الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المائدة
سورة المائدة مدنيّة إلاّ قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فإنّ هاتين الآيتين نزلتا بمكّة بعد الفتح، وحكمهما حكم المدنيّة لنزولهما بعد الهجرة. وعدد حروفها أحد عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا، وعدد كلماتها ألفان وثمانمائة وأربع كلمات، وعدد آياتها مائة وعشرون آية عند الكوفيّين، واثنان وعشرون عند الحجازيّين، وثلاث وعشرون عند البصريّين.
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ؛} أي أوفوا بالعقود التي كتبها الله عليكم مما أحلّه لكم وحرّمه عليكم، وقيل: معناه: أتمّوا العهود التي بينكم وبين المشركين ولا تنقضوها حتى يكون النّقض من قبلهم، هكذا روي عن ابن عبّاس والضّحاك وقتادة. وقال الحسن:(معناه أوفوا بعقود الدّين؛ يعني أوامر الله ونواهيه)
(1)
.وقيل: معناه: أوفوا بكلّ عقد تعقدونه على أنفسكم من نذر أو يمين.
وقيل: أوفوا بالعقود التي يعقدها بعضكم لبعض، نحو عقد البيع والإجارة والنّكاح والشّركة، ولا تنافي بين هذه الأقوال؛ إذ كلّ هذه العقود يجب الوفاء بها.
قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ؛} أي رخّصت لكم الأنعام نفسها، وأضاف البهيمة إلى الأنعام، كما يقال: مسجد الجامع؛ ونفس الإنسان. والأنعام:
هي الإبل والبقر والغنم، ودخل في هذه الآية إباحة الظّباء وبقر الوحش وحمار الوحش؛
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: عن ابن عباس قال: «ما أحلّ، وما حرّم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كلّه، فلا تغدروا ولا تنكثوا» :النص (8569).
لأنّها أبهم في التّميّز من الأهليّة، ولهذا استثنى الله الصيد في حالة الإحرام في قوله تعالى:{(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)} . والبهيمة في اللغة يتناول كلّ حيّ لا يميّز، استبهم عليه الجواب؛ أي استغلق.
قوله تعالى: {إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ؛} أي إلاّ ما يقرأ عليكم في القرآن ممّا حرّم عليكم في هذه السورة من الميتة والدّم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردّية والنّطيحة الآية.
قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ؛} نصب على الحال من الكاف والميم التي في قوله: {(أُحِلَّتْ لَكُمْ)} كما يقال: جاء زيد راكبا؛ وجاء غير راكب. والمعنى: أحلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلّي الصّيد؛ أي من أن تستحلّوا قتل الصّيد وأنتم محرمون.
وقيل: نصب على الحال من قوله {(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)} أي أوفوا بالمعقود غير محلّي الصّيد، هذا قول الأخفش، والأوّل قول الكسائيّ.
ومعنى الآية: أحلّت لكم الأنعام إلاّ ما كان وحشيا، فإنّه صيد لا يحلّ لكم إذا كنتم محرمين، فذلك قوله:{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ} (1)؛أي يقضي على عباده بما شاء من التحليل والتحريم على ما توجبه الحكمة.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ؛} أراد به المناسك؛ أي لا تستحلّوا مخالفة شيء منها، ولا تجاوزوا مواقيت الحرم غير مؤدّين حقوقها، وذلك: أنّ الأنصار كانوا لا يسعون بين الصّفا والمروة، وكان أهل مكّة لا يخرجون إلى عرفة فأمر الله تعالى أن لا يتركوا شيئا من المناسك. وقال الحسن:
(شعائر الله دين الله)؛أي لا تحلّوا في دين الله شيئا ممّا لم يحلّه الله. ويقال: هي حدود الله في فرائض الشرع.
والشّعائر في اللغة: المعالم، والإشعار: الإعلام، والشّعيرة واحدة الشّعائر؛ وهي كلّ ما جعل علما لطاعة الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ؛} أي ولا تستحلّوا القتل والغارة في الشّهر الحرام، وأراد بذلك الأشهر الحرم كلّها؛ وهي: رجب؛ وذو القعدة؛ وذو الحجّة؛ والمحرّم، إلاّ أنه ذكر باسم الجنس كما في قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ}
(1)
أراد به جنس الإنسان، ولذلك استثنى المطيع بقوله:{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} .
وكان في ابتداء الإسلام لا تجوز المحاربة في الأشهر الحرم كما قال تعالى: {قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}
(2)
،ثم نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام بقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(3)
.
قوله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ؛} أي لا تحلّوا الهدي؛ أي لا تذبحوه قبل محلّه؛ ولا تنتفعوا به بعد أن جعلتموه لله، ولا تمنعوه أن يبلغ البيت.
قوله تعالى: {(وَلا الْقَلائِدَ)} أي ولا تحلّوا القلائد التي تكون في أعناق الهدايا؛ أي لا تقطعوها قبل الذبح وتصدّقوا بها بعد الذبح كما قال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: [تصدّقوا بجلالها وخطامها، ولا تعطي الجزّار منها شيئا]
(4)
.
قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ؛} معناه: ولا تستحلّوا القتل والغارة على القاصدين المتوجّهين نحو البيت الحرام، وعن ابن عبّاس رضي الله عنه: (أنّ الآية وردت في شريح بن ضبيعة بن هند اليماميّ
(5)
،دخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقال:
أنت محمّد النّبيّ؟ قال: [نعم] قال: إلام تدعو؟ قال: [أدعو إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله؛ وأنّي رسول الله].فقال: إنّ لي أمراء أرجع إليهم وأشاورهم، فإن قبلوا
(1)
العصر 2/.
(2)
البقرة 217/.
(3)
التوبة 5/.
(4)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحج: باب يتصدق بجلود الهدي: الحديث (1717)،وهو الحديث (1716 و 1718).ومسلم في الصحيح: الحج: باب الصدقة بلحوم الهدايا: الحديث (1317/ 348) ولفظه عن علي رضي الله عنه قال: [أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدّق بلحمها وجلودها وأجلّتها وأن لا أعطي الجزّار منها؛ قال: نحن نعطيه من عندنا].
(5)
في رواية الطبري، ذكره قال:«الحطم بن هند البكري» ،وفي رواية قال:«الحطم أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري» .وفي أسباب النزول قال الثعلبي: «نزل الحطيم واسمع شريح بن ضبيع الكندي، أي أتى النبيّ من اليمامة» .
قبلت. ثمّ انصرف من عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا خرج قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر].فمرّ بسرح لأهل المدينة فاستاقها، وانطلق نحو اليمامة وهو يرتجز يقول:
باتوا نياما وابن هند لم ينم
…
بات يقاسيها غلام كالزّلم
خدلّج السّاقين خفّاق القدم
…
قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
…
ولا بجزّار على ظهر وضم
هذا أوان الحرب فاشتدّي زلم
(1)
…
وقد كان عند دخوله على النّبيّ صلى الله عليه وسلم خلّف خيله خارج المدينة ودخل وحده.
فلمّا كان في العام القابل؛ خرج شريح نحو مكّة في تجارة عظيمة في حجّاج بكر بن وائل من أهل اليمامة وهم مشركون، وكانت العرب في الجاهليّة يغير بعضهم على بعض، فإذا كان أشهر الحجّ أمن النّاس بعضهم بعضا، وإذا سافر أحدهم في غير الأشهر الحرم نحو مكّة قلّد هديه من الشّعر والوبر، ومن لم يكن له هدي قلّد راحلته، ومن لم يكن معه راحلة جعل في عنقه قلادة، وكانوا يأمنون بذلك، فإذا رجعوا من مكّة جعلوا شيئا من لحاء شجر الحرم في عنق الرّاحلة فيأمنوا، فلمّا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج شريح وأصحابه استأذنوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية)
(2)
.
قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً؛} في موضع نصب على الحال، معناه: قاصدين طالبين رزقا بالتّجارة، {(وَرِضْواناً)} أي رضى من الله تعالى على عملهم، ولا يرضى عنهم حتّى يسلموا. وقال الحسن وقتادة: (معنى رضوانا؛ أي يرضى الله عنهم؛ فيصلح معاشهم ويصرف عنهم العقوبات في الدّنيا إذا كانوا لا يقرّون بالبعث، ثمّ نسخ قوله تعالى بعد ذلك تعرّض المشركين بقوله تعالى:
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 43 تقديم وتأخير في صدر البيت وعجزه.
(2)
أخرجه مختصرا الطبري في جامع البيان: النص (8612) عن السدي. وفي أسباب النزول للواحدي: ص 125 - 126.وفي الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: ج 6 ص 43.
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
(1)
كافّة، وبقوله تعالى:{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}
(2)
).وقرأ الأعمش «(ولا آمّين)» أي البيت الحرام بالإضافة.
قوله تعالى: {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا؛} أي لا يحملنّكم ويكسبنّكم بغض قوم وعداوتهم بأن صرفوكم عام الحديبية عن المسجد الحرام على أن تظلموهم، وتتجاوزوا الحدّ للمكافأة. وموضع:{(أَنْ تَعْتَدُوا)} نصب لأنه مفعول، و {(أَنْ صَدُّوكُمْ)} مفعول له، كأنه قال: لا يكسبنّكم بغض قوم الاعتداء عليهم بصدّهم إيّاكم.
قرأ أهل المدينة إلاّ قالون ابن عامر والأعمش: {(شَنَآنُ)} بجزم النّون الأولى. وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان؛ إلاّ أنّ الفتح أجود لأنه أفهم اللّغتين، ولأنّ المصادر أكثر ما تجيء على (فعلان) مثل النّفيان
(3)
والرّتقان
(4)
والعسلان
(5)
ونحو ذلك
(6)
.
قال ابن عبّاس: (معنى: {(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ)} أي ولا يحملنّكم)
(7)
.وقال الفرّاء:
(ولا يكسبنّكم)،قال:(يقال: فلان جريمة أهله؛ أي كاسبهم).قوله تعالى: {(أَنْ صَدُّوكُمْ)} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف والجزاء، وقرأ الباقون بالفتح؛ أي لئن صدّوكم، والفتح أجود؛ لأن الصدّ كان واقعا من الكفّار يوم الحديبية قبل نزول هذه السورة.
(1)
التوبة 5/.
(2)
التوبة 28/.
(3)
النّفيان: نفيان السّيل: ما فاض من مجتمعه، كأنه يجتمع في الأنهار الإخاذات، ثم يفيض إذا ملأها، فذلك نفيانه.
(4)
الرّتق: إلحام الفتق وإصلاحه، والرّتقان: ثوبان يرتقان بحواشيهما.
(5)
العسلان: الناقة السريعة، أو المشي الخبب، ومشي الذئب واهتزاز الرمح.
(6)
في الحجة للقراءات السبعة: ج 2 ص 105؛قال أبو علي الفارسي: «أما الشّنآن، فإن فعلانا يجيء على ضربين: أحدهما اسم، والآخر: وصف. والاسم على ضربين: أحدهما أن يكون مصدرا كالنّقزان، والنّفيان .. وعامة ذلك يكون معناه التحرك والتقلّب، فالشّنآن على ما جاءت به هذه المصادر. والاسم الذي ليس بمصدر نحو: الورشان والعلجان. وأما مجيء فعلان وصفا فنحو: الزّفيان والقطوان» .
(7)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8648).
قوله تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى؛} أي تحاثّوا على الطّاعة وترك المعصية، قال أبو العالية:(البرّ: ما أمرت به، والتّقوى: ترك ما نهيت عنه)
(1)
.وظاهر الأمر يقتضي وجوب المعاونة على الطّاعة، وظاهر الأمر على الوجوب.
قوله تعالى: {وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ؛} أي لا يعن بعضكم بعضا على شيء من المعاصي والظّلم، وقال بعضهم: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم والبرّ؛ فقال: [البرّ: حسن الخلق، والإثم: ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس]
(2)
.قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} (2)؛أي اخشوه وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه، {(إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)} إذا عاقب، فعقابه شديد.
قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ؛} الميتة: اسم لكلّ ذي روح فارقه روحه حتف أنفه، والمراد بالدّم: الدّم المسفوح، وحرّم عليكم لحم الخنزير لعينه لا لكونه ميتة حتى لا يحلّ تناوله مع وجود الذكاة فيه.
وفائدة تخصيص لحم الخنزير بالذّكر دون لحم الكلب وسائر السّباع: أنّ كثيرا من الكفّار ألفوا لحم الخنزير، واعتادوا أكله وأولعوا به ما لم يعتادوا به أكل غيره.
وقيل: فائدته: أنّ مطلق لفظ التحريم يدلّ على نجاسة عينه مع حرمة أكله، ولحم الخنزير مختص بهذا الحكم؛ وذلك: أنّ سائر الحيوانات المحرّم أكلها إذا ذبحت كان لحمها طاهرا لا يفسد الماء إذا وقع فيه، وإن لم يحلّ أكله بخلاف لحم الخنزير.
قوله تعالى: {(وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ)} أي وحرّم عليكم ما ذكر عليه عند الذبح اسم غير الله، وذلك أنّهم كانوا يذبحون لأصنامهم يتقرّبون بذبحها إليهم، فحرّم الله كلّ ذبيحة يتقرّب بذبحها إلى غير الله تعالى، ولذلك قال الفقهاء: إنّ الذابح لو سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى فقال: بسم الله ومحمّد؛ حرمت الذبيحة
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8647).
(2)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب البر: باب تفسير البر والإثم: الحديث (2553/ 14) عن النواس بن سمعان الأنصاري.
(3)
أدرج الناسخ قوله: «قال في تفسير عبد الصّمد، وذكر الإمام أبو عاصم العامريّ محمد بن-
قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ؛} أي حرّم عليكم أكل لحم المنخنقة؛ وهي التي تنخنق بحبل أو شبكة فتموت من غير ذكاة، وأمّا الموقوذة؛ فهي المضروبة بالخشب حتّى تموت، قوله تعالى:{(وَالْمُتَرَدِّيَةُ)} هي التي تتردّى من جبل أو سطح أو في بئر فتموت قبل الذكاة. والتّردّي: هو السّقوط، مأخوذ من الرّداء وهو الهلاك، قال صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم:[إذا تردّت رميتك من جبل فوقعت في ماء فلا تأكل؛ فإنّك لا تدري أسهمك قتلها أم الماء]
(1)
.
فصار هذا الكلام أصلا في كلّ موضع اجتمع فيه معنيان: أحدها حاظر، والآخر مبيح فأنّه تغلب جهة الحظر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:[الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشبّهة، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه]
(2)
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: (كنّا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الرّبا)
(3)
.
(3)
-أحمد عن أصحابنا: (أنّ سلطانا لو دخل بلدا فذبح النّاس الذبائح تقرّبا إليه بذبحها وإراقة دمها؛ لم يحلّ تناول شيء منها؛ لأنّه قد أهلّ بها لغير الله وتقرّب بذبحها إلى غير الله).وكان يفرّق بين هذا وبين ما يذبحه الرجل لضيفه بمعنى: أنّ صاحب الضيف إنّما يتقرّب إلى ضيفه باللّحم دون إراقة الدم، ألا ترى أنه لو ذبح الشاة باسمه ونسبه ولم يقرّبها إليه لم يكن تقريبا إليه.
فأمّا ما يذبح لأجل الأمراء عند دخولهم البلاد، إنّما يتقرّبون إليهم بالذبح وإراقة الدّم دون اللّحم، فإنّ اللحم لا يحمل إليهم ولا يرجع إليهم شيء من منافعه، فلذلك افترقا. وكان يحكى عن بعض المشايخ: أن هذه المسألة وقعت ببعض بلاد ما وراء النّهر؛ فاختلف فيها فقهاؤها؛ فكتبوا إلى أئمّة بخارى؛ فأفتوا بتحريمها».
ويلاحظ أن أسلوب المفسر في عبارته يختلف عن أسلوب المصنف رحمه الله، فضلا عن وضوح الإدراج في السياق.
(1)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الصيد: باب الصيد بالكلاب المعلمة: الحديث (1929/ 7).
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه: الحديث (52 و 2051).ومسلم في الصحيح: المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات: الحديث (1599/ 107).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: البيوع: باب طعام الأمراء وأكل الربا: النص (14683): «عن الشعبي قال: قال عمر:
…
وذكره».
قوله عز وجل: {وَالنَّطِيحَةُ؛} هي التي تنطح حتى تموت، وإذا تناطحت الحيوانات فقتل بعضها بعضا في النّطاح فهي حرام بالآية، قال ابن عبّاس:(كان أهل الجاهليّة يخنقون الشّاة حتّى إذا ماتت أكلوها وكذلك الموقوذة)
(1)
،قال قتادة:(كان أهل الجاهليّة يضربون الشّاة بالبعض حتّى إذا ماتت أكلوها)
(2)
،يقال منه: وقده يقده إذا ضربه حتى أشفى على الهلاك. قال الفرزدق:
شغّارة تقذ الفصيل برجلها
…
فطّارة لقوادم الأبكار
(3)
قوله تعالى: {(النَّطِيحَةُ)} إنّما دخلت الهاء فيها وإن كان الفعل بمعنى المفعول يسوّى فيه المذكّر والمؤنّث كقولهم: لحية دهين وعين كحيل وكفّ خضيب؛ لأنّ النطيحة لم يتقدّمها اسم، فلو أسقطت الهاء منها لم يدر أهي مذكّر أم مؤنث، فنظير ذلك لو قيل: شاة نطيح لم تذكّر الهاء المذكّر الشاة
(4)
.
قوله تعالى: {وَما أَكَلَ السَّبُعُ،} وقرأ ابن أبي زائدة: «(وأكيلة السّبع)» .
وقرأ الحسن وطلحة: «(السّبع)» بسكون الباء وهي لغة في السّبع، ومعنى قوله تعالى:
{(وَما أَكَلَ السَّبُعُ)} هو فريسته.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8652).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8655).
(3)
الشغّارة: الناقة ترفع رجلها ضاربة الفصيل لتمنعه من الرضاع عند الحلب. يقال: شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول، وهو منصوب على الذمّ. وتقذّ والوقذ: أشدّ الضرب. والموقوذة: التي أنهكت ضربا بالخشب حتى تموت.
والفطّارة: الحاذقة بحلب الفطر، وهو الحلب بأطراف الأصابع، والحلب بالسبّابة والوسطى ويستعين بطرف الإبهام. والفطر والفطر: خلاف الضبّ؛ وضبّ الناقة يضبّها: جمع خلفيها في كفّه للحلب، وهو الحلب بالكفّ كلها. وقيل: هذا هو الضّفّ. وقوادمها: أخلافها، وهما القادمان، وجمعه قوادم. والأبكار تحلب فطرا؛ لأنه لا يستمكن أن يحلبها ضبّا لقصر الخلف لأنها صغار.
(4)
لكن ذكر الهاء هاهنا (النطيحة)؛لأن الهاء إنما تحذف من الفعيلة إذا كانت صفة لموصوف منطوق به، فيقال: شاة نطيح وامرأة قتيل. فإن لم تذكر الموصوف فتقول: رأيت قتيلة بني فلان، وهذه نطيحة الغنم، وإلا لم يتميز أذكر أم أنثى. ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 49.
قوله تعالى: {إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ؛} أي إلاّ ما ذكرتم ذكاته مما أكل منه السّبع فذكّيتم، فإنّ ذلك يحلّ لكم، أو ما أبين من الصّيد قبل الذكاة فهو ميّت، ويحتمل أن يكون قوله تعالى:{(إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ)} راجعا إلى المنخنقة والموقوذة والمتردّية والنّطيحة وما أكل السّبع، فإنّها كلّها في الحكم بمعنى واحد. وعن الحسن أنه كان يقول في هذه الجملة:(إذا طرفت بعينها؛ أو وكصت برجلها؛ أو حرّكت بدنها فذكّها وكل)
(1)
.
وشرط أكثر العلماء في إباحة أكلها بالذكاة: أن تكون حياتها وقت الذكاة أكثر من حياة المذبوح، فإن كانت بهذه الصّفة أثّرت الذكاة في إباحتها وإلاّ فلا.
والتّذكية: تمام فري الأوداج وإنهار الدّم، ومنه الذكاء في الفم إذا كان تامّ العقل، وذكّيت النّار إذا أتممت إشعالها.
