الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة آل عمران
وهي أربعة عشر ألف حرف وخمسمائة وعشرون حرفا، وثلاثة آلاف كلمة وأربعمائة وثمانون كلمة، ومائتا آية.
قال: صلى الله عليه وسلم: [من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلّى الله وملائكته عليه حتّى تغيب الشّمس]
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: [من قرأ آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم] وقال صلى الله عليه وسلم: [تعلّموا البقرة وآل عمران؛ فإنّهما الزّهراوان وإنّهما يأتيان يوم القيامة في صورة ملكين يشفعان لصاحبهما حتّى تدخلاه الجنّة]،وفضائلها أكثر من أن تحصى.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}
{الم (1) اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2)،قال ابن عبّاس معناه:(أنا الله أعلم)،ويقال: هو قسم أقسم الله بأنه واحد لا شريك له ولا معبود للخلق سواه، وقد تقدّم تفسير الحروف المقطّعة في أول سورة البقرة.
قال أنس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في وفد نجران وكانوا ستّين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة يؤول أمرهم إليهم: العاقب أمير الجيش وصاحب مشورتهم الّذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه واسمه عبد المسيح، والثّاني: اسمه الأيهم صاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة إمامهم وصاحب مدارسهم، وكان قد درس كتبهم حتّى حسن علمه فيهم في دينهم.
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 7 ص 92:الحديث (6153)،وقال: تفرد به محمد بن ماهان. وفي الدر المنثور: مج 2 ص 140؛ قال السيوطي: «أخرجه الطبراني في الوسط بسند ضعيف» .
فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده وقت صلاة العصر وعليهم ثياب الحبرات
(1)
؛جبب وأردية، فقاموا وأقبلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجّهوا إلى ناحية المشرق، فقال صلى الله عليه وسلم للعاقب والأيهم:[أسلما]
(2)
.فقالا: قد أسلمنا قبلك، فقال:[كذبتما، يمنعكما عن الإسلام دعواكما لله ولدا وعبادتكما الصّليب وأكلكما الخنزير] قالا: فإن لم يكن ولدا لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعا في عيسى عليه السلام، فقال صلى الله عليه وسلم:[ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولدا إلاّ وهو يشبه أباه؟] قالوا: بلى، قال:
[ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟] قالوا: بلى، قال: [ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء
(3)
يحفظه ويرزقه؟] قالوا: بلى، قال:
[فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟] قالوا: لا، قال:[ألستم تعلمون أنّ الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء؟] قالوا: بلى، قال:[فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا غير ما علّمه الله؟] قالوا: لا، قال:[فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف شاء، وربّنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ألستم تعلمون ذلك؟] قالوا:
بلى، قال:[ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل النّاس المرأة، ثمّ وضعته كما تضع المرأة، ثمّ غذّي كما يغذى الصّبيّ، فكان يطعم ويشرب ويحدث؟] قالوا:
بلى، قال:[فكيف يكون هذا كما زعمتم؟] فسكتوا. فأنزل الله عز وجل فيهم أوّل سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية فيها)
(4)
.
فقال الله عز وجل: {(الم. اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)} الحيّ: هو الدائم الذي لا ندّ له، الذي لا يموت ولا يزول، والقيّوم: القائم على كلّ نفس بما كسبت.
(1)
الحبرات-بكسر الحاء وفتح الباء-:جمع حبرة؛ وهو ضرب موشّى من برود اليمن.
(2)
في جامع البيان: النص (5136) ذكر الطبري: «قالا: قد أسلمنا. قال: [إنّكما لم تسلما، فأسلما] قالا: بلى أسلمنا قبلك
…
».
(3)
في جامع البيان: النص (5137): [يكلؤه ويحفظه ويرزقه].
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5137) عن الربيع، وقد أدرج الطبراني الروايتين برواية واحدة.
وأكثر القرّاء على فتح الميم من «(الم)» وللفتح وجهان؛ أحدهما: أنه لمّا كانت الميم بعد ياء ساكنة استثقلوا فيها السكون فحرّكوها إلى الفتح؛ لأنّ ذلك أخفّ نحو:
أين وكيف. والثاني: أنه ألقي عليها فتحة الهمزة من ألف (الله) وهذا جائز في الهجاء وإن كان لا يجوز مثله في الكلام الموصول من حيث إنّ حروف الهجاء مبنية على الوقف، ومن قرأ بتسكين الميم فعلى أصل حروف الهجاء أنّها مبنية على الوقوف والسكون.
قوله عز وجل: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ،} قرأ ابراهيم بن أبي عبلة: «(نزل عليك الكتاب)» بتخفيف الزاي، وقرأ الباقون بالتشديد، ونصب الياء لأنّ القرآن كان ينزل منجّما شيئا بعد شيء، والتنزيل مرّة بعد مرّة. قال الله تعالى:{وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} (3)؛لأنّهما نزلتا دفعة واحدة.
ومعنى الآية: نزّل عليك يا محمّد القرآن بالصدق لإقامة أمر الحقّ.
قوله تعالى: {(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)؛} أي موافقا لما تقدّمه من التوراة والانجيل وسائر كتب الله تعالى في الدّعاء إلى توحيد الله، وبيان أقاصيص الأنبياء والأمر بالعدل والإحسان وسائر ما لا يجري فيه النّسخ وبعض الشرائع. وانتصب {(مُصَدِّقاً)} على الحال من الكتاب.
قوله تعالى: {(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)} أي أنزل التوراة جملة على موسى، والإنجيل جملة على عيسى
{مِنْ قَبْلُ} القرآن، {هُدىً لِلنّاسِ؛} أي بيانا ونورا وضياء لمن تبعه. وموضع {(هُدىً)} نصب على الحال.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ؛} يعني القرآن، وأمّا ذكره لبيان أنه يفرّق بين الحقّ والباطل، ومتى اختلف فوائد الصفات على موصوف واحد لم يكن ذكر الصفة الثانية تكرارا، بل تكون الثانية في حكم المبتدلات لكلّ صفة فائدة ليست للأخرى، والصفة الأولى تفيد أنّ من شأنه أن يكتب، والصفة الثانية تفيد أنّ من شأنه أن يفرّق بين الحق والباطل. وقيل: إنّ كلّ كتاب لله فهو فرقان.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} (4)،معناه: إنّ في كتب الله ما يدلّ على صدق قولك؛ فمن جحد بآيات الله وهي العلامات الهادية إليه الدّالّة على توحيده فأولئك لهم عذاب شديد، {(وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)} أي ذو نقمة ينتقم ممن عصاه.
ثم حذرهم عن التلبّس والاستتار عن المعصية، فقال:{إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ} (5)،أي لا يخفى عليه قول الكفّار وعملهم، يحصي كلّ ما يعملونه فيجازيهم عليه في الآخرة.
وفائدة تخصيص الأرض والسماء وإن كان الله لا يخفى عليه شيء بوجه من الوجوه: أنّ ذكر الأرض والسماء أكبر في النفس وأهول في الصدر، فذكره على وجه الأهوال، إذ كان الغرض به التحذير.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ؛} أي خلقكم في أرحام الأمّهات كيف يشاء من لون وطول وقصر وعظم وصغر وذكورة وأنوثة وحسن وقبح وسعيد أو شقيّ.
قوله تعالى: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (6)؛أي لا مصوّر ولا خالق إلاّ هو. ومعنى العزيز: المنيع في سلطانه، لا يغالب ولا يمانع، ومعنى الحكيم: المحكم في تدبيره وقضائه في عباده، وأفعال الله كلّها شاهدة بأنه الواحد القديم العالم القادر.
قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ،} قال ابن عبّاس: (معناه: هو الّذي أنزل عليك القرآن منه آيات واضحات مبيّنات للحلال والحرام هنّ أصل الكتاب الّذي أنزل عليك يعمل عليه في الأحكام، وهنّ أمّ في التّوراة والإنجيل والزّبور وكلّ كتاب) نحو قوله تعالى: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
(1)
.
(1)
الانعام 151/.
وقوله تعالى: {(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)} أي ومنه آيات أخر اشتبهت على اليهود مثل {الم} و {المص} . وقيل: يشبه بعضها بعضا.
واختلفوا في المحكم والمتشابه، فقال قتادة والربيع والضحّاك والسديّ:
(المحكم هو النّاسخ الّذي يعمل به، والمتشابه هو المنسوخ الّذي يؤمن به ولا يعمل به)
(1)
.وعن ابن عباس قال: (محكمات القرآن: ناسخه، وحلاله؛ وحرامه، وحدوده؛ وفرائضه؛ وأوامره
(2)
،والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخّره، وأمثاله وأقسامه)
(3)
.وقال مجاهد وعكرمة: (المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه)
(4)
،وقال بعضهم: المحكم هو الذي لا يحتمل من التأويل إلاّ وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل وجوها.
وقال ابن زيد: (المحكم ما ذكره الله من قصص الأنبياء مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام، والمتشابه هو ما اختلف فيه الألفاظ من قصصهم عند التّكرار كما في موضع من قصّة نوح {قُلْنَا احْمِلْ}
(5)
وفي موضع آخر {فَاسْلُكْ}
(6)
،وقال تعالى في العصا:{فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى}
(7)
،وفي موضع آخر {فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ}
(8)
،وقوله تعالى:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}
(9)
ونحو {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
(10)
ونحو ذلك)
(11)
.
(1)
اللفظ للربيع؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5169) والنصوص (5171)،وعن قتادة في النص (5167)،وعن الضحاك في النصوص (5170 و 5171).
(2)
في جامع البيان: نقله الطبري بدل (وأوامره) بلفظ (وما يؤمن به، ويعمل به) وأضاف إلى المتشابهة: (وما يؤمن به، ولا يعمل به).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5164).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5172).
(5)
هود 40/.
(6)
المؤمنون 27/.
(7)
طه 20/.
(8)
الاعراف 107/.
(9)
الرحمن 13/.
(10)
المرسلات 15/.
(11)
أخرجه الطبري بلفظ قريب في جامع البيان: النص (5174).
وقال بعضهم: المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معانيه، والمتشابه ما ليس لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه، نحو: خروج الدجّال؛ ونزول عيسى؛ وطلوع الشمس من مغربها؛ وقيام الساعة؛ وفناء الدنيا ونحوها
(1)
.
وقال ابن كيسان: (المحكمات حججها واضحة؛ ودلائلها واضحة؛ لا حاجة لمن سمعها إلى طلب معناها، والمتشابه هو الّذي يدرك علمه بالنّظر، ولا تعرف العوامّ تفصيل الحقّ فيه من الباطل).
وقال بعضهم: المحكم ما اجتمع على تأويله، والمتشابه ما ليس فيه بيان قاطع.
وقال محمد بن الفضل: (هو سورة الإخلاص لأنّه ليس فيها إلاّ التّوحيد فقط، والمتشابه نحو قوله {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}
(2)
ونحو قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
(3)
،ونحو ذلك ممّا يحتاج إلى تأويلها في الإبانة عنها).
ويقال: المحكم: نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ}
(4)
والمتشابه: نحو قوله: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}
(5)
ثمّ قال {وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيّامٍ}
(6)
ثم قال: {فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ}
(7)
فظنّ من لا معرفة له أن العدد ثمانية أيام ولم يعلم أنّ اليومين الأوّلين داخلان في الأربعة التي ذكرها الله من بعد.
وقال الزجّاج: (المحكم ما اعترف به أهل الشّرك ممّا أخبر الله به من إنشاء الخلق؛ وجعله من الماء كلّ شيء حيّ؛ وما خلق الله من الثّمار وسخّر لهم من الفلك والرّياح. والمتشابه: ما تشابه عليهم من أمر البعث).وقد سمى الله جملة القرآن محكما؛ فقال: {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ}
(8)
فوصفه بالإحكام، وسماه كله
(1)
نقله الطبري في جامع البيان: بعد النص (5173):مج 3 ج 3 ص 237.
(2)
طه 5/.
(3)
ص 75/.
(4)
ق 38/.
(5)
فصلت 9/.
(6)
فصلت 10/.
(7)
فصلت 12/.
(8)
هود 1/.
متشابها في آية أخرى، فقال:{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً}
(1)
أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والتصديق.
قوله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ؛} معناه: {(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ)} ميل عن الحقّ والهدى وهم اليهود فيتّبعون ما اشتبه عليهم من أمر الحروف المقطّعة، يحسبون ذلك بحساب الجمل {(ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ)؛} أي طلب الكفر والشّرك، {(وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ)} في طلب تفسير منتهى ما كتب الله لأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم من المدّة ليرجع الملك إلى اليهود، {(وَما يَعْلَمُ)} تفسير ما كتب الله لهذه الأمّة {(إِلاَّ اللهُ)} .
وقال الربيع: (إنّ هذه الآية نزلت في وفد نصارى نجران لمّا حاجّوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المسيح؛ فقالوا: أليس هو كلمة الله وروح منه؟ قال: [بلى] قالوا: حسنا، فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
وقال ابن جريج: ({الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}؛أي شكّ وهم المنافقون)
(3)
.
وقال الحسن: (هم الخوارج)،وقال بعضهم: جميع المبتدعة، أعاذنا الله من البدعة.
ومعنى الآية: أن النصارى صرفوا كلمة الله إلى ما يقولون من قدم عيسى مع الله عز وجل، وصرفوا قوله {وَرُوحٌ مِنْهُ}
(4)
إلى أنه جزء منه كروح الإنسان، وإنّما أراد الله تعالى بقوله {وَكَلِمَتُهُ}
(5)
أنّ الله تعالى إنّما صيّره بكلمة منه وهي قوله {كُنْ}
(6)
فكان، وسماه روحه لأنه خلقه من غير أب، بل أمر جبريل فنفخ في جيب مريم عليها السلام؛ فهو روح من الله أضافه إلى نفسه تشريفا له، كبيت الله وأرض الله.
(1)
الزمر 23/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5187).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5182).
(4)
النساء 171/.
(5)
البقرة 117/.
(6)
الشورى 52/.
وقيل: سمّاه روحا؛ لأنه كان يحيي الموتى، كما سمّى القرآن روحا من حيث إن فيه حياة الناس في أمر دينهم، قال الله تعالى {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا}
(1)
فصرف أهل الزيغ قوله تعالى {وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} إلى مذاهبهم الفاسدة طلب الكفر والضّلال، ولم يردّوا هذا اللفظ الذي اشتبه عليهم وشبّهوه على أنفسهم إلى الآية المحكمة؛ وهو قوله عز وجل:{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ}
(2)
فعلى هذا يكون: {(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ)} أي ما يعلم تأويل جميع المتشابه حتى يستوعب علم المتشابهات إلاّ الله.
واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية، فقال قوم (الواو) في قوله تعالى:
{وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ،} واو العطف، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم، وهم مع علمهم:{يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (7)؛والمعنى والثابتون في العلم يعلمون تأويل ما نصب الله لهم الدلالة عليه إلى المتشابه وبعلمهم يقولون: ربّنا آمنّا به (3)،فروي عن ابن عبّاس:{(وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)} يعلمونه قائلين: آمنّا به).
ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله {(إِلاَّ اللهُ)} .وفي قراءة ابن مسعود آمنّا «(يقول الرّاسخون في العلم آمنّا به)» وهو مرويّ أيضا عن ابن عبّاس.
ولا يبعد أن يكون للقرآن تأويل ليستأثر الله بعلمه دون خلقه؛ لأنّا لا نعلم مراد الله وحكمته في جميع أوامره ونواهيه؛ غير أنه ألزمنا العمل بما أنزله ولم يطالبنا بما لا سبيل لنا إلى معرفته، ولم يخف عنّا علم ما غاب عنّا، مثل قيام الساعة وغير ذلك إلاّ لما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا، وما علّمناه فلم يعلّمناه إلاّ لمصلحتنا ونفعنا فنعرف بصحّة جميع ما أنزل الله؛ والتصديق بذلك كله ما علمنا منه وما لم نعلم.
(1)
آل عمران 59/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5203 و 5209) عن مجاهد.
وكان ابن عباس يقول: (أنا من الرّاسخين في العلم)
(1)
.وقرأ مجاهد هذه الآية؛ فقال: (أنا ممّن يعلم تأويله).وروى عكرمة عن ابن عبّاس؛ قال: (كلّ القرآن أعلم تأويله إلاّ أربعا (غسلين) و (حنانا) و (الأوّاه) و (الرّقيم).).وهذا إنّما قاله ابن عباس في وقت ثم علمها بعد ذلك وفسّرها.
وممن اختار تمام الكلام عند قوله (إلاّ الله) واستئناف الكلام بقوله {(وَالرّاسِخُونَ)} :عائشة وعروة بن الزبير ورواية طاوس عن ابن عباس كذلك أيضا؛ واختاره الكسائيّ والفرّاء ومحمد بن جرير؛ وقالوا: (إنّ الرّاسخين لا يعلمون تأويله، ولكنّهم يؤمنون به)
(2)
.والآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدّة أجل هذه الأمة؛ ووقت قيام السّاعة وفناء الدّنيا؛ ووقت طلوع الشمس من مغربها؛ ونزول عيسى؛ وخروج الدجّال ويأجوج ومأجوج؛ وعلم الرّوح ونحوها مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه.
قوله تعالى: {(وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)} أخر جمع أخرى، ولم ينصرف لأنّه معدول عن أخر مثل عمر وزفر، وقوله تعالى:{(وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)} قال بعضهم: هم علماء أهل الكتاب الذين آمنوا منهم؛ مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، ودليله قوله تعالى {لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ}
(3)
يعني الدّارسين علم التوراة. وعن أبي أمامة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرّاسخون في العلم؟ فقال: [من برّ في يمينه؛ وصدق لسانه؛ واستقام قلبه؛ وعفّ بطنه وفرجه؛ فذلك الرّاسخ في العلم]
(4)
.
وسئل أنس بن مالك عن تفسير الراسخين في العلم من هم؟ فقال: (الرّاسخ:
هو العالم العامل بما علم المتّبع).
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5208).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5202) بمعناه عن عائشة رضي الله عنها.
(3)
النساء 162/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5212) عن أنس بن مالك وأبي أمامة وأبي الدرداء. وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 324 نسبه الهيثمي للطبراني، وقال:«فيه عبد الله بن يزيد، ضعيف» .ومن طريق أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5213).
وقيل الراسخون في العلم: المتواضعون لله، المتذلّلون في طلب مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحتقرون من دونهم.
وقال بعضهم: الراسخ في العلم من وجد في عمله أربعة أشياء: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدّنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه.
قوله عز وجل: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا؛} أي ويقول الراسخون في العلم ربنا لا تمل قلوبنا عن الحقّ والهدى كما أزغت قلوب اليهود والنصارى، {(بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا)} أي لا تزع قلوبنا بعد إذ أرشدتنا ونصرتنا ووفّقتنا لدينك الحقّ، وقوله:{وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً؛} أي أعطنا من عندك نعمة، وقيل:
لطفا يثبت قلوبنا على الهدى. واسم الرحمة يقع على كلّ خير ونعمة، وقيل معناه:
وهب لنا من لدنك توفيقا وتثبيتا على الإيمان والهدى. وقال الضحّاك: (معناه: وهب لنا تجاوزا ومغفرة).وقيل: هب لنا لزوم خدمتك على شرط السّنة.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ} (8)؛أي أنت المعطي والوهّاب الذي من عادته الإعطاء والهبة، وإنّما سمي القلب قلبا لتقلّبه، وإنّما مثل القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلّب في اليوم سبع مرّات]
(1)
.
قوله عز وجل: {رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ؛} أي يقولون ربّنا إنك محيي الناس بأجمعهم بعد الموت جزاء؛ (ل) جزاء (يوم لا ريب فيه) أي لا شكّ فيه يعني يوم القيامة.
قوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ} (9)؛أي لا يخلف الله ما وعد من البعث والحساب والميزان والجنّة والنار.
(1)
في الدر المنثور: مج 2 ص 155؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي الدنيا في الإخلاص والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي عبيدة بن الجراح» .أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الرقاق: الحديث (8005) وقال: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» وسكت عنه الذهبي في هذا الموضع، وأخرجه الحاكم في الرقم (7920)،وقال الذهبي: فيه انقطاع.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} أراد بالذين كفروا اليهود الذين تقدّم ذكرهم. وقيل: أراد بهم نصارى نجران، ويقال: عامّة الكفار، ومعنى:{(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً)} أي لا يدفع عنهم كثرة أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب الله في الدّنيا والآخرة؛ لأنه لا يقبل منهم فداء ولا شفاعة. ويسمّى المال غنى لأنه يدفع عن مالكه الفقر والنوائب، فأخبر الله أن أموال هؤلاء الكفار وأولادهم لا تقيهم من العذاب.
قرأ السلمي: «(لن يغني عنهم)» بالياء لتقدّم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل، وقرأ الحسن «(لن تغني)» بالتّاء وسكون الياء.
قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ} (10)؛أي حطب النار، والوقود بنصب الواو ما يوقد به النار، وفي هذا بيان أنّ أهل النار يحترقون في النار احتراق الحطب لا كما يحترق الإنسان بنار الدّنيا، فإنّ نار الدنيا تسيل الصّديد من الإنسان ولا تأخذه كما تأخذ الحطب، ومن قرأ «(وقود)» بضمّ الواو فهو مصدر وقدت النّار وقودا، كما يقال ورد ورودا؛ فيكون المعنى: أولئك هم وقود النار.
قوله عز وجل: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ؛} الآية؛ المعنى أنّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفّار الأمم الخالية أخذناهم وعاقبناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم. وقيل: معناه عادة هؤلاء الكفّار في الكفر والتكذيب بالحقّ كعادة آل فرعون وعادة الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود؛ {(كَذَّبُوا)} بكتبنا ورسلنا فعاقبهم الله بكفرهم وشركهم، {وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} (11) إذا عاقب، فعقابه شديد على الدّوام، والتأبيد لا كعقوبة أهل الدّنيا.
والدّأب في اللغة: العادة، كذا قال النّضر بن شميل والمبرّد، فيكون معناه:
كعادة آل فرعون. وقال الزجّاج: (الدّأب: الاجتهاد؛ أي كاجتهاد آل فرعون في كفرهم وتطايرهم على الباطل، يقال: دأب في كذا يدأب دأبا إذا أدام العمل فيه، ثمّ نقل معناه إلى الشّأن والحال والعادة).
وقال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد والضحّاك والسديّ: (معناه: كفعل آل فرعون وصنعهم في الكفر والتّكذيب)
(1)
يقول: كفرت اليهود بمحمّد ككفر آل فرعون والّذين من قبلهم. وقال الربيع والكسائيّ: (معناه: كشبه آل فرعون).وقال سيبويه: (الكاف في (كدأب) في موضع رفع، فخبر المبتدأ تقديره: دأبهم كدأب آل فرعون).
قوله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ} (11)،أي قل يا محمّد للذين كفروا ستهزمون وتقتلون وتحشرون بعد الموت إلى جهنّم وبئس الفراش. قرأ يحيى بن وثّاب وحمزة والكسائيّ وخلف بالياء فيهما، والباقون بالتّاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الإخبار عنهم أنّهم يغلبون ويحشرون، ومن قرأها بالتّاء فعلى الخطاب؛ أي قل لهم إنّكم ستغلبون وتحشرون.
واختلف المفسّرون في هؤلاء الكفّار؛ فقال مقاتل: (هم كفّار مكّة، ومعناه: قل لكفّار مكّة ستغلبون يوم بدر وتحشرون إلى جهنّم في الآخرة، فلمّا نزلت هذه «الآية» قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للكفّار يوم بدر [إنّ الله غالبكم وحاشركم إلى جهنّم]).
وقال الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس: (إنّ المراد بهم يهود المدينة، وذلك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا هزم الكفّار يوم بدر، قالت اليهود: هذا والله النّبيّ الأمّيّ الّذي بشّرنا به موسى ونجده في التّوراة بنعته وصفته، وإنّه لا تردّ له راية، وأرادوا تصديقه واتّباعه؛ فقال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتّى تنظروا إلى وقعة له أخرى، فلمّا كان يوم أحد وغلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما هو به، فغلب عليهم الشّقاء فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدّة فنقضوا ذلك العهد قبل أجله، وانطلق كعب بن الأشرف في ستّين راكبا إلى أبي سفيان بمكّة ووافقوهم على أن تكون كلمتهم واحدة، ثمّ رجعوا إلى المدينة، فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النصوص (5234 - 5239).
(2)
أسباب النزول للواحدي النيسابوري: ص 62.
وعن ابن عباس وقتادة أنّهما قالا: (لمّا أهلك الله قريشا يوم بدر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود بسوق بني قينقاع، فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثلما نزل بقريش من الانتقام، فأبوا وقالوا: لسنا كقريش الأغمار الّذين لم يعرفوا القتال ولم يمارسوه، لئن حاربتنا لنقتلنّ رجالا، وتعرف البأس والشّدّة، فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.قوله تعالى: {(إِلى جَهَنَّمَ)} اشتقاق جهنّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.
قوله عز وجل: {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ؛} أي قد كان لكم أيها اليهود عبرة، ويقال: أيّها الكفار على صدق ما أقول لكم في فرقتين التقتا يوم بدر؛ فرقة تقاتل في سبيل الله؛ أي في طاعة الله وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين، ومائتان وستّة وثلاثون من الأنصار، وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليّ رضي الله عنه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان جملة الإبل التي في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا، والخيل فرسين؛ فرس المقداد وفرس مرثد بن أبي مرثد، وقيل: فرس عليّ، وكان معهم من السّلاح ستة أدرع وثمانية سيوف، وجميع من استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا، ستّة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
قوله تعالى: {(وَأُخْرى كافِرَةٌ)} أي فرقة أخرى كافرة؛ وهم كفار مكة سبعمائة وخمسون رجلا مقاتلين، ورئيسهم يومئذ عتبة بن ربيعة، وكانت خيلهم مائة فرس، وكانت حرب بدر أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)} من قرأ بالياء؛ فالمعنى ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثليهم ظاهر العين؛ أي ظنّ المسلمون أن المشركين ستمائة ونيّف، وإنّهم يغلبوا المشركين كما وعدهم الله بقوله:{فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
(2)
قلّل الله المسلمين في أعين المشركين، والمشركين في أعين المسلمين حتى اقتتل الفريقان كما قال الله تعالى:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5241).
(2)
الأنفال 66/.
{وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} ثم قذف الله الرّعب في قلوب الكفرة حتى انهزموا بكفّ من تراب أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماه في وجوههم وقال: [شاهت الوجوه]
(1)
.
ومن قرأ «(ترونهم)» بالتاء فهو خطاب لليهود، يعني يرون كفار مكة قريشا والمؤمنين رأي العين، فإن قيل لم قال {(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ)} ولم يقل قد كانت والآية مؤنّثة؟ قيل: لأنّه ردّها إلى البيان؛ أي قد كان بيان، فذهب إلى المعنى وترك اللّفظ.
قوله تعالى: {(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ)} قرأ أبو رجاء والحسن وشيبة ونافع ويعقوب بالتّاء، وقرأ الباقون بالياء.
وقوله تعالى: {وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي يقوّي ويشدد بقوّته من يشاء. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} (13)؛ أي في غلبة المؤمنين للمشركين مع قلّة المؤمنين وشوكة المشركين، (لعبرة) لذوي الأبصار في الدين؛ أي لذوي بصارة القلوب، ويجوز أن يكون معناه: لعبرة لمن أبصر الجيش الجمعين بعينه يومئذ، وفي قوله تعالى:{(فِئَةٌ)} قراءتان، من قرأها بالرفع فعلى معنى: إحداهما فئة تقاتل، ومن قرأها بالخفض فعلى البدل من فئتين، كما قال الشّاعر
(2)
:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
…
ورجل رماها الدّهر بالحدثان
قوله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ؛} بيّن الله بهذه الآية إنّ ما بسط للمشركين من زهرة الدّنيا وزينتها هو الذي يمنعهم من تصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يدعوهم إليه.
(1)
رواه الطبراني في الكبير: ج 3 ص 203:الحديث (3128).وفي مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 6 ص 84؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني وإسناده حسن» .
والمعنى: حسّن للناس حبّ اللّذات والشهوات والمشتهيات من النساء والبنين، بدأ بالنساء لأنّهن حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتتان ويحملن الرجال على قطع الأرحام والآباء والأمّهات وجمع المال من الحلال والحرام. وقوله تعالى:{(وَالْبَنِينَ)} قال صلى الله عليه وسلم: [هم ثمرة القلوب وقرّة الأعين؛ وإنّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة]
(1)
.
قوله تعالى: {(وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ)} من القناطير، جمع قنطار، واختلفوا فيه، فقال الربيع:(القنطار هو المال الكثير بعضه على بعض).وقال ابن كيسان: (هو المال العظيم).وعن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [القنطار اثنا عشر ألف أوقيّة]
(2)
، وعن أنس:(أنّ القنطار ألف مثقال).وعن معاذ: (ألف ومائتا أوقيّة)
(3)
.وعن أنس أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألفا مثقال].وعن عكرمة: (مائة ألف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم).وقيل القنطار: ما بين السماء والأرض من المال، وقيل: ملء مسك ثور ذهبا وفضّة، وقال ابن المسيّب وقتادة:(ثمانون ألفا).وعن مجاهد: (سبعون ألفا).وعن الحسن أنه قال: (القنطار مثل دية أحدكم).وحاصله أن القنطار: هو المال الكثير.
وقوله تعالى: {(الْمُقَنْطَرَةِ)؛} قال قتادة: (أي المنضّدة بعضها على بعض).وقال بعضهم: المقنطرة: المدفونة. وقال السديّ: (المضروبة المنقوشة).قوله تعالى: {(مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)} سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنّها تنفضّ أي تتفرّق.
قوله تعالى: {(وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ)} الخيل جمع لا واحد له من لفظه، واحده فرس، والمسوّمة هي الرواتع من السّوم وهو الرعي، قال الله:{شَجَرٌ فِيهِ}
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 211 عن الأشعث بن قيس؛ وفيه قصة. وفي جامع المسانيد: ج 1 ص 357:الحديث (368) قال ابن كثير: «رواه الطبراني من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن زيد عن علي بن رباح عن الأشعث مرفوعا» .
(2)
أخرجه ابن ماجة في السنن: كتاب الأدب: باب بر الوالدين: الحديث (3660)،وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الطبراني في جامع البيان: النص (5267).
{تُسِيمُونَ}
(1)
أو تكون من السّيما؛ وهي العلامة من الأوضاح والغرّة التي تكون في الخيل
(2)
.وقال السديّ: (المسوّمة: هي الواقفة).وقال مجاهد: (الحسان) وقال الأخفش: (هي المعلّمة).وقال ابن كيسان: (البلق).
روي عن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لمّا أراد الله أن يخلق الخيل قال للرّيح الجنوب: إنّي خالق منك خلقا فأجعله عزّا لأوليائي؛ ومذلّة لأعدائي؛ وجمالا لأهل طاعتي، ثمّ خلق منها فرسا وقال له: خلقتك وجعلت الخير معقودا بناصيتك؛ والغنائم مجموعة على ظهرك؛ وعطّفت عليك صاحبك؛ وجعلتك تطير بلا جناح؛ وأنت للطّلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالا يسبحونني ويحمدونني ويهلّلونني ويكبرونني]
(3)
.
وقيل: خلق الله خيلا تلقى أعناقها كأعناق البخت، فلما أرسلها إلى الأرض واستوت أقدامها صهل فرس منها فقيل له: بوركت من دابّة، أذلّ بصهيلك المشركين، أذلّ به أعناقهم واملأ به آذانهم، وأرعب به قلوبهم، فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزّك وعزّ ولدك، ما خلقت خلقا أعزّ إليّ منك ومنه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة]
(4)
،وعن أنس قال:(لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النّساء من الخيل).وعن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من فرس عربيّ إلاّ يؤذن له عند كلّ فجر بدعوة فيقول: اللهمّ من خوّلتني من بني آدم وجعلتني له،
(1)
النحل 10/.
(2)
الأوضاح: الحليّ من الدراهم الصحاح، وبفتحتين (وضح):الضوء والبياض، وقد يكنى به عن البرص. أراد المحجّلة في أرجلها بالبياض. والغرّة: بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، وهو معروف.
(3)
أدرج الناسخ عبارة: (كذا في تفسير الثعلبي) في المتن كعادته، وعلى ما يبدو أن الثعلبي نقل من هنا، أو أخذ عنه.
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (2090).والإمام مالك في الموطأ: الحديث (901). والإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 101 و 262،وإسناده صحيح.
فاجعلني أحبّ أهله وماله إليه]
(1)
،وقال صلى الله عليه وسلم:[ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها، وعليكم بكلّ كميت أغرّ محجّل أو أدهم أغرّ محجّل]
(2)
.وعن أبي هريرة: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الشّكال من الخيل]
(3)
وهو أن يكون له ثلاث قوائم محجّلة وأخرى مطلقة، أو يكون الثلاث مطلقة والرابعة محجّلة، ولا يكون الشّكال إلاّ في الرّجل دون اليد.
وقال صلى الله عليه وسلم: [الشّؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدّار]
(4)
وقال صلى الله عليه وسلم: [الخيل ثلاثة: فرس للرّحمن؛ وفرس للإنسان؛ وفرس للشّيطان، فالّذي للرّحمن ما اتّخذ في سبيل الله وقوتل عليه أعداء الله، وأمّا فرس الإنسان فما استبطن وتحمّل عليه
(5)
، وأمّا فرس الشّيطان فما روهن عليه أو قومر عليه]
(6)
.
قوله تعالى: {(وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ)} الأنعام جمع النّعم، وأشهر النّعم أكثر ما يستعمل في الإبل، وقد يقع على سائر المواشي من البقر والغنم والإبل، وقوله تعالى:
{(وَالْحَرْثِ)} بمعنى الزّرع.
(1)
أخرجه النسائي في السنن الصغرى: كتاب الخيل: باب دعوة الخيل: ج 6 ص 223.والحاكم في المستدرك: كتاب الجهاد: باب من احتبس فرسا: الحديث (2502)؛وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 300.والترمذي في الجامع: أبواب الجهاد: الحديث (1696)؛وقال: حسن صحيح غريب.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 250 و 436.ومسلم في الصحيح: كتاب الإمارة: باب ما يكره من صفات الخيل: الحديث (1875).
(4)
أخرجه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الاستئذان: باب ما تبقى من الشؤم: الحديث (22). والإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 115 و 126.والبخاري في الصحيح: كتاب النكاح: باب ما تبقى من شؤم المرأة: الحديث (5093).
(5)
في المخطوط: (ما استطرق عليه)،والتصحيح من المعجم الكبير.
(6)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 4 ص 10:الحديث (3707) عن خباب بن الأرت، وفيه مسلمة بن علي، وفي مجمع الزوائد: ج 5 ص 260؛قال الهيثمي: «مسلمة بن علي ضعيف» . وأخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 381 عن رجل من الأنصار بلفظ قريب منه، في ج 5 ص 260؛قال الهيثمي:«رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح» ،وله شاهد أيضا من حديث ابن مسعود، أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن الكبرى.
قوله تعالى: {ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا؛} أي هذا الذي ذكرت متاع الحياة الدنيا، أي شيء يستمتع به في الدّنيا ثم يزول ويفنى. قوله تعالى:
{وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (14)،أي حسن المرجع والمنقلب للمؤمنين وهو الجنة الباقية، ثم بيّن الله إنّما أعدّ الله للمؤمنين في الآخرة خير من هبة الدّنيا.
وقال عز وجل: {*قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها؛} أي (قل) يا محمّد:
أخبركم بخير من الذي زيّن للناس في الدنيا للذين اتقوا الشّرك والكبائر والفواحش؛ فلا يشتغلون بالزينة عن طاعة الله، لهم عند ربهم جنات؛ أي بساتين تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الماء والعسل والخمر واللّبن، {(خالِدِينَ فِيها)} أي مقيمين دائمين؛ أي ليست تلك المياه كمياه الدّنيا تجري أحيانا وتنقطع أحيانا، بل تكون جارية أبدا.
قوله تعالى: {وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ؛} أي ولهم نساء مهذبات في الخلق والخلق. قوله تعالى: {وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ؛} أي لهم مع ذلك رضا الله عنهم وهو من أعظم النّعم، قال الله تعالى:{وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ}
(1)
،قوله تعالى:
{وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} (15)؛أي عالم بأعمالهم وثوابهم.
واختلفوا في منتهى الاستفهام في قوله تعالى: {(أَأُنَبِّئُكُمْ)؛} قال بعضهم: منتهاه عند قوله: {(بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ)} وقوله تعالى: {(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)} استئناف الكلام، وقال بعضهم:
منتهاه: {(عِنْدَ رَبِّهِمْ)} وقوله تعالى: {(جَنّاتٌ)} استئناف كلام.
قرأ أبو بكر عن عاصم: «(ورضوان)» بضمّ الراء في جميع القرآن وهي لغة قيس وعيلان وتميم؛ وهما لغتان كالعدوان والطمعان والطعنان، وقرأ عامّة القرّاء «(ورضوان)» بكسر الراء.
(1)
التوبة 72/.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النّارِ} (16)، {(الَّذِينَ)} في موضع خفض ردّا على قوله {(لِلَّذِينَ اتَّقَوْا)} أي للمتّقين {(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا)} وصدّقنا بالله وبالرسول فاغفر لنا خطايانا، وادفع عنّا عذاب النار، ويجوز أن يكون موضع {(الَّذِينَ)} رفعا على معنى هم {(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا)} كقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ}
(1)
ثم قال في صفتهم مبتدئا: {التّائِبُونَ الْعابِدُونَ}
(2)
.
قوله تعالى: {الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ} (17)؛ {(الصّابِرِينَ)} في موضع خفض بدل من {(الَّذِينَ يَقُولُونَ)} .وذهب بعضهم إلى {(الصّابِرِينَ)} نصب بالمدح. ومعنى الآية:
{(الصّابِرِينَ)} على طاعة الله وعلى الشدائد والمصائب وعلى ارتكاب النّهي وعلى البأساء والضرّاء، {(وَالصّادِقِينَ)} في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم، فإنّ الصدق قد يقع في القول كما يقع في الفعل، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الجملة أي حقّق.
قال قتادة في تفسير الصّادقين: (هم قوم صدقت نيّاتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السّرّ والعلانية). {(وَالْقانِتِينَ)} أي القائمين بعبادة الله المطيعين، {(وَالْمُنْفِقِينَ)} يعني في طاعة الله.
وقوله: {(وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ)} قال قتادة: (أراد به المصلّين بالأسحار) قال أنس بن مالك: (أراد به السّائلين المغفرة بالأسحار)،وقال الحسن:(انتهت صلاتهم إلى وقت السّحر؛ ثمّ كان بعدها الاستغفار)،وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال:
(سمعت صوتا في ناحية المسجد سحرا يقول: إلهي دعوتني فأجبتك؛ وأمرتني فأطعتك؛ وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ثلاثة أصوات يحبّهم الله: أصوات الدّيك، وصوت الّذي يقرأ القرآن، وصوت المستغفرين بالأسحار]
(3)
.وروي أنّ داود رضي الله عنه
(1)
التوبة 111/.
(2)
التوبة 112/.
(3)
عن أم سعد، وعلقه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب: النص (2538)،وأم سعد هي بنت زيد كما في كنز العمال: النص (35285).ترجم ابن عبد البر لها في الاستيعاب: الرقم (3590).
سأل جبريل: أيّ اللّيل أفضل؟ فقال: لا أدري إلاّ أنّ العرش يهتزّ في وقت السّحر.
وقال سفيان الثوريّ: (إنّ لله ريحا يقال لها الصّبحة تهبّ وقت السّحر؛ تحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبّار)،وقال: (بلغنا أنّه إذا كان أوّل اللّيل نادى مناد: ألا ليقم العابدون، فيقومون فيصلّون ما شاء الله، ثمّ ينادي مناد في شطر اللّيل:
ألا ليقم القانتون، فيقومون كذلك فيصلّون، فإذا كان السّحر نادى مناد: أين المستغفرون؟ فيستغفر أولئك؛ فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون؛ فيقومون من فراشهم كالموتى إذا نشروا من قبورهم).وقال لقمان لابنه: (يا بنيّ لا يكوننّ الدّيك أكيس منك؛ ينادي بالأسحار وأنت نائم).والسّحر: هو الوقت الّذي قبل طلوع الفجر.
قوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ؛} روى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من قرأ {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة]
(1)
.وعن سعيد بن جبير قال: (كان حول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنما؛ لكلّ حيّ من أحياء العرب صنم أو صنمان، فلمّا نزلت هذه الآية أصبحت تلك الأصنام كلّها وقد خرّت سجّدا).
وعن ابن مسعود أنه قال: [من قرأ {(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ)} إلى قوله: {(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)} وقال: أنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشّهادة وهي لي وديعة عنده؛ يجاء صاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد لي وأنا أحقّ من وفّى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنّة]
(2)
.
ومعنى الآية: قال محمد بن السائب الكلبيّ: (لمّا ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار اليهود من الشّام، فقال أحدهما لصاحبه حين أبصر
(1)
في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ص 312؛قال الشوكاني: «في إسناده: وضّاع» .
(2)
في تخريج أحاديث كتاب إحياء علوم الدين: النص (1108)؛ قال: «روى أبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا:
…
وذكره، ثم قال: فيه عمر بن المختار وهو يروي الأباطيل. وقال: ووجدت بخط الحافظ ابن حجر أنه في المسند من طريق ابن عتبة عن عبد الله بن مسعود عن عم أبيه عبد الله بن مسعود نحوه بزيادة، وفيه انقطاع».
المدينة: ما أشبه هذه المدينة بمدينة النّبيّ الّذي يخرج في آخر الزّمان، فلمّا دخلا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصّفة والنّعت، فقالا له: أنت محمّد؟ قال: [نعم].قالا: أنت أحمد؟ قال: [أنا محمّد وأحمد].قالا: فإنّا نسألك عن شيء فإن أخبرتنا به آمنّا بك وصدّقناك، قال:[اسألوا].قالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى على نبيّه هذه الآية {(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ)} إلى آخرها، فأسلم الرّجلان وصدّقا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قرأ أبو نهيك وأبو الشّعث «(شهد الله)» بالمدّ والرفع على معنى: هم شهد الله الذين تقدّم ذكرهم. وقرأ المهلّب: «(شهد الله)» بالمدّ والنصب على المدّ. والآخرون «(شهد الله)» على الفعل أي قضاء الله، ويقال: أخبر الله. وقال مجاهد: (حكم الله).قرأ ابن السموأل: «(شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو).» وقرأ ابن عباس: «(إنّه لا إله إلاّ الله)» بكسر الألف جعله خبرا مستأنفا، وقال بعضهم بكسره لأنّ الشهادة قول وما بعد القول مكسور على الحكاية، تقديره: قال الله إنه لا إله إلاّ الله. قال المفضّل: (معنى الشّهادة {(شَهِدَ اللهُ)}:الإخبار والإعلام، ومعنى الملائكة والمؤمنين بالإقرار؛ كقوله {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا}
(1)
أي أقررنا).
قوله تعالى: {وَأُولُوا الْعِلْمِ؛} معناه الأنبياء، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: علماء المؤمنين أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، وقال الكلبيّ والسديّ:(علماء المؤمنين كلّهم، فقرن الله شهادة العلماء بشهادته، لأنّ العلم صفة الله تعالى العليا ونعمته العظمى، والعلماء أعلام الإسلام والسّابقون إلى دار السّلام وشرح الأمكنة وحجج الأزمنة)
(2)
.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ساعة من عالم يتّكئ على فراشه، وينظر في علمه خير من عبادة العابدين سبعين عاما]
(3)
.وعن أنس رضي الله عنه
(1)
الأنعام 130/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5313) بمعناه عن السدي.
(3)
رواه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب: النص (3504).وفي فيض القدير شرح الجامع الصغير: ج 4 ص 81:الحديث (4622)؛قال المناوي: «ورواه عنه-أي عن جابر-أيضا أبو نعيم، ومن طريقه وعنه تلقاه الديلمي مصرحا، فلو عزاه المصنف للأصل لكان أولى» .
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تعلّموا العلم، فإنّ تعليمه لله خشية، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنّه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنّة والنّار، وهو الأنس في الوحشة، والصّاحب في الغربة، والمحدّث في الخلوة، والدّليل على السّرّاء والضّرّاء، والسّلاح على الأعداء. يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة، يقتدى بهم وتقصّ آثارهم ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتهم تستغفر لهم، وكلّ رطب ويابس يستغفر لهم، حتّى حيتان البحر وهوامّه، وسباع الأرض وأنعامها، والسّماء ونجومها، ألا وإنّ العلم حياة القلوب عن العماء، ونور الأبصار من الظّلمات، يبلغ بالعبد منازل الأحرار ومجالس الملوك، والفكر فيه يعدل بالصّيام، ومدارسته بالقيام، وبه يعرف الحلال والحرام، وبه يوصل الأرحام، يلهمه الله السّعدى، ويحرمه الأشقياء].
قوله تعالى: {قائِماً بِالْقِسْطِ؛} أي بالعدل، ونصب {(قائِماً)} على الحال من شهد، وقيل: من قوله {(لا إِلهَ إِلاّ هُوَ)،} ويجوز وقوع الحال المؤكّد على الاسم في غير الإشارة، يقول: إنه زيد معروفا؛ وهو الحقّ مصدّقا.
فإن قيل: الحال وصف هيئة الفاعل وذلك مما يقبل تغيير؛ فهل يجوز من الله أن يزول عنه قيامه بالقسط؟ قيل: هذا على مذهب الكوفيّين لا يلزم؛ لأنّهم يسمّونه على لفظ القطع، يعنون بالقطع: قطع المعرفة إلى لفظ النّكرة، مثل قوله:{الدِّينُ واصِباً}
(1)
كان أصله الواصب، وهذا كان أصله القائم، فلما قطعت الألف واللام نصب.
وأمّا عند البصريّين فالحال حلال من باب حل في الشيء وصار فيه حالّ يأتي بعد الفعل يجوز عليه التغيير، وحال يأتي بعد الاسم
(2)
لا يجوز عليه التغيير، وهذا من ذلك، وكذلك قوله:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً}
(3)
.
(1)
النحل 52/.
(2)
في المخطوط: (الإسلام) بدل (الاسم)،والمناسب هو ما أثبتناه.
(3)
هود 72/.
قوله تعالى: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ،} (18) قال جعفر الصّادق: (إنّما كرّر الشّهادة لأنّ الأولى وصف وتوحيد، والثّانية رسم وتعليم) أي قولوا {(لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} العزيز: الغالب المنيع، والحكيم: ذو الحكمة في أمره وسلطانه، وقوله:{(قائِماً بِالْقِسْطِ)} أي قائم بالتدبير؛ أي يجري أفعاله على الاستقامة.
قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ؛} معنى الدّين المرتضى؛ نظيره {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}
(1)
،والإسلام: هو الدخول في السّلم والانقياد والطاعة. وعن قتادة: (هو شهادة أن لا إله إلاّ الله؛ والإقرار بما جاء من عند الله؛ وهو دين الله الّذي شرع لنفسه؛ وبعث به رسله؛ ودلّ عليه أولياءه؛ ولا يقبل غيره).
وقرأ الكسائيّ: «(الدّين عند الله)» بالفتح على معنى: شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، وشهد أنّ الدّين عند الله الإسلام.
قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ؛} أي لم تقر اليهود والنصارى للإسلام ولم يتسمّوا باليهوديّة والنصرانيّة {(إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ)} في كتابهم حسدا بينهم.
روي: أنّ اليهود كانوا يسمّون مسلمين؛ فلمّا بعث عيسى عليه السلام وسمّى أصحابه مسلمين حسدت اليهود مشاركتهم في الاسم فسمّوا أنفسهم يهودا؛ فكانوا يسمّون مسلمين ويهودا، فغيّرت النصارى اسمهم وسمّوا أنفسهم نصارى. والبغي: هو طلب الاستعلاء بغير حقّ.
