المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوفٌ مؤلفةٌ مما لا - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٤

[أبو السعود]

الفصل: السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوفٌ مؤلفةٌ مما لا

السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوفٌ مؤلفةٌ مما لا يكاد يُتوّهم وقد أيد ذلك بقوله عز وجل

{وما أنت علينا بعزيز} مُكْرمٌ محْترمٌ حتى نمتنع من رجمك وإنما نكفُ عنه للمحافظة على حرمة رهطِك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا وإيلاءُ الضميرِ حرفَ النفي وإن لم يكن الخبرُ فعلياً غيرَ خالٍ عن الدِلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعلِ لا سيما مع قرينة قولِه ولولا رهطُك كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطُك هم الأعزةُ علينا وحيث كان غرضُهم من عظيمتهم هذه عائداً إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزةِ الربّانيّتين حسبما يوجبه كونُه على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ مؤيَّداً من عنده ويقتضيه قضيةُ طلبِ التوفيقِ منه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه وإلى إسقاط ذلك كلِّه عن درجة الاعتدادِ به والاعتبار

ص: 236

{قَالَ} عليه السلام في جوابهم

هود ‌

‌(92

93) {يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} فإن الاستهانةَ بمن لا يَتعزّز إلا به عز وجل استهانةٌ بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزِّيّةَ رهطِه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلقُ عزةِ رهطِه لا أعزبتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزةِ لتثنية التقريعِ وتكريرِ التوبيخِ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهطِ على جنبة الله تعالى وثانيا بنفي العزة بالمرة والمعنى أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله فإنه مما لا يكاد يصح والحال إنكم لم تجعلوا له تعالى حظاً من العزة أصلاً

{واتخذتموه} بسبب عدم اعتدادِكم بمن لا يرِدُ ولا يصدُر إلا بأمره

{وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} أي شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً لا يبالى به منسوبٌ إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كالإِمسيّ في النسبة إلى الأمس

{إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ السَّيئةِ التي من جُملتها عدمُ مراعاتِكم لجانبه

{مُحِيطٌ} لا يخفى عليه منها خافيةٌ وإن جعلتموه منسياً فيجازيكم عليها ويحتمل أن يكون الإنكارُ للرد والتكذيب فإنهم لما ادَّعَوا أنهم لا يكفّون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزّتِه بل لمراعاة جانب رهطِه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدَّرتم الله حقَّ قدرِه العزيزِ ولم تراعوا جنابَه القويَّ فكيف تراعون جانبَ رهطي الأذلة

ص: 236

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} لما رأى عليه السلام إصرارَهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عمَّا هُم عليهِ من المعاصي حتى اجترءوا على العظيمة التي هي الاستهانةُ به والعزيمةُ على رجمه لولا حُرمةُ رهطِه قال لهم على طريقة التهديد اعملوا

{على مَكَانَتِكُمْ} أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام رداً لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتمُ عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة والمعنى اثبُتوا على ما أنتُم عليهِ من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خير

ص: 236

فيه وابدلوا جهدكم في مضارتي وإيقاع ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوةِ إلى الفعلِ

{إِنّى عامل} على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق

{سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما هدّدهم عليه السلام بقوله اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ فماذا يكون بعد ذلك فقيل سوف تَعْلَمُونَ

{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه

{وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه لرعاية جانبِ الرهطِ والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذب الكاذب ليس بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمر ومن إما استفهاميةٌ معلِّقةٌ للعلم عن العمل كأنه قيل سوف تعلمون أيُّنا يأتيه عذابٌ يُخزيه وأيُّنا كاذبٌ وإما موصولةٌ أي سوف تعرِفون الذي يأتيه عذابٌ والذي هو كاذب

{وارتقبوا} وانتظروا مآلَ ما أقول

{إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظرٌ فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهارٌ منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره

هود (94 95)

ص: 237

{ولما جاء أمرنا} أي عذابُنا كما ينبىء عنه قوله تعالى سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ أو وقتُه فإن الارتقابَ مؤذِنٌ بذلك

{نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وهي الإيمانُ الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنةٍ منّا لهم وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لِما أنه لم يسبِقْه فيها ذكرُ وعدٍ يجري مجرى السببِ المقتضي لدخول الفاءِ في معلوله كما في قصتي صالحٍ ولوط فإنه قد سبق هنالك سابقةُ الوعد بقوله ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح

{وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} عدل إليه عن الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمِهم الذي فُصّل فيما سبق فنونُه

{الصيحة} قيل صاح بهم جبريلُ عليه السلام فهلكُوا وفي سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة وفي سورة العنكبوت فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة أي الزَّلزلةُ ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل

{فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين} ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منهَا ولمّا لم يُجعل متعلَّقُ العلمِ في قوله تعالى سَوْفَ تَعْلَمُونَ من يأته عَذَابٌ الخ نفسَ مجيءِ العذابِ بل من يجيئه ذلك جُعل مجيئُه بعد ذلك أمراً مسلَّمَ الوقوعِ غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطاً وجُعل تنجيةُ شعيبٍ عليه السلام وإهلاكُ الكفرة جواباً له ومقصودَ الإفادة وإنما قدّم تنجيتُه اهتماماً بشأنها وإيذاناً بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الربوبيةِ على الغضب الذي يظهر أثرُه بموجب جرائرِهم وجرائمهم

ص: 237

{فِيهَا} متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها

{أَلَا بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العدولُ عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدلَّ على طغيانهم الذي أدّاهم إلى هذه المرتبةِ وليكون أنسبَ بمن شُبّه هلاكُهم بهلاكهم أعني ثمود وإنما شُبّه هلاكُهم بهلاكهم لأنهما أُهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة غير أن هؤلاءِ صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرىء بعُدت بالضم على الأصل فإن الكسرَ تغييرٌ لتخصيص معنى البُعد بما يكون سببَ الهلاك والبعدُ مصدرٌ لهما والبُعدُ مصدرٌ للمكسور

هود (96 97)

ص: 238

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليدُ البيضاءُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدمُ ونقصُ الثمراتِ والأنفس ومنهم من جعلهما آيةً واحدةً وعدّ منها إظلالَ الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكامِ التوراةِ حين أباه بنو إسرائيلَ والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول أرسلنا أو نعتاً لمصدره المؤكّد أي أرسلناه حال كونِه ملتبساً بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها

{وسلطان مُّبِينٍ} هو المعجزاتُ الباهرةُ منها أو هو العصا والإفرادُ بالذكر لإظهار شرفِها لكونها أبهرَها أو المرادُ بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد أي أرسلناه بالجامع بين كونِه آياتِنا وبين كونِه سلطاناً له على نبوّته واضحاً في نفسه أو موضّحاً إياها من أبان لازماً ومتعدّياً أو هو الغلبةُ والاستيلاءُ كقوله تعالى وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا ويجوز أن يكون المرادُ ما بينَهُ عليه السلام في تضاعيف دعوتِه حين قال له فرعونُ مِنْ رَبّكُمَا فَمَا بَالُ القرون الاولى من الحقائق الرائقةِ والدقائقِ اللائقةِ وجعلُه عبارة عن التوراة أو إدراجها في جملة الآيات يردّه قوله عز وجل

ص: 238

{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} فإن نزولَها إنما كان بعد مهلِك فرعونَ وقومِه قاطبةً ليعمل بها بنو إسرائيلَ فيما يأتُون وما يَذَرُون وأما فرعونُ وقومُه فإنما كانوا مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانه وترك العظيمةِ الشنعاءِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ وبإرسال بني إسرائيلَ من الأسرِ والقسر وتخصيصُ ملئه بالذكر مع عموم رسالتِه عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبيرِ الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور وإنما لم يصرَّح بكفر فرعونَ بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل

{فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي أمرَه بالكفر بما جاءَ به موسَى عليه السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حالِه فكأن كفرَه وأمْرَ ملئِه بذلك أمرٌ محققُ الوجودِ غيرُ محتاجٍ إلى الذكر صريحاً وإنما المحتاجُ إلى ذلك شأن ملئِه المترددين بين هادٍ إلى الحق وداعٍ إلى الضلال فنعى عليهم سوءَ اختيارِهم وإيرادُ الفاء في اتّباعهم المترتبِ على أمر فرعونَ المبنيِّ على كفره المسبوقِ بتبليغ الرسالةِ للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعةِ فرعونَ إلى الكفر وأمرِهم به فكأن ذلك كلّه لم يتراخَ عن الإرسال والتبليغِ بل وقع جميعُ ذلك في وقت واحد فوقع إثرَ ذلك اتباعُهم ويجوز أن يرادَ بأمر فرعونَ شأنُه المشهورُ وطريقتُه الزائغةُ فيكون معنى فاتبعوا فاستمرّوا على الاتّباع والفاءُ

ص: 238

مثلُ ما في قولِك وعظتُه فلم يتَّعِظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ فتأمل وتركُ الإضمارِ لدفع توهُّمِ الرجوعِ إلى مُوسى عليه السلام من أول الأمرِ ولزيادة تقبيحِ حال المتبعين فإن فرعونَ علَمٌ في الفساد والإفساد والضلالِ والإضلال فاتباعُه لفَرْط الجهالِة وعدمِ الاستبصار وكذا الحالُ في قولِه تعالى

{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} الرُّشدُ ضدُّ الغِيّ وقد يراد به محموديّةُ العاقبةِ فهو على الأول بمعنى المرشد أو ذي الرشد حقيقةٌ لغويةٌ والإسنادُ مجازيٌّ وعلى الثاني مجازٌ والإسناد حقيقي

هود (98 100)