قوله تعالى: {وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ؛} أي وحرّم عليكم ما ذبح على النّصب، هي جمع النّصب، والنّصاب: وهي الحجارة، كانوا ينصبونها فيعبدونها من دون الله تعالى ويقرّبون لها الذبائح، والفرق بين النّصب والأصنام: أنّ الصنم اسم لما كان على صورة الإنسان، والنّصب ما لا نقش له ولا صورة ولكنه يعبد. والوثن ما كان منقوشا، والحائط لا شخص له. وقيل: النّصب واحد وجمعه أنصاب، مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: (على النّصب) بجزم الصاد، وقرأ الجحدريّ: بفتح النون والصاد؛ جعله اسما موحدا كالجبل والجمل، والجمع الأنصاب كالأجبال والأجمال، وكلّها لغات وهي الشيء المنصّب، ومنه قوله تعالى:
{كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}
(2)
.
واختلفوا في معنى النّصب هاهنا؛ قال ابن جريج ومجاهد وقتادة: (كان حول البيت ثلاثمائة وستّون حجرا، وكان أهل الجاهليّة يذبحون عليها، ويشرّحون اللّحم عليها، وكانوا يعظّمونها ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا رأوا حجارة
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8673) عن ابن عباس، والنص (8674) عن الحسن.
(2)
المعارج 43/.
هي أعجب إليهم منها).وقالوا: (ليست أصناما إنّما الصّنم ما ينقش).وقال آخرون:
النّصب هي الأصنام المنصوبة. قال الأعشى:
وذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه
…
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
قال قطرب: (معنى الآية: وما يذبح للنّصب؛ أي لأجلها، واللاّم و (على) يتعاقبان في الكلام، قال الله تعالى:{فَسَلامٌ لَكَ}
(1)
أي عليك، وقال تعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها}
(2)
أي فعليها).وقال بعضهم: معناه: وما ذبح على اسم النّصب.
قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ؛} وهي القداح؛ أي حرّم عليكم الاستقسام؛ وهو طلب القسم بالأزلام؛ وهي القداح الّتي كانوا يجلبونها عند العزم على الميسر ويقتسمون بها لحم الجزور على ما تقدم ذكره في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
(3)
.
وقال الحسن: (كانوا يتّخذون السّهام؛ فإذا أراد الرّجل أن يخرج إلى سفر أو تجارة أو سروح؛ أجال السّهام بيده، وكان مكتوبا على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإن خرج الّذي عليه: أمرني ربي؛ قال: قد أمرت بالخروج ولا بدّ لي من ذلك؛ فيخرج، وإن كره الخروج خرج غير بعيد ثمّ رجع، ولا يدخل من باب بيته، ولكن ينقب ظهر بيته منه يدخل ومنه يخرج إلى أن يتّفق له الخروج. وإن خرج الّذي عليه: نهاني ربي، قال: قد نهيت عن الخروج، ولا يسعني. فنهى الله تعالى عن ذلك)
(4)
.
فعلى هذا لا يجوز أن يكون معنى الاستقسام طلبهم في الخروج والجلوس، والخروج في قسم الرّزق والحوائج، وظاهر هذه الآية يقتضي أنّ العمل على قول المنجّمين: لا تخرج من أجل نجم كذا؛ واخرج من أجل نجم كذا؛ فسق لأنّ ذلك دخول في علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلاّ الله.
(1)
الواقعة 91/.
(2)
الاسراء 7/.
(3)
البقرة 219/.
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8693).
ومعنى الفسق: الخروج من الطاعة؛ وقوله تعالى: {ذلِكُمْ فِسْقٌ؛} إشارة إلى ما تقدّم ذكره من المعاصي والحرام. قوله تعالى: {(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا)} في موضع رفع؛ أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام، والأزلام: هي القداح الّتي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم، مثل عمر وزفر، وقيل: زلم مثل قلم. وقال ابن جبير: (هي حصى بيضاء كانوا يضربون بها).
قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ؛} قال ابن عبّاس:
(نزلت هذه الآية يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة ومعه المسلمون وهو يوم الفتح، يئس الكفّار يومئذ من رجوع المسلمين إلى دينهم بما ظهر من علوّ الإسلام والمسلمين على سائر الأديان).وقال بعضهم: أراد به يوم حجّة الوداع، وقال الحسن:(أراد باليوم جميع زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعصره، كما يقال: كانت حادثة كذا في يوم فلان، يراد به عصره).
وقوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ؛} أي ليكن خوفكم لله وحده؛ فقد أمنتم، وحوّل الله الخوف الذي كان يلحقكم إليهم بإظهار الإسلام. وقيل: معناه: لا تخشوهم بإظهار تحريم ما كانوا يبيحونه، وأسرعوا في ترك إظهار المحرّمات.
قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة يوم عرفة؛ والنّاس وقوف رافعون أيديهم بالدّعاء، فبركت ناقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم من ثقل هذه الآية بعد أن كاد عضدها يندقّ، ولم ينزل بعدها آية حلال ولا حرام، وعاش النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعدها واحدا وثمانين يوما، ثمّ قبضه الله تعالى إلى رحمته)
(1)
.
قال طارق بن شهاب: (جاء يهوديّ إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! آية تقرءونها لو أنزلت علينا لاتّخذنا يوم نزولها عيدا، فقال: وأيّ آية؟ قال: {(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)} الآية، قال عمر: هل علمت في أيّ يوم نزلت وفي أيّ مكان نزلت؟ إنّها نزلت يوم الجمعة يوم عرفة ونحن مع رسول الله
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (8710) عن السدي عن أسماء بنت عميس.
صلى الله عليه وسلم وهو واقف، وكلاهما بحمد الله لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيدا)
(1)
.قال ابن عبّاس: (إنّها نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة)
(2)
.
روي عن عمر رضي الله عنه أنّه بكى يوم نزلت هذه الآية، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[ما يبكيك يا عمر؟!] قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا أكمل، فإنّه لا يكمل شيء إلاّ نقص، قال:[صدقت]
(3)
.
واختلفوا في معنى الآية؛ قال بعضهم: معناها: اليوم أكملت لكم شرائع دينكم من الفرائض والسّنن والأحكام والحدود والحلال والحرام، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض، وثبت لكم جميع ما كنت أريد أن أبيّنه لكم في الأزل، فأمّا دين الله فلم يزل كاملا لا ينقص فيه، وهذا قول ابن عبّاس والسّدّيّ. وقال قتادة وسعيد:(معناه: أكملت لكم دينكم؛ فلم يحجّ معكم مشرك).ويحتمل أن يكون المراد بالأكمل للدين أظهره على سائر الأديان بالنّصرة والغلبة، و (اليوم) نصب على الظّرف، كما يقال: الآن، وفي هذا الزّمان.
قوله تعالى: {(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)} أي أتممت عليكم منّتي بإظهار الدّين حتى لم يحجّ معكم مشرك، وقيل: نعمة الله بيان فرائضه، وقيل: هي إيجاب الجنّة، وقيل: معناه: وأنجزت لكم وعدي في قولي: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}
(4)
،فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكّة آمنين وعليها ظاهرين، وحجّوا مطمئنّين، ولم يخالطهم أحد من المشركين.
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الإيمان: باب زيادة الإيمان ونقصانه: الحديث (45)، وكتاب المغازي: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (4407).ومسلم في الصحيح: كتاب التفسير: الحديث (3 و 4 و 3017/ 5).
(2)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 143:الحديث (12835).والترمذي في الجامع: كتاب التفسير: الحديث (3044)،وقال: حديث حسن غريب.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (8712) مرسلا. وفي الدر المنثور: ج 3 ص 18؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير» .
(4)
البقرة 150/.
قوله تعالى: {(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)} أي اخترت لكم الإسلام من الأديان كلّها دينا، فمن دان بالإسلام، فقد استحقّ ثوابي ورضاي.
والدّين: اسم لجميع ما يعبد الله به خلقه، وأمرهم بالإقامة عليه، وهو الذي أمروا أن يكون ذلك عادتهم والذي به يجزون، فإن الدّين في اللغة: العادة، والدّين الجزاء.
قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3)؛أي من دعته الضرورة إلى أكل شيء ممّا حرّم الله عليه في مجاعة غير مائل إلى إثم؛ أي زائد على ما يسدّ به رمقه {(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} أباح ذلك رحمة منه وتسهيلا على خلقه. والمخمصة: مأخوذة من المخص وهو شدّة ضمور البطن، والمتجانف من الجنف وهو الميل.
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ؛} قال ابن عبّاس: (لمّا نزل قوله تعالى: {(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ)} جاء عديّ بن حاتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ لنا كلابا نتصيّد بها فتأخذ البقر والظّباء والحمر، فمنها ما ندرك ذكاته، ومنها ما لا ندرك، وقد حرّم الله الميتة.
فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: يسألونك يا محمّد: أيّ شيء أحلّ لهم من الصّيد وغيره؟ قل أحلّ لكم المباحات. يقال: هذا يطيب لفلان؛ أي يحلّ، قال الله تعالى:{فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ}
(1)
أي ما حلّ لكم. وكلّ شيء لم يأت تحريمه في كتاب أو سنّة فهو من الطّيّبات. وقال بعضهم: أراد بالطيّبات المستلذات والمشتهيات، وهو عامّ أريد به غير ما تضمّنته الآية المتقدّمة.
قوله تعالى: {(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ)} أي وأحلّ صيد ما علّمتم، فحذف ذكر الصّيد لأنّ في الكلام دليلا عليه، والجوارح: هي الكواسب من الفهد؛ والصّقر؛ والباز؛ والعقاب؛ والنّسر؛ والباشق؛ والشّاهين وسائر ما يصطاد به الصيد.
(1)
النساء 3/.
قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ}
(1)
أي كسبتم، وقيل: معنى الجوارح:
الجارحات بناب أو مخلب. قوله تعالى: {(مُكَلِّبِينَ)} حال للمعلّمين؛ أي في حال إغرائهم الكلب على الصّيد، والتّكليب: إغراء السّبع على الصّيد وإرساله.
ومن قرأ «(مكلّبين)» بفتح اللاّم فهو حال من الكواسب المعلّمين. وقرأ ابن مسعود والحسن: «(مكلبين)» بإسكان الكاف وتخفيف اللام، فعلى هذا المعنى يجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرّجل إذا كثرت كلابه، وأمشى إذا كثرت ماشيته، ولذلك ذكر الكلاب؛ لأنّها أعمّ وأكثر، والمراد به جميع الجوارح.
قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللهُ؛} أي تؤدّبوهنّ أن يمسكن الصّيد عليكم كما أدّبكم الله تعالى، {فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ؛} أي على الإرسال، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعديّ بن حاتم:[إذا أرسلت كلبك المعلّم، وسمّيت الله تعالى فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنّه إنّما أمسك على نفسه]
(2)
.وفي بعض الرّوايات: [وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل، فإنّك إنّما سمّيت على كلبك، ولم تسمّ على كلب غيرك]
(3)
.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ معنى الإمساك في هذه الآية أن يحفظ الكلب الصّيد حتّى يجيء صاحبه، فإن تركه حتى غاب عن صاحبه ثم وجده صاحبه بعد ذلك ميتا لم يحلّ أكله. قال صلى الله عليه وسلم:[كل ما أصميت، ودع ما أنميت]
(4)
،قيل:
الإصماء: ما رأيت؛ والإنماء ما توارى عنك.
(1)
الأنعام 60/.
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الذبائح والصيد: باب صيد المقراض: الحديث (5476). ومسلم في الصحيح: كتاب الصيد والذبائح: باب الصيد بالكلاب المعلمة: الحديث (1 - 1929/ 7).
(3)
ينظر الهامش السابق.
(4)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 22:الحديث (12370).وفي المعجم الأوسط: الحديث (5539).وفي مجمع الزوائد: ج 4 ص 162:كتاب البيوع: باب تصرف العبد؛ قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه عباد بن زياد، وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه موسى ابن هارون وغيره» .
واختلف أهل العلم في حدّ التعليم؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: (ليس فيه حدّ مؤقّت، وإنّما يرجع فيه إلى أهل الصّنعة، فإن حكموا بتعليمه حلّ صيده بعد ذلك وإلاّ فلا؛ لأنّ الاصطياد للكلاب بمنزلة الحرف والصّناعات للنّاس، وليس في معرفة كون الإنسان عالما بصنعته متقدّما على حرفته حدّ يؤمن عليه، ولكن يرجع في كلّ إلى أهلها).
وقال أبو يوسف ومحمّد وكثير من الفقهاء: (إذا دعي الكلب ثلاث مرّات على الولاء فأجاب؛ وأرسل فاسترسل، وأخذ الصّيد ولم يأكل، حكمنا بكونه معلّما؛ لأنّ التّعليم لا يحصل بالمرّة الواحدة، ويحصل بالمرّات الكثيرة، فجعل الحدّ الفاصل بين القليل والكثير بالثّلاث الّتي هي أقل الجمع الصّحيح).
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} (4)؛قد تقدّم تفسيره، وروى أبو رافع قال:(جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن؛ فأذن له فلم يدخل، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه وخرج إليه فقال له: [قد أذنّا لك يا رسول الله!] قال: أجل؛ ولكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو)
(1)
.
وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب]
(2)
قال أبو رافع: (فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع كلبا في
(1)
في مجمع الزوائد: ج 4 ص 42 - 43:كتاب الصيد والذبائح: باب ما جاء في الكلاب؛ قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف» .وفي مصنف ابن أبي شيبة: كتاب اللباس والزينة: باب في الصور والبيت: الحديث (25185) عن سلمى (أم رافع) مختصرا. وفي أسباب النزول: ص 127؛ قال الواحدي: «رواه الحاكم في صحيحه، وذكر المفسرون شرح هذه القصة» .وأسنده عن أم رافع وأبي رافع. وفي لباب النقول: ص 87؛قال السيوطي: «رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع» .
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 83 و 104 و 139 و 150.وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب في الجنب يؤمر بالغسل: الحديث (227)،وكتاب اللباس: باب في الصور: الحديث (4152).والنسائي في السنن الصغرى: كتاب الطهارة: باب في الجنب إذا لم يتوضأ: ج 1 ص 141،وكتاب الصيد والذبائح: ج 7 ص 185.عن عبد الله بن نجي عن أبيه، من أصحاب علي رضي الله عنه.
المدينة إلاّ قتلته، فقتلت حتّى بلغت العوالي، فانتهيت إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس غنمها فرحمته؛ ثمّ أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأمره فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته)
(1)
.وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا صوته يقول: [اقتلوا الكلب]
(2)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا يحلّ ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغيّ] ونهى عن اقتنائها وإمساكها، وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرّات إحداهنّ بالتّراب
(3)
.قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلب، فجاء أناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحلّ لنا من هذه الأمّة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية)
(4)
فلمّا نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها، ونهى عن اقتناء ما لا ينتفع بها، وأمر بقتل الكلب العقور، وما يضرّ ويؤذي، ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.
وعن عبد الله بن المغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لولا أنّ الكلاب أمّة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم، وأيّما قوم اتّخذوا كلبا ليس بكلب صيد أو حرث أو ماشية، فإنّه ينقص من أجورهم كلّ يوم قيراط]
(5)
.وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا أرض،
(1)
في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 4 ص 42؛قال الهيثمي: «رواه البزار وأحمد بأسانيد، رجال بعضها رجال الصحيح. ورواه الطبراني في الكبير أيضا» .
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: ج 7 ص 174:الحديث (6322).
(3)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب البيوع: باب في أثمان الكلاب: الحديث (3484).والنسائي في السنن: كتاب الصيد: باب النهي عن ثمن الكلب: ج 7 ص 190.
(4)
في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ج 4 ص 43؛قال الهيثمي: «رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، خلا سعيد بن بحر شيخ البزار، لم أجد من ترجمه» .
(5)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الصيد: باب في اتخاذ الكلب للصيد: الحديث (2845). والنسائي في السنن الصغرى: كتاب الصيد: باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها: ج 7 ص 185. وابن حبان في الإحسان: كتاب الحظر والإباحة: الحديث (5657) وإسناده صحيح.
فإنّه ينقص من أجره كلّ يوم قيراطان]
(1)
.والحكمة في ذلك: أنه ينبح على الضّيف ويروّع السائل.
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ؛} أي الآن تمّم الله لكم بيان الحلالات؛ وهو كلّ ما لم يجر ذكره في المحرّمات. قوله تعالى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ؛} أي ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم.
والدليل على أنّ المراد بالطعام هاهنا الذبائح: أنّ ما سوى الذبائح من الأطعمة والأشربة حلال للمسلمين؛ سواء كانت لأهل الكتاب أو لغيرهم، فبان المراد به الذبائح؛ لأنّ ذبائح غير أهل الكتاب من الكفّار حرام على المسلمين. قوله تعالى:
{وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ؛} أي ذبائحكم حلال لهم؛ أي رخّص لكم في أن تطعموهم ذلك.
قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ؛} قال الحسن: (أراد بالمحصنات هاهنا الحرائر من المؤمنات والكتابيّات).وقال ابن عبّاس: (أراد به الحرائر العفائف منهنّ).
وتقدير الآية: وأحلّ لكم نكاح المحصنات من المؤمنات والكتابيّات، وقد استدلّ بعض الفقهاء بظاهر هذه الآية: على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة، والصحيح: أنه يجوز بظاهر قوله تعالى: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}
(2)
بدليل حلّ ذبائحهن.
وإنّما خصّ المحصنات بإباحة نكاحهنّ مع جواز نكاح غيرهن؛ لأنّ الآية خرجت مخرج الامتنان والمنّة في نكاح الحرائر العفائف أعظم وأتمّ، يدلّ على ذلك:
أنه لا خلاف في جواز النكاح بين المسلم والأمة المؤمنة، وإن كان في الآية تخصيص المحصنات من المؤمنات، والأفضل لمن أراد النكاح أن لا يعدل عن نكاح الحرائر
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحرث والمزارعة: باب اقتناء الكلب للحرث: الحديث (2322) بلفظ: [من أمسك].وأخرجه أحمد في المسند: ج 2 ص 345.والنسائي في السنن الصغرى: كتاب الصيد: باب الرخصة في إمساك الكلب: ج 7 ص 189 بلفظ: [من اقتنى].
(2)
النساء 25/.
الكتابيّات مع القدرة عليهنّ؛ وذلك لأنّ نكاح الأمة يؤدّي إلى إرقاق الولد؛ لأنّ الولد يتبع الأمة في الرّقّ والحريّة، ولا ينبغي لأحد أن يختار رقّ ولده، كما لا ينبغي أن يختار رقّ نفسه.
قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ؛} أي ناكحين غير زانين معلنين بالزّنا، ولا متّخذي صديقات للزّنا سرّا. قال الحسن:(كان بعض الجاهليّة تسافح وتزني بكلّ من وجد من النّساء، وبعضهم يتّخذ خليلة يزني بها سرّا ويتجنّب الزّنا علانية، فبيّن الله تعالى بهذه الآية حرمة الزّنا سرّا وعلانية).
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} (5)؛قال ابن عبّاس: (لمّا رخّص الله للمسلمين في نكاح الكتابيّات؛ قال أهل الكتاب: لولا أنّ الله رضي أعمالنا لم يحلّ للمسلمين تزويج نسائنا. وقال المسلمون: كيف يتزوّج الرّجل الكتابيّة وهي كافرة؟ فأنزل {(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)} من المغبونين، غبن نفسه وفسق وصار إلى النّار، لا يغني عن المرأة الكتابيّة إسلام زوجها ولا ينفعها ذلك، ولا يضرّ المسلم كفر زوجته الكتابيّة).
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ؛} قال ابن عبّاس وجماعة من المفسّرين: (معناه: إذا أردتم القيام إلى الصّلاة، وإنّما أضمروا إرادة القيام؛ لأنّ صحّة قيام الصّلاة بالطّهارة فلا يصحّ جزء من القيام قبل تقدّم الطّهارة).
وظاهر الآية يقتضي أنّ القيام إلى الصلاة يكون سببا لوجوب الطّهارة، ولا خلاف بين السّلف والخلف أنّ الطهارة لا تجب سبب القيام إلى الصّلاة، إلاّ أنه روي عن ابن عمر وعليّ رضي الله عنهما:(أنّهما كانا يتوضّأن عند كلّ صلاة، ويقرآن هذه الآية).فيحتمل أنّهما كانا يفعلان ذلك ندبا واستحبابا، فإن تجديد الطّهارة لكلّ صلاة مستحبّ. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من توضّأ فهو على وضوء ما لم
يحدث]
(1)
.وقال: [لا وضوء إلاّ من حدث]
(2)
.فثبت أن في الآية إضمار آخر تقديره: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا وجوهكم، وهذا نظير قوله تعالى:{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ}
(3)
معناه: فأفطر فعليه عدّة من أيّام أخر، وقوله:{فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ}
(4)
معناه فحلق فعليه فدية. وقال بعضهم: معنى الآية: إذا قمتم من نومكم إلى الصّلاة، وقال: هذا على أنّ النوم في حالة الاضطجاع حدث.