وقال بعضهم: معنى الآية: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ من بعد ما جاءهم بيان نعته وصفته في كتبهم.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} (19)؛ أي من يجحد بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن فإنّ الله سريع المجازاة، سريع التعريف للعامل عمله لا يحتاج إلى إثبات وتذكير.
(1)
المائدة 3/.
قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ؛} أي فإن خاصموك يا محمّد في الدّين؛ فقل: انقدت لله وحده بلساني وجميع جوارحي، وإنّما خصّ الوجه لأنه أكرم جوارح الإنسان وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي دون الوجه. قال الفرّاء:(معناه: أخلصت عملي لله، والوجه العمل).
قوله تعالى: {(وَمَنِ اتَّبَعَنِ)} في موضع رفع عطفا على إنّي أسلمت؛ أي أسلمت ومن اتّبعني أسلم أيضا كما أسلمت، والأصل إثبات الياء في (تبعني) لكن حذفت للتخفيف.
قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؛} الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى؛ والأمّيّون مشركو العرب؛ أي قل لهم أخلصتم كما أخلصنا، {فَإِنْ أَسْلَمُوا} اخلصوا؛ {فَقَدِ اهْتَدَوْا؛} من الضلال؛ {وَإِنْ تَوَلَّوْا؛} عن الإسلام وقالت النّصارى المسيح ابن الله، وقالت اليهود عزير ابن الله؛ {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ؛} بالرّسالة.
قوله تعالى: {وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} (20)؛أي عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، لا يفوته شيء من أعمالهم التي يجازيهم بها.
قال الكلبيّ: (لمّا نزلت هذه الآية ذكر ذلك لهم النّبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال أهل الكتاب:
أسلمنا، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لليهود:[تشهدون أنّ عيسى كلمة الله وعبده ورسوله؟] قالوا: معاذ الله؛ ولكنّه ابن الله. فذلك قوله تعالى: {(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ)} .
{(وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ)} أي عليم بصير بمن يؤمن وبمن لا يؤمن؛ وبأهل الثّواب وبأهل العقاب.
فإن قيل: قوله: {(وَمَنِ اتَّبَعَنِ)} عطف على المضمر في قوله: {(أَسْلَمْتُ)} والعرب لا تعطف الظاهر على المضمر؟ قيل: إنّما لا تعطف إذا لم يكن بين الكلامين فاصل، أمّا إذا كان بينهما فاصل جاز.
قوله {(أَسْلَمْتُ)} لفظه استفهام ومعناه أمر؛ أي أسلموا كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
(1)
أي انتهوا.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} (21)؛معناه: إنّ الذين يجحدون بآيات الله وهم اليهود والنصارى.
{(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ)} قرأ الحسن «(ويقتّلون)» بالتشديد فهما على التكثير، وقرأ حمزة «(ويقاتلون الّذين يأمرون).»
وفي إضافتهم قتل الأنبياء هؤلاء الّذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان؛ أحدهما: رضاهم بقتل من سلف منهم النبيين نحو قتلهم زكريّا ويحيى، والثاني: أنّ هؤلاء قاتلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم وهمّوا بقتله كما قال الله تعالى: {إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ}
(2)
،وقرأ بعضهم:«(يقاتلون النّبيّين بغير حقّ)» .
وعن أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيّ النّاس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: [رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر] ثمّ قرأ هذه الآية؛ ثمّ قال: [يا أبا عبيدة؛ قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النّهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بني اسرائيل؛ فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوهم جميعا في آخر النّهار من ذلك اليوم] فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل فيهم الآية
(3)
.
قوله تعالى: {(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)} أي أخبرهم بعذاب وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ،} أي أهل هذه الصّفة بطلت حسناتهم فلا يستحقّون الثناء عليها في الدّنيا، ولا يستحقون
(1)
المائدة 91/.
(2)
الانفال 30/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: تفسير الآية (22) من سورة آل عمران: النص (5332).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 272؛قال الهيثمي: «رواه البزار وفيه ممن لم أعرفه اثنان» .
الثواب عليها في الآخرة؛ {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (22)؛أي من ناصر يمنعونهم من العذاب إذا نزل بهم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (23).قال الكلبيّ: (وذلك أنّ رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر من اليهود فجرا وكان في كتابهم الرّجم؛ فكرهوا رجمهما لشرفهما ورجوا أن يكون لهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة في أمرهما في الرّجم فيأخذوا به. فرفع أمرهما إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحكم عليهما بالرّجم، فقال بعضهم: جرت علينا يا محمّد! فقال صلى الله عليه وسلم: [بيني وبينكم التّوراة، فمن أعرفكم بها] قالوا: ابن صوريّا، فأرسلوا إليه، فلمّا قدم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنت ابن صوريّا؟] قال: نعم، قال: [أنت أعلم اليهود؟] قال: كذلك يزعمون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من التّوراة فيه آية الرّجم-دلّه على ذلك ابن سلام-فقال لابن صوريّا: اقرأ؛ فلمّا أتى على آية الرّجم فوضع كفّه عليها؛ ثمّ قام ابن سلام وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قد جاوزها ووضع كفّه عليها، ثمّ قام ابن سلام فرفع كفّه عنها، وقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البيّنة؛ فيسأل عن البيّنة، فإن كانوا عدولا رجم، وإن كانت المرأة حبلى يتربّص بها حتّى تضع ما في بطنها).فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما فرجما، فغضبت اليهود لذلك غضبا شديدا ورجعوا كفّارا)
(1)
.فذلك قوله تعالى: {(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ)} معناه: ألم تعلم يا محمّد بالذين أعطوا حظا من التوراة.
وقوله: {(يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ)} قال ابن عبّاس: (هو التّوراة دعي إليها اليهود فأبوا لعلمهم بلزوم الحجّة، وأنّ فيه البشارة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم.وقال الحسن وقتادة: (أراد به القرآن، فإنّهم دعوا إلى القرآن لموافقته التّوراة في أصول الدّيانة)
(2)
.وعن الضحّاك
(1)
أصله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: باب (6):الحديث (4556).
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 170؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة
…
وذكره بمعناه».
في هذه الآية: (أنّ الله تعالى جعل القرآن حكما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحكم القرآن على اليهود والنّصارى بأنّهم على غير الهدى فأعرضوا).وقال قتادة: (هم اليهود دعوا إلى حكم القرآن واتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم؛ فأعرضوا وهم يجدونه مكتوبا عندهم في كتبهم)
(1)
.
قوله تعالى: {(ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ)} أي يعرض؛ جمع كثر منهم من الدّاعي وهم معرضون عن العمل بالمدعوّ إليه، وقيل: معناه: ثمّ يتولّى فريق منهم بعد علمهم أنّها في التوراة، وإنّما ذكر الإعراض بعد التولّي؛ لأن الإنسان قد يعرض عن الدّاعي ويتأمّل ما دعاه إليه فينكر أنه حقّ أو باطل، وهم لم يتأمّلوا ولم يتفكّروا فيما دعوا إليه.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ؛} أي {(ذلِكَ)} الإعراض والكذب {(بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ)} يعنون الأربعين يوما التي عبد آباؤهم فيها العجل. قوله تعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} (24)؛أي غرّهم افتراؤهم على الله أنّه لا يعذبهم إلاّ أيّاما معدودات، ويقال: غرّهم افتراؤهم أنّهم قالوا نحن أبناء الله وأحبّاؤه.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ؛} أي كيف يحتالون وكيف يصنعون إذا جمعناهم بعد الموت لجزاء يوم لا شكّ فيه. قوله تعالى:
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (25)؛أي أعطيت كلّ نفس برّة وفاجرة جزاء ما عملت من خير أو شرّ تامّا وافيا، {(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)} أي لا ينقصون من حسنة ولا يزادون على سيّئة. قال الضحّاك عن ابن عبّاس:(أوّل راية ترفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفّار راية اليهود؛ فيفضحهم على رءوس الأشهاد ثمّ يأمر بهم إلى النّار)
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5334).
(2)
نقله الثعلبي في الكشف والبيان: ج 3 ص 39.
قوله تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} . قال عليّ رضي الله عنه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: [لمّا أراد الله تعالى أن ينزّل الفاتحة؛ وآية الكرسيّ؛ وشهد الله؛ وقل اللهمّ مالك الملك، تعلّقن بالعرش وقلن: تهبطنا دار الذّنوب وإلى من يعصيك؟! فقال الله تعالى: وعزّتي وجلالي؛ ما من عبد قرأكنّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة إلاّ أسكنته حضرة العرش على ما كان منه، وإلاّ نظرت إليه كلّ يوم سبعين نظرة، وإلاّ قضيت له كلّ يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة، وأعذته من كلّ عدوّ ونصرته عليه، ولا يمنعه من دخول الجنّة إلاّ أن يموت]
(1)
.
ومعنى الآية: قال ابن عبّاس: (لمّا فتح النّبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة ووعد أمّته ملك فارس والرّوم، قال المنافقون واليهود: هيهات، من أين لمحمّد ملك فارس والرّوم، هم أعزّ وأمنع من ذلك، ألم يكف محمّدا مكّة والمدينة حتّى أطمع نفسه في ملك فارس والرّوم)
(2)
.
ويقال في وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها: إنّ اليهود قالوا: لا نتبعك؛ فإنّ النبوّة والملك لم يزل في أسلافنا بني إسرائيل، فأنزل الله هذه الآية. ومعناها: قل يا محمّد: يا الله يا مالك الملك.
وإنّما زيدت الميم لأنّها بدل عن (يا) التي هي حرف النداء، ألا ترى أنه لا يجوز في الإخبار إدخال الميم؛ لا يقال: غفر اللهمّ لي كما يقال في النداء اللهمّ اغفر «لي» ؛ ولهذا لا يجوز الجمع بين «ما كان» الميم في آخره والنداء في أوّله، لأنه لا يجوز الجمع بين العوض والمعوّض، وإنّما شدّدت الميم لأنّها عوض عن حرفين، فإنّ النداء حرفان، وهذا اختيار سيبويه. وقال الفرّاء:(معنى قول القائل: اللهمّ يا الله أمّ بخير؛ أي أقصد. طرحت حركة الهمزة على الهاء).
قوله تعالى: {(مالِكَ الْمُلْكِ)} أي مالك كلّ ملك، هذه صفة لا يستحقّها أحد غير الله، وقيل: معناه: مالك أمر الدنيا والآخرة. وقال مجاهد: (أراد بالملك هنا
(1)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 52.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5340) عن قتادة بمعناه.
النّبوّة)
(1)
،وقيل: إنّ هذا لا يصلح لأنّه قال: {(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ)} والله تعالى لا ينزع النبوّة من أحد؛ لأنه لا يريد لأداء الرسالة إلاّ من يعلم أنه يؤدّي الرسالة على الوجه، وأنّه لا يغيّر ولا يبدّل، لأنه عالم بعواقب الأمور.
ومعنى: {(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)} أي تعطي الملك من تشاء أن تعطيه. وقال الكلبيّ: {(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)} يعني محمّدا وأصحابه، {(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ)} أي من أبي جهل وأصحابه).وقيل معناه:{(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)} يعني العرب، {(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ)} يعني الرّوم والعجم وسائر الأمم
(2)
.
وقال بعضهم: {(تُؤْتِي الْمُلْكَ)} أي العافية، قال صلى الله عليه وسلم:[من أصبح آمنا في سربه؛ معافى في بدنه؛ عنده قوت يومه، فكأنّما حيزت له الدّنيا بحذافيرها]
(3)
.
وقيل: هو القناعة. وقال ابن المبارك: (دخلت على سفيان الثّوريّ بمكّة فوجدته مريضا شارب الدّواء وبه غمّ شديد، فسلّمت عليه وقلت: ما لك يا أبا عبد الله؟ فقال: أنا مريض شارب الدّواء وبي غمّ شديد، فقلت: أعندك بصلة؟ فقال: نعم، فقلت: ائتني بها، فكسرتها ثمّ قلت له: شمّها؛ فشمّها فعطس عند ذلك، فقال: الحمد لله رب العالمين، فسكن ما به، فقال: يا ابن المبارك؛ أنت فقيه وطبيب! فقلت:
مجرّب يا أبا عبد الله. قال: فلمّا رأيته سكن ما به وطابت نفسه، قلت: إنّي أريد «أن» أسألك حديثا، قال: سل ما شئت، قلت: أخبرني من النّاس؟ قال: الفقهاء، قلت:
فمن الملوك؟ قال: الزّهّاد، وقلت: فمن الأشراف؟ قال: الأتقياء، قلت: فمن السّفلة؟ قال: الظّلمة. ثمّ ودّعته فخرجت)
(4)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النصوص (5341).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5340) عن قتادة مرسلا.
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 2 ص 492:الحديث (1849) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ وقال: «لم يرو هذا الحديث عن الفضيل إلا علي» .وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 289:كتاب الزهد: باب فيمن أصبح معافى؛ قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط، وفيه علي بن عابس، وهو ضعيف» .والحديث له شاهد أخرجه الترمذي من طريق سلمة بن عبيد الله الخطمي، عن أبيه، وكانت له صحبة، وذلك في الجامع: الحديث (2346)،وإسناده صحيح.
(4)
كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري: ج 2 ص 263.
وقيل: معنى: {(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ)} يعني ملك المعرفة كما أوتي سحرة فرعون، {(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ)} كما نزع من إبليس وبلعام. وقيل: معنى الملك:
الجنّة كما أوتي المؤمنون. قال الله تعالى: {وَمُلْكاً كَبِيراً}
(1)
. {(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ)} كما نزع من الكفّار. وقيل: أراد بالملك توفيق الإيمان والطاعة. وقيل: هو قيام الليل. وقال الشّلبيّ: (هو الاستغناء من المكوّن عن الكونين).
قوله تعالى: {(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} قال عطاء: {(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} يعني المهاجرين والأنصار، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} يعني فارس والرّوم. وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} محمّدا وأصحابه حتى دخلوا مكّة بعشرة آلاف ظاهرين عليها {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} أبا جهل وأصحابه حتى جزّت رءوسهم وألقوا في القليب.
وقيل: {(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالإيمان والمعرفة، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بالكفر والنكدة، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالطاعة، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بالمعصية، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالتوفيق والمعرفة، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بالحرمان والخذلان، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالتمليك والتشديد، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بسلب الملك وتسليط العدوّ عليه، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بقهر النفس ومخالفة الهوى، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} من أتباع الهوى، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بأن يقهر الشيطان، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بأن يقهره الشيطان، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالطاعة والرضا، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بالحرص والطمع.
قال بعضهم: الحرّ عبد ما طمع، والعبد حرّ ما قنع. وقال الشافعيّ رحمه الله:
ألا يا نفس إن ترضي بفوت
…
فأنت عزيزة أبدا غنيّه
وقال آخر:
أفاد منّي القناعة كلّ عزّ
…
وهل عزّ أعزّ من القناعه
فصيّرها لنفسك رأس مال
…
وصيّر بعدها التّقوى بضاعه
وقال بعضهم: معناه: {(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالاخلاص، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بالرياء، وقيل:{(تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ)} بالجنّة والرؤية، {(وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ)} بالنار والحجاب.
(1)
الإنسان 20/.
وقوله تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (26)؛أي بيدك الخير والشرّ، فاكتفى بذكر الخير لأنه الأفضل ولأنه إنّما قال ذلك على وجه الرّغبة، والرغبة إنّما تقع في الخير لا في الشرّ، وفي ذكر أحد الأمرين دليل على الآخر كما قال تعالى:{سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}
(1)
ولم يذكر البرد؛ والمعنى تقيكم الحرّ والبرد، وقيل: معنى الآية: {(بِيَدِكَ الْخَيْرُ)} أي النصر والفتح والفيء والغنيمة وغير ذلك من خير الدّنيا والآخرة. قوله تعالى: {(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)} أي من الإعطاء والنّزع والعزّ والذّل.
قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ؛} أي يدخل من الليل في النّهار حتى يصير النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، وأقصره تسع ساعات، ويدخل النّهار في الليل حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، وأقصره تسع ساعات، فما نقص من أجزاء أحدهما دخل في الآخر، وهذا قول أكثر المفسّرين. وقال بعضهم: معناه: تذهب بالليل وتجيء بالنهار، وتذهب بالنّهار وتجيء بالليل.
قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ،} قال ابن عبّاس وقتادة ومجاهد والضحّاك وابن جبير والسديّ: (معناه: تخرج الحيوان من النّطفة وهي ميتة، وتخرج النّطفة من الحيوان وهي حيّ، والدّجاجة من البيضة، والبيضة من الدّجاجة)
(2)
.وقال بعضهم: يخرج النّخلة من النواة، والنواة من النخلة، وتخرج السنبلة من الحبّة، والحبّة من السنبلة.
وقال الحسن: (معناه: يخرج المؤمن من الكافر؛ والكافر من المؤمن، والعالم من الجاهل؛ والجاهل من العالم)
(3)
.دليله قوله تعالى: {أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ} الآية
(4)
.
(1)
النحل 81/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5351) عن ابن عباس، وفي النص (5352 و 5356) عن مجاهد، وفي النص (5356) عن قتادة، وفي النص (5353) عن الضحاك، وفي النص (5354) عن السدي.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5361).
(4)
الانعام 122/.
وحكاية عن الزهري: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه فإذا هو بامرأة حسنة الهيئة، فقال:[من هذه؟] قالت: إحدى خالاتك، قال:[أيّ خالاتي هذه؟] قالت:
هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال صلى الله عليه وسلم:[سبحان الّذي يخرج الحيّ من الميّت]،وكانت امرأة صالحة، وكان مات أبوها كافرا
(1)
.
قال أهل الإشارة: معناه: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تسكن فيه، والمسقطة من قلب العارف. قوله تعالى:{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} (27) أي بغير تقدير، وقد تقدّم تفسير ذلك.
قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه المنافقين؛ كانوا مع إظهارهم الإيمان يتولّون اليهود ويأتيهم بأخبار المؤمنين، ويرجون أن يكون لهم الظّفر على المؤمنين؛ فأنزل هذه الآية ينهى المؤمنين عن مثل فعلهم، وينهى المنافقين أيضا؛ أي إن كنتم مؤمنين، فلا تتّخذ الكفّار أولياء من دون المؤمنين)
(2)
.
وقال الضحّاك عن ابن عبّاس: (نزلت في عبادة بن الصّامت؛ وكان بدريّا نقيبا؛ وكان له حلفاء من اليهود، فلمّا خرج رسول الله يوم الأحزاب؛ قال عبادة: يا رسول الله؛ إنّ معي خمسمائة رجل من اليهود؛ وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدوّ، فأنزل هذه الآية)
(3)
.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ؛} أي من يواليهم في نقل الأخبار إليهم وإظهارهم على عورة المسلمين، فليس من الله في شيء.
قال السديّ: (فليس من الولاية في شيء، فقد برئ الله منهم).كما قال الله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}
(4)
معنى أنّ وليّ الكافر راض بكفره،
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: تفسير الآية: مج 3 ج 3 ص 307:النص (5363).والهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9 ص 267.والعجلوني في كشف الخفا: ج 1 ص 539.وترجمة خالدة عند عبد البر: الرقم (3344).
(2)
في اللباب في علوم الكتاب: ج 5 ص 143 ذكره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
(3)
ينظر: المصدر السابق.
(4)
المائدة 51/.
والرّضى بالكفر كفر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أنا بريء من كلّ مسلم مع مشرك]
(1)
.
قوله تعالى: {إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً؛} أي إلاّ أن يحصر المؤمن في أيدي الكفّار يخاف على نفسه فيداهنهم فيرضيهم بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان فهو مرخّص له في ذلك، كما روي: أنّ مسيلمة الكذاب لعنه الله أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمّدا رسول الله؟ قال: نعم، وقال للآخر: أتشهد أنّ محمّدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أنّي رسول الله؟ قال: إنّي أصمّ، فأعاد عليه السّؤال ثلاثا، فأجاب في كلّ مرّة هذا الجواب، فضرب مسيلمة عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:[أمّا المقتول فمضى على صدقه ويقينه فهنيئا له، وأمّا الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه]
(2)
.
فمعنى الآية: إلاّ أن تخافوا منهم مخافة. قرأ الحسن والضحّاك ومجاهد: «(تقيّة)» .
وقرأ حمزة والكسائيّ بالإمالة. وقرأ الباقون بالتفخيم، فكلّ ذلك لغات فيها، ومعناه واحد.
قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ؛} أي يخوّفكم عقوبته وبطشه على موالاة الكفّار وارتكاب المنهيّ عنه. وقال الزجّاج: (معناه: ويحذّركم الله إيّاه).
وخاطب الله العباد على قدر عملهم وعقلهم، ومعنى قوله تعالى:{تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي}
(3)
أي تعلم حقيقة ما عندي ولا أعلم حقيقة ما عندك. قوله تعالى: {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} (28)،زيادة في الإبعاد وتذكير بالمعاد؛ أي إن فعلتم ما نهيتكم عنه فمرجعكم إليّ.
(1)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 4 ص 114:الحديث (3836).والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب القسامة: باب ما جاء في وجوب الكفارة في أنواع القتل الخطأ: الحديث (16938).وفي مجمع الزوائد: ج 5 ص 253؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله ثقات» .
(2)
ذكره أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي في مجمع البيان في تفسير القرآن: المجلد الأول: ص 429 - 430.وقف على تصحيحه فئة من أفاضل العلماء، عني بطبعه أحمد عارف الزّين، مطبعة العرفان-صيدا، سنة 1333 هـ.وفي اللباب في علوم الكتاب: ج 5 ص 144،ذكره عن الحسن.
(3)
المائدة 116/.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ؛} أي قل إن تسرّوا ما في قلوبكم من التكذيب بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والعداوة للمؤمنين والمودّة للكافرين أو تظهروه بالشّتم والطّعن والحرب يعلمه الله فيجازيكم عليه، وإنّما ذكر الصّدر مكان القلب؛ لأنه مشتمل على القلب.
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} أي لا يخفى عليه شيء من عمل أهل السموات وأهل الأرض، فلا يغرنّكم الإخفاء، فإن الإخفاء والإبداء عنده سواء. قوله تعالى:{وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (29)؛ أي على جزاء عمل السرّ والعلانية قادر.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً؛} نصب {(يَوْمَ)} بنزع الخافض لأن أوّل هذه الآية منصرف إلى قوله: {(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ)} في:
{(يَوْمَ تَجِدُ،)} وقيل: بإضمار فعل؛ أي اذكروا {(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً)} أي حاضرا مكتوبا في ديوانهم لا يقصر فيه. وقرأ عبيدة بن عمر «(محضرا)» بكسر الضاد، ويعني عمله يحضره الجنة.
قوله تعالى: {وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً؛} أي والذي عملت من سوء يتمنّى أن يكون بينه وبين ذلك أجل طويل بعد ما بين المشرق والمغرب، ليته لم يعمل، جعل بعضهم (ما) جزاء في موضع النّصب واعمل فيه الوجود أي وتجد عملها، وجعل بعضهم جزاء مستأنفا.
قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} (30)؛ أي رحيم بالمؤمنين خاصّة؛ هكذا قال ابن عبّاس، وقيل: إن أول هذه الآية عدل، وأوسطها تهديد وتخويف، وآخرها رأفة ورحمة.
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ؛} لمّا نزلت الآيات المتقدّمة قالت اليهود: نحن أبناء الله واحبّاؤه، وإنّما يقول الله مثل هذه الآيات في أعدائه، وأرادوا بقوله أحبّاؤه: نحبّه ويحبّنا؛ فأنزل الله هذه الآية.
والمحبّة: في الحقيقة هي الإرادة، وهو أن تريد نفع غيرك فيبلغ مراده في نفعك إيّاه، وأما العشق: وهو إفراط المحبّة في هذا المعنى. وأما محبّة الطعام والملاذ؛ فهو شهوة وتوقان النفس. وأما محبّة العباد لله تعالى، فالله يستحيل عليه المنافع، فلا يصحّ أن يراد بمحبه هذه الطريقة لكي يراد بها إعظامه وإجلاله وطاعته ومحبّة رسله وأوليائه، ومحبّة الله إيّاهم إثابته إياهم على طاعتهم؛ وإنعامه عليهم؛ وثناؤه عليهم؛ ومغفرته لهم.
ومعنى الآية: إن كنتم تحبّون طاعة الله والرضا بشرائعه فاتّبعوني على ديني يزدكم الله حبّا، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ؛} في اليهوديّة؛ {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (31).
وروى الضحّاك عن ابن عبّاس وقال: وقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم، وعلّقوا عليها بيض النّعام، وجعلوا في آذانها الشّنوف
(1)
وهم يسجدون لها، فقال صلى الله عليه وسلم:[يا معشر قريش؛ والله لقد خالفتم ملّة أبيكم إبراهيم] وقالت قريش: إنّما نعبد هذه حبّا لله ليقرّبونا إلى الله زلفى؛ فأنزل الله هذه الآية).أي قل لهم يا محمّد صلى الله عليه وسلم إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله، فأنا رسول الله إليكم، وحجّته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم. فلما نزلت هذه الآية عرضها عليهم فلم يقبلوا
(2)
.
وقيل: لمّا نزلت هذه الآية عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهوديّ، فقال عبد الله بن أبي سلول: إنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى عليه السلام؛
فأنزل الله تعالى قوله عز وجل: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ} (32)؛أي فإن لم يفعلوا ما
(1)
الشّنف: الذي يلبس في أعلى الأذن، بفتح الشين، ولا تقل: شنف، الذي في أسفلها القرط. لسان العرب لابن منظور: ج 7 ص 214.
(2)
في أسباب النزول: ص 66؛ نقل الواقدي قال: «عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس:
…
وساقه، وفيه:[لقد خالفتم ملّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كان على الإسلام]».
تدعوهم إليه من اتّباعك وطاعة أمرك فإنّ الله تعالى لا يحبّ الكافرين؛ أي لا يغفر لهم ولا يثني عليهم.
فلما نزلت هذه الآية قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ونحن على دينهم،
فأنزل الله قوله تعالى: {*إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ} (33)؛معناه: أنّ الله اصطفاهم بالإسلام، وإنّ آدم كما لم ينفع أولاده المشركين كذلك سائر الأنبياء عليهم السلام لا ينفعونهم. وصفوة الله: هم الذين لا دنس فيهم بوجه من الوجوه؛ لا في اعتقاد ولا في الفعل، والاصطفاء: هو الاختيار، والصّفوة: هو الخالص من كلّ شيء، فمعناه:
{(اصْطَفى آدَمَ)} أي اختاره واستخلصه.
واختلفوا في آل عمران في هذه الآية؛ قيل: أراد بهم موسى وهارون عليهما السلام، وقيل: أراد مريم عليها السلام.
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ؛} انتصب على البدل، وقيل:
على التّكرار، واصطفى ذريّة بعضها من بعض، وقيل: على الحال؛ أي اصطفاهم حال كون بعضهم من بعض، {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (34)؛أي سميع لقولهم؛ عليم بهم وبمجازاتهم.
قوله تعالى: {إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (35)؛قال أبو عبيد: (إذ) زائدة في الكلام وكذلك في سائر الآي).وقال جماعة من النحويّين: معناه: واذكر إذ قالت، وكان اسم امرأة عمران (حنّة) وهي أمّ مريم، وكان لها ابنان احداهما انشاع؛ وعمران بن ماثان؛ بينه وبين عمران أبي موسى عليه السلام ألف وثمانمائة سنة.
قوله تعالى: {(رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً)} أي أوجبت لك على نفسي أن أجعله عتيقا لخدمة بيت المقدس، وكانوا يحرّرون أولادهم أي يعتقونها عن أسباب الدّنيا، يجعلون الولد خالصا لله، لا يستعملونها في منافعهم، ولم يكونوا يحرّرون إلاّ الذّكران، وكان المحرّرون سكان بيت الله يتعهّدونه ويكسونه، فإذا بلغوا خيّروا؛ فإن أحبّوا أقاموا في البيت، وإن أحبّوا ذهبوا. و {(مُحَرَّراً)} نصب على الحال.
قوله تعالى: {(فَتَقَبَّلْ مِنِّي)} أي تقبّل منّي نذري {(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ)} لدعائي، {(الْعَلِيمُ)} بنيّتي وإخلاصي.
قوله عز وجل: {فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى؛} وذلك أنّها كانت تظنّ وقت النّذر أنّ ما في بطنها ذكرا؛ فلما ولدت أنثى توهّمت أن لا تقبل منها؛ ف {(قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى)} ،وكان هذا القول منها على وجه الاعتذار؛ لأنّ سعي الأنثى أضعف وعقلها أنقص، {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ،} وكانوا لا يحرّرون النساء لخدمة البيت لما يلحقهنّ من الحيض والنّفاس.
قوله عز وجل: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى؛} هو من قول المرأة؛ معناه: ليس الذكر كالأنثى في خدمة البيت؛ لأن الأنثى عورة فلا تصلح لما يصلح له الذكر.
قوله تعالى: {وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ؛} أي خادم الرّب بلغتهم.
قوله تعالى: {وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ} (36)؛ أي إنّي أمنعها وولدها بك إن كان لها ولد من الشيطان الرّجيم. الرّجيم: المرجوم وهو المطرود من رحمة الله تعالى. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [ما من مولود إلاّ وللشّيطان طعنة في جنبه حين يولد فيستهل صارخا من الشّيطان الرّجيم، إلاّ مريم وابنها عليه السلام، اقرءوا إن شئتم: وإنّي أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطان الرّجيم]
(1)
.
قرأ عليّ والنخعي وابن عامر: «(وضعت)» بضم التاء.
قوله عز وجل: {فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً؛} أي استجاب الله دعاء (حنّة)،وقبل نذرها، وجعل مريم صوّامة وقوّامة، ربّاها الله تربية حسنة. قوله تعالى:{وَكَفَّلَها زَكَرِيّا؛} أي ضمّها للقيام بأمرها، قال صلى الله عليه وسلم: [أنا
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (6780) عن أبي هريرة بلفظ قريب منه. وأخرجه الطبري في جامع البيان: تفسير الآية: الحديث (5417 - 5420) بأسانيد عن أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 233 و 274 و 275.والبخاري في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (2366)،وكتاب الأنبياء: الحديث (3431).
وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بإصبعيه]
(1)
وكان عمران قد مات و (حنّة) حاملة بمريم.
قرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وشيبة ونافع وعاصم وأبو بكر وابن عامر: «(وكفلها زكريّا)» مخفّفا، وزكريّا في موضع رفع؛ أي ضمّها إلى نفسه، وتصديق هذه القراءة قوله تعالى:{أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
(2)
.وروي عن ابن كثير: «(وكفلها زكريّا)» بكسر الفاء؛ أي ضمّها، وقرأ الباقون:«(وكفّلها)» بالتشديد وزكريّا بالنصب؛ أي ضمّها الله زكريّا فضمّها إليه بالقرعة، وفي مصحف أبيّ:(وأكفلها) بالألف.
وكان زكريّا وعمران تزوّجا أختين؛ فكانت إشياع بنت فاقود أخت حنّة عند زكريّا، وكانت حنّة بنت فاقود أمّ مريم عند عمران.
قال المفسّرون: فلما وضعت حنّة مريم لفّتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون عليه السلام وهم يومئذ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة
(3)
من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النّذيرة؛ فتنافس فيها الأحبار لأنّها كانت بنت إمامهم، فقال لهم زكريّا عليه السلام: أنا أحقّ بها لأنّ خالتها عندي، فقالت له الأحبار: لا تفعل؛ فإنّها لو تركت لأحقّ الناس بها لتركت لأمّها، ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه.
قوله عز وجل: {كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ} (38)؛ أي عند ما رأى زكريّا أمر الله في مريم طمع أنّ الذي يأتي مريم بالفاكهة في الشّتاء يصلح له عقر زوجته، فدعا عند ذلك وقال:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (4) أي ولدا صالحا، والذّرّيّة تكون واحدا وجمعا؛ ذكرا أو أنثى، وهو هاهنا واحد،
(1)
الحديث عن سهل بن سعد؛ أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 333.والبخاري في الصحيح: كتاب الطلاق: باب اللعان: الحديث (5304)،وله طرق أخرى عن عائشة وأبي هريرة وأبي أمامة وغيرهم.
(2)
آل عمران 44/.
(3)
الحجبة: الذين يدلّون الناس أركان الكعبة وأماكنها.
ويدلّ عليه قوله: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا}
(1)
ولم يقل أولياء، وإنّما أتت (طيّبة) لأنه على لفظ ذرية كما قال الشاعر
(2)
:
أبوك خليفة ولدته أخرى
…
وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنّث (ولدته) لتأنيث الخليفة.
قوله تعالى: {(إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ)} أي سامع الدعاء ومجيّبه، وقولهم:(سمع الله لمن حمده) أي أجاب، وأنشد:
دعوت الله حتّى خفت أن لا
…
يكون الله يسمع ما أقول
قوله عز وجل: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى؛} قرأ الأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف وقتادة: «(فناداه)» ،وقرأ الباقون:«(فنادته)» ،وإذا تقدّم الفعل فأنت فيه بالخيار؛ إن شئت أنّثت؛ وإن شئت ذكّرت.
ومعنى الآية: فناداه جبريل عليه السلام وهو قائم يصلّي في المسجد بأنّ الله يبشّرك بولد اسمه يحيى. والمراد بالملائكة هنا جبريل وحده؛ ونظيره قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ}
(3)
يعني جبريل وحده، وقوله:{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ} (4) يعني جبريل وحده، (بالرّوح) أي بالوحي، يدلّ عليه قراءة ابن مسعود:«(فناداه جبريل وهو قائم يصلّي في المحراب)» .
وقوله تعالى: {(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ)} قرأ ابن عامر والأعمش وحمزة: «(إنّ الله)» بكسر الألف على إضمار القول؛ تقديره: فنادته الملائكة فقالت: إنّ الله، لأنّ النداء قول، وقرأ الباقون بالفتح بوقوع النّداء عليه كأنّه قال: فنادته الملائكة بأنّ الله. قوله تعالى:
(1)
هو من شواهد الفراء في معاني القرآن، وفيه (ذاك الكمال) بدل (زاكي الكمال).وذكره صاحب اللسان: مادة (خلف)؛قال: «الخليفة السلطان الأعظم؛ وقد يؤنث» وأنشد الفراء .... البيت، قال:«فقال أخرى، لتأنيث اسم الخليفة، والوجه أن يقول: ولده آخر» . معاني القرآن للفراء: ج 1 ص 208.
(2)
آل عمران 42/.
(3)
النحل 2/.
{(يُبَشِّرُكَ)} قرأ حمزة والكسائي «(يبشرك)» بفتح الياء وجزم الباء وضمّ الشين، وقرأ الباقون بضمّ الياء وفتح الباء وتشديد الشّين وكسرها.
قوله تعالى: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً؛} انتصب على الحال في قوله: {(بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ)} يعني عيسى عليه السلام؛ يعني أنّ يحيى مصدّقا بعيسى، وكان يحيى أوّل من صدّق بعيسى وشهد أنّه كلمة الله وروحه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، وقيل: بستّة أشهر.
واختلفوا في تسمية يحيى بهذا الاسم؛ فقال ابن عبّاس: (لأنّ الله تعالى حيى به عقر أمّه).وقال قتادة: (لأنّ الله أحيا قلبه بالإيمان)
(1)
.وقيل: بالنبوّة.
وقيل: إنّ الله تعالى أحيا قلبه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهمّ بمعصية. قال صلى الله عليه وسلم: [ما من أحد يلقى الله عز وجل إلاّ وقد همّ بخطيّة أو عملها إلاّ يحيى بن زكريّا فإنّه لم يهمّ بها ولم يعملها]
(2)
.وقال بعضهم: سمّي بذلك لأنه استشهد، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. قال صلى الله عليه وسلم:[من هوان الدّنيا على الله عز وجل أنّ عيسى قتلته امرأة، وقتل يحيى قبل رفع عيسى عليه السلام].
قوله تعالى: {(بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ)} إنّما سمي عيسى كلمة؛ لأنّ الله تعالى قال له كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة. قوله تعالى:{(وَسَيِّداً)} السيّد في اللغة وفي الحقيقة: من تلزم طاعته ويجب على النّاس الاقتداء والقفا به في العلم والحلم والعبادة. وقال الضحّاك: (السّيّد: الحسن الخلق).وقال ابن جبير: (السّيّد: الّذي يطيع ربّه عز وجل.وقال ابن المسيّب: (السّيّد: الفقيه العالم)
(3)
.وقال سفيان: (هو
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5469).
(2)
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5495)؛وأوله: [كلّ بني آدم
…
] والنص (5479).وفي الدر المنثور: ج 2 ص 190؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عمرو بن العاص» .وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب التوبة: باب خير الخطائين التوابون: الحديث (7692)؛وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» .
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5491).
الّذي لا يحسد)،وقال عكرمة:(هو الّذي لا يغضب)
(1)
،وقال ذو النّون:(الحسود لا يسود)،وقال الخليل:(سيّدا أي مطاعا)،وقيل: السيّد: القانع بما قسم الله، وقيل:
هو الرّاضي بقضاء الله، وقيل: المتوكّل على الله. وقال أبو يزيد البسطامي: السيد هو الذي قد عظمت همّته؛ ونبل قدره أن يحدّث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السّخيّ.
قال صلى الله عليه وسلم: [من سيّدكم يا بني سلمة؟] قالوا: جدّ بن قيس إلاّ أنّه بخيل، قال:[وأيّ داء أدوى من البخل؟ بل سيّدكم عمرو بن الجموح]
(2)
.
قوله تعالى: {(وَحَصُوراً)} الحصور: هو الّذي لا يأتي النّساء، وهذا قول ابن مسعود وابن عبّاس وابن جبير وقتادة وعطاء والسديّ والحسن؛ يعني أنه يحصر نفسه عن الشّهوات. وقال ابن المسيّب والضحّاك:(هو العنّين الّذي ما له ذكر قويّ)، ودليل هذا التأويل ما روى أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [كلّ ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذّبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاّ يحيى بن زكريّا؛ فإنّه كان سيّدا وحصورا؛ {وَنَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ} (39)].ثمّ أهوى النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: [كان ذكره مثل هذه القذاة]
(3)
.
وقال المبرّد: الحصور: هو الّذي لا يدخل في اللّعب والعبث والأباطيل، وقد يسمّى كاتم السرّ حصورا، والذي لا يدخل مع الناس في الميسر حصورا لامتناعه من ذلك، وأصله من الحصير وهو الجسد؛ يقال: حصرت الرّجل عن حاجته إذا حبسته، وحصر في قرانه إذا امتنع من اللقواة
(4)
فلم يقدر عليها، ومنه إحصار العدوّ، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً}
(5)
أي محبسا. ويسمّى الحصير حصيرا لأنه أدخل بعضه في بعض بالنسج وحبس بعضه على بعض. وأولى ما قيل في تفسير قوله تعالى: {(وَحَصُوراً):} هو الذي لا يأتي النّساء، يحبس نفسه عن ذلك اختيارا، فهذا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5493).
(2)
تقدم.
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 190؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي هريرة» .
(4)
هكذا رسمت في الأصل.
(5)
الاسراء 8/.
التأويل أولى من تأويل بعضهم أنه لا شهوة له؛ لما في هذا من إضافة عيب العنّة إليه
(1)
.
قوله عز وجل: {قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} (40)؛معناه: قال زكريّا لجبريل حين سمع البشارة يا سيّدي كيف يكون لي غلام وقد أدركني الهرم وامرأتي ذات عقر لا تلد، قال له جبريل مثل ذلك (يفعل الله ما يشاء)؛أي الذي شاءه. وقال بعضهم: أراد زكريّا بالرب الله عز وجل؛ أي قال يا رب كيف يكون لي غلام.
قال الكلبيّ: (كان زكريّا يوم بشّر بالولد ابن تسعين سنة).وقيل: ابن تسع وتسعين سنة. وروى الضحّاك عن ابن عبّاس: (أنّه كان ابن مائة وعشرين سنة).
وكانت امرأته بنت ثماني وتسعين سنة، فذلك قوله تعالى حاكيا عنه:{(وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)} أي عقيم لا تلد.
يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عقر بضمّ القاف يعقر عقرا، ويقال: تكلّم فلان حتى عقر بكسر القاف؛ إذا بقي لا يقدر على الكلام، وإنّما حذف (الهاء) من عاقر لاختصاص الآيات بهذه الصّفة كما يقال امرأة مرضع.
وقوله تعالى حاكيا عن زكريّا: {(وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)} هذا المقلوب؛ أي وقد بلغت الكبر وشخت، فإن قيل: هل يجوز أن يقول الإنسان بلغنا البلد كما يقول بلغت البلد؟ قيل: لا يجوز ذلك بخلاف قوله: {(بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ)} بمعنى بلغت الكبر، والفرق بينهما أنّ الكبر طالب للإنسان لإتيانه عليه بحدوثه فيه، والإنسان كالطالب للكبر لبلوغه إيّاه بمرور السنين والأعوام عليه، وأمّا البلد فلا يكون طالبا للإنسان، كما يكون الإنسان طالبا للبلد.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 78؛ قال القرطبي: «هذا أصح الأقوال لوجهين: أحدهما: أنه مدح وثناء عليه، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب. والثاني: أن مفعولا في اللغة من صيغ الفاعلين» .
فإن قيل: كيف قال زكريّا (أنّى يكون لي غلام) فاستبعد أن يعطيه الله ولدا على كبر السّنّ من امرأة عاقر بعد ما بشّرته الملائكة بذلك؟ قيل: لم يكن هذا القول منه على جهة الاستبعاد ولكن من شأن من بشّر بما يتمنّاه أن يحمله فرط سروره به على الزيادة في الاستكشاف والاستثبات، كما يقول الإنسان إذا رأى شيئا من الأمور العظيمة: كيف كان هذا؟! على جهة الاستعظام لقدرة الله تعالى لا لشكّ في القدرة.
وقيل: معناه: على أيّ حال يكون الولد أيردّني الله وامرأتي إلى حال الشّباب، أم على هذه الحالة؟! وقيل: معناه: أيرزقني الله الولد من امرأتي هذه أو من امرأة غيرها شابّة؟ فقيل له {(كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)} ؛أي كإثمار السّعفة اليابسة؛ يفعل الله ما يشاء.
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً؛} أي قال زكريّا يا رب اجعل لي علامة إذا حملت امرأتي عرفت ذلك منها، أراد بهذا القول تعجيل السّرور قبل ظهور الولد بالولادة. قال:
علامة ذلك أن لا تطيق الكلام مع أحد من الناس منذ ثلاثة أيّام من غير خرس (إلاّ رمزا) أي الّا إشارة بالعينين والحاجبين واليدين، وقيل: الرّمز: تحريك الشّفتين باللفظ من غير إبانة صوت، فذلك علامة حبل امرأتك.
قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ} (41)؛ أي اذكر ربّك كثيرا في هذه الأيّام الثلاثة؛ {(وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)} أي صلّ غدوّا وعشيّا كما كنت تصلّي من قبل، يقال: فرغت من سبحتي؛ أي من صلاتي، وسمّيت الصلوات سبحا لما فيها من التوحيد والتّحميد والتّنزيه من كلّ سوء. وقيل: أراد بالتسبيح التسبيح المعروف فيما بين الناس، وقرأ الأخفش «(رمزا)» بفتح الميم مصدرا مثل طلبا.
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} (42)،معطوف على {(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ)} ،والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على ما تقدّم. ومعنى {(إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ)} أي اختارك لطاعته وعبادته، {(وَطَهَّرَكِ)} من الكفر بالإيمان والطاعات، كما قال:{لِيُذْهِبَ}
{عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}
(1)
أراد طهارة الإيمان والطاعات، وقيل:
معناه: وطهّرك من الأدناس كلّها؛ من الحيض والنّفاس وغير ذلك.
وقوله تعالى: {(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ)} أي اختارك على أهل زمانك بولادة عيسى من غير أب. وقيل: معنى الآية: وطهّرك من مسيس الرّجل.
فإن قيل: كيف يجوز ظهور الملائكة لمريم وذلك معجزة لا يجوز ظهورها على غير نبيّ، ومريم لم تكن نبيّا؟ قيل: لأنّها وإن لم تكن نبيا؛ فإنّ ذلك كان في وقت زكريّا عليه السلام، ويجوز ظهور المعجزات في زمن الأنبياء عليهم السلام لغيرهم، ويكون ذلك معجزة له. وقيل: كان ذلك إلهاما لنبوّة عيسى، كما كانت الشّهب وتظليل الغمام وكلام الذّئب إلهاما لنبوّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل: {يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي؛} أي اخلصي لعبادة ربك، وقيل: أديمي الطاعة لذلك، وقيل: أطيلي القيام في الصلاة. وقيل: معنى قوله تعالى: {وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ} (43)؛أي صلّى مع الجماعة في بيت المقدس؛ لأنّها كانت تخدم المسجد.
وفي الآية دليل على أن الواو لا توجب الترتيب؛ لأن الركوع مقدّم على السجود في المعنى؛ وقد تقدّم السجود في هذه الآية في اللغة.
قوله عز وجل: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (44)؛ أي ذلك ما قصصناه عليك يا محمّد من أمر زكريّا ويحيى ومريم وعيسى من أخبار ما غاب عنك نرسل جبريل به، وما كنت عندهم يا محمّد إذ يطرحون أقلامهم في نهر أيّهم يضمّ مريم للقيام بأمرها وما كنت عندهم إذ يختصمون في أمرها للتربية.
قوله عز وجل: {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ؛} أي اعلم واذكر {(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ)} يعني جبريل {(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ)} يعني عيسى عليه السلام سمّاه كلمة؛ لأنه كان بكلمة من
(1)
الاحزاب 33/.
الله ألقاها إلى مريم؛ ولم يكن بوالد. قوله تعالى: {(اسْمُهُ الْمَسِيحُ)} إنّما ذكر بلفظ التذكير؛ لأنّ معنى الكلمة الولد فلذلك لم يقل اسمها.
واختلفوا في تسميته مسيحا، قال ابن عبّاس:(المسيح: الممسوح بالبركة)
(1)
فالمسيح فعيل بمعنى مفعول، وقال بعضهم: سمّي مسيحا بمعنى الماسح، كان يمسح على ذوي العلل فيبرءون. وقيل: إنه كان يمسح الأرض مسحا ولا يطوفها؛ أي يسيح فيها، وقيل: إنه خرج من بطن أمّه ممسوحا بالدّهن. وقيل: مسحه جبريل بجناحيه من الشّيطان حتى لا يكون للشيطان عليه سبيل.
وقال الكلبيّ: (المسيح: الملك الّذي لا حاجة له إلى أحد من المخلوقين).روي عن ابن عبّاس أنه عليه السلام كان يقول: (الشّمس ضياء والقمر سراج) وإنّه كان يقول:
(الشّمس سراجي والقمر ضيائي)،ويقول:(البرّيّة طعامي، أبيت حيث يدركني اللّيل، ليس لي ولد يموت ولا دار تخرب ولا مال يسرق، أصبح ولا غداء لي، وأمسي ولا عشاء لي، وأنا من أغنى النّاس).
قوله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؛} أي ذا قدر ومنزلة في الدنيا عند أهلها، وفي الآخرة عند ربه، والوجيه الذي لا يردّ قوله، ولا مسألته. قوله تعالى:
{وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (45)،أي من المقرّبين إلى ثواب الله في جنّة عدن وهي الدرجة العليا، والتقرّب إلى الله تقرّب إلى ثوابه.
قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ؛} أي في مضجع الرّضاع. قال مجاهد: (قالت مريم: كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثته وحدّثني، فإذا شغلني إنسان؛ يسبح في بطني وأنا أسمع)
(2)
.
قوله تعالى: {وَكَهْلاً؛} أي يكلّم الناس بعد ما دخل في السنّ؛ يعني قبل أن يرفع إلى السماء. وقال الحسن: (وكهلا أي بعد نزوله من السّماء).قوله تعالى: {وَمِنَ الصّالِحِينَ} (46)؛أي ومن المرسلين.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5559) عن سعيد.
