه وبعد خروجِه حيث خرج ولم يخرُجوا يقال أقام خلافَ الحيِّ أي بعدهم ظعنوا ولم يظعَن ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ خلف رسولِ الله فانتصابُه على أنه ظرفٌ لمقعدهم إذْ لا فائدةَ في تقييد فرحِهم بذلك وقيل هو بمعنى المخالفة ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ خلف رسول الله بضم الخاء فانتصابُه على أنَّه مفعولٌ له والعاملُ إما فرح أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما مقعدِهم أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم أو على أنه حالٌ والعامل أحدُ المذكورَيْن أي فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم أو فرحوا بالقعود مخالفين له صلى الله عليه وسلم

{وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} لا إيثار للدعةِ والخفْضِ على طاعة الله تعالى فقط بل مع ما في قلوبِهِم منَ الكفر والنفاقِ فإن إيثارَ أحدِ الأمرين قد يتحقق بأدنى رُجْحانٍ منه من غير أن يبلُغ الآخرُ مرتبةَ الكراهيةِ وإنما أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يقال وكرهوا أن يخرُجوا إلى الغزو إيذاناً بأن الجهادِ في سبيل الله مع كونه من أجلّ الرغائبِ وأشرفِ المطالبِ التي يجب أن يتنافسَ فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائحِ الذي هو القعودُ خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم

{وَقَالُواْ} أي لإخوانهم تثبيتاً لهم على التخلف والقعودِ وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العللِ الداعيةِ لهم إلى ما فرِحوا به من القعود فقد جمَعوا ثلاثَ خلالٍ من خصال الكفر والضلالِ الفرحُ بالقعودِ وكراهيةُ الجهاد ونهيُ الغير عن ذلك

{لَا تَنفِرُواْ فِى الحر} فإنه لا يستطاع شدّتُه

{قُلْ} رداً عليهم وتجهيلاً لهم

{نَارُ جَهَنَّمَ} التي ستدخُلونها بما فعلتم

{أَشَدُّ حَرّا} مما تحذرون من الحر المعهودِ وتحذّرون الناسَ منه فما لكم لا تحذَرونها وتعرِّضون أنفسَكم لها بإيثار القعودِ على النفير

{لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمور به مؤكدٌ لمضمونه وجوابُ لو إما مقدرٌ أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك أو كيف هي أو أن مآلُهم إليها لَما فعلوا ما فعلوا أو لتأثروا بهذا الإلزامِ وإما غيرُ منويَ على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحققِ مدخولِها أي لو كانوا من أهل الفَطانةِ والفِقه كما في قوله عز وجل قُلِ انظروا مَاذَا فِى السموات والارض وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ

ص: 88

{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} إخبارٌ عن عاجل أمرِهم وآجلِه من الضحِك القليلِ والبكاءِ الطويلِ المؤدِّي إليه أعمالُهم السيئةُ التي من جُملتها ما ذكر من الفرح والفاءُ لسببية ما سبق للإخبار بما ذُكر من الضحِك والبكاءِ لا لنفسهما إذ لا يُتصوَّر السببيةُ في الأول أصلاً وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية

ص: 88

أو الظرفية أي ضَحِكاً قليلاً وبكاءً كثيراً أو زمانا قليلا زمانا كثيراً وإخراجُه في صورة الأمرِ للدِلالة على تحتم وقوعِ المُخبَرِ به فإن أمرَ الآمرِ المطاعِ مما لا يكاد يتخلّف عنه المأمورُ به خلا أن المقصودَ إفادتُه في الأول هو وصفُ القِلة فقط وفي الثاني وصفُ الكثرةِ مع الموصوف يروى أن أهلَ النفاق يبكون في النار عمُرَ الدنيا لا يرفأ لهم دمعٌ ولا يكتحلون بنوم ويجوز أن يكون الضحِكُ كنايةً عن الفرح والبكاءُ عن الغم وأن تكون القِلةُ عبارةٌ عن العدمِ والكثرةُ عن الدوام

{جزاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} منَ فنون المعاصي والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا وجزاءً مفعولٌ له للفعل الثاني أي ليبكوا جزاءً أو مصدرٌ حُذف ناصبُه أي يُجزَون بما ذكر من البكاء الكثيرِ جزاءً بِمَا كَسَبُواْ من المعاصي المذكورة

سورة براءة آية (83 84)

ص: 89

{فَإِن رَّجَعَكَ الله} الفاء لتفريع الأمرِ الآتي على ما بيِّن من أمرهم والفعلُ من الرجْع المتعدّي دون الرجوع اللازم أي فإن ردّك الله تعالى

{إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} أي إلى المنافقين من المتخلفين في المدينة فإنّ تخلّف بعضهم إنما كان لعذر عائقٍ مع الإسلام أو إلى من بقيَ من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضُهم بالموت أو بالغَيبة عن البلد أو بأن لم يستأذِن البعضُ عن قتادة أنهم كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً قيل فيهم ما قيل

{فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتِك هذه

{فَقُلْ} إخراجاً لهم عن ديوان الغُزاةِ وإبعاداً لمحلهم عن محفِل صُحبتِك

{لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} من الأعداء وهو إخبارٌ في مَعْنى النهي للمبالغةِ وقد وقع كذلك

{إِنَّكُمْ} تعليلٌ لما سلف أي لأنكم

{رَضِيتُمْ بالقعود} أي عن الغزو وفرِحتم بذلك

{أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي غزوةُ تبوكَ

{فاقعدوا} الفاءُ لتفريع الأمرِ بالقعود بطريق العقوبةِ على ما صدرَ عنهُم من الرضا بالقعود أي إذ رضِيتم بالقعود أولَ مرة فاقعُدوا من بعدُ

{مَعَ الخالفين} أي المتخلّفين الذين ديدنُهم القعودُ والتخلفُ دائماً وقرئ الخَلِفين على القصر فكان محوُ أساميهم من دفتر المجاهدين ولزُّهم في قَرن الخالفين عقوبةً لهم أيَّ عقوبةٍ وتذكيرُ اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثرُ الدائرُ على الألسنة فإنَّك لا تكادُ تسمعُ قائلاً يقول هي كبرى امرأةٍ أو أُولى مرة

ص: 89

{وَلَا تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ} صفةٌ لأحد وإنما جيء بصيغة الماضي تنبيهاً على تحقق الوقوعِ لا محالة

{أَبَدًا} متعلقٌ بالنهي أي لا تدْعُ ولا تستغفرْ لهم أبداً

{وَلَا تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي لا تقِفْ عليه للدفن أو للزيارة والدعاء روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرِض رأسُ النفاق عبدُ الله بن أبي بن سَلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيَه فلما دخل عليه فقال صلى الله عليه وسلم أهلكك حبُّ اليهود فقالَ

ص: 89

يا رسول الله بعثتُ إليك لتستغفرَ لي لا لتؤنِّبني وسأله أن يكفِّنه في شِعاره الذي بلى جلدَه ويصليَ عليه فلما مات دعاه ابنُه وكان مؤمنا صالحا فأجابه صلى الله عليه وسلم تسليةً له ومراعاةً لجانبه وأرسل إليه قميصَه فكُفّن فيه فلما همّ بالصلاة أو صلّى نزلت وعن عمر رضي الله عنه أنَّه قال لما هلك عبد الله بن أبي ووضعناه ليصلى عليه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أتصلي على عدوّ الله القائلِ يومَ كذا كذا وكذا والقائلِ يوم كذا كذا وكذا وعدّدتُ أيامه الخبيثة فتبسم صلى الله عليه وسلم وصلى عليه ثم مشى معه وقام على حُفرته حتى دفن فو الله ما لبث إلا يسيراً حتى نزل وَلَا تُصَلّ الخ فما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره وإنما لم يُنْهَ عن التكفين بقميصه صلى الله عليه وسلم لأن الضنَّةَ بالقميص كانت مظِنّةَ الإخلالِ بالكرم على أنه كان مكافأةً لقميصه الذي كان ألبسه العباسَ رضي الله تعالى عنه حين أُسر ببدر والخبرُ مشهور

{إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} تعليلٌ للنَّهِي عَلى مَعْنى أن الاستغفارَ للميت والوقوفَ على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيلٌ في حقهم لأنهم استمرّوا على الكفر بالله ورسوله مدةَ حياتِهم

{وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون} أي متمرِّدون في الكفر خارجون عن حدوده كما بين من معنى الفسق

سورة براءة آية (85 86)

ص: 90

{وَلَا تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم} تكريرٌ لما سبق وتقريرٌ لمضمونه بالإخبار بوقوعه ويجوز أن يكون هذا في حق فريقٍ غيرِ الفريقِ الأولِ وتقديمُ الأموالِ في أمثالِ هذهِ المواقعِ على الأولاد مع كونهم أعزَّ منها إما لعموم مِساسِ الحاجةِ إليها بحسب الذاتِ وبحسب الأفراد والأوقات فإنها مما لا بد منه لكل أحدٍ من الآباء والأمهاتِ والأولادِ في كل وقت وحينٍ حتى إن من له أولادٌ ولا مالَ له فهو وأولادُه في ضيق ونَكالٍ وأما الأولادُ فإنما يَرغب فيهم مَنْ بلغ مبلغَ الأُبوةِ وإما لأن المالَ مناطٌ لبقاء النفسِ والأولادُ لبقاء النوعِ وإما لأنها أقدمُ في الوجود من الأولاد لأن الأجزاءَ المَنويةَ إنما تحصُل من الأغذية كما سيأتي في سورة الكهف

{إنما يريد الله} بما متعهم به من الأموال والأولاد

{أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا} بسبب معاناتِهم المشاقَّ ومكابدتِهم الشدائدَ في شأنها

{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها والالتهاء عن النظر والتدبّرِ في العواقب

ص: 90

{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن ويجوزُ أنْ يُرادَ بها بعضُها

{أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ} أنْ مفسرةٌ لما في الإنزال من معنى القولِ والوحي أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ أي بأن آمِنوا

{وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ} لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه

{استأذنك أُوْلُواْ الطول منهم} أي ذوو الفضل والسَّعةِ والقُدرة على الجهاد بدناً ومالاً

{وَقَالُواْ} عطفٌ تفسيريٌّ لاستأذنك مغنٍ عن ذكر ما استأذنوا فيه يعني القعودَ

{ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين}

ص: 90

أي الذين قعدوا عنِ الغزوِ لِما بِهمْ من عذر

سورة براءة آية (87 90)

ص: 91

{رَضُواْ} استئنافٌ لبيان سوءِ صنيعِهم وعدمِ امتثالِهم لكلا الأمرين وإن لم يرُدّوا الأول صريحاً

{بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} مع النساء اللاتي شأنُهن القعودُ ولزومُ البيوتِ جمعُ خالفةٍ وقيل الخالفةُ من لا خير فيه

{وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فهم} بسبب ذلك

{لا يَفْقَهُونَ} ما في الإيمان بالله وطاعتِه في أوامره ونواهيه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والجهادِ من السعادة وما في أضداد ذلك من الشقاوة

ص: 91

{لكن الرسول والذين آمنوا مَعَهُ} بالله وبما جاء من عنده تعالى وفيه إيذانٌ بأنهم ليسوا من الإيمان بالله في شيء وإن لم يُعرضوا عنه صريحاً إعراضَهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود

{جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} أي إنْ تخلّف هؤلاء عن الغزو فقد نهَدَ إليه ونهضَ له من هو خيرٌ منهم وأخلصُ نيةً ومعتقَداً وأقاموا أمرَ الجهادِ بكلا نوعيه كقوله تعالى فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين

{وَأُوْلئِكَ} المنعوتون بالنعوت الجليلة

{لَهُمْ} بواسطة نعوتِهم المزبورة

{الخَيْرَاتِ} أي منافعُ الدارين النصرُ والغنيمةُ في الدنيا والجنةُ والكرامة في العُقبى وقيل الحورُ كقوله عز قائلاً فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ وهي جمعُ خَيْرة تخفيف خيّرة

{وأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون بالمطلوب لا مَنْ حاز بعضاً من الحظوظ الفانية عما قليل وتكريرُ اسمِ الإشارة تنويهٌ لشأنهم وربْءٌ لمكانهم

ص: 91

{أَعَدَّ الله لَهُمْ} استئنافٌ لبيان كونِهم مفلحين أي هيأ لهم في الآخرةِ

{جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المجرور والعامل أعدّ

{ذلك} إشارةٌ إلى ما فُهم من إعداد الله سبحانه لهم الجناتِ المذكورةَ من نيل الكرامةِ العظمى