قوله تعالى: {(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)} الغسل: إجراء الماء على المحلّ وتسييله، سواء وجد معه الدّلك أم لا، والوجه: ما يواجهك من الإنسان، وحدّه من قصاص الشّعر إلى أسفل الذقن، ومن شحمتي الأذن إلى شحمتي الأذن. وظاهر الآية يقتضي أنّ المضمضة والاستنشاق غير واجبتين في الوضوء؛ لأن اسم الوجه يتناول الظاهر دون الباطن.
قوله تعالى: {(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)} أي مع المرافق، هكذا قال علماؤنا رحمهم الله تعالى، إلاّ زفر رحمه الله؛ فإنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال:(إنّ حرف (إلى) للغاية، والغاية لا تدخل في الحكم كما في قوله تعالى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ}
(5)
).وأمّا عامّة العلماء فقالوا: إنّ (إلى) تذكر بمعنى (مع) كما قال تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ}
(6)
،فإذا احتمل اللفظ الغاية واحتمل معنى المقارنة حلّ
(1)
الحديث بمعناه: عن أنس بن مالك قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضّأ لكلّ صلاة، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث].رواه البخاري في الصحيح: كتاب الوضوء: باب الوضوء من غير حدث: الحديث (214).وأبو داود في السنن: كتاب الطهارة: باب الرجل يصلي بوضوء واحد: الحديث (171)،وغيرهم. واللفظ للدارمي كما في السنن: كتاب الطهارة: باب لا وضوء إلا من حدث: الحديث (720).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 2 ص 410 و 425.وأخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (6925) عن أبي هريرة بلفظ: [إلاّ من صوت أو ريح].
(3)
البقرة 184/.
(4)
البقرة 196/.
(5)
البقرة 187/.
(6)
النساء 2/.
محلّ المجمل، فكان موقوفا على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي:[أنّه كان إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه]
(1)
،فصار فعله بيانا للمجمل، فحمل على الوجوب.
قوله تعالى: {(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)} اختلف العلماء في مقدار وجوب المسح منه، فذهب مالك إلى أنّ مسح جميع الرأس واجب، وقال: (ظاهر الآية يقتضي الجميع دون البعض، لأنّك إذا قلت: مررت بزيد؛ أردت جملته لا بعضه، ومثل ذلك قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
(2)
والمراد كلّ البيت، وكقوله تعالى:
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
(3)
).وذهب الشافعيّ: إلى أنّ الواجب مقدار ما يتناوله الاسم، ومن أصحابه من قدّره بثلاث شعرات. وهذا بعيد؛ لأن فاعله لا يسمّى ماسحا رأسه ولا برأسه، ولأنّ ذلك القدر يحصل بغسل الوجه، وفعل ذلك أيضا متعسّر.
وقال أصحابنا في الاحتجاج على مالك بأنّ (الباء) تذكر ويراد بها التّبعيض، كما تقول: أخذت برأس فلان، ومسحت برأس اليتيم، فاذا احتمل اللفظ التبعيض كان مجملا فوجب الرّجوع فيه إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد روي:[أنّه توضّأ ومسح على ناصيته]
(4)
.والناصية: هي الرّبع المقدّم من الرّأس، ومعلوم أنه كان لا يترك بعض الواجب، فثبت أنّ الفرض مقدور على هذا المقدار، إلاّ أنّ الأفضل أن يمسح جميع الرأس ليخرج عن الفرض بيقين. وقد روي:[أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ ومسح][ومسح جميع رأسه]
(5)
.
(1)
عن جابر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الطهارة: باب إدخال المرفقين في الوضوء: الحديث (256 و 257).
(2)
الحج 29/.
(3)
النساء 43/.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الطهارة: باب إيجاب المسح بالرأس وإن كان مغنما: الحديث (282) مرسلا، والحديث (289) عن بلال رضي الله عنه؛ وقال: إسناده حسن. وأصله عند مسلم في الصحيح: كتاب الطهارة: باب المسح على الرأس والخفين: الحديث (75 - 274/ 80) من حديث المغيرة بن شعبة، وفيه:[مسح بناصيته].
(5)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح: الحديث (270). وأصله عند مسلم في الصحيح.
واختلف العلماء في عدد مسح الرّأس. قال علماؤنا: الأفضل أن يمسح جميع رأسه بماء واحد. وروى الحسن عن أبي حنيفة: (أنّ مسح رأسه ثلاث مرّات بماء واحد كان سنّة).وقال الشافعيّ: (الأفضل أن يمسح ثلاثا بثلاث مياه).روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنّه مسح رأسه مرّة واحدة]
(1)
،وقال صلى الله عليه وسلم:[الوضوء ثلاثا ثلاثا إلاّ المسح]
(2)
.
وأمّا مسح الأذنين فهو سنّة لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وإنّما اختلفوا في كيفيّة مسحهما. قال أصحابنا: يمسح ظاهرهما وباطنهما مع الرأس بماء واحد، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:[أنّه مسح برأسه وأذنيه بماء واحد]
(3)
.وفي بعض الرّوايات: مسح رأسه، ومسك شيئا لأذنيه؛ ثمّ قال:[الأذنان من الرّأس]
(4)
.وقال الشافعيّ: (هما عضوان منفردان يمسحان ثلاثا بثلاث مياه)
(5)
.
وأمّا مسح الرّقبة؛ فلم يذكر في شيء من الكتب المشهورة، ويحتمل أن يكون سنّة، ويحتمل أن يكون مستحبّا؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يمسح مقدّم رأسه؛ فقال بعضهم:
(1)
الأثر عن عثمان رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: الرقم (264):باب المسح بالرأس: بلفظ «ثمّ مسح رأسه بيديه كلتيهما مرّة» والأثر عن علي رضي الله عنه، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: الرقم (265).
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الطهارة: باب وضوء بعض الأعضاء ثلاثا وبعضها مرة واحدة: الحديث (379) عن عبد الله بن زيد بن عاصم. وأصله أخرجه مسلم في الصحيح.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الطهارة: باب مسح الأذنين: الحديث (302) عن ابن أبي مليكة، وفيه:«فأخذ ماء فمسح برأسه وأذنيه» .
(4)
أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب الطهارة: باب ما جاء في أن الأذنين من الرأس: الحديث (37)؛وقال: «هذا حديث ليس إسناده بذاك القائم. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم» .
(5)
في الأم: ج 1 ص 26:كتاب الطهارة: باب مسح الرأس؛ قال الشافعيّ: «وأحبّ لو مسح رأسه ثلاثا، وواحدة تجزئه، وأحبّ أن يمسح ظاهر أذنيه وباطنهما بماء غير ماء الرأس، ويأخذ بإصبعيه الماء لأذنيه فيدخلهما فيما ظهر من الفرجة التي تفضي إلى الصّماخ، ولو ترك مسح الأذنين لم يعد» .
إنّ المقصود من مسح مؤخّر الرأس مسح الرقبة. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من مسح رقبته في الوضوء أمن من الغلّ يوم القيامة]
(1)
.
قوله تعالى: {(وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)} قرأ ابن عامر ونافع والكسائيّ وحفص ويعقوب: «(وأرجلكم)» بالنصب، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه، وقرأ الباقون {(وَأَرْجُلَكُمْ)} بالخفض وهي قراءة أنس وعلقمة والشعبيّ، فمن نصب فمعناه: واغسلوا أرجلكم عطفا على الوجه واليدين، ومن خفض فعلى العطف على الرّأس أو على الابتداء، والجواز لفظا لا معنى، كقول العرب: جحر ضبّ خرب، وقولهم: أكلت السّمن واللبن، واللبن يشرب ولا يؤكل، ويقال: فلان متقلّد سيفا ورمحا، والرّمح لا يتقلّد به، وإنّما يحمل. وقال لبيد: وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها
(2)
،النّعام لا يطفل وإنما يفرخ، وقولهم: جحر ضبّ خرب، كان ينبغي أن يقال: خرب لأنه نعت الجحر، وإنّما خفض للمجاوزة.
وقال بعضهم: أراد بذلك المسح على الخفّين، فإن الماسح على الخفّين يسمّى ماسحا على الرّجلين لقرب الجوار، كما يقال: قبّل فلان على رجل الأمير ورأسه ويده، وإن كان الرّجلان في الخفّ، والرأس في العمامة، واليد في الكمّ. وفي الحديث:
[أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه]
(3)
وليس المراد أنه لم يكن بينهما حائل. واختار بعضهم المسح على الرّجلين، وهو قول ابن عبّاس، وقالوا: (الوضوء
(1)
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: ج 1 ص 296: النص (302)؛قال: «غريب. قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: لا يعرف مرفوعا. وقال: رواه أبو منصور الديلمي بسند ضعيف» .
(2)
في لسان العرب: باب (جله) و (طفل).:
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها الجلهتان: جنبتا الوادي.
(3)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب الصلاة: باب في افتتاح الصلاة: الحديث (734).والترمذي في الجامع: أبواب الصلاة: الحديث (260)،وقال: حديث حسن صحيح.
غسلان ومسحان)
(1)
.وذهب بعضهم إلى أنّ المتوضّئ مخيّر بين غسل الرّجلين ومسحهما.
وإذا احتملت قراءة الخفض المسح على الخفّين، واحتملت مسح الرّجلين، واحتملت غسلهما، وجب الرّجوع إلى فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد روي:[أنّه داوم على غسل رجليه].واتفقت الأمّة على فعله.
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أنّه توضّأ مرّة مرّة؛ وغسل رجليه؛ وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصّلاة إلاّ به]،ولأنّ الله تعالى قال:(وأرجلكم إلى الكعبين)،وهذا يدلّ على الغسل كاليدين حدّهما إلى المرافق وكان فرضهما الغسل دون المسح. وقال صلى الله عليه وسلم:[لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الطّهور مواضعه، فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه]
(2)
.وعن جابر رضي الله عنه قال: [أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغسل أرجلنا إذا توضّأنا].وقال ابن أبي ليلى: (أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب غسل الرّجلين)
(3)
.وعن عبد الله بن عمر قال: مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قوم وعراقيبهم تلوح، فقال:[أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النّار]
(4)
.ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعمى يتوضّأ، فقال:[اغسل باطن قدميك] فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل
(5)
.وقالت عائشة رضي الله عنها: (لإن يقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح عليهما من غير خفّين).
وذهبت الرّوافض إلى أن الواجب في الرجلين المسح. ورووا في المسح خبرا ضعيفا شاذا.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 28؛ قال السيوطي: «أخرج عبد الرزاق وابن جرير وعبد بن حميد عن ابن عباس، قال: (الوضوء غسلتان ومسحتان)،ألا ترى أنه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين» .وأخرجه عبد الرزاق في المصنف: الرقم (54):ج 1 ص 19.
(2)
ذكره الثعلبي عن خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الكشف والبيان: ج 4 ص 290.
(3)
في الدر المنثور: ج 3 ص 29؛ قال السيوطي: «أخرجه سعيد بن منصور» .
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9882) بأسانيد، وأصله في الصحيحين.
(5)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: ج 1 ص 25:الحديث (75 - 77).
قوله تعالى: {(إِلَى الْكَعْبَيْنِ)} هما النّاتئان من جانبي الرّجل، وهما مجمع مفصل السّاق والقدم، مأخوذ من الكعب وهو النّتوء؛ يقال: جارية كاعب إذا خرج ثدياها. وروى هشام عن محمد: أنّه الكعب الّذي في وسط القدم عند مقعد الشّراك.
والصحيح: أن محمدا إنّما قال ذلك في المحرم بالحجّ، فإنه يقطع خفّيه أسفل من الكعبين، قال:(والكعب هاهنا مقعد الشّراك)،فنقل هشام ذلك إلى الطهارة، ولا خلاف في الكعب في الوضوء بين العلماء الثلاثة: أنه داخل في غسل الرّجلين.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا،} أي إن كنتم جنبا وأردتم القيام إلى الصّلاة فاغتسلوا، والجنب يوضع موضع الجمع؛ يقال: رجل جنب؛ ورجال جنب؛ وقوم جنب. ولفظ الإطهار يقتضي تطهّر جميع البدن في الاغتسال من الجنابة كما قال صلى الله عليه وسلم: [تحت كلّ شعرة جنابة، فبلّوا الشّعر وانقوا البشرة]
(1)
.ولهذا قال أصحابنا: إنّ المضمضة والاستنشاق واجبان في غسل الجنابة، وقوله تعالى:
{(فَاطَّهَّرُوا)} أي فتطهّروا، إلاّ أن التّاء تدغم في الطاء لقرب مخرجهما. وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[يا بنيّ! إذا أخذت في الغسل من الجنابة فبالغ فيه، فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة] فقلت: يا رسول الله! وكيف أبالغ؟ قال: [روّ أصول الشّعر؛ وانق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كلّ ذنب]
(2)
.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى؛} أي من جدريّ أو غيره، فلم تطيقوا غسل هذه الأشياء، {أَوْ عَلى سَفَرٍ،} أو كنتم مسافرين، {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ؛} معناه: وجاء أحد منكم من قضاء الحاجة، لأنه لا خلاء، وأنّ المريض والمسافر إذا لم يكونا محدثين لا يلزمهما الوضوء ولا التّيمّم، وقد تذكر (أو) بمعنى (الواو) مثل قوله تعالى:{وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}
(3)
.
(1)
أخرجه الترمذي في الجامع: أبواب الطهارة: باب ما جاء أن تحت كل شعرة: الحديث (106)، وقال: غريب.
(2)
ذكره المتقي الهندي في كنز العمال: الحديث (27361) ونسبه إلى ابن جرير.
(3)
الصافات 147/.
قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ؛} معناه: أو جامعتم النّساء. {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً؛} أي تقدرون على ما تتطهّرون به من الجنابة والحدث، {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً؛} أي اقصدوا ترابا نظيفا، {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ؛} اختلف العلماء في قوله {(مِنْهُ)؛} قال أبو يوسف:(معناه التّبعيض؛ أي امسحوا بوجوهكم وأيديكم من بعض الصّعيد وهو التّراب).وقال أبو حنيفة ومحمد:
(معنى (من) هاهنا ابتداء الغاية؛ أي فانقلوا اليد بعد وضعها على الصّعيد إلى الوجوه والأيدي من غير أن يتخلّلها ما يوجب الفصل).
قوله تعالى: {ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ؛} أي ما يريد الله أن يجعل عليكم بتكليف العبادات تضييقا في الدّين، {وَلكِنْ،} وإنّما، {يُرِيدُ،} بذلك، {لِيُطَهِّرَكُمْ،} أن يطهّركم من الذّنوب والأحداث والجنابة، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[أيّما رجل قام إلى وضوئه يريد الصّلاة ثمّ غسل كفّيه نزلت خطيئة كفّيه مع أوّل قطرة، فإذا تمضمض واستنشق نزلت خطيئة لسانه وشفتيه مع أوّل قطرة، فإذا غسل وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سلم من كلّ ذنب هو عليه، وكان كيوم ولدته أمّه]
(1)
.
قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛} قال الحسن: (بإدخال الجنّة)، وقال ابن عبّاس:(بجواز التّيمّم لكم بالتّراب في حال عدم الماء). {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6)؛أي لكي تشكروا نعمة الله عليكم في رخصته لكم وتخفيفه عليكم في التّكليف. قال عثمان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه، ثمّ قام إلى الصّلاة إلاّ غفر الله له ما بينه وبين الصّلاة الأخرى]
(2)
.
قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ؛} أي احفظوا نعم الله عليكم، وإنما ذكره بلفظ النّعمة؛ لأنه ذهب فيه مذهب الجنس،
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 32؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن عن أبي أمامة» .
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 32؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن المبارك في الزهد وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان» .
(وميثاقه) أي عهده الذي عاهدكم به. قال ابن عبّاس والحسن: (يعني الميثاق الّذي أخذه الله تعالى على ذرّيّة آدم حين أخرجهم من صلبه، وقال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}
(1)
.
وقال السّدّيّ: (أراد بالميثاق هنا مبايعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم على السّمع والطّاعة في كلّ ما أمر به أو نهى في حال العسر واليسر والرّضا والكره).وهذا أقرب إلى ظاهر الآية؛ لأنّ الله تعالى ذكّرهم الميثاق وهم لا يحفظون الميثاق الذي من وقت آدم.
وقيل: أراد به العهد الوثيق الذي أخذه الله على جميع عباده في أوامره ونواهيه فسمعوه وقبلوه وآمنوا به على ما فسّر الله بقوله: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا؛} قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ؛} أي اخشوا عقابه في نقض الميثاق، {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (7)؛أي بما في القلوب من الوفاء والنّقض، وذات الصّدور ما تضمّنته الصّدور وهي القلوب.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ؛} أي كونوا قوّامين بأمر الله قائلين له مبيّنين عن دين الله بالحقّ والعدل، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا؛} أي لا يحملنّكم بغض الكفّار على ترك العدل فيه مكافأة لما سلف منهم، ويقال: لا يحملنّكم عداوة المشهود له على كتمان ماله عندكم من الشهادة، ولا عداوة المشهود عليه على إقامة الشّهادة عليه بغير حقّ.
قوله تعالى: {اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى؛} أي اعدلوا في جميع أقوالكم وأفعالكم فيما لكم وعليكم، فإنّ العدل أقرب للتّقوى؛ أي أقرب إلى أن تصيروا به مؤمنين، وقيل: أقرب إلى تقوى عذاب الله. {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} (8)؛من الخير والشرّ والعدل والجور.
قوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ؛} أي الذين صدّقوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وعملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربهم، وهذا تمام الكلام، يقال: وعدت الرّجل؛ يراد بذلك وعدته خيرا، وأوعدت الرّجل؛ يراد بذلك
(1)
الأعراف 172/.
شرّا، فكان الله لهم دليلا على عدة الخير، ثم فسّر ذلك الخير فقال:{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (9)؛أي مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم في الجنّة.
قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ} (10)؛أي أصحاب النّار الموقدة، والجحيم من أسماء جهنّم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ؛} قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريّة سبعين رجلا إلى بني عامر بن صعصعة، وأمّر عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ، وكان طريقهم على بني سليم، وكانوا يومئذ صلحاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه السلام السّريّة أن ينزلوا على بني سليم فنزلوا عليهم، فبعث بنو سليم إلى بني عامر وأخبروهم بأمرهم وقلّتهم، فارتحل المسلمون من عند بني سليم إلى بني عامر، فأضلّ أربعة منهم بعيرا لهم، فاستأذنوا أميرهم أن يطلبوا بعيرهم ثمّ يلحقوا بهم فأذن لهم، وسار المنذر بمن بقي معه حتّى أتاهم وقد جمعوا لهم واستعدّوا لهم بالسّلاح، فالتقوا ببئر معونة فاقتتلوا قتالا شديدا، ثمّ قتل المنذر ومن معه جميعا.
ثمّ أقبل الأربعة الّذين أضلّوا البعير، فلقيتهم أمة لبني عامر فقالت لهم: أمن أصحاب محمّد أنتم؟ قالوا: نعم، قالت: فإنّ إخوانكم قد قتلوا جميعا على الماء، فقال أحد الأربعة: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بالأمر، قال: لا؛ ولكن والله لم أكن لأرغب بنفسي عن أصحابي، ارجعوا فأقرءوا محمّدا صلى الله عليه وسلم منّي السّلام. ثمّ أشرف على أصحابه فإذا هم مقتولون، والمشركون قعود يتغدّون، فانحدر إليهم من الجبل بسيفه فقاتلهم حتّى قتل.
وغشي الثّلاثة المدينة، فلقوا رجلين من بني سليم خارجين من المدينة فقالا لهما: من أنتما؟ قالا: من بني عامر، قالا: هذان من الّذين قتلوا إخواننا؛ فقتلوهما وأخذوا سلاحهما، ثمّ دخلوا المدينة فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:[بئس ما صنعتم، قتلتم رجلين من أهل الميثاق].وجاء أولياء القتيلين يطلبون القصاص، فقال صلى الله عليه وسلم:
[ليس لكم إلاّ دية صاحبيكم أغرنا إلى عدوّنا من بني عامر، ولكنّا نؤدّي إليكم الدّية].