(2)
في الباب في علوم الكتاب: ج 5 ص 231؛ذكره ابن عادل.
وقال الكلبيّ: (أراد بالمهد: الحجر).روي أنّهم لمّا قالوا لها: {يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا}
(1)
كلّمهم وهو في حجرها فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ} الآية
(2)
،وكان يومئذ ابن أربعين يوما.
فإن قيل: الكلام في حال كونه في المهد يعجب الناس منه، وأمّا الكلام في الكهولة فليس بعجب، فكيف ذكره الله؟ قيل: في ذلك الكلام وفي الكهولة بشارة لمريم في أنّ عيسى يعيش إلى وقت الكهولة.
وقيل: تكلّم في المهد ببراءة أمّه ممّا رماها به اليهود، وتكلّم بالكهولة بإبطال ما ادّعاه النصارى من كونه إلها؛ لأنه كان طفلا ثم صار كهلا، ومن يكون بهذه الصّفة لا يكون إلها.
والكهل في اللّغة: من جاوز حدّ الشّباب ولم يبلغ حدّ الشّيخوخة، يقال:
اكتهل النّبات إذا قوي واشتدّ. وقيل: الكهل: هو الذي يكون ابن أربع وثلاثين سنة.
وقوله عز وجل: {قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؛} أي ولم يصبني رجل بالنّكاح ولا بالسّفاح، وكان هذا القول منها على جهة الاستعظام لقدرة الله تعالى، لا على وجه الاستبعاد كما تقدّم ذكره.
قال الله تعالى: {قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ؛} أي يكون لك ولد من غير بشر. قوله تعالى: {إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (47)؛ أي إذا أراد أن يخلق ما يشاء وحكم بتكوين شيء فإنّما يقول له كن فيكون كما أراده الله تعالى. وهذا إخبار عن سرعة كون مراد الله عز وجل؛ لأنه لا يكون في وهم العباد شيء أسرع من كن، وإنّما ذكره بلفظ الأمر لأنه أدلّ على القدرة، ونصب بعض القرّاء فيكون على جواب الأمر بالألف، ورفعه الباقون على إضمار هو يكون.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ؛} قرأ نافع ومجاهد والحسن وعاصم بالياء؛ كقوله تعالى: {كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ}
(3)
.وقال المبرّد:
(1)
مريم 27/.
(2)
مريم 30/،31.
(3)
آل عمران 48/.
(ردّوه على قوله {(إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ)}.وقرأ الباقون بالنون على التعظيم، وردّوه على قوله:«(نوحيه إليك)» .
قوله تعالى: {(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)؛} أي الخطّ، وقيل الزبور وغيره من الكتب سوى التوراة والإنجيل. وقوله تعالى:{(وَالْحِكْمَةَ)} أي الفقه؛ وهو فهم المعاني.
قوله تعالى: {وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} (48)؛قيل: علّمه الله تعالى التوراة في بطن أمّه، والإنجيل بعد خروجه.
قوله تعالى: {وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي ويجعله بعد ثلاثين سنة رسولا إلى بني اسرائيل؛ {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ؛} بعلامة؛ {مِنْ رَبِّكُمْ؛} لنبوّتي، وقيل:{(وَرَسُولاً)} عطفا على {(وَجِيهاً)} .وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف عليه السلام وآخرهم عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ؛} قرأ نافع «(إنّي)» بالكسر على الاستئناف وإضمار القول، وقرأ الباقون بالفتح.
ومعنى الآية: أنّي أقدر لكم من الطين صورة كهيئة الطير فأنفخ في الطين كنفخ النائم فيصير طيرا يطير بين السماء والأرض بأمر الله عز وجل، ويقرأ «(طائرا)» إلاّ أنّ هذا أحسن؛ لأن الطائر يراد به الحال. قرأ الزهريّ وأبو جعفر «(كهيئة الطّير)» بالتشديد، وقرأ الآخرون بالهمز. والهيئة: الصورة المهيّئة من قولهم: هيّأت الشّيء إذا أصلحته.
وقرأ أبو جعفر: «(كهيئة الطّائر)» بالألف.
قوله تعالى: {فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ؛} قرأ عامّة القرّاء (طيرا) على الجمع لأنه يخلق طيرا كثيرة، وقرأ أهل المدينة «(طائرا)» بالألف على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطّير لأنه لم يخلق إلاّ الخفّاش، وإنّما خصّ الخفّاش لأنّه أكمل الطير خلقا ليكون أبلغ في القدرة لأنّ لها ثديا وأسنانا؛ وهي تحيض وتطهر، قال وهب:
(وهي تطير ما دام النّاس ينظرون إليها، فإذا غابت عن أعينهم سقطت، ولأنّها تطير
بغير ريش وتلد ولا تبيض)
(1)
.
وروي أنّهم ما قالوا لعيسى أخلق لنا خفّاشا إلا متعنّتين له؛ لأجل مخالفته الطيور بهذه الأخبار التي ذكرناها. فلمّا قالوا له أخلق لنا خفّاشا؛ أخذ طينا ونفخ فيه فإذا هو خفّاش يطير بين السماء والأرض، فقالوا: هذا سحر، فقال: أنا؛ {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ؛} فقالوا: إنّ إبراء الأكمه والأبرص يفعله أطبّاؤنا، فذهبوا إلى جالينوس فأخبروه بذلك، فقال: إنّ الّذي ولد أعمى لا يبصر بالعلاج، والأبرص الذي لو غرزت إبرة لا يخرج منه الدم لا يبرأ بالعلاج، وإن كان يحيي الموتى فهو نبيّ. فجاءوا بأكمه وأبرص فمسح عليهما فبرءا، فقالوا: هذا سحر؛ فإن كنت صادقا فأحيي الموتى، فأحيا أربعة من الموتى: العازر وكان صديقا له، فأرسلت أخته إلى عيسى: أنّ أخاك العازر مات فأتاه، وكان بينهما مسيرة ثلاثة أيام، فأتى هو وأصحابه فوجدوه قد دفن منذ ثلاثة أيّام؛ فقام على قبره وقال:
اللهمّ ربّ السموات السّبع والأرضين السّبع أحيي العازر من قبره وودكه يقطر، فخرج وبقي مدّة طويلة وولد له. وأحيا ابن العجوز، مرّ به وهو على سرير يحمل على أعناق الرّجال إلى المقابر، ودعا الله تعالى أن يجيبه، فجلس على سريره وأنزل عن أعناق القوم، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه، ورجع إلى أهله فبقي مدّة وولد له. وأحيا ابنة العاشر بعد موتها بثلاثة ليال، فعاشت مدّة وولدت.
فقالوا له: إنك تحيي من كان قريبا موته ولعلّهم لم يموتوا فأحيي لنا سام بن نوح، فقال: دلّوني على قبره فدلّوه، فدعا الله تعالى أن يحييه فخرج من قبره، فقال له عيسى عليه السلام: من أنت؟ قال: سام بن نوح، قال: ومن أنا؟ قال: عيسى روح الله وكلمته، قال: كيف شبت يا سام ولم يكن في زمانكم شيب، قال: سمعت صوتا يقول أجب روح الله فظننت أنّ القيامة قد قامت فشاب رأسي من هول ذلك، وكان سام قد عاش خمسمائة سنة، ومات وهو شابّ، فقال له عيسى عليه السلام: يا سام أتحبّ أن
(1)
ويقال: إنما طلبوا خلق خفاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور، فيكون له الضرع ويخرج منه اللبن، ولا تبصر في ضوء النهار. نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 94.
أسأل الله حتى تعيش معنا؟ قال: لا، قال: لم لا؟ قال: لأنّ مرارة الموت لم تذهب من قلبي إلى الآن، وكان له من يوم مات أكثر من أربعة آلاف سنة ثم مات مكانه.
فآمن بعيسى بعضهم وكذبه بعضهم، وقالوا: هذا سحر، فأخبرنا بأكلنا وادّخارنا، فكان يقول: أنت يا فلان أكلت كذا وادخرت كذا، وأنت يا فلان أكلت كذا وادخرت كذا. فذلك قوله:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ؛} أي بما تأكلونه وما تدفعوه في بيوتكم حتى تأكلوه.
قوله تعالى: {(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ)} اختلفوا في الأكمه، قال مجاهد والضحّاك:(هو الّذي يبصر بالنّهار دون اللّيل)
(1)
،وقال ابن عبّاس وقتادة:(هو الّذي ولد أعمى ولم يبصر شيء قط)
(2)
.وقال الحسن والسدّي: (هو الأعمى المعروف)
(3)
. (والأبرص):
هو الّذي به وضح. وقال وهب: (ربّما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه، وإنّما كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان).قال الكلبيّ: (كان عيسى يحيي الموتى ب (يا حيّ يا قيّوم».
قوله تعالى: {(وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ)} أي أخبركم بما تأكلون غدوة وعشيّا وما تدفعون من الغداء إلى العشاء، ومن العشاء الى الغداء. وقرأ مجاهد {(وَما تَدَّخِرُونَ)} بذال معجمة ساكنة وفتح الخاء.
قال السديّ: (كان عيسى إذا كان في الصّبيان مع المعلّم يحدّث الصّبيان بما يصنع آباؤهم ويقول للصّبيّ: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا وهم يأكلون السّاعة كذا، فينطلق الصّبيّ إلى أهله وهو يبكي ويطلب منهم ذلك الشّيء حتّى يعطوه إيّاه،
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5580).وفي الدر المنثور: ج 2 ص 215؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو عبيد والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد» .
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 215؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الضحاك» .وفي جامع البيان: النص (5582).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5583) عن السدي، والنص (5586) عن الحسن.
فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا أولادهم عنه وقالوا لا تلعبوا مع هذا السّاحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا له: ليسوا هنا، قال:
فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، فقال عيسى: كذلك يكونون إن شاء الله، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير بأجمعهم، فهمّوا بعيسى أن يقتلوه، فلمّا خافت عليه أمّه حملته على حمار لها وخرجت به هاربة إلى مفازة)
(1)
.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (49)؛أي إنّ ما قلت لكم علامة لكم في نبوّتي إن كنتم مصدّقين بالله عز وجل.
قوله تعالى: {وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ؛} معناه:
وجئتكم {(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ)} أي أتيت بالتوراة وأحكامها وصدّقتها، وقيل: يعني بالتصديق أنّ في التوراة البشارة بي، فإذا خرجت فقد صدّقت ذلك، ولا يجوز أن يكون {(وَمُصَدِّقاً)} عطفا على {(وَرَسُولاً)} لأنه لو كان ذلك لقال ومصدّقا لما بين يديه.
قوله عز وجل: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ؛} لأنه كان في التوراة أشياء محرّمة حلّل عيسى بعضها وهو العمل في يوم السبت؛ وشحوم البقر والغنم وسائر ما حرّم عليهم بظلمهم. وقيل: معناها: ولأحلّ لكم كلّ الذي حرّم عليكم أحباركم لا ما حرّم أنبياؤكم، ويكون البعض بمعنى الكلّ، واستدلّ صاحب هذا القول بقول لبيد:
ترّاك أمكنة إذا لم أرضها
…
أو يعتلق بعض النّفوس حمامها
قيل: معناه: كلّ النفوس. وقال الزجّاج: (لا يجوز أن يكون البعض عبارة عن الكلّ؛ لأنّ بعض الشّيء جزء منه).قال: (ومعنى قول لبيد: أو ما يعتلق نفسي حمامها؛ لأنّ نفسه بعض النّفوس)
(2)
.وقرأ النخعيّ: «(ولاحلّ لكم بعض الّذي حرم»
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5595).
(2)
وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة؛ لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكلّ في هذا الموضع، لأن عيسى عليه السلام إنما أحل لهم أشياء مما حرمها عليهم موسى من أكل الشّحوم وغيرها، ولم يحل لهم القتل ولا السرقة ولا فاحشة. والدليل على هذا أنه روي عن قتادة أنه-
عليكم)
(1)
أي صار حراما.
قوله عز وجل: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي أحلّ لكم شيئا مما حرّم عليكم من غير برهان، بل أتيتكم بعلامة نبوّتي. قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} (50)؛أي اتّقوا الله فيما أمركم ونهاكم وأطيعون فيما أبيّنه لكم؛
{إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ؛} أي قال لهم عيسى إنّ الله خالقي وخالقكم فوحّدوه؛ {هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} (51)؛أي هذا الذي أدعوكم إليه طريقي في الدّين فلا عوج له، من سلكه أدّاه إلى الحقّ.
قوله عز وجل: {*فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ؛} أي لمّا وجد عيسى، وقيل: لمّا علم منهم الكفر والقصد إلى قتله؛ {قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؛} أي من أعواني مع الله، وقيل: معناه: من أنصاري إلى سبيل الله، وقيل: من أنصاري لله، {قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ؛} أي قال المخلصون في النّصرة والتّصديق: نحن أعوان دين الله معك؛ {آمَنّا بِاللهِ؛} أي صدّقنا بتوحيد الله؛ {وَاشْهَدْ؛} يا عيسى؛ {بِأَنّا مُسْلِمُونَ} (52)؛ والإحساس هو العلم من خلجاتهم.
واختلف المفسّرون في الحواريّين، قال بعضهم: هم المخلصون الخواصّ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الزّبير ابن عمّتي وحواريّي من أمّتي]
(2)
أي هو من أمّتي، وكان الحواريون لعيسى اثني عشر رجلا من أصحابه، مكان العشرة من النبيّ صلى الله عليه وسلم، سمّوا الحواريين من الحور وهو الخلوص. يقال: عين حوراء إذا اشتدّ بياض بياضها وقلص؛ واشتدّ سواد سوادها وخلص، ومنه وفيه يقال: دقيق حواريّ للّذي لم يبق منه إلاّ لبابه. وقال بعضهم: سمّوا حواريين من الحوار وهو البياض، إلاّ أنّهم اختلفوا في
(2)
(1)
حرم بوزن شرف وظرف، ونسب الفعل إلى عيسى عليه السلام تجوّزا للعلم بأن المحرّم هو الله تعالى.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 314.وابن أبي شيبة في المصنف: ج 6 ص 379: الحديث (32154)،وإسناده صحيح.
بياضهم. قيل: كانوا قصّارين يبيّضون الثياب فمرّ بهم عيسى عليه السلام فقال: ألا أدلّكم على تطهير أنفع من هذا؟ قالوا: نعم، قال: تعالوا حتّى نطهّر أنفسنا من الذّنوب، فبايعوه على ذلك. وقيل: كانوا بيض الثياب، وقيل: كانوا بيض القلوب من الفساد.
وقال بعضهم: كانوا صيّادين، قال لهم عيسى عليه السلام: ألا أدلّكم على اصطياد أنفع من هذا؟ قالوا: بلى، قال: تعالوا حتى نصطاد أنفسنا من شرك إبليس؛ فبايعوه.
كأنّهم ذهبوا في هذا إلى اشتقاقه من الحور الذي هو الرّجوع، ومنه سمّي المحور لأنه راجع إلى المكان الذي زال منه، وقيل: لأنه بدورانه ينصقل حتى يبيضّ.
والمحور عود الخبّاز، وقيل: المحور الذي تدور عليه البكرة، وربّما كان من حديد.
وأمّا ما روي في الحديث: [نعوذ بالله من الحور بعد الكور]
(1)
فمعناه: من الرجوع والخروج من الجماعة بعد أن كنّا فيها، يقال: كار عمامته إذا لفّها على رأسه؛ وحارها: اذا نقضها.
قال مصعب: (لمّا اتّبع الحواريّون عيسى عليه السلام وهم اثنا عشر رجلا، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا، فيضرب بيده الأرض سهلا كان أو جبلا، فيخرج لكلّ إنسان رغيفين فيأكلهما. فإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا، فيضرب بيده الأرض فيخرج الماء فيشربون، قالوا: يا روح الله؛ من أفضل منّا إذا شئنا أطعمنا وإن شئنا أسقينا، وآمنّا بك واتّبعناك؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده، ويأكل من كسبه، قال: فصاروا يغسلون الثّياب بالكري).
وقال ابن المبارك: (سمّوا حواريّين لأنّه كان يرى بين أعينهم أثر العبادة ونورها وحسنها).قال النضر بن شميل: (الحواريّ خاصّة الرّجل الّذي يستعين به فيما ينوبه).وعن قتادة قال: (الحواريّ: الوزير)
(2)
.
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 83.ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب ما يقول إذا ركب إلى سفر الحج: الحديث (1343/ 426).وابن ماجة في السنن: كتاب الدعاء: باب ما يدعو به الرجل إذا سافر: الحديث (3888) وإسناده صحيح.
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 223؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة» . وينظر: الطبري في جامع البيان: النص (5614) عنه قال: «الّذين تصلح لهم الخلافة» .
قوله تعالى: {رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ} (53)؛أي قالوا: ربّنا آمنّا بما أنزلت في كتابك؛ يعني: الإنجيل على عيسى، واتّبعنا عيسى {(فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ)} أي مع المصدّقين لأنبيائك الذين يشهدون بصدق الأنبياء من قبلنا، وقال عطاء:(معناه: فاكتبنا مع النّبيّين).وقال ابن عبّاس: (معناه: محمّد صلى الله عليه وسلم وأمّته)
(1)
.
قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} (54)؛ يعني مكر الكفار الذين لم يؤمنوا بقصدهم قتل عيسى عليه السلام. والمكر: هو الاحتيال في تدبير الشّرّ. وقوله: {(وَمَكَرَ اللهُ)} أي جازاهم الله على ما تقدّم أنّ الجزاء على المكر يسمى مكرا، كما في الاعتداء والسيّئة والاستهزاء.
قوله تعالى: {(وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)} أي هو أفضل الصانعين حين يجازي الكفار على صنعهم؛ وخلّص الممكور به؛ وذلك أنّ عيسى عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريّين، ودعاهم إلى الإسلام فهمّوا بقتله وتواطئوا عليه، وذلك مكرهم، فلمّا أجمعوا على قتله هرب منهم إلى بيت فدخله فرفعه جبريل من الكوّة إلى السّماء. فقال ملك اليهود واسمه يهودا، لرجل خبيث منهم يقال له طيطانوس: أدخل عليه البيت، فدخل فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فلمّا لم يجد عيسى خرج؛ فرأوه على شبه عيسى فظنّوا أنه عيسى؛ فقتلوه وصلبوه، ثمّ قالوا:
وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟،فوقع بينهم قتال، فقتل بعضهم بعضا.
وقال وهب: (لمّا طرقوا عيسى في بعض اللّيل ونصبوا له خشبة ليقتلوه؛ أظلمت عليهم الأرض فصلبوا رجلا منهم يقال له يهودا ظنّوا أنّه عيسى عليه السلام، وهو الّذي دلّهم عليه، وذلك أنّ عيسى جمع الحواريّين في تلك اللّيلة ثمّ قال: ليمكرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الدّيك، ويبيعني بدراهم يسيرة. فخرجوا وتفرّقوا، وكانت
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 223؛ قال السيوطي: «أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس» .
اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريّين وقال لليهود: ما تجعلون لمن يدلّكم على عيسى؟ فجعلوا له ثلاثين درهما، فأخذها ودلّهم عليه، فلمّا دخلوا البيت ورفع عيسى، ألقى الله شبه عيسى على الّذي دلّهم عليه؛ فقتلوه وصلبوه، فروي أنّه لمّا أخذوه ليقتلوه قال لهم: أنا الّذي دللتكم عليه، فلم يقبلوا منه ولم يلتفتوا إليه وصلبوه وهم يظنّونه عيسى).
قال أهل التواريخ: (حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى لمضيّ خمس وستّين سنة من غلبة الاسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين، ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وعاشت أمّه بعد رفعه ستّ سنين)
(1)
.
والمكر: هو السّعي بالفساد في ستر ومناجاة، وأصله من قول العرب: مكر اللّيل وأمكر؛ إذا أظلم. والمكر من المخلوقين: الخبّ والخديعة والغيلة، وهو من الله استدراجه العباد، قال الله تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}
(2)
قال ابن عباس: (كلّما أحدثوا خطيئة تجدّدت لهم نعمة)
(3)
.وقال الزجّاج: (مكر الله مجازاتهم على مكرهم، فسمّي الجزاء باسم الابتداء كقوله تعالى:{اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
(4)
وقوله: {وَهُوَ خادِعُهُمْ}
(5)
).وقال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلنّ أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وسأل رجل جنيدا: كيف رضي الله المكر لنفسه وقد عاب به غيره؟ قال: لا أدري، ولكن أنشدني
(6)
:
(1)
ذكره ابن عادل الحنبلي في اللباب في علوم الكتاب: ج 5 ص 270.
(2)
الأعراف 182/.
(3)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 98.
(4)
البقرة 15/.
(5)
النساء 142/.
(6)
الأبيات لأبي نواس، الحسن بن هانئ (146 - 198) من الهجرة. وفي الديوان:
ويسمج من سواك الشّيء عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا
فديتك قد جبلت على هواك
…
فنفسي لا ينازعني سواكا
أحبّك لا ببعض، بل بكلّ
…
وإن لم يبق حبّك لي حراكا
ويقبح من سواك الفعل عندي
…
وتفعله فيحسن منك ذاكا
فقال الرجل: أسألك عن آية في كتاب الله تعالى وتجيبني بشعر فلان؟! فقال:
ويحك! قد أجبتك إن كنت تعقل، ومكر الله بهم خاصّة في هذه الآية إلقاؤه الشّبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام
(1)
.
قوله عز وجل: {إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؛} أوّل هذه الآية متّصل بقوله: {(خَيْرُ الْماكِرِينَ)} .وقيل: معناه: واذكروا {(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ)} .قال الضحّاك: (كسا الله عيسى الرّيش وألبسه النّور؛ وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار في الملائكة).
واختلف المفسرون في معنى التّوفّي في هذه الآية؛ فقال الحسن والكلبي والضحّاك وابن جريج: (معناه: إنّي قابضك ورافعك من الدّنيا من غير موت)
(2)
.
فعلى هذا القول للتّوفّي ثلاث تأويلات: أحدها: إنّي رافعك إليّ وافيا لن ينالوا منك شيئا؛ من قولهم: توفّيت كذا واستوفيته؛ إذا أخذته تامّا، والأخذ معناه: إنّي مسلّمك؛ من قولهم: توفّيت كذا إذا سلّمته. وقال الحسن: (معناه: إنّي منيّمك ورافعك إليّ من نومك).يدل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ}
(3)
أي ينيمكم؛ لأن النوم أخو الموت.
وروي عن ابن عبّاس أنّ معنى الآية: (إنّي مميتك)
(4)
يدلّ عليه قوله تعالى:
{قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ}
(5)
وله على هذا القول تأويلان؛ أحدها:
(1)
أدرج الناسخ عبارة: (كذا في تفسير الثعلبي) في المتن كعادته، وعلى ما يبدو أن الثعلبي نقل من هنا أو أخذ عنه.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5622) عن الحسن، والنص (5623) عن ابن جريج.
(3)
الأنعام 60/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5628).
(5)
السجدة 11/.
قال وهب بن منبه: (توفّاه الله ثلاث ساعات من النّهار ثمّ أحياه ورفعه إليه).
والآخر: قال الضحّاك: (إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا؛ معناه: إنّي رافعك ومطهّرك من الّذين كفروا؛ ومتوفّيك بعد إنزالك من السّماء) قال الشاعر:
ألا يا نخلة من ذات عرق
…
عليك ورحمة الله السّلام
أي عليك السلام ورحمة الله.
قال صلى الله عليه وسلم: [أنا أولى النّاس بعيسى عليه السلام؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبيّ، وإنّه نازل على أمّتي وخليفتي فيهم. فإذا رأيتموه فاعرفوه؛ وإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض، سبط الشّعر كأنّ شعره يقطر وإن لم يصبه بلل، يدقّ الصّليب ويقتل الخنزير، ويقاتل النّاس على الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلّها، ويهلك الله في زمانه الدّجّال، ويقع أمنه في الأرض حتّى ترتعي الأسود مع الإبل، والنّمور مع البقر، والذّئاب مع الغنم، ويلعب الصّبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضا، ويلبث في الأرض أربعين سنة]
(1)
.
وفي رواية كعب: [أربعة وعشرين سنة، ثمّ يتزوّج ويولد له ثمّ يموت، ويصلّي عليه المسلمون ويدفنوه في بيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم]
(2)
.
وقيل للحسن بن الفضل: هل تجد نزول عيسى من السّماء في القرآن؟ قال:
(نعم؛ قوله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً}
(3)
وهو لم يكتهل في الدّنيا، وإنّما رفع وهو شابّ، وإنّما معناه وكهلا بعد نزوله من السّماء).
وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها؛ وعيسى في آخرها؛ والمهديّ من أهل بيتي في وسطها؟!]
(4)
وقال ابن عمر: رأينا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5632).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5624).
(3)
آل عمران 46/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5624) من غير الزيادة: [والمهدي من أهل بيتي في وسطها].
النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم في الطّواف، فقيل له في ذلك؛ فقال:[استقبلني عيسى في الطّواف ومعه ملكان].
وقوله عز وجل: {(وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)} أي مخرجك من بين أظهرهم ومنجّيك منهم، فإنّهم كانوا أرجاسا. وكان تطهير عيسى منهم إزالتهم عنه برفعه، فإنّ التطهّر إزالة الأنجاس عن الثوب والبدن. قوله عز وجل:{(وَرافِعُكَ إِلَيَّ)} أي إلى السّماء، وقيل: إلى كرامتي كما قال ابراهيم عليه السلام: {(إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي)} أي حيث أمرني ربي.
قوله عز وجل: {(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)} معناه: جاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كذبوا بك؛ أي فوقهم في العزّ والغلبة؛ لا ترى يهوديا حيث كان إلاّ أذلّ من النصرانيّ. قالوا: وهذا يدلّ على أنه لا يكون لليهود ملك كما هو للنّصارى
(1)
.
وقيل: أراد بقوله {(فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)} فوقهم بالحجّة والبرهان، قال ابن عباس والربيع وقتادة والشعبي ومقاتل والكلبيّ:(المراد بالّذين اتّبعوا عيسى أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم الّذين صدّقوه فيما قال؛ فو الله ما تبعه من ادّعاه ربّا؛ تعالى الله عز وجل وتقدّس أن يكون له ولد).قال الضحّاك: (يعني الحواريّين).
قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55)؛أي مرجع الكفّار والمؤمنين إليّ؛ (فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدّين وأمر عيسى عليه السلام.
(1)
قد يقول سائل: إذا هذه (دولة إسرائيل) التي تتوسط قلب العالم الإسلامي؟! الجواب: إن كيان ما يسمى ب (دولة إسرائيل) ليس دولة حقيقة، وإن حاولت الدول الكبرى أن تجعل منها دولة، وإن تعاون معهم دول الجوار، فهي ليست دولة حقيقة. وإنما هي سلطة إدارية فحسب؛ لأنها لا تملك أمان نفسها بنفسها، ولا سلطانها قائم من ذاتها، وإنما هو بمدد من الناس من كيان الدول الكبرى، قال الله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ [آل عمران 112/].
قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؛} أي أعاقبهم عقوبة شديدة في الدّنيا بالقتل والسّبي والجزية، وفي الآخرة بالنار، {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (56)؛أي مانعين يمنعونهم من عذاب الله.
قوله عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ؛} قرأ الحسن وحفص {(فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ)} بالياء
(1)
،ومعناه: الذين صدقوا وعملوا الصالحات نكمل لهم ثواب أعمالهم بالطاعة؛ {وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ} (57)؛أي لا يرحمهم ولا يغفر لهم.
قوله عز وجل: {ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (58)؛ أي ما جرى من القصص ننزل به عليك يا محمّد فيتلوه عليك جبريل بأمرنا. وإنّما أضاف التلاوة إلى نفسه؛ لأنه حصل بأمره، {(وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)} أي ومن القرآن ومن الحكمة بالتّأليف والنّظم، وسمّاه حكيما لأنه بما فيه من الحكمة كأنه ينطق بالحكمة.
ويقال: معنى الحكيم المحكم وهو فعيل بمعنى مفعول.
قوله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (59)؛قال ابن عباس: وذلك أنّ وفد نصارى نجران: أسيد والعاقب وغيرهم من علمائهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [أسلموا] فقالوا: أسلمنا قبلك، فقال صلى الله عليه وسلم:[يمنعكم من الإسلام ثلاث: أكلكم الخنزير؛ وعبادتكم الصّليب؛ وقولكم لله عز وجل ولد] فقالوا له: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: [وما أقول؟] قالوا: تقول إنّه عبد الله، قال [أجل؛ هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول] فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قطّ من غير أب؟!
(2)
فأنزل الله عز وجل: {(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)} أي صفة خلق عيسى بلا أب كصفة خلق آدم، خلقه من تراب من غير أب ولا أمّ ثم قال
(1)
ينظر: أبو علي الفارسي: الحجة للقراءات السبعة: ج 2 ص 22،طبعة دار الكتب العلمية: ط 1.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5647).
لآدم: كن؛ فكان. وأراد الله تعالى بهذه الآية أنّ كون الولد من غير أب ليس بأعجب من كون الإنسان لغير أب وأمّ، وقد خلق الله آدم من غير أب وأمّ.
وفي هذه الآية دلالة على صحّة القياس؛ لأنه لو لم يصح القياس لم يكن الله يجيب به، وفيها دليل على جواز قياس الشيء بالشّيء من وجه دون وجه؛ لأن الله عز وجل إنّما شبّه عيسى بآدم في كونه من غير أب؛ لا في كونه من غير أمّ؛ ولا في خلقه من التّراب.
فإن قيل: هلاّ قال الله تعالى: (كن فكان) فإنّ آدم قد انقضى كونه وقد أخبر عنه بالمستقبل؟ قيل: إنّ الفعل الماضي منقطع والمضارع متّصل؛ وذلك يقال: يروى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فعل كذا فكان فعل كن لأنه لا يقتضي التّكرار، وما روي أنه كان يفعل كذا فإنه على التّكرار دون الانقطاع. ثم فعل الله يبنى على المهلة ويحدث على التّدريج، ألا ترى أنه خلق السموات والأرض في ستّة أيام، وكذلك بدت الحياة في آدم على التدريج، وكذلك أمر عيسى على التدريج كان يبدأ شيئا فشيئا؛ فأخبر الله عز وجل عن ذلك بفعل دائم.
قوله عز وجل: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (60)؛قال الفرّاء: (رفع بخبر ابتداء محذوف تقديره: هو الحقّ أو هذا الحقّ).وقيل: تقديره:
هذا الّذي أنبأتك به هو الحقّ والصّدق في أمر عيسى، {(فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)} أي من الشّاكّين؛ فالخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أمّته، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن شاكّا في أمر عيسى عليه السلام قطّ، وهذا كما قال تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ}
(1)
.وقال بعضهم: معناه: لا تكن أيها السّامع لهذا النّبأ من الشّاكّين.
قوله عز وجل: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ؛} أي فمن خاصمك وجادلك يا محمّد في أمر عيسى من بعد ما جاءك من البيان بأنه عبد الله ورسوله، ولم يكن ابن الله ولا شريكه؛ {فَقُلْ تَعالَوْا؛} يا معشر النّصارى؛ {نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ؛} لنخرج إلى
(1)
الطلاق 1/.
فضاء من الأرض؛ {ثُمَّ نَبْتَهِلْ؛} أي نلتعن، والبهلة: اللّعنة؛ يقال: بهله الله؛ أي لعنه الله وباعده. ويقال: معنى {(نَبْتَهِلْ)} :نجتهد ونتضرّع في الدّعاء على الكاذب.
ثم فسّر الابتهال فقال تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ} (61)؛ أي نقول: لعنة الله على الكاذبين في أمر عيسى.
قرأ الحسن وأبو واقد وأبو السمّال العدويّ: «(تعالوا)» بضمّ اللام. وقرأ الباقون:
«(تعالوا)» بفتح اللاّم، والأصل فيه: تعاليوا؛ لأنه تفاعلوا من العلوّ، فاستثقلت الضمّة على الياء فسكّنت ثم حذفت وبقيت اللام على فتحها، ومن ضمّ فقد نقل حركة الياء المحذوفة إلى اللاّم. قال الفرّاء:(معنى تعال: ارتفع).
فلمّا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على نصارى نجران وقال لهم: [إنّ الله أمرني أن أباهلكم إن لم تقبلوا] قالوا له: يا أبا القاسم؛ بل نرجع فننظر في أمرنا ثمّ نأتيك فنعلمك، فرجعوا وخلا بعضهم ببعض، وقال السّيّد للعاقب: قد والله علمت أنّ الرّجل نبيّ مرسل، ولئن لاعنتموه يا معشر النّصارى ليستأصلنّكم، وما لاعن نبيّ قوما قطّ فعاش كثيرهم ولا ثبت صغيرهم، وإن أنتم أبيتم إلاّ دينكم فواعدوه وارجعوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغدوّ وقد خرج بنفر من أهله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن؛ وفاطمة تمشي على إثرهم وعليّ بعدها وهو يقول لهم:[إذا أنا دعوت فأمّنوا].فقال واحد من النّصارى: والله إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم؛ قد رأينا أن لا نلاعنك ونتركك على دينك ونثبت على ديننا، فقال صلى الله عليه وسلم:[فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم].فأبوا؛ فقال: [إنّي أنابذكم] فقالوا: ما لنا بحرب العرب من طاقة، ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردّنا عن ديننا؛ على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة؛ ألف في صفر وألف في رجب.
فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال لهم: [وإن كان كيد باليمن أعنتمونا بثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا، والمسلمون ضامنون لها حتّى
يردّوها عليكم]
(1)
.
وكتب لهم كتاب الأمان والصّلح: [بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما كتب محمّد رسول الله لنجران في كلّ صفراء وبيضاء وسوداء أو رقيق فاضلا عنهم؛ ترك ذلك كلّه على ألفي حلّة، في كلّ صفر ألف حلّة، وفي كلّ رجب ألف حلّة يمن كلّ حلّة وقيّة، وما زادت الحلل على الأواق فبحسابها، وما نقص من درع وخيل أو ركاب فبحسابه. وعليهم عارية ثلاثون درعا وثلاثون فرسا وثلاثون بعيرا إن كان كيدا باليمن، ولنجران وحاشيتها جوار الله تعالى وذمّة محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم ومالهم. وكلّ ما تحت أيديهم من قليل وكثير لا يغيّر ما كانوا عليه، ولا يغيّر أسقف من أسقفه، ولا راهب من رهبانيّته، ولا يحشرون من بلادهم، ولا يعشرون، ولا يطأ أرضهم حبش. وما سأل منهم حقّا فله النّصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل الرّبا من ذي قبل فذمّتي منه بريّة، لا يؤخذ منهم رجل يطلب آخر، لهم جوار الله وذمّة رسوله أبدا حتّى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيها عليهم غير مثقلين بظلم]
(2)
.
شهد الشّهود أبو سليمان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف وغيرهم. ثمّ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاذ بن جبل ليقضي بالحقّ فيما بينهم، ورجعوا إلى بلادهم. فقال صلى الله عليه وسلم:[لو باهلوني لاضطرم الوادي عليهم نارا، ولم ير نصرانيّ ولا نصرانيّة إلى يوم القيامة].وفي بعض الرّوايات أنه قال: [لو التعنوا لهلكوا كلّهم حتّى العصافير في سقوفهم].وفي بعض الروايات أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
[والّذي نفسي بيده، إنّ العذاب يدلى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير؛ ولاضطرم الوادي عليهم نارا؛ ولاستأصل الله نجران وأهله حتّى الطّير
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 231 - 232؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق الكلبي» .والطبري في جامع البيان: النص (5669).
(2)
أخرجه أبو عبيد بن سلام في الأموال: باب كتب اليهود التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم: النص (503):ج 1 ص 244.
والشّجر، وما حال الحول على النّصارى كلّهم حتّى هلكوا].فدلّ هذا الخبر على أن امتناعهم عن المباهلة لم يكن إلاّ لعلمهم أنّ الحقّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو لم يعلموا ذلك لباهلوه.
قوله عز وجل: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ؛} أي هذا الذي أوحينا إليك من الحجج والآيات لهو الخبر الحقّ بأنّ عيسى لم يكن إلها ولا ولد الله ولا شريكه. والقصص: هو الخبر الذي يتلوا بعضه بعضا. قوله تعالى: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ؛} أي ما إله إلاّ الله واحد بلا ولد ولا شريك. ودخول (من) في قوله {(وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ)} لتوكيد النّفي في جميع ما ادّعاه المشركون أنّهم آلهة.
قوله تعالى: {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (62)؛أي العزيز بالنقمة لمن لا يؤمن به، ذو الحكمة في خلق عيسى عليه السلام من غير أب؛ وفي أمره ألاّ تعبدوا إلاّ الله تعالى.
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} (63)؛أي إن أعرضوا عمّا أتيت به من البيان؛ فإنّ الله عالم بالمفسدين الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غير الله يجازيهم على ذلك.
ثم دعاهم الله إلى التوحيد فقال عز وجل: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً؛} أي قل لهم يا محمّد: يا أهل الكتاب هلمّوا إلى كلمة عدل بيننا وبينكم.
وفي (سواء) ثلاث لغات: سواء وسوى وسوا، ولا يمدّ فيها إلاّ المفتوح، قال الله تعالى:{مَكاناً سُوىً}
(1)
.ثم فسّر الكلمة فقال تعالى: {(أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ)} أحدا من المخلوقين، وموضع (أن) رفع على إضمار (هي).وقيل: موضعها نصب بنزع الخافض، وقيل: موضعها خفض بدلا من الكلمة؛ أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلاّ الله.
(1)
طه 58/.
قوله تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ؛} أي نرجع إلى معبودنا وهو الله عز وجل لا شريك له؛ وأنّ عيسى بشر كما أنّنا بشر فلا تتخذوه ربّا، وسمّى الله هذه الثلاثة الألفاظ كلمة لأنّ معناها: نرجع إلى واحد، وهي كلمة العدل: لا إله إلاّ الله.
قال بعض المفسّرين: ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله كما فعلت اليهود والنّصارى؛ فإنّهم اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله؛ أي أطاعوهم في معصية الله. قال عكرمة: (هو سجود بعضهم لبعض)
(1)
،وقيل: معناه: لا نطيع أحدا في المعاصي، وفي الخبر:[من أطاع مخلوقا في معصية الله فكأنّما سجد سجدة لغير الله].
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ} (64)؛ أي فإن أبوا التوحيد فقولوا اشهدوا بأنّا مقرّون بالتوحيد مسلمون لما أتانا به الأنبياء صلوات الله عليهم من الله تعالى.
قوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ،} قال الكلبيّ: (وذلك أنّ اليهود والنّصارى اجتمعوا في بيت مدرسة اليهود، وكلّ فريق يقول: إنّ إبراهيم منّا وعلى ديننا، فأتاهم رسول الله عليه السلام فقالوا: اقض بيننا أيّنا أولى بإبراهيم ودينه، فقال صلى الله عليه وسلم: [كلّ الفريقين منكم بريء من إبراهيم ودينه، إنّ إبراهيم كان حنيفا مسلما وأنا على دينه، فاتّبعوا دينه الإسلام] فأنزل الله هذه الآية).ومعناها: يا أيّها اليهود والنصارى لم تتخاصموا في ابراهيم ودينه (وما أنزلت التّوراة والانجيل إلاّ من بعده){أَفَلا تَعْقِلُونَ} (65)،أي أفليس لكم ذهن الإنسانيّة فتعلموا أن اليهوديّة ملّة محرّفة عن شريعة موسى عليه السلام، وأنّ اليهود سمّوا بهذا الاسم لأنّهم من ولد يهودا، والنصرانيّة ملّة محرّفة عن شريعة عيسى عليه السلام، سمّوا نصارى لأنّهم من قرية بالشام يقال لها: ناصرة. ويقال: معناه: أفلا تعقلون وتنظرون أنه ليس في التوراة والانجيل أنّ إبراهيم عليه السلام كان يهوديّا أو نصرانيّا.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5686).
قوله تعالى: {(وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ)} أي من بعد مهلك إبراهيم عليه السلام بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة. أفلا تعقلون دحوض حجّتكم وبطلان قولكم.
قوله عز وجل: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ،} معناه: وأنتم يا هؤلاء يا معشر اليهود والنصارى حاججتم فيما لكم به علم من بعث محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته في كتابكم، فلم تخاصمون فيما ليس لكم به علم وهو أمر إبراهيم عليه السلام، {وَاللهُ يَعْلَمُ،} دين إبراهيم وشأنه، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (66).
و (الهاء) في (ها أنتم) تنبيه، و (أنتم) اسم للمخاطبين، و (هؤلاء) إشارة إليهم، كأنّه يقول: انتبهوا أنتم الذين حاججتم. قرأ أهل المدينة والبصرة بغير همز ولا مدّ إلاّ بقدر خروج الألف السّاكنة، وقرأ أهل مكة مهموز مقصور على وزن هعيتم، وقرأ أهل الكوفة وابن عامر بالمدّ والهمز، وقرأ الباقون بالمدّ دون الهمز.
قوله عز وجل: {ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا؛} هذا تكذيب من الله للفريقين في قولهم: إنّ إبراهيم كان يهوديّا أو نصرانيّا. وقوله تعالى:
{وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً؛} أي مائلا عن اليهوديّة والنصرانيّة مخلصا مستسلما لأمر الله عز وجل؛ {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (67)؛على دينهم.
والحنيف: هو المائل عن كلّ دين سوى الإسلام، يشبّه بالأحنف الذي تكون صدور قدميه مائلة عن جهة الخلقة. وقيل: الحنيف: الذي يوحّد الله ويحجّ ويضحّي ويختتن ويستقبل القبلة، وهو أسهل الأديان وأحبّها إلى الله تعالى، وأهله أكرم الخلق على الله.
قوله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا؛} قال ابن عبّاس والكلبيّ: (وذلك أنّ رؤساء اليهود قالوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد علمت يا محمّد أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنّه كان يهوديّا، وما بك إلاّ الحسد لنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية).ومعناها: إنّ أحقّ الناس بموالاة إبراهيم للّذين اتّبعوه في دينه في زمانه، ولم يغيّروا ولم يبدّلوا، {(وَهذَا النَّبِيُّ)} يعني
محمّدا صلى الله عليه وسلم {(وَالَّذِينَ آمَنُوا)} يعني أصحابه الذي اتّبعوه. قوله عز وجل: {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (68)؛أي في النّصر والمعرفة.
قوله عز وجل: {وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ؛} يعني كعب بن الأشرف وأصحابه دعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ وحذيفة وعمّار بن ياسر الى دينهم اليهوديّة، وقد مضت قضيّتهم في سورة البقرة. ومعناه: تمنّت جماعة من أهل الكتاب أن يهلكوكم بإدخالكم في الضّلال، {وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ؛} أي وما يرجع وبال إضلالهم إلاّ على أنفسهم، {وَما يَشْعُرُونَ} (69)؛وما يعلمون أنّ وبال ذلك يعود عليهم، وقيل: ما يعلمون أنّ الله يطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على فعلهم.
قوله عز وجل: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (70)؛أي لم تجحدون بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأنتم تعلمون في كتابكم أنه نبيّ مرسل، يعني أنّ نعته مذكور في التوراة والإنجيل. والأصل في {(لِمَ تَكْفُرُونَ)}:لما تكفرون؛ أي لأيّ شيء تكفرون، حذفت الألف للتخفيف وفتحت الميم دليلا على سقوط الألف، وعلى هذا {لِمَ تَقُولُونَ} و {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} و {عَمَّ يَتَساءَلُونَ} .
قوله عز وجل: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (71)؛معناه: لم تخلطون الإسلام باليهوديّة والنصرانيّة، وقيل: إنّهم أقرّوا ببعض أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضه، وقيل: معناه: لم تغطّون الحقّ بباطلكم، وتغطيتهم الحقّ بالباطل تحريفهم للتوراة والإنجيل وتأويلهم على غير وجهه.
وقوله تعالى: {(وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ)} يعني صفة النّبيّ صلى الله عليه وسلم كتموها وهم يعلمون أنه رسول الله ودينه حقّ.
قرأ أبو مخلّد «(تلبّسون)» بالتشديد، وقرأ عبيد بن عمر:«(لم تلبسوا)» بغير نون ولا وجه له.
قوله عز وجل: {وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ؛} قال مجاهد ومقاتل والكلبيّ: (هذا في شأن القبلة لمّا صرفت القبلة إلى الكعبة، شقّ ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بالّذي أنزل على محمّد في شأن الكعبة وصلّوا إليها أوّل النّهار ثمّ اكفروا بالكعبة آخر النّهار، وارجعوا إلى قبلتكم صخرة بيت المقدس).
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (72)؛أي لعلّهم يقولون هؤلاء أصحاب كتاب، وهم أعلم منّا، فربّما يرجعون إلى قبلتنا، فحذر الله نبيّه محمّدا صلى الله عليه وسلم مكر هؤلاء القوم وأطلعه على سرّهم.
وقال بعضهم: إنّ علماء اليهود قالوا فيما بينهم: كنّا نخبر أصحابنا بأشياء قد أتى بها محمّد صلى الله عليه وسلم، فإن نحن كفرنا بها كلّها اتّهمنا أصحابنا، ولكن نؤمن ببعض ونكفر ببعض لنوهمهم أنّا نصدّقه فيما نصدّقه، ونريهم أنّا نكذّبه فيما ليس عندنا.
ويقال: إنّهم أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في صدر النّهار، فقالوا: أنت الذي أخبرنا في التوراة إنك مبعوث، ولكن أنظرنا إلى العشيّ لننظر في أمرنا.
فلمّا كان العشيّ أتوا الأنصار فقالوا لهم: كنّا أعلمناكم أنّ محمّدا هو النبيّ الذي هو مكتوب في التوراة، إلاّ أنّا نظرنا في التوراة فإذا هو من ولد هارون عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بن إبراهيم، فليس هو النبيّ الذي هو عندنا. وإنّما فعلوا ذلك لعلّ من آمن به منهم يرجع، لأنّ هذا يكون أقرب عندهم إلى تشكيك المسلمين.
ووجه الشّيء أوّله، يقال لأوّل الثوب وجه الثوب، ويسمّى أوّل النهار وجهه لأنه أحسنه.
قوله عز وجل: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ؛} حكاية قول كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا لليهود: لا تصدّقوا إلاّ لمن تبع دينكم اليهوديّة، وصلّى إلى قبلتكم نحو بيت المقدس.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ؛} قال بعضهم: هذا كلام معترض بين كلامي اليهود، ويجوز دخول العارض بين الكلامين اذا احتيج إليه كما
دخل على قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
(1)
ثم عاد إلى أوّل الكلام فقال تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ}
(2)
كذا قوله تعالى: {(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ)} عارض ثم عاد إلى كلام اليهود، فقال تعالى:{أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ؛} أي قالوا لا تصدّقوا أن يعطى أحد من الكتاب والعلم مثل ما أعطيتم؛ {أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ؛} أي يحاجكم أحد، {قُلْ؛} لهم يا محمّد إنّ الهدى هدى الله و؛ {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ؛} فلا تنكروا أن يؤته غيركم.
وقال بعضهم: ليس في الآية تقديم وتأخير، ومعناه: قالت اليهود: ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم، قل يا محمّد إنّ الهدى هدى الله؛ فلا تجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو يحاجّكم أحد عند ربّكم، {(قُلْ)}:إنّ الفضل بيد الله، {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي النبوة والكتاب والهدى بقدرة الله تعالى يعطيه من يشاء، {وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (73)؛أي واسع الفضل والقدرة، عليم بمن هو من أهل الفضل.
وقيل معنى الآية: ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم أي ملّتكم، ولا تؤمنوا إلاّ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والحكمة؛ والكتاب والحجة؛ والمنّ والسّلوى؛ وفلق البحر وغيرها من الكرامات، ولا تؤمنوا إلاّ أن يجادلوكم عند ربكم لأنكم أصحّ دينا منهم، وهذا قول مجاهد.