{الفوز العظيم} الذِي لَا فوز وراءه

ص: 91

{وَجَاء المعذرون مِنَ الاعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} شروعٌ في بيان أحوالِ منافقي الأعرابِ إثرَ بيانِ منافقي أهلِ المدينةِ والمعذّرون من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجدو حقيقته أن يوهِمَ أن له عذراً فيما يفعل ولا عذرَ له أو المعتذرون بإدغام التاءِ في الذال ونقلِ حركتِها إلى العين وهم المعتذرون بالباطل وقرئ المُعْذِرون من الإعذار وهو الاجتهاد في العذرُ والاحتشادُ فيه قيل هم أسَدٌ وغطَفانُ قالوا إن لنا عيالاً وإن بنا لجَهداً فأذن لنا في التخلف وقيل هم رهطُ عامِر بنِ الطفيل قالوا إن غزَوْنا معك أغارت أعرابُ طيءٍ على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وسلم

ص: 91

سيغنيني الله تعالى عنكم وعن مجاهد نفرٌ من غِفارٍ اعتذروا فلم يعذُرهم الله سبحانه وعن قتادة اعتذروا بالكذب وقرئ المُعّذّرون بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحنٌ إذ التاءُ لا تُدغم في العين إدغامها في الطاء والزاء والصاد في المطّوعين وازّكى واصّدق وقيل أريد بهم المعتذرون بالصحة وبه فُسّر المعذّرون والمُعْذِرون أي الذين لم يُفرطوا في العذر

{وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله ورسوله} وهم منافقو الأعرابِ الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمانَ والطاعة

{سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} أي من الأعراب أو من المعذّرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره

{عَذَابٌ أَلِيمٌ} بالقتل والأسرِ في الدنيا والنارِ في الآخرة

سورة براءة آية (91 92)

ص: 92

{لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلَا على المرضى} كالهرمى والزَّمْنى

{وَلَا عَلَى الذين لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} لفقرهم كمُزَينةَ وجُهينة وبني عذرة

{حَرَجٌ} إثمٌ في التخلف

{إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وهو عبارةٌ عن الإيمان بهما والطاعةِ لهما في السر والعلنِ وتولِّيهما في السراء والضراءِ والحبِّ فيهما والبغضِ فيهما كما يفعل المَوْلى الناصحُ بصاحبه

{مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما سبق أي ليس عليهم جناحٌ ولا إلى معاتبتهم سبيلٌ ومن مزيدةٌ للتأكيد ووضْعُ المحسنين موضِعَ الضمير للدِلالة على انتظامهم بنُصحهم لله ورسولِه في سلك المحسنين أو تعليلٌ لنفي الحرجِ عنهم أي ما على جنس المحسنين من سبيل وهم من جملتهم

{والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مؤيدٌ لمضمون ما ذُكر مشيرٌ إلى أن بهم حاجةً إلى المغفرة وإن كان تخلُّفهم بعذر

ص: 92

{وَلَا عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} عطفٌ على المحسنين كما يُؤذِن به قوله عز وجل فيما سيأتي إِنَّمَا السبيل الآية وقيل عطفٌ على الضعفاء وهم البكاءون سبعةٌ من الأنصار معقِلُ بن يسار وصخر ابن خنساءَ وعبدُ اللَّه بنُ كعبٍ وسالمُ بنُ عميرٍ وثعلبةُ بنُ غنمةَ وعبدُ اللَّه بنُ معقِلٍ وعلبةُ بنُ زيد أتوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نذرْنا الخروجَ فاحمِلنا على الخِفافِ المرقوعة والنعالِ المخصوفة نغْزُ معك فقال صلى الله عليه وسلم لا أجد فتولَّوا وهم يبكون وقيل هم بنو مقر معقِلٌ وسويدٌ ونُعمانُ وقيل أبو موسى الأشعريُّ وأصحابُه رضي الله تعالى عنهم

{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} حالٌ من الكاف في أتوك بإضمار قد وما عامةٌ لِما سألوه صلى الله عليه وسلم وغيرَه مما يُحمل عليه عادة وفي إيثار لا أجد على ليس عندي من تلطيف الكلامِ وتطييبِ قلوبِ السائلين ما لا يخفى كأنه صلى الله عليه وسلم يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده

{تَوَلَّوْاْ} جوابُ إذا

{وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} أي تسيل بشدة

{مِنَ الدمع} أي دمعاً فإن من البيانية مع مجرورها في حيز النصبِ على التمييز وهو أبلغُ من يفيض دمعُها لإفادتها أن العينَ بعينها صارت دمعاً فيّاضاً والجملةُ حاليةٌ وقوله عزّ اسمُه

{حَزَناً} نُصب على العِلّية أو الحالية أو المصدرية لفعل دلَّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ تفيض للحزن فإن الحزنَ يُسند إلى العين مجازاً

ص: 92

كالفيض أو تولوا له أو حزِنين أو يحزنون حزناً فتكون هذه الجملةُ حالاً من الضمير في تفيض

{أَلَاّ يَجِدُواْ} على حذف لامٍ متعلقة بحَزَناً أو تفيض أي لئلا يجدوا

{مَا يُنْفِقُونَ} في شراء ما يحتاجون إليه إذ لم يجدوه عندك

سورة براءة آية (93 94)

ص: 93

{إِنَّمَا السبيل} بالمعاتبة

{عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف

{وَهُمْ أَغْنِيَاء} واجدون لأُهبة الغزوِ مع سلامتهم

{رَضُواْ} استئنافٌ تعليليٌّ لما سبق كأنه قيلَ ما بالُهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا

{بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} الذين شأنُهم الضَّعة والدناءة

{وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} أي خذلهم فغفَلوا عن وخامة العاقبة

{فَهُمُ} بسبب ذلك

{لَاّ يَعْلَمُونَ} أبداً غائلةَ ما رضُوا به وما يستتبعه آجلاً كما لم يعلموا بخساسة شأنِه عاجلاً

ص: 93

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} استئنافٌ لبيان ما يتصدرون له عند القفولِ إليهم روي أنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلاً فلما رجع صلى الله عليه وسلم إليهم جاءوا يعتذرون إليه بالباطل والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضاً لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط أي يعتذرون إليكم في التخلف

{إِذَا رَجَعْتُمْ} من الغزو منتهين

{إِلَيْهِمُ} وإنما لم يقل إلى المدينة إيذاناً بأن مدارَ الاعتذار هو الرجوعُ إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم مَنْ بادر إلى الاعتذار قبل الرجوعِ إليها

{قُلْ} تخصيصُ هذا الخطابِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه فيما سبق لأصحابه أيضاً لِما أن الجواب وظيفته صلى الله عليه وسلم وأما اعتذارُهم فكان شاملاً للمسلمين شمولَ الرجوعِ لهم

{لَا تَعْتَذِرُواْ} أي لا تفعلوا الاعتذارَ كقوله تعالى اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير وأما التعرُّضُ لعنوان كذبها فلا يساعُده قوله تعالى

{لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدِّقَكم في ذلك أبداً فإنه استئنافٌ تعليليٌّ للنهي مبني على سؤال نشأ من قِبَلهم متفرّعٌ على ادعاء الصّدقِ في الاعتذار كأنهم قالوا لم لا نعتذر فقيل لأنا لا نصدقكم أبداً فيكون عبثاً إذ لا يترتب عليه غرض المعتذر وقوله عز وجل

{قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليلٌ لانتفاء التصديقِ أي أُعلِمْنا بالوحي بعضَ أخباركم المنافيةِ للتصديق مما باشرتموه من الشر والفساد وأضمرتموه في ضمائركم وهيأتموه للإبراز في معرِض الاعتذارِ من الأكاذيب وجمعُ ضميرِ المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماعِهم من التصديق رأساً ببيان عدمِ رواج اعتذارِهم عند أحدٍ من المؤمنين أصلاً فإن تصديقَ البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسولِ أيضا صلى الله عليه وسلم بواسطة المصدِّقين وللإيذان بأن افتضاحَهم بين المؤمنين كافة

{وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} فيما سيأتي أتُنيبون إليه تعالى مما أنتم فيه من النفاق أم تثبُتون وكأنه استتابةٌ وإمهالٌ للتوبة وتقديمُ مفعول الرؤية على ما عطف على فاعله من قوله تعالى

{وَرَسُولُهُ} للإيذان باختلاف حالِ الرؤيتين وتفاوتِهما وللإشعار بأن مدارَ الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم

{ثُمَّ تُرَدُّونَ} يوم القيامة

{إلى عالم الغيب والشهادة}

ص: 93

للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ووضعُ المُظهرِ موضعَ المضمرِ لتشديد الوعيدِ فإن علمَه سبحانه وتعالى بجميع أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ وإحاطتَه بأحوالهم البارزةِ والكامنةِ مما يوجب الزجرَ العظيم

{فَيُنَبّئُكُمْ} عند ردِّكم إليه ووقوفِكم بين يديه

{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بما كنتُم تعملونَهُ في الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئةِ السابقةِ واللاحقة على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوفٌ أو بعملكم المستمر على أنها مصدريةٌ والمرادُ بالتنبئة بذلك المجازاةُ به وإيثارُها عليها لمراعاة ما سبقَ من قولِه تعالى قَدْ نَبَّأَنَا الله الخ فإن المنبأَ به الأخبارُ المتعلِّقةُ بأعمالهم وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالِهم وإنما يعلمونها يومئذ

سورة براءة آية (95 96)

ص: 94

{سيحلفون بالله لكم} تأكيد لمعاذيرهم الكاذبةِ وتقريراً لها والسين للتأكيد والمحلوفُ عليه محذوف يدل عليه الكلام وهو ما اعتذروا به من الأكاذيب والجملةُ بدلٌ من يعتذرون أو بيانٌ له

{إِذَا انقلبتم} أي انصرفتم من الغزو

{إِلَيْهِمُ} ومعنى الانقلابِ هو الرجوعُ والانصرافُ مع زيادة معنى الوصولِ والاستيلاء وفائدةُ تقييدِ حَلفِهم به الإيذانُ بأنه ليس لدفع ما خاطبهم النبيِّ صلى الله عليه وسلم به من قولهِ تعالَى لَاّ تَعْتَذِرُواْ الخ بل هو أمر مبتدأ

{لِتُعْرِضُواْ} وتصفحوا

{عَنْهُمْ} صفحَ رضا فلا توبّخوهم ولا تعاتبوهم كما يُفصح عنه قولُه تعالى لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ

{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} لكن لا إعراضَ رضا كما هو طِلْبتُهم بل إعراضَ اجتنابٍ ومقتٍ كما يعرب عنه قوله عز وجل

{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} فإنه صريحٌ في أن المرادَ بالإعراض عنهم إما الاجتنابُ عنهم لما فيهم من الرجس الروحاني وإما تركُ استصلاحِهم بترك المعاتبةِ لأن المقصودَ بها التطهيرُ بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاسٌ لا تقبل التطهير فلا يُتعرّضُ لهم بها وقوله عز وعلا

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} إما من تمام التعليلِ فإن كونَهم من أهل النارِ من دواعي الاجتناب عنهم وموجباتِ تركِ استصلاحِهم باللوم والعتاب وإما تعليلٌ مستقلٌ أي وكفتْهم النارُ عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا أنتم في ذلك

{جَزَاء} نُصبَ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد لفعل مقدر من لفظه وقع حالاً أي يُجزَون جزاءً أو لمضمون الجملةِ السابقة فإنها مفيدةٌ لمعنى المجازاةِ قطعاً كأنه قيل مجزيّون جزاءً

{بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} فى الدنيا من فنون السيئاتِ أو على أنَّه مفعولٌ له

ص: 94

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بدلٌ مما سبق وعدمُ ذكر المحلوفِ به لظهوره أي يحلفون به تعالى

{لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم

{فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} حسبما راموا وساعدتموهم في ذلك

{فَإِنَّ الله لَا يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي فإن رضاكم عنهم لا يُجديهم نفعاً لأن الله ساخطٌ عليهم ولا أثرَ لرضاكم عند سخطِه سبحانه ووضعُ الفاسقين موضعَ ضميرِهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبِ لما حلَّ بهم من السُخط وللإيذان بشمول الحُكمِ لمن شاركهم في ذلك والمرادُ به نهيُ المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترارِ بمعاذيرهم الكاذبةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن الرضا عمن لا يرضى