ص: 239

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ} جميعاً من الأشراف وغيرِهم

{يَوْمُ القيامة} أي يتقدّمهم من قدَمه بمعنى تقدّمه وهو استئنافٌ لبيان حالِه في الآخرة أي كما كان قدوةً لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو لتوضيح عدمِ صلاحِ مآلِ أمرِه وسوءِ عاقبتِه

{فَأَوْرَدَهُمُ النار} أي يوردهم وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق الوقوعِ لا محالة شُبّه فرعونُ بالفارط الذي يتقدم الواردةَ إلى الماء وأتباعُه بالواردة والنارُ بالماء الذي يرِدُونه ثم قيل

{وَبِئْسَ الورد المورود} أي بئس الوردُ الذي يرِدونه النارُ لأن الورد إنما يراد لتسكين العطشِ وتبريدِ الأكباد والنارُ على ضد ذلك

ص: 239

{واتبعوا} أي الملأُ الذين اتّبعوا أمرَ فرعون

{فِى هذه} أي في الدنيا

{لَّعْنَةُ} عظيمةً حيث يلعنهم مَنْ بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة

{وَيَوْمَ القيامة} أيضاً حيث يلعنهم أهلُ الموقفِ قاطبةً فهي تابعة لهم حينما ساروا دائرةٌ معهم أينما داروا في الموقف فكما اتّبعوا فرعونَ اتّبعتْهم اللعنةُ في الدارين جزاء وفاقاً واكتُفي ببيان حالِهم الفظيعِ وشأنِهم الشنيعِ عن بيان حالِ فرعونَ إذ حين كان حالُهم هكذا فمَا ظنُّكَ بحالِ من أغوارهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأنُ الأتباع أن يكونوا أعواناً للمتبوع جُعلت اللعنةُ رِفداً لهم على طريقة التهكّم فقيل

{بِئْسَ الرفد المرفود} أي بئس العونُ المُعانُ وقد فُسر الرفدُ بالعطاء ولا يلائمه المقام وأصلُه ما يضاف إلى غيره ليُعمِّده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي رفدُهم وهي اللعنةُ في الدارين وكونُه مرفوداً من حيث أن كلَّ لعنة منها مُعِيْنةٌ ومُمِدّةٌ لصاحبتها ومؤيدةٌ لها

ص: 239

{ذلك} إشارة إلى ما قُص من أنباء الأممِ وبعده باعتبار تقضّيه في الذكر والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره

{من أَنْبَاء القرى} المهلَكة بما جنتْه أيدي أهلِها

{نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبرٌ بعد خبرٍ أي ذلك النبأُ بعضُ أنباءِ القرى مقصوصٌ عليك

{مِنْهَا} أي من تلك القرى

{قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي ومنها حصيد حُذف لدلالة الأولِ عليه شُبّه ما بقيَ منها بالزرع القائمِ على ساقه وما عفا وبطَل بالحصيد والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب

ص: 239

هود الآية (101 102 103 104)

ص: 240

{وَمَا ظلمناهم} بأن أهلكناهم

{ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بأن جعلوها عُرضةً للهلاك باقتراف ما يوجبه

{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا دفعتْ بأسَ الله تعالى عنهم

{آلهتهم التي يدعون} أي يعبدونها

{من دُونِ الله} أُوثر صيغةُ المضارعِ حكايةٌ للحال الماضيةِ أو دِلالةً على استمرار عبادتِهم لها

{مِن شَىْء} في موضع المصدر أي شيئا من الإغناء

{لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي حين مجيءِ عذابِه وهو منصوبٌ بأغنت وقرىء آلهتُهم اللاتي ويُدْعَون على البناء للمجهول

{وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسِروا بسبب عبادتِهم لها

ص: 240

{وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الأخذِ الذي مر بيانُه وهو رفعٌ على الابتداء وخبرُه قوله

{أَخْذُ رَبّكَ} وقرىء أخذَ ربُّك فمحلُّ الكاف النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكد

{إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلَها وإنما أُسند إليها للإشعار بَسَريان أثرِه إليها حسبما ذُكر وقرىء إذْ أخذ

{وَهِىَ ظالمة} حالٌ من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مُقامَهم في الأخذ أُجريت الحالُ عليها وفائدتُها الإشعارُ بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرةً لكل ظالم

{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يَخفْى من التهديد والتحذير

ص: 240

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في أخذه تعالى للأمم المهلكة أو في قصصهم

{لآيَةً} لعبرةً

{لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة} فإنه المعتبرُ به حيث يُستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسببِ ما عمِلوا من السيئات على أحوال عذابِ الآخرة وأما من أنكر الآخرةَ وأحال فناءَ العالم وزعم أن ليس هو ولا شيءٌ من أحواله مستنداً إلى الفاعل المختارِ وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكيةٍ تتفق في بعض الأوقاتِ لا لما ذُكر من المعاصي التي يقترفها الأممُ الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبارِ تباً لهم ولما لهم من الأفكار

{ذلك} إشارةٌ إلى يوم القيامةِ المدلول عليه بذكر الآخرة

{يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} أي يجمع لَّهُ الناس للمحاسبة والجزاءِ والتغييرُ للدلالة على ثبات معنى الجمعِ وتحقق وقوعِه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قولِه تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع

{وَذَلِكَ} أي يومُ القيامة مع ملاحظة عنوانِ جمعِ الناس له

{يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهلُ السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظفر مُجرى المفعولِ به كما في قوله

في محفل من نواصي الناس مشهود

أي كثيرٌ شاهدوه ولو جُعل نفسُ اليوم مشهوداً لفات ما هو الغرضُ من تعظيم اليومِ وتهويلِه وتمييزِه عن غيره فإن سائرَ الأيام أيضاً كذلك

ص: 240

{وَمَا نُؤَخّرُهُ}

ص: 240

أي ذلك اليومَ الملحوظَ بعُنوانيْ الجمعِ والشهود

{إِلَاّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانقضاء مدةٍ قليلةٍ مضروبةٍ حسبما تقتضيه الحكمة

هود (105 107)

ص: 241

{يَوْمَ يَأْتِ} أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى أن تَأْتِيَهُمُ الساعة وقيل يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه وقيل أي الله عز وجل فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل

{لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى إِلَاّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر {إِلَاّ بِإِذْنِهِ} عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليوم وقوله عز وجل هذا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ونظائرِه

{فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} وجبت له النارُ بموجب الوعيد

{وَسَعِيدٌ} أي ومنهم سعيدٌ حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنة بمتضى الوعد والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو للناس وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقام مقام التحذير والإنذار

ص: 241

{فَأَمَّا الذين شَقُواْ} أي سبَقَت لهم الشقاوةُ

{فَفِى النار} أي مستقرّون فيها

{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ رده واستعمالهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش

بعيدُ مدى التطريب أولُ صوتِه

زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ

والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرىء شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال ما شأنُهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضميرِ في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه

ص: 241

{خالدين فِيهَا} خلا أنَّه إنْ أُريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ

{ما دامت السماوات والأرض} أي مدة دوامهما وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأييد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب ما دام تعار وما أقام ثَبيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات وقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ

ص: 241

لا بد لهم من مِظلّة ومِقلّة دائمتين يكفي في تعليقي دوامِ قرارِهم فيها بدوامهما ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالِهما وكيفياتهما

{إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلَاّ الموتة الاولى وقوله وَلَا تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آباؤكم مّنَ النساء إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ وقولِه تعالى حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوهَّمُ من كون استحالةِ تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال

{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ وقيل هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطل قدار العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها فِى هذه الحياةِ الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما رواء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم ولذلك لم يتعرّض لبيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل وهذه العقوباتُ وإن كان تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيلَ ما بمعنَى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين

سورة هود (108)

ص: 242

{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والارض} الكلامُ فيه كالكلام فيما سبق خلَا أنَّه لم يذكُر ههنا أن لهم فيها بهجةً وسروراً كما ذكر في أهل النارِ من أنه لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ لأن المقام مقام التحذير والإنذار

{إِلَاّ مَا شَاء رَبُّكَ} إنْ حمل على طريقة التعليقِ بالمُحال فقوله سبحانه

{عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى فَفِى الجنة خالدين فِيهَا يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنه قيل يعطيهم عطاءً وهو إما اسمُ مصدرٍ هو الإعطاءُ أو مصدرٌ بحذف الزوائدِ كقوله تعالى أنبتكم

ص: 242

هود الآية (109 110) من الارض نباتا وإن حُمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبّر عنه بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو نصبٌ على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة أو تمييزٌ فإن نسبةَ مشيئةِ الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاءٍ مجذوذ وعلى جهة عطاءٍ غيرِ مجذوذ فهو رافعٌ للإبهام عن النسبة قال ابن زيد أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنةِ فقال عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ولم يُخبرنا بالذي يشاء لأهل النارِ ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعاً لما يتوهم من ظاهر الاستثناءِ من انقطاعه

ص: 243

{فَلَا تَكُ فِى مِرْيَةٍ} أي في شك والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما قُصّ من القصص وبُيّن في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية

{مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي من جهة عبادةِ هؤلاء المشركين وسوءِ عاقبتها أو من حال ما يعبُدونه من الأوثان في عدم نفعِه لهم ولمّا كان مَساقُ النظمِ الكريم قبيل الشروعِ في القصص لبيان غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ وكمالِ حسنِ حال المؤمنين وقد ضُرب لهم مثلُ فقيل مَثَلُ الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وقد قُص عَقيبَ ذلك من أنباء الأممِ السالفة مع رسلهم المبعوثةِ إليهم ما يتذكر به المتذكِّرُ نُهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كونه في شك من مصير أمرِ هؤلاءِ المشركين في العاجل والآجلِ ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل

{مَا يَعْبُدُونَ إلا كما يعبد آباؤهم} الذين قُصّت عليك قصصُهم

{مِن قَبْلُ} أي هم وآباؤُهم سواءٌ في الشرك ما يعبدون عبادةً إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثلَ ما عبدوه من الأوثان والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها أو مثلَ ما كانوا يعبدونه فحُذف كان لِدلالة قولهِ من قبل عليه ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثلُ ذلك فإن تماثلَ الأسبابِ يقتضي تماثل المسبَّبات

{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} أي هؤلاء الكفرة

{نَصِيبَهُمْ} أي حظَّهم المعيَّنَ لهم حسن جرائمِهم وجرائرِهم من العذاب عاجلاً وآجلاً كما وفّينا آباءَهم أنصباءَهم المقدّرة لهم أو من الرزق المقسومِ لهم فيكون بياناً لوجه تأخُّرِ العذاب عنهم مع تحقُّق ما يُوجبه

{غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مؤكدة من النصيب كقوله تعالى ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ وفائدتُه دفعُ توهّم التجوّزِ وجعلُها مقيدةً له لدفع احتمالِ كونِه منقوصاً في حد نفسه مبنيٌّ على الذهول عن كون العاملِ هو التوفيةَ فتأمل

ص: 243

{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة

{فاختلف فِيهِ} أي في شأنه وكونِه من عند الله تعالى فآمن به قومٌ وكفر به آخرون فلا تبالِ باختلاف قومِك فيما آتيناك من القرآن وقولِهم لَوْلَا أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ وزعمِهم أنك افتريتَه

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ}

ص: 243

وهي كلمةُ القضاءِ بإنظارهم إلى يوم القيامةِ على حسب الحِكمةِ الداعيةِ إلى ذلك

{لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لأوقع القضاءَ بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطِلون ليتميّزوا به عن المُحِقّين وقيل بين قوم موسى وليس بذاك

{وَإِنَّهُمْ} أي وإن كفارَ قومِك أريد به بعضُ من رجع إليهم ضميرُ بينهم للأمن من الإلباس

ص: 244

{لَفِى شَكّ} عظيم

{مِنْهُ} أي من القرآن وإن لم يجْرِ له ذكر فإن ذكرَ إيتاءِ كتابِ موسى ووقوعِ الاختلافِ فيه لا سيما بصدد التسليةِ ينادي به نداءً غيرَ خفي

{مُرِيبٍ} مُوقِع في الريبة

{وَإِنَّ كُلاًّ} التنوينُ عوضٌ عن المضافِ إليهِ أي وإن كلَّ المختلِفين فيه المؤمنين منهم والكافرين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتباراً للأصل

{لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم واللامُ الأولى موطئةٌ للقسمِ والثانيةُ جوابٌ للقسم المحذوف ولما مركبةٌ مِنْ الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمِن فقلبت النون مميا للإدغام فاجتمع ثلاث ميماتٍ فحُذفت أولاهن والمعنى لَمِن الذي أو لمِنْ خلْقٍ أو لمن فريقٍ والله ليوفينهم ربك وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أن ما مزيدةٌ للفصل بين اللامين والمعنى وإن جميعَهم والله ليوفينهم الآية وقرىء لمًّا بالتنوين أي جميعاً كقوله سبحانه أَكْلاً لَّمّاً وقرأ أبي وإنْ كلٌّ لمّا ليوفينهم على أن أن نافيةٌ ولَمَّا بمَعْنى إلَاّ وقد قرىء به

{إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما يعمله كلُّ فردٍ من المختلفين من الخير والشر

{خَبِيرٌ} بحيثُ لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه وهو تعليلٌ لما سبق من توفية أجزيةِ أعمالِهم فإن الإحاطةَ بتفاصيل أعمالِ الفريقين وما يستوجبه كلُّ عمل بمقتضى الحكمةِ من الجزاء المخصوصِ توجب توفيةَ كلَّ ذِي حقٍ حقَّه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر

ص: 244

{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} لما بيّن في تضاعيف القصص المَحْكية عن الأمم الماضيةِ سوءُ عاقبة الكفرِ وعصيانِ الرسل وأُشير إلى أن حالَ هؤلاء الكفرةِ في الكفر والضلالِ واستحقاق العذابِ مثلُ أولئك المعذبين وأن نصيبَهم من العذاب واصلٌ إليهم من غير نقص وأن تكذيبَهم للقرآن مثلُ تكذيبِ قوم موسى عليه السلام للتوراة وأنه لو لم تسبِقْ كلمةُ القضاءِ بتأخير عقوبتِهم العامةِ ومؤاخذتِهم التامّةِ إلى يوم القيامة لفُعل بهم ما فُعل بآبائهم من قبلُ وأنهم يُوفَّوْن نصيبَهم غيرَ منقوص وأن كل واحدٍ من المؤمنين والكافرين يوفى جزاءَ عملِه أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة كما أمر به في العقائد والأعمالِ المشتركة بينه وبين سائِر المؤمنين ولا سيما الأعمالُ الخاصةُ به عليه السلام من تبليغ الأحكامِ الشرعية والقيامِ بوظائف النبوةِ وتحمّل أعباءِ الرسالةِ بحيث يدخُل تحته ما أمر به فيما سبقَ من قولِه تعالى فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ الآية وبالجملة فهذا الأمرُ منتظمٌ لجميع محاسنِ الأحكامِ الأصليةِ والفرعية والكمالاتِ النظريةِ والعملية والخروجُ من عُهدته في غايةِ ما يكونُ من الصعوبة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيبتْني سورةُ هود

{وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي تاب من الشرك والكفرِ وشاركك في الإيمان وهو المعنيُّ بالمعية وهو معطوفٌ على

ص: 244

هود الآية (113 114) المستكنّ في قوله فاستقم وحسُن من غير تأكيدٍ لمكان الفاصل القائمِ مَقامَه وفي الحقيقة هو مِن عطف الجملةِ على الجملة إذ المعنى وليستقم مَنْ تاب معك وقيلَ هو منصوبٌ على أنه مفعولٌ معه كما قاله أبو البقاء والمعنى استقم مصاحباً لمن تاب معك

{وَلَا تَطْغَوْاْ} ولا تنحرفوا عما حُدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرف قصدِ الأمور ذميمٌ وإنما سُمّي ذلك طغياناً وهو تجاوزُ الحدِّ تغليظاً أو تغليباً لحال سائرِ المؤمنين على حاله عليه السلام

{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم على ذلك وهو تعليلٌ للأمر والنهي وفي الآيةِ دِلالةٌ على وجوب اتباعِ المنصوص عليه من غير انحرافٍ بمجرد الرأي فإنه طغيانٌ وضلالٌ وأما العملُ بمقتضى الاجتهادِ التابعِ لعلل النصوصِ فذلك من باب الاستقامةِ كما أمر على موجب النصوصِ الآمرةِ بالاجتهاد

ص: 245

{وَلَا تَرْكَنُواْ} أي لا تميلوا أدنى ميلٍ

{إِلَى الذين ظَلَمُواْ} أي إلى الذين وُجد منهم الظلمُ في الجملة ومدارُ النهي هوالظلم والجمعُ باعتبار جمعيةِ المخاطَبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعةً مظِنةُ الرخصةِ في مداهنتهم إنما يتم أن لو كان المرادُ النهيَ عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعةٌ وليس كذلك

{فَتَمَسَّكُمُ} بسبب ذلك

{النار} وإذا كان حالُ الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مِساس النارِ هكذا فما ظنك بمن يمل إلى الراسخين في الظلم والعُدوان ميلاً عظيماً ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتِهم ويُلقي شراشِرَه على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيّي بزِيّهم ويمُدّ عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبِطُهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعُف الطالبُ والمطلوب والآيةُ أبلغُ ما يتصور في النهْي عن الظلم والتهديدِ عليه وخطابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدلُ فإن الميلَ إلى أحد طرفي الإفراطِ والتفريطِ ظلمٌ على نفسه أو على غيره وقرىء تركنوا على لغة تميم وتُركَنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه

{وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} أي من أنصار يُنقِذونكم من النار والجملة نصب على الحالية من قوله فتمسكم النار ونفيُ الأولياءِ ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحدٍ منهم أولياءُ حتى يصدُقَ أن يكون له وليٌّ بل لمكان لكم بطريق انقسامِ الآحادِ على الآحاد لكنْ لا على مَعْنى نفي استقلالِ كلَ منهم بنصير بل على معنى نفيِ أن يكون لواحد منهم نصيرٌ بقرينة المقام

{ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبَكم بركونكم إليهم ولا يُبقيَ عليكم وثم لتراخي رتبةِ كونِهم غيرَ منصورين من جهة الله بعد ما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاءِ بمعنى الاستبعادِ فإنه لما بيّن أن الله تعالى معذبُهم وأن غيرَه لا ينقذهم أنتج أنهم لا يُنصرون أصلاً

ص: 245

{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} أي غدوةً وعشيةً وانتصابُه على الظرفيه لكونه مضافاً إلى الوقت

{وَزُلَفاً مِّنَ الليل} أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار فإنه مِنْ أزلفه إذا قرّبه جمع زُلفة عطفٌ على طرفي النهار والمرادُ بصلاتهما صلاةُ

ص: 245

هود الآية (115 116) الغداة والعصرِ وقيل الظُهر موضعَ العصر لأن ما بعد الزوال عشيٌّ وبصلاة الزُلَف المغربُ والعشاء وقرىء زُلُفاً بضمتين وضمة وسكون كبُسْر وبُسُر وزُلفى بمعنى زُلفة كقربى بمعنى قربة