وقال ابن جريج: (معناه: أنّ اليهود قالت لسفلتهم: لا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث عملوا ما عملتم، وحينئذ يحاجّوكم عند ربكم فيقولون: عرفتم أنّ ديننا حقّ؛ فلا تصدّقوهم لئلاّ يعلموا مثل ما علمتم فلا يحاجّوكم عند ربكم)
(3)
.ويجوز أن تكون (إلاّ) على هذا القول مضمرة لقوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}
(4)
ويكون تقديره: ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم؛ لئلاّ يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ لئلا يحاجّوكم به عند ربكم.
(1)
الكهف 30/.
(2)
الكهف 31/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5735).
(4)
البقرة 176/.
وقرأ الحسن والأعمش «(إن يؤتى)» بكسر الألف، وجه هذه القراءة: أنّ هذا من قول الله عز وجل بلا اعتراض، وأن يكون كلام اليهود منتهيا عند قوله {(إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)}.ومعنى الآية: قل يا محمّد إنّ الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمّة محمّد أو يحاجّوكم؛ يعني: إلاّ أن يحاجّوكم أي يجادلوكم اليهود بالباطل فيقولوا نحن أفضل منكم.
وقوله تعالى: {(عِنْدَ رَبِّكُمْ)} أي عند فعل ربكم ذلك، وتكون (أن) على هذا القول بمعنى الجحد والنّفي؛ أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم من الدّين والحجّة حتى يجادلوكم عند ربكم. قرأ ابن كثير:
«(أأن يؤتى أحد)» بالمدّ
(1)
،وحينئذ في الكلام اختصار تقديره: ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب تحسدونهم ولا تؤمنون به، وهذا قول قتادة والربيع؛ قالا:(هذا من قول الله عز وجل: قل يا محمّد إنّ الهدى هدى الله؛ لمّا أنزل كتابا مثل كتابكم ونبيّا مثل نبيّكم حسدتموه وكفرتم به)
(2)
.
ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله تعالى: {(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)،} فيكون قوله تعالى: {(وَلا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)} إلى آخر الآية من كلام الله عز وجل، وذلك أنّ الله تعالى قال مثبتا لقلوب المؤمنين لئلاّ يشكّوا عند تلبّس اليهود في دينكم، ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إلاّ لمن تبع دينكم، ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدّين والفضل، ولا تصدّقوا أن يحاجّوكم في دينكم عند ربكم، أو يقدرون عليه، فإن الهدى هدى الله، وإن عند تلبّس اليهود عليهم لئلاّ يزلّوا أو يرتابوا، يدلّ عليه قول الضحّاك:(إنّ اليهود قالوا: إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا).بيّن الله أنّهم هم المدحضون المغلوبون، وأنّ المؤمنين هم الغالبون. وقال أهل الإشارة في هذه الآية: لا تعاشروا إلاّ من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم، فإنّ من لم يوافقكم لا يرافقكم.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 112 - 113؛ قال القرطبي: «وقال أبو حاتم: (آن) معناه (ألأن) فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدّة، كقراءة من قرأ أن كان ذا مال أي ألأن» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5733) عن قتادة، والنص (5734) عن الربيع.
قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي يختصّ بدينه الإسلام من يشاء، وقيل: يختصّ بالنبوّة من يشاء؛ {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (74)، على من اختصّه بالإسلام والنبوّة.
قوله عز وجل: {*وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً؛} في الآية دليل وبيان أنّ أهل الكتاب فيهم أمانة وفيهم خيانة، فمنهم من إن تأمنه تبايعه بملء مشك ثور تؤدّه ذهبا، يؤدّه إليك بلا عناء ولا تعب، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلاّ بعد عناء وتعب. وقال الضحّاك:(هو فنحاص بن عازوراء اليهوديّ؛ أودعه رجل دينارا فخانه)
(1)
.والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدّينار عبارة عن المال القليل.
وقال الضحّاك عن ابن عبّاس: (معنى الآية: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك؛ وهو عبد الله بن سلام؛ أودعه رجل ألفا ومائتي أوقيّة من ذهب فأدّاه إليه؛ فمدحه الله تعالى، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك؛ وهو فنحاص ابن عازوراء اليهوديّ؛ أودعه رجل من قريش دينارا فخانه).وفي بعض التفاسير: أنّ الذي يؤدّي الأمانة في هذه الآية هم النّصارى؛ والذين لا يؤدّونها هم اليهود.
قرأ الأشهب العقيلي «(تيمنه بقنطار)» بكسر التّاء وهي لغة بكر وتميم، وفي حرف ابن مسعود:(ما لك لا تيمنّا)،وقراءة العامّة «(تأمنه)» بالألف.
وقوله تعالى {(يُؤَدِّهِ)} فيه خمس قراءات، فقرأها كلّها أبو عمرو وعاصم والأعمش وحمزة ساكنة الهاء، وقرأ أبو جعفر ويعقوب مختلسة مكسورة مشبعة، وقرأ سلام مضمومة مختلسة، وقرأ الزهريّ مضمومة مشبعة، وقرأ الآخرون مكسورة مشبعة.
قوله تعالى: {(إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)} قرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب وطلحة بكسر الدّال، ومعنى الآية:{(إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)} أي ملحّا، كذا قال ابن عباس،
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 115.
وقال مجاهد: {(إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً)} ملازما. وقال ابن جبير: (مرابطا).وقال الضحّاك: (مواظبا)
(1)
.وقال قتادة: (معناه: إلاّ ما دمت عليه قائما: بقبضه).وقال السديّ: (قائما على رأسه، فإن سألته إيّاه حين دفعته إليه ردّه عليك، وإن أخّرته أنكر)
(2)
.وذهب به ذلك إلى الاستحلال والخيانة، {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا؛} أي فإنّهم قالوا:{لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ؛} أي وقال العرب نظيره قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ}
(3)
.والسبيل هو الإثم والحرج؛ دليله قوله تعالى: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
(4)
وذلك أنّ اليهود قالوا: لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلّها الله لنا؛ لأنّهم ليسوا على ديننا، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم في دينهم
(5)
.
وقال الكلبيّ: (قالت اليهود: إنّ الأموال كلّها لنا؛ وما كان في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنّما ظلمونا وغصبونا عليها ولا سبيل علينا في أخذنا إيّاها منهم).
فأكذبهم الله بقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75)؛ فلمّا نزلت هذه الآية قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهليّة إلاّ وهو تحت قدمي إلاّ الأمانة؛ فإنّها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر]
(6)
.
قوله تعالى: {(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)} أي ذلك الاستحلال والخيانة منهم بقولهم: ليس علينا في مال العرب والذين لا كتاب لهم حجة ولا مأثم. وقوله تعالى: {(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ)} أي يقولون لم يجعل لهم علينا في كتابنا حرمة كحرمتنا، {(وَهُمْ يَعْلَمُونَ)} أنّ الله تعالى قد أنزل عليهم في كتابهم الوفاء وأداء الأمانة لمن ائتمنهم وخالطهم
(7)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5741).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5742).
(3)
الجمعة 2/.
(4)
التوبة 91/.
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5743).
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5745) مرسلا عن سعيد بن جبير.
(7)
أصله عن ابن عباس؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5746).
قوله عز وجل: {بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (76)؛أي ليس الأمر كما يزعمون، لكن من أتمّ عهد الله الذي عاهده الله تعالى في التوراة واتّقى ظلم الناس في ترك الوفاء ونقض العهد، فإنّ الله يحبّ المتّقين لنقض العهد وترك الوفاء. قال صلى الله عليه وسلم:[ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى وصام: من إذا حدّث كذب، وإذا أوعد أخلف، وإذا ائتمن خان]
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: [من ائتمن على أمانة فأدّاها ولو شاء لم يؤدّها؛ زوّجه الله من الحور العين ما شاء].
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية فيما كان بين امرئ القيس
(2)
وعبدان بن الأشوع من الخصومة في أرض غلبه عليها امرؤ القيس؛ فاستحلفه عبدان فهمّ بالحلف؛ فنزلت هذه الآية فامتنع أن يحلف، وأقرّ لعبدان بحقّه ودفعه إليه، فقال صلى الله عليه وسلم:[لك عليها الجنّة]).وقيل: نزلت هذه الآية في اليهود لكتمانهم مبعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية: إنّ الذين يجتازون على عهدي الذي عهدت به في الدنيا، أولئك لا نصيب لهم في الآخرة؛ {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ؛} بكلام خير ولا رحمة، وقيل: لا يسمعهم كلامه كما يكلّم أولياءه بغير سفير.
قوله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يقول لهم خيرا؛ {وَلا يُزَكِّيهِمْ؛} أي لا يثني عليهم خيرا؛ {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (77)؛في أنّها هذه الأحوال {(عَذابٌ أَلِيمٌ)} أي موجع.
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من اقتطع شيئا من مال مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة] قال رجل: ولو كان شيئا يسيرا؟ قال: [ولو كان قضيبا من أراك]
(3)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [أكبر الكبائر الشّرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس]
(4)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 536 عن الحسن قال: «صح عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
» وذكره. وعن أنس في مجمع الزوائد: ج 1 ص 108؛قال الهيثمي: «رواه أبو يعلى، وفيه يزيد الرقاشي، وهو ضعيف» .
(2)
هو امرؤ القيس بن عابس الكندي، أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5755).
(3)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب وعيد من اقتطع من مسلم: الحديث (137/ 218).والنسائي في السنن الصغرى: ج 8 ص 246.
(4)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 495 عن عبد الله بن أنيس الجهني، وإسناده صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: [إيّاكم واليمين الفاجرة، فإنّها تدع الدّيار بلاقع]
(1)
وقال صلى الله عليه وسلم: [اليمين الفاجرة تسقم الرّحم]
(2)
،وهي [منفقة للسّلعة ممحقة للكسب]
(3)
.
قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ؛} روي: أنّ جماعة من اليهود أولي فاقة وفقر قدموا المدينة من الشّام ليسلموا، فلقيهم كعب بن الأشرف فقال لهم: أتعلمون أنّ محمّدا نبيّ؟ قالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا، قالوا: فإنّه يشهد أنّه عبد الله ورسوله، فقال كعب بن الأشرف: لقد منعكم الله خيرا كثيرا، كنت أريد أن أمير لكم وأكسو عيالكم فحرمكم الله، فقالوا: رويدك حتّى نلقاه، فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ونعتا سوى نعته، ثمّ انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّموه وسألوه، ثمّ رجعوا إلى كعب فقالوا: كنّا نرى أنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ليس بالنّعت الّذي نعت لنا؛ وجدنا نعته مخالفا للّذي عندنا؛ وأخرجوا الّذي كتبوه فنظر إليه كعب ففرح وأخذ إقرارهم وخطوطهم ثمّ بعث إلى كلّ واحد منهم ثمانية قمص من الكرباس وخمسة آصع من الشّعير، فنزلت الآية.
ومعناها: وإنّ من أهل الكتاب طائفة يحرّفون الكتاب ثم يقرءون ما حرّفوه ليظنّ المسلمون أنّ ذلك من التوراة؛ وما هو منها، ويقولون هو من عند الله نزل وما هو من عند الله نزل؛ {وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ؛} بادّعائهم أنّ ذلك المحرّف من التوراة؛ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (78)؛أنّهم يكذبون، وليّ اللّسان هو العدول عن الصدق والصواب.
(1)
الحديث عن علي رضى الله عنه، نسبه الهندي صاحب الكنز إلى الخطيب في المتفق والمفترق: النص (46374).وبلاقع: يذهب ما فيها من مال، ويفرق الله شملها، ويغير عليها ما أولاه من نعمة. ينظر: كتاب الغريبين: (بلقع):ج 1 ص 212.وأخرجه البيهقي أيضا في السنن الكبرى: كتاب الأيمان: الحديث (20435)،وقال: الحديث مشهور بالإرسال.
(2)
ذكره الهندي في كنز العمال: النص (46380).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 235 و 242 و 413.والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب البيوع: الحديث (10546) عن أبي هريرة رضى الله عنه.
وقوله عز وجل: {ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ؛} وذلك أنّه لمّا كثرت دعوة النّبيّ صلى الله عليه وسلم إيّاهم إلى الإسلام وقامت عليهم الحجج؛ قالوا: إنّ هذا الرجل يريد أن نتّبعه ونعبده كما كان عيسى من قومه حتى عبدوه، فكذا كلّم الله عز وجل بهذه الآية، ومعناها: ما كان بشر من الأنبياء مثل عيسى وعزير وغيرهم أن يعطيه الله الكتاب وعلم الحلال والحرام والنبوّة؛ {(ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ)} أي لا يجمع لأحد النبوّة والقول للناس: كونوا عبادا لي، وليس هذا على وجه النّهي، ولكنه على وجه التّنزيه لله عز وجل؛ لأنه لا يختار نبيّا يقول مثل هذا القول للناس. ويجوز أن يكون هذا على وجه تعظيم الأنبياء صلوات الله عليهم.
وقال الضحّاك ومقاتل: (معناه: {(ما كانَ لِبَشَرٍ)} يعني عيسى عليه السلام {(أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ)} يعني الإنجيل؛ نزلت في نصارى نجران).وقال ابن عبّاس وعطاء: «{ما كانَ لِبَشَرٍ)} يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم {(أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ)} يعني القرآن. وذلك أنّ أبا رافع القرظيّ من اليهود، والرّيّس من نصارى نجران، قالوا: يا محمّد؛ نريد أن نصيّرك ونتّخذك ربّا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: [معاذ الله أن يعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني الله عز وجل ولا بذلك أمرني] فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.والبشر جمع بني آدم لا واحد له من لفظه، كالقوم والجيش، ويوضع موضع الواحد والجمع.
قوله تعالى {(وَالْحُكْمَ)} يعني الفهم والعلم، وقيل: الأحكام
(2)
.
قوله عز وجل: {وَلكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (79)،أي ولكن يقول:{(كُونُوا رَبّانِيِّينَ)} أي علماء عاملين، وقيل:
فقهاء معلّمين. قال مرّة بن شرحبيل: (كان علقمة من الرّبّانيّين يعلّمون النّاس القرآن).وعن سعيد بن جبير: (معناه: حكماء أتقياء)
(3)
.وقيل: متعبدين مخلصين.
وقيل: علماء نصحاء لله عز وجل في خلقه.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان عن ابن عباس رضي الله عنهما: الحديث (5796).
(2)
في المخطوط: (الأحكام عن).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5781).
وقيل: (الرّبّانيّ: هو العالم بالحلال والحرام والأمر والنّهي؛ والعارف بأنباء الأمّة وما كان وما يكون).وقال عليّ كرّم الله وجهه: (هو الّذي يربّ علمه بعمله) أي يصلح علمه بعمله وعمله بعلمه. وقال محمّد بن الحنفية يوم مات ابن عبّاس:
(مات ربّانيّ هذه الأمّة).
قوله تعالى: {(بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ)} معناه: بما أنتم تعلّمون كقوله: {وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً}
(1)
أي وامرأتي عاقر. وقوله: {مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ}
(2)
أي من هو في المهد صبيّا. وقوله تعالى: {(تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ)،} قرأ السّلمي والنخعيّ وابن جبير والضحّاك وابن عامر والكوفيّون: «(بما كنتم تعلّمون)» بالتشديد من التّعليم، وقرأ الباقون بالتخفيف: من العلم. قال أبو عمرو: (وتصديق هذه القراءة: {(وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)} ولم يقل: تدرّسون).وقرأ الحسن: «(بما كنتم تعلّمون)» بفتح التاء والعين وتشديد اللاّم؛ على معنى: تتعلّمون. وقرأ أبو حيوة: «(تدرّسون)» بالتشديد
(3)
،وقرأ الباقون «(تدرسون)»:من الدّرس.
وعن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما من مؤمن ذكر ولا أنثى ولا مملوك إلاّ ولله عز وجل عليه حقّ أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه] ثمّ تلا هذه الآية:
{(وَلكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)}
(4)
.وإنّما قيل للفقهاء: ربّانيّين؛ لأنّهم يربّون بالعلم؛ أي يقومون به. وزيدت الألف والنون للمبالغة، كما يقال رجل كثير اللّحية: لحيانيّ، والذي جمعه جمّانيّ. وعن ثعلب أنه قال:(يقال: رجل ربّي وربّانيّ؛ أي عالم عامل معلّم).
قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (80)،قرأ الحسن وعاصم وحمزة وابن عامر:
«(ولا يأمركم)» بنصب الراء عطفا على (ثمّ يقول) مردود على البشر، وقرأ الباقون
(1)
مريم 5/.
(2)
مريم 29/.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 123؛ نسب القرطبي إلى أبي حيوة: (تدرسون) بكسر الراء، وهي لغة ضعيفة. وفي المخطوط:(ابن حيوة) والصحيح كما أثبتناه.
(4)
حكاه القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 122 - 123.
بالرفع والاستئناف والانقطاع من الكلام الأوّل. واختلفوا فيه على هذه القراءة. فقال الزجّاج: (معناه: ولا يأمركم الله).وقال ابن جريج وجماعة: (ولا يأمركم محمّد صلى الله عليه وسلم،وقيل: ولا يأمركم البشر أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أربابا كفعل قريش وخزاعة؛ حيث قالوا: الملائكة بنات الله. واليهود والنّصارى حيث قالوا: عزير والمسيح ابن الله.
قوله تعالى: {(أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ)} استفهام بمعنى الإنكار؛ أي الله عز وجل بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ليدعو الناس إلى الإسلام؛ فكيف يدعو إلى الكفر بعد أن كانت فطرتكم على الإسلام؟.ويقال: إن كنتم مقرّين بالتوحيد.
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ؛} قرأ سعيد بن جبير «(لمّا)» بتشديد الميم، وقرأ حمزة «(لما)» بكسر اللام والتخفيف، وقرأ الباقون بالفتح والتخفيف. فمن فتح وخفّف فهي لام الابتداء أدخلت على (ما)
(1)
، كقول القائل: لزيد أفضل من عمرو، و {(لَما آتَيْتُكُمْ)} اسم، والذي بعده صلة
(2)
.
وجوابه: {(لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ)،} وإن شئت جعلت خبر (ما) من كتاب، وتكون (من) زائدة معناه: لما آتيتكم كتابا وحكمة. ثم ابتدأ فقال: {(ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ)} أي ثم إن جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به، اللام لام القسم؛ تقديره: والله لتؤمننّ به، فوكّده في أول الكلام بلام التوكيد وفي أجزاء الكلام بلام القسم كأنه استحلفهم: والله لتؤمننّ به. وأخذ الميثاق في معنى التّحليف؛ لأن الحلف وثيقة، وموضع (ما) في قوله {(لَما)} نصب بقوله {(آتَيْتُكُمْ)،} كأنه قال: للّذي اتيتكموه من كتاب. وقال الزجّاج: (هذه لام التّخفيف دخلت على (ما) للجزاء؛ ومعناه: لهما آتيتكم).ودخول اللاّم في الشّرط والجواب للتوكيد كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي}
(1)
هي لام الابتداء المتلقى بها القسم، وتسمى اللام الملتقية للقسم. و (ما) مبتدأة موصولة و (آتيتكم) صلتها. والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه حذف لاستكمال شروطه.
(2)
في المخطوط: (وما أنتم والذي بعده صلب) وهو تصحيف. ينظر: معاني القرآن للأخفش: ج 1 ص 209.
والجواب للتوكيد كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}
(1)
وكما يقول: لئن جئتني لأكرمتك.
ومن قرأ «(لما)» بالكسر والتخفيف فهي لام الإضافة دخلت على (ما) التي هي بمعنى الّذي؛ ومعناه: للّذي أتيتكم؛ يعني: الذي أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتيناهم من كتاب وحكمة؛ ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم.
قوله تعالى: {(لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ):} قرأ نافع بالألف والنّون على التّعظيم؛ لأنّ عظم الشّأن قد يعبر عن نفسه بلفظ الجمع. وقرأ الآخرون {(آتَيْتُكُمْ)} . واختلف المفسّرون في المعنيّ بهذه الآية، فقال قوم: إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء عليهم السلام:
أن يصدّق بعضهم بعضا، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض، فذلك معنى النّصرة بالتصديق، وهذا قول ابن جبير وطاوس وقتادة والحسن والسديّ؛ يدلّ عليه ظاهر الآية. قال عليّ رضي الله عنه:(لم يبعث الله نبيّا إلاّ أخذ عليه العهد من محمّد وأمّته، وأخذ العهد على قومه ليؤمننّ به؛ ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه)
(2)
.
وقال بعضهم: إنّما أخذ الميثاق على أهل الكتاب؛ وهو قول مجاهد والربيع قالوا: (ألا ترى إلى قوله: {(ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ)} إنّما كان محمّد مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النّبيّين)
(3)
.وقال بعضهم: إنّما أخذ العهد على النبيّين وأممهم؛ واكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم؛ لأنّ أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع، وهذا قول ابن عباس وهو أولى بالصواب
(4)
.
قوله عز وجل: {قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؛} أي قال الله تعالى لأنبيائه: أقررتم بما أمرتكم به على ما قلت لكم وقبلتم على ذلكم عهدي.
ومعنى {(أَخَذْتُمْ)} أي قبلتم؛ نظيره قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ}
(5)
أي
(1)
الاسراء 86/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5790).
(3)
أخرجهما الطبري في جامع البيان: النص (5786 و 5787).
(4)
أسنده الطبري في جامع البيان: النص (5788).
(5)
المائدة 41/.
فاقبلوه، وقوله:{لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ}
(1)
أي لا يقبل، وقوله:{وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ}
(2)
أي يقبلها.
والإصر في اللّغة: الثّقل؛ لكن يراد به العهد لما فيه من الثّقل. وقال بعضهم:
لفظ الأخذ يحتمل وجهين؛ أحدهما: قبلتم على ذلكم عهدي، والثاني: أخذتم العهد على ذلكم بذلك على أممكم.
قوله تعالى: {قالُوا أَقْرَرْنا؛} أي قالت الأنبياء صلوات الله عليهم:
أقررنا بالعهد، {قالَ} الله؛ تعالى؛ {فَاشْهَدُوا؛} أي يشهد بعضكم على بعض بذلك، واشهدوا على أتباعكم. وقيل: معنى {(فَاشْهَدُوا)} أي بيّنوا لمن يكون بعدكم؛ لأن الشاهد هو الذي يصحّح دعوى المدّعي، ثم قال تعالى:{وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} (81)؛أي أنا من الشاهدين عليكم وعلى أممكم. وقيل: معنى {(فَاشْهَدُوا)} أي قال للملائكة: فاشهدوا على إقرارهم.
وشهادة الله للنبيين تبينة أمر نبوّتهم بالمعجزات،
{فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (82).
قوله عز وجل: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83)؛قرأ أبو عمرو: «(يبغون)» بالياء
(3)
،و «(ترجعون)» بالتاء، قال:(لأنّ الثّاني أعمّ، والأوّل خاصّ، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى).وقرأ الحسن ويعقوب وسلام وحفص: «(يبغون)» بالياء، و «(يرجعون)» بالياء أيضا. وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب.
ومعنى الآية: أبعد هذه الوثائق الجارية بينهم وبين الله في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلبون دينا سوى ما عهده الله إليهم. قال الكلبيّ: (وذلك أنّه لمّا قال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين اختلفوا في دين إبراهيم عليه؛ كلّ فرقة قد زعمت أنّها أولى بدينه، فقال صلى الله عليه وسلم: [كلا
(1)
البقرة 48/.
(2)
التوبة 104/.
(3)
في المخطوط: (تبغون) بالتاء، والصحيح كما أثبتناه.
الفريقين بريء من دين إبراهيم] فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية)
(1)
.
قوله تعالى: {(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً)} أي له أخلص وخضع. قال الكلبيّ: (أمّا أهل السّماوات ومن ولد في الإسلام من أهل الأرض أسلموا طائعين، ومن أبى قوتل حتّى يدخل في الإسلام كرها؛ يجاء بهم أسارى في السّلاسل ويكرهون على الإسلام).وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [عجب
(2)
ربّكم من قوم يقادون إلى الجنّة بالسّلاسل]
(3)
.
قوله تعالى: {(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)} أي إلى جزائه ترجعون في الآخرة، فبادروا إلى دينه ولا تطلبوا غير ذلك، وقيل معنى:(وله أسلم من في السّماوات والارض) أي أقرّوا له بالألوهيّة كما قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ}
(4)
.
وقال الزجّاج: (معناه: أنّ كلّهم خضعوا لله من جهة ما فطرهم الله عليه).قال الضحّاك: (هذا حين أخذ منه الميثاق وأقرّ به).
وقال الكلبيّ: (معناه: الّذي أسلم طوعا أي الّذي ولد في الإسلام، وبالذي أسلم كرها يعني الّذي أجبر على الإسلام، فيؤتى بهم في السّلاسل فيكرهون على الإسلام)،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كلّ الملائكة أطاعوا في السّماء؛ والأنصار في
(1)
نقله القرطبي عن الكلبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 127.
(2)
في صحيح ابن حبان: كتاب الإيمان: باب الفطرة: الحديث (134)،وفي التعليق على الحديث قال ابن حبان رحمه الله:«قوله صلى الله عليه وسلم: [عجب ربّنا] من ألفاظ التعارف التي لا يتهيأ علم المخاطب يخاطب منه في القصد إلا بهذه الألفاظ التي استعملها الناس فيما بينهم. والقصد في هذا الخبر السبي الذي يسبيهم المسلمون من دار الشرك مكتفين في السلاسل يقادون بها إلى دار الإسلام حتى يسلموا فيدخلوا الجنة» .
(3)
إسناده صحيح على شرط مسلم. أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الجهاد: باب الأسارى في السلاسل: الحديث (3010)،وفي كتاب التفسير: الحديث (4557).والإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 457 و 302 و 406.
(4)
الزخرف 87/.
الأرض]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [ولا تسبّوا أصحابي فإنّهم أسلموا من خوف الله، وأسلم النّاس من خوف سيوفهم]
(2)
.
وقال الحسن: (الطّوع: لأهل السّماوات خاصّة، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعا؛ ومنهم من أسلم كرها).
وقرأ الأعمش: «(كرها)» بضمّ الكاف. وأما انتصاب (طوعا) و (كرها) فلأنّهما مصدران وضعا موضع الحال كما يقال: جئت ركضا وعدوا؛ أي راكضا وماشيا بسرعة؛ كأنّه قال: وله أسلم من في السموات والأرض طائعين وكارهين. وعن ابن عبّاس أنه قال: (إذا استصعبت دابّة أحدكم أو كانت شموسا
(3)
فليقرأ في أذنها هذه الآية: {(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ)} إلى آخرها)
(4)
.
قوله عز وجل: {قُلْ آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ؛} الآية خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمر له أن يقول عن نفسه وعن أمّته {(آمَنّا بِاللهِ)} .
قوله عز وجل: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ؛} أي من الرّسل، لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود، بل نؤمن بهم جميعا. قوله عز وجل:{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (84)؛أي مخلصون لله في التوحيد والطّاعة.
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}
الآية، قال ابن عبّاس:(نزلت هذه الآية إلى قوله: {(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ)} في عشرة رهط ارتدّوا عن الإسلام ولحقوا بمكّة، منهم طعمة بن أبيرق
(5)
ووحوح بن
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 254؛ قال السيوطي: «وأخرج الديلمي عن أنس،
…
وذكره».
(2)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 128.
(3)
شمست الدابة: شردت وجمحت ومتعت على ظهرها.
(4)
في الدر المنثور: ج 2 ص 255؛ قال السيوطي: «أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس» .
(5)
طعمة بن أبيرق بن عمرو الأنصاري: في الإصابة في تمييز الصحابة: ج 3 ص 518:الرقم (4249) ترجم له ابن حجر، ونقل أنه من الصحابة، وشهد المشاهد كلها إلا بدرا. ثم قال:«وقد تكلم في إيمانه طعمة» .
الأسلت
(1)
والحارث بن سويد
(2)
وغيرهم، وندم الحارث وأرسل إلى أخيه الحلّاس ابن سويد المسلم: أنّي قد ندمت على ما صنعت، فسل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل من توبة وإلاّ أذهب في الأرض. فأنزل الله هذه الآيات)
(3)
.
ومعناها: من يطلب دينا غير دين الإسلام فلن يقبل منه ما أقام عليه؛ أي لن يثاب ولن يثنى عليه. ويقال: هذه الآية نزلت في المرتدّين. وقوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} (85)؛أي من المغبونين حيث ترك منزله في الجنّة، واختار منزله في النار.
قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ؛} أي كيف يهديهم وقد كفروا بعد إذ آمنوا؛ و؛ بعد أن؛ {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم؛ {وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ؛} أي دلالات صدقه ونبوّته، فكيف يستحقّون هداية الله تعالى. قوله تعالى:{(وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ)} عطف على قوله {(إِيمانِهِمْ)} دون قوله {(كَفَرُوا)،} وقد يعطف الفعل على المصدر، كما يقال: أعجبني ضرب زيد وإن غضب، وتقدير الآية: بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أنّ الرسول حقّ.
قوله تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (86)؛أي لا يرشد المشركين ومن لم يكن أهلا لذلك، فإنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله، وأنّ الظالمين لا يهديهم الله. وكثير من المرتدّين أسلموا ومن الظالمين تابوا.
وقيل: معناه: لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم، فإذا جاهدوا وقصدوا الرجوع إلى الحقّ وفّقهم الله كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}
(4)
.
وقيل: معنى الآية: كيف يرحمهم الله وينجّيهم من العقوبة.
(1)
وحوح بن الأسلت، وهو عامر بن جشم بن وائل، الأنصاري: ترجم له ابن حجر في الإصابة: الرقم (9116)؛وقال: «له صحبة، وشهد الخندق وما بعدها» .
(2)
ترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: ج 1 ص 363: الرقم (448).
(3)
أخرجه الطبري بلفظ قريب منه: في جامع البيان: النص (5820).
(4)
العنكبوت 69/.
قوله تعالى: {أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ؛} أي أهل هذه الصّفة {(جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ)} أي عذابه، واللّعنة من الله الإبعاد، وأمّا لعنة الملائكة والناس فدعاؤهم على الكفّار بأن يبعدهم الله من رحمته. فإن قيل: كيف قال الله: {وَالْمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} (87) ومن الناس من يوالي الكافر ويوافقه ولا يلعنه؟ قيل: إنّهم في الآخرة يلعن بعضهم بعضا.
وقوله تعالى:
{خالِدِينَ فِيها؛} أي مقيمين في اللّعنة، وقيل: في العذاب؛ {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} (88)؛حين ينزل بهم.
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا؛} استثناء من قول الله عز وجل {(أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ)؛} ومعناه: {(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ)} الكفر والشّرك بعد ارتدادهم؛ {(وَأَصْلَحُوا)} أي لم يكتفوا بمجرّد الإيمان. ويقال: أصلحوا أعمالهم بالتوبة، وقيل: أصلحوا ما أفسدوه من الناس ممّن تبعهم، {فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (89)؛أي يتجاوز عنهم، رحيم بهم بعد التوبة.
قال ابن عبّاس: (لمّا نزلت قال للحارث بن سويد: [الرّخصة في التّوبة] أرسل أخوه الجلاّس إليه: أنّ الله عز وجل قد فرض عليكم التّوبة؛ فارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر إليه. فرجع وتاب، وقبل ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك أصحابه الّذين بمكّة؛ فقالوا: نتربّص بمحمّد ريب المنون؛ فإن بدا لنا الرّجعة إليه ذهبنا كما ذهب الحارث فيقبل توبتنا)
(1)
فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؛} إنّ الذين كفروا بالله وبالرسول بعد تصديقهم ثمّ ازدادوا كفرا بقولهم: نقيم بمكّة ما بدا لنا، لن تقبل توبتهم، {وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ} (90)؛أي عن الإسلام.
وفي هذه الآية دليل على أنّ هؤلاء لم يكونوا محقّقين؛ لأنه قال: {(وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ)} . وكانت هذه الآية خاصّة في قوم علم الله أنّهم لا يتوبون إلاّ عند حضور
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 257 - 258؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح مولى أم هانئ» وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: ج 7 ص 370: الرقم (36767) بلفظ قريب منه.
الموت، ومات طعمة كافرا، ولو كانوا يحقّقون التوبة قبل المعاينة لقبلت توبتهم.
ويجوز أن يكون بمعنى: {(لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ)} أي التوبة التي يتوبونها عند الموت. قوله عز وجل: {(ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً)} . قال الحسن وقتادة وعطاء: (نزلت هذه الآية في اليهود الّذين كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم؛ ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن)
(1)
.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ؛} أي إنّ الذين كفروا وماتوا على كفرهم لو كان لأحدهم في الآخرة ملء الأرض ذهبا فافتدى به لن يقبل منه، كما روي: أنه يقال للكافر يوم القيامة: لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به من العذاب؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت ما هو أيسر عليك من هذا فلم تفعل؟
وقوله تعالى: {(ذَهَباً)} نصب على التفسير في قول الفرّاء، ومعنى التفسير: أن يكون الكلام تامّا وهو مبهم كقوله: عندي عشرون، فالعدد معلوم والمعدود مبهم، فإذا قلت: عشرون درهما؛ فسّرت العدد؛ ولذلك إذا قلت: هو أحسن الناس؛ فقد أخبرت عن حسنه ولم تبيّن في أيّ شيء، فاذا قلت: وجها أو فعلا؛ فقد بيّنته ونصبت على التّفسير، وإنّما نصبته لأنّه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، فلمّا خلا من هذين نصب؛ لأن النصب أخفّ الحركات؛ فجعل لكلّ ما لا عامل له.
وقال الكسائيّ: (نصب على إضمار (من ذهب) كقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً}
(2)
أي من صيام).وقد يقال: نصب على التمييز ثلاثة أشياء: تمييز جملة مبهمة كما في قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً}
(3)
،وتمييز عدد مبهم كقولك:
عشرون درهما، وتمييز مقدار مبهم كما يقال: عندي ملء زقّ عسلا.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النصوص (5825) عن الحسن، و (5826 و 5827) عن قتادة.
(2)
المائدة 95/.
(3)
الكهف 34/.
وأمّا دخول الواو في قوله: {(وَلَوِ افْتَدى بِهِ)؛} فقال بعضهم: هي زائدة. وقال الزجّاج: (ليست بزائدة؛ وإنّما هي لتعميم النّفي لوجوه القبول، ولو لم تكن واوا لأوهم الكلام؛ لأنّ ذلك لا يقبل في الافتداء، ويقبل على غير وجه الافتداء).
قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ؛} أي أهل هذه الصّفة لهم عذاب وجيع في الآخرة، {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} (91)؛أي من مانع يمنعهم من العذاب.
قوله تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ؛} قال ابن عبّاس:
(معناه: لن تنالوا الجنّة)،وقال عطاء:(لن تنالوا الطّاعة).وقال أبو روق: (معناه: لن تنالوا الخير)،وقال مقاتل:(لن تنالوا التّقوى)،وقال الحسن:(لن تكونوا أبرارا حتّى تتصدّقوا ممّا تحبّون من الأموال؛ أي من كرائم أموالكم وأحبها إليكم، طيّبة بها أنفسكم؛ صغيرة في أعينكم)
(1)
،وقال مجاهد والكلبيّ:(هذه الآية منسوخة؛ نسختها الزّكاة).وروى الضحّاك عن ابن عبّاس: (أراد بهذه الآية: حتّى تخرجوا زكاة أموالكم)،وقال عطاء:(معناه: لن تنالوا شرف الدّين والتّقوى حتّى تتصدّقوا وأنتم أصحّاء تأملون الغنى وتخشون الفقر).ويقال: معناه: لن تبلغوا حقيقة التوكّل والتقوى حتى تخرجوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم.
وذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ المقصود من هذه الآية: الحثّ على صدقة النّفل والفرض بأبلغ وجوه القرب؛ لأن قوله: {(مِمّا تُحِبُّونَ)} يدلّ على المبالغة فيه. روي عن عبد الله بن عمر: أنّه اشترى جارية كان يهواها، فلمّا ملكها أعتقها ولم يصب منها، فقيل له في ذلك، فقال:{(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ)}
(2)
.وعن عمر بن
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5838).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 132 - 133 ذكر القرطبي: «وأعتق ابن عامر نافعا؛ وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار. قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله عز وجل: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وروى شبل بن أبي نجيح عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى؛ فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال: إن الله عز وجل قال: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ. فأعتقها عمر رضي الله عنه.
عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السّكّر فيتصدّق بها، فقيل له: هلاّ تصدّقت بثمنه؟ فقال: (لا؛ لأنّ السّكّر أحبّ إليّ؛ فأردت أن أنفق ممّا أحبّ)
(1)
.
وروي: أنّ سائلا وقف على باب الرّبيع بن خيثم؛ فقال: أطعموه سكّرا، فقيل له: ما يصنع بالسّكّر؟ هلاّ تطعمه خبزا أنفع له؟ قال: ويحكم! أطعموه سكّرا فإنّ الربيع يحبّ السّكّر. ووقف سائل على باب الربيع في ليلة باردة؛ فخرج إليه فرآه كأنه مقرور
(2)
،فقال: لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون، فنزع برنسا فأعطاه إيّاه.
قوله عز وجل: {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} (92)؛ أي ما تتصدّقوا من صدقة فإنّ الله بها وبزيادتكم عليم يجزيكم على ذلك في الآخرة.
قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ؛} قال ابن عباس: (معناه: كلّ الطّعام الحلال اليوم وهو ما سوى الميتة والدّم ولحم الخنزير كان حلاّ لبني يعقوب عليه السلام من قبل أن تنزّل التّوراة على موسى عليه السلام؛ إلاّ الطّعام الّذي حرّمه يعقوب على نفسه؛ وهو لحم الإبل وألبانها)
(3)
.
وذلك أنّ يعقوب عليه السلام كان يمشي إلى بيت المقدس فلقيه ملك من الملائكة وهو خلف الأثقال، فظنّ يعقوب أنه لصّ؛ فعالجه ليصارعه فكان كذلك حتى أضاء الفجر، فضمّر الملك فخذ يعقوب فهاج به عرق النّسا، فصعد الملك إلى السّماء، وجاء يعقوب يعرج حتى لحق الأثقال؛ فكان يبيت الليل ساهرا من وجعه وينصب نهاره، فأقسم لئن شفاه الله ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب على نفسه؛ فشفاه الله من ذلك،
(1)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 133،وذكر عن ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا. في الدر المنثور: ج 2 ص 262؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر» .
(2)
القرّ: البرد عامّة، واقترّ بالماء البارد: اغتسل، والقرور: الماء البارد يغتسل به، كأنه أراد أنه مبلول بالماء البارد، ماء المطر والشتاء.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الرقم (5857) بلفظ آخر.
فحرّم أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان ذلك لحوم الإبل وألبانها، ثم استنّ ولده سبيله. فذلك قوله:(إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التّوراة).
فلمّا نزلت هذه الآية؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لليهود: [ما الّذي حرّم إسرائيل على نفسه؟] قالوا: كلّ شيء حرّمناه اليوم على أنفسنا؛ فإنّه كان محرّما على نوح عليه السلام فهلمّ جرّا حتّى انتهى إلينا، وأنت يا محمّد وأصحابك تستحلّونه، وادّعوا أنّ ذلك مسطور في التّوراة.
وقال الكلبيّ: (كان هذا حين قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [أنا على ملّة إبراهيم عليه السلام] قال اليهود: كيف وأنت تأكل الإبل وألبانها؟! فقال صلى الله عليه وسلم: [كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه].قالت اليهود: كلّ شيء أصبحنا اليوم نحرّمه؛ فإنّه كان حراما على إبراهيم ونوح، وهلمّ جرّا حتّى انتهى إلينا. فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم:
{(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ)} .
قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (93)، وذلك أنّ اليهود قال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[ما الّذي حرّم إسرائيل على نفسه؟] قالوا: كلّ شيء نحرّمه اليوم على أنفسنا. قال الله تعالى للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: {(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)} .أي فاقرءوها؛ هل تجدون فيها تحريم كلّ ذي ناب وظفر وتحريم شحوم البقر والغنم وغير ذلك ممّا حرّم الله عليكم من الطيّبات بعد نزول التوراة بظلمكم وبغيكم، كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}
(1)
.
فأبوا أن يأتوا بالتوراة خوفا من الفضيحة لعلمهم بصدق النّبي صلى الله عليه وسلم
فأنزل الله تعالى قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (94)؛أي من اختلق على الله الكذب بأن ينزّل عليه ما لم ينزّله في كتاب من بعد ذلك، يقال من بعد قيام الحجّة عليه: فأولئك هم الظّالمون لأنفسهم.
(1)
النساء 160/.
قوله عز وجل: {قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً؛} أي قل لهم يا محمّد صدق الله في أنّ كلّ الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه، {(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ)} في استباحة لحوم الإبل وألبانها وافعلوا ما كان يفعله من الصلاة إلى الكعبة وحجّ البيت، {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (95)؛ أي لم يكن إبراهيم على دين المشركين، ولم يفعل كما كان يفعله اليهود في ادّعائهم أنّ عزيرا ابن الله؛ ولا كما يقول النصارى إنّ المسيح ابن الله. وهذه الآيات حجّة على اليهود في إنكارهم نسخ الشريعة.
قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} (96)؛قال مجاهد: (تفاخر المسلمون واليهود؛ فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنّها مهاجر الأنبياء وهي الأرض المقدّسة، وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية: {(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ)}. وقرأ ابن السميقع: «(وضع)» بفتح الواو والضّاد بمعنى وضعه الله. {(لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)} {(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ)؛} وليس ذلك بيت المقدس، وكتب على الناس حجّ البيت وليس ذلك بيت المقدس.
واختلفوا في قوله تعالى: {(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ)؛} قال بعضهم: هو أوّل بيت وضع على وجه الماء عند خلق الله السّماوات والأرض، خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام، وكان ربوة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته، وهذا قول ابن عمر ومجاهد وقتادة والسديّ. وقيل: معناه: أوّل بيت بناه آدم في الأرض، قاله ابن عبّاس. وقال الضحّاك:(معناه: أوّل بيت وضع فيه البركة واختير من الفردوس الأعلى).
وقيل: هو أوّل بيت جعل قبلة للمسلمين. وعن أبي ذرّ قال: سئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أوّل بيت وضع للنّاس، فقال:[المسجد الحرام؛ ثمّ بيت المقدس] فقيل له:
كم بينهما؟ قال: [أربعون عاما]
(1)
.
(1)
رواه مسلم في الصحيح: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: الحديث (520/ 1).والطبري في جامع البيان: الحديث (5872).
وقال الحسن: (معناه: إنّ أوّل بيت وضع لعبادة النّاس على وجه الأرض الكعبة؛ بناها إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ}
(1)
.وأمّا بناء بيت المقدس فقد كان بعد الكعبة بدهر طويل؛ بناه سليمان بن داود عليهما السلام.
قال الكلبيّ: (كان آدم عليه السلام حين أخرج من الجنّة بنى الكعبة فطاف بها، فلمّا كان في زمن طوفان نوح عليه السلام رفعها الله إلى السّماء السّادسة بحيال موضع الكعبة؛ وهي البيت المعمور يقال له الضّراح؛ يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك).وروي أنّ الله تعالى أنزل الكعبة من السّماء وهي من ياقوتة حمراء، وكانت الملائكة تحجّها قبل آدم عليه السلام، فلمّا كثرت الخطايا رفعها الله تعالى.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [إنّ الكعبة كانت خشعة على وجه الماء فدحيت الأرض من تحتها] والخشعة: مثل الصّبرة متواضعة
(2)
.
قوله تعالى: {(بِبَكَّةَ)،} قال الضحّاك: (هي مكّة، والعرب تعاقب بين الباء والميم فتقول: ضربة لازب، وضربة لازم).وقال ابن شهاب: (بكّة المسجد والبيت، ومكّة الحرم كلّه) ومثله قال الزهريّ. وسمّي المسجد بكّة؛ لأنّ البكّ هو الرّحمة، في اللغة يقال: بكّه إذا رحمه. وسمّي المسجد بكّا لأن الناس يتباكّون فيه؛ أي يزدحمون للطواف. وقال أبو عبيد: (بكّة اسم لبطن مكّة، ومكّة لما بقي).وقال عبد الله بن الزّبير: (سمّيت البلد بكّة لأنّها تبكّ أعناق الجبابرة؛ ما قصدها جبّار إلاّ قصمه الله كأصحاب الفيل وغيرهم).وسميت مكّة لاجتذابها النّاس من كلّ أفق. يقال امتكّ الفصيل في ضرع النّاقة اذا استقصى فلم يدع شيئا منه.
قال ابن عبّاس رضي الله عنه: (ما أعلم على وجه الأرض بلدة الحسنة فيها بمائة ألف إلاّ مكّة، ولا درهما يتصدّق به يكتب لديه ألف درهم إلاّ بمكّة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة فيها شراب الأبرار ومصلّى الأخيار إلاّ مكّة، وما أعلم على وجه
(1)
الحج 26/.
(2)
في كتاب الغريبين: ج 2 ص 557؛قال الهروي: «وقرأت لابن حمزة قال: الخشعة: قف من الأرض قد غلبت عليها السهولة. ومن روى [خشفة] أي ليس بحجر ولا طين» .
الأرض بلدة إذا دعا الرّجل فيها بدعاء أمّن الملائكة على دعائه إلاّ مكّة، ولا أعلم على وجه الأرض بلدة يموت فيها الميّت فيكون تكفيرا لخطاياه إلاّ مكّة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة صدر إليها جميع النّبيّين والمرسلين إلاّ مكّة، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كلّ يوم من روح الجنّة ورائحتها ما ينزل إلاّ بمكّة، والرّكعة الواحدة فيها بمائة ألف ركعة).
قوله تعالى: {(مُبارَكاً)} نصب على الحال؛ أي الذي استقرّ بمكّة، والبركة بثوب الخير ونموّه. وقوله تعالى:{(وَهُدىً لِلْعالَمِينَ)} أي قبلة للمؤمنين. وقيل: بيان ودلالة للعالمين على الله بإهلاك من قصده من الجبابرة، وباستئناس الطّير فيه بالناس، وبأن لا يعلوه طائر إعظاما له، وبإمحاق ما يرمى فيه من الجمار في كلّ سنة، فلولا أنّ ما يقبل منها يرفع كما قال ابن عبّاس، وإلاّ كان قد اجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال. ويجوز أن يكون المراد بالهدى أنه طريق الجنّة.
قوله عز وجل: {فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ؛} أي فيه علامات واضحات، وهنّ ما تقدّم ذكره ومقام إبراهيم أيضا، والآية في مقام إبراهيم: أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله تعالى صار الحجر كالطين حتى غاصت قدماه فيه ثم عاد حجرا صلدا ليكون ذلك دلالة على صدق نبوّته عليه السلام. قرأ ابن عبّاس: «(فيه آية بيّنة)» على الواحد وأراد مقام إبراهيم وحده. وقرأ الباقون بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلّها.
قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً؛} قال الحسن: (عطف الله قلوب العرب في الجاهليّة على أنّ كلّ من لاذ بالحرم وإن كان جانيا لا يهاج فيه، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال:{رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً}
(1)
وكان في الجاهليّة من دخله أمن من القتل؛ ولم يزده الإسلام إلاّ شدّة. وقيل: إن أوّل من لاذ بالحرم:
الحيتان الصغار من الكبار في الطّوفان، وقيل: من دخله عام عمرة القضاء مع النبيّ صلى الله عليه وسلم كان آمنا، بيانه: قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ}
(2)
.
(1)
البقرة 126/.
(2)
الفتح 27/.
قال أهل المعاني: صورة الآية خبر؛ ومعناها: أمر؛ تقديرها: ومن دخله فأمّنوه، لقوله:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ}
(1)
أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
وقيل: معناه: من دخله لقضاء النّسك معظّما لله عارفا بحقوقه متقرّبا إلى الله تعالى كان آمنا يوم القيامة. وقال الضحّاك: (معناه: من حجّه فدخله كان آمنا من الذّنوب الّتي اكتسبها قبل ذلك).وقال جعفر الصّادق: (من دخله على الصّفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمنا من عذابه).