ص: 94

عنه الله تعالى ممَّا لا يكادُ يصدُرُ عن المؤمن وقيل إنما قيل ذلك لئلا يَتوهمَ متوهمٌ أن رضا المؤمنين من دواعي رضا الله تعالى قيل هم جدُّ بنُ قيس ومعتب بن قشير وأصحابُهما وكانوا ثمانين منافقاً فقال النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حين قدم المدينةَ لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقيل جاء عبد اللَّه بن أبي يحلف أنْ لا يتخلفُ عنه أبداً

سورة براءة آية (97 98)

ص: 95

{الاعراب} هي صيغةُ جمعٍ وليست بجمع للعرب قاله سيبويه لئلا يلزمَ كونُ الجمع أخصَّ من الواحد فإن العربَ هو هذا الجيلُ الخاصُّ سواء سكنَ البواديَ أم القرى وأما الأعرابُ فلا يطلق إلا على من يسكن البواديَ ولهذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابيٌّ وقال أهلُ اللغة رجلٌ عربيٌ وجمعُه العَرَبُ كما يقال مَجوسيٌّ ويهوديٌّ ثم يحذف ياء النسب في الجمع فيقال المجوس واليهود ورجلٌ أعرابي ويجمع على الأعراب والأعاريب أي أصحاب البدو

{أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضَر لجفائهم وقسوةِ قلوبهم وتوحُّشهم ونشئِهم في معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم وهذا من باب وصف الجنسِ بوصف بعض أفرادِه كما في قوله تعالى وَكَانَ الإنسان كَفُورًا إذ ليس كلُّهم كما ذُكر على ما ستحيط به خُبراً

{وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُواْ} أي أحقُّ وأخلقُ بأن لا يعلموا

{حُدُودَ ما أنزل الله على رَسُولِهِ} لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وحِرمانِهم من مشاهدة معجزاتِه ومعاينةِ ما ينزل عليه من الشرائع في تضاعيف الكتابِ والسنة

{والله عَلِيمٌ} بأحوال كلَ من أهل الوَبر والمدَر

{حَكِيمٌ} فيما يصيب به مسيئَهم ومحسنَهم من العقاب والثواب

ص: 95

{وَمِنَ الاعراب} شروعٌ في بيان تشعّبِ جنسِ الأعرابِ إلى فريقين وعدم انحصارِهم في الفريق المذكورِ كما يتراءى من ظاهر النظمِ الكريمِ وشرحٌ لبعض مثالبِ هؤلاء المتفرعةِ على الكفر والنفاق بعد بيانِ تماديهم فيهما وحملُ الأعراب على الفريق المذكورِ خاصةً وإن ساعده كونُ من يحكي حالَه بعضاً منهم وهم الذين بصدد الإنفاقِ من أهل النفاقِ دون فقرائِهم أو أعرابِ أسدٍ وغطفانَ وتميم كما قيل لكن لا يساعدُه ما سيأتِي من قولِه تعالى وَمَن الاعراب مَن يُؤْمِنُ الخ فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعاً وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعرابِ الذي نُعت بنعت بعض أفراده

{مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} من المال أي يعُدّ ما يصرِفه في سبيل الله ويتصدق به صورةً

{مَغْرَمًا} أي غرامةً وخُسراناً لازماً إذ لا ينفقه احتساباً ورجاءً لثواب الله تعالى ليكون له مغنماً وإنما ينفقه رياءً وتقيّةً فهي غرامةٌ محضةٌ وما في صيغة الاتخاذِ من معنى الاختيارِ والانتفاعِ بما يتخذ إنما هو باعتبار غرضِ المنفقِ من الرياء والتقيةِ لا باعتبار ذاتٍ النفقة أعني كونَها غرامة

{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أصلُ الدائرة ما يحيط بالشيء والمرادُ بها ما لا

ص: 95

محيص عنه من مصائب الدهرِ أي ينتظر بكم دوائرَ الدهرِ ونُوَبَه ودَوَلَه ليذهب غلَبتُكم عليه فليتخلص مما ابتُلي به

{عَلَيْهِمْ دائرة السوء} دعا عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بعد قول اليهود ما قالوا والسوءُ مصدرٌ ثم أطلق على كل ضُرَ وشر وأضيفت إليه الدائرةُ ذماً كما يقال رجلُ سوءٍ لأن مَن دارت عليه يذمّها وهي من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ثم أضيفت إلى صفتها كقوله عز وجل مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وقيل معنى الدائرةِ يقتضي معنى السَّوءِ فإنما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ كما قالوا شمسُ النهارِ ولحيا رأسه وقرئ بالضم وهو العذابُ كما قيل له سيئة

{والله سَمِيعٌ} لما يقولونه عند الإنفاقِ مما لا خيرَ فيه

{عَلِيمٌ} بما يُضمِرونه من الأمور الفاسدةِ التي من جُمْلتها أن يتربّصوا بكم الدوائر وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفي

سورة براءة آية (99)

ص: 96

{وَمِنَ الاعراب} أي من جنسهم على الإطلاق

{مَن يؤمنُ بالله واليومِ الآخر وَيَتَّخِذُ} أي يأخذ لنفسه على وجه الاصطفاءِ والادخارِ

{مَا يُنفِقُ} أي ينفقه في سبيلِ الله تعالى

{قربات} أي ذرائعَ إليها وللإيذان بما بينهما من كمال الاختصاصِ جُعل كأنه نفسُ القرُبات والجمعُ باعتبار أنواعِ القرُباتِ أو أفرادِها وهي ثاني مفعولَي يتخذ وقوله تعالى

{عند الله} صفتُها أو ظرفٌ ليتخذ

{وصلوات الرسول} أي وسائلَ إليها فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدِّقين بالخير والبركة ويستغفرُ لهم ولذلك سُنّ للمُصدِّق أن يدعوَ للمتصدِّق عند أخذِ صدقتِه لكن ليس له أن يصليَ عليه كما فعله صلى الله عليه وسلم حين قال اللهم صلَّ على آل أبي أو في ذلك منصِبُه فله أن يتفضلَ به على من يشاء والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ في الفريق الأخيرِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لبيان الفرقِ بين الفريقين في شأن اتخاذِ ما ينفقانه حالاً ومآلاً وأن ذكرَ اتخاذِه ذريعةً إلى القربات والصلوات مغنٍ عن التصريح بذلك لكمال العنايةِ بإيمانهم وبيانِ اتصافِهم به وزيادةِ الاعتناءِ بتحقيق الفرق بين الفريقين من أول الأمرِ وَإِمَّا الفريقُ الأولُ فاتصافُهم بالكفر والنفاقِ معلومٌ من سياق النظم الكريمِ صريحاً

{أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} شهادةٌ لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديقٌ لرجائهم والضميرُ لما ينفَق والتأنيثُ باعتبار الخبرِ مع ما مر من تعدّده بأحد الوجهين والتنكيرُ للتفخيم المغني عن الجمع أي قربةٌ عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها وفي إيراد الجملةِ اسميةً وتصديرِها بحرفي التنبيةِ والتحقيقِ من الجزالة ما لا يخفي والاقتصار على بيان كونِها قربةً لهم لأنها الغايةُ القصوى وصلواتُ الرسول من ذرائعها وقوله تعالى

{سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ} وعدٌ لهم بإحاطة رحمتِه الواسعةِ بهم وتفسيرٌ للقربة كما أن قوله عز وعلا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيدٌ للأولين عَقيبَ الدعاءِ عليهم والسينُ للدلالة على تحقق ذلك وتقررِه البتةَ وقوله تعالى

{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليلٌ لتحقق الوعدِ على نهج الاستئنافِ التحقيقيّ قيل هذا في عبد اللَّه ذي البجادَيْن وقومِه وقيل في بني مُقَرِّنٍ من مُزينةَ وقيل في أسلمَ وغِفارٍ وجهُينةَ وروى أبو هريرةَ

ص: 96

رضيَ الله عنه أنَّه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسلمُ وغفارٌ وشيءٌ من جُهينةَ ومُزينةَ خيرٌ عند الله يومَ القيامة من تميمٍ وأسدِ بنِ خزيمةَ وهوازن وغطفان

سورة براءة آية (100 101)

ص: 97

{والسابقون الاولون مِنَ المهاجرين} بيانٌ لفضائل أشرافِ المسلمين إثرَ بيانِ فضيلةِ طائفةٍ منهم والمرادُ بهم الذينَ صلَّوا إلى القبلتينِ أو الذين شهِدوا بدْراً أو الذين أسلموا قبل الهجرة

{والانصار} أهلُ بَيْعةِ العقبةِ الأولى وكانوا سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلا والذي آمنوا حين قدم عليهم أبو زُرارةَ مصعبُ بنُ عمير وقرىء بالرفع عطفا على والسابقون

{والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي ملتبسين به والمرادُ به كلُّ خَصلةٍ حسنة وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن مَنْ تبعيضيةٌ أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعةِ إلى يوم القيامة فالمرادُ بالسابقين جميعُ المهاجرين والأنصارِ ومن بيانية

{رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} خبر للمبتدأ أي رضي الله عنهم بقَبول طاعتِهم وارتضاءِ أعمالِهم

{وَرَضُواْ عَنْهُ} بما نالوه من رضاه المستتبِعِ لجميع المطالبِ طراً

{وَأَعَدَّ لَهُمْ} في الآخرةِ

{جنات تَجْرِى تحتها الأنهار} وقرئ من تحتها كما في سائر المواقع

{خالدين فِيهَا أبدا} من غير انتهاء

{ذلك الفوز العظيم} الذِي لَا فوزَ وراءه وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لبيان بُعدِ منزلتِهم في مراتب الفضلِ وعظمِ الدرجةِ من مؤمني الأعراب

ص: 97

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاعراب} شروعٌ في بيان أحوالِ منافقي أهلِ المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيانِ حالِ أهلِ الباديةِ منهم أي ممن حول بلدتِكم

{منافقون} وهم جهينةُ ومزينةُ وأسلمُ وأشجَعُ وغفارٌ كانوا نازلين حولها

{وَمِنْ أَهْلِ المدينة} عطفٌ على ممن حولكم عطفَ مفردٍ على مفرد وقوله تعالى

{مَرَدُواْ عَلَى النفاق} إما جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ لبيان غلوِّهم في النفاق إثرَ بيانِ اتصافِهم به وإما صفةٌ للمبتدأ المذكورِ فُصل بينها وبينه بما عُطفَ على خبره وإن صفةٌ لمحذوف أقيمت هي مُقامه وهو مبتدأ خبرُه من أهل المدينة كما في قوله

إِنَّا ابن جلا وطلاع الثنايا

والجملةُ عطف على الجملة السابقة أي ومن أهل المدينةِ قومٌ مردوا على النفاق أي تمهّروا فيه من مرَن فلانٌ على عمله ومرَد عليه إذا درب به وضرِي حتى لانَ عليه ومهَر فيه غير أن مرَدَ لا يكادُ يُستعمل إلا في الشر فالتمرّدُ على الوجهين الأولين شاملٌ للفريقين حسب شمولِ النفاقِ وعلى الوجه الأخير خاصٌّ بمنافقي أهلِ المدينةِ وهو الأظهر والأنسبُ بذكر منافقي أهلِ البادية أولاً ثم ذكرِ منافقي الأعرابِ المجاورين للمدينة ثم ذكرِ منافقي أهلِها والله تعالى أعلم وقوله عز شأنه

{لَا تَعْلَمُهُمْ} بيانٌ لتمرّدهم أي لا تعرفِهم أنت لكن لا بأعيانهم وأسمائِهم وأنسابِهم بل بعنوان نفاقِهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوُّق في مراعاة التقيةِ

ص: 97

والتحامي عن مواقع التهم إلى مبلغ يخفى عليك حالُهم مع ما أنت عليه من علو الكعبِ وسموِّ الطبقة في كمال الفِطنةِ وصِدقِ الفِراسةِ وفي تعليق نفي العلمِ بهم مع أنه متعلقٌ بحالهم مبالغةٌ في ذلك وإيماءٌ إلى أنَّ ما هُم فيهِ من صفة النفاقِ لعَراقتهم ورسوخِهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتِهم أو مشخَّصاتِهم بحيث لا يُعَدّ من لا يعرِفهم بتلك الصفة عالماً بهم وحُمل عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم على عدم علمِه صلى الله عليه وسلم بعد مجيء هذا البيانِ على أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن فيهم منافقين لكن لا يعلمهم بأعيانهم مع كونِه خلافَ الظاهرِ عارٍ عما ذكر من المبالغة وقوله عز وجل

{نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} تقريرٌ لما سبقَ من مهارتهم في فن النفاقِ أي لا يقف على سرائرهم المركوزةِ في ضمائرهم إلا مَنْ لا تَخفى عليهِ خافيةٌ لِما هم عليه من شدة الاهتمامِ بإبطان الكفرِ وإظهارِ الإخلاصِ وفي تعليق العلمِ بهم مع أن المقصودَ بيانُ تعلقِه بحالهم ما مر في تعليق نفيِه بهم وقولُه عز شأنُه

{سَنُعَذّبُهُم} وعيدٌ لهم وتحقيقٌ لعذابهم حسبما علم الله فيهم من موجباته والسين للتأكيد

{مَّرَّتَيْنِ} عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قام خطيباً يوم الجمعة فقال اخرُجْ يا فلانُ فإنك منافقٌ اخرجْ يا فلان فإنك منافقٌ فأخرج ناسا وفضحهم فهذا هو العذابُ الأولُ والثاني إما القتلُ وإما عذابُ القبرِ أو الأولُ هو القتلُ والثاني عذابُ القبرِ أو الأولُ أخذُ الزكاةِ لما أنهم يعُدّونها مغرماً بحتاً والثاني نهكُ الأبدان وإتعابُها بالطاعات الفارغةِ عن الثواب ولعل تكريرَ عذابِهم لما فيهم من الكفر المشفوعِ بالنفاق أو النفاقِ المؤكدِ بالتمرد فيه ويجوز أن يكون المرادُ بالمرتين مجردَ التكثيرُ كما في قوله تعالى فارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرةً بعد أخرى

{ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة

{إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} هو عذابُ النارِ وفي تغيير السبكِ بإسناد عذابِهم السابقِ إلى نونِ العظمةِ حسب إسنادِ ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالاً وأن الأولَ خاصٌّ بهم وقوعاً وزماناً يتولاه سبحانه وتعالى والثاني شاملٌ لعامة الكفرةِ وقوعاً وزماناً وإن اختلفت طبقاتُ عذابِهم

سورة براءة آية (102)

ص: 98

{وآخرون} بيانٌ لحال طائفةٍ من المسلمين ضعيفةِ الهِمَمِ في أمور الدينِ وهو عطفٌ على منافقون أي ومنهم يعني وممن حولَكم ومن أهل المدينة قومٌ آخرون

{اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} التي هي تخلُّفهم عن الغزو وأيثارُ الدعةِ عليه والرضا بسوء جِوارِ المنافقين وندموا على ذلك ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبةِ ولم يُخفوا ما صدرَ عنهُم من الأعمال السيئةِ كما فعله من اعتاد إخفاءَ ما فيه وإبرازَ ما ينافيه من المنافقين الذين اعتذروا بما لَا خيرَ فيهِ من المعاذير المؤكدةِ بالأيمان الفاجرةِ حسب ديدنِهم المألوفِ وهم رهطٌ من المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجدِ عند ما بلغهم ما نزل في المتخلّفين فقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين حسب عادتِه الكريمةِ ورآهم كذلك فسأل عن شأنهم فقيل أنهم أقسموا أن لا يَحُلوا أنفسَهم حتى تحلهم فقال صلى الله عليه وسلم وأنا أقسم أن لا أحُلَّهم حتى أُومرَ فيهم فنزلت

{خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} هو ما سبق منهم من الأعمال الصالحةِ والخروجِ إلى المغازي السابقةِ وغيرِها وما لحِق من

ص: 98

الاعتراف بذنوبهم في التخلف عن هذه المرة وتذمُّمِهم وندامتِهم على ذلك وتخصيصُه بالاعتراف لا يناسب الخلْطَ لا سيما على وجه يُؤذِن بتوارد المختلطَيْن وكونِ كلَ منهما مخلوطاً ومخلوطاً به كما يؤذن به تبديلُ الواوِ بالباء في قوله تعالى

{وَآخَرَ سَيِّئاً} فإن قولك خلطتُ الماءَ باللبن يقتضي إيرادَ الماءِ على اللبن دون العكس وقولك خلطتُ الماءَ واللبنَ معناه إيقاعُ الخلطِ بينهما من غير دلالة على اختصاص أحدِهما بكونه مخلوطاً به وتركُ تلك الدلالةِ للدلالةِ على جعل كلَ منهما متصفاً بالوصفين جميعاً وذلك فيما نحن فيه بورود كلَ من العملين على الآخر مرةً بعد أخرى والمرادُ بالعمل السيء ما صدرَ عنهُم من الأعمال السيئة أولاً وآخراً وعن الكلبي التوبةُ والإثمُ وقيل الواوُ بمعنى الباء كما في قولهم بعتُ الشاء شاة ودهما بمعنى شاةً بدرهم

{عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي يقبل توبتَهم المفهومةَ من اعترافِهم بذنوبهم

{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يتجاوز عن سيئات التائبِ ويتفضل عليه وهو تعليلٌ لما تفيده كلمةُ عسى من وجوب القَبولِ فإنها للإطماع الذي هو من أكرم الأكرمين إيجابٌ وأيُّ إيجاب

سورة براءة آية (103)

ص: 99

{خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} روي أنهم لما أُطلقوا قالوا يا رسولَ الله هذه أموالُنا التي خلَّفتْنا عنك فتصدقْ بها وطهِّرْنا فقال صلى الله عليه وسلم ما أُمرتُ أن آخذَ من أموالكم شيئا فنزلت فليست هي الصدقةُ المفروضةُ لكونها مأموراً بها ولِما روى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الثلثَ وتركَ لهم الثلثين فوقع ذلك بياناً لِما في صدقةً من الإجمال وإنما هي كفارةٌ لذنوبهم حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل

{تُطَهّرُهُمْ} أي عما تلطخوا به من أوضار التخلفِ والتاءُ للخطاب والفعل مجزومٌ على أنه جوابٌ للأمر وقرىء بالرفع على أنه حالٌ من ضمير المخاطب في خذ أو صفةٌ لصدقةً والتاء للخطاب أو للصدقة والعائدُ على الأول محذوفٌ ثقةً بما بعده وقرىء تُطْهِرهم من أطْهره بمعنى طَهّره

{وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} بإثبات الياءِ وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في الأمر أو في جوابه أي وأنت تزكيهم بها أي تُنْمي بتلك الصدقةِ حسناتِهم إلى مراتب المخلِصين أو أموالَهم أو تبالغ في تطهيرهم هذا على قراءة الجزم في تطهرْهم وأما على قراءة الرفع فسواءٌ جُعلت التاءُ للخطاب أو للصدقة وكذا إذا جعلت الجملةُ الأولى حالاً من ضمير المخاطَب أو صفةً للصدقة على الوجهين فالثانيةُ عطفٌ على الأولى حالاً وصفةً منْ غيرِ حاجةٍ إلى تقدير المبتدأ لتوجيه دخول الواو في الجملة الحالية

{وَصَلّ عَلَيْهِمْ} أي واعطِف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم

{إن صلاتك} وقرىء صلواتِك مراعاةً لتعدد المدعو لهم

{سَكَنٌ لَّهُمْ} تسكُن نفوسُهم إليها وتطمئن قلوبُهم بها ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتَهم والجملةُ تعليلٌ للأمر بالصلاة عليهم

{والله سَمِيعٌ} يسمع ما صدرَ عنهُم من الاعتراف بالذنب والتوبةِ والدعاء

{عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم من الندم والغمّ لما فرَط منهم ومن الإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءَك لهم عليم بما تقتضيه الحكمةُ والجملةُ حينئذ تذييلٌ للتعليل مقررٌ لمضمونه وعلى الأول تذييلٌ لما سبق من الآيتين محقِّقٌ لما فيهما

ص: 99

سورة براءة آية (104 105)

ص: 100

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} وقرىء بالتاء والضمير إما للتائبين فهو تحقيقٌ لما سبق من قبول توبتِهم وتطهيرِ الصدقة وتزكيتِها لهم وتقريرٌ لذلك وتوطينٌ لقلوبهم ببيان أن المتوليَ لقبول توبتِهم وأخذِ صدقاتِهم هو الله سبحانه وإن أُسند الأخذُ والتطهيرُ والتزكية إليه صلى الله عليه وسلم أي ألم يعلمْ أولئك التائبون

{أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} الصحيحةَ الخالصةَ

{عَنْ عِبَادِهِ} المخلِصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يُفصح عنه كلمةُ عن والمرادُ بهم إما أولئك التائبون ووضعُ المظهرِ في موضع المضمرِ للإشعار بعلّية العبادةِ لقبولها وإما كافةُ العباد وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً

{وَيَأْخُذُ الصدقات} أي يقبل صدقاتِهم على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المُضافِ إليهِ أو جنسُ الصدقاتِ المندرجُ تحته صدقاتهم ادراجا أولياً أي هو الذي يتولى قَبولَ التوبةِ وأخذَ الصدقاتِ وما يتعلق بها من التطهير والتزكية وإن كنتَ أنتَ المباشرَ لها ظاهراً وفيه من تقرير ما ذكر ورفعِ شأنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على نهج قولِه تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ما لا يخفِى

{وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} تأكيدٌ لما عُطف عليه وزيادةُ تقريرٍ لما يقرره مع زيادةِ معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه المختصُّ المستأثرُ ببلوغ الغايةِ القصوى من قبول التوبةِ والرحمةِ وأن ذلك سُنةٌ مستمرةٌ له وشأنٌ دائم والجملتان في حيز النصبِ بيعلموا بسدّ كلِّ واحدةٍ منهما مسدّ مفعوليه وإما لغير التائبين من المؤمنين فقد روي أنهم قالوا لما تِيب على الأولين هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون فما لهم فنزلت أي ألم يعلموا ما للتائبين من الخصال الداعيةِ إلى التكرِمة والتقريبِ والانتظامِ في سلك المؤمنين والتلقّي بحسن القَبولِ والمجالسة فهو ترغيبٌ لهم في التوبة والصدقة وقوله تعالى

ص: 100

{وَقُلِ اعملوا} زيادةُ ترغيبٍ لهم في العمل الصالحِ الذي من جُملتِه التوبةُ وللأولين في الثبات على ما هم عليه أي قُلْ لهم بعد ما بان لهم شأنُ التوبةِ اعملوا ما تشاءون من الأعمال فظاهرُه ترخيصٌ وتخييرٌ وباطنُه ترغيبٌ وترهيبٌ وقوله عز وجل

{فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي خيرا كان أو شرا تعليل لما قبله وتأكيدٌ للترغيب والترهيب والسينُ للتأكيد

{وَرَسُولُهُ} عطف على الاسم الجليل وتأخيرُه عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت

{والمؤمنون} في الخبر لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان والمعنى أن أعمالَكم غيرُ خافيةٍ عليهم كما رأيتم وتبين لكم ثمَّ إنْ كان المرادُ بالرؤية معناها الحقيقيَّ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريد بها مآلُها من الجزاء خيراً أو شراً فهو خاصٌّ بالدنيوي من إظهار المدحِ والثناءِ والذكرِ الجميلِ والإعزازِ ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها

{وَسَتُرَدُّونَ} أي بعد الموتِ

{إلى عالم الغيب والشهادة} في وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ من تهويل

ص: 100

الأمرِ وتربية المهابةِ ما لا يخفى ووجهُ تقديمِ الغيبِ في الذكر لسعة عالَمِه وزيادةِ خطرِه على الشهادة غنيٌّ عن البيان وقيل إن الموجوداتِ الغائبةَ عن الحواس عللٌ أو كالعلل للموجودات المحسوسةِ والعلمُ بالعلل علة للعلم بالمعلولات فوجب سبقُ العلمِ بالغيب على العلم بالشهادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيبُ ما يُسِرّونه من الأعمال والشهادةُ ما يظهرونه كقوله تعالى يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ فالتقديمُ حينئذ لتحقيق أن نسبةَ علمِه المحيطِ بالسر والعلنِ واحدةٌ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه لا لإيهام أن علمَه سبحانه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته منزهٌ عن أن يكون بطريق حصولِ الصورة بل وجودُ كلِّ شيءٍ وتحققُه في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأمور البارزةِ والكامنةِ وإما للإيذان بأن رتبةَ السرِّ متقدمةٌ على رتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ القريبةُ أو البعيدةُ مضمرٌ قبل ذلك في القلب فتعلقُ علْمِه تعالى به في حالته الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ به في حالته الثانية