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ حتّى أتى بني قريظة؛ فقال لهم: [إنّكم جيراننا وحلفاؤنا، وقد علمتم ما أصبنا به من دم الرّجلين من بني سليم وهما من أهل الميثاق، ونحن نريد أن نؤدّي ديتهما، فاتّخذوا بها عندنا يدا نجزيكم بها بعد اليوم، فإنّ الأيّام دول].فقالوا: مرحبا وأهلا يا أبا القاسم، ولكنّ إخواننا من بني النّضير لا نقضي أمرا من دونهم، نعلمهم بذلك حتّى تأتينا يوم كذا وقد جمعنا الّذي تريد. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلمّا كان يوم الميعاد؛ أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة وعبد الرّحمن بن عوف؛ فأجلسوهم في بيت، ثمّ خرجوا يجمعون السّلاح، وخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنّكم لن تجدوا محمّدا أقرب منه الآن؛ فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه، فقال عمر بن جحّاش: أنا، فجاء إلى رحاء عظيمة ليطرحها عليه؛ فأمسك الله أيديهم.
وقيل: لمّا جمعوا السّلاح وهمّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، جاء جبريل عليه السلام فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فخرج النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقام على الباب، وإذا هم مجتمعون ينتظرون قدوم كعب بن الأشرف ليهجموا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج عليّ رضي الله عنه وإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على الباب، فقال: يا رسول الله! أبطأت علينا حتّى خفنا أن يكون قد اغتالك أحد، فقال:[قد أرادوا ذلك، اللهمّ العنهم].ثمّ خرج بقيّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحقوا جميعا بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءت اليهود فقالوا: يا رسول الله! إنّ قدورنا تغلي نريد أن نطعمك، وقد رجعت بغير علمنا. فأخبرهم بما همّوا به وعزموا عليه، فأنزل الله هذه الآية).
ومعناها: يا أيّها الّذين آمنوا بالله وكتبه ورسله احفظوا منّة الله عليكم إذ همّ قوم-وهم بنو قريظة-أن يبسطوا إليكم أيديهم بالقتل، {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ؛} بالمنع عن قتلكم، {وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (11)؛في جميع أمورهم وأحوالهم.
قوله عز وجل: {*وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً؛} أي أخذ الله العهد على بني إسرائيل أن يؤمنوا به وبجميع كتبه
ورسله، وبعث منهم اثني عشر ملكا، من كلّ سبط منهم رجل ليأخذ على قومه ما يأمرهم الله به من طاعته. وقيل: إنّ النقيب هو الرسول والأمين، وهم الذين أرسلهم موسى إلى قومه الجبّارين عيونا، فوجدوهم يدخل في كمّ أحدهم أربعة منهم، ولا يحمل عنقود عنب إلاّ عشرة منهم، ويدخل في شقّ رمانة إذا نزع حبّه خمسة أنفس وأربعة، فرجع النقباء كلهم، ونهى كل نقيب سبطه عن القتال إلاّ يوشع بن نون وكالب بن يوقنا أمرا أقوامهما بالقتال.
وقال الحسن: (النّقيب الضّمين، وإنّما أراد بهذا أن يضمن بها مراعاة أحوالهم)،وقد روي:[أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الأنصار ليلة العقبة اثنى عشر نقيبا]
(1)
.
وفائدة النّقيب: أنّ القوم إذا علموا أنّ عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة، والنّقيب والعريف نظيران، وقيل: النقيب فوق العريف.
قوله تعالى: {وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ؛} خطاب للنّقباء، ومعناها: إنّي حفيظ عليكم في النّصر لكم والدفع عنكم. وقيل: هو خطاب لجميع بني إسرائيل ضمن لهم النّصر على عدوّهم بالشّرائط التي شرطها عليهم بقوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ؛} أي لو عظّمتموهم ونصرتموهم بالسّيف على الأعداء، {وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً؛} أي تصدّقتم من أموالكم تطوّعا صدقة حسنة؛ وهي أن تكون من حلال المال وخياره برغبة وإخلاص لا يشوبها رياء ولا سمعة ولا يكدّرها منّ ولا أذى، {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} من تحت شجرها ومساكنها؛ {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ؛} العهد والميثاق؛ {مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} (12)؛أي أخطأ قصد الطريق وهو طريق الجنّة، فمن أضلّه وقع في طريق النّار إذ لا طريق سواهما.
قوله عز وجل: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ؛} أي فنقض اليهود ميثاقهم الذي أخذ عليهم
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: أسماء النقباء الاثني عشر وتمام خبر العقبة: ج 2 ص 86.
في التّوراة فباعدناهم من الرّحمة، وقيل: عذبناهم بالجزية. وقيل: مسخناهم قردة وخنازير، ودخول (ما) في هذه الآية صلة زائدة.
قوله تعالى: {(وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً)} أي صيّرناها يابسة خالية من حلاوة الإيمان مجازاة لهم على معصيتهم. قرأ يحيى بن وثّاب والأعمش وحمزة والكسائيّ:
«(قسيّة)» بتشديد الياء من غير ألف، وقرأ الباقون (قاسية) بألف وهما لغتان، مثل زكيّة وزاكية
(1)
،وقيل: معنى (قاسية):غليظة متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: رديئة فاسدة، من الدّراهم القسيّة، وهي المغشوشة.
قوله تعالى: {(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ)} . قرأ السّلمي والنخعيّ: يحرّفون الكلام باللّف؛ أي يغيّرون ألفاظه ولا يقرّونه على ما هو عليه في التّوراة، كما أخبر الله تعالى عنهم من ليّ ألسنتهم بالكتاب، وقيل: يغيّرون تأويله.
قوله تعالى: {وَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ؛} أي وتركوا نصيبا ممّا أمروا به في كتابهم من نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته، ومن رجم الزّاني المحصن، وأصل النّسيان التّرك.
قوله تعالى: {وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ؛} أي لا تزال يا محمّد تطّلع على خائنة ومعصية منهم، وفاعلة من أسماء المصادر مثل: عاقبة وكاذبة، وقد تكون الخائنة من أسماء الجماعة كما يقال: رافض ورافضة، فيكون المعنى: ولا تزال تطّلع على فرقة خائنة منهم مثل كعب بن الأشرف وأصحابه من بني قريظة حين نقضوا العهد، وركبوا إلى أبي سفيان بمكة، ولقوه وعاهدوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سبق ذكره.
قوله تعالى: {إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ؛} لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقال ابن عبّاس:(معنى قوله تعالى {(خائِنَةٍ)} أي معصية)،وقال بعضهم:
أي كذب وفجور، وكانت خيانتهم بنقض العهد، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّهم بقتله.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 115؛ قال القرطبي: «مثل العليّة والعالية، والزكيّة والزّاكية» .
قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ؛} أي أعرض عنهم ولا تعاقبهم، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (13)؛أي المتجاوزين، وهذا منسوخ بآية السّيف بقوله:{قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(1)
.
قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ؛} بيّن الله تعالى أنّ النصارى لم يكونوا بعد أخذ الميثاق أحسن معاملة من اليهود، ومعنى أخذ الميثاق: هو ما أخذ الله عليهم في الإنجيل من العهد المؤكّد باتّباع محمّد صلى الله عليه وسلم وبيان صفته ونعته، كما قال تعالى في آية أخرى:
(2)
فنسوا حظّا مما ذكّروا به؛ أي تركوا بعضا ممّا ذكّروا به، {فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؛} أي هيّجنا بين فرق النّصارى، وهم النّسطوريّة واليعقوبيّة والملكانيّة، وألقينا بينهم العداوة في الدّين.
وذلك أنّ الله رفع الألفة بينهم وألقى بينهم العداوة والبغضاء، فهم يقتتلون إلى يوم القيامة. وأصل الإغراء: الإلصاق مأخوذ من الغراء الّذي يلصق به الأشياء، والعداوة: تباعد القلوب والنّيّات، والبغضاء: البغض. قوله تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ} (14)؛أي يخبرهم في الآخرة بما كانوا يصنعون من الجناية والمخالفة وكتمان نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته.
ثم خاطب الله تعالى الفريقين من اليهود والنّصارى فقال تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ؛} يعني التّوراة والإنجيل. قوله تعالى: {(تُخْفُونَ)} يعني صفة محمّد صلى الله عليه وسلم وآية الرّجم، وإضافة اليهود والنّصارى إلى الكتاب تعيير لهم، كما يقال: يا عاقل لم تعلم؛ أي يا جاهل.
وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} (15)؛يعني بالنّور محمّدا صلى الله عليه وسلم يبيّن لكم كثيرا ممّا كنتم
(1)
التوبة 29/.
(2)
الصف 6/.
تكتمون من الإسلام، وآية الرّجم، وتحريم الزّنا وغير ذلك. قوله تعالى:{(وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)} أي يتجاوز عن كثير ممّا كنتم تكتمونه ولا يعاقبكم عليه، يعني ممّا لم يؤمر ببيانه، وقوله تعالى:{(وَكِتابٌ مُبِينٌ)} يعني القرآن يبيّن الحلال والحرام والأمر والنّهي.
قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ؛} أي يهدي الله بالقرآن من قبل الحقّ ورغب في الإسلام، وقوله تعالى:{(رِضْوانَهُ)} أي رضا الله، وقوله تعالى:{(سُبُلَ السَّلامِ)} أي طرق السّلامة، وهي دين الإسلام، والسّلام والسّلامة، كالرّضاع والرّضاعة، ويقال: السّلام هو الله، وسبل السّلام: طرق الله التي دعا إليها.
قوله تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ؛} أي يخرجهم من ظلمات الكفر، بالتعريف لهم إلى نور الإيمان، {بِإِذْنِهِ؛} أي بإذن الله ومشيئته، وسمّي الإيمان نورا؛ لأنّ الإنسان إذا آمن أبصر به طريق نجاته فطلبه، وطريق هلاكه فحذره. قوله تعالى:{وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} (16)؛أي ويرشدهم إلى طريق الحقّ.
وقوله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ؛} نزلت في نصارى نجران وهم الماريعقوبية أو اليعقوبية، قالوا: إنّ الله هو المسيح بن مريم، قال الله تعالى:{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} أي قل لهم يا محمّد: من يقدر أن يدفع شيئا من عذاب الله؛ {إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً؛} أي إن أراد أن يهلك عيسى ابن مريم وأمّه، وهذا احتجاج من الله تعالى على النّصارى بما لا يملكون دفعه، إذ المسيح وأمّه بشران يأكلان الطعام ويحتاجان إلى ما يحتاج إليه الناس، وقد علموه ضرورة أنّهما كانا بعد أن لم يكونا، وشاهد كثير منهم ميلاد عيسى وحاله من الطفولة والشّباب والكهولة.
قوله تعالى: {(إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ)} أي إذا أراد الله إهلاك عيسى وأمّه لما أعجزه ذلك، ولا هناك دافع، وكيف يكون إلها من لا يقدر على دفع الهلاك عن نفسه ولا عن غيره.
قوله تعالى: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؛} أي من ملك السّماوات والأرض لا يوصف بالولادة. وقيل: من كان مالك السّماوات والأرض يقدر على خلق ولد بلا والد، كما قال تعالى:{يَخْلُقُ ما يَشاءُ؛} أي كما يشاء، بأب وبغير أب، ولو كان خلق عيسى من غير أب موجبا كونه إلها وابنه لكان خلق آدم من غير أب ولا أمّ أولى بذلك؛ لأنه أعجب وأبدع.
قوله تعالى: {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (17)؛من خلق عيسى وغيره قادر على عقوبتكم.
قوله عز وجل: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ؛} وذلك: أنّ جماعة من اليهود دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الإيمان وحذرهم، فقالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه فلا يعذّبنا، وكذلك قالت النّصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه، حين حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاب الله
(1)
.وأرادوا بقولهم: نحن أبناء الله وأحبّاؤه: نحن من الله بمنزلة الأبناء والآباء، وقرابا من الله كقرب الوالد لولده، وحبّه إيّانا كحب الوالد لولده، وغضب الله علينا كغضب الوالد على ولده، إذا سخط على ولده في وقت يرضى عنه في وقت آخر.
قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؛} أي لم عذب من قبلكم من اليهود والنّصارى الذين كانوا أمثالكم في الدّين فمسخهم الله في الدّنيا. قوله تعالى:
{بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ؛} أي لستم بأبناء الله ولا أحبّائه، ولكنّكم خلق كسائر الخلق، يغفر لمن هداه للإسلام، ويعذّب من مات على الكفر.
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؛} أي له القدرة على أهل السّماوات والأرض، وما بينهما من الخلق والعجائب، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (18)؛أي إليه مصير من آمن ومن لم يؤمن.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 45؛ قال السيوطي: «وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
…
».وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9060).
قوله عز وجل: {يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ؛} أي يا أهل التّوراة والإنجيل قد جاءكم محمّد صلى الله عليه وسلم يبيّن لكم الحلال والحرام على انقطاع من الرّسل، ودروس من العلم. قال الكلبيّ: (كان بين ميلاد عيسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وتسعة وتسعون سنة، وبعد ميلاد عيسى أربعة من الرّسل في مائة وأربعة وثلاثين سنة، كما قال تعالى:{إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ}
(1)
قال: ولا أدري الرّسول الرّابع من هو).قال بعضهم:
كان بين عيسى ومحمّد صلوات الله عليهما ستّمائة سنة
(2)
.
قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ؛} معناه: كيلا تقولوا يوم القيامة ما جاءنا من بشير يبشّرنا بالجنّة، ولا مخوّف يخوّفنا بالنار، {فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ؛} يبشّركم بالجنّة إن أطعتموه، {وَنَذِيرٌ؛} ينذركم بالنار إن عصيتموه، {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (19)؛من إرسال الرّسل والثواب والعقاب.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً؛} فاذكروا يا أهل الكتاب إذ قال موسى لبني إسرائيل احفظوا منّة الله عليكم إذ أكرم بعضكم بالنّبوة، وهم السّبعون الذين اختارهم موسى وانطلقوا معه إلى الجبل.
وإنّما منّ الله عليهم بذلك، لأنّ كثرة الأشراف والأفاضل في القوم شرف وفضل لهم، ولا شرف أعظم من النّبوة، وقوله تعالى:{(وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)} أي أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعد أن كانت تستعبدكم القبطة في مملكة فرعون، وقيل: ملوكا ذوي خدم، وأهل منازل لا يدخل عليكم فيها إلاّ بإذن.
قوله تعالى: {وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} (20)؛أي أعطاكم من عالمي زمانكم، ويقال: أراد بذلك جميع العالمين، فإنه تعالى أنزل عليهم المنّ والسّلوى، وظلّلهم بالغمام، ولم يؤت أحدا مثل هذه النّعم قبلهم.
(1)
يس 14/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9066).
ولا يدخل المستقبل في اللفظ؛ لأنّ اللفظ خبر عن ما مضى، ولا يدخل ذلك على أنه لم يؤت أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم مثل الفضيلة التي آتاهم أو أكثر، والغرض من هذه الآية أنّ الله تعالى أراد أن يكلّفهم دخول الأرض المقدّسة، وكان يشقّ ذلك عليهم فقدّم ذكر نعمه عليهم ليكون بامتثالهم مثال على امتثال أمر الله تعالى.
قوله تعالى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ؛} قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ الاثني عشر نقيبا الّذين أرسلهم موسى إلى قرية الجبّارين جواسيس؛ لمّا انتهوا إلى مدينتهم أخذوا فأتي بهم إلى الملك، ويقال أخذهم عوج ابن عنق واحتملهم في ثوبه حتّى ألقاهم بين يدي الملك، فقيل للملك: إنّ هؤلاء يزعمون أنّهم يفتحون مدينتك ويظهرون عليك، قال: فطوفوا بهم المدينة فأروهم إيّاها.
فطافوا بهم، وكانوا يلعبون بهم حتّى أنّ الرّجل منهم ليأتي بالقدح والسّكرجة والقصعة فيدخل واحد منهم تحتها، ثمّ ردّوهم إلى الملك فأراد قتلهم، فقالت: إيش تصنع بقتل هؤلاء ويكفيهم ما رأوا، ردّوهم إلى أصحابهم يحدّثونهم بما رأوا، فأرسلوهم.
فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: قد علمتم خلاف بني إسرائيل لموسى، وقد وعد الله موسى أن يفتح لهم الأرض، ولن يخلف الله وعده، فهيموا التّحالف أن لا يخبر شيئا غير موسى؛ فتحالفوا.
فلمّا خلوا بنسائهم جعلت المرأة تسأل زوجها عمّا رأى، فيأخذ عليها المواثيق أن لا تخبر أحدا، ثمّ يخبرها، وجعلت المرأة يأتيها أبوها وأمّها وإخوانها فتأخذ عليهم المواثيق ثمّ تخبرهم.
فما ارتفع النّهار حتّى فشا الخبر في البلاد، ولم يخبر يوشع ولا كالب أحدا بشيء من أمرهم، إنّما أخبر بذلك العشرة. فجمع موسى عليه السلام بني إسرائيل وخطبهم ثمّ قال: يا بني إسرائيل {اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ}
…
) إلى قوله:
{(فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ)} .
وأمّا قوله تعالى: {(ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)} قال ابن عبّاس: (هي أرض بيت المقدس).ويقال: هي دمشق وفلسطين وبعض الأردنّ، وسميت (المقدّسة)؛لأنّها طهّرت من الشّرك، وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء صلوات الله عليهم.
قوله تعالى: {(الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)} أي أمركم بدخولها. وقيل: التي كتب الله لكم في اللّوح المحفوظ أنّها لكم مساكن، ويقال: التي وهب الله لأبيكم إبراهيم عليه السلام، وجعلها ميراثا لكم، وذلك أنّ إبراهيم حين ارتفع على الجبل، قيل له: انظر؛ فلك ما أدرك بصرك وهو ميراث لولدك من بعدك.
وقوله تعالى: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} (21)؛أي لا ترجعوا وراءكم وتجبنوا من عدوّكم منهزمين منهم فتنصرفوا مغبونين بفوت الظّفر في الدّنيا والعقوبة في الآخرة.
قوله تعالى: {قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ؛} أي قالت بنو إسرائيل: يا موسى إنّ فيها قوما عظماء قتّالين، {وَإِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ} (22)؛حينئذ.
قوله تعالى: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ؛} أي قال يوشع وكالب من الاثني عشر الذين أرسلهم موسى إلى قرية الجبّارين، وكانوا يخافون الجبّارين، {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا؛} أي هداهما لقبول أمره ومعرفة صدق وعده:
{اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ؛} أي باب قرية الجبّارين وهي أريحا، {فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ؛} أي فإذا دخلتم ذلك الباب؛ {فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ؛} عليهم؛ لأنّهم اذا رأوا كثرتكم انكسرت قلوبهم فتغلبوهم، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا؛} أي فوّضوا أمركم إليه، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (23)؛أي مصدّقين بوعد الله.
وفي الآية ثناء على الرّجلين إذ لم يمنعهما الخوف من العدوّ عن قول الحقّ.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا يمنعنّ أحدكم مخافة النّاس أن يقول الحقّ إذا رآه أو عمله، فإنّه لا يبعد من رزق الله ولا يدني من أجل]
(1)
.
(1)
الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (2825 و 4903). وابن حبان في الإحسان: الحديث (275 و 278) بإسناد صحيح.
قوله عز وجل: {قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها؛} وذلك أنّ موسى لمّا أمرهم من قول الرّجلين أن يدخلوا قرية الجبّارين، قالت له بنو إسرائيل: أتكذّب العشرة وتصدّق الاثنين، إنّا لا ندخلها أبدا ما داموا فيها، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} (24)؛منتظرين، فقولهم:
اذهب أنت وربّك، احتمل أنّهم قالوا ذلك على وجه المجاز على معنى: وربّك معين لك، وكان هذا القول فسقا منهم من امتناعهم عن المضيّ إلى أمر الله.