قال أبو النّجم القرشيّ: كنت أطوف بالبيت؛ فقلت: (يا سيّدي قد قلت: (ومن دخله كان آمنا) من أيّ شيء؟ فسمعت قائلا من ورائي يقول: آمنا من النار؛ فالتفتّ فلم أر شيئا).يدلّ على هذا ما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من مات في أحد الحرمين بعثه الله من الآمنين]
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينتشران في الجنّة] وهما مقبرتا مكّة والمدينة. وقال صلى الله عليه وسلم: [من صبر على حرّ مكّة ولو ساعة من نهار تباعدت عنه جهنّم مسيرة مائتي عام؛ وتقرّبت منه الجنّة مسيرة مائة عام]
(3)
.
وقال وهب بن منبه: (مكتوب في التّوراة: أنّ الله عز وجل بعث سبعمائة ألف من الملائكة المقرّبين إلى البيت، بيد كلّ واحد منهم سلسلة من ذهب، فيقول لهم:
اذهبوا إلى البيت الحرام، فزموه بهذه السّلاسل ثمّ قودوه إلى المحشر؛ فيأتون به بسبعمائة سلسلة من ذهب؛ ثمّ يقودونه وملك ينادي: يا كعبة الله سيري، فتقول:
لست سائرة حتّى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جوّ السّماء سلي، فتقول: يا ربّ شفّعني في جيرتي الّذين دفنوا حولي من المؤمنين، فيقول الله: قد أعطيتك سؤلك،
(1)
البقرة 197/.
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 6 ص 240:الحديث (6104)؛وفيه: [استوجب شفاعتي وكان يوم القيامة من الآمنين].وفي مجمع الزوائد: ج 2 ص 319؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبد الغفور بن سعيد، وهو متروك» .
(3)
ذكره المتقي الهندي في كنز العمال: الرقم (34704) وعزاه لأبي الشيخ عن أبي هريرة. وكعادته أدرج الناسخ عبارة: (كذا في تفسير الثعلبي).
فيحشر موتى مكّة من قبورهم بيض الوجوه كلّهم محرمون؛ فيجتمعون حول الكعبة ثمّ يلبّون، ثمّ تقول الملائكة: سيري يا كعبة الله؛ فتقول: لست سائرة حتّى أعطى سؤلي، فينادي ملك من جوّ السّماء: سلي، فتقول: يا ربّ؛ عبادك المذنبين الّذين وفدوا إليّ من كلّ فجّ عميق شعثا غبرا؛ قد تركوا الأهلين والأولاد والأحباب، وخرجوا شوقا زائرين مسلّمين طائعين حتّى قضوا مناسكهم كما أمرتهم، فأسألك أن تؤمّنهم من الفزع الأكبر وشفّعني فيهم وتجمّعهم حولي، فينادي مناد: إنّ منهم من ارتكب الذّنوب بعدك وأصرّ على الكبائر حتّى وجبت له النّار، فتقول الكعبة: إنّما أسألك الشّفاعة لأهل الذّنوب العظام، فيقول الله تعالى: قد شفّعتك فيهم وأعطيتك سؤلك. ثمّ ينادي مناد: ألا من زار الكعبة، فيعزل من بين النّاس فيعتزلون؛ فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النّار، يطوفون ويلبّون. ثمّ ينادي ملك من جوّ السّماء يا كعبة الله سيري، فتقول الكعبة: لبّيك لبّيك؛ والخير في يديك؛ لبّيك لا شريك لك لبّيك؛ إنّ الحمد والنّعمة لك والملك؛ لا شريك لك. ثمّ يشيّعونها إلى المحشر).
قوله عز وجل: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ؛} قال عكرمة: (لمّا نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قالت اليهود: نحن مسلمون؛ فأمروا أن يحجّوا إن كانوا مسلمين).واللاّم في قوله {(لِلّهِ)} لام الإيجاب والإلزام؛ أي لله فرض واجب على النّاس حجّ البيت.
قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف وحفص: «(حجّ البيت)» بكسر الحاء هذا الحرف وحده خاصّة. وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر، وهي لغة نجد. وقرأ الباقون بالفتح في كلّ القرآن، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد. وقال بعضهم هو بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم.
قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً؛} بدل من الناس، وهو بدل البعض من الكلّ، قال عبد الله بن عمر: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستطاعة في هذه
الآية فقال: [السّبيل إلى البيت: الزّاد والرّاحلة]
(1)
ومثله عن ابن مسعود وابن عبّاس وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك.
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ} (97)؛معناه:
من أنكر فريضة الحجّ فلم ير واجبا فإنّ الله غنيّ عن من حجّ وعن من لم يحجّ؛ أي لم يتعبّد الناس بالعبادات لحاجته إليها، وإنّما تعبّدهم به لعلمه بمصالحهم فيها. وقد روي: أنّه لمّا نزل فرض الحجّ؛ جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين اليهود والنّصارى ومشركي العرب، فقال صلى الله عليه وسلم:[إنّ الله قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا] فلم يقبله إلاّ المسلمون فأنزل الله تعالى: {(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)}
(2)
.
وأمّا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [من أدرك حجّة الإسلام فلم يحجّ؛ ولم يمنعه حاجة ظاهرة؛ ولا إمام جائر ظالم؛ ولا سجن حابس حتّى يموت على ذلك؛ فليمت على أيّ حال شاء يهوديّا أو نصرانيّا]
(3)
ولا يجوز الحكم بكفره بأخبار الآحاد، وتأويل الخبر: أنّه لم ير الحجّ فرضا عليه وقد وجد الاستطاعة. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [معنى ومن كفر؛ أي ومن كفر بالله واليوم الآخر]
(4)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من مات ولم يحجّ لم يقبل الله له يوم القيامة عملا]
(5)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (5916).والترمذي في الجامع الصحيح: أبواب الحج: باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة: الحديث (813)،وقال:«هذا حديث حسن. وفيه يزيد الخوزي، وقد تكلم بعض أهل العلم من قبل حفظه» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5936) عن الضحاك بمعناه.
(3)
رواه الدارمي في السنن: كتاب المناسك: باب من مات ولم يحج: الحديث (1785) عن أبي أمامة، وأوله: [من لم يمنعه عن الحجّ
…
].في نصب الراية لأحاديث الهداية: ج 4 ص 411؛ قال الزيلعي: «قد روى هذا الحديث عن علي وأبي هريرة، وحديث أبي أمامة على ما فيه أصلحها» .
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5938).
(5)
في نصب الراية: ج 4 ص 412 قال الزيلعي: «رواه الواحدي في تفسير الوسيط بسنده عن ابن مسعود وعن النبي صلى الله عليه وسلم» .وقال: «قال البيهقي في شعب الإيمان: وهذا الحديث إن صح، فالمراد والله أعلم إذا كان لا يرى تركه قائما ولا فعله برا، والله أعلم» .
قوله عز وجل: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ} (98)؛أي قل يا محمّد لليهود والنصارى: لم تكفرون بالحجّ ومحمّد والقرآن والله عالم بما تعملون، وإنّما قال في هذا الموضع:{(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ)،} وقال من قبل: {(يا أَهْلَ الْكِتابِ)} أنه تعالى خاطبهم أوّلا على جهة التّلطّف في استدعائهم إلى الإيمان ثم أعرض عن خطابهم إدلالا وإهانة لهم، وأمر غيره بمخاطبتهم.
قوله عز وجل: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؛} نزلت يوم بدر في اليهود كانوا يدعون عمّارا وأصحابه رضي الله عنهم إلى اليهوديّة، وكانوا يسعون في إحياء الضّغائن التي كانت بين الأوس والخزرج في الجاهليّة وكانت قد ماتت في الإسلام
(1)
.ومعنى الآية: قل يا محمّد: لم تصرفون من آمن عن دين الله وعن الطريق التي هي الموصلة إلى رضا الله من الإسلام والحجّ وغير ذلك، {(تَبْغُونَها عِوَجاً)} أي تطلبون لها ميلا. قال أبو عبيد:
(العوج بالكسر في الدّين والقول والعمل، والعوج بالفتح في الجدار والحائط والعصا).
قوله تعالى: {(وَأَنْتُمْ شُهَداءُ)} أي وأنتم شهداء تقديم البشارة بمحمّد صلى الله عليه وسلم في كتبكم، وقيل: معناه: وأنتم عقلاء كما في قوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}
(2)
.قوله تعالى: {وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} (99)؛تهديد لهم على الكفر أي لا يخفى على الله شيء ممّا تعملون من الجحد والكتمان.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ} (100)؛قال زيد بن أسلم: (أنّ شاس بن قيس اليهوديّ وكان شيخا كبيرا عظيم الكفر؛ شديد الطّعن على المسلمين؛ شديد الحسد لهم، مرّ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في
(1)
أخرجه الطبري مطولا في جامع البيان: النص (5945).
(2)
ق 37/.
مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الّذي كان بينهم في الجاهليّة من العداوة، فقال: والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابّا من اليهود كان معهم؛ فقال: اعمد إليهم واجلس إليهم؛ ثمّ ذكّرهم يوم بعاث وما كان قبله؛ وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار؛ وما كان يعلن-بالعين المهملة-يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظّفر فيه للأوس على الخزرج؛ ففعل. فتكلّم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحيّ؛ أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج، وتقوّلا ثمّ قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها جذعة الآن، وغضب الفريقان جميعا وقالا: موعدكم الحرّة، فخرجوا إليها بالسّلاح، وانضمّت الأوس إلى الأوس، والخزرج إلى الخزرج، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج بمن معه من المهاجرين إليهم فقال:[يا معشر المسلمين أتدعون إلى الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وقطع عنكم أمر الجاهليّة، وألّف بينكم].فعلموا أنّها نزغة من الشّيطان، وكيد من عدوّهم، وألقوا السّلاح من أيديهم وبكوا وتعانق بعضهم بعضا، ثمّ رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين. فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.
ومعناها: {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)} يعني الأوس والخزرج، {(إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)} يعني شاسا وأصحابه، إن تطيعوهم في إحياء الضّغائن التي كانت بينكم بالعصبية وجهالة وحميّة الجاهليّة يردّوكم الى الشّرك والكفر بعد تصديقكم بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن. قال جابر بن عبد الله:(ما كان من طالع أكرم إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما رأيت يوما قطّ أقبح أوّلا ولا أحسن آخرا من ذلك اليوم).
قوله عز وجل: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؛} هذا على طريق التعجّب والاستبعاد أن يقع منهم الكفر مع معرفتهم بدلالات الله؛ أي كيف تكفرون وأنتم يتلى عليكم القرآن ومعكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5945).
لكم الآيات؟! قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ؛} أي يستمسك بدينه وطاعته ويمتنع به من غيره؛ {فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ؛} أي أرشد إلى طريق؛ {مُسْتَقِيمٍ} (101)؛قائم يرضاه الله وهو الإسلام، والعصمة: المنع، فكلّ مانع شيئا فهو عاصم، قال الفرزدق:
أنا ابن العاصمين بني تميم
…
إذا ما أعظم الحدثان نابا
(1)
قال عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (102)؛معناه: يا أيّها الّذين صدّقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن أطيعوا الله حقّ طاعته، واثبتوا على الإسلام حتّى لا يدرككم الموت إلاّ وأنتم مسلمون. قال الكلبيّ:(حقّ تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر)
(2)
.وقال ابن عبّاس: (هو أن لا يعصى طرفة عين).وقال مجاهد: (معناه:
جاهدوا في الله حقّ جهاده؛ ولا يأخذكم في الله لومة لائم؛ وقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم)
(3)
.
فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من يقوى على تقوى الله حقّ تقاته، وشقّ ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(4)
فصار ابتداء هذه الآية منسوخا به، وإلى هذا ذهب قتادة ومقاتل وجماعة من المفسّرين. قال قتادة
(5)
: (وليس في آل عمران من المنسوخ إلاّ هذه الآية).وقال بعضهم: لا يجوز أن يكلّف الله عباده ما لا يطيقون، وليست هذه الآية منسوخة، وإنّما معناه: اتّقوا الله فيما يحقّ عليكم أن تتّقوه فيه؛ وهو ما فسّره الله تعالى في كتابه في مواضع شتّى.
(1)
في لسان العرب: «حدث حدثان الدّهر وحوادثه: نوبه. وناب: أصاب ونزل» .
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5957) من حديث عبد الله بن مسعود، وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5964) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
التغابن 16/.
(5)
عند القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 157 ك «قال مقاتل:» .
قوله تعالى: {(وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)}
(1)
أي مؤمنون، وقيل: مخلصون مفوّضون أمركم إلى الله تعالى. وقال الفضيل: (محسنون الظّنّ بالله).وعن أنس رضي الله عنه قال: (لا يتّقي الله عبد حقّ تقاته حتّى يخزن لسانه)
(2)
.
قوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً} الآية. قال مقاتل: (كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهليّة وقتال؛ حتّى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم، فافتخر بعد ذلك رجلان: ثعلبة بن غنم الأوسيّ؛ وسعد بن زرارة الخزرجيّ، فقال الأوسيّ: منّا خزيمة ذو الشّهادتين؛ ومنّا حنظلة غسلته الملائكة؛ ومنّا عاصم بن ثابت حمى الدّين؛ ومنّا سعد بن معاذ الّذي اهتزّ العرش لموته ورضي بحكمه في بني قريظة. وقال الخزرجيّ: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبيّ بن كعب؛ ومعاذ بن جبل؛ وزيد بن ثابت؛ وأبو زيد سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم. فجرى الحديث بينهم؛ فغضبوا، فقال الخزرج: أما والله لو تأخّر الإسلام قليلا وقدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لقتلنا سادتكم واستعبدنا أبناءكم ونكحنا نساءكم بغير مهر، فقال الأوس: قد كان والله الإسلام متأخّرا كثيرا، فهلاّ فعلتم ذلك حين ضربناكم حتّى أدخلناكم البيوت، وتكاثرا وتشاتما ثمّ تبادءا واقتتلا حتّى اجتمع الأوس والخزرج ومعهم السّلاح، فبلغ ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم في أناس من المهاجرين وقد نهض بعضهم إلى بعض. قال جابر: فما كان طالع يومئذ أكرم علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلينا فكففنا فوقف بيننا، فقرأ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} إلى قوله تعالى: {وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} فألقى الفريقان السّلاح وأطفئوا الحرب، فلم يكن في الأرض شخص أحبّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية، ومشى بعضهم إلى بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعانق بعضهم بعضا يبكون، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ).
(1)
معنى التفسير في الآية (132) من سورة البقرة.
(2)
في الدر المنثور: ج 2 ص 284؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم عن أنس» .
قوله تعالى: {(بِحَبْلِ اللهِ)} أي تمسّكوا بدين الله، وقيل: بالجماعة
(1)
.وقال مجاهد وعطاء: (بعهد الله)
(2)
.وقال قتادة والسديّ والضحّاك: (معناه: واعتصموا بالقرآن)
(3)
.وقال عليّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [كتاب الله هو الحبل المتين؛ والذّكر الحكيم؛ وهو الصّراط المستقيم].وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[إنّ هذا القرآن هو حبل الله المتين؛ وهو النّور المبين؛ والشّفاء النّافع؛ وعصمة من تمسّك به؛ ونجاة من تبعه]
(4)
.وقال مقاتل: (معنى الآية: واعتصموا بأمر الله وطاعته).وقال أبو العالية: (بإخلاص التّوحيد لله)
(5)
.وقال ابن زيد: (بالإسلام)
(6)
.
قوله تعالى: {(وَلا تَفَرَّقُوا)} أي تناصروا في دين الله ولا تتفرّقوا فيه كما تفرّقت اليهود والنصارى. قال صلى الله عليه وسلم: [إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، فإنّ أمّتي ستتفرّق على اثنين وسبعين فرقة، كلّها في النّار إلاّ فرقة واحدة] فقيل: يا رسول الله؛ وما هذه الفرقة الواحدة؟ فقبض يده وقال: [الجماعة] ثمّ قرأ:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}
(7)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله تعالى رضي لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا؛ واسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله أمركم. وكره لكم قيل وقال؛ وإضاعة المال؛ وكثرة السّؤال]
(8)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5973) عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن الشعبي.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5978) عن مجاهد، والنص (5979) عن عطاء.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5974) عن قتادة.
(4)
أخرج شطرا منه الطبري في جامع البيان: الحديث (5976).
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5983).
(6)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5984).
(7)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (5987) عن أنس. وابن ماجة في السنن: كتاب الفتن: باب افتراق الأمم: الحديث (3993).وفي مجمع الزوائد؛ قال: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(8)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الأقضية: باب النهي عن كثرة السؤال: الحديث (1715/ 10) عن أبي هريرة رضي الله عنه. والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب قتال أهل البغي: باب النصيحة لله ولكتابه: الحديث (17123).ويبدو أن في طبعة دار القلم تحقيق الشيخ خليل-
قوله تعالى: {(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)} أي احفظوا منّة الله عليكم إذ كنتم أعداء في الجاهليّة، يقتل بعضكم بعضا، فجمع الله بين قلوبكم بالإسلام المحرّم للأنفس والأموال إلاّ بحقّها، فصرتم بنعمة الله إخوانا في الدّين.
قال محمّد بن اسحاق: (كان الأوس والخزرج أخوين لأب وأمّ، فوقعت بينهم عداوة بسبب سمير وحاطب، وذلك أنّ سمير بن زيد أحد بني عمرو بن عوف قتل خليطا لمالك بن العجلان الخزرجيّ يقال له حاطب بن الحرث؛ فوقع الحرب بين القبيلتين؛ فتطاولت بينهم تلك العداوة مائة وعشرون سنة، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب مثل ما كان بينهم. واتّصلت تلك العداوة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألّف بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا بعث وظهر بمكّة آمن به الأوس والخزرج وهم بالمدينة، فلمّا هاجر إليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقعت الألفة بينهم وزالت العداوة من قلوبهم وقد كادوا يتفانون، وقد كان سبب ألفتهم ما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج بالموسم وهو بمكّة يعرض نفسه على قبائل العرب، فبينما هو عند العقبة إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا؛ وهم ستّة نفر: أسعد بن زرارة؛ وعوف بن عفراء؛ ورافع بن مالك؛ وقطبة بن عامر؛ وعقبة بن عامر؛ وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:[من أنتم؟] فقالوا: نفر من الخزرج، فقال:[أفلا تجلسون حتّى أكلّمكم؟] قالوا: بلى؛ فجلسوا؛ فدعاهم إلى الله عز وجل فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. وكان معهم بالمدينة يهود أهل كتاب ذكروا لهم أنّ نبيّا مبعوثا قد دنا زمانه، فلمّا كلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: هذا والله النّبيّ الّذي ذكره اليهود؛ فلا يسبقنّكم إليه أحد، فأجابوه وصدّقوه وأسلموا؛ وقالوا: يا رسول الله؛ إنّ معنا قوما بينهم من العداوة والشّرّ ما بينهم، وعسى الله أن يجمع كلمتهم بك؛ فأقدم إليهم وادعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك، ثمّ انصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد أسلموا، فلمّا وصلوا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتّى
(8)
-الميس على شرح النووي لصحيح مسلم، أنه قد سقطت منه الثالثة [وأن تناصحوا من ولّى الله أمركم] وهي عند البيهقي في السنن الكبرى؛ وقال:«أخرجه مسلم» .
فشا فيهم؛ فلم يبق دار من دور الأنصار
(1)
إلاّ فيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتّى إذا كان العام المقبل وافى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الموسم منهم اثنا عشر رجلا: أسعد بن زرارة؛ وعوف ومعاذ ابنا عفراء
(2)
،وعقبة بن عامر
(3)
؛وقطبة بن عامر؛ ورافع بن مالك؛ وذكوان بن عبد قيس؛ وعبادة بن الصّامت
(4)
؛ويزيد بن ثعلبة؛ والعبّاس بن عبادة
(5)
،فهؤلاء الخزرجيّون، وأبو الهيثم بن التّيهان، وعويم
(6)
ابن ساعدة من الأوس. فاجتمعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة الأولى؛ فبايعوه على أن لا يشركوا بالله شيئا، «قال:» فإن وفّيتم فلكم الجنّة. وكان ذلك قبل أن يفرض الجهاد، فلمّا رجعوا إلى المدينة بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير ابن هاشم، وأمره
(7)
أن يقرأهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم في الدّين.
فكان مصعب يسمّى في المدينة (المقرئ) وكان نزوله في بيت أسعد بن زرارة، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق بنا إلى هذين الرّجلين اللّذين قد أتيا دارنا فسفّها ضعفاءنا وأخرجوهم؛ فإنّ أسعد ابن خالتي ولولا ذلك لكفيتك، وكان سعد وأسيد بن حضير سيّدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشركان.
(1)
في المخطوط: (فلم يبق دار من دورهم أن تعبد الأصنام).وهو تصحيف، وأجرينا التصحيح من السيرة النبوية لابن هشام: آخر عبارة من بدء إسلام الأنصار: ج 2 ص 73،مطبعة مصطفى الحلبي:(1936 م)،تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري.
(2)
في السيرة النبوية لابن هشام: «ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم
…
وهما ابنا عفراء».
(3)
عقبة بن عامر: شهد بدرا بعد شهوده العقبة الأولى، ثم شهد أحدا فأعلم بعصابة خضراء في مغفره. ولقد شهد الخندق وسائر المشاهد كلها، وقتل يوم اليمامة شهيدا.
(4)
يكنى عبادة بن الصامت: أبا الوليد. وأمه قرة العين بنت عبادة بن نضلة. وكان عبادة نقيبا، شهد العقبة الأولى والثانية والثالثة، وشهد بدرا والمشاهد كلها. ثم وجهه عمر رضي الله عنه إلى الشام قاضيا ومعلما، فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين ومات بها، ودفن ببيت المقدس، وقبره معروف بها إلى اليوم، وفي وفاته أقوال أخرى.
(5)
شهد العباس بيعة العقبتين، فأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر إلى المدينة، فكان يقال له: مهاجري أنصاري، قتل يوم أحد شهيدا ولم يشهد بدرا.
(6)
في المخطوط: (عويمر).
(7)
في المخطوط: (وأمرهم)،وفي السيرة النبوية لابن هشام:(وأمره) وهو أصح.
فأخذ أسيد بن حضير حربته وأقبل إلى أسعد ومصعب وهما جالسان في حائط، فلمّا رأى أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيّد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلّمه. فلمّا وقف عليهما أسيد شتمهما وقال: ما جاء بكما تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كان لكما في السّلامة حاجة، قال مصعب: اجلس واسمع؛ فإن رضيت أمرا قبلته؛ وإن كرهته كففنا عنك ما تكرهه، قال: أنصفت، ثمّ ركز حربته وجلس عندهما فكلّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم، ثمّ قال: ما أحسن هذا وأجلّه! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدّين؟ قالا: اغتسل وطهّر ثوبك ثمّ اشهد شهادة الحقّ (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) ثمّ تصلّي ركعتين. فقام واغتسل وطهّر ثوبه وقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدا رسول الله، ثمّ ركع ركعتين.
ثمّ قال: إنّ ورائي رجلا إن اتّبعكما لم يتخلّف أحد من قومه-يعني سعد بن معاذ-وسأرسله إليكما، ثمّ أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلمّا نظر إليه سعد مقبلا؛ قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الّذي ذهب من عندكم، فلمّا وصل إلى عندهم، قال له سعد: ما فعلت؟! قال:
كلّمت الرّجلين؛ فو الله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا: نفعل، وحدّثت أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه لمّا عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقّروك. فقام سعد مغضبا مبادرا للّذي ذكره فأخذ الحربة منه ثمّ قال: والله ما رأيتك أغنيت شيئا؛ ومضى إليهما؛ فلمّا رآهما مطمئنّين عرف أنّ أسيدا ما فعل ذلك إلاّ ليستمع منهما، فوقف عليهما متبسّما، ثمّ قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة؛ لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا منّي تغشّانا في ديارنا بما نكره، فقال له مصعب: أقعد واسمع؛ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عدلنا عنك ما تكرهه، فركز حربته وجلس؛ فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم به، ثمّ قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالوا: تغتسل؛ وتطهّر ثوبك؛ وتشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله؛ وتصلّي ركعتين، فقام واغتسل وغسل ثوبه وشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله وصلّى ركعتين.
ثمّ أخذ حربته ومضى إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير الأوسيّ، فلمّا وقف عليهم؛ قال: يا بني عبد الأشهل؛ كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأفضلنا رأيا
(1)
،قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتّى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فما أمسى في دار بني الأشهل رجل ولا امرأة إلاّ مسلما ومسلمة، ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعون النّاس إلى الإسلام، فلم يبق دار من الأنصار إلاّ وفيها رجال ونساء مسلمون.
ثمّ إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكّة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا من حجّاج قومهم من أهل الشّرك حتّى قدموا مكّة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيّام التّشريق؛ وهي بيعة العقبة الثّانية، قال كعب بن مالك: فلمّا فرغنا من الحجّ وكانت اللّيلة الّتي واعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو ابن حرام أبو جابر أخبرناه؛ وكنّا نكتم من معنا من المشركين من قومنا إيماننا، فكلّمناه وقلنا له: يا أبا جابر
(2)
؛إنّك سيّد من ساداتنا وإنّا نرغب لك فيما نرغب لأنفسنا، ودعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد معنا العقبة وكان نقيّا، فبتنا تلك اللّيلة مع قومنا في رحالنا، حتّى إذا مضى ثلث اللّيل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلّل مستخفين؛ حتّى اجتمعنا في الشّعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلا
(3)
ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب من نساء بني النّجّار؛ وأسماء بنت عمرو بن عديّ من نساء بني سلمة، فاجتمعنا في الشّعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمّه العبّاس وهو يومئذ مشرك إلاّ أنّه أحبّ أن يحضر مع ابن أخيه ويتوثّق له، فلمّا جلس كان أوّل من تكلّم العبّاس فقال: يا معشر الخزرج-وكانت العرب تسمّي الأوس والخزرج باسم الخزرج-اعلموا أنّ محمّدا منّا حيث قد علمتم؛ هو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وأراه قد أبى إلاّ اللّحوق بكم والانقطاع إليكم، فلمّا كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه
(1)
في المخطوط: (وأفضلنا ربا).
(2)
في المخطوط: (يا جابر).
(3)
في السيرة النبوية لابن هشام: «ونحن ثلاثة وسبعون رجلا» .
ومانعوه ممّن خالفه؛ فإنّكم وما تحمّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج
(1)
به إليكم؟ فمن الآن فدعوه؛ فإنّه في عزّ ورفعة ومنعة.
قال: فقلنا: سمعنا قولك، فتكلّم يا رسول الله؛ وخذ لنفسك وربك ما شئت، فتكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلى القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام، وقال: [أبايعكم على أن تمنعوني
(2)
ما تمنعون أنفسكم ونساءكم وأبناءكم].قال: فأخذ البراء بن معرور
(3)
بيده؛ ثمّ قال: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا نمنعك ممّا نمنع أبناءنا، بايعنا يا رسول الله؛ فنحن أهل الحرب ونحن أهل الحلقة ورثناها صاغرا عن كابر
(4)
.ثمّ قال أبو الهيثم بن التّيهان: يا رسول الله؛ إنّ بيننا وبين النّاس عهودا ونحن قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثمّ أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:[بل الدّم الدّم؛ والهدم الهدم، وأنتم منّا وأنا منكم، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم].
ثمّ قال: [أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا كفلا على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريّين بعيسى عليه السلام].فأخرجوا اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج؛ وثلاثة من الأوس، فلمّا اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبّاس بن عبادة الأنصاريّ: يا معشر الخزرج؛ هل تدرون على ما تبايعون؛ إنّما تبايعونه على حرب
(5)
الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنّكم إذا انتهكت أموالكم بالأخذ، وأشرافكم بالقتل أسلمتموه؟! فمن الآن؛ فهو والله إن فعلتم خزي الدّنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعاكم إليه على نهيكة الأموال
(6)
وقتل الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدّنيا والآخرة. قالوا: فإنّا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف؛ فما لنا بذلك يا
(1)
في المخطوط: (بعد الخزرج).
(2)
في المخطوط: (لا تمنعوني).
(3)
في المخطوط: (البراء بن معذور).
(4)
في السيرة النبوية: (كابرا عن كابر).
(5)
(حرب) هذه الزيادة للضرورة وليست لابن هشام: ج 2 ص 88.
(6)
من المخطوط وكما في السيرة النبوية: (نهكة الأموال) أو نهيكة الأموال: نقصها.
رسول الله إن نحن وفّينا؟ قال: [لكم الجنّة].قالوا: أبسط يدك؛ فبسط يده، فبايعوه.
فأوّل من ضرب على يده: البراء بن معرور؛ ثمّ بايع القوم واحدا واحدا، قال:
فلمّا بايعنا صرخ الشّيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته أحياء كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم:[هذا عدوّ الله شيطان العقبة] ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أمضوا إلى رحالكم].
فقال العبّاس بن عبادة: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا؛ لئن شئت لنميلنّ غدا على أهل منى بأسيافنا، فقال صلى الله عليه وسلم:[لم اؤمر بذلك، ارجعوا إلى رحالكم].
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فبتنا، فلمّا أصبحنا غدت علينا جلّة قريش، فقالوا لنا: يا معشر الخزرج؛ بلغنا أنّكم جئتم صاحبنا هذا لتستخرجوا ابن أخينا من بين أظهرنا وبايعتموه على حربنا، وإنّه والله ما حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان هذا شيء وما علمنا، وصدقوا لأنّهم لم يعلموا على بيعتنا، فجعل بعضنا ينظر إلى بعض.
ثمّ انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدّوا العقد، فلمّا قدموا أظهروا الإسلام بها، وبلغ ذلك قريشا، فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:[إنّ الله قد جعل لكم إخوانا ومنزلا ودارا تأمنون فيها]
(1)
.فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللّحوق بإخوانهم من الأنصار، فأوّل من هاجر إلى المدينة: أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ؛ ثمّ عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة؛ ثمّ عبد الله بن جحش، ثمّ تتابع
(2)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا إلى المدينة، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكّة ينظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أذن له.
فقدم المدينة؛ فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام، وأصلح ذات بينهم برسوله، ورفع عنهم العداوة القديمة، وألّف بينهم).وذلك قوله عز وجل:
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 111.
(2)
في المخطوط: (تبايع).
{(وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ)} أي بالإسلام {(فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً)} أي فصرتم، ونظيره:{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ}
(1)
{فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ}
(2)
{إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً}
(3)
.
وقوله تعالى: {(بِنِعْمَتِهِ)} أي بدين الإسلام، وقوله تعالى:{(إِخْواناً)} أي في الدين والولاية، نظيره قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
(4)
،قال صلى الله عليه وسلم:[لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تنابزوا ولا تناجشوا؛ وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله، التّقوى هاهنا -وأشار بيده إلى صدره-حسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم]
(5)
.
قوله عز وجل: {وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها؛} أي كنتم في الجاهليّة على طرف هوّة من النّار؛ أي كنتم أشرفتم على النار؛ وكدتم تقعون فيها، أو أدرككم الموت على الكفر؛ فأنقذكم الله منها؛ أي خلّصكم من النار والحفرة بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم والإيمان. قوله تعالى:{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (103)؛التي مثل هذا البيان الذي تلي عليكم يبيّن الله لكم الدّلالات والحجج في الأوامر والنّواهي لكي تهتدوا من الضلالة، وتكونوا على رجاء الهداية.
قوله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي ليكن منكم جماعة يدعون إلى الصّلح والإحسان، ويأمرون بالتوحيد واتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم وسائر الطّاعات الواجبة؛ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛} والشّرك وسائر ما لا يعرف في شريعة ولا سنّة، {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104)،أي النّاجون من السّخط والعذاب، وإنّما قال:{(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ)} ولم يقل: وليكن منكم جميعكم؛
(1)
المائدة 30/.
(2)
المائدة 31/.
(3)
الكهف 41/.
(4)
الحجرات 10/.
(5)
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ رواه البخاري في الصحيح: كتاب النكاح: باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح: الحديث (5143)،وفي الأدب: باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر: الحديث (6064).وأخرجه همام في صحيفته: الحديث (6)،تحقيق رفعت فوزي في المطلب. والحديث مشهور.
لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين
(1)
،ويجوز أن يكون المراد بالأمّة العلماء في هذه الآية الذين يحسنون ما يدعون إليه.
وذهب بعض المفسّرين الى أنّ المعنى: ولتكونوا كلّكم، لكن (من) هنا دخلت للتوكيد وتخصيص المخاطبين من سائر الأجناس كما في قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ}
(2)
أي فاجتنبوا الأوثان فإنّها رجس؛ لا أنّ المراد: فاجتنبوا بعض الأوثان دون بعض، واللام في {(وَلْتَكُنْ)} لام الأمر.
وقوله: {(يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)} أي إلى الإسلام، ثم النهي عن المنكر على مراتب؛ أوّلها: الوعظ والتّخويف، فإن زال بذلك لم يجز للناهي أن يتعدّى عنه إلى غيره ما فوقه، ثم بالإيذاء والنّعال، ثم بالسّوط، ثم بالسّلاح والقتال؛ لأن المقصود زوال المنكر.
فأمّا إذا كان النّاهي عن المنكر خائفا على نفسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:[من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان]
(3)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه؛ وخليفة رسوله؛ وخليفة كتابه]
(4)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [اؤمروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كلّه، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كلّه]
(5)
.
(1)
يريد إذا أقامه البعض فأنجزه عملا وحقق هدفه سقط عن الباقين؛ وإلا فهو مطلوب مراد على سبيل التحقيق والإنجاز، فيجب على المخاطبين المبادرة إلى إنجازه وتحقيقه.
(2)
الحج 30/.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 54 و 20 و 49.ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان: الحديث (78/ 49).وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب الخطبة يوم العيد: الحديث (1140)،وإسناده صحيح.
(4)
أخرجه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب: النص (5834) عن ثوبان. وابن عدي في الكامل: ج 7 ص 230:الترجمة (1616/ 18) وضعّفه ب (كادح بن رحمة العرني).
(5)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 7 ص 329:الحديث (6624)،وأوله:[لا تأمر بالمعرو ف حتّى تعمل به].في مجمع الزوائد: ج 7 ص 277؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الصغير-
وقال عليّ رضي الله عنه: (أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وشنئان الفاسقين)
(1)
.وقال أبو الدّرداء: (لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر؛ وإلاّ ليسلّطنّ الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم، ويدعو أخياركم فلا يستجاب لهم؛ يستنصرون فلا ينصرون؛ ويستغفرون فلا يغفر لكم).وقال حذيفة:
(يأتي على النّاس زمان لأن يكون فيهم جيفة حمار أحبّ إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر)
(2)
،وقال الثوريّ:(إذا كان الرّجل محبوبا في جيرانه محمودا عند إخوانه، فاعلم أنّه مداهن)
(3)
.
قوله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ؛} أي ولا تكونوا كاليهود والنصارى الذين اختلفوا فيما بينهم وصاروا فرقا وشيعا، {(مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ)} الكتاب في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم؛ {وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (105)؛على تفريقهم واختلافهم. قال بعضهم: لا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا، قال: وهم المبتدعة من هذه الأمّة.
ثم بيّن الله تعالى وقت العذاب العظيم الذي يصيبهم؛ فقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ؛} معناه: (وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه) وهو يوم القيامة، وانتصب على الظّرف أي في يوم. قرأ يحيى بن وثّاب:«(تبيضّ)» «(وتسودّ)» بكسر التّاء على لغة تميم. وقرأ الزهريّ «(تبياضّ)» و «(تسوادّ)» .
ومعنى الآية: تبيضّ وجوه المخلصين لله بالتوحيد؛ أي تشرق فتصير كالثّلج بياضا والشّمس ضياء، وتسودّ وجوه الكفّار والمنافقين من الحزن حين يدعون إلى السّجود فلا يستطيعون. وعن ابن عبّاس قال: (معناه: يوم تبيضّ وجوه أهل العلم
(5)
-والأوسط من طريق عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب عن أبيه، وهما ضعيفان».
(1)
أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: تر جمة الإمام علي رضي الله عنه: ج 1 ص 74.
(2)
ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 1 ص 389.
(3)
ينظر: المصدر نفسه.
والسّنّة، وتسودّ وجوه أهل البدعة)
(1)
.وقال بعضهم: البياض من الوجوه إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها
(2)
وبثواب الله، واسودادها لحزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعقاب ربها.
قوله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (106)؛جوابه محذوف؛ أي يقال لهم:
{(أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)} قيل: هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدّقين بأنبيائهم مصدّقين بمحمّد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، فذلك قوله تعالى:{(أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ)} . وقيل: هم من كفر بالله يوم الميثاق حين أخرجوا من صلب آدم عليه السلام.
وقيل: هم الخوارج وأهل البدع كلّها، وقيل: هم أهل الرّدّة.
قوله عز وجل: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (107)؛وهم المؤمنون الذين ابيضّت وجوههم في الآخرة في جنّة الله تعالى، صاروا إليها برحمته هم فيها مقيمون دائمون. وفي الآية بيان أنّ الجنّة لا تنال إلاّ برحمة الله وإن اجتهد المجتهد في طاعته.
قوله عز وجل: {تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ؛} أي هذه حجج الله ينزل بها جبريل عليه السلام فيقرأها عليك بالصدق؛ {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ} (108)؛أي للجنّ والإنس.
قوله عز وجل: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (109)؛معناه: جميع ما في السّماوات والأرض من الخلق عبيد الله ومخلوقه فلا يريد ظلمهم، فإنّ من بلغ غناه هذا المبلغ لا يحتاج إلى الظّلم. قوله تعالى:
{(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)} أي عواقب الأمور في الآخرة.
قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ؛} خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 291؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي حاتم وأبو نصر في الإبانة- والخطيب في تاريخه واللالكائي في السنة» .
(2)
في المخطوط: (بعلمها).
وهم يعمّ سائر أمّته. قال الحسن: (نحن آخر الأمم وأكرمها على الله)
(1)
.وقيل معنى {(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)} أي كنتم في اللّوح المحفوظ، وقيل: كنتم مذ كنتم، وقيل: الكاف زائدة؛ أي أنتم خير أمّة. قوله تعالى: {(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)} أي بالتّوحيد واتّباع الشّريعة، {(وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)} أي عن الشّرك والظّلم.
وقوله تعالى: {(وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)} أي توحّدون الله تعالى بالإيمان بالله وتصديق رسله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ من كفر بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوحّد الله تعالى، ودليل هذا التأويل قوله تعالى:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ؛} أي لو صدق اليهود والنصارى مع إيمانهم بالله تعالى إيمانهم بنبيّه صلى الله عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإقامة على دينهم.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [أنتم تتمّون على سبعين أمّة؛ أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل]
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [أهل الجنّة عشرون ومائة صفّ، ثمانون منها من هذه الأمّة]
(3)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [إنّ الجنّة محرّمة على الأمم حتّى تدخلها أمّتي]
(4)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [أمّتي أمّة مرحومة؛ إذا كان يوم القيامة أعطي كلّ رجل من هذه الأمّة رجلا من الكفّار؛ فيقال له: هذا فداؤك من النّار]
(5)
.
وقيل لعيسى عليه السلام: يا روح الله؛ هل بعد هذه الأمّة أمّة؟ قال: نعم؛ أمّة أحمد صلى الله عليه وسلم علماء حكماء حلماء؛ أبرار أتقياء كأنّهم من العفّة أنبياء؛ يرضون من الله باليسير
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6024) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6024).
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 347 و 355 و 631.والترمذي في الجامع الصحيح: أبواب صفة الجنة: الحديث (2546) عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(4)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (9406) بمعناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. في مجمع الزوائد: ج 10 ص 69؛قال الهيثمي: «إسناده حسن» .والحديث (4165) عن ابن عباس؛ قال الهيثمي: «ضعيف» .
(5)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (1) عن أبي موسى الأشعري بإسناد حسن. وأخرجه بمعناه الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 408.
من الرّزق؛ ويرضى الله تعالى منهم باليسير من العمل؛ يدخلهم الجنّة بشهادة أن لا إله إلاّ الله.
قوله عز وجل: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ؛} يعني أهل الكتاب منهم المؤمنون عبد الله بن سلام وأصحابه، وسائر من أسلم من أهل الكتاب. {وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} (110)؛أي الكافرون الخارجون عن أمر الله، وهم الذين لم يسلموا منهم.
قوله عز وجل: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً؛} أي لن يصلوا إلى ضرركم أيّها المسلمون إلاّ أن يؤذوكم باللّسان بقولهم: عزير ابن الله؛ والمسيح ابن الله؛ وثالث ثلاثة؛ والبهت والتّحريف. وقال مقاتل: (إنّ رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف؛ وأبو رافع؛ وأبو ياسر؛ وابن صوريّا وغيرهم عمدوا إلى مؤمنيهم كعبد الله ابن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله عز وجل {(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً)} أي باللّسان؛ يعني وعيدا وطعنا بألسنتهم ودعاء إلى الضّلالة وكلمة كفر تسمعونها منهم فتتأذون بها).
قوله تعالى: {وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} (111)؛ أي يعطوكم الأدبار منهزمين؛ يعني لا يمنعكم أحد من سبيكم إيّاهم وقتلكم نفوسهم، وقوله تعالى:{(ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)} جواب الشرط، إلاّ أنه استئناف لأجل رأس الآي؛ لأنّها على النون كقوله تعالى:{وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}
(1)
وتقديره: ثمّ هم لا ينصرون، وقال في موضع آخر:{لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}
(2)
إذ لم يكن رأس آية.
قال الشاعر:
ألم تسأل الرّبع القديم فينطق
…
أي فهو ينطق.
قوله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ؛} معناه: جعلت عليهم مذلّة القتل والسّبي أينما وجدوا أخذوا. قوله
(1)
المرسلات 36/.
(2)
فاطر 36/.
تعالى: {(إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ)} أي إلاّ أن يعتصموا بعهد الله وهو الإسلام. وقوله: {(وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ)} أي عهد وأمان وعقد ذمّة المسلمين عليهم؛ يؤدّون إليهم الخراج ليؤمّنوهم. وفي الآية اختصار؛ تقديره: إلاّ أن يعتصموا بحبل من الله.
قوله تعالى: {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ؛} أي انصرفوا بغضب؛ أي استوجبوه من الله عز وجل. قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ؛} أي جعل عليهم زيّ الفقر والبؤس حتّى صاروا من الذّلّة إلى ما لا يبلغه أهل ملّة بعد أن كانوا ذوي عزّ ويسار ومنعة، فترى الرجل منهم عليه البؤس والمسكنة وأنه لغنيّ، ولم يبق لليهود منعة في موضع من المواضع.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} (112)؛أي ذلك الذّلّ والغضب عليهم من الله بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن ورضاهم بقتل الأنبياء بغير حقّ وعصيانهم ومجاوزاتهم الحدّ.
قوله عز وجل: {*لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (113)؛قال ابن عبّاس ومقاتل: (لمّا أسلم عبد الله ابن سلام؛ وثعلبة بن سعية
(1)
؛وأسيد بن سعية؛ وأسد بن عبيد
(2)
ومن أسلم من اليهود؛ قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمّد إلاّ أشرارنا، لو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم، ثمّ قالوا لهم: قد خسرتم حين استبدلتم دينكم بدين غيره. فأنزل الله هذه الآية)
(3)
.
وقيل: لمّا ذكر الله في الآيات المتقدّمة من آمن من أهل الكتاب، ومن لم يؤمن.
قال عز وجل: {(لَيْسُوا سَواءً)} أي ليس الفريقان سواء، وهذا وقف تامّ، ثم استأنف
(1)
في المخطوط: (شعبة).
(2)
اشتبه على الناسخ الاسمين فجعلهما اسما واحدا، فكتب:(وأسيد بن عبيد)،والصحيح كما أثبتناه.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6044).وفي الدر المنثور: ج 2 ص 297؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الدلائل وابن عساكر، عن ابن عباس» .وفي السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 206.
قوله تعالى: {(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ)} أي عادلة مستقيمة مهتدية. وقال الأخفش:
(ذو أمّة قائمة؛ أي ذي طريقة قائمة)،قال:(والأمّة الطّريقة).
ومعنى قوله: {(يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ)} يعني يقرءون القرآن في ساعات اللّيل، {(وَهُمْ يَسْجُدُونَ)} أي وهم يصلّون؛ لأنّ القرآن لا يكون في السجود، نظيره قوله تعالى:{وَلَهُ يَسْجُدُونَ}
(1)
أي يصلّون، وقوله تعالى:{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ}
(2)
أي صلّوا. وإنّما ذكرت الصلوات باسم السجود؛ لأن السجود نهاية ما فيها من التواضع. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أراد به صلاة العتمة)
(3)
.وقيل: أراد به ما بين المغرب والعشاء. واختلف النّحاة في واحد الآناء؛ قال بعضهم: آناء مثل معاء وأمعاء. وقال بعضهم: إنّي مثل نحى وأنحى.
وقال بعض المفسّرين: في الآية اختصار وحذف؛ تقديره: من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، وترك الأخرى اكتفاء بذكر أحد الفريقين؛ قالوا: وهذا فعل مجموع مقدّم كقولهم: أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك. وقال آخرون: تمام الكلام عند قوله {(لَيْسُوا سَواءً)} يعني المؤمنين والفاسقين؛ لأن ذكر الفريقين قد جرى في قوله: {(مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)} . ثم وصف الفاسقين فقال: {(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً)،} ووصف المؤمنين فقال {(أُمَّةٌ قائِمَةٌ)} الآية.
قوله عز وجل: {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛} قال ابن عباس:
(لمّا أسلم عبد الله بن سلام ومن معه؛ قالت اليهود: ما آمن بمحمّد إلاّ أشرارنا، فأنزل الله هذه الآية؛ إلاّ أنّها وإن نزلت فيهم فمن حقّ كلّ مسلم أن يكون على هذه الصّفة).ومعنى الآية: يصدّقون بالله وبالبعث بعد الموت. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ؛} أي باتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ؛} أي عن اتّباع الجبت والطّاغوت ومخالفة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
الأعراف 206/.
(2)
الفرقان 60/.
(3)
في الدر المنثور: ج 2 ص 297؛ قال السيوطي: «أخرجه الفريابي والبخاري في تاريخه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم» .
قوله تعالى: {وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ؛} أي يبادرون إلى الطاعات والأعمال الصالحة، {وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ} (114)؛أي من المؤمنين المخلصين وهم أبو بكر وعمر وسائر الصحابة.
قوله عز وجل: {وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ؛} أي فلن تجحدوه، يعني تجزون به وتثابون عليه. قرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائيّ وحفص وخلف:{(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ)} بالياء فيهما إخبارا عن الأمّة القائمة. وقيل: راجع إلى قوله {(الصّالِحِينَ)} . وقرأ الباقون بالتّاء فيهما على الخطاب كقوله {(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)} .قوله تعالى: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (115)؛أي عالم بأعمالهم وثواب أعمالهم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} معناه: إنّ الذين جحدوا بمحمّد والقرآن لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، {وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} (116)؛أي مقيمون دائمون.
قوله عز وجل: {مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ؛} معناه: مثل ما ينفق اليهود في اليهوديّة على رؤسائهم وعلمائهم، وما ينفق أهل الأوثان على أصنامهم في تظاهرهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم وإهلاكهم مال أنفسهم {(كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها)} برد شديد. ويقال:
الصّرّ: صوت لهب النّار الّتي تحرق الزّرع، وقيل: الصّرّ: ريح فيها صوت ونار
(1)
.