{فينبئكم} عقيب الردّ الذي هو عبارةٌ عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة

{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قَبْلَ ذَلِكَ في الدُّنيا والمرادُ بالتنبئة بذلك الجزاءُ بحسَبه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر فهو وعد ووعيد

سورة براءة آية (106 107)

ص: 101

{وآخرون} عطفٌ على آخرون قبله أي ومن المتخلفين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب قومٌ آخرون غيرُ المعترفين المذكورين

{مُرْجَوْنَ} وقرئ مُرْجَئون من أرجيتُه وأرجأتُه أي أخرتُه ومنه المُرْجِئة الذين لا يقطعون بقبول التوبة

{لاْمْرِ الله} في شأنهم قال ابن عباس رضي الله عنهما هم كعبُ بنُ مالك ومرارة ابن الربيع وهلالُ بنُ أميةَ لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لُبابةَ وأصحابُه من شد أنفسِهم على السواري وإظهارِ الغمّ والجزَعِ والندمِ على ما فعلوا فوقَفهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونهى أصحابَه عن أن يسلّموا عليهم ويكلموهم وكانوا من أصحاب بدر فهجروهم والناسُ في شأنهم على اختلاف فمن قائلٍ هلكوا وقائل عسى الله أن يغفرَ لهم فصاروا عندهم مُرجَئين لأمره تعالى

{إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} إن بقوُا على ما هم عليه من الحال وقيل إن أصروا على النفاق وليس بذاك فإن المذكورين ليسوا من المنافقين

{وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن خلَصت نيتُهم وصحت توبتُهم والجملةُ في محل النصب على الحالية أي منهم هؤلاء إما معذَّبين وإما مَتوباً عليهم وقيل آخرون مبتدأٌ ومرجون صفتُه وهذه الجملةُ خبره

{والله عَلِيمٌ} بأحوالهم

{حَكِيمٌ} فيما فعل بهم من الإرجاء وما بعده وقرىء والله غفور رحيم

ص: 101

{والذين اتخذوا مَسْجِدًا} عطفٌ على ما سبق أي ومنهم الذين أو نصبٌ على الذم وقرئ بغير واو لأنها قصة على حيالها

{ضِرَارًا} أي مضارّةً للمؤمنين وانتصابُه على أنَّه مفعولٌ له أو مفعولٌ ثانٍ لاتخذوا أو على أنَّه مصدرٌ مؤكد لفعل مقدر منصوبٍ على الحالية أي يضارّون بذلك ضراراً أو على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالاً من ضمير اتخذوا أي مضارِّين

ص: 101

للمؤمنين روي أن بني عمرو بنِ عَوْف لما بنَوا مسجدَ قُباءَ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهَم فيصليَ بهم في مسجدهم فلما فعله صلى الله عليه وسلم حسدتهم إخواتهم بنو اغنم بنِ عوف وقالوا نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامرٍ الراهب أيضاً إذا قدم من الشام وهو الذي سماه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاسقَ وقد كان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازنُ يومئذ ولّى هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ وآتٍ بجنود ومخرجٌ محمداً وأصحابَه من المدينة فبنَوا مسجداً إلى جنب مسجد قباءَ وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجةِ والليلةِ المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصليَ لنا فيه وتدعوَ لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحالِ شُغْلٍ وإذا قدِمنا إنْ شاءَ الله تعالى صلينا فيه فلما قفَل صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوكَ سألوه إتيانَ المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بنِ الدخشم ومعنِ بن عدي وعامر بنِ السكن ووحشي فقال لهم انطلقوا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه فاهدِموه وأحرِقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كُناسةٌ تلقى فيها الجيفُ والقُمامة وهلك أبو عامر الفاسقُ بالشام بقِنَّسْرين

{وَكُفْراً} تقوية للكفر الذي يُضمِرونه

{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} الذين كانوا يصلون في مسجد قباءَ مجتمعين فيغص بهم فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتُهم

{وَإِرْصَادًا} إعداداً وانتظاراً وترقباً

{لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو الراهبُ الفاسقُ أي لأجله حتى يجيءَ فيصليَ فيه ويظهرَ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم

{مِن قَبْلُ} متعلقٌ باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك أو يحارب أي حاربهما قبل اتخاذِ هذا المسجد

{وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي ما أردنا ببناء هذا المسجد

{إِلَاّ الحسنى} إلا الخَصلةَ الحسنى وهي الصلاةُ وذكرُ الله والتوسعةُ على المصلين أو إلا الإرادةَ الحسنى

{والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في حلِفهم ذلك

سورة براءة آية (108)

ص: 102

{لَا تَقُمْ} للصلاة

{فِيهِ} في ذلك المسجدِ حسبما دعَوْك إليه

{أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ} أي بُني أصلُه

{عَلَى التقوى} يعني مسجدَ قباءَ أسسه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيامَ مقامِه بقباء وهي يومُ الإثنينِ والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وخرج يومَ الجمعة وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعن أبي سعيد رضي الله عنه سألت النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسسه على التقوى فأخذ حصباءَ فضرب بها الأرضَ وقال مسجدُكم هذا مسجدُ المدينة واللامُ إما للابتداء أو للقسم المحذوفِ أي والله لَمسجدٌ وعلى التقديرين فمسجدٌ مبتدأٌ وما بعده صفتُه وقوله تعالى

{مِنَ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أيام تأسيسِه متعلقٌ بأسس وقوله تعالى

{أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي للصلاة وذكرِ الله تعالى خبرُه وقوله تعالى

{فِيهِ رِجَالٌ} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لأحقّيته لقيامه صلى الله عليه وسلم فيه من جهة الحال بعد بيانِ أحقيتِه له من حيث المحلُّ أو صفةٌ أخرى للمبتدأ أو حال من الضمير في فيه وعلى كل حالٍ ففيه تحقيقٌ وتقريرٌ لاستحقاقه القيامَ فيه والمرادُ بكونه أحق نفس

ص: 102

كونه حقيقاً به إذ لا استحقاقَ في مسجد الضرارِ رأساً وإنما عبر عنه بصيغة التفضيلِ لفضله وكماله في نفسه أو الأفضلية في الاستحقاق المتناولِ لما يكون باعتبار زعمِ الباني ومن يشايعُه في الاعتقاد وهو الأنسبُ بما سيأتي

{يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} من المعاصي والخصالِ الذميمةِ لمرضاة الله سبحانه وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها

{والله يُحِبُّ المطهرين} أي يرضى عنهم ويُدْنيهم من جنابه إدناءَ المحبِّ حبيبَه قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباءَ فإذا الأنصارُ جلوسٌ فقال أمؤمنون أنتم فسكت القومُ ثم أعادها فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه يا رسولَ الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال صلى الله عليه وسلم أترضَوْن بالقضاء قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم أتصبِرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون في الرخاء قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم مؤمنون وربِّ الكعبة فجلس ثم قال يا معشرَ الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا نُتبعُ الغائطَ الأحجارَ الثلاثة ثم نتبع الأحجارَ الماءَ فتلا النبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وقرىء أن يطّهروا بالإدغام وقيلَ هو عامٌّ في التطهر عن النجاسات كلِّها وكانوا يُتبعون الماءَ إثرَ البول وعن الحسنِ رضي الله عنه هو التطهرُ عن الذنوب بالتوبة وقيل يحبّون أن يتطهروا بالحُمّى المكفرةِ لذنوبهم فحموا عن أخرهم

سورة براءة آية (109)

ص: 103

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} على بناء الفعلِ للفاعل والنصبِ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ والرفع وقرئ أُسسُ بنيانِه على الإضافة جمع أساس وأساس بالفتح والكسر جمع أُسّ وقرئ أَساسُ بنيانِه جمع أُس أيضاً وأُسُّ بنيانِه وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبينةٌ لخيرية الرجالِ المذكورين من أهل مسجد الضرار والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي أبعدَ ما عَلِمَ حالَهم مَنْ أسّس بنيانَ دينِه

{على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} أي على قاعدةٍ محكمة هي التقوى من الله وابتغاءُ مرضاتِه بالطاعة والمرادُ بالتقوى درجتُها الثانية التي هي التوقّي عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعل أو ترك وقرئ تقوىً بالتنوين على أن الألف للإلحاق دون التأنيث

{خير أم من أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} تركُ الإضمار للإيذان باختلاف البُنيانين ذاتاً مع اختلافهما وصفاً وإضافةً

{على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} الشفا الحَرْف والشفير والجُرُف ما جرفه السيلُ أي استأصله واحتفَر ما تحته فبقىَ واهياً يريد الانهدام والهارُ الهائرُ المتصدِّعُ المشرِفُ إلى السقوط من هار يهورُ ويهار أو هار يهير قُدّمت لامُه على عينه فصار كغازٍ ورامٍ وقيل حذفت عينه اعتباطاً أي بغير موجب فجرى وجوهُ الإعرابِ على لامه

{فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} مثّل ما بنَوا عليه أمرَ دينِهم في البُطلان وسرعةِ الانطماسِ بما ذُكر ثم رشّح بانهياره في النار ووُضع بمقابلة الرضوانِ تنبيهاً على أن تأسيسَ ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى الرضوان ومقتضياتِه التي أدناها الجنةُ وتأسيسَ هذا على ما هو بصدد الوقوعِ في النار ساعةً فساعة ثم مصيرُهم إليها لا محالة وقرئ جُرْف بسكون الراء

{والله لَا يَهْدِى القوم الظالمين} أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها

ص: 103

أي لا يرشدهُم إلى ما فيه نجاتُهم وصلاحُهم إرشاداً موجباً له لا محالة وأما الدلالةُ على ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحققٌ بلا اشتباه

سورة براءة آية (110 111)

ص: 104

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ} البنيانُ مصدرٌ أُريد به المفعولُ ووصفُه بالموصول الذي صلتُه فعله للإيذان بكيفية بنائِهم له وتأسيسِه على أوهن قاعدةٍ وأوهى أساسٍ وللإشعار بعلة الحُكم أي لا يزال مسجدُهم ذلك مبنياً ومهدوماً

{رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} أي سببَ ريبةٍ وشكَ في الدين كأنه نفس الريبة أما حالَ بنيانه فظاهرٌ لِما أن اعتزالَهم من المؤمنين واجتماعَهم في مجمع على حياله يُظهرون فيه ما في قلوبِهِم منَ آثار الكفرِ والنفاقِ ويدبِّرون فيه أمورَهم ويتشاورون في ذلك ويُلقي بعضُهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكاً في الدين وأما حالَ هدمِه فلما أنه رسَخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت آثارُه وأحكامُه أو سبّب ريبةً في أمرهم حيث ضعُفت قلوبُهم وهى اعتقادُهم بخفاء أمرِهم على المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناءِ أكثرَ مما كانوا يُظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطِهم بالمؤمنين وساءت ظنونُهم بأنفسهم فلما هُدم بنيانُهم تضاعف ذلك الضَّعفُ وتقوّى وصاروا مُرتابين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانُوا عليهِ من قبل أو يأمرُ بقتلهم ونهبِ أموالِهم وقال الكلبي معنى ريبةً حسرةً وندامة وقال السدي وحبيب والمبرد لا يزال هدمُ بنيانِهم حزازةً وغيظاً في قلوبهم

{إِلَاّ أَن تَقَطَّعَ} من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع

{قُلُوبِهِمْ} قِطعاً وتتفرّقَ أجزاءً بحيث لا يبقى لها قابليةُ إدراكٍ وإضمار قطعاً وهو استثناءٌ من أعم الأوقاتِ أو أعم الأحوال ومحلُّه النصبُ على الظرفية أي لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل الأوقات أو كلِّ الأحوال إلا وقتَ تقطُّع قلوبهم أو حالَ تقطعِ قلوبِهم فحينئذ يسْلُون عنها وأما ما دامت سالمةً فالريبةُ باقيةٌ فيها فهو تصويرٌ لامتناع زوالِ الريبةِ عن قلوبهم ويجوزُ أن يكون المرادُ حقيقةً تقطُّعُها عند قتلِهم أو في القبُورِ أو في النار وقرئ تُقَطّع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تُقطِّع أنت قلوبهم بالقتل وقرئ على البناء للمجهول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا وقرئ إلى أن تقطُّعِ قلوبهم وإلى أن تُقطِّع قلوبَهم على الخطاب وقرئ ولو قطعت قلوبهم على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم ولو قَطَّعتَ قلوبَهم على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وقيل إلا أن يتوبوا توبةً تتقطّع بها قلوبُهم ندماً وأسفاً على تفريطهم

