الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصول ملحقة
(1)
[ل 55/أ] فصل
[تعجرُف المشركين في اسم "الرحمن"]
وقع من مشركي قريش تعجرُفٌ في شأن الاسم الكريم "الرحمن". قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].
أخرج ابنُ جرير وغيره
(2)
عن ابن عباس قال: صلَّى [رسولُ]
(3)
الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا اللهُ، يا رحمنُ، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ! ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين!
وفي "الصحيحين" وغيرهما
(4)
عنه قال: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مختفٍ بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن. فإذا سمع ذلك
(1)
الفصول الآتية مأخوذة من مسودة أخرى للمصنف في تفسير البسملة. انظر: مقدمة التحقيق.
(2)
عزاه السيوطي في "الدر المنثور"(9/ 461) إلى ابن جرير وابن مردويه. والمصنف صادر عن "روح المعاني"(8/ 180). وانظر "تفسير الطبري"(15/ 123).
(3)
زيادة لازمة.
(4)
البخاري (4722)، ومسلم (446).
المشركون
سبُّوا القرآن، ومَن أنزله، ومَنْ جاء به. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ} .
وفي بعض الآثار: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم، وكان مسيلمة قد تسمَّى الرحمنَ، فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: قد ذكر مسيلمة [إله اليمامة، ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير، فأنزل الله تعالى هذه الآية]
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة كما في "روح المعاني"
(2)
.
في "روح المعاني"(4/ 185)
(3)
: "وعن قتادة وابن جريج [ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية. وقد كتب فيه عليٌّ كرَّم الله تعالى وجهه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة]
(4)
.
(1)
ما بين الحاصرتين مكانه في الأصل نقاط، ولعل المصنف أجَّل تكملة كتابة الأثر لحين التبييض.
(2)
"روح المعاني"(8/ 183). وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" عن سعيد (1884).
(3)
طبعة دار الكتب العلمية (7/ 145).
(4)
ترك المصنف هنا بياضًا في الأصل فأكملناه من مصدره. وانظر الأثر في "تفسير البغوي"(2/ 531).
وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء: 36].
وفي "روح المعاني"(5/ 358)
(1)
: "وقيل: المراد بذكر الرحمن: ذكرُه صلى الله عليه وسلم هذا اللفظَ وإطلاقه عليه، والمراد بكفرهم به قولهم: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة
…
".
وفي "صحيح البخاري" في كتاب الشروط ــ باب الشروط في الجهاد إلخ
(2)
: "
…
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل (أي ابن عمرو، وكان يومئذ مشركًا، وهو سفير المشركين للصلح): أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب .... ".
وقد أشكل وجهُ هذا التعجرف، فقيل: إن القوم لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة لا عَلمًا ولا وصفًا.
وهذا مردود بأمور:
الأول: أنَّ الله عز وجل قد أخبر عنهم بقوله في شأن عبادتهم الملائكة: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]. كما أخبر عنهم بقوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}
(1)
طبعة العلمية (9/ 46).
(2)
برقمي (2731، 2732).
[الأنعام: 148]
(1)
.
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26].
وفي "صحيح مسلم" وغيره
(2)
في قصة غزوة ذي قَرَد: أنَّ عبد الرحمن الفزاري أغار على إبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّه قتَل بعضَ الفرسان من الصحابة، ثم قتله أبو قتادة. فهذا الرجل كان مشركًا، والغالب أن يكون ولد قبل المبعث ثم قُتل مشركًا.
[ل 55/ب] قال ابن جرير
(3)
: وقد أُنشِد لبعض الجاهلية الجهلاء
(4)
:
ألا ضربت تلك الفتاةُ هجينَها
…
ألا قضَب الرحمنُ ربِّي يمينَها
قال: وقال سلامة بن جَندل الطُّهَوي
(5)
:
عجِلتم علينا عجلتَينا عليكم
…
وما يشأ الرحمنُ يعقِدْ ويُطلق
الثاني: أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفون بنحو:
(1)
تخريج الآية من المصنف.