وقيل: يحتمل أنّهم عنوا بذلك الذهاب ذهاب النّقلة، وهذا تشبيه وكفر من قائله، وهو أقرب إلى معنى كلامهم؛ لأنّ كلام الله تعالى خرج مخرج الإنكار عليهم، والتّعجّب من جهلهم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لمّا أراد الخروج إلى بعض الغزوات استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك؛ فقالا: (إنّا لن نقول لك مثل ما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فإنّا هاهنا قاعدون، ولكنّا نقول: اذهب فقاتل عدوّك إنّا معك مقاتلون).
وفي بعض الرّوايات قالوا: (أقعد أنت فإنّا بأمرك مقاتلون)
(1)
.وقال المقداد ابن الأسود: «إنّا والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون) ولكنّا نقول: نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، ولو خضت بنا البحر لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك.
فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وسرّه»
(2)
.
قوله عز وجل: {قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} (25)؛قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ موسى عليه السلام غضب من
(1)
السيرة النبوية لابن هشام: ذكر رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب: ج 2 ص 267.والبداية والنهاية لابن كثير: ج 3 ص 322.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 50؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد والبخاري والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود
…
وذكره، وقال: أخرجه أحمد عن طريق طارق بن شهاب
…
وذكره».
مقالة قومه، وكان رجلا حديدا فقال:(رب إنّي لا أملك إلاّ نفسي) ولا أملك إلاّ أخي، يعني لا يطيعني من هؤلاء إلاّ أخي هارون، (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) أي اقض والفصل بيننا وبين القوم العاصين.
وكانت عجلة عجّلها موسى عليه السلام، فأوحى الله إلى موسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالآيات، لأهلكنّهم واجعلنّ لك شعبا أشدّ وأكثر منهم. فقال: إلهي لو أنّك أهلكت هذا الشّعب من أجل أنّهم لن يستطيعوا أن يدخلوا هذه الأرض فتقتلهم في البرّيّة وأنت عظيم عفوك كثير نعمتك وأنت تغفر الذنوب، فاغفر لهم.
فقال الله تعالى: قد غفرت لهم بكلمتك، ولكن بعد ما سمّيتهم فاسقين، ودعوت عليهم في عجلة لأحرّمنّ عليهم دخول الأرض المقدّسة، فذلك قوله:
{قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ؛} يتحيّرون؛ {فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} (26).
وقيل: إنّ قولهم لموسى: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) كان سؤالا منه الفرق في الحقيقة دون القضاء، وكان دعاؤه منصرفا إلى الآخرة؛ أي أدخلنا الجنّة إذا أدخلتهم النار، ولم يعن بذلك في الدّنيا؛ لأنه لو عنى ذلك لأجاب الله تعالى دعاءه وأهلكهم جميعا؛ لأنّ دعاء الأنبياء لا يردّ من أجل أنّهم يدعون بأمر الله تعالى.
ويقال: كان هذا دعاء راجعا إلى الدّنيا، وقد أجاب الله تعالى دعاءه؛ لأنّه عاقب قومه في التّيه، ولم يكن موسى وهارون محبوسين في التّيه؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعذبون. قال الحسن:(لا يجوز أن يكون موسى معهم فيها لا حيّا ولا ميّتا، ولا يجوز إذا عذب الله بنبيّ إلاّ أن ينجّي ذلك النّبيّ ومن آمن معه).ويقال: إنّ هذا الدّعاء كان من موسى عليه السلام عند الغضب؛ لأنه عنى به الحقيقة، ألا ترى أنه ندم على دعائه وجزع من تحريم قرية الجبارين عليهم جزعا شديدا حتى قيل له: لا تأس على القوم الفاسقين.
قوله عز وجل {(فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)} أي قال الله تعالى: فإنّ الأرض المقدّسة محرّمة عليهم؛ أي هم ممنوعون من دخولها أربعين سنة، وأصل التّحريم المنع. قال الله تعالى:{وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ}
(1)
وأراد به المنع.
قوله تعالى: {(يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)} أي يتحيّرون. قال ابن عبّاس: (يتحيّرون في ستّة فراسخ أربعين سنة، كانوا يسيرون في أوّل النّهار فيمسون في مكانهم، ويسيرون في أوّل اللّيل، فتدور بهم الأرض فيصبحون في مكانهم).قال الحسن: (عمي عليهم السّبيل وأخفي عليهم الأعلام الّتي يهتدون إلى الطّريق فلم يستطيعوا الخروج منها).
وذهب بعضهم أنّ قوله: {(أَرْبَعِينَ سَنَةً)} منصوب ب {(يَتِيهُونَ)} ،قالوا: كانت الأرض المقدّسة حراما على أولئك القوم الذين عصوا الله عز وجل أبدا، ولم يبق منهم أحد بعد أربعين سنة، إنّما بقي يوشع بن نون وكالب. وقيل: مات من النّقباء العشرة الذين فشوا الخبر وهم ثمانية، ومعهم سبعمائة ألف مقاتل، فكان كلّ من دخل التّيه ممّن جاوز عشرين سنة مات في التّيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا ممن قالوا إنّا لن ندخلها، ومات موسى وأخوه هارون حين انقضاء التّيه.
وفاة هارون عليه السلام:
قال السّدّيّ: (أوحى الله تعالى إلى موسى: أنّي متوفّ هارون فأت به جبل كذا. فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هما بشجرة لم ير مثلها، فإذا سرير عليها فرش وريح طيّبة، فلمّا نظر هارون إلى ذلك أعجبه، فقال: يا موسى إنّي أحبّ أن أنام على هذا السّرير، قال له: نم عليه، فلمّا نام عليه جاءه ملك الموت، فقال: يا موسى خدعتني.
فلمّا توفّي ذهب إلى تلك الشّجرة ورفع السّرير إلى السّماء. فلمّا رجع موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا: فإنّ موسى قتل هارون وحسده على حب بني إسرائيل. فقال موسى: ويلكم أفتروني أقتل أخي! فلمّا كثروا عليه صلّى ركعتين ثمّ دعا، فنزل السّرير حتّى نظروا إليه فصدّقوه)
(2)
.
(1)
القصص 12/.
(2)
ذكر البغوي القصة في معالم التنزيل: ص 370: تفسير الآية.
وقال عمر بن ميمون: (مات هارون في بعض الكهوف، فدفنه موسى فرجع إلى بني إسرائيل؛ فقالوا: أين هارون؟ قال: مات، قالوا: لا؛ ولكنّك قتلته لحبنا إيّاه.
فتضرّع موسى إلى ربه وشكى ما قال بنو إسرائيل، فأوحى الله إليه: انطلق بهم إلى قبره فأنا باعثه حتّى يخبرهم بأنّه مات. فانطلق بهم إلى قبر هارون؛ فناداه: يا هارون! فخرج من قبره ينفض التّراب عن رأسه، فقال له موسى: أنا قتلتك؟! قال: لا، ولكنّي متّ، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرف)
(1)
.
وفاة موسى عليه السلام:
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام فقال له: أجب ربّك، فلطم عين ملك الموت ففقأها، فرجع ملك الموت قال: يا رب! إنّك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فقأ عيني، فردّ الله عليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي وقل له: إن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما دارت عليه من شعرة فلك بها سنة، قال: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ الموت، قال: فالآن من قريب، قال: رب أدنيني من الأرض المقدّسة قدر رمية حجر، فقال صلى الله عليه وسلم: لو أنّي عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطّريق عند الكثيب الأحمر]
(2)
.
قال محمد بن يحيى: (قد صحّ حديث ملك الموت وموسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردّه إلاّ كلّ مبتدع)
(3)
.وفي حديث آخر: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: [إنّ ملك الموت كان يأتي النّاس عيانا، حتّى أتى موسى عليه السلام ليقبضه فلطم ففقأ عينه، فجاء ملك الموت بعد ذلك خفية]
(4)
.
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 370: تفسير الآية. والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 131.
(2)
أخرجه همام بن منبه في صحيفته: الحديث (60).وعبد الرزاق في المصنف: الحديث (20530):ج 11 ص 274.والإمام أحمد من طريقه في المسند: ج 2 ص 315.والبخاري في الصحيح: كتاب الأنبياء: باب وفاة موسى: الحديث (3407).ومسلم في الصحيح: كتاب الفضائل: باب من فضائل موسى: الحديث (2372/ 158).
(3)
أدرج الناسخ عبارة: (كذا في تفسير الثعلبي).وفي تفسير الثعلبي: الكشف والبيان: ج 4 ص 46؛ قال: (لا يردها إلا ضالّ).
(4)
أخرجه النسائي في السنن الصغرى: كتاب الجن ائز: آخر الكتاب: ج 4 ص 118.والحاكم في-
وقال وهب: (خرج موسى لبعض حوائجه، فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير أحسن منه نظرة وبهجة، فقال: يا ملائكة الله لمن هذا القبر؟ قالوا: لعبد كريم، فقال: ما رأيت مضجعا أحسن من هذا! قالوا: يا كليم الله أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه، ففعل ذلك، ثمّ تنفّس وقبض الله روحه، ثمّ سوّت عليه الملائكة التّراب)
(1)
.
وروي: أن يوشع رآه بعد موته في المنام؛ فقال: كيف وجدت الموت؟ قال:
كشاة تسلخ وهي حيّة. وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فلما مات موسى عليه السلام وكان قد استخلف يوشع، سار يوشع بالناس حتى انتهوا إلى مدينة الجبّارين وحاصروهم. فلما كان يوم الجمعة وكادت الشمس تغرب، توضّأ يوشع وصلّى ودعا ربّه وسأله أن ينجز له ما وعده.
وذكر أنّ الشمس تغرب ليلة السّبت لا يقاتل فيها، فردّ الله الشّمس حتى كانت في مقدار صلاة الظّهر، فجمع يوشع بني إسرائيل وجعل في سبط منهم سورا فصاحوا سبابيرهم، ودخلوا مدينة أعدائهم فقتلوهم حتى أتى الثمانين رجلا من أصحاب يوشع كانوا يقعدون على الرّجل، ويحزّون رأسه فلا يطيقونه من عظمه، وكان طول كلّ واحد من الجبّارين ثمانين ذراعا، وكان موسى عليه السلام قد قتل عوج بن عنق قبل ذلك، وكان طوله ثلاثة وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع، قاله ابن عمر رضي الله عنهما، وكان يحتجز بالسّحاب ويشرب منه، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشّمس ويأكله.
يروى أنّ طوفان نوح عليه السلام غمر جميع جبال الدّنيا وما بلغ إلاّ إلى ركبتيه- وعاش عوج ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة سنة-وأهلكه الله تعالى على يدي موسى عليه السلام. وسبب ذلك أنه كانت محطّة عسكر موسى عليه السلام فرسخا في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء الجبل وقدّ منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها
(4)
-المستدرك: كتاب تواريخ المتقدمين: باب كان ملك الموت يأتي الناس عيانا: الحديث (4161)؛ وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» .
(1)
ذكره البغوي في معالم التنزيل: ص 370 - 371.
عليهم، فبعث الله طيرا حتى قوّر الصخرة بمنقاره فأنقبها فوقعت في عنق عوج فطوّقته فصرعته، وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع وعصاه عشرة، ووثب عشرة أذرع إلى جهة السّماء، فما أصاب إلاّ كعبه وهو مصروع في الأرض فقتله
(1)
،وأقبل جماعة كثيرة معهم سكاكين وخناجر حتى حزّوا رأسه، وكانت أمّه عنقا، ويقال لها: عناق، وكانت إحدى بنات آدم عليه السلام وهي أوّل امرأة زنت على وجه الأرض، وكان كل إصبع من أصابعها طوله ثلاثة أذرع وعرضها ذراعين، في كلّ إصبع ظفران مثل المخلبين، فلما زنت بعث الله عليها أسودا كالفيلة، وذبابا كالإبل، ونمورا كالحمر، وسلّطهم عليها فأكلوها
(2)
.
قوله عز وجل: {*وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ؛} معناه: واقرأ يا محمّد على قومك خبر ابني آدم بالصّدق؛ إذ وضعا على الجبل قربانا، والقربان: ما يتقرّب به إلى الله تعالى. وقيل: معناه: واقرأ على أولاد هؤلاء الذي تقدّم ذكرهم من أهل الكتاب حتى يقرّوا برسالتك. قوله تعالى: {(فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما)} أي قبل القربان من أحدهما، ولم يتقبّل من الآخر، ومعنى القبول: إيجاب الثواب.
قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ حوّاء كانت تلد كلّ بطن ولدين ذكر وأنثى؛ إلاّ شيث فإنّها ولدته منفردا، فولدت أوّل بطن قابيل وأخته إقليما، ثمّ ولدت في البطن الثّاني هابيل وأخته لبودا. فلمّا أدركوا، أمر الله آدم أن يزوّج قابيل أخت هابيل، ويزوّج هابيل أخت قابيل، فرضي هابيل وكره قابيل؛ لأنّ أخته كانت أحسنهما، فقال آدم: ما أمر الله إلاّ بهذا يا بنيّ؛ ولا يحلّ لك. فأبى أن يقبل؛ وقال: إنّ الله لم يأمر بهذا وإنّما هو من رأيك. فقال لهما: قرّبا قربانا؛ فأيّكما يقبل قربانه فهو أحقّ بها.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 127؛ قال القرطبي: «ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمّد بن إسحاق والطبري ومكّي وغيرهم، وقال الكلبي: عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت. والله أعلم» .
(2)
كل ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا المقام من الإسرائيليات التي لا يعول عليها. وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 134 - 135؛ قال القرطبي: «وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق
…
ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر، وذلك معدوم. والله أعلم».
وكان هابيل صاحب غنم، وقابيل صاحب حرث، فقرّب هابيل كبشا سمينا ولبنا وزبدا، وقرّب قابيل سنبلا من شرّ زرعه، وأضمر في قلبه ما أبالي أتقبل منّي أم لا، لا يتزوّج أختي أبدا، وأضمر هابيل في نفسه الرّضا لله عز وجل. فوضعا قربانهما على الجبل، فنزلت نار من السّماء فما أكلت شيئا من السّنبل بعد، ثمّ أكلت الكبش واللّبن والزّبد، فذلك قوله تعالى {(فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ)}
(1)
.
فنزلوا الجبل وتفرّقوا، وكان آدم عليه السلام معهم، فذهب هابيل إلى غنمه، وقابيل إلى زرعه غضبان وأظهر الحسد لهابيل، وقال: يا هابيل لأقتلنّك! قال: وذلك لأنّ الله تعالى تقبّل قربانك وردّ عليّ قرباني، وتنكح أختي الحسنة، وأنكح أختك القبيحة، فيحدّث النّاس أنّك خير منّي. {قالَ؛} هابيل: ما ذنبي في ذلك؟!)
(2)
.
{إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (27)؛أي من الزّاكية قلوبهم الذين يخافون على حسناتهم أن لا تقبل، ولم تكن أنت زاكي القلب، فردّ الله قربانك حيث نيّتك.
وقيل: أراد بالمتّقين الذين يتّقون الشّرك. قال ابن عبّاس: (كان قابيل كافرا) وفي أكثر الرّوايات أنّه كان رجل سوء. قال الحسن: (كان الرّجل إذا أراد أن يقرّب القربان؛ تعبّد وتاب وتطهّر من الذّنوب ولبس الثّياب البيض، ثمّ قرّب وقام يدعو الله، فإن قبل الله قربانه جاءت النّار فأكلته، وذلك علامة القبول، وإن لم تجئ نار فذلك علامة الرّدّ).
قوله تعالى: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ؛} أي قال هابيل مجيبا لقابيل: لئن مددت يدك إلى القتل ظلما ما أنا بالّذي أمدّ يدي إليك لأقتلك ظلما، قال قابيل: ولم ذلك؟ قال: {إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ} (28)؛بقتلك ظلما.
واختلف العلماء في وقت مولد قابيل وهابيل، قال بعضهم: غشي آدم حوّاء بعد ما هبط إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل وتوأمته في بطن، ثم بعد ذلك
(1)
ينظر التعليق قبله.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9177) مختصرا.
البطن هابيل وتوأمته. قال ابن عبّاس: (ولم يمت آدم حتّى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا).
وقال بعضهم: كان آدم يغشى حوّاء في الجنّة، فحملت بقابيل وتوأمته، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولا نفاسا لطهر الجنّة، فلما هبط إلى الأرض تغشّاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب والطّلق والدّم.
قوله عز وجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ؛} أي قال هابيل لقابيل:
إن كنت تريد قتلي فلا ترجع عنه، فإنّي أريد أن ترجع إلى الله بإثم دمي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبّل قربانك، {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ؛} في الآخرة؛ {وَذلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ} (29)؛أي وذلك عقوبة من لم يرض بحكم الله.
قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ} (30)؛أي طاوعته نفسه، وقيل: زيّنت له قتله فقتله. قال السّدّيّ:
(لمّا قصد قابيل قتل هابيل أتاه في رأس جبل وهو نائم وغنمه ترعى، فأخذ صخرة فشدخ بها رأسه فمات).
وقال الضحّاك: (كان قابيل لا يدري كيف يقتله حتّى جاء إبليس وبيده حيّة فوضعها بين حجرين، فرضخ رأسها بالحجر وقابيل ينظر، فلما نظر ذلك جاء إلى هابيل فلم يزل يضرب بالحجارة على رأسه حتّى قتله، وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة).واختلفوا في موضع قتله، قيل: قتل على جبل ثور. وقيل: بالبصرة.
فلمّا مات هابيل قصدته السّباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره حتى انتنّ ريحه، فعكف الطّيور والسّباع حواليه تنتظر متى يرمي به فتأكله، {فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ،} فبعث الله غرابين فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر له بمنقاره ورجله، ثم ألقاه في الحفيرة وواراه، وقابيل ينظر إليه، ف؛ {قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ} (31).
وعن ابن عباس قال: (لمّا قتل قابيل هابيل رجع إلى أبيه قبل أن يدفنه، فلمّا أبطأ هابيل قال آدم عليه السلام: يا قابيل أين أخوك؟ قال: ما رأيته؛ وكأنّني به أرسل غنمه في زرعي فأفسده، فلعلّه خاف أن يجيء من أجل ذلك، قال: وحسّت نفس آدم، فبات ليلته تلك محزونا، فلمّا أصبح قابيل غدا إلى ذلك الموضع، فإذا هو بغراب يبحث في الأرض على غراب ميّت ليواريه)
(1)
.
وقيل: بعث الله الغراب إكراما لهابيل، وكان الغراب يحثي التراب على هابيل ليري قابيل كيف يواريه؛ أي كيف يغطّي عورته. وفي الخبر: أنّه لمّا قتله سلبه ثيابه، وتركه عريانا. وقيل: أراد بالسّوءة جسد المقتول، سماه سوأة لأنه لمّا بقي على وجه الأرض تغيّر ونتن، والسوءة في اللغة: عبارة عن كل شيء مستنكر.
قوله تعالى: {(فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ)؛} الخاسرين، أي صار من المغبونين بالوزر والعقوبة. قال الكلبيّ:(كان قابيل أوّل من عصى الله في الأرض من ولد آدم، وهو أوّل من يساق إلى النّار).
وقال مقاتل: (كان قبل ذلك تستأنس الطّيور والسّباع والوحوش به، فلمّا قتل قابيل نفروا، فلحقت الطّيور بالهواء؛ والوحوش بالبرّيّة؛ والسّباع بالفيافي وشاك الشّجر، وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه واغبرّت الأرض).وقال عبد الله المخزوميّ: (لمّا قتل هابيل رجفت الأرض بما عليها سبعة أيّام).وقال سالم بن أبي الجعد: (مكث آدم عليه السلام حزينا على قتل ولده هابيل مائة سنة لا يضحك)
(2)
.
قوله تعالى: {(لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ)} أي أرسل الله غرابا يثير التراب على غراب آخر ميت بمنقاره وبرجله، فلما أبصر قابيل الغراب يبحث في الأرض دعا بالويل على نفسه، فقال:{(يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ)} والويل: كلمة تستعمل عند الوقوع في الشدّة والهلكة.
قوله تعالى: {(فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ)} يحتمل أنه ندم ندم توبة عن جميع ما قال وفعل، ويحتمل أنه ندم على ترك مواراة سوأة أخيه، فإن كانت الأولى فالله توّاب
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9179 و 9180 و 9181) بروايات عديدة.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الأثر (9153).
رحيم، وإن كانت الثانية فإثم القتل في عنقه. قال ابن عبّاس:(لو كانت ندامته على قتله لكانت توبة منه).وقيل: إنه إنما ندم لأنه لم ينتفع بقتله ولم يحصل له مراده، فكان ندمه لأجل ذلك لا يقبح فعله، ولو كان ندمه تقرّبا إلى الله عز وجل.