{والله عَلِيمٌ} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُمْلتها ما ذكِرَ منَ أحوالهم

{حَكِيمٌ} في جميعِ أفعالِه التي من زمرتها أمرُه الواردُ في حقهم

ص: 104

فضيلتِه إثرَ بيانِ حالِ المتخلفين عنه ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيدَ عليهِ حيثُ عبّر عن قَبول الله تعالى مِنَ المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابتِه إياهم بمقابلتها الجنةَ بالشراء على طريقة الاستعارةِ التبعية ثم جُعل المبيعُ الذي هو العُمدةُ والمقصِدُ في العقد أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم والثمنُ الذي هو الوسيلةُ في الصفقة الجنةُ ولم يُجعل الأمرُ على العكس بأن يقال إن الله باع الجنةَ من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصِد في العقد هو الجنةُ وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلةٌ إليها إيذاناً بتعلق كمالِ العنايةِ بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل

{بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} مبالغةً في تقرير وصولِ الثمنِ إليهم واختصاصِه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتةِ لهم المختصةِ بهم وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم وبذلوا أنفسَهم وأموالَهم بمجرد الوعدِ لكمال ثقتِهم بوعده تعالى وأن تمامَ الاستعارةِ موقوفٌ على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كونُ الشراء حقيقةً لأنها صالحةٌ للعوضية بخلاف الوعد بها فليس بشيء لأن مناطَ دِلالةِ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على الوعد ليس كونُه جملةً ظرفيةَ مصدّرةً بأن فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنةُ التي يستحيل وجودُها في الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوضُ الجنةَ الموعودَ بها لا الوعد بها

{يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} استئنافٌ لكن لا لبيان ما لأجله الشراءُ ولا لبيان نفسِ الاشتراء لأن قتالَهم في سبيلِ الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسَهم وأموالَهم بل هو بذلٌ لهما في ذلك بل لبيان البيعِ الذي يستدعيه الاشتراءُ المذكورُ كأنه قيل كيف يبيعون أنفسَهم وأموالَهم بالجنة فقيل يقاتلون فِى سَبِيلِ الله وهو بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريضٌ لهما للهلاك وقوله تعالى

{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} بيانٌ لكون القتالِ في سبيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتِلَ في سبيله باذلٌ لها وإن كانت سالمةً غانمة فإن الإسنادَ في الفعلين ليس بطريق اشتراطِ الجمعِ بينهما ولا اشتراطِ الاتصافِ بأحدهما البتةَ بل بطريق وصفِ الكلِّ بحال البعضِ فإنه يتحقق القتالُ من الكل سواءٌ وجد الفعلان أو أحدَهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدُرْ منهم أحدُهما أيضاً كما إذا وُجدت المضاربةُ ولم يوجد القتلُ من أحد الجانيين أو لم توجد المضاربةُ أيضا فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثيرِ السواد وتقديمُ حالةِ القاتلية على حالة المقتوليةِ للإيذان بعدم الفرقِ بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتالِ بذلا للنفس وقرئ بتقديم المبنيِّ للمفعول رعايةً لكون الشهادة عريقةً في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتِهم بالموت في سبيلِ الله تعالى بل بكونه أحبَّ إليهم من السلامة كما قيل في حقهم

لا يفرحون إذا نالت رماحهم

قوماً وليسوا مَجازيعاً إذا نيلوا

لا يقطع الطعنُ إلا في نحورِهم

وما لهم عن حِياض الموتِ تهليلُ

وقيل في يقاتلون الخ معنى الأمر كما في قوله تعالى تجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ

{وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدرٌ مؤكدٌ لما يدل عليه كونُ الثمنِ مؤجلاً

{حَقّاً} نعتٌ لوعداً والظرفُ حال منه لأنه لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وقولُه تعالَى {فِي التوراة والإنجيل والقرآن} متعلق بمحذوف وقع كما هو مثبتٌ في القرآن

{وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله من حقية الوعدِ على نهج المبالغةِ في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل واف

ص: 105

فإن إخلاف الميعاد مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن كرام الخلقِ مع إمكان صدورِه عنهم فكيف بجناب الخلاقِ الغنيِّ عن العالمين جل جلاله وسبكُ التركيب وإن كان على إنكار أن يكون أحدٌ أوفى بالعهد منه تعالى من غيرِ تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها لكن المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها قطعاً فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضل منه فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل

{فاستبشروا} التفاتٌ إلى الخطاب تشريفاً لهم على تشريف وزيادةً لسرورهم على سرور والاستبشارُ إظهارُ السرور والسينُ فيه ليس للطلب كاستوقَدَ وأوقد والفاء لترتيب الاستبشارِ أو الأمرِ به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فسُرّوا نهايةَ السرور وافَرحوا غايةَ الفرحِ بما فُزتم به من الجنة وإنما قيل

{بِبَيْعِكُمُ} مع أن الابتهاجَ به باعتبار أدائِه إلى الجنةِ لأن المرادَ ترغيبُهم في الجهاد الذي عبّر عنه بالبيع وإنما لم يُذكر العقدُ بعنوان الشراءِ لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم والترغيبُ إنما يكون فيما يتم من قبلهم وقوله تعالى

{الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} لزيادة تقرير بيعِهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات فإنه بيعٌ للفاني بالباقي ولأن كِلا البدلين له سبحانه وتعالى عن الحسن رضي الله عنه أنفُساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها روي أن الأنصار لما بايعوه صلى الله عليه وسلم على العقبة قال عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ رضي الله تعالى عنه اشترِطْ لربك ولنفسك ما شئت قال صلى الله عليه وسلم أشترطُ لربي أن تعبُدوه وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم قال فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا ربِحَ البيعُ لا نُقيل ولا نستقيله ومر برسولِ الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها قال كلامُ مَنْ قال كلام الله عز وجل قالَ بيعٌ والله مُربحٌ لا نُقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستُشهد

{وَذَلِكَ} أي الجنةُ التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالِهم

{هُوَ الفوز العظيم} الذِي لا فوزَ أعظمُ منه وما في ذلك من معنى البُعد إشارةٌ إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه وسموِّ رتبتِه في الكمال ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ إشارةً إلى البيع الذي أُمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفسُ الفوز العظيم أو يُجعل فوزاً في نفسه فالجملةُ على الأول تذييلٌ للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى فاستبشروا مقرر لمضمونه

سورة براءة آية (112)

ص: 106

{التائبون} رُفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءةُ بالياء نصباً على المدح ويجوز أن يكون مجروراً على أنه صفةٌ للمؤمنين وقد جوِّز الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ أي التائبون من أهل الجنةِ أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ويجوز أن يكون خبرُه قولَه تعالى

{العابدون} وما بعده خبرٌ بعد خبرٍ أي التائبون من الكفر على الحقيقة هُمُ الجامعون لهذه النعوتِ الفاضلةِ أي المخلِصون في عبادة الله تعالى

{الحامدون} لنَعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء

{السائحون} الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم سياحةُ أمتي الصومُ شبّه بها لأنه عائقٌ عن الشهوات أو لأنه رياضةٌ نفسانيةٌ يُتوسّل بها إلى العثور على خفايا المُلك والملَكوتِ وقيل هم السائحون في الجهاد وطلبِ

ص: 106

العلم

{الراكعون الساجدون} في الصلاة

{الامرون بالمعروف} بالطاعة والإيمان

{والناهون عَنِ المنكر} عن الشرك والمعاصي والعطفُ فيه للِدلالة على أن المتعاطِفَيْن بمنزلة خَصلةٍ واحدة وأما قوله تعالى

{والحافظون لِحُدُودِ الله} أي فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع عَملاً وحمْلاً للناس عليه فلئلاً يُتوهمَ اختصاصُه بأحد الوجهين

{وَبَشّرِ المؤمنين} أي الموصوفين بالنعوت المذكورةِ ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِهم للتنبيه على أن مَلاك الأمرِ هو الأيمانُ وأن المؤمن الكاملَ مَنْ كان كذلك وحُذف المبشَّرُ به للإيذان بخروجه عن حد البيانِ وفي تخصيص الخطابِ بالأولين إظهارُ زيادةِ اعتناءٍ بأمرهم من الترغيب والتسلية

سورة براءة آية (113 114)

ص: 107

{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين آمنوا} بالله وحده أي ما صح لهم في حكم الله عز وجل وحكمتِه وما استقام

{أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} به سبحانه

{ولو كانوا} أي المشركون

{أُوْلِى قربى} أي ذوي قرابةٍ لهم وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على جملة أخرى قبلها محذوفةٍ حذفاً مطّرداً كما بُيّن في قوله تعالى وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ونظائرِه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب لما حضرتْه الوفاةُ يا عمّ قل كلمةً أحُاجُّ لك بها عند الله فأبى فقال صلى الله عليه وسلم لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه فنزلت وقيل لما افتتَح مكةَ خرج إلى الأبواء فزار قبرَ أمِّه ثم قام مستعبِراً فقال إني استأذنتُ ربي في زيارة قبرِ أمّي فأذِن لي واستأذنتُه في الاستغفار لها فلم يأذَنْ لي وأنزل علي الآيتين

{مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} أي للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين

{أَنَّهُمْ} أي المشركين

{أصحاب الجحيم} بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحيُ بأنهم يموتون على ذلك

ص: 107

{وما كان استغفار إبراهيم لأَبِيهِ} بقوله واغفر لاِبِى أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوحُ به تعليلُه بقوله إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما سبق ودفعِ ما يتراءى بحسب الظاهرِ من المخالفة وقرئ وما استغفر إبراهيمُ لأبيه وقرئ وما يستغفر إبراهيمُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ وقوله تعالى

{إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ} استثناء مفرغ من أعم العللِ أي لم يكن استغفارُه عليه السلام لأبيه آزرَ ناشئاً عن شيءٌ من الأشياءِ إِلَاّ عن موعدة

{وعدها} إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام

{إياه} أي أباه وقد قرئ كذلك بقوله لَاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وقولِه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي بناءً على رجاء إيمانِه لعدم تبيُّنِ حقيقةِ أمرِه وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدة مبينة على عدم تبيُّنِ أمرِه كما ينبىء عنه قوله تعالى

{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي لإبراهيمَ بأن أوحِيَ إليه أنه مُصِرٌّ على الكفر غيرُ مؤمنٍ أبداً وقيل بأن مات على الكفر والأولُ هو الأنسبُ بقوله تعالى

{أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} فإن وصفَه بالعداوة مما يأباه حالةُ الموت

{تَبَرَّأَ مِنْهُ}

ص: 107

أي تنزّه عن الاستغفار له وتجانبَ كلَّ التجانب وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائرِه

{إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ} لكثيرُ التأوّهِ وهو كنايةٌ عن كمال الرأفةِ ورقةِ القلب

{حَلِيمٌ} صبورٌ على الأذية والمحنة وهو استئنافٌ لبيان ما كان يدعُوه عليه الصلاة والسلام إلى ما صدر عنه من الاستغفار وفيه إيذانٌ بأن إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام كان أواهاً حليماً فلذلك صدَر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبينِ فليس لغيره أن يأتسيَ به في ذلك وتأكيدٌ لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبينِ وهو في كمال رقةِ القلبِ والحلم فلا بد أن يكون غيرُه أكثرَ منه اجتناباً وتبرُّؤاً وأما أن الاستغفارَ قبل التبينِ لو كان غيرَ محظورٍ لما استُثنيَ من الائتساء به في قوله تعالى إِلَاّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لَاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فقد حُقق في سورة مريم بإذن الله تعالى

سورة براءة آية (115 117)

ص: 108

{وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أي ليس من عادته أن يصفَهم بالضلال عن طريق الحق ويُجريَ عليهم أحكامَه

{بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للإسلام

{حتى يُبَيّنَ لَهُم} بالوحي صريحاً أو دِلالةً

{مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يجبُ اتقاؤُه من محظورات الدينِ فلا ينزجروا عما نُهوا عنه وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدَر عنهم ضلالاً ولا يؤاخَذون به فكأنه تسليةٌ للذين استغفروا للمشركين قبل ذلك وفيه دليلٌ على أنَّ الغافَل غيرُ مكلفٍ بما لا يستبدُّ بمعرفته العقلُ

{أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} تعليلٌ لما سبق أي أنه تعالى عليمٌ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها حاجتُهم إلى بيان قُبحِ ما لا يستقلُّ العقلُ في معرفته فيبيِّنُ لهم ذلك كما فعل هاهنا

ص: 108

{أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والارض} من غير شريكٍ له فيه

{يحيي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ} لمّا منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمّن ذلك التبرُّؤَ منهم رأساً بيَّن لهم أن الله تعالى مالكُ كلِّ موجودٍ ومتولي أمورِه والغالبُ عليه ولا يتأتى لهم نصرٌ ولا ولايةٌ إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه بشرا شرهم متبرِّئين عما سواه غيرَ قاصدين إلا إياه

ص: 108

{لَقَدْ تَابَ الله على النبى} قال ابن عباس رضي الله عنهما هو العفوُ عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه

{والمهاجرين والانصار} قيل هو في حق زلاتٍ سبقت منهم يوم أحُدٍ ويوم حُنينٍ وقيل المرادُ بيانُ فضلِ التوبةِ وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاجٌ إليها حتى النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِما صدرَ عنه في بعض الأحوالِ من ترك الأَوْلى

{الذين اتبعوه} ولم يتخلفوا عنه ولم يُخِلّوا بأمر من أوامره

{فِى سَاعَةِ العسرة} أي في وقتها والتعبيرُ عنه بالساعة لزيادة تعيينِه وهي حالُهم في غزوة تبوكَ كانوا في عُسرةٍ من الظَّهر يعتقِبُ عشرةٌ على بعير واحد ومن الزاد تزوّدوا

ص: 108

التمرَ المدوّد والشعيرَ المسوّس والإهالة الزَّنِخة وبلغت بهم الشدةُ إلى أن اقتسم التمرةَ اثنان وربما مصّها الجماعةُ ليشربوا عليها الماء المتغيِّرَ وفي عسرة من الماء حتى نحَروا الإبلَ واعتصروا فروثَها وفي شدة زمانٍ من حِمارة القَيظ ومن الجدب والقَحط والضيقة الشديدةِ ووصفُ المهاجرين والأنصارِ بما ذكر من اتّباعِهم له عليه الصلاة والسلام في مثل هاتيك المراتبِ من الشدة للمبالغة في بيان الحاجةِ إلى التوبة فإن ذلك حيث لم يُغنهم عنها فلأَنْ لا يستغنيَ عنها غيرُهم أولى وأحرى

{مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} بيانٌ لتناهي الشدة وبلوغِها إلى ما لا غايةَ وراءَها وهو إشرافُ بعضهم على أن يَميلوا إلى التخلف عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي كاد ضميرُ الشأنِ أو ضميرُ القوم الراجعُ إليه الضميرُ في منهم وقرئ بتأنيث الفعل وقرئ من بعد ما زاغت قلوبُ فريقٍ منهم يعني المتخلفين من المؤمنين كأبي لُبابةَ وأضرابِه

{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكريرٌ للتأكيد وتنبيهٌ على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العُسرة والمرادُ أنه تاب عليهم لكيدودتهم

{إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ} استئنافٌ تعليليٌ فإن صفةَ الرأفةِ والرحمةِ من دواعي التوبةِ والعفوِ ويجوز كونُ الأولِ عبارةً عن إزالة الضررِ والثاني عن إيصالِ المنفعةِ وأن يكون أحدُهما للسوابق والآخَرُ لِلّواحق

سورة براءة آية (118)

ص: 109

{وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} أي وتاب الله على الثلاثة الذين أُخِّر أمرُهم عن أمر أبي لُبابةَ وأصحابِه حيث لم يقبَلْ معذرتَهم مثلَ أولئك ولا رُدَّتْ ولم يُقطَعْ في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحيُ وهم كعبُ بنُ مالكٍ وهلالُ بنُ أميةَ ومَرارةُ بنُ الربيع وقرئ خَلَّفوا أي خلَّفوا الغازين بالمدينة أو فسَدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرئ على المخلّفين والأولُ هو الأنسبُ لأن قوله تعالى

{حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض} غايةٌ للتخليف ولا يناسبُه إلا المعنى الأولُ أي خُلّفوا وأخّر أمرُهم إلى أن ضاقت عليهم الارضُ

{بما رَحُبتْ} أي برُحبها وسَعتِها لإعراض الناسِ عنهم وانقطاعِهم عن مفاوضتهم وهو مثلٌ لشدة الحَيْرة كأنه لا يستقِرُّ به قرارٌ ولا تطمئن له دار

{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي إذا رجَعوا إلى أنفسهم لا يطمئنّون بشيء لعدم الأنسِ والسرورِ واستيلاءِ الوحشة والحَيْرة

{وَظَنُّواْ أَن لَاّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلَاّ إِلَيْهِ} أي علِموا أنه لا ملجأَ من سُخطه تعالى إلا إلى استغفاره

{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقّهم للتوبة

{لِيَتُوبُواْ} أو أنزل قَبولَ توبتِهم ليصيروا من جملة التوّابين ورجع عليهم بالقَبول والرَّحمة مرةً بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم

{إِنَّ الله هُوَ التواب} المبالغُ في قَبول التوبةِ كمّاً وكيفاً وإن كثُرت الجناياتُ وعظمُت

{الرحيم} المتفضل عليهم بفنون الآلاءِ مع استحقاقهم لأفانينِ العقاب رُوي إنَّ ناساً من المؤمنينَ تخلفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منهم مَنُ بدا له وكره مكانه فلحِق به صلى الله عليه وسلم عن الحسن رضي الله عنه أنَّه قال بلغني أنه كان لأحدهم حائطٌ كان خيراً من مائة ألف درهم فقال يا حائطاه ما خالفني إلا ظلُّك وانتظارُ ثمارِك اذهبْ فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخرَ إلا أهلُه فقال يا أهلاه ما بطّأني ولا خلّفني إلا الفتنُ بك فلا جرَم والله لأكابدنّ الشدائدَ حتى ألحقَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم فتأبط زادَه ولحِق به صلى الله عليه وسلم قال الحسن رضي الله عنه كذلك والله المؤمنُ يتوب من ذنوبه ولا يُصِرُّ عليها

ص: 109

وعن أبي ذر الغفاري أن بعيرَه أبطأ به فحمَل متاعَه على ظهره واتّبع أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ماشيا فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى سوادَه كنْ أبا ذر فقال الناسُ هو ذاك فقال صلى الله عليه وسلم رحِم الله أبا ذر يمشي وحدَه ويموت وحده ويُبعث وحده وعن أبي خيثمةَ أنه بلغ بستانُه وكانت له امرأةٌ حسناءُ فرَشت له في الظل وبسَطت له الحصيرَ وقرّبت إليه الرطَبَ والماءَ الباردَ فنظر فقال ظلٌ ظليلٌ ورُطبٌ يانعٌ وماء باردٌ وامرأةٌ حسناء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ والريح ما هذا بخير فقام ورحل ناقتَه وأخذ سيفَه ورُمحَه ومرَّ كالريح فمد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طْرفَه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السرابُ فقال كن أبا خيثمةَ فكانَهُ ففرِح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفرَ له ومنهم من بقيَ لم يلحَقْ به صلى الله عليه وسلم منهم الثلاثة قال كعب رضي الله عنه لما قفَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سلّمتُ عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال يا ليت شعري ما خلّف كعباً فقيل له ما خلفه إلا حسنُ بُردَيه والنظرُ في عطفيه فقال صلى الله عليه وسلم ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً ونهى عن كلامنا أيها الثلاثةُ فتنكر لنا الناسُ ولم يكلمنا أحدٌ من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلةً أُمرنا أن نعتزل نساءَنا ولا نقرَبَهن فلما تمت خمسون ليلةً إذا أنا بنداء من ذُروة سلعٍ أبشرْ يا كعبُ بنَ مالكٍ فخرَرْتُ لله ساجداً وكنتُ كما وصفني ربي وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رحبت وضاقت عليهم أنفسُهم وتتابعت البِشارةُ فلبست ثوبي وانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالسٌ في المسجد وحوله المسلمون فقام طلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّه يُهرْوِل إلي حتى صافحني وقال لتهنِكَ توبةُ الله عليك فلن أنساها لطلحةَ رضي الله عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارةَ القمر أبشر يا كعبُ بخير يوم مر عليك منذ ولدتْك أمُّك ثم تلا علينا الآية وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النَّصوح فقال أن تَضيق على التائب الأرضُ بما رحبَتْ وتضيقَ عليه نفسُه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه

سورة براءة آية (119 120)

ص: 110

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ عام يندرج فيه التائبون اندراجاً أولياً وقيل لمن تخلف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوكَ خاصة

{اتقوا الله} في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه المعاملةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولاً أولياً

{وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} في إيمانهم وعهودِهم أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً أو في كلِّ شأنٍ من الشئون فيدخل ما ذُكر أو في توبتهم وإنابتهم فيكون المرادُ بهم حينئذ هؤلاء الثلاثةَ وأضرابَهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خطابٌ لمن آمنَ مّنْ أَهْلِ الكتابِ أي كونوا مع المهاجرين والأنصارِ وانتظِموا في سلكهم في الصدق وسائر المحاسن وقرئ من الصادقين

ص: 110

استقام لهم

{وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب} كمزينةَ وجهينةَ وأشجعَ وغِفارٍ وأضرابهِم

{أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى الغزو

{وَلَا يَرْغَبُواْ} نصب وقد جُوِّز الجزمُ

{بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي لا يصرِفوها عن نفسه الكريمةِ ولا يصونوها عما لم يصُن عنه نفسَه بل يكابده معه ما يكابده من الأهوال والخطوب والكلامُ في معنى النهي وَإِن كان على صورة الخبر

{ذلك} إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلامُ من وجوب المشايعة

{بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم

{لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي عطشٌ يسير

{وَلَا نَصَبٌ} ولا تعب ما

{وَلَا مخمصة} أي مجاعة ما لا يستباح عنده المحرمات من مراتبها فإن الظمأَ والنصبَ اليسيرين حين لم يخلُوَا من الثواب فلأَنْ لا يخلو ذلك منه أولى فلا حاجة إلى تأكيد النفي بتكرير كلمة لا ويجوزُ أنْ يُرادَ بها تلك المرتبةُ ويكونُ الترتيبُ بناءً على كثرة الوقوعِ وقِلّته فإن الظمأَ أكثرُ وقوعاً من النصب الذي هو أكثرُ وقوعاً من المخمصة بالمعنى المذكور فتوسيطُ كلمةِ لا حينئذ ليس لتأكيد النفي بل للدلالة على استقلال كلَ واحدٍ منها بالفضيلة والاعتداد به

{فِى سَبِيلِ الله} وإعلاء كلمتِه

{ولا يطؤون مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار} أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافِر خيولِهم وأخفافِ رواحلِهم دَوْساً أو مكاناً يداس

{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} مصدرٌ كالقتل والأسرِ والنهب أو مفعول أي شيئاً يُنال من قِبَلهم

{إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ} أي بكلِّ واحدٍ من الأمور المعدودةِ

{عَمَلٌ صَالِحٌ} وحسنةٌ مقبولةٌ مستوجبةٌ بحكم الوعد الكريمِ للثواب الجميلِ ونيل الزُّلفى والتنوينُ للتفخيم وكونُ المكتوبِ عينَ ما فعلوه من الأمور لا يمنع دخولَ الباء فإن اختلافَ العنوان كافٍ في ذلك

{إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} على إحسانهم تعليلٌ لما سلف من الكتب والمرادُ بالمحسنين إما المبحوثُ عنهم ووضعُ المُظْهر موضعَ المضمرِ لمدحهم والشهادةِ عليهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالَهم من قبيل الإحسانِ وللإشعار بعلية المأخَذ للحكم وإما جنسُ المحسنين وهم داخلون فيه دخولا أوليا

سورة براءة آية (121 122)

ص: 111

{وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو تمرةً أو علاقةَ سَوْط

{وَلَا كَبِيرَةً} كما أنفق عثمانُ رضي الله عنه والترتيب باعتبار ما ذُكر من كثرة الوقوعِ وقلته وتوسيطُ لا للتنصيص على استبداد كلَ منهما بالكتْب والجزاءِ لا لتأكيد النفي كما في قوله عز وجل