{إِنَّ الحسنات} التي من جملتها بل عُمدتُها ما أُمرت به من الصلوات

{يُذْهِبْنَ السيئات} التي قلما يخلو منها البشر أي يكفرنها وفي الحديث إن الصلاة إلى الصلاة كفارةٌ لما بينهما ما اجتنب الكبائر وقيل نزلتْ في أبي اليَسَر الأنصاريِّ إذ قبّل امرأةً ثم ندِم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال صلى الله عليه وسلم أنتظرُ أمرَ ربي فلما صلى صلاةَ العصر نزلت قال صلى الله عليه وسلم نعم اذهب فإنها كفارةٌ لما عمِلْت أو يمنعْن من اقترافها كقوله تعالى إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عن الفحشاء والمنكر

{ذلك} إشارةٌ إلى قوله تعالى فاستقم فما بعده وقيل إلى القرآن

{ذكرى للذاكرين} أي عظةٌ للمتعظين

ص: 246

{واصبر} على مشاقّ ما أُمِرْت به في تضاعيف الأوامرِ السابقةِ وأما ما نُهيَ عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس في الانتهاء عنه مشقةٌ فلا وجهَ لتعميم الصبرِ له اللهم إلا أن يُراد به ما لا يمكن عادة خلوُّ البشرِ عنه من أدنى ميلٍ بحكم الطبيعةِ عن الاستقامة المأمورِ بها ومن يسير ميلٍ بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلمٌ ما فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يَخْفى

{فَإِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي يوفيهم أجورَ أعمالهم من غير بخسٍ أصلاً وإنما عبِّر عن ذلك بنفي الإضاعةِ مع أن عدمَ إعطاءِ الأجرِ ليس بإضاعةٍ حقيقةً كيف لا والأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها ضياعُها لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يمتنع صدورُه عنْهُ سبحانَهُ منَ القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدةٍ عامةٍ لكل من يتصف به وهو تعليلٌ للأمر بالصبر وفيه إيماءٌ إلى أن الصبرَ على ما ذكر من باب الإحسان

ص: 246

{فَلَوْلَا كَانَ} فهلا كان

{مّنَ القرون} الكائنةِ

{مِن قَبْلِكُمْ} على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلتِه أو كائنةً من قبلكم

{أولوا بَقِيَّةٍ} من الرأي والعقلِ أو أولوا فضلٍ وخير وسُمّيا بها لأن الرجلَ إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجودَه وأفضلَه فصار مثلاً في الجودة والفضلِ ويقال فلان من بقيةِ القومِ أي من خيارِهم ومنه ما قيل في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقيةُ بمعنى البقوى كالتقية من التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط الله تعالى وعقابه ويؤيده أنه قرىء أولو بقْيةٍ وهي المرّةُ من مصدر بقاه يَبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبةِ وخشيةٍ من عذابِ الله تعالى كأنهم ينتظرون نزولَه لإشفاقهم

{يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض} الواقعِ منهم حسب ما حكى عنه

{إلا قليلا ممن أنجينا مِنْهُمْ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفةِ على أن من للبيان لا للتبعيض لأن جميعَ الناجين ناهون ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلامِ

ص: 246

هود الآية (117) لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي المذكورِ إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلاّ قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم مريداً لاستثناء الصلحاءِ من المُحضَّضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناءً من النفي اللازمِ للتحضيض فكأنه قيل ما كان من القرون أولو بقيةٍ إلا قليلاً منهم لكنَّ الرفعَ هو الأفصحُ حينئذ على البدلية

{واتبع الذين ظَلَمُواْ} بمباشرة الفسادِ وتركِ النهي عنه

{مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي أُنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها أما المباشرون فظاهرٌ وأما المساهلون فلِما لهم في ذلك من نيل حظوظِهم الفاسدة وقيل المرادُ بهم تاركو النهي وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه عدمُ دخولِ مباشري الفسادِ في الظلم والإجرام عبارةً

{وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي كافرين فهو بيانٌ لسبب استئصالِ الأمم المُهلَكة وهو فشوُّ الظلمِ واتباعُ الهوى فيهم وشيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وقوله واتّبع عطفٌ على مضمر دل عليه الكلامُ أي لم ينهَوا واتبع الخ فيكون العدولُ إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيلِ عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب أو على استئنافٍ يترتب على قوله إِلَاّ قَلِيلاً أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه فيكون الإظهارُ مقتضى الظاهِرِ وقوله وكانوا مجرمين عطفٌ على أترفوا أي اتبعوا الإتراف وكونُهم مجرمين لأن تابعَ الشهواتِ مغمورٌ بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالُهم للشكر أو على اتبع أي اتبعوا شهواتِهم وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين ويجوز أن يكون اعتراضاً وتسجيلاً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون وقرىء وأُتْبع أي أُتبعوا جزاءَ ما أُترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يُفسَّر به المشهورةُ ويعضُده تقدم الإنجاء

ص: 247

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} أي ما صح وما استقامَ بل استحال في الحكمةِ أن يُهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويُعلم من ذلك حالُ باقيها من القرى الظالمةِ واللام لتأكيد النفي وقوله