قال ابن عبّاس: (فقال الله تعالى لقابيل: كن خائفا لا ترى شيئا إلاّ خفت منه أن يقتلك، قال: وكان كلّ من رأى قابيل رماه بالحجارة، فأبصره بعض ولد ولده فرماه بالحجارة حتّى قتله) ويقال: كان على جبل فنطحه ثور فوقع إلى سفح الجبل فتفرّقت أوصاله. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا تقتل نفس ظلما إلاّ كان على ابن آدم كفل من دمها، لأنّه أوّل من سنّ القتل]
(1)
.
قال مقاتل: (وتزوّج شيث بإقليما)
(2)
.وقال الضحّاك: (لمّا قتل قابيل هابيل حمله على ظهره، ولم يدر كيف يصنع به، فمكث ثلاثة أيّام يحمله على ظهره لا يدري ماذا يصنع به، فبعث الله غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ أخذ يحفر في الأرض، وأخذ برجل الغراب القتيل وألقاه في الحفيرة) فذلك قوله تعالى:
{(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ)}
(3)
.
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي من أجل ذلك القتل الذي عرفه بنو إسرائيل واشتهر عندهم، فرضنا وأوجبنا عليهم في التّوراة:
{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ؛} أي من غير أن يجب عليه القود، {أَوْ؛} بغير؛ {فَسادٍ فِي الْأَرْضِ؛} نحو الشّرك وقطع الطريق والزّنا عند الإحصان، {فَكَأَنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً؛} أي استوجب النار بقتل النفس الواحدة، كما يستوجبها من قتل الناس جميعا، وقيل: معناه: إنّ على الناس كلهم معونة وليّ القتيل حتى يفتدوه، ويكونوا كلّهم خصما للقاتل حتى يقاد. وقيل: إن المراد به استحقاق القتل عليه بقتل النفس الواحدة.
(1)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب أحاديث الأنبياء: باب خلق آدم وذريته: الحديث (3335).
(2)
في تفسير مقاتل: ج 1 ص 296؛ قال مقاتل: «وتزوج شيث بن آدم ليوذا التي ولدت مع هابيل» .
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9185) مختصرا.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً؛} أي من استنقذ نفسا من غرق أو من حرق أو مما يميتها لا محالة، أو استنقذها من كفر أو ضلالة فأحياها بالنعيم الدائم في الجنّة، أو عفى عن دمها بعد ما وجب عليها القصاص استوجب الجنّة، كما استوجبها من أحيا الناس جميعا. وعن ابن عبّاس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من سقا مؤمنا شربة من ماء والماء موجود فكأنّما أعتق سبعين رقبة، ومن سقاها في غير موطنها فكأنّما أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا]
(1)
.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ؛} أي لقد جاءت بني إسرائيل رسلنا بالأوامر والنواهي والعلامات الواضحات، {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ؛} بعد أن جاءتهم الدلائل والمعجزات، {فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (32)؛مشركون تاركو أمر الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ؛} قال ابن عبّاس: (إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع أبا بردة هلال بن عويمر الأسلميّ: [على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين فهو آمن، ومن
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (6588) عن عائشة بلفظ قريب منه. وابن ماجة في السنن: كتاب الأحكام: باب المسلمون شركاء في ثلاث: الحديث (3474)،وفيه علي بن زيد ابن جدعان، وهو ضعيف، وزهير بن مرزوق. وفي مجمع الزوائد: ج 3 ص 133؛قال الهيثمي: «رواه ابن ماجة باختصار، والطبراني في الأوسط وفيه زهير بن مرزوق، قال البخاري: مجهول منكر الحديث» .
وفي الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ص 730:الحديث (28)؛قال الشوكاني: «رواه ابن عدي وفيه متهم ومتروك. ورواه عبد بن حميد بإسناد فيه مجهول» .وفي الكامل في الرجال الضعفاء: ج 1 ص 338: الترجمة (52/ 52) أحمد بن محمّد بن علي؛ قال ابن عدي: «هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أحاديث أخر» .وفي ج 3 ص 138 أخرجه من طريق آخر ضعيف، وآفته الحسن بن أبي جعفر. قلت: ولم أجده من طريق ابن عباس.
أمّن المسلمين منهم فهو آمن، ومن مرّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن].
فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام على قوم ممّن أسلم من قوم هلال، ولم يكن هلال يومئذ حاضرا، فخرج أصحابه إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم هذه الآية)
(1)
.
ومعناها: {(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ)} الفساد نحو القتل والنّهب والتخريب وقطع الطريق {(أَنْ يُقَتَّلُوا)} إن قتلوا أحدا ولم يأخذوا المال {(أَوْ يُصَلَّبُوا)} مقتولين إن قتلوا وأخذوا المال، {(أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ)} اليد اليمين من الرّسغ، والرّجل اليسرى من الكعب إن أخذوا المال ولم يقتلوا أحدا، {(أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)} إن أخافوا الطريق ولم يفعلوا سوى ذلك.
واختلفوا في معنى النّفي، قال بعضهم: يعني الحبس، وقال بعضهم: هو الطلب حتى لا يستقرّ بهم مكان. والتوفيق بين القولين: أنّهم إن أخذوا بعد ما أخافوا الطريق؛ أودعهم الإمام السّجن حتى يتوبوا أو يموتوا، وإن لم يؤخذوا أمر بطلبهم، وأمر أن ينادى في الناس: أنّ من قتلهم لا سبيل عليه.
وإنما سمي الحبس نفيا؛ لأنه يمنع المحبوسين من التردّد والتصرّف في الأرض، ويكون ذلك بمنزلة النّفي من الأرض.
واختلفوا في كيفيّة الصّلب مع القتل. قال أبو حنيفة: (يصلب حيّا ليرى النّاس ويروه؛ ويكون ذلك زيادة عقوبة له، ثمّ تبعج بطنه بالرّمح؛ يطعن في خاصرته حتّى يموت).وقال أبو يوسف والشافعيّ: (يقتل ثمّ يصلب).قوله تعالى: {ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا؛} أي فضيحة في الدنيا، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} (33)؛أعظم من هذا.
وقال مقاتل وسعيد بن جبير: (نزلت هذه الآية في قوم من بني عرينة، قدموا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام، وهم كذبة وليس يريدون
(1)
تقدم.
الإسلام، فاجتووا المدينة وعظمت بطونهم واصفرّت وجوههم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصّدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا ذلك حتّى صحّوا، ثمّ قتلوا الرّعاة واستاقوا الإبل وارتدّوا عن الإسلام.
فصاح الصّائح: يا خيل الله اركبي. فركبوا لا ينتظر فارس فارسا، فأسرعوا في طلبهم، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه في طلبهم، فجاءوا بهم، فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمّل أعينهم، وتركهم بالحياة حتّى ماتوا، فأنزل الله هذه الآية، فصارت عامّة في قطّاع الطّرق ناسخة لتسميل العين)
(1)
.
وقال اللّيث بن سعد: (نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما لهم عقوبتهم، فقال تعالى: {(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا)} ولم يكن جزاؤهم هذه المثلة الّتي هي السّمل، فقام رسول الله خطيبا ونهى عن المثلة)
(2)
.
قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ؛} معناه: أن يقتّلوا أو يصلّبوا إلاّ الذين تابوا من قطع الطّريق من قبل أن يقدر عليهم الإمام، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ؛} لعباده، {رَحِيمٌ} (34)؛بهم بعد التوبة.
روى الشعبيّ: (أنّ حارثة بن زيد خرج محاربا في عهد عليّ رضي الله عنه، فأخاف السّبل وسفك الدّماء وأخذ الأموال، ثمّ جاء تائبا فأتى الحسن بن عليّ فطلب إليه أن يستأمن له عليا كرّم الله وجهه فأبى، فأتى عبد الله بن جعفر فأبى عليه، فأتى سعد بن قيس الهمدانيّ فقبله وضمّه إليه، فلمّا صلّى عليّ رضي الله عنه صلاة الغداة، أتى سعد بن قيس الهمدانيّ وقال: يا أمير المؤمنين؛ ما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله؟ قال:
أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف. قال: ما تقول فيمن تاب من قبل أن تقدر عليه؟ قال: أقول كما قال الله تعالى: {(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ}
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9219).وأصله في الصحيحين من حديث أنس بن مالك، وعند الطبري في النص (9218).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9227).
{تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)} فقال سعد بن قيس: وإن كان حارثة بن زيد؟ قال: نعم، فجاء به إليه، فبايعه وأمّنه وكتب له أمانا منشورا، فقال حارثة:
ألا أبلغنّ همدان إمّا لقيتها
…
على النّأي لا يسلم عدوّ يعيبها
لعمرو أبيها إنّ همدان تتّقى ال
…
إله ويقضى بالكتاب خطيبها
(1)
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ؛} أي يا أيّها الذين آمنوا اخشوا عذاب الله واحذروا معاصيه، واطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة، {وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ؛} أعداء الله في طاعته، {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (35)؛أي لعلّكم تظفرون بعدوّكم في الدنيا، وتنجوا من النار في العقبى. والوسيلة: القربة، وهي فعيلة من: توسّل إلى فلان بكذا؛ أي تقرّب إليه، وجمعها وسائل. قال الشاعر
(2)
:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
…
وعاد التّصافى بيننا والوسائل
وقال عطاء: (الوسيلة: أفضل درجات الجنّة)،قال صلى الله عليه وسلم:[سلوا الله لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنّة لا ينالها إلاّ عبد واحد، وأرجو من الله أن أكون أنا هو]
(3)
.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ؛} وفي الآية إزالة طمع الكفّار عن التخلّص من عذاب الآخرة، يقول: لو ماتوا على الكفر، وكان لهم ما في الأرض جميعا من الأموال بأسرها وضعفه معه ليشتروا به أنفسهم من عذاب الله ما تقبل ذلك الفداء منهم لو فادوا، {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (36)؛وجيع يخلص وجعه إلى قلوبهم.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9279 - 9281).
(2)
من شواهد الطبري في جامع البيان: تفسير الآية: الرقم (9297).
(3)
الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الصلاة: الحديث (384/ 11).وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: الحديث (523).والترمذي في الجامع: كتاب المناقب: باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (3614)،وقال: حديث حسن صحيح.
قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ} (37)؛قيل: معناه: كلّما رفعتهم النار بلهبها يتمنّوا أن يخرجوا منها، يقول الله تعالى:{(وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)} دائم لا ينقطع.
قوله عز وجل: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما؛} قال ابن عبّاس: (نزلت في طعمة بن أبيرق سارق الدّرع) وقد مضت قصّته في سورة النساء، ثم صارت عامّة في جميع الناس. ومعنى الآية: والسارق من الرجال والسارقة من النّساء فاقطعوا أيديهما أي أيمانهما كذا تأوّله ابن عباس. وفي قراءة ابن مسعود:
«(فاقطعوا أيمانهما)» .
وقرأ عيسى بن عمر: «(والسّارق والسّارقة)» بالنصب على إضمار اقطعوا السارق والسارقة، كما تقول: زيدا اضربه، والقراءة المختارة: الرفع؛ لأن القطع على الأيدي لا على السارق. وقال المبرّد: (ليس القصد من الكلام إلى واحد بعينه، وإنّما معناه: من سرق فاقطعوا يده، بخلاف قولك: زيدا اضربه. ولو أراد سارقا بعينه لكان وجه الكلام النّصب).وعلى هذا قوله تعالى: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما}
(1)
ولو أراد زانيا بعينه لنصب.
وإنما ذكر أيديهما بلفظ الجمع؛ لأنه أراد أيمانهما؛ لأنّ ما كان واحدا فبيّنه بلفظ الجمع والإضافة إلى الاثنين، ومثل ذلك {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما}
(2)
،والإضافة إلى الاثنين يدلّ على أن المراد به التثنية دون الجمع.
فإن قيل: لأيّ معنى قدّم الله ذكر السارق على السّارقة، وقدّم ذكر الزانية على الزاني؟ قيل: لأنّ السرقة في الرجال أكثر، والنساء هي أصل الفتنة للرجال بالتعريض لهم، ولو لزمت المرأة بيتها كما أمر الله تعالى لم تقع هي، ولا الرجال في الزّنا.
واختلفوا في كم تقطع يد السارق من المال إذا سرقه، فقال بعضهم: في عشرة دراهم فصاعدا، ولا يقطع فيما دون ذلك، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وكان
(1)
النور 2/.
(2)
التحريم 4/.
سليمان بن يسار لا يقطع الخمس إلاّ في خمسة دراهم. وقال مالك: (يقطع في ثلاثة دراهم فصاعدا)
(1)
،وقال الأوزاعيّ والشافعي:(يقطع في ربع دينار فصاعدا)
(2)
.
وقال بعضهم: يقطع في القليل والكثير ولو كان دانقا، وهو قول ابن عبّاس.
وقال بعضهم: في درهم.
ولو قطع السارق ثم عاد فسرق، قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا قال أبو حنيفة وأصحابه:(لا يقطع، لما روي أنّ عليّا كرّم الله وجهه أتي بسارق فقطع يده اليمنى، ثمّ أتي به مرّة أخرى فقطع رجله اليسرى، ثمّ أتي به ثالثة فضربه وحبسه وقال: إنّي أستحي من الله أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها)
(3)
.
قوله تعالى: {جَزاءً بِما كَسَبا؛} أي عقوبة على ما فعلا، وانتصب (جزاء) لأنه مفعول له، كأنه قال: فاقطعوهما لجزاء فعلهما. قوله تعالى: {نَكالاً مِنَ اللهِ؛} أي عقوبة وفضيحة من الله. والنّكال: هو أن ينكّل به ليعتبر به غيره فينكل؛ أي لا يفعل مثل فعله. قوله تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (38)؛أي منيع بالنّقمة من السارق، ذو حكمة فيما حكم من القطع لما في ذلك من زجر السّارق عن غيّهم صيانة لأموال الناس.
(1)
في جامع البيان: تفسير الآية: مج 4 ج 6 ص 311؛قال الطبري: «ثم اختلفوا في السارق الذي عناه الله، فقال بعضهم: عنى بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعدا، وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله: واحتجّوا لقولهم ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [قطع في مجنّ-ترس-قيمته ثلاثة دراهم]» .وهو من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحدود: باب (13):الحديث (6796).
(2)
في جامع البيان: ج 6 ص 311؛ قال الطبري: «وقال آخرون: بل عنى بذلك: سارق ربع دينار أو قيمته. وممن قال بذلك الأوزاعي وقال بقوله. واحتجوا لقولهم بالخبر الذي روي عن عائشة أنّها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [القطع في ربع دينار فصاعدا]» .والحديث أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحدود: الحديث (6789) وما بعده.
(3)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب السرقة: باب السارق يعود فيسرق ثانيا وثالثا ورابعا: الأثر (17759).وفي نصب الراية لأحاديث الهداية: ج 3 ص 374؛قال الزيلعي: «رواه محمّد بن الحسن في كتاب الآثار» .
وظاهر الآية يقتضي وجوب القطع على السّارق في القليل والكثير، وهو قول الخوارج، إلاّ أنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[لا قطع في أقلّ من عشرة دراهم]
(1)
وبه أخذ أصحابنا، وروي عن عليّ وابن مسعود مثل قولنا.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا تقطع الخمس إلاّ في خمس) أي الخمس أصابع لا تقطع إلاّ في خمسة دراهم
(2)
.وعن عائشة رضي الله عنها؛ أنّها قالت: (لا قطع إلاّ في ربع دينار)
(3)
وهو قول الشافعيّ. وقال عبد الله بن عمر: (ثلاثة دراهم)
(4)
.
قوله تعالى: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ؛} أي من تاب من السراق من بعد سرقته وأصلح العمل فيما بينه وبين الله تعالى، {فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ؛} أي يتجاوز عنه ولا يؤاخذه في الآخرة، ولا تقطع يده إذا ردّ المال قبل المرافعة إلى الحاكم، {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (39)؛بمن مات على التوبة.
وأما إذا رفع إلى الحاكم ثم تاب فالقطع واجب، فإن كانت توبته حقيقة كان ذلك زيادة درجات له، كما أنّ الله تعالى ابتلى الصالحين والأنبياء بالبلايا والمحن والأمراض زيادة لهم في درجاتهم، وإن لم تكن توبته حقيقة كان الحدّ عقوبة له على ذنبه، وهو مؤاخذ في الآخرة إن لم يتب.
وعن عبد الله بن عامر قال: سرقت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوا بها إليه، قالوا: يا رسول الله إنّ هذه المرأة سرقتنا، فقال قومها: نحن نفديها، فقال رسول
(1)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (7138).وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 274؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده ضعيف» .وفي نصب الراية: ج 3 ص 359؛قال الزيلعي: «أخرجه أحمد عن الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. قال في التنقيح: الحجاج مدلس ولم يسمع هذا الحديث من عمرو» انتهى.
(2)
أخرجه الدارقطني في السنن: كتاب الحدود والديات: الحديث (307 و 308) عن عمر، إسناده حسن. وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 274؛قال الهيثمي: «عن سعد بن أبي وقاص، أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه أبو واقد الصغير، ضعفه الجمهور، وقال أحمد: ما أرى به بأسا» .
(3)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحدود: الحديث (6789 و 6790 و 6791).
(4)
أخرجه البخاري في الصحيح: الحديث (6797 و 6798).
الله صلى الله عليه وسلم: [اقطعوا يدها] قالوا: نحن نفديها بخمسمائة مثقال، فقال:[اقطعوا يدها] فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل من توبة يا رسول الله؟ قال: [نعم إنّ التّوبة تخرجك عن خطيئتك كيوم ولدتك أمّك].فأنزل الله هذه الآية {(فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ)}
(1)
.
وعن عائشة قالت: كانت امرأة مخزوميّة تستعير المتاع وتجحده، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلّموه، فكلّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال:[يا أسامة لا أراك تكلّمني في حدّ من حدود الله] ثمّ قام خطيبا فقال: [إنّما هلك من قبلكم بأنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضّعيف قطعوه، والّذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة ابنة محمّد لقطعت يدها].أعاذها الله من ذلك، فقطع يد المخزوميّة
(2)
.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؛} أي له القدرة على أهل السّماوات والأرض، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى:{يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ؛} أي يعذّب من يشاء على الذنب الصغير وهو عدل منه، ويغفر لمن يشاء الذنب العظيم وهو فضل منه؛ أي يعذّب من توجب الحكمة تعذيبه، ويغفر لمن توجب الحكمة مغفرته، {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (40).
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ؛} أي لا يحزنك يا محمّد فعل الذين يسارع بعضهم بعضا في الإقامة على الكفر والحثّ عليه.
قرأ نافع: «(يحزنك)» بضمّ الياء، ومعناهما واحد. وقرأ السلميّ:«(يسرعون في الكفر)» وقوله تعالى: {(مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)} وهم المنافقون
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (9312).
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الحدود: باب كراهية الشفاعة في الحدود: الحديث (9788).
{وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا؛} أي ومن يهود المدينة الذين هم أهل الصّلح للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتثبيت لفؤاده بوعد النّصرة والظفر، وإعلام أنّ اليهود والنصارى والمنافقين لا يضرّونه.
قوله تعالى: {سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ؛} أي قابلون للكذب، يعني بني قريظة هم سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، يعني يهود خيبر، وذلك: أنّ رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وكانت خيبر حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الزّانيان محصنين، وكان حدّهما الرّجم في التّوراة، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، وقالوا: إنّ هذا الرّجل الّذي في يثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنّه الضّرب، فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريظة، فإنّهم صلح له وجيرانه فيسألونه عن ذلك، فبعثوا رهطا منهم مستخفين، وقالوا لهم: اسألوا محمّدا عن الزّانيين محصنين ما حدّهما؟ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرّجم فاحذروه ولا تقبلوا منه، وأرسلوا الزّانيين معهم.
فقدم الرّهط إلى بني قريظة والنّضير، وذكروا لهم ذلك وقالوا: اسألوا لنا محمّدا عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة: إذا والله يأمركم بما تكرهون، ثمّ انطلق منهم قوم مثل كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسبعة بن عمر ومالك بن الصّيف وعازوراء وغيرهم، وقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزّانية والزّاني إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: [وهل ترضون بقضائي في ذلك؟] قالوا: نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرّجم، فأخبرهم فأبوا أن يأخذوا به.