قوله تعالى: {(أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ)} أي زرع قوم {(ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)} بالكفر والمعصية، ومنع حقّ الله عليهم {(فَأَهْلَكَتْهُ)} أي أحرقته الريح فلم ينتفعوا منه بشيء في الدّنيا، كذلك من ينفق في غير طاعة الله لا ينتفع بنفقته في الآخرة، كما لا ينتفع صاحب هذا الزّرع من زرعه في الدّنيا. قوله تعالى:{وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ؛} بإهلاك زرعهم؛ {وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (117)؛بمنع حقّ الله فيه وكفرهم ومعصيتهم.
(1)
الصّرّة، بالفتح: الصّيحة. والصّرّ، بالكسر: برد يضرب النبات والحرث. مختار الصحاح: (صرر)
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً؛} نزلت الآية في الأنصار؛ كانوا قد ظاهروا اليهود حتى صار كأنّ بينهم نسبا، وكانوا يواصلونهم ويعاطفونهم حتى كان الرجل من الأنصار يتزوّج فيهم فيختارهم على قومه، فلما جاء الله بمحمّد صلى الله عليه وسلم والإسلام وآمن الأنصار بغضهم اليهود، وكان الأنصار يخالطونهم ويشاورونهم، كما كانوا يفعلون قبل الإسلام للرّضاعة والمصاهرة التي كانت بينهم، فنهى الله الأنصار بهذه الآية وما بعدها.
ومعناها: لا تتّخذوا دخلا من غيركم يعني اليهود. وبطانة الرّجل: خاصّته وأهل سرّه الذين يستبطنون أمره، سمّوا بذلك على جهة التّشبّه ببطانة الثّوب التي تلي جلد الإنسان. وحرف {(مِنْ)} في قوله:{(مِنْ دُونِكُمْ)} للتّبيين؛ أي لا تتّخذوا الذين هم أسافل وأراذل بطانة. قوله تعالى {(لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً)} أي لا يبقون غاية، ولا يتركون الجهد في إلقائكم في الفساد، يقال: ما ألوت في الحاجة جهدا؛ أي ما قصّرت، ونصب {(خَبالاً)} على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين
(1)
،وإن شئت على المصدر
(2)
،وإن شئت بنزع الخافض؛ أي بالخبال. والخبال: الفساد، ومثله الخبل أيضا؛ يقال: رجل خبل الرّأي؛ فاسد الرّأي؛ والانخبال: أي الجنون. وقال مجاهد: (نزلت في قوم مؤمنين كانوا يصافحون المنافقين ويخالطوهم؛ فنهاهم الله عز وجل عن ذلك)
(3)
.
قوله عز وجل: {وَدُّوا ما عَنِتُّمْ؛} أي تمنّوا إثمكم وضرّكم وهلاككم، والعنت في اللّغة: المشقّة، يقال: أكمة عنوت؛ أي طويلة شاقّة المسلك. وقرأ عبد الله:
«(قد بدأ البغضاء من أفواههم)» بالتذكير؛ لتقدّم الفعل؛ ولأن معنى البغضاء: البغض.
قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ؛} أي قد ظهرت العداوة من ألسنتهم بالشّتم والطّعن، {وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ؛} أي وما يضمرون في قلوبهم من القتل لو ظفروا بكم أعظم ممّا أظهروا لكم. قوله تعالى:{قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ؛} أي أخبرناكم بما أخفوا وأبدوا بالدلالات والعلامات، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (118)؛العدوّ من الوليّ.
(1)
أي: (الألو) يتعدى إلى مفعولين.
(2)
أي: يخبلونكم خبالا.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6075) عن ابن عباس، والنص (6076) عن مجاهد.
قوله تعالى: {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ؛} أي أنتم يا هؤلاء المؤمنين تحبّون اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والرّضاع والقرابة والجوار، {(وَلا يُحِبُّونَكُمْ)} لما بينكم وبينهم من مخالفة الدين، هذا قول أكثر المفسّرين. وقال بعضهم: معناه: تحبّونهم؛ أي تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء، ولا يحبّونكم لأنّهم يدعونكم إلى الكفر وهو الهلاك. قوله تعالى:
{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ؛} أي تؤمنون بالتّوراة والانجيل وسائر كتب الله، ولا يؤمنون هم بذلك كلّه، يعني لا يؤمنون بكتابكم.
قوله تعالى: {وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا؛} يعني منافقي أهل الكتاب، إذا لقوهم قالوا آمنّا بمحمّد أنه رسول صادق فيما يقول، {وَإِذا خَلَوْا؛} فيما بينهم؛ {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ؛} أي أطراف الأصابع من الحنق عليكم لما يرون من ائتلافكم وإصلاح ذات بينكم، وهذا مثل ضربه الله لشدّة عداوة اليهود للمؤمنين. وواحد الأنامل: أنملة بفتح الميم وضمّها. قوله تعالى {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ؛} ليس على طريق الإيجاب؛ لأنه لو كان على طريق الإيجاب لماتوا كلّهم من ساعتهم، لكنّ معناه: تموتون بغيظكم ولا تبلغون أمانيّكم من قهر محمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (119)؛ أي عالم بما في القلوب من البغض والعداوة وغير ذلك. وفي الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [لا تستضيئوا بنار المشركين]
(1)
أي لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم.
قوله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها؛} قرأ السلمي: بالياء، ومعنى الآية: إن تصبكم أيّها المؤمنون حسنة بظهوركم على عدوّكم وغلبتكم لهم أو الغنيمة والخصب تسؤهم تلك الحسنة؛ أي تحزنهم؛ يعني اليهود، وإن تصبكم محنة من جهة أعدائكم ونكبة أو جدب يعجبوا بها.
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 99.والنسائي في السنن: كتاب الزينة: باب لا تنقشوا على خواتيمكم عربيا: ج 8 ص 177.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا؛} أي وإن تصبروا على أذى اليهود والمنافقين وتتّقوا معصية الله وتخافوا ربّكم، {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً؛} أي لا يضرّكم احتيالهم لإيقاعكم في الهلاك، {إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (120)؛أي أحاط علمه وقدرته بأعمالكم وبأعمالهم.
قرأ أبو عمرو وابن كثير: «(لا يضركم)» بكسر الضّاد والتخفيف، وهو جزم على جواب الجزاء. وقرأ الضحّاك:«(لا يضركم)» بالضمّ وجزم الراء؛ من ضار يضار يضور. وذكر القرّاء عن الكسائيّ: أنّه سمع بعض أهل العالية يقول: لا ينفعني ولا يضورني. وقرأ الباقون بضمّ الضاد وتشديد الرّاء: من ضرّ يضرّ ضرّا. وفي رفع (يضرّكم) وجهان؛ أحدهما: أنه أراد الجزم؛ وأصله (يضرركم) فأدغمت الراء في الراء، ونقلت ضمّة الراء الأولى إلى الضّاد، وضمّت الراء الأخيرة اتّباعا لأقرب الحركات إليها وهي الضّاد طلبا للمشاكلة، والوجه الثاني: أنّ (لا) بمعنى (ليس)،ويضمر الفاء فيه؛ تقديره: وإن تصبروا فليس يضرّكم، والضّير والضّرّ والضّرر بمعنى واحد؛ قال الله تعالى:{قالُوا لا ضَيْرَ}
(1)
وقال: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ}
(2)
.وقوله تعالى {(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)} أي عالم. قرأ الحسن والأعمش بالتّاء. وقرأ الباقون بالياء.
قوله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ} {الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (121)؛قال مجاهد والكلبيّ: (غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة يمشي على رجليه إلى أحد، وصفّ أصحابه للقتال كما يصفّهم للصّلاة، وذلك أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فلمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم استشار أصحابه؛ فقال أكثرهم: يا رسول الله؛ أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فإن أقاموا هناك أقاموا في شرّ مجلس، وإن دخلوا إلينا قاتلهم الرّجال في وجوههم ورماهم النّساء والصّبيان بالحجارة من فوقهم ورجعوا كما جاءوا، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرّأي. وقال بعض الصّحابة: يا رسول الله؛ أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب
(1)
الشعراء 50/.
(2)
الاسراء 67/.
لا يرون أنّه جبنّا عنهم وضعفا. وأتاه النّعمان بن مالك الأنصاريّ فقال: يا رسول الله؛ لا تحرمني الجنّة، فو الّذي بعثك بالحقّ نبيّا لأدخلنّ الجنّة، فقال له:[بم؟] قال: بأنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي لا أفرّ من الزّحف، فقال:[صدقت] فقتل يومئذ شهيدا.
فقال صلى الله عليه وسلم: [إنّي قد رأيت في منامي أنّ في دبابة سيفي ثلما فأوّلتها هزيمة، ورأيت أنّي أدخل يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة، فكرهت الخروج إليهم، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم، فإن أقاموا أقاموا على شرّ مقام، وإن دخلوا المدينة قاتلناهم فيها] وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا المدينة فيقاتلوا في الأزقّة، فقال رجال من المسلمين ممّن فاتهم يوم بدر وأراد الله لهم الشّهادة يوم أحد: أخرج بنا إلى أعدائنا يا رسول الله، فكره الخروج إليهم وأمر بتبوئة المقاعد للقتال إلى أن يوافيهم المشركون-والمقاعد هي المواطن والأماكن-فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يحثّونه على لقائهم حتّى دخل بيته، فلبس لامته وعزم على الخروج، فندم المسلمون وقالوا: بئسما صنعنا؛ نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه، فقاموا واعتذروا إليه وقالوا: اصنع ما رأيت يا رسول الله، فقال:[لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لامته فيضعها حتّى يقاتل])
(1)
.
وكان قد أقام المشركون بأحد يوم الأربعاء والخميس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة بعد ما صلّى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشّعب من أحد يوم السبت من النّصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة، وكان من أمر حرب أحد ما كان؛ فذلك قوله عز وجل:{(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ)} أي واذكر إذ غدوت من أهلك؛ من عند أهلك من المدينة تهيّئ للمؤمنين مواضع للحرب لقتال المشركين يوم أحد. وقال الحسن: (نزلت هذه الآية في يوم الأحزاب؛ الأكلب:
موضع منها قريب من المدينة).
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6113 و 6114).
قوله عز وجل: {إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما؛} أي أن تجبنا وتضعفا ويتخلّفا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: بنو سلمة من الخزرج؛ وبنو حارثة من الأوس، وكانوا جناحي العسكر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد في ألف رجل، وقيل: في تسعمائة وخمسين رجلا، وقد وعد أصحابه بالنصر والفتح إن صبروا، فلمّا بلغوا إلى بعض الطريق اعتزل عبد الله بن أبي سلول بثلث الناس ورجع بهم، فرجع في ثلاثمائة؛ وقال: علام نقتل أولادنا وأنفسنا، فتبعهم أبو
(1)
جابر وقال:
أنشدكم الله في نبيّكم وأنفسكم، فقال عبد الله: لو نعلم قتالا لاتّبعناكم، وهمّت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف معه، فعصمهم الله تعالى ولم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبّت الله قلوبهما فلم يرجعا، فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته فقال:
{(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما)} أي حافظهما وناصرهما.
وقرأ ابن مسعود: «(وليّهم)؛» لأنّ الطائفة جمع كقوله تعالى: {هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}
(2)
، {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (122)؛في أمورهم.
قال جابر بن عبد الله: (والله ما سرّنا أنّا لم نهمّ بالّذي هممنا به؛ ولقد أخبرنا الله تعالى أنّه وليّنا)
(3)
.
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} . بدر: اسم موضع بين مكّة والمدينة وهو من بلاد غفار، كان وقعة بدر أوّل قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجملة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة وعشرون غزوة، وكان غزوة بدر الخامسة منهنّ؛ قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد عشر غزوة منهنّ بدر الكبرى؛ وأحد؛ والخندق، وغزوة بني قريظة؛ وغزوة بني المصطلق؛ وغزوة بني لحيان؛ وخيبر والفتح؛ وحنين؛ والطائف؛ وتبوك.
(1)
سقط «أبو» من المخطوط. وهو جابر السلمي رضي الله عنه. وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6119).
(2)
الحج 19/.
(3)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب التفسير: تفسير سورة آل عمران: باب (8).والطبري في جامع البيان: النص (6124).
فأمّا بدر الكبرى فكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة اثنتين من الهجرة على رأس تسعة عشر شهرا من هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وغزوة أحد في شوّال سنة ثلاث، والخندق وبني قريظة في شوّال سنة أربع، وبني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس، وخيبر سنة ستّ، والفتح في رمضان سنة ثمان، وحنين والطائف في شوّال سنة ثمان. فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر الكبرى، وآخرها تبوك، وكانت سراياه ستّا وثلاثين سريّة.
ومعنى الآية: {(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ)} وأنتم قليل في العدد، وذلك أنّ المسلمين كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، كان المهاجرون منهم سبعة وسبعين، ومن الأنصار مائتين وستّة وثلاثين، وكان عليّ رضي الله عنه صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعد بن معاذ صاحب راية الأنصار، وكان عدد الكفّار تسعمائة ونيّفا. قوله عز وجل:{فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (123)؛أي أطيعوه فيما يأمركم لتقوموا بشكر النّعم التي أنعمها الله عليكم.
قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} (124)؛وذلك أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يوم أحد بعد انصراف عبد الله بن أبي سلول بثلث الناس: سبعمائة؛ وكان المشركون ثلاثة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ألن يكفيكم أن يمدّكم ربّكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من السّماء]
(1)
.قرأ الحسن ومجاهد وابن عامر «(منزّلين)» بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف.
قوله تعالى: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (125)؛معنى قوله: {(بَلى)} تصديق لوعد الله تعالى، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، {(تَصْبِرُوا)} لعدوّكم مع نبيّكم {(وَتَتَّقُوا)} مخالفته {(وَيَأْتُوكُمْ)} أهل مكّة من وجههم هذا؛ {(يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6151).
{مُسَوِّمِينَ} ) أي معلّمين
(1)
بالصوف الأبيض
(2)
،وقيل: بالأحمر في نواصي الخيل وأذنابها؛ أي بيّن لهم من السّماء معلّمين بهذه العلامة. ويجوز أن يكون معنى {(مُسَوِّمِينَ)} مرسلين من الإسامة وهي الإرسال. ومن قرأ «(مسوّمين)» بكسر الواو فلأنّهم سوّموا خيولهم.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم أحد: [تسوّموا؛ فإنّ الملائكة قد تسوّمت بالصّوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم]
(3)
.وقال قتادة:
(كان على الملائكة يوم بدر سيماء القتال، وكانوا على خيل بلق)
(4)
.وقال ابن عبّاس: (كانت يوم بدر سيماء الملائكة عمائم بيض مرخيّة على أكتافهم)،قال:
(ولم يصبر المؤمنون يوم أحد للقتال إلاّ قليل منهم، ولو صبروا لنزلت عليهم الملائكة وأتاهم ما وعدهم الله، ولكنّهم لم يصبروا، فلم تنزل عليهم الملائكة).قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: «(مسوّمين)» بكسر الواو، وقرأ الباقون بالفتح.
قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ؛} أي ما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلاّ بشارة لكم؛ ولتطمئنّ قلوبكم به، فلا تجزع من كثرة عددهم وقلّة عددكم حتى تثبتوا لأعدائكم. قوله تعالى:{وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (126)؛أي وإن أمدّكم بالملائكة وقوّى قلوبكم، فليس النصر لكثرة العدد وقلّته، ولكنّه {(مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)} أي المنيع في سلطانه، الحكيم في أمره.
وفي الآية بيان أنّ الإنسان لا يستغني في حال من الأحوال عن الله وإن كثر عدده واجتمع ماله. قال ابن عبّاس: (إنّ الملائكة لم يباشروا القتال إلاّ يوم بدر، فأمّا ما سوى ذلك فإنّها تحضر الصّفّ وتكثّره ولا تقاتل).وقال بعض المفسّرين: إنّ الملائكة لم تقاتل أصلا ولم يبعثوا إلاّ بالبشارة، فلو بعثوا للقتال لكان ملك واحد
(1)
في المخطوط: (معلومين).
(2)
ينظر ما نقله الطبري في جامع البيان النص (6172).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6165).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6168).
يكفيهم، كما فعل جبريل عليه السلام يوم لوط. وقال بعضهم: إنّ الملائكة كانت تقاتل وكان علامة ضربهم اشتعال النّار في موضع ضربهم، والله أعلم.
قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ؛} معناه: ينصركم ليقتل ويستأسر جماعة من الذين كفروا بنقضهم ذلك أو بهزمهم، {فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ} (127)؛أي فيرجعوا منقلبين منقطعين عن آمالهم. والكبت: هو الوهن في القلب، ويصرع المرء على وجهه لأجله. ونظم الآية: ولقد نصركم الله ببدر {(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)} أي لكي يهلك طائفة من الذين كفروا. وقال السّدّيّ:
معناه: (ليهدم ركنا من أركان المشركين بالقتل والأسر، فقتل من ساداتهم يوم بدر سبعون وأسر منهم سبعون).
وقوله تعالى: {(فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ)} أي لم ينالوا شيئا ممّا كانوا يرجون من الظّفر بكم. وقوله تعالى {(أَوْ يَكْبِتَهُمْ)} قال الكلبيّ: (أو يهزمهم)،وقال النّضر بن شميل:
(يغيظهم).وقال السديّ: (يلعنهم).وقال أبو عبيدة: (يهلكهم).وقرئ في الشّاذّ: (أو يكبدهم)،يقال: كبده؛ إذا رماه فأصاب كبده، والمكبود: المتلهّف
(1)
.
قوله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ} (128)؛وذلك أنه لمّا شجّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيّته، وقتل سبعون من أصحابه، جعل يمسح الدّم عن وجهه وهو يقول:[كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم، وهو يدعوهم إلى ربهم] وهمّ أن يلعنهم ويلعن الذين انصرفوا مع عبد الله بن أبي سلول، فأنزل الله هذه الآية ينهاه عن اللّعن، وبيّن أنّ فلاحهم ليس إليه وأنه ليس له من الأمر شيء إلاّ أن يبلّغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين
(2)
.
(1)
الملهوف: المكروب؛ والمكبوت: المهزوم، والحزين، بلغ الهمّ كبده،.والكبت والكبد: شدّة الغيظ. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 198.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6192) عن أنس بأسانيد، وعن الحسن مرسل في النص (6193).وحديث أنس أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الجهاد والسير: الحديث (1791/ 104).والترمذي في الجامع: أبواب التفسير: سورة آل عمران: باب (10 و 11).
قال عكرمة وقتادة: (أدمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمئة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد؛ فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّط الله عليه تيسا فنطحه حتّى قتله.
وشجّ عتبة بن أبي وقّاص وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيّته؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فقال: [اللهمّ لا يحول عليه الحول حتّى يموت كافرا] قال: فما حال عليه الحول حتّى مات كافرا، فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.
وقال الكلبيّ: (لمّا شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصيبت رباعيّته؛ همّ أن يلعن المشركين ويدعو عليهم، فأنزل الله هذه الآية لعلمه أنّ كثيرا منهم سيتوبون).يدلّ عليه ما روى أنس أنه قال: لمّا كان يوم أحد شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرن حاجبه، وكسرت رباعيّته، وجرح في وجهه، فجعل يمسح الدّم عن وجهه، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدّم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم وهو يدعوهم إلى ربهم] فأنزل الله هذه الآية
(2)
.
وقال سعيد بن المسيّب: لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيّه وعلت عالية من قريش على الجبل، فقال عليه السلام: [لا ينبغي لهم أن يعلونا] فأقبل عمر رضي الله عنه ورهط من الأنصار حتّى أهبطوهم من الجبل، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وقد ظاهر بين درعين فلم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتّى استوى عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:[أوجب طلحة]
(3)
.
ووقفت هند والنّسوة اللاّتي معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجذعن الآذان والأنوف حتّى اتّخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّا، وبقرت عن كبد حمزة رضي الله عنه فلاكتها؛ فلم تستطع فلفظتها ثمّ علت صخرة مشرفة؛
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (6196).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (6195).
(3)
أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية: ج 3 ص 91 من غير إسناد. والترمذي في الجامع: أبواب الجهاد: الحديث (1692) عن الزبير بن العوام؛ وقال: حديث حسن غريب. وابن حبان في الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: الحديث (6979)،وإسناده صحيح.
فصرخت ثمّ قالت
(1)
:
نحن جزيناكم بيوم بدر
…
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
…
ولا أخي وعمّه وبكري
شفيت صدري وقضيت نذري
…
شفيت وحشيّ غليل صدري
فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ما نزل بأصحابهم من جذع الآذان والأنوف، وقطع المذاكير؛ قالوا: لئن أنالنا الله فيهم لنفعلنّ مثل ما فعلوا؛ ولنمثّلنّ مثلة بهم لم يمثّلها أحد قط، فأنزل الله عز وجل هذه الآية)
(2)
.
وقال عطاء: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد يدعو على بطن من هذيل يقال لهم بني لحيان، وعلى بطن من سليم يقال لهم رعل وذكوان، وكان يقول:[اللهمّ اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف]
(3)
فقحطوا حتّى أكلوا أولادهم، وأكلوا الميتة والعظام المحرّقة، ثمّ أنزل الله هذه الآية.
وعن أبي سالم قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [اللهمّ العن أبا سفيان، اللهمّ العن الحارث بن هشام، اللهمّ العن صفوان بن أميّة].فأنزل الله تعالى {(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)} فأسلموا وحسن إسلامهم)
(4)
.
ومعنى قوله {(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)} أي ليس إليك من الأمر بهواك شيء، وقد تكون اللاّم بمعنى (إلى)،كقوله تعالى:{مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ}
(5)
أي إلى الإيمان، وقوله:{الَّذِي هَدانا لِهذا}
(6)
ونحوه. وقال بعضهم: قوله: {(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)}
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 96 - 97.
(2)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 102.
(3)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 1 ص 65:الحديث (54).والبخاري في الصحيح: كتاب الأذان: باب يهوي بالتكبير حين يسجد: الحديث (804).ومسلم في الصحيح: كتاب المساجد: الحديث (295).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6199).
(5)
النساء 193/.
(6)
الأعراف 43/.
اعتراض بين الكلام؛ وتقدير الآية: ليقطع طرفا من الّذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذّبهم فإنّهم ظالمون؛ ليس لك من الامر شيء، وهذا وجه حسن. وقال بعضهم:(أو بمعنى (حتّى).وقال بعضهم: نصب بإضمار (أن) تقديره: أو أن يتوب عليهم.
قوله عز وجل: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ؛} أي له جميع ما فيهم من الخلائق؛ كلّهم عباد الله وفي ملكه، {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ؛} على الذنب الصغير إذا أصرّ على ذلك، {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (129)؛ في قبول توبتهم، وتأخير العذاب عنهم، وإنّما ختم الله هذه الصفة بالمغفرة والرحمة؛ لأنه وإن كان على التعذيب قادرا، لكن الغالب على أمره ما يريد بخلقه الرحمة والمغفرة.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في أهل الطّائف، كانت بنو المغيرة يربون لهم، فإذا حلّ الأجل وعجزوا عن ذلك، زادوا في المال، وازدادوا في الأجل؛ فنهاهم الله عن ذلك).ومعنى {(مُضاعَفَةً)} :هو أنّ الرجل إذا كان له على آخر مال، فإذا حلّ الأجل طالبه به فيعجز عنه، فيقول المطلوب: أخّر عنّي وأزيدك في مالك، فيفعلان ذلك؛ فنهاهم الله عنه. ومعنى {(أَضْعافاً):} لا تأكلوا أضعاف ما أوتيتموه؛ أي لا تأخذوا إلاّ المثل. ومعنى {(مُضاعَفَةً)} :لا تضعّفوا المال بالزيادة في الأجل.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (130)؛أي اتقوا الله في الرّبا، ولا تستحلّوه لكي تنجوا من العذاب في الآخرة، ثم صارت هذه الآية عامّة في جميع الناس، وإنّما أعاد الله تحريم الرّبا بعد ما ذكره في سورة البقرة لتأكيد التحريم بتصريح النّهي عنه، ويجوز أن يكون المراد في سورة البقرة: ربا النّسيئة؛ وهنا ربا الفضل.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} (131)؛أي اخشوا النار في أكل الرّبا التي خلقت للكافرين بالله، وبتحريم الربا. فإن قيل: إذا كانت النار معدّة للكافرين؛ فكيف يعذّب بها غير الكافرين؟ قيل: فائدة تخصيص الكافرين بالذّكر؛ لأنّهم هم العمدة في إعداد النار لهم وقد يدخلها غير الكافرين على طريق
التّبع، كما قال في الجنّة {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} وإن كان الأطفال والمجانين يدخلونها تبعا للمتقين. وقيل: معناه: واتّقوا النار في استحلال الرّبا، فإنّ من استحلّه فهو كافر.
قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (132)؛ أي أطيعوا الله ورسوله في تحريم الرّبا لكي ترحموا فلا تعذبوا. قوله عز وجل:
{*وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛} معناه بادروا إلى ما يوجب لكم مغفرة من ربكم وهو التوبة. وقال ابن عبّاس: (الإسلام).وقال أبو العالية: (معناه:
سارعوا إلى الهجرة).وقال عليّ رضي الله عنه: (إلى أداء الفرائض).وقال عثمان بن عفّان رضي الله عنه: (إلى الإخلاص) وقال أنس: (إلى التّكبيرة الأولى).وقال سعيد بن جبير:
(إلى أداء الطّاعة).وقال الضحّاك: (إلى الجهاد).وقال عكرمة: (إلى التّوبة).وقال الورّاق: (إلى ائتمار الأوامر والانتهاء عن الزّواجر).وقال سهل بن عبد الله: (إلى السّنّة).وقال بعضهم: إلى الصلوات الخمس. وقال بعضهم: إلى الجمعة والجماعات.
قرأ نافع وابن عامر: «(سارعوا)» بحذف الواو على سبيل الابتداء لا على سبيل العطف
(1)
.
قوله عز وجل: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ؛} قال ابن عبّاس:
(الجنان أربع: جنّة عدن وهي العليا، وجنّة المأوى، وجنّة الفردوس، وجنّة النّعيم، ثمّ في كلّ جنّة منها جنّات عدد نجوم السّماء، قطر المطر كلّ جنّة منها في العرض والسّعة لو ألصقت السّماوات السّبع والأرضون السّبع بعضهنّ ببعض لكانت الجنّة الواحدة أعرض منها)
(2)
.
وإنّما خصّ العرض على المبالغة لأنّ طول كلّ شيء في الغالب أكثر من عرضه، يقول: هذه صفة عرضها فكيف طولها! يدلّ عليه قول الزهريّ: (إنّما
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 203؛ قال القرطبي: «وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام. وقرأ باقي السبعة: (وسارعوا) بالواو. وقال أبو علي: كلا الأمرين شائع مستقيم، فمن قرأ بالواو فلأنه عطف الجملة على الجملة، ومن ترك الواو فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى مستغنية بذلك عن العطف بالواو» .
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 204؛ نقله القرطبي عن الكلبي.
وصف عرضها، فأمّا طولها فلا يعلمه إلاّ الله).وهذا مثل قوله تعالى:{عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}
(1)
فوصف البطانة بأحسن ما يعلم من الزينة، إذ معلوم أن الظواهر تكون أحسن وأنفس من البطائن.
وقال بعض المفسّرين: ليس المراد بهذه الآية التقدير، لكنّ المراد بها أوسع شيء رأيتموه. قال إسماعيل السّدّيّ:(لو كسّرت السّماوات والأرض وصرن خردلا كان بكلّ خردلة لله تعالى عرضها السّماوات والأرض).
قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (133)؛أي خلقت للمتقين الشّرك والمعاصي، فإن قيل: إذا كانت الجنّة عرضها السّماوات والأرض، فأين النار؟ قيل:
إن الله خلق الجنة عالية، والنار سافلة، والشيئان إذا كان أحدهما عاليا والآخر سافلا لا يمتنعان؛ لأنّهما يوجدان في مكانين متغايرين. وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا السّؤال فقال:[سبحان الله! إذا جاء النّهار فأين اللّيل]
(2)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ؛} أول هذه الآية نعت للمتقين، ومعناها: الذين يتصدّقون في حال اليسر والعسر والضرّاء والشدّة والرخاء، يعني أنّهم ينفقون على الدّوام لا يمنعهم قلة المال ولا كثرته عن الإنفاق، فأول ما ذكر الله من أخلاق المتقين الموجبة لهم الجنة: السّخاء؛ قال صلى الله عليه وسلم: [الجنّة دار الأسخياء، والسّخيّ قريب من الله؛ قريب من الجنّة؛ بعيد من النّار، والبخيل بعيد من الله؛ بعيد من الجنّة؛ قريب من النّار.
والجاهل السّخيّ أحبّ إلى الله من العالم البخيل]
(3)
.
قوله تعالى: {(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)} أي الكافين غيظهم عن إمضائه، يردّون غيظهم في أجوافهم ويصبرون، والكظم: الحبس والشّدّ، يقال: كظمت القربة؛ إذا
(1)
الرحمن 54/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (6211).
(3)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 4 ص 1921:الحديث (3042)؛ قال العراقي: «رواه ابن عدي والدارقطني في المستجاد الخرائطي؛ قال الدارقطني: لا يصح، ومن طريقه روى ابن الجوزي في الموضوعات، وقال الذهبي: حديث منكر» .
ملأتها ثمّ شددت رأسها على الامتلاء. والغيظ: هو انتفاض الطّبع ما يكرهه، ولهذا لا يجوز الغيظ على الله وإن كان يجوز عليه الغضب؛ لأنّ الغضب هو إرادة العقاب.
قوله تعالى: {(وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ)} معناه: الذين يعفون عن المذنبين من الأحرار والمملوكين. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من كظم غيظا وهو يقدر على أن ينفذه فلم ينفذه؛ زوّجه الله من الحور العين حيث شاء، وما عفا رجل عن مظلمة إلاّ زاده الله بها عزّا، ولا نقصت صدقة مالا قطّ؛ فتصدّقوا، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلاّ فتح الله عليه باب فقر، وأعظم النّاس عفوا من عفا عن قدرة]
(1)
.
قوله تعالى: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134)؛أي يثني على المحسنين إلى الناس، ويرضى عملهم. قال عيسى عليه السلام: ليس الأحسن أن تحسن إلى من أحسن إليك، ذاك مكافأة! إنّما الأحسن أن تحسن إلى من أساء إليك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ أبا بكر رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل؛ فكان يشتم أبا بكر وهو ساكت والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم، ثمّ ردّ أبو بكر على الرّجل بعض الّذي قال، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله؛ شتمني وأنت تبتسم، فلمّا رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟! فقال: صلى الله عليه وسلم: [إنّك حين كنت ساكتا كان معك ملك يردّ عليه، فلمّا تكلّمت وقع الشّيطان، فلم أكن لأقعد في مقعد فيه الشّيطان]
(2)
.وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [رأيت قصورا مشرفة على الجنّة، فقلت: يا جبريل لمن هذه!؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين].
(1)
أخرج الطبري شطرا منه في جامع البيان: الحديث (6220).وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 5 ص 155:الحديث (415 - 417)،وفي الأوسط: الحديث (1112)،وإسناده حسن عند الترمذي وأبي داود.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 8 ص 118:الحديث (7235).في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 8 ص 190؛قال الهيثمي: «روى أبو داود منه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح» .
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ؛} متصل بقوله {(وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ)} . قال ابن مسعود رضي الله عنه:
قال المسلمون: يا رسول الله؛ كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا، كان أحدهم إذا أذنب ذنبا أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبة على بابه: اجدع أنفك؛ اجدع أذنك؛ افعل كذا افعل كذا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ألا أخبركم بخير من ذلك] وقرأ عليهم هذه الآيات)
(1)
.وقال عطاء: (نزلت في أبي مقبل التّمّار؛ أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا، فقال: إنّ هذا التّمر ليس بجيّد وفي البيت أجود منه، فهل لك فيه؟ فقالت: نعم، فذهب بها إلى بيته وضمّها وقبّلها، فقالت له: اتّق الله سبحانه، فتركها وندم على ذلك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك؛ فنزلت هذه الآية)
(2)
.
وقال ابن عبّاس ومقاتل والكلبيّ: (آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين؛ أحدهما من الأنصار؛ والآخر من ثقيف، فخرج الثّقفيّ في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف الأنصاريّ على أهله، فاشترى لهم لحما ذات يوم، فلمّا أرادت المرأة أن تأخذ منه؛ دخل على إثرها، فدخلت بيتا فتبعها، فاتّقته بيديها، فقبّل ظاهر كفّها، ثمّ ندم واستحيا؛ فانصرف، فقالت له: والله ما حفظت غيبة أخيك؛ ولا والله تنال حاجتك.
فخرج الأنصاريّ ووضع التّراب على رأسه، وهام على وجهه يسيح في الجبال ويتعبّد، فلمّا رجع المسلمون من غزاهم لم ير الثّقفيّ أخاه، فسأل امرأته فقالت: لا كثّر الله في الإخوان مثله، وأخبرته فعله، فخرج الثّقفيّ في طلبه، فسأل عنه الرّعاء في الجبال والفيافي حتّى دلّ عليه، فوافاه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي، فقال: يا فلان؛ قم فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلّ الله أن يجعل لك مخرجا. فأقبل معه حتّى قدم المدينة، فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا توبة لك، أما تعلم أنّ الله يغار
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 326؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن المنذر» .وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6228) بلفظه.
(2)
أبو مقبل التمّار هو نبهان، وكنيته أبو مقبل، ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 209؛وقال: «قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت هذه الآية في نبهان» .
للغازي في سبيله ما لا يغار للمقيم، فقام على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله؛ الذنب الذنب، فقال له مثل ما قال الصّحابة، فخرج يسيح في الجبال؛ لا يمرّ على حجر ولا مدر ولا سهلة حارّة إلاّ تجرّد وتمرّغ فيها، حتّى كان ذات يوم عند العصر نزل جبريل بتوبته بهذه الآية)
(1)
.
ومعناها: {(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا)} كبيرة {(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)} بفعل الصّغيرة مثل النّظرة واللّمس والغمز والتقبيل، ذكروا مقامهم بين يديّ الله وعقابه. وقيل: معناه:
ذكروا اسم الله، فقالوا ربّنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا. وقال السّدّيّ:(قوله: {(فَعَلُوا فاحِشَةً)} يعني الزّنا) وقوله {(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)} قال الكلبيّ: (يعني لما دون الزّنا مثل القبلة واللّمس والنّظرة فيما لا يحلّ).وقيل: {(فَعَلُوا فاحِشَةً)} أي فعلوا الكبائر؛ وقوله {(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)} يعني الصّغار. وقيل: {(فَعَلُوا فاحِشَةً)} فعلا {(أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)} قولا.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ؛} أي ليس أحد يقدر على غفران الذنب إلاّ الله. قوله عز وجل: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135)؛معناه: ولم يقيموا على ما فعلوا من المعصية، فإنّ الاستغفار باللسان بغير ندامة القلب توبة الكذابين. قوله تعالى:{(وَهُمْ يَعْلَمُونَ)} أي يعلمون أنّها معصية، فإنّهم اذا لم يعلموا أنّها خطيئة كان إثما موضوعا عنهم؛ مثل أن يتزوّج أمّه من الرّضاعة أو أخته من الرّضاعة وهو لا يعلم، أو يشتري جارية فيطأها، ثم تستحقّ الجارية كان إثم ذلك موضوعا عنه. وقيل: معناه: وهم يعلمون أنّ لهم ربّا يغفر الذنوب.
قال قتادة: (إيّاكم والإصرار، فإنّما هلك المصرّون الماضون قدما لا ينهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله؛ ولا يتوبون من ذنب أصابوه حتّى أتاهم الموت وهم على ذلك)
(2)
.وقال السّدّيّ: (الإصرار السّكوت وترك الاستغفار)
(3)
.قال صلى الله عليه وسلم: [لا
(1)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 210.وابن عادل الحنبلي في اللباب: ج 5 ص 543 من رواية مقاتل والكلبي.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6232).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6236).
كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار]
(1)
وأصل الإصرار الثبات على الشّيء.
وقال صلى الله عليه وسلم: [من أذنب ذنبا وعلم أنّ له ربّا يغفر الذّنوب؛ غفر له الله وإن لم يستغفر]
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [ما أصرّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرّة، يقول الله تعالى: من علم أنّي ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أبالي]
(3)
.
قوله عز وجل: {أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} (136)؛أي أهل هذه الصّفة ثوابهم ستر من ربهم لذنوبهم؛ وحطّ العقاب عنهم، وبساتين تجري من تحت شجرها وغرفها الأنهار مقيمين دائمين فيها، ونعم أجر التّائبين في التوبة، فوضع عنهم ما كان مكتوبا على بني إسرائيل؛ فإنّه كان إذا أذنب أحدهم يرى توبته مكتوبة على بابه:
اجدع أنفك؛ اجدع أذنك، فوضع ذلك عن هذه الأمّة واكتفى منهم بالنّدم والاستغفار.
قوله تعالى: {(وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)} أي ثواب المطيعين. قيل: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: (يا موسى؛ ما أقلّ حياء من يطمع في جنّتي بغير عمل، يا موسى؛ كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي).وقال شهر بن حوشب: (طلب الجنّة بلا عمل ذنب من الذّنوب).
(1)
أخرجه البيهقي في الشعب: باب في معالجة كل ذنب: الحديث (7268) عن ابن عباس، ولفظه:[لا كبيرة بكبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة بصغيرة مع الإصرار].وفي كشف الخفا: الحديث (3070)؛قال العجلوني: «وأخرجه الطبراني عن أبي هريرة، وزاد فيه: [فطوبى لمن وجد في كتابه استغفارا كثيرا] ولكن في إسناده بشر بن عبيد الفارسي وهو متروك» .
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (4469).في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 1 ص 774:الحديث (986)؛ قال العراقي: «رواه الطبراني في الأوسط من حديث ابن مسعود بسند ضعيف» .وفي الدر المنثور: ج 2 ص 329؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي بكر الصديق» .
(3)
أخرجه الطبري مختصرا في جامع البيان: النص (6237).والبيهقي في شعب الإيمان: الحديث (7099) عن أبي بكر رضي الله عنه.
قوله عز وجل: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (137)؛معناه: {(قَدْ خَلَتْ)} مضت {(مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ)} وهي الطرائق في الخير والشرّ. وقيل: معناه: {(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ)} بإهلاك المكذّبين لرسلنا، فسافروا في الأرض، فانظروا كيف صار آخر المكذّبين بالرّسل والكتب؛ أي اتّعظوا بالآثار التي بقيت منهم في الأرض مثل ديار قوم لوط وعاد وغيرهم.
قوله عز وجل: {هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (138)؛ أي هذا القرآن بيان للناس من الضّلالة وهدى من العمى ونهي للمتقين من الفواحش. والبيان: كلّ ما يظهر به المعنى، والهدى: بيان طريق الرّشد دون طريق الغيّ، والموعظة: ما يدعو إلى فعل الحسنة من ترغيب أو ترهيب.
قوله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ؛} هذا عائد إلى ما تقدّم ذكره من حديث حرب أحد، معناه: لا تضعفوا ولا تجبنوا يا أصحاب محمّد عن قتال عدوّكم لما نالكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة، وكان قتل يومئذ خمسة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطّلب؛ ومصعب بن عمير؛ وعبد الله بن جحش ابن عمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وعثمان بن شمّاس؛ وسعد مولى عتبة، والأنصار سبعون رجلا.
وقوله تعالى: {(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)} أي في الحجّة، وقيل: وأنتم الغالبون في العاقبة؛ أي تكون لكم العاقبة بالنّصر. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (139)؛أي مصدّقين بوعد الله بالنّصر.
قوله عز وجل: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ؛} أي إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسّ القوم قرح مثله يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعون رجلا وأسروا سبعين، وقتل يوم أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعون وجرح سبعون.
وقرأ محمّد بن السّميقع «(قرح)» بفتح القاف والراء على المصدر. وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائيّ وخلف: بضمّ القاف فيهما؛ وهي قراءة ابن مسعود. وقرأ
الباقون بفتح القاف وهي قراءة عائشة رضي الله عنها، وهما لغتان مثل الجهد والجهد، وقال بعضهم:(القرح) بفتح القاف: الجراحات واحدتها قرحة، و (القرح) بالضمّ وجع، يقال: قرح الرجل إذا وجع.
قوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ؛} أي تارة لهم وتارة عليهم، وأدال
(1)
المسلمون على المشركين يوم بدر، حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأدال المشركون يوم أحد، حتى جرحوا سبعين وقتلوا خمسة وسبعين
(2)
.قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعليّ رضي الله عنه يومئذ، وعليه نيّف وستّون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحها بيده وهي تلتئم بإذن الله فكأنّها لم تكن)
(3)
.
قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا؛} بيّن الله عز وجل المعنى الذي لأجله يداول الأيّام بين المؤمنين والكفّار، فقال {(وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا)} معناه:
ليرى من يقيم على الإيمان ممّن لا يقيم؛ فيظهر المؤمن المخلص؛ والذي في قلبه مرض. وقال الزجّاج: (معناه: ليعلم الله علم مشاهدة بعد ما كان علمه علم الغيب؛ لأنّ العلم الّذي علمه الله قبل وقوع الشّيء لا يجب به المجازاة ما لم يقع).وأما الواو في قوله: {(وَلِيَعْلَمَ):} واو العطف على خبر محذوف؛ تقديره: {(وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ)} بضروب من التّدبير، {(وَلِيَعْلَمَ اللهُ)} المؤمنين متميّزين من المنافقين.
وقوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ؛} أي يكرمهم بالشّهادة، وقال بعضهم: معناه: ويجعلكم شهداء على الناس على معاصيهم لإجلالكم وتعظيمكم، ثم قال تعالى:{وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ} (140)؛أي لا يفعل الله ذلك لحب الظالمين، فإنه لا يحبّ الظالمين، وفي هذا بيان أنّ الله لا ينصر الكافرين على المسلمين، إذ النّصرة تدلّ على المحبّة، والله لا يحبّ الكفّار، ولكن قد ينصر المسلمين في بعض الأوقات على الكفّار، وفي بعض الأوقات يكل المسلمين إلى حولهم وقوّتهم لذنب
(1)
في المخطوط: (إذ بل) وهو تصحيف، والصحيح ما أثبتناه.
(2)
ينظر: الطبري في جامع البيان: تفسير الآية: النص (6270 و 6271).
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 219؛ ذكره القرطبي من غير إسناد.
كان حصل منهم، وإنّما جعل الله الدّنيا متقلبة لئلاّ يطمئنّ المسلمون إليها لتقلّبها، ولكنهم يسعون للآخرة الّتي يكون نعيمها إلى الأبد.
قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا؛} معطوف على قوله {(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ)؛} ومعناه: ويطهّر الذين آمنوا من ذنوبهم، يقال: محّصت الشّيء أمحّصه محصا؛ إذا أخلصته من العيب، ومحص الجمل
(1)
يمحص محصا إذا ذهب عنه الوبر لكدّ العمل فصار أملس. قوله تعالى: {وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ} (141)؛أي يعنّيهم ويهلكهم وينقصهم؛ لأنّهم يحتربون فيخرجوا للحرب مرّة أخرى فيستأصلهم، وهذا تأويل مداولة الأيّام.
قوله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ} (142)؛معناه: أظننتم يا معشر المؤمنين {(أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ)} جهاد المجاهدين ولا صبر الصابرين واقعا فيهم مشاهدة، وهذا استفهام بمعنى الإنكار لظنّهم وحسبانهم. قوله تعالى:{(وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ)} أي ولم يعلم الله، يقول الرجل لما يفعل معناه: لم يفعل؛ انضمّ إليه حرف (ما)، وقرأ الحسن «(ويعلم الصّابرين)» بالكسر عطفا على قوله {(وَلَمّا يَعْلَمِ)} وأما قراءة النّصب فهو نصب على الظرف؛ يعني على صرف آخر الكلام عن أوّله على تقدير:
وأن يعلم الصابرين، وهو قول الكوفيّين. وأمّا البصريّون فيسمّونه نصبا على الجمع.
قال الشاعر
(2)
:
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
أي لا يكن منك النّهي عن خلق مع إتيان مثله، ويقال: لا تأكل السّمك وتشرب اللّبن؛ أي لا يكون منك الجمع بينهما.
(1)
في المخطوط: (الجهل)،والصحيح كما أثبتناه. وفي رواية الزجاج:«محص الحبل محصا؛ إذا انقطع وبره» . نقلها القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 220.ورواها النقاش: «محص الحمل؛ إذا ذهب وبره وأملس»،نقلها ابن عادل في اللباب: ج 5 ص 560،والمعنيان واضحان.
(2)
البيت لأبي الأسود الدؤلي، ظالم بن عمرو (1 ق. هـ-69 هـ).
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (143)؛قال ابن عبّاس: (ذلك لمّا أخبرهم الله على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم ما فعل شهداؤهم يوم بدر من الكرامة والثّواب في الجنّة رغبوا في ذلك وقالوا: اللهمّ أرنا قتالا لعلّنا نستشهد به فنلحق بإخواننا في الجنّة، فأراهم الله تعالى يوم أحد فلم يثبتوا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم وانهزموا إلاّ من شاء الله منهم ممّن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقتل بعضهم وجرح بعضهم؛ فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: ولقد كنتم تمنّون الموت بعد وقعة بدر من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد؛ {(فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)} إلى السّيوف فيها الموت، وهذا تعيير لهم لفشلهم عند الحرب مع صدق رغبتهم في الشّهادة. ومعنى {(فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ)} رأيتم أسبابه.
قوله عز وجل: {وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ؛} الآية، قال المفسّرون: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد حتى نزل بالشّعب من أحد في سبعمائة رجل، وأمّر عبد الله بن جبير من بني عمرو بن عوف على الرّماة وهم خمسون رجلا، وقال:[أقيموا بأصل الجبل وأنضحوا عنّا بالنّبل لا يأتون من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا من مكانكم، فإنّا لا نزال غالبين ما ثبتّم مكانكم] فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدّفوف ويقلن الأشعار، وكانت هند تقول:
نحن بنات طارق
…
نمشي على النّمارق
إن تغلبوا نعانق
…
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم، وقتل عليّ بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء المشركين، وأنزل الله نصره على المؤمنين.
قال الزّبير: فرأيت هندا وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل، فلما نظرت الرّماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ينتهبون الغنيمة؛ أقبلوا يريدون النّهب واختلفوا فيما بينهم، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم:
ما بقي في الأمر شيء. ثم انطلق عامّتهم ولحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد بن الوليد قلّة الرّماة واشتغال المسلمين بالغنيمة؛ صاح في المشركين ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثيّ
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيّته فشجّه في وجهه وأنفه، وتفرّق عنه أصحابه صلى الله عليه وسلم.
وكان مصعب بن عمير يذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل، فظنّ قاتله أنه قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فنادى: قتلت محمّدا، وأقبل عبد الله بن قميئة يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال:
إنّي قتلت محمّدا؛ وصرخ إبليس لعنه الله: ألا إنّ محمّدا قد قتل. وانكفأ الناس عنه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس:[إليّ عباد الله؛ إليّ عباد الله] فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه وكشفوا المشركين عنه، وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست وبها كان يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عينيّ قتادة بن النّعمان حتى وقعت على وجنته؛ فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فعادت أحسن ما كانت.
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحيّ وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فقال القوم: ألا يعطف عليه رجل منّا يا رسول الله؟! فقال: [دعوه].
حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصّمّة؛ ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده
(2)
عن نفسه وهو يخور كما يخور الثّور، وهو يقول: قتلني محمّد، وحمله أصحابه وقالوا له: ليس عليك بأس، قال: لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم، أليس قال:[أقتلك] فلو بزق عليّ بعد تلك المقالة قتلني، فلم يلبث إلاّ يوما حتّى مات.
وكان أبيّ قد قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل هذا: عندي فرس أعلفها كلّ يوم فرقا من ذرّة أقتلك عليها، فقال صلى الله عليه وسلم:[بل أنا أقتلك إن شاء الله] فأصدق الله قول نبيّه صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(1)
في المخطوط: (ابن قمئة الحارثي).