{وَلَا يَقْطَعُونَ} أي لا يجتازون في مسيرهم

{وَادِيًا} وهو في الأصل كلُّ منفرَجٍ من الجبال والآكامِ يكون منفذاً للسيل اسمُ فاعلٍ من ودَى إذا سال ثم شاع في الأرض على الإطلاق

{إِلَاّ كتب لهم} أي أثبت لَهُمْ ذلك الذي فعلوه من الإنفاق والقطع

{لِيَجْزِيَهُمُ الله} بذلك

{أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أحسنَ جزاءِ أعمالِهم أو جزاءَ أحسنِ أعمالِهم

ص: 111

أي ما صح وما استقام لهم أن ينفِروا جميعاً لنحو غزْوٍ أو طلب علمٍ كما لا يستقيم لهم أن يتثبّطوا جميعاً فإن ذلك مُخِلٌّ بأمر المعاش

{فَلَوْلَا نَفَرَ} فهلا نفَر

{مِن كُلّ فِرْقَةٍ} أي طائفة كثيرة

{مِنْهُمْ} كأهل بلدةٍ أو قبيلةٍ عظيمة

{طَائِفَةٌ} أي جماعة قليلة

{لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين} أي يتكلفوا الفَقاهةَ فيه ويتجشموا مشاقَّ تحصيلِها

{وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} أي وليجعلوا غايةَ سعيِهم ومرمى غرضِهم من ذلك إرشادَ القومِ وإنذارَهم

{إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} وتخصيصُه بالذكر لأنه أهم وفيه دليلٌ على أنَّ التفقهَ في الدين من فروض الكفايةِ وأن يكون غرضُ المتعلمِ الاستقامةَ والإقامةَ لا الترفعَ على العباد والتبسط في البلاد كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان

{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إرادةَ أن يحذروا عما ينذرون واستُدل به على أنَّ أخبارَ الآحادِ حجةٌ لأن عمومَ كلِّ فرقةٍ يقتضي أن ينفِرَ من كل ثلاثةٍ تفردوا بقرية طائفةٌ إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الإخبارُ ما لم يتواتر لم يُفِدْ ذلك وقد قيل للآية وجهٌ آخرُ وهو أن المؤمنين لما سمعوا ما نزل في المتخلفين سارعوا إلى النفير رغبةً ورهبةً وانقطعوا عن التفقه فأُمروا أن ينفر من كل فرقةٍ طائفةٌ إلى الجهاد ويبقى أعقابُهم يتفقهون حتى لا ينقطع الفقهُ الذي هو الجهادُ الأكبرُ لأن الجدالَ بالحجة هو الأصلُ والمقصودُ من البعثة فالضميرُ في ليتفقهوا ولينذِروا لبواقي الفِرَق بعد الطوائفِ النافرةِ للغزو وفي رجعوا للطوائف أي ولينذر البواقي قومَهم النافرين إذا رجَعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم

سورة براءة آية (123 124)

ص: 112

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} أُمروا بقتال الأقربِ منهم فالأقرب كما أُمر صلى الله عليه وسلم أولاً بإنذار عشيرتِه فإن الأقربَ أحقُّ بالشفقة والاستصلاحِ قيل هم اليهودُ حوالي المدينة كبني قرُيظةَ والنَّضير وخيبَر وقيل الرومُ فإنهم كانوا يسكنون الشامَ وهو قريبٌ من المدينة بالنسبة إلى العراق وغيره

{وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة وصبرا على القتال وقرئ بفتح الغين كسَخْطة وبضمها وهما لغتان فيها

{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} بالعصمة والنصرة والمرادُ بهم إما المخاطَبون ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضمير للتنصيص على أن الإيمانَ والقتالَ على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أولياً والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ وقد ذُكر وجهُ دخولِ مع على المتبوع في قوله تعالى إن الله مَعَنَا

ص: 112

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من سور القرآن

{فَمِنْهُمْ} أي من المنافقين

{مَن يقول} لإخوانهم ليثبِّتهم على النفاق أو لعوامّ المؤمنين وضعفتِهم ليصُدّهم عن الإيمان

{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه} السورة

{إيمانا} وقرئ بنصب أيَّكم على تقدير فعلٍ يفسِّره المذكورُ

ص: 112

أي زادت أيُّكم زادتْه هذه الخ وإيرادُ الزيادةِ مع أنه لا إيمانَ فيهم أصلاً باعتبار اعتقادِ المؤمنين حسبما نطق به قوله تعالى إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ زَادَتْهُمْ إيمانا

{فَأَمَّا الذين آمنوا} جوابٌ من جهته سبحانه وتحقيقٌ للحق وتعيينٌ لحالهم عاجلاً وآجلاً أي فأما الذين آمنوا بالله تعالى وبما جاء من عنده

{فَزَادَتْهُمْ إيمانا} بزيادة العلمِ اليقينيِّ الحاصلِ من التدبر فيها والوقوفِ عَلى ما فَيها من الحقائق وانضمامِ إيمانِهم بما فيها بإيمانهم السابق

{وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بنزولها وبما فيه من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ

سورة براءة آية (125 127)

ص: 113

{وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي كفرٌ وسوءُ عقيدة

{فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} أي كُفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها وعقائدَ باطلةً وأخلاقاً ذميمةً كذلك

{وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون} واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه

ص: 113

{أَوْ لَا يَرَوْنَ} الهمزةُ للإنكار والتوبيخ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ أي ألا ينظُرون ولا يرَوْن

{أَنَّهُمْ} أي المنافقين

{يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ} من الأعوام

{مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} والمرادُ مجردُ التكثيرِ لا بيانُ الوقوع حسب العدد المزبورِ أي يُبتلَوْن بأفانينِ البليات من المرض والشدةِ وغيرِ ذلك مما يذكّر الذنوبَ والوقوفَ بين يدي ربَّ العِزَّة فيؤدي إلى الإيمان به تعالى أو الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعانون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما القوارعُ الزائدة للإيمان الناعية عليه ما فيهم من القبائح المخزيةِ لهم

{ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عطف على لا يَرَوْن داخلٌ تحت الإنكار والتوبيخِ وكذا قوله تعالى

{وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} والمعنى أولا يَرَون افتتانَهم الموجبَ لإيمانهم ثم لا يتوبون عمَّا هُم عليهِ من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفِتن الموجبةِ للتذكر والتوبة وقرئ بالتاء والخطاب للمؤمنين والهمزةُ للتعجيب أي ألا تظرون ولا ترَوْن أحوالَهم العجيبة التي هي افتتانُهم على وجه التتابعِ وعدمَ التنبّهِ لذلك فقوله تعالى ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وما عطف عليه معطوفٌ على يفتنون

ص: 113

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} بيان لأحوالهم عند نزولِها وهم في محفل تبليغِ الوحي كما أن الأولَ بيانٌ لمقالاتهم وهم غائبون عنه

{نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} تغامزوا بالعيون إنكاراً لها أو سخريةً بها أو غيظاً لما فيها من مخازيهم

{هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ} أي قائلين هل يراكم أحدٌ من المسلمين لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلبُ عليهم الضحِكُ فيفتَضِحون أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروجِ والانسلال لو إذا يقولون هل يراكم من أحد إن قمتم من المجلس وإيرادُ ضمير الخطابِ لبعث المخاطَبين على الجد في انتهاز الفرصةِ فإن المرءَ بشأنه أكثرُ اهتماماً منه بشأن أصحابِه كما في قوله تعالى وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا وقيل المعنى وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ في عيوب

ص: 113

المنافقين

{ثُمَّ انصرفوا} عطفٌ على نظَر بعضُهم والتراخي باعتبار وُجدانِ الفرصةِ والوقوفِ على عدمِ رؤيةِ أحدٍ من المؤمنين أي انصرفوا جميعاً عن محفِل الوحيِ خوفاً من الافتضاح أو غير ذلك

{صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} أي عن الإيمان حسَب انصرافِهم عن المجلس والجملة إخبارية أو دعائية

{بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم

{قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ} لسوء الفهم أو لعدم التدبر

سورة براءة آية (128 129)

ص: 114

{لَقَدْ جَاءكُمْ} الخطابُ للعرب

{رسول} أي رسول رسول عظيمُ الشأن

{مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسِكم عربيٌّ قرشي مثلكم وقرئ بفتح الفاء أي أشرفِكم وأفضِلكم

{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي شاقٌّ شديدٌ عليه عَنَتُكم ولقاؤكم المكروهَ فهو يخاف عليكم سوءَ العاقبةِ والوقوعَ في العذاب وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة

{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في إيمانكم وصلاحِ حالِكم

{بالمؤمنين} منكم ومن غيركم

{رؤوف رَّحِيمٌ} قدِّم الأبلغُ منهما وهي الرأفةُ التي هي عبارةٌ عن شدة الرحمةِ محافظةً على الفواصل

ص: 114

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم تسليةً له أي إن أعرضوا عن الإيمان بك

{فَقُلْ حَسْبِىَ الله} فإنه يكفيك ويُعينك عليهم

{لَا إله إِلَاّ هُوَ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله

{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فلا أرجو ولا أخاف إلا منه

{وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} أي المُلك العظيمِ أو الجِسم الأعظمِ المحيط الذي تنزل منه الأحكامُ والمقادير وقرئ العظيمُ بالرفع وعن أبي أن آخِرَ ما نزل هاتان الآيتان وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما نزل القرآن على إلا آيةً آيةً وحرفاً حرفاً ما خلا سورةَ براءةٌ وسورةَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فإنهما أُنزلتا عَليّ ومعهما سبعونَ ألفَ صفٍ منَ الملائكة

ص: 114

سورة يونس عليه السلام مكية وهى مائة وتسع آيات

سورة يونس (1)

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 115

{الر} بتفخيم الراءِ المفتوحةِ وقرىء بالإمالة إجراءً للأصلية مُجرى المنقلبة عن الياء وقرىء بينَ بين وهو إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بطريقِ التَّحدِّي على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسُّورةِ كما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذه السورةُ مسماةٌ بألر وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداء لعدم سبق العلمِ بالتسميةِ بعدُ فحقُّها الإخبارُ بها لا جعلُها عنوانَ الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرها لِما أنها باعتبار كونِها على جناح الذكْرِ وبصدده صارت في حكم الحاضِر كما يقال هذا ما اشترى فلان أو النصبُ بتقديرِ فعلِ لائقٍ بالمقام نحوُ اذكُر أو اقرأْ وكلمةُ

{تِلْكَ} إشارةٌ إليها إما على تقدير كونِ الر مسرودة على نمط التعديدِ فقد نُزّل حضورُ مادتِها التي هي الحروفُ المذكورةُ منزلةَ ذكِرها فأشير إليها كأنه قيل هذه الكلماتُ المؤلفةُ من جنس هذه الحروفِ المبسوطةِ الخ وأما على تقديرِ كونِه اسماً للسورة فقد نوّهتُ بالإشارة إليها بعد تنويهِها بتعيين اسمِها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلِتها في الفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى

{آيَات الكتاب} وعلى تقدير كون الر مبتدأً فهو مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأَّولِ والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسم متسقل والمقصودُ ببيانِ بعضيَّتِها منه وصفُها بما اشتهر اتصافُه به من النعوت الفاضلةِ والصفاتِ الكاملةِ والمرادُ بالكتاب إما جميعُ القرآنِ العظيم وإن لم ينزل الكلُّ حينئذ إما باعبتار تعيّنِه وتحققِه في علمِ الله عزَّ وعلا أو في اللَّوحِ أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا كَما هو المشهورُ فإن فاتحةَ الكتاب كانت مسماة بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولمّا يحصُلِ المجموعُ الشخصي إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كلَ من الكتاب والقرآن بأحد الاعتبارات المذكورة وإما جميعُ القرآنِ النازلِ وقتئذ المتفاهَمِ بين الناسِ إذ ذاك فإنه كما يُطلق على المجموع الشخصيّ يُطلق على مجموع ما نزل في كل عصرٍ ألا يُرى إلى ما رُوي عنْ جابرٌ رضي الله عنه أنه قال كان النبيِّ صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحُدٍ في ثوب واحد ثم يقول أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد فإن ما يفهمه الناسُ من القرآن في ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت في أخذه إنما هو المجموعُ النازلُ حينئذ من غير

ص: 115