(2)
"صحيح مسلم"(1807) وأخرجه الإمام أحمد في "المسند"(16518) وأبو داود (2754) وابن حبان (7173) وغيرهم. وانظر: "مفردات القرآن" للفراهي (187).
(3)
في "تفسيره"(1/ 131).
(4)
البيت للشنفرى. انظر: "الاشتقاق" لابن دريد (59) وروايته في "ديوانه"(40) خالية من الشاهد.
(5)
انظر: "ديوانه"(184) و"الأصمعيات"(152). وانظر شواهد أخرى في "مفردات القرآن" للفراهي (186 ــ 189).
{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 60].
الثالث: أنَّ الله تعالى ذمَّهم على قولهم: "وما الرحمن". ولو كانوا غير عارفين معناه ما استحقُّوا الذمَّ.
وقال الأكثر: إنَّ تعجرفهم من تعنُّتهم. وهذا هو الظاهر، ولكنه يحتاج إلى بيان.
فأقول: قد أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. فبان بهذا أنَّ القوم لم يكونوا يراعون في معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنصافَ ولا ما يقرب منه، بل إن تيسَّرت لهم شبهة قد ينخدع بها من لم يسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتمامه طاروا بها فرحًا، ورقصوا لها طربًا. وإن لم يتيسَّر لهم ذلك تشبثوا بمغالطة يعرفون بطلانها كأن يحملوا كلامه على ما يعرفون أنه غير مراده، ثم يلغَون بذلك، ويشنِّعون به، ويبنُون عليه.
وكان يلذُّ لهم ذلك لعلمهم أنَّ ذلك يُحزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكاد يبخَع نفسَه ــ بأبي هو وأمي ــ لأنَّ الناصح الشفيق لا يُحزنه أن يعارضه المنصوح بشبهة قد يظنها المنصوح حقًّا، كما يُحزنه أن يشغب عليه بمغالطة يعرف الشاغبُ نفسه بطلانها، ولاسيما إذا نسب إلى الناصح ما ينافي نصحه، ولكن القوم ــ كما هو متواتر عنهم ــ لم يبلغوا في الوقاحة إلى درجة المكابرة المكشوفة أو الكذب المكشوف.
إذا تقرر هذا، فالظاهر أنَّ بعض سفهائهم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا الله،
يا رحمن"، كما في الأثر السابق أو نحو ذلك، فأوحى الشيطان إلى ذلك
السفيه أن يشغب بأنَّ معنى ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو إثباتُ أنَّ الرحمن إله آخر غيرُ الله عز وجل، فأخذها منه السفهاء ولَغَوا بها. وأكثرهم يعلم حقيقة الحال، ولكنَّ مقصودَهم الغلَبُ بأيِّ وجه كان، كما أخبر الله تعالى عنهم لما قيل لهم:{اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} بنوا على ذلك الشغب المتقدم، فقالوا:{وَمَا الرَّحْمَنُ} زاعمين أنه قد عُرِف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يعني بالرحمن إلهًا غير الله، وأنهم لا يدرون ما ذلك الإله. ثم صاروا يشغبون ويستهزئون كلَّما سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلمة "الرحمن" زاعمين أنه قد عُرِف عنه أنه يعني بها غير الله.
وكان مما يغيظهم من هذا الاسم وقوعُه في البسملة المخالفة لتسميتهم. فإنهم كانوا يقولون في أوائل كتبهم ونحوها: "باسمك اللهم"، فخالفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال:"بسم الله الرحمن الرحيم"، فيقولون في أنفسهم: إنَّ هذا الرجل إنما يريد خلافنا، هَبْه اضطُرَّ إلى مخالفتنا في عبادة غير الله تعالى لأنه يراها باطلًا، فما باله يخالفنا في هذه الكلمة التي مضى عليها سلفُنا، وليس في معناها شيء ينكره محمد، وهي:"باسمك اللهم"! فمخالفته لنا ولسلفنا فيها دليل ظاهر على أنه يحبُّ خلافَنا وهدمَ كلِّ ما نحن عليه، وإن كان يعلم أنه حقٌّ.