(2)
هكذا رسمها في المخطوط. وفي كتب السيرة: (فتدأدأ).وهدهد: حدر الشيء من علوّ إلى سفل. وتدأدأ: تقلّب عن فرسه فجعل يتدحرج.
(3)
السيرة النبوية لابن هشام: غزوة أحد: قتل أبي بن خلف: ج 3 ص 89.
وفشا في الناس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان؟! وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النّفاق: إن كان قد قتل محمّد فالحقوا بدينكم الأوّل، فقال أنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك: يا قوم؛ إن كان محمّد قد قتل؛ فإنّ ربّ محمّد حيّ لم يقتل وهو الله عز وجل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقاتلوا على ما قاتل عليه؛ وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء القوم-يعني المسلمين-وأبرأ ممّا جاء به هؤلاء المنافقون. ثم حمل سيفه فقاتل حتّى قتل
(1)
.
ثم إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، وأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك، قال: عرفت عينه تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين؛ أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار إليّ: أن اسكت، فانحازت الطائفة إليه من أصحابه فلامهم على الفرار، فقالوا: يا رسول الله؛ أتانا الخبر بأنّك قتلت؛ فرغبت قلوبنا فولّينا مدبرين. فأنزل الله تعالى هذه الآية {(وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)}
(2)
.
أكرم الله محمّدا صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم اشتقّ من اسمه المحمود، فسمّاه محمّدا وأحمد، وفيه يقول حسّان:
ألم تر أنّ الله أرسل عبده
…
ببرهانه والله أعلى وأمجد
شقّ له من اسمه ليجلّه
…
فذو العرش محمود وهذا محمّد
نبيّ أتانا بعد يأس وفترة
…
من الدّين والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله نورا منيرا وهاديا
…
يلوح كما لاح الصّقيل المهنّد
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 88.وأخرجه الطبري في جامع البيان عن السدي مسندا: النص (6309).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6309).
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا سمّيتم محمّدا فأكرموه ووسّعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها، وما من قوم كانت لهم مشورة؛ فحضر معهم من اسمه محمّد وأحمد فأدخلوه في مشورتهم إلاّ خار الله لهم، وما من يد وضعت مخصرها من كان اسمه محمّدا وأحمدا إلاّ قرّس
(1)
في كلّ يوم ذلك المنزل مرّتين]
(2)
.قوله تعالى: {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} معناه:
أفإن مات على فراشه، أو قتل في طاعة الله رجعتم إلى دينكم الأوّل وقلتم: إن كان نبيّا لما قتل.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً؛} أي من يرجع إلى دينه الشّرك فلن ينقص من ملك الله شيئا ومن سلطانه، وإنّما يضرّ نفسه، {وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ} (144)؛أي المؤمنين المجاهدين، وإنّما سمي الارتداد انقلابا على العقب؛ لأن الردّة رجوع إلى أقبح الأديان، كما أنّ الانقلاب على القهقرى أقبح ما يكون من المشي. ويسمّى المطيع شاكرا؛ لأن الطّاعات كلّها شكر لله عز وجل.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (لمّا توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر رضي الله عنه وقال: إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وإنّ رسول الله لم يمت، والله ليرجعنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطّعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنّه مات، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حين بلغه الخبر؛ فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجّى بردة؛ فكشف عن وجهه ثمّ انكبّ عليه فقبّله؛ وقال:
بأبي أنت وأمّي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أمّا الموتة الّتي كتبها الله عليك فقد دقتها، ثم ردّ
(1)
القرس: المقرور إذا لم يستطع عملا بيده من شدّة الخصر-أي من شدة البرد-و (الخصر) البرد، (وخصر) الرجل إذا آلمه البرد في أطرافه. لسان العرب.
(2)
من مجموعة أحاديث؛ في كنز العمال: النص (45224)؛قال الهندي: «أخرجه ابن عدي وابن عساكر عن علي، قال ابن عدي: حديث غير محفوظ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات» . وفي الفوائد: ص 328؛ قال الإمام الشوكاني: «فيه متهم بالوضع، وفي معناه رويت أحاديث أخر لا تصح» .
الثّوب على وجهه وخرج، فإذا هو بعمر يكلّم النّاس، فقال له: على رسلك يا عمر؛ أنصت، فأبى إلاّ أن يتكلّم، فلمّا رآه أبو بكر لا ينصت؛ أقبل على النّاس؛ فحمد الله وأثنى عليه؛ وقال: أيّها النّاس؛ من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت، ثمّ تلا هذه الآية {(وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)} قال عمر: ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر يتلوها إلاّ عقرت حتّى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي؛ وعرفت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات)
(1)
.
قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً؛} قال الأخفش: (اللاّم في النّفس منقولة)،تقديره: وما كانت نفس لتموت إلاّ بإذن الله، كتب الله عز وجل {(كِتاباً مُؤَجَّلاً)} أي إلى أجل لرزقه وعمره، فكلّ نفس لها أجلّ تبلغه ورزق تستوفيه؛ لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره. في هذه تحريض للمؤمنين على القتال؛ أي لا تتركوا الجهاد خشية الموت والقتل؛ فإنّهم لم يملكوا قتلكم.
وانتصب قوله {(كِتاباً مُؤَجَّلاً)} على المصدر كقوله تعالى: {وَعْدَ اللهِ حَقًّا}
(2)
(3)
و {صُنْعَ اللهِ}
(4)
(5)
.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها؛} يعني من يرد بعمله وطاعته المدحة والرّياء لا يحرم حظّه المقسوم له في الدّنيا من غير أن يكون له حظّ في الآخرة، يعني نؤته من الدّنيا ما شاء ممّا قدّرنا له، نزل ذلك في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها؛} أي من يرد بعمله الآخرة نعطه منها ما نقسم له في الدّنيا من الرّزق، نزل في الذين
(1)
في الدر المنثور: ج 2 ص 337؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن المنذر عن أبي هريرة» .وعن عائشة رضي الله عنها؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (3667 و 3668).
(2)
النساء 122/.
(3)
الكهف 82/،والقصص 46/،والدخان 6/،وغيرها.
(4)
النمل 88/.
(5)
النساء 24/.
ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا
(1)
.قوله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ} (145)؛أي المطيعين، يجزيهم الجنّة في الآخرة. وقرأ الأعمش:
«(وسيجزي الشّاكرين)» بالياء، يعني الله عز وجل.
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ؛} قرأ الحسن وأبو جعفر: «(وكاين)» مقصورا من غير همز ولا تشديد حيث وقع. وقرأ مجاهد وابن كثير ممدودا مهموزا خفيفا على وزن فاعل. وقرأ الباقون مشدّدا مهموزا على وزن كعيّن، وكلّها لغات صحيحة بمعنى واحد. ومعناه: وكم من نبيّ قاتل معه جماعات كثيرة، {فَما وَهَنُوا؛} أي فما فرّوا فيما بينهم {لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ؛} في طاعة الله، {وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا؛} أي ما جبنوا عن قتال عدوّهم وما خضعوا لعدوّهم؛ {وَاللهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ} (146)؛على قتال عدوّهم لدين الإسلام.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «(قتل معه)» .وقرأ الباقون: {(قاتَلَ مَعَهُ)} ،لقوله {(فَما وَهَنُوا)} ويستحيل وصفهم بقلّة الوهن بعد ما قتلوا.
وأمّا تأويل قتله فله ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يكون القتل واقعا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؛ وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله (قتل)،ويكون هناك إضمار، وتقديره: و (معه ربيّون كثير).والثّاني: أن يكون القتل بالنبيّ ومن معه من الرّبيّين، ويكون معناه: قتل بعض من كان معه. يقول العرب: قتلنا بني تميم؛ وإنّما قتل بعضهم. وقوله {(فَما وَهَنُوا)} راجع إلى الباقين. والثالث: أن يكون القتل للرّبيّين لا غير.
(1)
عبد الله بن جبير بن النعمان، أمير الرماة على جبل أحد، أخو بني عمرو بن عوف؛ وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلا. قال السهيلي:«قال ابن عباس: هو الذي كان أميرا على الرماة؛ وكان أمرهم أن يلزموا مكانهم، ولا يخالفوا أمر نبيهم، فثبتت معهم طائفة، فاستشهد واستشهدوا، وهم الذين أرادوا الآخرة، وأقبلت طائفة على أخذ المغنم وأخذ السلب، فكرّ عليهم العدو وكانت المصيبة» . السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 70 و 120 و 130.
وقوله تعالى {(رِبِّيُّونَ):} قرأ ابن مسعود والحسن وعكرمة: «(ربيّون)» بضمّ الراء، وقرأ الباقون بالكسر وهي لغة فاشية، وهي جمع الرّبّة
(1)
وهي الفرقة. قال ابن عبّاس ومجاهد وقتادة والسّدي: (جموع كثيرة).وقال ابن مسعود: (الرّبيّون: الألوف).وقال الضحّاك: (الرّبيّة الواحدة ألف).وقال الكلبيّ: (الرّبيّة الواحدة عشرة آلاف).وقال الحسن: (الرّبيّون هم العلماء الفقهاء الصّبراء).وقال ابن زيد: (الرّبّانيّون الولاة، والرّبيّون الرّعيّة).وقال بعضهم: الرّبيّون الذين يعبدون الرّبّ، كما ينسب البصريّون إلى البصرة. وقيل: الرّبيّون المنيبون إلى الله تعالى.
قوله تعالى: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا؛} حكاية قول الرّبيّين؛ أي ما كان قولهم عند قتالهم (إلاّ أن قالوا: ربّنا اغفر لنا ذنوبنا) الصغائر والكبائر. والإسراف في اللغة: مجاوزة الحدّ بارتكاب الذّنوب العظام
(2)
.قوله تعالى: {وَثَبِّتْ أَقْدامَنا؛} أي ثبتها للقتال بتقوية قلوبنا. {وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (147)؛أي أعنّا عليهم بإلقاء الرّعب في قلوبهم أي هلاّ قلتم أيّها المؤمنون كما قال الرّبيّون؛ وهلاّ قاتلتم كما قاتلوا.
قرأ الأعمش: «(وما كان قولهم)» بالرفع على أنه اسم (كان) والخبر ما بعد (إلاّ).وقرأ الباقون بالنصب على خبر (كان)،والاسم ما بعد (إلاّ) كما في قوله:
{وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَنْ قالُوا}
(3)
و {ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا}
(4)
ونحوهما.
قوله تعالى: {فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ؛} أي أعطاهم الله النصر والغنيمة والفتح والثناء الحسن في الدنيا؛ والجنّة في الآخرة.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 230؛ قال القرطبي: «يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح: ربّة وربّة» .
(2)
في جامع البيان: تفسير الآية؛ قال الطبري: «وأما الإسراف: فإنه الإفراط في الشّيء، يقال منه: أسرف فلان في هذا الأمر، إذا تجاوز مقداره فأسرف، ومعناه هنا: اغفر لنا ذنوبنا
…
».
(3)
الأعراف 82/.
(4)
الجاثية 25/.
{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (148)؛أي المجاهدين. وفي الآية دلالة: أنه قد يجوز اجتماع الدّنيا والآخرة لواحد، وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال:(من عمل لدنياه أضرّ بآخرته، ومن عمل لآخرته أضرّ بدنياه، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام)
(1)
.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا؛} يعني اليهود والنصارى فيما يقولون لكم أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم لو كان حقّا لما ظهر عليه المشركون، {يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؛} أي دين الشّرك، {فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} (149)؛أي فترجعوا مغبونين إلى دينكم الأوّل؛
{بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ؛} أي وليّكم وناصركم، {وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ} (150)؛ المانعين من الكفّار، لأنّ أحدا لا يقدر أن ينصر كنصره، ولا أن يدفع كدفاعه. وقرئ في الشواذّ:«(بل الله)» بالنصب على معنى: بل أطيعوا الله.
قوله تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً؛} قال السّدّيّ: (ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجّهين نحو مكّة، فلمّا بلغوا بعض الطّريق ندموا؛ وقالوا: بئس ما صنعنا؛ قتلناهم حتّى لم يبق منهم إلاّ اليسير ثمّ تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلمّا عزموا على ذلك؛ ألقى الله الرّعب في قلوبهم حتّى رجعوا عمّا همّوا به-وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله تعالى-فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
وقرأ أبو أيّوب: «(سيلقي)» بالياء يعني (الله مولاكم).وقرأ الباقون بالنّون على التّعظيم؛ أي سنقذف في قلوب الذين كفروا الخوف، وثقّل «(الرّعب)» ابن عامر والكسائيّ، وخفّفه الآخرون. قوله تعالى:{(بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ)} بإشراكهم بالله ما لم ينزّل به كتابا فيه عذر وحجّة لهم. وقيل: معنى قوله {(سُلْطاناً)} أي حجّة وبيانا وبرهانا.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: من حديث سعيد بن جبير: ج 7 ص 201:النص (35262).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6355).
قوله تعالى: {وَمَأْواهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ} (151)؛ أي مصيرهم في الآخرة النار، وبئس مقام الظالمين النار في الآخرة. وروي في الخبر: أنّ أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [اللهمّ إنّه ليس لهم أن يعلونا] فمكث أبو سفيان ساعة، ثمّ قال: أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطّاب؟ أين محمّد؟ فقال عمر رضي الله عنه: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو بكر، وها أنا عمر، فقال أبو سفيان: نشدتك الله يا ابن الخطّاب؛ أمحمّد في الأحياء؟ قال: إي والله يسمع كلامك، فقال: أين الموعد؟ يعني أين نحارب بعد هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [قل: ببدر الصّغرى].وكانت وقعة بدر الصّغرى بعد أحد بسنة، فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبدر الصّغرى على الموعد، ورعب المشركون فلم يتجاسروا على الحضور
(1)
.
وروي أنّ أبا سفيان ركب الجبل يوم أحد فقال: اعل هبل؛ اعل هبل! فقال عمر رضي الله عنه: الله أعلى وأجلّ، فقال أبو سفيان: يوم بيوم؛ وإنّ الأيّام دولة والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء
(2)
قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النّار
(3)
.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ؛} وذلك: أنّه لمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم، قال أناس منهم: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النّصر؟! فأنزل الله هذه الآية {(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ)} الذي وعد بالنصر والظّفر يوم أحد وهو قوله: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا}
(4)
الآية
(5)
.
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: غزوة بدر الآخرة: ج 3 ص 220.
(2)
لا سواء؛ أي لا نحن سواء. قال السهيلي: «ولا يجوز دخول (لا) على اسم مبتدأ معرفة إلا مع التكرار، ولكنه جاز في هذا الموضع، لأن القصد فيه إلى نفي الفعل؛ أي لا نستوي» .
(3)
السيرة النبوية لابن هشام: شماتة أبي سفيان بالمسلمين بعد أحد: ج 3 ص 99.
(4)
آل عمران 120/.
(5)
عن محمد بن كعب القرظي؛ ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 233.واللباب في علوم الكتاب: ج 5 ص 598.
وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للرّماة: [لا تبرحوا من مكانكم]
(1)
،وكان صلى الله عليه وسلم قد جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة، وأقام الرّماة فيما يلي خيل المشركين، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير الأنصاريّ، وقال لهم:[احموا ظهورنا، وإن رأيتمونا قد عشنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا].وأقبل المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرّماة يترشّقون خيل المشركين بالنّبل، والمسلمون يضربونهم بالسّيف؛ حتّى ولّوا هاربين وانكشفوا مهزومين، فذلك قوله {(إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ)} أي تقتلونهم قتلا ذريعا شديدا في أوّل الحرب بأمره وعلمه {(حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ)} أي إلى أن فشلتم جعلوا (حتى) بمعنى (إلى) فحينئذ لا جواب له، وقيل (حتى) بمعنى: فلمّا، وفي الكلام تقديم وتأخير.
قالوا: وفي قوله {(وَتَنازَعْتُمْ)} مقحمة تقديره: حتّى اذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم؛ أي جبنتم وضعفتم. وكان {(تَنازَعْتُمْ)} أنّ الرّماة لمّا انهزم المشركون وقع المسلمون في الغنائم؛ قالوا: قد انهزم القوم وأمنّا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير من الصّحابة دون العشرة؛ قيل: ثمانية، وانطلق الباقون ينتهبون، فلمّا نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك؛ حملوا على الرّماة من قبل ذلك الشّعب في مائتين وخمسين فارسا من المشركين، وكان خالد يومئذ مشركا؛ فقتل عبد الله بن جبير ومن بقي معه من الرّماة، وأقبلوا على المسلمين من خلفهم، وتفرّق المسلمون وانتقضت صفوفهم واختلطوا، وحمل عليهم المشركون حملة رجل واحد، وصار المسلمون من بين قتيل وجريح ومنهزم ومدهوش
(2)
،ونادى إبليس: ألا إنّ محمّدا قد قتل، فذلك قوله تعالى:{(حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ)} أي لمّا اختلفتم في الأمر الذي أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثبات على المركز، وعصيتم الرسول من بعد ما أراكم ما تحبّون من النّصر على عدوّكم والظفر والغنيمة. قال بعض المفسّرين: جواب {(إِذا فَشِلْتُمْ)} هاهنا مقدّر، كأنه قال: إذا فشلتم وتنازعتم امتحنتم بما رأيتم من القتل والبلاء.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6309 و 3656).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6358).
قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ؛} معنى: من الرّماة من يريد الحياة؟ وهم الذين تركوا المركز ولم يثبتوا فيه ووقعوا في الغنائم، {(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)} يعني: الذين ثبتوا في المركز مع عبد الله بن جبير وباقي الرّماة حتّى قتلوا. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما شعرنا أنّ أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدّنيا وعرضها حتّى كان يوم أحد)
(1)
.
قوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ؛} أي صرفكم الله عن المشركين بالهزيمة ليبتليكم، قيل: المراد بالصّرف في هذه المواضع رفع النّصر. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ؛} أي لم يعاقبكم عند ذلك فلم تقتلوا جميعا. وقال الكلبيّ: (تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم)، {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (152)؛أي ذو منّ عليهم بالعفو والتّجاوز.
قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ؛} راجع إلى قوله {(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ)} لأنّ عفوه عنهم لا بدّ أن يتعلّق بذنب منهم؛ وذلك الذنب ما بيّنه بقوله {(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ)} أي ولقد عفا عنكم {(إِذْ تُصْعِدُونَ)} أي إذ تبعدون هربا في الأرض بالهزيمة. والإصعاد:
السّير في مستوى الأرض.
وقرأ الحسن وقتادة: «(تصعدون)» بفتح التاء والعين
(2)
.قال أبو حاتم: يقال:
أصعدت؛ إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت؛ إذا رقيت على جبل أو غيره.
والإصعاد: السّير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشّعاب. والصّعود: الارتفاع على الجبل والسّطوح والسّلالم والمدرج، وكلا القراءتين صواب. وقد كان يومئذ منهم
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6385 و 6386).وفي الدر المنثور: ج 2 ص 349؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن بسند صحيح» .أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 2 ص 237:الحديث (1421).
(2)
ذكرها الطبري في جامع البيان: تفسير الآية: بصيغة التحريض.
صاعد مصعد؛ أي صاعد إلى الجبل، ومصعد هارب على وجهه، والرّسول يدعوهم:
[إليّ يا معشر المسلمين؛ ويا أصحاب البقرة وآل عمران أنا رسول الله]
(1)
فلم يلتفت إليه منهم أحد حتّى أتوا على الجبل. ويحتمل أنّهم ذهبوا في بطن الوادي أوّلا؛ ثمّ صعدوا الجبل، فلا تنافي حينئذ بين القراءتين.
قوله تعالى: {(وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ)} أي لا تعرّجون ولا تقيمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقيم بعضكم على بعض ولا يلتفت بعضكم إلى بعض. وقرأ الحسن:
«(ولا تلون)» بواو واحدة، كما يقال: استحيت واستحييت. قال الكلبيّ: (يعني بقوله {(عَلى أَحَدٍ)} النّبيّ صلى الله عليه وسلم.قوله تعالى: {(وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ)} أي من خلفكم، وذلك أنّه لمّا انهزم المسلمون لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ ثلاثة عشر رجلا، خمسة من المهاجرين: أبو بكر؛ وعليّ؛ وعبد الرّحمن بن عوف؛ وطلحة بن عبد الله؛ وسعد، وثمانية من الأنصار.
قوله تعالى: {(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ)} أي جزاكم غمّا متّصلا بغمّ؛ فأحد الغمّين الهزيمة وقتل أصحابهم، والثّاني: إشراف خالد في فم الشّعب مع خيل المشركين. وقيل: الغمّ الأوّل: هو القتل والجراح، والثاني: سماعهم بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قتل؛ فأساءهم الغمّ الأوّل بقوله {(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ)} أي إذ أنالكم غمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نلتم به كل غمّ من فوت الغنيمة والهزيمة.
وقيل: معناه: من ترادفت عليه الغموم واعتاد في ذلك يقلّ حزنه وتأسّفه على ما يفوته من الدّنيا.
وقال الزجّاج: (معنى قوله {(غَمًّا بِغَمٍّ)} أي جزاكم غمّا بما غممتم النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمفارقة المكان الذي أمركم بحفظه).وقال الحسن: (معنى هذا الغمّ بغمّ المشركين يوم بدر).ويقال: {(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ)} متّصل بقوله {(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ)،} وقيل: معناه: {(لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ)} بمعنى الغنيمة والفتح. {(لا ما أَصابَكُمْ):}
(ما) في موضع خفض؛ أي ولا ما أصابكم من القتل والهزيمة. وقال بعضهم: (لا)
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6398) بلفظ: [إليّ عباد الله].
زائدة؛ معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم؛ عقوبة لكم في خلافكم وترككم المركز. قوله تعالى: {وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (153)؛أي عالم بأعمالكم من اغتمام المسلمين وشماتة المنافقين.
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً؛} الآية؛ وذلك أنّه لمّا افترق الفريقان؛ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا رضي الله عنه في إثر المشركين وقال له:
[انظر؛ فإن هم جنبوا الخيل وركبوا الإبل فهم يريدون مكّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة]
(1)
.فخرج عليّ في إثرهم فإذا هم ركبوا الإبل وقادوا الخيل، فرجع عليّ رضي الله عنه وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعتهم يقولون إنّا قد اجتمعنا لنحارب ثانيا، فقال صلى الله عليه وسلم:[كذبوا؛ فإنّهم أرادوا الانصراف إلى مكّة] فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمن المسلمون، وألقى الله عليهم النّوم؛ فما بقي منهم أحد إلاّ وقد ضرب ذقنه صدره؛ إلاّ معتّب بن قشير وأصحابه الّذين كانوا يشكّون في أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لمّا علم الله من باطنهم خلاف ما علم من باطن المؤمنين منعهم ما أعطى المؤمنين؛ فتردّدوا في الخوف على أنفسهم وسوء الظّنّ بربهم؛ يئسوا من نصره وشكّوا في صادق وعده وصادق عهده.
ومعنى الآية: {(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ)} الذي كنتم فيه أمنا. قوله:
{(نُعاساً)} بدل من {(أَمَنَةً)} أي أمّنكم أمنا تنامون معه؛ لأنّ الخائف لا ينام، ومن هنا قال ابن مسعود رضي الله عنه:(النّعاس في الصّلاة من الشّيطان، وفي القتال من الرّحمن)
(2)
.
قوله تعالى: {يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ؛} قرأ الأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف: (تغشى) بالتاء؛ ردّوه إلى الأمنة، وقرأ الباقون بالياء؛ ردّوه إلى النّعاس؛ لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أوفى منه ممّا بعد منه، وهذا قوله تعالى:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى}
(3)
بالياء والتّاء، والمراد بالطائفة التي غشيهم النّعاس أهل الصدق
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6419).
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: كتاب الجهاد: النص (19387) بلفظ: «النعاس عند القتل أمنة من الله، وعند الصلاة من الشيطان، وتلا الآية» .
(3)
القيامة 37/.
واليقين. قال أبو طلحة رضى الله عنه: (رفعت رأسي يوم أحد؛ فجعلت ما أرى أحدا من النّاس إلاّ وهو يميل تحت حجفته من النّعاس)
(1)
قال أبو طلحة: (كنت ممّن أنزل الله عليه النّعاس يومئذ؛ وكان السّيف يسقط من يدي ثمّ آخذه؛ ثمّ يسقط من يدي ثمّ آخذه)
(2)
.
والمراد بقوله تعالى: {وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ؛} المنافقون: معتّب ابن قشير وأصحابه أمرتهم أنفسهم وحملتهم على الغمّ
(3)
،يقال لكلّ من خاف وحزن في غير موضع الحزن والخوف: أهمّته نفسه.
قوله: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ؛} يعني هذه الطائفة التي قد أهمّتهم أنفسهم؛ يظنّون بالله أن لا ينصر محمّدا وأصحابه، وقيل: ظنّوا أنّ محمّدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، وقوله تعالى:{(ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ)} أي كظنّ أهل الجاهليّة والشّرك، وقيل:
كظنّهم في الجاهليّة، {يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؛} أي ما لنا من الأمر من شيء، لفظة استفهام ومعناها: الجحد؛ يعنون النّصر. وقيل: معناه: هل نطمع أن يكون لنا شيء من الظّفر والدولة. وقيل: معناه: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، ولكن أخرجنا إلى القتال مكرهين.
قوله تعالى: {قُلْ،} لهم يا محمّد: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ،} إن النّصر والظّفر والدولة كلّ ذلك لله عز وجل.
من نصب {(كُلَّهُ)} جعله توكيدا للأمر، ومن رفعه جعله خبر {(إِنَّ)} . قرأ أبو عمرو ويعقوب «(كلّه)» بالرفع على الإبتداء؛ وخبره {(بِاللهِ)،} وهذا المبتدأ وخبره خبر ل {(إِنَّ)} .
وقرأ الباقون بالنّصب.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6421).
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: الحديث (4068).
(3)
أخرج الطبري في جامع البيان: النص (6437)؛ قال: «عن الزبير؛ قال: والله إني لأسمع قول معتّب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا» .
وروى الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله {(يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ):}
(يعني التّكذيب بالقدر) لأنّهم تكلّموا بالقدر فقال الله تعالى: {(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ)} يعني القدر خيره وشرّه من الله؛ وهو قولهم: (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا).
وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول ما خرجنا مع محمّد لقتال أهل مكّة؛ ولم يقتل رؤساؤنا، فقال الله:{(قُلْ)} لهم: {(لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ)} أي لخرج الذين قضي عليهم القتل (إلى مضاجعهم) إلى مصارعهم.
قوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ؛} أي المنافقون يسرّون ويضمرون في قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم؛ {يَقُولُونَ؛} سرّا:
{لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ،} من النّصر والدولة، {شَيْءٍ،} وكان دين محمّد حقّا، {ما قُتِلْنا هاهُنا،} ما قتل أصحابنا هنا في اتّباعه. وقيل: معناه: لو لم يخرجنا رؤساؤنا إلى الحرب {(ما قُتِلْنا)} .
قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ؛} أي قل للمنافقين: لو تخلّفتم أنتم في بيوتكم، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ؛} لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى مصارعهم ومواضع قتلهم لا محالة لنفوذ قضاء الله. ويقال: معناه: لو كنتم في بيوتكم لما أخطأكم ما كتب عليكم. وقيل: معناه: لو كنتم أيّها المنافقين في بيوتكم لبرز الذين فرض عليهم القتال وهم المؤمنون المخلصون إلى مواضع القتال صابرين محتسبين. قرأ أبو عبلة: لبرّز بضمّ الباء وتشديد الراء. قرأ قتادة: «(القتال)» .
قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ؛} أي وليختبر الله ويظهر ما في قلوبكم بأعمالكم؛ لأنه علمه غيبا فيعلمه مشاهدة.
ومعنى {(وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ)} أي يبيّن ما في قلوبكم، فيذهب نفاق من شاء منكم، {وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (154)؛أي بما في القلوب من خير وشرّ.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا؛} أي إنّ الذين انهزموا منكم يا معشر المؤمنين يوم التقى الجمعان؛ جمع المسلمين وجمع المشركين، إنّما استزلّهم الشيطان عن أماكنهم ببعض ما كسبوا؛ وهو مفارقة المكان الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ؛} حين لم يستأصلهم. ويقال في معنى هذه الآية: إنّهم لم يفرّوا على جهة المعاندة والفرار من الزّحف، ولكن أذكرهم الشيطان خطاياهم التي كانت منهم؛ فكرهوا لقاء الله إلاّ على حالة يرضونها، ولذلك عفا الله عنهم.
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (155)؛أي متجاوز لذنوبهم لم يعجّل بالعقوبة عليهم. روي: «أنّ رجلا من الخوارج أتى عبد الله بن عمر رضي الله عنه فسأله عن عثمان رضي الله عنه: أكان شهد بدرا؟ قال: (لا)،قال: شهد بيعة الرّضوان؟،قال:
(لا)،قال: فكان من الّذين تولّوا يوم التقى الجمعان؟ قال: (نعم).فولّى الرّجل يهزّ فرحا، فلمّا علم ابن عمر بغضه لعثمان قال له:(ارجع)؛فرجع، فقال له: (أمّا تخلّفه يوم بدر؛ فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خلّفه على ابنته رقيّة يقوم عليها، كانت مريضة فتوفّيت يوم بدر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الغزو، وعثمان رضي الله عنه في تكفين ابنة رسول الله ودفنها والصّلاة عليها، فلمّا رجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل أجره كأجرهم وسهمه كسهمهم.
وأمّا بيعة الرّضوان؛ فقد بايع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على اليمنى، وقال:[هذه عن عثمان] ويسار رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يمين عثمان رضي الله عنه»
(1)
.وأمّا الّذين تولّوا يوم التقى الجمعان؛ فقد عفا الله عنهم والله غفور حليم؛ فاجهد على جهدك، فقام الرّجل حزنان ناكسا رأسه.
(1)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (3699).
{(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا)} كمنافقي أهل الكتاب عبد الله بن أبيّ وأصحابه؛ قالوا لإخوانهم في النّفاق إذا ساروا في الأرض تجّارا مسافرين فماتوا في سفرهم أو كانوا في الغزو فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا في سفرهم، وما قتلوا في الغزو.
وغزّى جمع غاز مثل راكع وركّع، وقد يجمع غاز على غزاة، مثل قاض وقضاة.
وقوله: {لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ؛} أي ليجعل الله ما ظنّوا حزنا يتردّد في أجوافهم. ثم أخبر الله أنّ الموت والحياة إليه لا يقدّمان لسفر ولا يؤخّران لحضر. قوله تعالى: {وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ؛} يحذّرهم عن التّخلّف عن الجهاد وخشية الموت والقتل؛ لأن الإحياء والإماتة إلى الله تعالى في السّفر والحضر؛ وحال القتال وحال غير القتال.
قوله تعالى: {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (156)؛ترغيب في الطاعة، وتحذير من المعصية. قرأ ابن كثير والأعمش والحسن وحمزة والكسائي وخلف: بالياء، والباقون بالتاء.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} (157)؛معناه: لو قتلتم في طاعة الله أو متّم فيها {(لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ)} من الأموال. وإنّما قال هكذا وإن كان هو معلوما؛ لأن من الناس من آثر الدّنيا على الجهاد وخشية القتل.
قرأ حفص: «(يجمعون)» بالياء على الخبر؛ خير لكم أيّها المؤمنون ممّا يجمع المنافقون في الدّنيا. وقرأ نافع وأكثر أهل الكوفة: «(متّم)» بكسر الميم من مات يمات.
وقرأ الباقون بضمّها من مات يموت.
قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ} (158)؛معناه:
لئن متّم على فرشكم، أو قتلتم في الغزو فإلى الله ترجعون في الآخرة، كيف ما دارت القصّة فإنّ مصيركم إلى الله، ولئن تصيروا إلى الله بالقتل الذي تستحقّون عليه العوض خير من أن تصيروا إليه بالموت الذي لا يستحقّون عليه العوض. قال عليّ رضي الله عنه:
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت
…
فمقتلها بالسّيف في الله أفضل
واللاّم في {(لَئِنْ)} لام القسم، وتصلح أن تكون للابتداء والتأكيد، واللام في {(لَمَغْفِرَةٌ)} جواب القسم، وتصلح أن تكون مؤكّدة جواب الشرط.
قوله تعالى: {فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ؛} أي فبرحمة عظيمة من الله لنت لهم حتى صار لينك لهم سببا لدخولهم في الدّين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أتاهم بالحجج والبراهين مع لين وخلق عظيم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:[إنّما أنا لكم مثل الوالد لولده]
(1)
.
و (ما) في قوله زائدة لا يمنع الباء من عملها، مثل قولهم {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ}
(2)
قال بعضهم: يحتمل أن تكون (ما) استفهامية للتعجّب؛ تقديره: فبما رحمة من الله سهلت لهم أخلاقك وكثرة احتمالك؛ فلم تغضب عليهم فيما كان منهم يوم أحد.
قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ؛} أي لو كنت يا محمّد خشنا في القول سيّء الخلق قاسي القلب لتفرّقوا من حولك، فلم تر منهم أحدا، ولكنّ الله جعلك سمحا سهلا طلقا لطيفا ليّنا برّا رحيما.
قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ؛} أي فاعف عنهم ما أتوه يوم أحد؛ وتجاوز عنهم الجريمة التي تكون بينك وبينهم، وكانوا عصوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ترك المركز، وترك الآية لدعوته:[ارجعوا ارجعوا]،فندب الله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى العفو عنهم.
قوله تعالى: {(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)} أي في الذنب الذي يكون منهم حتى أشفّعك فيهم.
قوله تعالى: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ؛} أي اذا أردت أن تعمل عملا ممّا لم يكن عندك فيه وحي فشاورهم فيه، واعمل أبدا بتدبيرهم ومشورتهم، وكان صلى الله عليه وسلم مستغنيا عن مشورتهم، فإنّه كان أرشدهم وأكملهم رأيا، لكنّ الله إنّما أمره بالمشاورة
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 250.وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة: الحديث (8).والنسائي في السنن: كتاب الطهارة: ج 1 ص 38،وإسناده صحيح.
(2)
النساء 155/.
لتقتدي به الأمّة، وليكون فيه تطييب لنفوس المؤمنين، ورفع لأقدارهم وثناء عليهم
(1)
.
قال مقاتل وقتادة: (كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شقّ عليهم، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم في الأمر؛ فإنّه أطيب لأنفسهم، وإذا شاوروا عرفوا إكرامه لهم)
(2)
.
قوله تعالى: {فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ؛} أي أعزمت على شيء فثق بالله، وفوّض إليه ولا تتّكل على مشورتهم، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159)؛ على الله.
واختلف العلماء في معنى التّوكّل، فقال سهل بن عبد الله:(أوّل مقام التّوكّل: أن يكون العبد بين يدي الله كالميّت بين يدي الغاسل، يقلّبه كيف يشاء، والرّجاء لا يكون له حركة ولا تدبير، والمتوكّل لا يسأل ولا يردّ ولا يحبس).وقال إبراهيم الخوّاص: (التّوكّل إسقاط الخوف والرّجاء ممّا سوى الله).
قال بعضهم: المتوكّل الذي إذا أعطي شكر، وإذا منع صبر، وأن يكون العطاء والمنع عنده سواء، والمنع مع الشّكر أحبّ إليه لعلمه باختيار الله ذلك. وقال ذو النّون:(التّوكّل انقطاع المطامع ممّا سوى الله)،وقال: (هو معرفة معطي أرزاق الخلائق، ولا يصحّ لأحد حتّى تكون السّماء عنده كالصّفر؛ والأرض كالحديد؛ لا ينزل من السّماء مطر؛ ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أنّ الله لا ينسى له ما
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 249 - 250؛ نقل القرطبي قال: «قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب. وهذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» ،وقال:«قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضلّ» .أما أنّ التشاور واجب، ففيه تفصيل، قال القرطبيّ:«قال الشافعي: هو كقوله: [والبكر تستأمر] تطييبا لقلبها، لا أنه واجب» .
(2)
أخرج أصله الطبري في جامع البيان: النص (6466) عن قتادة. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 250 نقله القرطبي عن مقاتل وقتادة والربيع.
ضمن من رزقه بين هذين).قال بعضهم: حسبك من التوكّل أن لا تطلب لنفسك ناصرا غير الله؛ وأن تقبل بالكليّة على ربك، وتعرض عمّن دونه.
وقال الثوريّ: (إن تيقّن تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبرا).وقال بعضهم: هو السّكون عن الحركات اعتمادا على خالق السّماوات. وقيل لحاتم الأصمّ: على ما بنيت أمرك هذا من التّوكّل؟ قال: (على أربع خصال؛ علمت أنّ رزقي ليس يأكله غيري؛ فلست أشتغل به، وعلمت أنّ عملي ليس يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أنّ الموت يأتيني بغتة فأنا أبادره، وعلمت أنّي بعين الله في كلّ حال فأنا أستحي منه).
قوله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ؛} معناه: إن يمنعكم الله تعالى من عدوّكم فلا غالب لكم من العدوّ، مثل يوم بدر؛ {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ؛} بأن يكلكم إلى أنفسكم ويرفع نصره عنكم كيوم أحد؛ {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ؛} أي من بعد خذلانه إيّاكم، {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (160)؛ في النّصرة.
قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ؛} وذلك أنّهم اتّهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغنائم يوم أحد حين وقعوا في عسكر المشركين يأخذون الغنائم فظنّوا أنّ من أخذ شيئا فهو له، وأنّ النبيّ لا يقسم لهم كما لم يقسم يوم بدر، ولهذا ترك الرّماة المركز فوقعوا في الغنيمة. وعن ابن عبّاس وابن جبير أنّهما قالا:(نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر؛ فقال بعض النّاس: لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها. فأنزل الله هذه الآية)
(1)
.
ومعناها: ما كان النبيّ أن يخون أصحابه فيستأثر شيئا من الغنيمة، وهذا على قراءة من قرأ بفتح الياء وضمّ الغين، وهي قراءة مجاهد وابن كثير وأبي عمرو وعاصم. وقرأ الباقون بضمّ الياء وفتح الغين؛ ومعناها: ما كان لنبيّ أن ينسب إلى
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6476) عن ابن عباس، وفي النص (6477) عن ابن جبير، وعنهما في النصوص (6478).
الغلول ولا يخون أصحابه. وقيل: معناه: ما كان لنبيّ أن يخان، وقيل: معناه: ليس من حقّ النبيّ أن يستر عنه شيء من الغنائم.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي من يخن يأت بما خان يوم القيامة. قال الكلبيّ: (يمثّل له ذلك الشّيء في النّار، ثمّ يقال له: انزل فخذه؛ فينزل فيحمله على ظهره، فإذا بلغ موضعه وقع إلى النّار؛ ثمّ
(1)
يكلّف أن ينزل إليه فيخرجه، فإذا بلغ به موضعه وقع في أسفل جهنّم؛ فيكلّف أن ينزل إليه؛ فلا يزال ذلك دأبه ما شاء الله).
والغلول في اللّغة: أخذ الشّيء في الخفية. وعن عبادة بن الصّامت قال: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب بعير من المغنم؛ ثمّ تناول وبرة من سنام بعير وقال: [يا أيّها النّاس؛ إنّ هذا من غنائمكم؛ فأدّوا الخيط والمخيط وما دون ذلك وما فوق ذلك، فإنّ الغلول عار على أهله ونار وشنار يوم القيامة]
(2)
.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أحد أحقّ بالغنيمة من أحد؟ فقال: [لا؛ ولا السّهم الّذي تستخرجه من جسدك لست أحقّ به من أخيك المسلم]
(3)
.وروي أنّ رجلا من الصّحابة توفّي يوم خيبر فقال صلى الله عليه وسلم: [صلّوا على صاحبكم] فتغيّرت وجوه النّاس لذلك! فقال: [إنّه غلّ في سبيل الله] ففتّش متاعه، فوجدوا فيه خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين
(4)
.
(1)
في المخطوط: (لم)،وهو تصحيف.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (7372) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والنسائي في السنن: ج 6 ص 264.وابن ماجة في السنن: كتاب الجهاد: الحديث (2850).
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب قسم الفيء والغنيمة: باب إخراج الخمس: الحديث (13133)،وباب التوبة في الغنيمة: الحديث (13206 و 13207)،وفي كتاب السير: باب أخذ السلاح: الحديث (18520).
(4)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب في تعظيم الغلول: الحديث (2180).والنسائي في السنن: كتاب الجنائز: باب الصلاة على من غلّ: ج 4 ص 64.والحاكم في المستدرك: كتاب الجهاد: باب من قتل معاهدا: الحديث (2628)،وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وأظنهما لم يخرجاه».
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له عبد أسود يقال له مدعم، فبينما هو ذات يوم يحطّ رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاعه سهم فقتله، فقال النّاس: هنيئا له الجنّة، فقال صلى الله عليه وسلم:[كلاّ؛ والّذي نفسي بيده إنّ الشّملة الّتي أخذها يوم خيبر لم يضمّها المقاسم لتشعل عليه نارا]
(1)
.
وروي عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [إذا وجدتم الرّجل قد غلّ؛ فاحرقوا متاعه واضربوه]
(2)
.وعن عمرو بن شعيب؛ عن أبيه عن جدّه؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر: [أحرقوا متاع الغالّ، واضربوه وامنعوه سهمه].
قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ؛} أي جزاء ما عملت من خير أو شرّ، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (161)؛أي لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد من سيئاتهم.
قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ؛} استفهام بمعنى تقدير حال الفريقين، يقول: ليس من اتّبع رضوان الله؛ أي من ترك الغلول والحرام وأخذ الحلال من الغنيمة كمن استوجب سخط الله بأخذ الغلول والحرام، وقيل: معنى الآية: {(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ)} بالجهاد في سبيل الله {(كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ)} بالفرار من الجهاد. قوله تعالى: {وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ؛} راجع إلى {(كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ)} . {وَبِئْسَ؛} النّار؛ {الْمَصِيرُ} (162).
(1)
رواه أبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب في تعظيم الغلول: الحديث (2711).والنسائي في السنن: كتاب الإيمان والنذر: ج 7 ص 24.
(2)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الجهاد: باب في عقوبة الغال: الحديث (2713).والحاكم في المستدرك: كتاب الجهاد: باب التشديد في الغلول: الحديث (3630)،وقال:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ،وفي الجامع الصحيح: كتاب الحدود: باب ما جاء في الغال: الحديث (1461)؛ قال الترمذي: «والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وهو قول الأوزاعي وأحمد وإسحاق. وسألت محمدا البخاري عن هذا الحديث فقال: إنما روي هذا عن صالح بن محمد بن زائدة، وهو أبو واقد الليثي، وهو منكر الحديث» .
قوله تعالى: {هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ؛} معناه: إنّ الذين يتّبعون رضوان الله ذوو درجات رفيعة، والآخرون ذوو دركات خسيسة، فإنّ لأحد الفريقين درجات في الجنّة، وللآخر دركات في النّار، والمعنى: أنّ من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخط من الله مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب العظيم، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعذاب الأليم. وقال بعضهم: هذه الآية خاصّة في المؤمنين؛ أي هم طبقات بعضهم أرفع من بعض في الجنّة. قوله تعالى: {وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ} (163)؛أي عالم بمن غلّ ومن لا يغلّ.
قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛} أي لقد أنعم على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ بعثه الله من العرب، معروف النّسب، عرفوه بالصّدق والأمانة، وكان يسمّى (الأمين) قبل الوحي، وقيل: بعثه الله من جنس بني آدم، ولم يبعثه من الملائكة؛ لأنه إذا كان من جنسهم كان تعلّمهم منه أسهل عليهم. وقرأ في الشّواذ:«(من أنفسهم)» بنصب الفاء؛ أي أشرفهم؛ لأن العرب أفضل من غيرهم، وقريش أفضل العرب.
قوله تعالى: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ؛} أي يقرأ عليهم القرآن بما فيه من أقاصيص الأمم السّالفة، وهو أمّيّ لم يقرأ الكتب. قوله تعالى:{وَيُزَكِّيهِمْ؛} أي يطهّرهم من الشّرك والذّنوب، ويأخذ منهم الزّكاة التي يطهّرهم بها. قوله تعالى:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ؛} أي القرآن والفقه، {وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ؛} أن يأتيهم محمّد صلى الله عليه وسلم {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (164)؛من الهدى.
والخطاب يبيّن قوله تعالى: {أَوَلَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها؛} أي لمّا أصابتكم مصيبة يوم أحد قد أصبتم مثليها يوم بدر؛ أي قتلتم يوم بدر سبعين، وأسرتم سبعين، وقتل منكم يوم أحد سبعون، ولم يؤسر منكم أحد.
قوله تعالى: {قُلْتُمْ أَنّى هذا؛} القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا والوحي ينزل علينا، وهم مشركون، {قُلْ؛} يا محمّد:{هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ؛} لمخالفتكم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج عن المدينة، وقد كان أمركم بالمقام فيها ليدخل عليكم الكفّار فتقتلوهم في أزقّتها. وقيل: إنّما أصابكم هذا من
عند قومكم بمعصية الرّماة بتركهم ما أمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (165)؛أي على كلّ شيء من النّصر وغير ذلك قادر.
قوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ؛} معناه: ما أصابكم يا معشر المسلمين يوم أحد يوم التقى جيش المسلمين، وجيش المشركين يوم أحد من القتل والجروح والهزيمة فبعلم الله وقضائه وإرادته، ويقال: أراد بالإذن:
التّخلية بين المؤمنين والكفّار، وإلاّ فالله لا يؤذن بالمعصية.
قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا؛} أي ليري المؤمنين، وقيل: لتعلموا أنتم أنّ الله قد علم نفاقهم، وأنتم لم تكونوا تعلمون ذلك، والمعنى: ليرى الله إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويرى المنافقين بفشلهم، وقلّة صبرهم على ما ينزل به في ذات الله تعالى. {وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ؛} ذلك أنّ عبد الله بن أبيّ وأصحابه لمّا رجعوا إلى المدينة قال لهم عبد الله بن جبير:(تعالوا إلى أحد وقاتلوا في طاعة الله وادفعوا في أنفسكم وأهلكم وحريمكم)،فقال المنافقون: لا يكون قتال اليوم، ولو نعلم أن يكون قتال لكنّا معكم
(1)
.
قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ؛} أي كانوا قبل ذلك القول عند المؤمنين أقرب إلى الإيمان بظاهر حالهم؛ ثم هتكوا سترهم وأظهروا ميلهم إلى الكفر؛ فصاروا في ذلك اليوم أقرب إلى الكفر. قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛} كناية عن كذبهم في قولهم {(لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ)} .
قوله تعالى: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ} (167)؛أي بما يخفون من الشّرك.
قوله تعالى: {الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا؛} معناه:
الذين قالوا لإخوانهم من المنافقين بالمدينة وقعدوا بأنفسهم عن الجهاد: لو أطاعونا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6522)،وفيه أن الذي خاطبهم عبد الله بن عمر وابن حرام أخو بني سلمة. وفي النص (6524) من قول عبد الله بن جابر بن أبي عبد الله الأنصاري. ونقله في الدر المنثور: ج 2 ص 369 قال: «أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر» .
المسلمون الذين خرجوا إلى القتال ما قتلوا في الغزو، {قُلْ؛} لهم يا محمّد:
{فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (168)؛في مقالتكم: لو لم يخرجوا إلى القتال ما قتلوا. قال الفقيه أبو اللّيث: (سمعت بعض المفسّرين يقول:
لمّا نزلت هذه الآية مات يومئذ سبعون نفسا من المنافقين).
قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169)؛قال ابن عبّاس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد؛ جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنّة؛ وتأكل من ثمارها؛ وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلمّا رأوا طيب منقلهم ومطعمهم ومشربهم، وما أعطى الله من الكرامة؛ قالوا: يا ليت إخواننا علموا ما أعدّ الله لنا من الكرامة، وما نحن فيه من النّعيم، فلم ينكلوا عند اللّقاء ولم يجبنوا في الحرب، قال الله تعالى: أنا أبلّغهم عنكم؛ فأنزل الله هذه الآية]
(1)
.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاريّ: قتل أبي يوم أحد وترك عليّ ثلاث بنات؛ فقال صلى الله عليه وسلم: [ألا أبشّرك يا جابر؟!] قلت: بلى يا رسول الله، قال: [إنّ أباك حين قتل أحياه الله تعالى وكلّمه كفاحا
(2)
؛فقال: يا عبد الله؛ سلني ما شئت، قال: أسألك أن تعيدني إلى الدّنيا فأقتل فيها ثانية، فقال: يا عبد الله؛ إنّي قضيت أن لا أعيد إلى الدّنيا خليقة قبضتها، قال: يا رب فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة؟ قال الله: أنا، فأنزل الله هذه الآية]
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6535) عن ابن عباس، والنص (6536) عن ابن مسعود، والنص (6539) عن جابر بن عبد الله.
(2)
كفاحا-بكسر الكاف-:أي مواجهة ليس بينهما حجاب.
(3)
أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب تفسير القرآن: باب ومن سورة آل عمران: الحديث (3010)؛وقال: حديث حسن غريب. وابن ماجة في السنن: كتاب الجهاد: باب فضل الشهادة في سبيل الله: الحديث (2800).وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6539).
ومعنى الآية: ولا تظنّنّ يا محمّد الشهداء المقتولين في طاعة الله. {(أَمْواتاً)} نصب على المفعول؛ لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين، {(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)} الجنّة، سمّاهم أحياء؛ لأنّهم يأكلون ويتمتّعون ويرزقون كالأحياء. وقيل: سمّاهم أحياء؛ لأنّهم يكتب لهم في كلّ سنة ثواب غزوة، ويشركون في فضل كلّ جهاد إلى يوم القيامة. وقيل: لأنّ أرواحهم تركع وتسجد كلّ ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة كأرواح الأحياء. وقيل: لأنّ الشهيد لا يبلى في الأرض ولا يتغيّر في القبر. ويقال:
أربعة لا تبلى أجسادهم: الأنبياء؛ والعلماء؛ والشّهداء؛ وحملة القرآن.
وعن عبد الله بن عبد الرّحمن: (أنّه بلغه أنّ عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن الحرام الأنصاريّين كانا قد أخرب السّيل قبريهما وكانا في قبر واحد؛ وهما ممّن استشهد يوم أحد، وكان قبرهما ممّا يلي السّيل، فوجدا في قبرهما لم يتغيّرا كأنّما ماتا بالأمس، وكان بين أحد وبين خراب السّيل ستّ وأربعون سنة).
وقيل: سموا أحياء؛ لأنّهم لم يغسّلوا كما تغسّل الأحياء. قال صلى الله عليه وسلم: [زمّلوهم بدمائهم وكلومهم؛ فإنّهم يحشرون يوم القيامة بدمائهم؛ اللّون لون الدّم؛ والرّيح ريح المسك]
(1)
.قرأ الحسن وابن عامر «(قتّلوا)» بالتشديد.
قوله تعالى: {فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ؛} أي من رزقه وثوابه، وانتصب على الحال. وقرأ ابن السميقع:«(فرحين)» وهما لغتان كالفرة والفارة، والطمع والطّامع، والحذر والحاذر. قوله تعالى:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (170)؛أي يطلبون السّرور بقدوم من لم يقدم عليهم من إخوانهم، يقولون: ليت إخواننا قتلوا كما قتلنا؛ فينالوا من الكرامة والثواب ما نلنا. وقال السديّ: (يؤتى الشّهيد بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله؛ فيقال: يقدم عليك فلان يوم كذا؛ ويقدم عليك فلان يوم كذا؛ فيستبشر بذلك كما بشّر إنسان بقدوم غائب؛ يتعجّل السّرور به قبل قدومه).
(1)
رواه الإمام أحمد في المسند: ج 5 ص 431.والنسائي في السنن: كتاب الجنائز: باب مواراة الشهيد في دمه: ج 4 ص 78.
وأصل الاستبشار: من البشرة؛ لأنّ الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه. ومعنى الآية: يستبشرون بأن لا خوف عليهم وعلى إخوانهم الذين يأتونهم من بعدهم؛ وأنّهم لا يحزنون في الآخرة.
قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ؛} أي بجنّة وكرامة، ويستبشرون أنّ الله لا يضيع ثواب الموحّدين. قوله تعالى:{وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (171)؛قرأ الكسائيّ والفرّاء: «(وإنّ الله)» بالكسر على الاستئناف ودليله قراءة ابن مسعود «(والله لا يضيع أجر المؤمنين)» .
وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: [ما يجد الشّهداء من القتل في سبيل الله إلاّ كما يجد أحدكم من القرصة]
(1)
.وفي حديث آخر: [عضّة النّملة أشدّ على الشّهيد من مسّ السّلاح]
(2)
.وفي حديث آخر: [إنّ الضّربة والطّعنة على الشّهيد مثل شرب الماء البارد]
(3)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ؛} يجوز أن يكون أوّل هذه الآية في موضع الخفض على النّعت للمؤمنين، والأحسن أن يكون في موضع الرّفع على الإبتداء أو خبره للذين أحسنوا. ومعنى الآية: الذين أجابوا الله بالطاعة والرسول بالخروج إلى بدر الصّغرى من بعد ما أصابهم الجراح؛ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ؛} أي وافوا الميعاد، {وَاتَّقَوْا؛} سخط الله ومعصيته، {أَجْرٌ عَظِيمٌ} (172)،لهم ثواب وافر في الجنّة.
قال ابن عباس: (وذلك أنّهم تواعدوا يوم أحد أن يجتمعوا ببدر الصّغرى في العام القابل، فلمّا حضر الأجل ندم المشركون، فلقي أبو سفيان نعيم بن مسعود؛ وكان يخرج إلى المدينة للتّجارة؛ فقال: إذا أتيت المدينة فخوّفهم كيلا يخرجوا ولك
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 297.والترمذي في الجامع: أبواب فضل الجهاد: باب ما جاء في فضل المرابط: الحديث (1668)،وقال: حسن صحيح غريب.
(2)
في كنز العمال: النص (11131)؛قال الهندي: «أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس» .
(3)
هو تمام ما قبله، ونصه:[عضّة النّملة أشدّ على الشّهيد من مسّ السّلاح، بل هي أشهى عنده من شراب ماء بارد في يوم صائف].
عشر من الإبل إن رددتهم، فلمّا قدم نعيم إلى المدينة؛ وكان أصحاب رسول الله يريدون موافاة أبي سفيان؛ قال: بئس الرّأي رأيتم، أتوكم في دياركم وقراركم، ولم ينفلت منهم إلاّ الشّريد؛ تريدون أن تأتوهم في ديارهم وقد جمعوا لكم، أما إنّ الرّجل الواحد منهم يطيق عشرة منكم، إذا والله ما ينفلت منكم إلاّ الشّريد. فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إليهم وتثاقلوا، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منهم قال:[والّذي نفسي بيده لأخرجنّ إليهم، وإن لم يخرج معي منكم أحد] فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للميعاد، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزّبير وسعد وعبد الله بن مسعود وحذيفة وأبو عبيدة في سبعين رجلا حتى انتهوا إلى بدر؛ فلم يخرج أبو سفيان ولم يلقوا بها أحدا من المشركين، فتسوّقوا من السّوق حاجتهم ثمّ انصرفوا، فذلك قوله تعالى:{(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ)}
(1)
.قالت عائشة رضي الله عنها لعبد الله بن الزّبير: (يا ابن أختي؛ أما والله إنّ أباك وجدّك-تعني أبا بكر-لمن الّذين قال الله فيهم {(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ)} الآية)
(2)
.
قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً؛} معناه: الذين قال لهم نعيم بن مسعود إنّ أبا سفيان وأصحابه قد جمعوا لكم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم؛ فزادهم هذا القول تصديقا ويقينا وجرأة على القتال. {وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ؛} أي يقينا بالله، وكافينا الله أمرهم. {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (173)؛أي النّاصر الحافظ، وموضع {(الَّذِينَ)} خفض مردود على {(الَّذِينَ)} الأوّل. وقد ذكر الله نعيما بلفظ النّاس؛ لأن الواحد قد يذكر بلفظ الجماعة على معنى الحسن، ولهذا قالوا: من حلف وقال: إن كلّمت الناس فعبدي حرّ، فكلّم رجلا واحدا حنث.
قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ؛} أي فانصرفوا بأجر من الله وفضل؛ وهو ما تسوّقوا به من السّوق. وروي أنّهم اشتروا
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان مختصرا: النص (6561).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6562).
أدما وزيتا وأشياء وغير ذلك بسعر رخيص فربحوا على ذلك. ومعنى (لم يمسسهم سوء) لم تصبهم جراحة ولا قتل، {وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ؛} في الخروج إلى المشركين؛ {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (174)؛بدفع المشركين عن المؤمنين.
قوله تعالى: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ؛} أراد بالشيطان نعيم بن مسعود؛ وكلّ عات متمرّد فهو شيطان. وقيل: معناه: ذلك التخويف من عمل الشّيطان ووسوسته، وقوله {(يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ)} يعني المنافقين ومن لا حقيقة في إيمانه.
{فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (175)؛أي خافوني في ترك أمري.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ قوله تعالى: {(الَّذِينَ اسْتَجابُوا)} أنزلت في حرب أحد، وذلك: أنه لمّا رجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة؛ قال لهم:
[رحم الله قوما انتدبوا لهؤلاء المشركين ليعلموا أنّا لم نستأصل] فانتدب قوم ممّن أصابهم الجراح في ذلك اليوم فشدّوا على المشركين حتّى كشفوهم عن القتلى بعد أن مثّلوا بحمزة، وقد كان همّوا بالمثلة بقتلى المسلمين، فقذف الله في قلوبهم الرّعب؛ فانهزموا.
وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتلى ودفنهم، فجاء أناس من العرب وقد مرّوا بأبي سفيان وأصحابه بموضع يسمّى حمراء الأسد، فقالوا للمسلمين: تركناهم متأهّبين للرّجوع إلى المدينة لقتل بقيّتكم، فعند ذلك قال المسلمون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمسير إليهم، فلمّا ساروا إلى حمراء الأسد وهي على رأس ثمانية أميال من المدينة لم يروا المشركين هناك؛ فانصرف المسلمون إلى المدينة بنعمة من الله وفضل؛ وهي كفايته لهم شرّ قريش حتّى لم ينلهم منهم سوء. وفي قوله {(وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)} بيان أنه تعالى تفضّل عليهم من بعد بنعيم الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً؛} قرأ نافع «(يحزنك)» بضمّ الياء وكسر الزّاي في جميع ما كان في هذا الفعل في
جميع القرآن إلاّ آية في الأنبياء {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ}
(1)
.وقرأ الباقون بفتح الياء وضمّ الزّاي وهما لغتان. وقرأ طلحة بن مصرّف: «(يسرعون في الكفر)» والباقون {(يُسارِعُونَ)} .
ومعنى الآية: لا يحزنك يا محمد الذين يبادرون الجحد والتكذيب؛ وهم اليهود كانوا يكتمون صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة، وكان يشقّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: يعني كفار قريش كانوا يكذّبونه، وكان الناس يقولون: لو كان حقّا لاتّبعه أقرباؤه، وكان ذلك يشقّ عليه. وقيل: نزلت هذه الآية في قوم ارتدّوا عن الإسلام فاغتمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً)} أي لم ينقصوا شيئا من ملك الله وسلطانه؛ {يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ؛} نصيبا من الجنّة؛ {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} (176).
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً؛} أي الذين اختاروا الكفر على الإيمان لا ينقص من ملك الله شيئا، وإنّما أضرّ من أنفسهم حيث استوجبوا العذاب؛ {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (177)؛أي وجع في الآخرة.
قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ؛} قرأ حمزة بالتّاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي لا تظنّنّ يا محمّد اليهود والنصارى والمنافقين أنّ إملاءنا لهم خير لهم من أن يموتوا كما مات شهداء أحد. وقيل: معناه: لا تحسبنّ يا محمّد أملى لهم لخير وتوبة تقع منهم، {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً،} إنّما إملاؤنا لهم لتكون عاقبة أمرهم أن يزدادوا بذلك معصية على معصية؛ {وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} (178)؛يهانون فيه.
وقيل: إنّ المراد بالذين كفروا كفّار مكّة؛ أي لا تظنّنّ ما أصابوه يوم أحد من الظّفر خير لأنفسهم، وإنّما كان ذلك ليزدادوا معصية فيزاد في عقوبتهم. وقرأ الباقون:«(ولا تحسبن)» بالتاء معناه: لا تحسبنّ الكفار إملاءنا إياهم خير لهم، والإملاء
(1)
الآية 103/.
في اللّغة: إطالة المدّة والإمهال والتّأخير، ومنه قوله {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}
(1)
أي دهرا طويلا. قال ابن مسعود: (ما من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ والموت خير لها من الحياة، أمّا الفاجرة فقد قال الله:{إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً؛} وأمّا البرّة فقد قال الله تعالى: {وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ}
(2)
.
قوله تعالى: {ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ؛} اختلفوا في تأويلها؛ قال الكلبيّ: (قالت قريش: يا محمّد؛ تزعم أنّ من خالفك فهو في النّار؛ والله عليه غضبان، ومن اتّبعك على دينك فهو في الجنّة؛ والله عنه راض، فخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك، فأنزل الله هذه الآية).ومعناها:
لم يكن الله ليترك من كان في علمه السّابق أنه يؤمن، على ما أنتم عليه من الكفر حتى يميّز الكافر والمنافق من المؤمن المخلص {(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ)} يا أهل مكّة على من يصير منكم مؤمنا قبل أن يؤمن، ولكنّ الله يصطفي بالنبوّة والرسالة من يشاء فيوحي إليه بما يشاء؛ لأنّ الغيب لا يطّلع عليه إلاّ الرّسل بوحي من الله ليقيموا البرهان على أنّ ما أتوا به من عند الله؛ {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ؛} أي صدّقوا، {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا؛} الشّرك والمعصية؛ {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (179)؛في الجنّة.
وقال بعضهم: الخطاب للكافرين والمنافقين، معنى الآية:{(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ)} يا معشر الكفّار والمنافقين من الكفر والنّفاق {(حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)} . وقيل: الخطاب للمؤمنين؛ أي ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق حتّى يميز الخبيث.
قرأ الحسن وقتادة والكوفيون إلاّ عاصما: «(يميّز)» بضمّ الياء والتشديد، وكذلك في الأنفال. والباقون بالتخفيف وفتح الياء من الميز وهو الفرق، ويسمّى العاقل مميّزا لأنه يفرّق بين الحقّ والباطل، معناه: حتّى تميّز المنافق من المخلص، فيميّز الله
(1)
مريم 46/.
(2)
النساء 198/.
المؤمنين يوم أحد من المنافقين حين أظهروا النفاق وتخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: معنى الآية: {(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ)} من الإقرار حتى يفرض عليهم الجهاد والفرائض ليميز بها من يثبت على إيمانه ممّن ينقلب على عقبيه، وما كان ليطلعكم على الغيب؛ لأنه لا يعلمه إلاّ الله، ولكنّ الله يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على بعض علم الغيب.
وروي: أنّ الحجّاج بن يوسف كان عنده منجّم، فأخذ الحجاج حصيّات بيده قد عرف عددها، فقال للمنجّم: كم في يدي؟ فحسب المنجّم فأصاب، ثم اغتفله الحجاج فأخذ حصيّات لم يعدّها، قال للمنجّم: كم في يدي؟ فحسب المنجّم فأخطأ، ثم حسب فأخطأ، فقال: أيّها الأمير: أظنّك لا تعرف عدده، قال: لا، فقال: إنّ ذلك الأوّل أحصيت عدده فخرج عن حدّ الغيب، فأصبت في حسابه، وهذا لم تعرف عدده فصار غيبا، والغيب لا يعلمه إلاّ الله.
قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ؛} من قرأ: «(ولا تحسبنّ)» بالتّاء فمعناه: ولا تظنّنّ يا محمّد بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله من المال؛ فيمنعون من ذلك حقّ الله في الزّكاة والجهاد وسائر وجوه البرّ التي وجبت عليهم، لا تظنّنّ ذلك خيرا لهم. وقوله {(هُوَ خَيْراً)} للفصل، ويسمّيه الكوفيّون العماد، ومعنى {(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ)} أي بخلهم بحقّ الله شرّ لهم. ومن قرأ بالياء والفعل المباخلين؛ كأنّه قال: ولا يحسبنّ الذين يبخلون البخل خيرا لهم.
قوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي سيأتون يوم القيامة بما بخلوا به من الزّكاة ونفقة الجهاد كهيئة الطّوق في أعناقهم، قال صلى الله عليه وسلم:[يأتي كنز أحدكم شجاعا أقرع فيتطوّق في عنقه يلدغه؛ حيّة في عنقه يطوّق بها؛ وتقول: أنا الزّكاة الّتي بخلت بي في الدّنيا]
(1)
.وقال بعضهم: يجعل ما بخل به من الزّكاة حيّة في عنقه يطوّق بها-أي يوم القيامة-تنهشه من قرنه إلى قدمه؛ وتنقر رأسه وتقول:
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الزكاة: باب إثم مانع الزكاة: الحديث (1403).والترمذي في الجامع عن ابن مسعود: أبواب التفسير: الحديث (3012).
أنا مالك، ولا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغلّ، وهذا قول ابن مسعود وابن عبّاس والشعبيّ والسّدّيّ.
وقال صلى الله عليه وسلم: [ما من ذي رحم يأتي إلى ذي رحمه يسأله من فضل ما أعطاه الله فيبخل به عليه؛ إلاّ أخرج الله له من جهنّم شجاعا يتلمّظ حتّى يطوّقه. ثمّ تلا هذه الآية]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [مانع الزّكاة في النّار] وذهب بعضهم إلى أنّ المراد بهذه الآية اليهود؛ بخلوا بيان صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعنى {(سَيُطَوَّقُونَ)} على هذا القول: وزره ومأثمه. والأظهر في هذه الآية: أنّه البخل بالمال.
قوله تعالى: {وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} تحريض الإنفاق؛ ومعناه:
يموت أهل السّماوات وأهل الأرض كلّهم من الملائكة والجنّ والإنس ولا يبقى إلاّ الله، وإذا كانت الأموال لا تبقى للإنسان ولا يحملها مع نفسه إلى قبره؛ فالأولى به أن ينفقها في الوجوه التي أمر الله بها؛ فيستوجب بها الحمد والثواب. قوله تعالى:
{وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (180)؛أي عالم بمن يؤدّي الزّكاة ومن يمنعها.
قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ؛} قال مجاهد: (لمّا نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً}
(2)
قالت اليهود: إنّ الله يستقرض منّا ونحن أغنياء).قال الحسن: (إنّ قائل هذه المقالة حييّ ابن أخطب)
(3)
.قال عكرمة والسّدّيّ ومقاتل: (كتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى اليهود يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة وأن يقرض الله قرضا حسنا، فدخل أبو بكر مدارسهم؛ فوجد ناسا كثيرا منهم قد اجتمعوا على رجل يقال له فنحاص بن عازورا؛ وكان من علمائهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه لفنحاص: اتّق الله وأسلم، فو الله إنّك تعلم أنّ محمّدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التّوراة والإنجيل؛ فآمن وصدّق وأقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنّة. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أنّ ربّنا يستقرض منّا أموالنا، وما يستقرض إلاّ الفقير من الغنيّ، فإن
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (5589).
(2)
البقرة 245/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6619) عن الحسن، والنص (6620) عن قتادة.
كان ما تقول حقّا فإنّ الله فقير ونحن أغنياء. فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والّذي نفسي بيده؛ لولا العهد الّذي بيننا وبينكم لضربت عنقك يا عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمّد؛ انظر ما صنع بي صاحبكم؟ فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: [ما حملك على ما صنعت؟] فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال قولا عظيما زعم أنّ الله فقير وهم أغنياء، فغضبت لله تعالى وضربت وجهه. فجحد فنحاص، فأنزل الله هذه الآية ردّا على فنحاص، وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه:{(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ)}
(1)
.
قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ ما قالُوا؛} أي سيكتب الكاتبون الكرام عليهم بأمرنا قولهم؛ {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛} بلا جرم لهم فيجازيهم به.
وقرأ حمزة والأعمش «(سيكتب)» بياء مضمومة وفتح التاء «(وقتلهم الأنبياء)» بالرفع. «ونقول؛» بالياء اعتبارا بقراءة ابن مسعود، وقال:{ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} (181)؛أي النّار، وإنّما قال {(الْحَرِيقِ)} لأنّ النار اسم للملتهبة وغير الملتهبة، والحريق اسم منها.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (182)؛أي يقال للكافرين ذلك بما قدّمت أيديكم على الكفر وقتل الأنبياء صلوات الله عليهم، وقوله:{(وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ)} لا يعذّب أحدا بغير ذنب ولا يمنع أحدا جزاءه حسب استحقاقه خيرا فعله أو شرّا.
قوله تعالى: {الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ؛} قال الكلبيّ: (نزلت في كعب بن الأشرف ومالك ابن الصّيف ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازورا؛ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أتزعم يا محمّد أنّ الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وأنّ الله قد عهد إلينا في التّوراة: أن لا نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار، فإن جئتنا به صدّقناك.
فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6615).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 4 ص 295؛ قال القرطبي: «قال الكلبي وغيره:
…
».
ومعناها: وسمع الله قول الّذين قالوا إنّ الله عهد إلينا، ومحلّ {(الَّذِينَ)} خفض ردّا على {(الَّذِينَ)} الأوّل؛ ومعناها: عهد إلينا: أمرنا وأوصانا في كتبه وعلى ألسنة رسله أن لا نصدّق رسولا يزعم أنّه جاء من عند الله {(حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ)} وهو ما يتقرّب به إلى الله من صدقة، وكانت القرابين والغنائم لا تحلّ لبني إسرائيل، وكانوا إذا قرّبوا قربانا أو غنموا غنيمة فتقبل منهم؛ جاءت من السّماء نار ولها دخان ولها دويّ وخفيق فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة، فيكون ذلك علامة القبول، واذا لم يقبل بقي إلى حاله، فقال هؤلاء اليهود:(إنّ الله عهد إلينا ألاّ نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار) كما كان في زمن موسى وزكريّا ويحيى وغيرهم عليهم السلام.
وكان هذا القول منهم كذبا على الله واعتلالا ومدافعة في الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لا احتجاجا صحيحا؛ فاحتجّ الله عليهم بقوله: {قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ؛} أي قل يا محمّد قد جاءكم رسل من قبلي بالعلامات الواضحات والمعجزات {(وَبِالَّذِي قُلْتُمْ)} من أمر القربان، {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (183)؛في مقالتكم. وكانوا قتلوا زكريّا ويحيى وغيرهم، وأراد بذلك أسلافهم فخاطبهم بذلك لأنّهم رضوا بفعل أسلافهم.
قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ؛} فإن كذبوك يا محمّد فلست بأوّل رسول كذّب، فقد كذّب نوح وهود وصالح وغيرهم؛ {جاؤُ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالعلامات الواضحات؛ {وَالزُّبُرِ؛} وهو جمع زبور؛ وهو كلّ كتاب ذي حكمة؛ يقال: زبرت إذا كتبت؛ وزبرت اذا قرأت. وأما {وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ} (184)؛فهو الكتاب المبيّن للحلال والحرام.
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} قرأ الأعمش: «(ذائقة)» بالتنوين، ونصب «(الموت)» قال ابن عبّاس:
(لمّا نزل قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ}
(1)
قالت الملائكة: هلك أهل الأرض.
فلمّا نزلت هذه الآية أيقنت الملائكة بالهلاك).وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
(1)
الرحمن 24/.
الله صلى الله عليه وسلم: [لمّا خلق الله آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها؛ فوعدها أن يردّ إليها ما أخذ منها، فما من أحد إلاّ يدفن في التّربة الّتي أخذ منها] ورأى أبو هريرة قبرا جديدا، فقال:(سبحان الله! انظروا كيف سبق هذا العبد إلى تربته الّتي خلق منها).
قوله تعالى: {(وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)} أي تعطون جزاء أعمالكم يوم القيامة، إن خيرا فخير؛ وإن شرّا فشرّ، لا تغترّوا بنعم الكفّار، ولا تحزنوا لشدائد المؤمنين، فإنّ كلا الفريقين يتفرّقون؛ فلا بؤس يبقى ولا نعيم في الدّنيا.
قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ؛} أي أبعد عنها؛ {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ؛} أي نجا وسعد وظفر بما يرجو. قوله تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ} (185)؛متاع الدّنيا مثل القدر والقصعة والفأس، يتمتّع بهذه الأشياء؛ أي ينتفع بها ثم تذهب فتفنى، كذلك الحياة الدّنيا. وقيل:{(مَتاعُ الْغُرُورِ)} ما يغرّ به الإنسان في الحال، فكما أنّ التاجر يهرب من متاع الغرور وهو ما يسرع إليه الفساد مثل الزّجاج، والذي يسرع إليه الكسر ويصلحه الجبر؛ كذلك ينبغي للحيّ أن يهرب من الدّنيا الفانية إلى متاع الآخرة.
وعن عبد الله بن عمر؛ قال: (لمّا توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم سجّيناه بثوب، وجلسنا حوله نبكي، فأتانا آت نسمع صوته ولا نرى شخصه، فقال: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقلنا: وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، فقال: {(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ)} إلى آخر الآية، ثمّ قال: إنّ في الله خلفا لكلّ هالك؛ وعزاء من كلّ مصيبة؛ ودركا من كلّ فائت، فبالله فاتّقوا وإيّاه فارجوا، فإنّ المصاب من حرم الثّواب).قال:
(فتحدّثنا أنّه جبريل عليه السلام
(1)
.
(1)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الجنائز: باب ما يقول في التعزية: الحديث (7192) عن القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، وقال:«قد روي من وجه آخر عن جعفر عن أبيه عن جابر، ومن جهة آخر عن أنس بن مالك، وفي أسانيده ضعف. والله أعلم» .وفي طبقات ابن سعد: ذكر التعزية برسول الله صلى الله عليه وسلم: ج 2 ص 275:
…
وذكره.
قوله تعالى: {*لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ؛} وذلك أنّ الله تعالى لمّا ذكر الجنّة أتى عقبها بما يدعو إليها ويوجبها فقال: {(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)} أي لتختبرنّ بالنقص والذهاب في الأموال، وفي أبدانكم بالأمراض والأوجاع. ويقال: إنّ المراد بالابتلاء فرائض الدين مثل الجهاد في سبيل الله والإنفاق فيه.
قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً؛} معناه: ولتسمعنّ من اليهود والنصارى ومشركي العرب كلام أذى كثيرا. أمّا من اليهود فقولهم: عزير ابن الله، وقولهم: إنّ الله فقير ونحن أغنياء. ومن النصارى قولهم: المسيح ابن الله، وقولهم: إنّ الله ثالث ثلاثة. ومن المشركين قولهم: الملائكة بنات الله، وعبادتهم الأوثان ونصبهم الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والأذى: ما يكره الإنسان ويغتمّ به.
قال الزهريّ: (نزلت في كعب بن الأشرف؛ وذلك أنّه كان يهجو النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويسبّ المسلمين ويحرّض المشركين على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سمرة حتّى آذاهم، فقال صلى الله عليه وسلم:[من لي بابن الأشرف؟] فقال محمّد بن مسلمة الأنصاريّ:
أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله، قال:[أفعل إن قدرت على ذلك]،قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه لا بدّ لنا أن نقول؟ قال: [قولوا ما بدا لكم فأنتم في حلّ من ذلك].
واجتمع محمّد بن مسلمة، وأبو نائلة وهو أخو كعب من الرّضاعة، وهو سلكان بن سلامة بن وقش، وعبّاد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس، وأبو عبس ابن جبر، ومشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثمّ وجّههم، فقال:[انطلقوا على اسم الله، اللهمّ أعنهم]
(1)
.
ثمّ رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وهو في ليلة مقمرة، فأتوا حتّى انتهوا إلى حصنه؛ فقوّموا أبا نائلة لأنّه أخوه من الرّضاعة، فجاءه فتحدّث معه ساعة ثمّ قال: يا كعب؛ إنّي جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتمها عليّ، قال: أفعل، قال: كان قدوم
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 58 - 59.ودلائل النبوة: ج 3 ص 198 - 199.
هذا الرّجل بلادنا بلاء علينا؛ عادتنا العرب فرمونا عن قوس واحدة؛ وانقطعت عنّا السّبيل حتّى ضاعت العيال وجهدت الأنفس. فقال كعب ابن الأشرف: أما والله لقد أخبرتك أنّ الأمر سيصير إلى هذا. فقال أبو نائلة: إنّ معي أصحابا أردنا أن تبيعنا من طعامك ونرهنك ونوثق لك سلاحا، وقد علمت حاجتنا اليوم إلى السّلاح، فقال:
هاتوا سلاحكم، وأراد أبو نائلة يذكر السّلاح حتّى لا ينكر السّلاح إذا رآه، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره، فأقبلوا إليه حتّى انتهوا إليه، وكان كعب حديث عهد بعرس.
فبادأه أبو نائلة فوثب في ملحفه؛ فأخذت امرأته بناصيته وقالت: إنّك رجل محارب وصاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه السّاعة، فقال: إنّ هؤلاء وجدوني نائما ما أيقظوني؛ وإنّه أبو نائلة أخي، قالت: فكلّمهم من فوق الحصن، فأبى عليها، فنزل إليهم فتحدّث معهم ساعة ثمّ قالوا له: يا ابن الأشرف؛ هل لك أن نتماشى ونتحدّث ساعة؟ فمشى معه ساعة، ثمّ إنّ أبا نائلة جعل يده على رأس كعب ثمّ شمّها وقال: ما شممت طيب عرس قطّ مثل هذا! قال كعب: إنّه طيب أمّ فلان؛ يعني امرأته.
ثمّ مشى ساعة، فعاد أبو نائلة لمثلها حتّى اطمأنّ ثمّ مشى ساعة، ثمّ عاد بمثلها، ثمّ أخذ بفود رأسه حتّى استمكن، ثمّ قال لأصحابه: اضربوا عدوّ الله؛ فاختلفت عليه أسيافنا فلم تغن شيئا، قال محمّد بن مسلمة فركزت مغولا في ثنّته، ثمّ تحاملت عليه حتّى بلغت عانته، فصاح صيحة لم يبق من حولها حصن إلاّ وقد أوقد نارا، فوقع عدوّ الله على الأرض، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه؛ أصابه بعض أسيافنا، فنزفه الدّم وأبطأ علينا؛ فوقفنا له ساعة، ثمّ احتملناه وجئنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر اللّيل وهو قائم يصلّي، فسلّمنا عليه فخرج إلينا؛ فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه، وتفل على جرح صاحبنا فبرأ، ورجعنا إلى أهلنا، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدوّ الله
(1)
،فقال صلى الله عليه وسلم:[من ظفرتم به من رجل يهود فاقتلوه].
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 59 - 60.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (186)؛ أي إن تصبروا على أذى الكفّار وتتّقوا معصية الله فإنّ ذلك من عزم الأمور وخيرها؛ أي من حقيقة الإيمان.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ؛} أي قد أخذ الله ميثاق أهل الكتاب ليبيّن الكتاب بما فيه من نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته للناس ولا يخفون شيئا من ذلك. قرأ عاصم وأبو عمرو وابن كثير بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتّاء فيها.
قوله تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ؛} أي ضيّعوه وتركوا العمل به، يقال للذي ترك العمل به: جعله خلف ظهره. قوله تعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً؛} أي اختاروا بكتمان نعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته عرضا يسيرا من المآكل والهدايا التي كانت لعلمائهم من رؤسائهم، {فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ} (187)؛أي يختارون الدنيا على الآخرة.
قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا؛} قرأ أهل الكوفة: «(يحسبنّ)» بالياء، وقرأ غيرهم بالتّاء، فمن قرأ بالياء فمعناه: لا يحسبنّ الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب، ومن قرأ بالتاء فالخطاب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:{(فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ)} إعادة توكيد. قرأ الضحّاك بالتاء وضمّ الباء أراد محمّدا وأصحابه. وقرأ مجاهد وابن كثير وأبو عمر بالياء وضمّ الباء خبرا عن الفارحين؛ أي لا يحسبنّ أنفسهم.
واختلفوا فيمن نزلت، فقال مجاهد وعكرمة: (نزلت في اليهود وكانوا يقولون:
نحن أهل الصّلاة والصّوم والكتاب الأوّل والعلم الأوّل، يريدون الفخر والسّمعة والرّياء لكي يثني عليهم ويحمدهم سفلتهم على ما يفعلون من بيان صفة كتابهم).
وقال عطاء: (نزلت في المنافقين؛ كانوا يأتون النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويخالطون المسلمين ويراءون بالأعمال الّتي يحبّون أن يحمدوا ويمدحوا على ذلك)
(1)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6643) عن عطاء عن أبي سعيد الخدري.
قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ؛} أي لا تظنّهم يا محمّد بمنجاة؛ أي بعد من العذاب، {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (188)؛وجيع في الآخرة، وتكرار (لا تحسبن) لطول القصّة. ويجوز أن يكون خبر {(لا تَحْسَبَنَّ)} الأوّل مضمرا تقديره: لا يحسبنّ الذين يفرحون بما أوتوا ويحبّون أن يحمدوا بما لن يفعلوا ناجين، ومن قرأ «(بما أوتوا)» بالمدّ؛ فمعناه: بما أعطوا من النفقة والصّدقة. ومن قرأ «(بما أتوا)» بما أعطوا من الدّنيا.
قوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (189)؛أي ولله خزائن السّماوات والأرض، فخزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات، ووجه اتّصال هذه الآية بما سبق أنّ في هذا تكذيب اليهود في قولهم:
إنّ الله فقير، ونحن أغنياء، وبيان أنّ من كان مالك السّماوات والأرض قادر على الانتقام من الكفّار، والإثابة للمؤمنين وعلى كلّ شيء.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ} (190)؛معناه: إنّ في خلق السّماوات بما فيها من الشّمس والقمر والنّجوم، والأرض بما فيها من الجبال والشّجر والنّبات والدواب واختلاف اللّيل والنّهار في المجيء والذهاب واللون لعلامات واضحات لذوي العقول على توحيد الله.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ؛} بيان لصفة أولي الألباب، ومعنى الذّكر المطلق؛ أي يذكرون الله في جميع أحوالهم، وقيل:
المراد به الصّلاة؛ أي لا يتركون الصّلاة؛ صحّوا أو مرضوا، يصلّون قياما إن استطاعوا؛ أو جلوسا إن لم يستطيعوا القيام؛ ومضطجعين إن لم يستطيعوا الجلوس.
قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي في عظم شأنهما ومن فيهما من الآيات والعبرات؛ القائلين: {رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً؛} أي ما خلقت هذا الخلق للباطل والعبث؛ بل خلقته دليلا على وحدانيّتك وصدق ما أتت به أنبياؤك.
قوله تعالى: {سُبْحانَكَ؛} أي تنزيها لك وبراءة لك من أن تكون خلقتهما باطلا؛ {فَقِنا؛} فادفع؛ {عَذابَ النّارِ} (191)؛قال صلى الله عليه وسلم: [من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر الله]
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [ذكر الله علم الإيمان؛ وبراءة من النّفاق؛ وحصن من الشّيطان؛ وحرز من النّيران].
قوله تعالى: {(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)} أي لهما صانع قادر مريد حكيم، وكان سفيان الثوريّ يبول الدّم من طول حزنه وفكرته، وكان إذا رفع رأسه إلى السّماء فرأى الكواكب غشي عليه.
وانتصب قوله {(باطِلاً)} بنزع الخافض؛ أي ما خلقته للباطل، فقيل على المفعول الثاني، وقوله:{(ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً)} ذاهبا به إلى لفظ الخلق، ولو ردّه إلى السّماء والأرض لقال: هذه
(2)
.
قوله تعالى: {رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ؛} أي فقد أهنته وذلّلته؛ وقيل: أهلكته؛ وقيل: فضحته؛ {وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (192)؛ أي ما لهم من مانع يمنعهم ممّا يراد دونهم من العذاب.
قوله تعالى: {رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا؛} أي يقولون ربّنا إنّنا سمعنا محمّدا صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق إلى الإيمان أن آمنوا بربكم فأجبنا إلى ما دعانا إليه وأمرنا به. وقال محمّد بن كعب القرظيّ: (المنادي هو القرآن؛ يدعو النّاس كلّهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله، وقوله:
{(لِلْإِيمانِ)} أي إلى الإيمان، كقوله {لِما نُهُوا عَنْهُ}
(3)
.
(1)
عن معاذ بن جبل؛ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: كتاب الزهد: باب ما جاء في فضل ذكر الله: النص (35049).وفي كتاب أقضية الرسول: ج 6 ص 59:الحديث (29448).
(2)
في الكشف والبيان: ج 3 ص 232؛ قال الثعلبي: (لقال: هذه باطلا عبثا هزلا).وفي المخطوط رسم الحرف فكتب: (لقا هذ).
(3)
الأنعام 28/.
قوله تعالى: {رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا؛} أي اغفر لنا الكبائر وما دونها؛ {وَكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا؛} أي شركنا في الجاهليّة، {وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ} (193)؛ أي اجعل أرواحنا مع أرواح الأنبياء والصالحين الذين كانوا قبلنا.
قوله تعالى: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ؛} أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك، {وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ؛} أي لا تعذّبنا، {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ} (194)؛من الثّواب والجنّة للمؤمنين، فإن قيل: ما فائدة قولهم {(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ)} وقد علموا أنّ الله لا يخلف الميعاد؟ قيل: فائدته التّعبّد والخضوع ورفع الحاجة إليه في عموم الأحوال.
قوله تعالى: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؛} قال الكلبيّ: (معنى في الدّين والنّصرة والموالاة).
وقيل: حكم جميعكم في الثّواب واحد، وقيل: كلّكم من آدم وحوّاء. وقال مجاهد:
(قالت أمّ سلمة: يا رسول الله؛ إنّي أسمع الله يذكر الرّجال في الهجرة، ولا يذكر النّساء بشيء، فأنزل الله هذه الآية {(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)}
(1)
.قال الضحّاك: (معناه: رجالكم شكل نسائكم في الطّاعة، ونساؤكم شكل رجالكم في الطّاعة).
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي؛} الآية أي الذين هاجروا من مكّة إلى المدينة، وأخرجوا من أوطانهم وأوذوا في طاعتي، {وَقُتِلُوا؛} المشركين مع محمّد صلى الله عليه وسلم، وقتلهم العدوّ.
قوله تعالى: {وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ؛} ذنوبهم، {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} أي بساتين تجري من تحت شجرها ومساكنها الأنهار، {ثَواباً؛} جزاء، {مِنْ عِنْدِ اللهِ؛} انتصب {(ثَواباً)} على المصدر؛ معناه: لآتينّهم ثوابا. قوله تعالى: {وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ} (195)؛أي حسن الجزاء للموحّدين المطيعين.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6669 و 6671).
قرأ محارب بن دثار
(1)
: «(وقاتلوا وقتلوا)» بالفتح. وقال يزيد بن حازم: (سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ: «وقتلوا وقتلوا»؛يعني أنّهم قتلوا المشركين، ثمّ قتلهم المشركون).وقرأ أبو رجاء وطلحة والحسن: «(وقتّلوا وقتّلوا)» بالتشديد. وقرأ عاصم وأبو عمرو ونافع: (وقاتلوا وقتلوا) بالتخفيف أي قاتلوا ثمّ قتلوا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائيّ وخلف: «(وقتّلوا وقاتلوا)» أي وقاتل من بغى منهم، وقيل معناه:
وقاتلوا وقد قاتلوا؛ وأضمر فيه (قد).
قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ؛} أي لا يحزنك ولا يعجبك، {تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ؛} امتداد هذه الآية خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ والمراد به أصحابه؛ كأنّه قال: لا يغرّنّك أيّها السامع ذهاب اليهود ومجيئهم في تجاراتهم ومكاسبهم في الأرض؛ منفعة يسيرة في الدّنيا تنقطع وتفنى؛ {ثُمَّ مَأْواهُمْ؛} مصيرهم إلى؛ {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ} (197)؛أي بئس الفراش النار.
وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يغرّه شيء لتحذير الله إيّاه عن الاغترار بشيء وتأديبه إيّاه
(2)
.وقيل: نزلت في مشركي العرب؛ كانوا في رخاء من العيش، وكانوا ينحرون ويتنعّمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير؛ ونحن قد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية.
وقرأ يعقوب: «(لا يغرّنك)» بإسكان النون. قوله تعالى: {(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)} أي تصرّفهم في الأرض للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب.
وقوله: {(مَتاعٌ قَلِيلٌ)} أي متاع قليل فان. قال النخعيّ: (إنّ الدّنيا جعلت قليلا؛ وما بقي منها إلاّ قليل من قليل).
(1)
محارب بن دثار السدوسي. روى عن ابن عمر وجابر وغيرهما من الصحابة، فهو تابعي صدوق مأمون. توفرت فيه خصال ست: الحلم، الصبر، السخاء، الشجاعة، البيان، التواضع. ترجم له ابن حجر في التهذيب: الرقم (6757).مات سنة (116) من الهجرة.
(2)
عن قتادة قال: «والله ما غرّوا نبيّ الله، ولا وكّل إليهم شيئا من أمر الله، حتى قبضه الله على ذلك» .أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6674).
قوله تعالى: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ؛} تقدير هذه الآية مع ما قبلها: لا يعجبك يا محمّد تقلّب أولئك الكفار في نعيم الدّنيا، بل ما أعطي المتّقون في الآخرة أفضل، فإنّ {(الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ)} أي وحّدوه وأطاعوه {(لَهُمْ جَنّاتٌ)} أي بساتين تجري من تحت أشجارها ومساكنها الأنهار مقيمين فيها.
قوله تعالى: {(نُزُلاً)} أي رزقا وثوابا لهم، وهذا نصب على التفسير؛ كما يقال للشيء: هبة أو صدقة. ويجوز أن يكون نصبا على المصدر على معنى: انزلوا نزلا، والنّزل: ما يهيّأ للنّازل من كرامة وبرّ وطعام وشراب ومنظر حسن.
قوله تعالى: {وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ} (198)؛أي من عند الله من الجزاء والثّواب خير للصالحين من ما لهم في الدّنيا. قرأ أبو جعفر: «(لكنّ الّذين)» بالتشديد. وقرأ الحسن والنخعيّ: «(نزلا)» ساكنة الزّاي.
روى أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على سرير، وتحت رأسه وسادة من أدم وحشوها ليف، فدخل عليه عمر رضى الله عنه فانحرف النّبيّ صلى الله عليه وسلم انحرافة؛ فرأى عمر أثر الشّريط في جنبه فبكى، فقال له:[ما يبكيك يا عمر؟] فقال:
وما لي لا أبكي يا رسول الله! وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدّنيا، وأنت على الحال الّذي أرى، فقال:[يا عمر! أما ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة؟ فقال: بلى، قال: [هو كذلك]
(1)
.
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ؛} معناه: إنّ من أهل الكتاب لمن يصدّق بالله والقرآن والتّوراة والإنجيل والزّبور وسائر كتب الله، وهم: عبد الله بن سلام وأصحابه؛ {خاشِعِينَ}
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 3 ص 140.وفي مجمع الزوائد: ج 10 ص 326؛قال الهيثمي: «رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أحمد رجال الصحيح غير مبارك بن فضالة، وقد وثقه جماعة وضعفه جماعة».وابن حبان في الصحيح: كتاب النكاح: باب معاشرة الزوجين: الحديث (4188) من حديث ابن عباس، وإسناده حسن على شرط مسلم.
{بِاللهِ؛} أي ذليلة أنفسهم لله؛ {لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ؛} بمحمّد والقرآن؛ {ثَمَناً قَلِيلاً؛} عرضا يسيرا كما فعله رؤساء اليهود؛ {أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} . وقال قتادة: (نزلت هذه الآية في النّجاشيّ ملك الحبشة؛ لمّا مات نعاه جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي في اليوم الّذي مات فيه؛ فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: [اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم] قالوا: ومن هو؟ قال:
[النّجاشيّ]
(1)
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة؛ فأبصر سرير النّجاشيّ فصلّى عليه واستغفر له؛ وقال لأصحابه:[استغفروا له].فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على علج حبشيّ نصرانيّ لم يره قطّ، وليس على دينه!؟ فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
قوله تعالى: {(خاشِعِينَ لِلّهِ)} تنصب على الحال. قوله تعالى: {(لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً)} أي لا يحرّفون كتبهم، ولا يكتمون صفة محمّد صلى الله عليه وسلم لأجل المآكل والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود. قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} (199)؛فقد تقدّم تفسيره.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ؛} أي {(اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا)} أي اصبروا على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وصابروا أعداءكم في الجهاد في مقاتلتهم، ورابطوا خيولكم على الجهاد. والرّباط والمرابطة: أن يربط كلّ واحد من الفريقين خيولهم في الثّغر. وقيل المرابطة:
المحافظة على الصلوات.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدّرجات؟] قالوا: بلى يا رسول الله، قال:[إسباغ الوضوء على المكاره؛ وكثرة الخطا إلى المساجد؛ وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط]
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6679) بأسانيد.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6681).والواحدي في أسباب النزول: ص 93.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (6696).ومسلم في الصحيح: كتاب الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره: الحديث (251/ 41).
وقال الضحّاك: (معنى الآية: يا أيّها الّذين آمنوا اصبروا على أمر الله).وقال الكلبيّ: (اصبروا على البلاد)،وقالت الحكماء: الصّبر ثلاثة أشياء: ترك الشّكوى؛ وصدق الرّضا؛ وقبول القضاء. وقيل: الصّبر: هو الثّبات على أحكام الكتاب والسّنة.
قوله تعالى: {(وَصابِرُوا)} الكفّار {(وَرابِطُوا)} بمعنى داوموا وأثبتوا. قال صلى الله عليه وسلم: [من رابط يوما في سبيل الله كان كصيام شهر وقيامه، ومن توفّي في سبيل الله أجرى الله له أجره حتّى يقضي بينه وبين أهل الجنّة وأهل النّار، ومن رابط يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النّار سبعة خنادق؛ كلّ خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين]
(1)
.
قال بعضهم في هذه الآية {(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)} عند قيام النّفير على احتمال الكرب، {(وَصابِرُوا)} على مقاساة العناء والتّعب، {(وَرابِطُوا)} في دار أعدائي بلا هرب، واتقوا عدوّكم من الالتفات الى السّبب لكي تفلحوا غدا بلقائي عند بساط القرب. وقال السري السقطي:(اصبروا على الدّنيا رجاء السّلامة، وصابروا عند القتال بالثّبات والاستقامة، ورابطوا هوى النّفس اللّوّامة، واتّقوا ما يعقب لكم النّدامة، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200)؛غدا على بساط الكرامة.
وقيل: معناه: اصبروا على بلائي، وصابروا بالشّكر على نعمائي، ورابطوا في دار أعدائي، واتّقوا محبّة من سواي لعلّكم تفلحون بلقائي. وقيل: اصبروا على البغضاء؛ وصابروا على البأساء والضرّاء؛ ورابطوا في دار الأعداء؛ واتّقوا إله الأرض والسّماء؛ لعلّكم تفلحون في دار البقاء. وعن جعفر الصّادق قال: (معنى هذه الآية:
اصبروا على المعاصي؛ وصابروا مع الطّاعات؛ ورابطوا الأرواح بالمساجد، واتّقوا الله لكي تبلغوا مواقف أهل الصّدق؛ فإنّها محلّ الفلاح).والله أعلم.
آخر تفسير سورة (آل عمران) والحمد لله رب العالمين
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 5 ص 416:الحديث (4822) عن جابر رضي الله عنه. وفي الدر المنثور: ج 2 ص 419؛ قال السيوطي: «أخرجه الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به» .