{بِظُلْمٍ} أي ملتبساً به قيل هو حالٌ من الفاعل أي ظالماً لها والتنكيرُ للتفخيم والإيذانِ بأن إهلاكَ المصلحين ظلمٌ عظيم والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لِما تقررَ منْ قاعدةِ أهلِ السنة وقد مر تفصليه في سورة آل عمران عند قولِه تعالى وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ وقوله تعالى

{وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حالٌ من المفعول والعاملُ عامله ولكن لا باعتبار تقيّدِه بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاكِ ظلماً بحال كونِ أهلِها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك وقيل المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فساداً آخرَ وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ عند تزاحم الحقوقِ حقوقَ العبادِ الفقراءِ على حقوق الله تعالى الغنيِّ الحميد وقيل المُلكُ يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك كان ينهي كلٌّ من الرسل الذين قُصّت أنباؤهم أمتَه أولاً عن الإشراك ثم عن

ص: 247

هود الآية (118 119 120) سائر المعاصي التي كانوا يتعاطَونها فالوجهُ حملُ الظلمِ على مطلق الفسادِ الشاملِ للشرك وغيرِه من أصناف المعاصي وحملُ الإصلاحِ على إصلاحه والإقلاعِ عنه بكون بعضهم متصدّين للنهي عنه وبعضِهم متوجّهين إلى الاتعاظ غيرَ مُصرِّين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد

ص: 248

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} مجتمعةً على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحدٌ ولكن لم يشأْ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق

{وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الحق أي مخالفين له كقولِه تعالى وَمَا اختلف فِيهِ إِلَاّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ

ص: 248

{إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا قوماً قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه وحملُه على مطلق الاختلاف الشاملِ لِما يصدر من المُحق والمُبطل يأباه الاستثناءُ المذكور

{ولذلك} أي ولما ذكر من الاختلاف

{خَلْقَهُمْ} أي الذين بقُوا بعد الثنيا وهم المختلِفون فاللامُ للعاقبة أو للترحم فالضميرُ لمن واللام في معناها أولهما معاً فالضميرُ للناس كافةً واللام بمعنى مجازيَ عامّ لكلا المعنيين

{وتمت كلمة رَبّكَ} أي وعيدُه أو قولُه للملائكة

{لَامْلَانَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} أي من عُصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما

ص: 248

{وَكُلاًّ} أي وكلَّ نبأ فالتنوين عوضا عن المضاف إليه

{نَقُصُّ عليك} يخبرك به وقوله تعالى

{مِنْ أَنْبَاء الرسل} بيانٌ لكُلاًّ وقوله تعالى

{مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدلٌ منه والأظهر أن يكون المضافُ إليه المحذوفُ في كلاًّ المفعولَ المطلق لنقصُّ أي كل اقتصاص أي كلَّ أسلوبٍ من أساليبه نقصُّ عليك من أنباء الرسل وقوله تعالى مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ مفعولُ نقصّ وفائدتُه التنبيهُ على أن المقصودَ بالاقتصاص زيادةُ يقينه عليه السلام وطُمأنينةُ قلبه وثباتُ نفسه على أداء الرسالة واحتمالِ أذية الكفارِ بالوقوف على تفاصيل أحوالِ الأممِ السالفة في تماديهم في الضلال وما لقيَ الرسلُ من جهتهم من مكابدة المشاقّ

{وَجَاءكَ فِى هذه} السورة أو الأنباءِ المقصوصة عليك

{الحق} الذي لا محيد عنه

{وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي الجامعُ بين كونه حقاً في نفسه وكونهِ موعظةً وذكرى للمؤمنين ولكون الوصفِ الأولِ حالاً له في نفسه حُلّي باللام دون ما هو وصفٌ له بالقياس إلى غيره وتقديمُ الظرفِ أعني في هذه على الفاعل لأن المقصودَ بيانُ منافعِ السورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها واشتمالِها على ما ذكر من المنافع المفصلةِ لا بيانُ كونِ ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّنٍ ولأن

ص: 248

هود الآية (121 122 123) في المؤخر نوعَ طولٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظمِ الكريم

ص: 249

{وَقُل لّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} بهذا الحقِّ ولا يتعظون به ولا يتذكرون

{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم وجِهتِكم التي هي عدمُ الإيمان

{إِنَّا عَامِلُونَ} على حالنا وهو الإيمانُ به والاتعاظُ والتذكرُ به

ص: 249

{وانتظروا} بنا الدوائرَ

{إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحوُ ما نزل بأمثالكم من الكفرة

ص: 249

{ولله غيب السماوات والارض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ} فيرجع لا محالة أمرُك وأمرُهم إليه وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعاً

{فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك والفاءُ لترتيب الأمرِ بالعبادة والتوكلِ على كون مرجعِ الأمور كلِّها إلى الله تعالى وفي تأخير الأمرِ بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ لأنه لا ينفع دونها

{وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم بموجبه وقرىء تعملون على تغليب المخاطَب أي أنت وهم فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بموجب الاستحقاق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ هودٍ أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات بعدد من صدق كلَّ واحدٍ من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد مَنْ كذّبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى

ص: 249