وهذه شبهة من شبههم تؤثِّر على من لم يكثُر منهم سماعُ القرآن أو سماعُ كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأمر الله تبارك وتعالى رسوله أن لا يجهر في صلاته بأصحابه بقراءته، ولاسيما ما كان فيه ذكرُ الرحمن، ولاسيما البسملة التي يشتدُّ إنكار المشركين بها. وذلك لئلا يسمعوه، فيلغَوا، وينغِّصوا عليه وعلى أصحابه صلاتهم.
ويظهر أنَّ هذا أصلُ مشروعية الإسرار بالبسملة في الصلاة، بقيتْ على رأي من يقول بذلك، كما بقي الرمل والاضطباع في الطواف وغيره من الأعمال التي شُرعت لمعنًى، ثم زال ذلك المعنى، وبقيت لحِكَمٍ أخرى، منها: تذكير المسلمين بما كان عليه أول هذا الدين.
[ل 56/أ] وأما ما في "الصحيح" من كلام سهيل بن عمرو، فقد اختلفت الروايات في حكاية قوله. والذي عند ابن إسحاق عن الزهري في هذه القصة:"ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا. ولكن اكتب "باسمك اللهم"
(1)
.
فظاهر هذا مع ما تقدَّم أنَّ سهيلًا إنما أنكر البسملة لمخالفتها ما مضوا عليه من قولهم: "باسمك اللهم". وقوله: "لا أعرف هذا" يعني أنَّ السنة التي نعرفها هي: "باسمك اللهم". و"بسم الله الرحمن الرحيم" غير معروفة عندهم، أي غير معروف الابتداء بها.
فأما ما وقع في "الصحيح" من قوله: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي"
(2)
ربما يكون من الرواية بالمعنى، كأنَّ بعض الرواة فهم أنَّ إنكار سهيل
(1)
"سيرة ابن هشام"(2/ 317). وقد وضع المصنف تخرجة بعد كلمة "هذا" وكتب في الحاشية: "وصله في مسند أحمد (4/ 325) ". وهو برقم (18910) في طبعة الرسالة. أخرجه من طريق يزيد بن هارون عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.
(2)
"فتح الباري"(5/ 331).
لـ "بسم الله الرحمن الرحيم" إنما هو لما عُرِف عنهم من الشغب في هذا الاسم الشريف "الرحمن".
ويحتمل أن يكون من إطلاق الجزء وإرادة الكل. أُطلق "الرحمن"، وأُريد البسملة كلها. وقد يشهد له قوله:"ما هي" كما في أكثر روايات "الصحيح" وأوثقها.
وما وقع في بعض الروايات "ما هو" من تصرُّف الرواة
(1)
. ظنَّ أنَّ الضمير [عائد] على الاسم "الرحمن" بمعناه الحقيقي.
والحديث في "الصحيح" من رواية عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، فوقع في نسخة المسند المطبوعة (4/ 330)
(2)
: "فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو. وقال ابن المبارك: ما هو". كذا، والظاهر أن الأولى:"ما هي". وهي [رواية]
(3)
عبد الرزاق عن معمر. وتكون رواية ابن المبارك عن معمر: "ما هو". ورواية عبد الرزاق أثبت؛ لأنه لزم معمرًا، وسمع من كتبه. وسماعُ [ابن]
(4)
المبارك من معمر كان من حفظه كما يعرف من ترجمة معمر.
وقوله: "فوالله لا أدري ما هي" ــ يريد والله أعلم البسملة ــ محملُه: أنه لا يدري أينبغي أن يصدَّر بها الكتب أم لا، أو أحقٌّ هي أم باطل.
(1)
"فتح الباري"(7/ 502).
(2)
وكذا في طبعة مؤسسة الرسالة (31/ 249) برقم (18928).
(3)
زيادة لازمة.
(4)
ساقط من الأصل.
وبالجملة، فالظاهر أنَّ سهيلاً إنما أنكر البسملة، والله أعلم.
وأما ما في بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة
(1)
، فإن صحَّ فمرادهم: لا نعرف الرحمن الذي هو غير الله.
(1)
رُوي ذلك عن مجاهد عند ابن المنذر ــ كما في "الدر المنثور"(9/ 514 - 515) ــ، وعن عطاء عند ابن أبي حاتم في "تفسيره"(8/ 2715).