فقال جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريّا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: [هل تعرفون شابّا من الرّبيّين أعور سكن فدك؟] قالوا: نعم، قال:[فأيّ رجل هو فيكم؟] قالوا: هو أعلم من على وجه الأرض من اليهود بالتّوراة، قال:
[فأرسلوا له]،ففعلوا، فأتاهم ابن صوريّا، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنت ابن صوريّا؟] قال: نعم، قال:[أنت أعلم اليهود؟] قال: كذلك يزعمون، قال:[أتجعلونه بيني وبينكم؟] قالوا: نعم قد رضينا به إذا رضيت به.
فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [أنشدك بالله الّذي لا إله إلاّ هو القويّ، إله بني إسرائيل الّذي أنزل التّوراة على موسى، والّذي فلق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون،
والّذي ظلّل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسّلوى، هل تجدون في كتابكم الرّجم على من أحصن؟] قال ابن صوريّا: نعم والّذي ذكّرتني به؛ ولولا خشية أن تحرقني التّوراة إن كذبت أو غيّرت لما أعرفت لك، ولكن كيف في كتابك يا محمّد؟ قال:[إذا شهد أربعة عدول أنّه أدخل فيها، كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرّجم]،قال ابن صوريّا: والّذي أنزل التّوراة على موسى لهكذا أنزل على موسى.
فقال له قومه: ما أسرع ما صدقته، أما كنت لمّا أتينا عليك بأهل وما أنت بأعلمنا، فقال لهم: أنشدني بالتّوراة، ولولا خشية التّوراة أن تهلكني لما أخبرته، وخفت إن كذبته أن ينزل بنا عذاب شديد.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم اليهوديّين الزّانيين، وقال:[أنا أوّل من يحيي سنّة إذا أماتوها]،فنزل قوله تعالى:{(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ)} فلا يخبركم به.
فقال ابن صوريّا: أنشدك بالله يا محمّد أن تخبرنا بالكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن صوريّا: أخبرنا عن ثلاث خصال، قال:[ما هنّ؟] قال: أخبرني عن نومك؟ قال: [تنام عيناي وقلبي يقظان]،قال: صدقت.
قال: فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمّه شيء، وعن شبه أمّه ليس فيه من شبه أبيه شيء، قال:[أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشّبه له]، قال: صدقت.
فأسلم ابن صوريّا حينئذ وقال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة بالوحي؟ قال:
[جبريل] قال: صفه لي، قال: فوصفه له النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنّه في التّوراة كما قلت، وإنّك رسول الله، فلمّا أسلم ابن صوريّا شتموه
(1)
.
(1)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 271 بمعناه، ولم يذكر فيه (ابن صوريا).وذكر ابن هشام في السيرة النبوية ج 2 ص 213 - 214 القصة بسياق آخر وفيها اعتراف ابن صوريا بنبوة سيدنا الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم، وذكر حسد اليهود له.
قوله تعالى: {لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً؛} أي من يرد الله بليّته وعقوبته وفضيحته، فلن تقدر يا محمّد أن تدفع عنه شيئا مما أراد الله به.
قوله عز وجل: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ؛} أي أهل هذه الصّفة لم يرد الله أن يفتح قلوبهم ليبصروا الحقّ. وقيل: معناه: لم يطهّر قلوبهم من علامات الكفر، مثل الختم والطّبع والضّيق، كما شرح صدور المؤمنين، وطهّر قلوبهم بكتابة الإيمان فيها.
وقال الحسن: {(لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} ؛أي لا يبرّئ قلوبهم من الكفر وهم مقيمين على دينهم واعتقادهم) {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ؛} أي فضيحة بما أظهر الله من كذبهم، وقيل: أراد بالخزي القتل والسّبي والجزية، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} (41)؛أعظم مما في الدّنيا.
قوله تعالى: {سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ؛} أوّل هذه الآية راجع إلى صفة اليهود والمنافقين الذين سبق ذكرهم، والفائدة في إعادة وصفهم بسمّاعين للكذب: بيان أنّهم إنما يستحقّوا الخزي بإصرارهم على الكذب واستماعه، وضمّهم إلى ذلك السّحت.
واختلفوا في المراد بالسّحت، فقال ابن مسعود والحسن:(أراد به الرّشوة على الحكم)
(1)
وقال عليّ وأبو هريرة: (هو الرّشوة على الحكم؛ ومهر البغيّ؛ وعسب التّيس؛ وحلوان الكاهن؛ وثمن الخمر)
(2)
.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 80؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن؛ قال: (تلك حكّام اليهود يسمع كذبة ويأخذ رشوة) وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال: (السحت: الرشوة في الدين) قال سفيان: (يعني في الحكم).» وأخرج الطبري في جامع البيان: النص (9334) أثر الحسن، والنص (9338) أثر ابن مسعود.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9343) عن أبي هريرة، النص (9351) عن علي رضي الله عنه.
والسّحت: اسم لما لا يحلّ أخذه، وأصل السّحت من الهلاك، يقال: سحته وأسحته؛ إذا استأصله، ومنه قوله تعالى:{فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ}
(1)
أي يهلككم، وسمّي الحرام سحتا؛ لأنه يؤدّي إلى الهلاك والاستئصال.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [كلّ لحم نبت من سحت فالنّار أولى به] قيل:
ما السّحت يا رسول الله؟ قال: [الرّشوة في الحكم]
(2)
.وعن مسروق عن ابن مسعود قال: «الرّشوة سحت، قلت له: في الحكم؟ قال: لا؛ ذاك الكفر؛ ثمّ قرأ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ}»
(3)
.وأراد بهذا استحلال الرّشوة وجحد الحقّ.
والرشوة تنقسم على وجوه؛ منها: الرشوة على الحكم، وذلك حرام على الرّاشي والمرتشي؛ لأنه لا يخلو إمّا ليحكم له الحاكم بحقّه، فيكون المرتشي آخذا للأجرة على أداء ما هو فرض عليه، ويكون الرّاشي محاكما إلى من لا يصلح للحكم ولا ينفذ حكمه، وإما أن يرشي فيقضي له بما ليس له بحقّ، فيكون الإثم أعظم ويفسق الحاكم من وجهين، وكذلك المرتشي، والرّائش: أراد بالرائش الذي يمشي بينهما.
ومنها: الرشوة في غير الحكم، كما روي عن وهب بن منبه:(أنّه قيل له الرّشوة حرام في كلّ شيء؟ قال: إنّما نكره أن ترشي لتعطى ما ليس لك، أو تدفع حقّا لزمك، فأمّا أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك، فليس بحرام، وإنّما الإثم على القابض)
(4)
.
(1)
طه 61/.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 81؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر» .وفي جامع البيان: النص (9353) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرسلا.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9349).
(4)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 183 - 184؛ نقله القرطبي وقال: «قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ؛ ولا بأس بأن يدفع الرجل عن نفسه وما به من رشوة. وهذا كما روي عن ابن مسعود أنه كان بالحبشة فرشا دينارين وقال: إنما الإثم على القابض دون الدافع» .
قرأ عاصم ونافع وحمزة وابن عامر: «(للسّحت)» بضم السين وجزم الحاء، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمّهما جميعا، وقرأ أبو العبّاس:«(للسّحت)» بفتح السّين وجزم الحاء، وقرأ عبيد بن عمر:«(للسّحت)» بكسر السين وجزم الحاء، وكلّه بمعنى واحد وهو الحرام.
وقيل: يقال رجل مسحوت المعدة؛ إذا كان أكولا لا يلفى أبدا إلاّ جائعا، قيل:
نزلت هذه الآية في حكّام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم. وعن الحسن في قوله:{(سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ)} قال: (ذلك الحكّام؛ يسمع كذبه ويأخذ رشوته، فيكون الحاكم قد سمع الدعوة الكاذبة ويأكل رشوته)
(1)
.
وروي: أنّ مسروقا شفع لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبا شديدا وقال: لو علمت أنّك تفعل هذا ما تكلّمت في حاجتك ولا أتكلّم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود رضي الله عنه يقول: «من شفع في حاجة ليردّ بها حقّا أو يدفع بها ظلما فأهدي إليه شيء فهو سحت)،فقيل له: يا أبا عبد الرّحمن ما كنّا نرى ذلك إلاّ أخذ رشوة على الحكم؟ فقال: (الأخذ على الحكم كفر، قال الله تعالى:
{(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)} وإذا أرشى الحاكم انعزل من ساعته وإن لم يعزل»
(2)
.
ومن السّحت: ثمن الخمر والخنزير والميتة، وعسب الفحل، وأجرة النّائحة والمغنّية والسّاحر، وهديّة الشفاعة، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن. هكذا قال عمر وعليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم. وقال ابن كيسان: سمعت الحسن يقول: (إذا كان لك على رجل دين، فأكلت في بيته، فهو سحت).
قوله تعالى: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ؛} وذلك أنّ اليهود لما أرادوا أن ينهضوا من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قصّة الزّنا، تعلّقت بنو قريظة ببني
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9334).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9347).
النضير، فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد، إذا قتلوا منّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتيلا أخذوا منا أربعين ومائة وسق، وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فقال صلى الله عليه وسلم:[دم القرظيّ وفاء بدم النّضير].فأنزل الله تعالى هذه الآية
(1)
؛أي فإن جاءك الفريقان كأنّهم راضين بحكمك، فاحكم بما أنزل الله، وإن شئت فأعرض عنهم.
وقيل: معناه: فإن جاءك أهل خيبر في حكم الزّنا، فاقض بينهم بالرّجم في هذه الحادثة، وفي نظيرها من الحوادث التي تقع من بعد، أو أعرض عنهم، ولا تحكم بينهم، خيّره الله تعالى بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم، وهذا التخيير منسوخ بقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ} .
قوله تعالى: {وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً؛} لإعراضك عنهم، {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ؛} أي بالعدل؛ {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42)؛أي العادلين.
قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ؛} أي كيف يرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الرجم والقصاص وغير ذلك {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ،} يعرضون عن العمل بها، {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ؛} من بعد البيان الذي في كتابهم، {وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (43)؛ليسوا بمصدّقين بما عندهم، يزعمون أنّهم مؤمنون بالتوراة وهم كاذبون. وفي هذه الآية بيان على أنّ هؤلاء اليهود كانوا لا يحكّمون النبيّ صلى الله عليه وسلم بحكم رضى وانقياد، ولولا طلبهم الترخّص واتّباع ما لا يغني في كتابهم لما جاءوه.
قوله تعالى: {إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا؛} أي إنّا أنزلنا التوراة على موسى فيها بيان من الضّلالة ونور لمن آمن به، يقضي بها النبيّون الذين أخلصوا، وهذه صفة الأنبياء؛ لا أن فيهم من لم يخلص، كما يقال: صلّى الله على محمّد وعلى آله الطيّبين، لا يراد بذلك أنّ في أهله غير طيّب.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9361).
والمراد بالنبيّين موسى وعيسى ومحمّد صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الذين كانوا من وقت موسى إلى وقت نبيّنا عليهم السلام. ويقال أراد بالنبيّين محمّدا صلى الله عليه وسلم فإنه كان كالنائب عن أنبياء بني إسرائيل في أن يحكم في الزّنا بينهم بحكم التوراة.
وقيل: معنى {(الَّذِينَ أَسْلَمُوا)} أي انقادوا لأحكام الله لا على أنّ غيرهم من النبيّين لم يكونوا مسلمين. وقيل: معنى {(أَسْلَمُوا)} أي صاروا إلى السّلامة، كما يقال:
أصبحوا وأمسوا: وادّخلوا في الصّباح والمساء. وقيل: معناه: الّذين أسلموا أنفسهم إلى الله. كما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا آوى إلى فراشه: [أسلمت نفسي إليك]
(1)
.
قوله عز وجل {(لِلَّذِينَ هادُوا)} يعني لليهود، وقيل: معنى الآية: للذين تابوا من الكفر، كما في قوله تعالى:{إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ}
(2)
.
قوله تعالى: {وَالرَّبّانِيُّونَ؛} هم العلماء العاملون، يربّون العلم؛ أي يقومون به، {وَالْأَحْبارُ؛} سائر العلماء دون الأنبياء والربّانيّين، وإنما سمي العالم حبرا لكثرة ما يكتب بالحبر، ويقال: هو من التحبير وهو تحسين العلم، وتقبيح الجهل.
قوله تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ؛} من الرّجم وسائر الأحكام، {وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ؛} إنه كذلك، ومعنى {(اسْتُحْفِظُوا):}
استودعوا.
قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ؛} خطاب لعلماء اليهود؛ أي لا تخشوا السّفلة والجهّال في إظهار نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وآية الرّجم، واخشوا عقابي في كتمانها، {وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً؛} أي لا تختاروا عرضا يسيرا من الدّنيا، فإن الدّنيا ما فيها قليل.
(1)
الحديث عن البراء بن عازب؛ قال: علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أخذت مضجعي عند النوم: [أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، ووجّهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، رهبة منك ورغبة إليك، لا ملجأ إلاّ إليك، آمنت بكتابك الّذي أنزلت وبالرّسول الّذي أرسلت].أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 5 ص 104؛وقال: «صحيح ثابت» .
(2)
الأعراف 156/.
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ؛} ذهب الخوارج إلى أنّ معنى الآية: (ومن لم يحكم بما نزّل الله وحكم بخلافه كان كافرا بفعل ذلك، اعتقادا كان أو غير ذلك)،وكفّروا بذلك كلّ من عصى الله تعالى بكبيرة أو صغيرة، وأدّاهم ذلك إلى الضّلال والكفر تكفيرهم الأنبياء صلوات الله عليهم بصغائر ذنوبهم!
وأما عامّة أهل الإسلام قالوا: إن المراد بهذه الآية: أنّ من جحد شيئا مما أنزل الله مثل ما فعله اليهود من التحريف والتبديل وإنكار بعض آيات الله تعالى، {فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ} (44)؛أي أهل هذه الصّفة بمنزلة الكافر بالكتب وبالرّسل كلّها.
يدلّ على هذا أنه لا خلاف أنّ من لم يقض بينهم بما نزّل الله لا يكفر بأن لم يحكم؛ لأنّ أكثر الناس بهذه الصّفة، والحاكم بين الناس في كثير حالاته لا يحكم، فإذا صلح الخوارج أن يزيدوا في ظاهر اللفظ فيقولوا معناه:(من لم يحكم بما نزّل الله وحكم بخلافه) صلح لغيرهم أن يقولوا معناه: ومن لم يحكم بصحّة ما نزّل الله {(فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)،} وهذا عامّ في اليهود وغيرهم.
قوله عز وجل: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في الجراحات الّتي كانت بين بني قريظة وبني النّضير، كان لبني النّضير مقتل على بني قريظة، والدّية والدّم ضعف ما كان لبني قريظة) فأنزل الله هذه الآية.
ومعناها: وأوحينا على بني إسرائيل في التّوراة: {(أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)} يعني أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاء، {(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)} بفقئهما، {(وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ)} يجدع به، {(وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ)} يقطع به {(وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ)} يقلع به، وخفّف نافع الأذن في جميع القرآن، وثقّله غيره.
قوله عز وجل: {وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ؛} أي يجزئ فيها القصاص، والقصاص: عبارة عن المساواة، وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه، فأمّا ما كان من رضّة أو هشمة لعظم، وهذه ركن لا يحيط العلم به، ففيه أرش أو حكومة.
قرأ الكسائيّ: «(والعين)» رفعا إلى آخره، وكذلك قوله «(والجروح)» رفعه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، ونصبوا سائر الحروف قبله، قالوا: لأنّ لها نظائر في القرآن؛ منها قوله تعالى: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}
(1)
و {إِنَّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(2)
و {إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسّاعَةُ}
(3)
.وقرأ نافع وعاصم وحمزة وخلف كلها بالنصب.
قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} (45)؛أي من عفا عن مظلمة في الدّنيا، فهو كفّارة للجراح لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أنّ القصاص كفّارة له، وأما أجر العافي فعلى الله، قال الله تعالى:{فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ}
(4)
وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، ورواية عن ابن عباس.
وقيل: معناه: فهو كفّارة للمجروح ووليّ القتيل، وهو قول ابن عمر والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد. ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم:[من تصدّق من جسده بشيء كفّر الله بقدره من ذنوبه]
(5)
فمن عفا كان عفوه كفارة لذنوبه يعفو عنه الله ما أسلف من ذنوبه، وأما الكافر إذا عفا لا يكون عفوه كفارة له مع إقامته على الكفر. وقال صلى الله عليه وسلم:[من أصيب بشيء من جسده فتركه لله كان كفّارة له]
(6)
.
وروي: أنّ رجلا طعن رجلا على عهد معاوية رضي الله عنه؛ فأعطوه ديتين على أن يرضى، فلم يرض، فحدّث رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [من تصدّق
(1)
التوبة 3/.
(2)
الأعراف 128/.
(3)
الجاثية 32/.
(4)
الشورى 40/.
(5)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9436) عن عبادة بن الصامت. وفي الدر المنثور: ج 3 ص 93؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد والنسائي بلفظ قريب منه» .وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 303؛قال الهيثمي: «رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والطبراني في الكبير، ورجال المسند رجال الصحيح» .
(6)
في الدر المنثور: ج 3 ص 93؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد عن رجل من الصحابة» .
بدم فما دونه كان كفّارة له من يوم ولد إلى يوم تصدّق به] فتصدّق به
(1)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [ثلاث من جاء بهنّ يوم القيامة مع الإيمان دخل الجنّة من أيّ أبوابها شاء، وتزوّج من الحور العين حيث شاء: من عفا عن قاتله، ومن قرأ دبر كلّ صلاة مكتوبة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} عشر مرّات، ومن أدّى دينا خفيّا] قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أو إحداهنّ يا رسول الله، قال:[أو إحداهنّ]
(2)
.
فأما القصاص في العين، فلا يجب إلاّ إذا ضربها رجل فأذهب ضوءها وهي قائمة، فإنه يسدّ العين الأخرى وحول إلى العين التي يجب فيها القصاص من الضّارب بثوب أو قطن مبتلّ، ويحمى مره
(3)
ويقرّب إلى العين حتى يذهب ضوؤها
(4)
.وأما إذا قلعها فلا قصاص فيه؛ لتعذّر استيفائها على المماثلة؛ لأنّا لا نعلم للقلع حدّا معلوما ينتهي إليه، وهذا كمن قطع لحما من فخذ رجل أو ذراعه، فإنه لا يجب القصاص.
وأما الأنف؛ فمعناه: إذا قطع المارن؛ وهو ما لان منه وجب فيه القصاص؛ أما إن قطعه من أصله فلا قصاص فيه؛ لأنه عظم لا يمكن استيفاؤه على المساواة، كمن قطع يد رجل من نصف الساعد. وعن أبي يوسف: (إنّ الأنف إذا استوعب ففيه
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 93؛ قال السيوطي: «أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن أبي الدرداء» .وأبهمه ابن جرير في جامع البيان: النص (9447) قال: «فحدّث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وذكره» ،وفي النص (9435) أفصح عنه. وأخرجه أحمد في المسند: ج 6 ص 448.والترمذي في الجامع: كتاب الديات: باب ما جاء في العفو: الحديث (1393)،وقال: غريب.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط: الحديث (3385).وأبو نعيم في حلية الأولياء: ج 6 ص 243، وقال: غريب. وفي مجمع الزوائد: ج 6 ص 301؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف» .وفي المطالب العالية: ج 3 ص 249:الحديث (3404)، وضعفه البوصيري.
(3)
المره: ضد الكحل. قال الأزهري: «المره والمرهة: بياض تكرهه عين النّاظر» تهذيب اللغة: (مره):ج 6 ص 160.
(4)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 195؛ قال القرطبي: «قال ابن المنذر: وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه أمر بعينه الصحيحة فغطّيت، وأعطى رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره» وهكذا مع العين الثانية.
القصاص، وكذلك الذكر واللّسان).
وأما الأذن؛ فمعناه: إذا استوفيت بالقطع، وأما إذا قطع بعضها فلا قصاص فيها.
وأما السنّ؛ فمعناه: القلع وكسر البعض، لأن القلع يمكن استيفاؤه على المساواة، ولا يجوز استيفاء اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، وإن تراضيا على ذلك لأنه لا مساواة بينهما.
وأمّا المساواة في النفس فلا يشترط، ألا ترى أن الرجل يقتل بالمرأة، فعلم أن التساوي من الرجل والمرأة في الأنفس غير معتبر في القصاص، وفي الأطراف معتبر، ولهذا لا يجزئ عندنا بين الرجل والمرأة في الأطراف قصاص، ولا بين الحرّ والعبد لعدم التساوي بين الطرفين في البدل، وكذلك بين العبد والعبد لا يمكن معرفة التساوي بين أطرافهما في البدل.
قوله تعالى: {(وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)} يعني التي لها حدّ معلوم مثل الموضحة ونحوها، وأما ما ليس له حدّ معلوم لا يمكن مراعاة التساوي فيه، ففيه الأرش دون القصاص.
قوله عز وجل: {وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ؛} الآية أي اتّبعنا النبيين الذين ذكرناهم بعيسى عليه السلام وجعلناه ممن يقفوهم، يقال: قفوت أثر فلان؛ إذا اتّبعته. وحقيقة التّقفية: الإتيان بالشيء في قفا غيره.
قوله: {(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)} نصب على الحال من عيسى، كان مصدّقا بالكتاب الذي أنزل قبله وهو التوراة. قوله تعالى:{وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ؛} أي أعطيناه الإنجيل فيه هدى من الضلالة، وبيان الأحكام، قوله تعالى:{(فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً)} نعت الإنجيل الذي أعطيناه ذلك كتابا، أي وموافقا لما تقدّمه، {مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً؛} أي بيانا لنعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وصفته، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (46)؛أي نهيا للذين يتّقون الفواحش والكبائر.
قوله عز وجل: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ؛} أي وليقض أهل الإنجيل، وهذا جزم بالأمر؛ أي قلنا لهم: احكموا بما أنزل الله في الإنجيل. قال الكلبيّ: (بيّن الله حكم الرّجم على الزّاني المحصن، وحكم القصاص في النّفس والأطراف، وحكم القطع على السّارق في التّوراة والإنجيل وفيما أنزل على نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وجميع هذه الكتب يصدّق بعضها بعضا).
قرأ الأعمش وحمزة: «(وليحكم)» بكسر اللام وفتح الميم؛ أي آتيناه الإنجيل لكي يحكم، وقرأ الباقون بجزم اللام والميم. قال مقاتل:(أمر الله الرّبّانيّين أن يحكموا بما في التّوراة، وأمر القسّيسين والرّهبان أن يحكموا بما في الإنجيل، فكفروا وكذبوا محمّدا صلى الله عليه وسلم؛ وقالوا: العزير ابن الله، وقالوا: المسيح ابن الله).
قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} (47)؛ أي من لم يحكم بما أنزل الله في كتبه على رسله، فأولئك هم الخارجون عن أمر الله.
قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ؛} أي وأنزلنا إليك يا محمّد القرآن بالصّدق، وموافقا لما تقدّم من الكتب في التوحيد، وبيان الحقّ من الباطل، {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ؛} أي أمينا ومؤتمنا على ما قبله من الكتب. ويقال: شاهدا على الكتب كلّها، وهذا وصف خاصّ للقرآن دون ما سواه.
وأصل مهيمن: مؤتمن، على وزن مفيعل من الأمانة، إلاّ أن الهاء أبدلت من الهمزة كما قالوا: أرقت الماء وهرقت الماء، وأناك وهناك، وهيهات وأيهات، ونظير المهيمن: مسيطر. قال الشعبيّ والكسائي ورواية الكلبي
(1)
عن ابن عباس معنى قوله {(وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)} أي شاهدا
(2)
،قال الشاعر:
إنّ الكتاب مهيمن لنبيّنا
…
والحقّ يعرفه ذوو الألباب
(1)
في المخطوط: (الدالبي) هكذا رسمها الناسخ، والأقرب إلى رسمها (الكلبي) والله أعلم.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9451).
أي شاهدا. وقال ابن جبير
(1)
وأبو عبيد والحسن: (أمينا)،وهي رواية العوفي عن ابن عباس. وأمانة القرآن أنه أمين على ما قبله من الكتب وهي فيما أخبر به أهل الكتاب في كتبهم، فإن كان ذلك في القرآن فصدّقوا وإلاّ كذبوا. وقال الضحاك:
(مهيمنا؛ أي قاضيا).وقال عكرمة: (دالا).وقال ابن زيد: (مصدّقا).وقال الخليل:
(رقيبا وحافظا).
ويقال: هيمن فلان على كذا إذا شاهده وحفظه. تقول العرب للطائر إذا طار، وحوّل وكره، ورفرف على فرخه صيانة له: هيمن الطّير يهيمن، وكذلك يقال للطائر إذا أرخى جناحيه يسعهما بيضه وفرخه ورفرف على فرخه صيانة له
(2)
.ومنه قيل لله عز وجل: المهيمن؛ أي الرقيب الرحيم.
قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ؛} أي فاحكم في الزاني والزانية بالرّجم، ويقال: احكم بين بني قريظة وبني النضير في الجراحات التي بينهم في التّسوية بين الفريقين، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ؛} أي لا تتّبع مرادهم، {عَمّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} .
قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً؛} أي جعلنا لكلّ نبيّ منكم يا معشر الأنبياء فرائض وسننا، والشّرعة والشّريعة: هو التخلّص إلى الجنّة كشريعة الأنهار والحياض في الدّنيا، وهو التخلّص إلى الشرب والاستقامة، وأصل الشّرعة من قولهم: شرع فلان يشرع شروعا إذا دخل في الأمر دخولا ظاهرا، ويقال:
الشّرعة والمنهاج كلاهما الطريق، والطريق هاهنا الدّين، وقد يعبّر عن الشيء الواحد بلفظين مختلفين تأكيدا للكلام.
وقال المبرّد: (الشّرعة: ابتداء الطّريق، والمنهاج: الطّريق المستمرّ).ويقال:
عنى المنهاج: الدلائل الواضحة التي يستدلّ بها على الفرائض من كتاب وسنّة، وقيل:
معناه: لكلّ جعلنا منكم سبيلا وسنّة. والمنهاج: الطريق المبين الواضح.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9457).
(2)
هكذا في المخطوط أعاد كتابة العبارة، وعلى ما يبدو لي أنّها مكررة في الموضع الأول من النص، ومكانها الأخير.
قال المفسّرون: عنى بذلك جميع أهل الملل المختلفة، جعل الله لكل ملّة شرعة ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، يحلّ فيها ما شاء ويحرّم فيها ما شاء، فالدّين واحد والشريعة مختلفة.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً؛} أي لجعلكم على أمر واحد في دعوة جميع الأنبياء، {وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ؛} أي ولكن ليختبركم، {فِي ما آتاكُمْ،} فيما أعطاكم من الكتب، وفيما أمركم من السّنن والشرائع المختلفة، فيتبيّن من يطيع الله ومن يعصيه.
قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ؛} أي بادروا يا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم بالخيرات والطاعات والأعمال الصالحة قبل الفوت والموت. قال صلى الله عليه وسلم: [اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك]
(1)
.
قوله تعالى: {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً؛} أي إلى الله مرجع من آمن، ومن لم يؤمن، {فَيُنَبِّئُكُمْ،} فيجزيكم يوم القيامة، {بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48)؛من أمر الدّين والشريعة.
وقوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ؛} معناه: أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ، وبأن تحكم بين اليهود بما أنزل الله من رجم الزاني المحصن، والقصاص بين الشّريف والوضيع، ولا تعمل بهواهم في الجلد، وترك الرّجم، {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ؛} أي أن يستزلّوك
(2)
عن بعض ما بيّن الله في كتابه.
قال ابن عبّاس: (وذلك أنّ يهود بني النّضير مثل ابن صوريّا وكعب بن أسد وغيرهم، قالوا فيما بينهم: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه، فإنّما هو بشر!
(1)
أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الرقاق: باب نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الحديث (7916) عن ابن عباس، وقال:«حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» .وأبو نعيم في حلية الأولياء: ج 4 ص 148 عن عمرو بن ميمون.
(2)
في المخطوط: (يستلذوك).
فأتوه فقالوا له: يا محمّد إنّك قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وساداتهم، وإنّا إن اتّبعناك اتّبعك كلّهم ولن يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم فنؤمن بك، فأبى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان حريصا على إسلامهم، فأنزل الله تعالى {(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)} .)
(1)
.
قوله عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ؛} أي إن أعرضوا عن حكمك، فاعلم إنّما يريد الله أن يعاقبهم بالقتل في بني قريظة، وبالجلاء إلى الشّام في بني النّضير، {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ؛} أي بما سلف من ذنوبهم، وهو جحودهم لدينك ونعتك وصفتك والتوراة والإنجيل، {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ لَفاسِقُونَ} (49)؛أي خارجون عن الطاعة ناقضون للعهد.
قوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؛} قرأ ابن عامر «(تبغون)» بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. ومعنى الآية: تطلبون من حكم الزّنا والقصاص، وهم أهل الكتاب شيئا فيما لم ينزّله الله عليكم كما يفعله أهل الجاهلية، وأيّ أحد أعدل في الحكم من الله تعالى. قوله سبحانه وتعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (50)؛أي من أيقن بيّن له عدل الله في حكمه.
قوله سبحانه وتعالى: {*يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ؛} وذلك: أنّه لمّا كانت وقعة أحد خاف النّاس من المسلمين أن يظهر عليهم الكفّار، فأراد من كان بينه وبين اليهود والنّصارى صحبة أن يتولاّهم ويعاقدوهم، فنهاهم الله عن ذلك. ومعناه: يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أحبّاء في العون والنّصرة، بعضهم على دين بعض، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ؛} إذا تولاّه لأجل كفره صار كافرا مثله، وأمّا إذا تولاّه لا لأجل كفره صار من جملة المستحقّين العذاب لمخالفة أمر الله ولموالاته من أوجب الله عليه أن يعذّبه. وقال عكرمة:(نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين قال لبني قريظة حين رضوا بحكم سعد: إنّه الذبح)
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9475).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9483).
قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} (51)؛أي لا يرشد اليهود والنصارى إلى دينه، وحجّته ما داموا على كفرهم.
قوله سبحانه وتعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ؛} وذلك أنّ المنافقين كانوا يودّون يهود عرينة ونصارى نجران؛ لأنّهم كانوا أهل ريف، وكانوا يمرّون بهم فيقرضونهم، فقال المنافقون: كيف نقطع مودّة قوم إن أصابتنا سيّئة، واحتجنا إليهم وسعوا علينا في المنازل، وعرضوا علينا الثمار في القابل، فنزل قوله سبحانه وتعالى:{(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)} أي ترى يا محمّد الذين في قلوبهم شكّ ونفاق يبادرون إلى ولاية الكفّار ومعاقدتهم، {يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ؛} شدّة وجدوبة.
ويقال: أراد بهذا القول أنّهم يخشون أن لا يتمّ أمر محمّد صلى الله عليه وسلم بأن يدور الأمر على الحالة التي هم عليها فيحتاجون إلى الكفّار. يقول الله سبحانه وتعالى: {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ؛} أي عسى أن يظهر المسلمون، و (عسى) من الله واجبة.
وسمّى النصر فتحا؛ لأن فيه فتح الأمر المغلق.
قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ؛} معناه: أو يقضي بالخصب لمحمّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقال هو أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أمر المنافقين وقتلهم، {فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ} (52)؛فيصبح المنافقون على ما أضمروا في أنفسهم من ولاية رءوس اليهود والنصارى إليهم نادمين، فلا تنفعهم الندامة حينئذ.
قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ؛} قرأ أهل الكوفة: «(ويقول)» بالواو والرفع على الاستئناف، وقرأ أهل البصرة بالنصب والواو عطف على {(أَنْ يَأْتِيَ)،} وقرأ الباقون برفع اللام وحذف الواو.
ومعنى الآية: يقول المؤمنون المخلصون عند ما أظهر الله نفاق المنافقين: {(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ)} يعنون المنافقين الذين حلفوا بالله أنّهم لمعكم على دينكم،
{حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ،} بطل ما أظهروه من الإيمان والأعمال الصالحة، {فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ} (53)؛فصاروا مغبونين في الوزر والعقوبة.
قوله سبحانه وتعالى: {(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)} تفسير للقسم بالله تعالى، فإنّ من يحلف بالله فقد بذل جهد يمينه، إذ لا يمين أعظم من اليمين بالله، ولا حرمة أكبر من حرمة الله. قال ابن عبّاس رضي الله عنه:(فجاء الله بالفتح ونصر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وجاء أمر الله من عنده بإجلاء بني النضير، وقتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم)
(1)
،فندم المنافقون حين ظهر نفاقهم، وقال المؤمنون:{(أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)} .
قوله سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ؛} قرأ أهل المدينة والشام «(يرتدد)» بدالين، وفي الآية تهديد لمن لا ثبات له على الإيمان.
قال ابن عبّاس: (هم أسد وغطفان وأناس من كندة، ارتدّوا بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
وكان من المرتدّين فرقة يقال لهم بنو حنيفة باليمامة، ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان يدّعي النّبوّة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنّه أشرك مع محمّد صلى الله عليه وسلم في النّبوّة، وكتب إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله؛ أمّا بعد: فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك! وبعث بذلك رجلين من أصحابه نهشلا والحكم بن الطّفيل، وكانا من سادات اليمامة، فقال لهما النّبيّ صلى الله عليه وسلم:[أتشهدان أنّ مسيلمة رسول الله؟] قالا: نعم، فقال:[لولا أنّ الرّسل لا تقتل لضربت أعناقكما]،ثمّ أجاب:[من محمّد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب؛ أمّا بعد: فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتّقين]
(2)
.
ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفّي، وجعل مسيلمة يغلو أمره باليمامة يوما بعد يوم، فبعث أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد في جيش عظيم حتى أهلكه الله على يدي
(1)
الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 218.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في المسند: ج 1 ص 396 و 404، عن عبد الله بن مسعود. وفي مجمع الزوائد: ج 5 ص 314:كتاب الجهاد: باب النهي عن قتل الرسل؛ قال الهيثمي: «رواه أبو داود باختصار، وأحمد والبزار وأبو يعلى مطولا، وإسنادهم حسن» .
وحشيّ قاتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة، فكان وحشيّ يقول:(قتلت خير النّاس في الجاهليّة، وقتلت شرّ النّاس في الإسلام).
ومن المرتدّين أيضا طلحة بن خويلد رئيس بني أسد، وكان قد ادّعى النبوة أيضا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتله أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث إليه خالد ابن الوليد، فقاتله قتالا شديدا، وهرب طلحة على وجهه نحو الشام، فلجأ إلى بني حنيفة فأجاروه، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه.
وارتدّ أيضا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير من العرب منهم: فزارة ورئيسهم عيينة بن حصين، وبنو سليم وبنو يربوع، وطائفة من بني تميم، ورأسوا عليهم امرأة يقال لها سجاح بنت المنذر، وادّعت النبوة ثم زوّجت نفسها من مسيلمة الكذاب.
وارتدّت كندة ورئيسهم الأشعث بن قيس، وارتدّت بنو بكر بن وائل بأرض البحرين، وكفى الله المسلمين أمر هؤلاء المرتدّين، ونصر دينه على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخبار أهل الردّة طويلة مشهورة فلا نطوّل بذكرها الكتاب.
قوله سبحانه وتعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؛} قال عليّ والحسن وقتادة: (هم أبو بكر وأصحابه)
(1)
،وقال مجاهد:(هم أهل اليمن).وقال عياض بن غنيم: (لمّا نزلت هذه الآية أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعريّ وقال: [هم قوم هذا]
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [أتاكم أهل اليمن، هم ألين قلوبا وأرقّ أفئدة؛ الإيمان يمان، والحكمة يمانيّة]
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9500).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9504)،وإسناده صحيح. وأخرج الطبراني في الأوسط: ج 2 ص 232:الحديث (1414)،عن جابر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال: [هؤلاء قوم من اليمن، ثمّ من كندة، ثمّ السّكون ثمّ من تجيب].في مجمع الزوائد: ج 7 ص 11؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن» .والسّكون: قبيلة يمنية تفرّعت من كندة، وتجيب تفرّعت من السّكون.
(3)
عن أبي هريرة؛ أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب المغازي: باب قدوم الأشعريين: الحديث (4388).ومسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان: الحديث (52/ 82 و 52/ 90).
وقال الكلبيّ: (هم أحياء من اليمن: ألفان من النّجع، وخمسة آلاف من كمدة وبحيلة، وثلاثة آلاف من أحياء النّاس، فقاتلوا الّذين ارتدّوا عن الإسلام) وهم الذين أثنى الله عليهم بقوله سبحانه وتعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛} يلينون لهم جانبهم ليس هذا من الهوان، إنما هو من اللّين والرّفق، كما في قوله سبحانه وتعالى:
{وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}
(1)
.
قوله سبحانه وتعالى: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ؛} أي أشدّاء أقوياء غلظاء على الكافرين، يغازون الكفار ويغالبونهم، ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ}
(2)
.قال عطاء: ({أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ؛}:كانوا كالوالد لولده، وكالعبد لسيّده، أعزّة على الكافرين: كالسّبع على فريسته).وقال السديّ: (معنى قوله: {(فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)} يعني الأنصار)
(3)
.وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية، فضرب بيده على عاتق سلمان الفارسيّ فقال:[هذا وذووه]،ثمّ قال:[لو كان الدّين معلّقا بالثّريّا لناله رجال من أبناء فارس]
(4)
.
قوله سبحانه وتعالى: {يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ؛} أي يقاتلون العدوّ في طاعة الله، ولا يخافون ملامة اللائمين، {ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ؛} أي ذلك التمكين والتوفيق فضل من الله يكرم به من يشاء من كان
(1)
الاسراء 24/.
(2)
الفتح 29/.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9511).
(4)
أخرجه الترمذي في الجامع: كتاب التفسير: الحديث (3260) عن أبي هريرة، وقال:«هذا حديث غريب في إسناده مقال» ،والحديث (3261) وإسناده ضعيف. وفي صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة: باب فضل فارس: الحديث (230 و 2546/ 231)؛عن أبي هريرة قال: «كنّا جلوسا عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة، فلمّا قرأ وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم قال رجل: من هؤلاء؟
…
» وذكره. وأخرجه ابن حبان في صحيحه: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة: الحديث (7123)،وفيه قال عند ما تلا قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ، وإسناده صحيح.
أهلا لذلك، {وَاللهُ واسِعٌ؛} الفضل والرحمة، {عَلِيمٌ} (54)؛من يصلح للهدى.
قوله عز وجل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ} (55)؛قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في مسلمي أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا: يا رسول الله، بيوتنا قاصية، ولا نجد متحدّثا دون هذا المسجد، وإنّ قومنا من بني قريظة والنّضير لمّا رأونا قد آمنّا بالله ورسوله وتركناهم ودينهم، أظهروا لنا العداوة، وأقسموا أن لا يناكحونا ولا يواكلونا ولا يخالطونا، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد الموضع.
فبينما هم يشكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنّاس في المسجد يصلّون فيه من قائم وراكع وساجد، إذا بمسكين يطوف يسأل النّاس، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فقال له:[أعطاك أحد شيئا؟] قال: نعم، قال:[ماذا؟] قال: خاتم فضّة، قال:
[من أعطاكه؟] قال: ذاك الرّجل، فإذا هو عليّ رضي الله عنه، قال:[على أيّ حال أعطاكه؟] قال: أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على عبد الله بن سلام وأصحابه)
(1)
.
وألبسهم بما أبدلهم الله به من ولايته وولاية رسوله وولاية المؤمنين، ومعنى الآية: إنّما حافظكم وناصركم الله ورسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة بحقوقها ويؤتون الزكاة في حال ركوعهم. وفي الآية دليل على إباحة العمل اليسير في الصّلاة، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الآية قال عبد الله بن سلام وأصحابه:(رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء).
وروي أن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما كان ذات يوم جالسا عند شفير زمزم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقبل رجل متعمّم بعمامة قال: فهلاّ ابن عبّاس لا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا قال ذلك الرّجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال ابن عبّاس:
سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه وقال: أيّها النّاس من عرفني فقد
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 105 - 106؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
…
».
عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدريّ، أنا أبو ذرّ الغفّاريّ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلاّ فصمّتا، ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا، يقول على قائد البردة وقاتل الكفرة:[منصور من نصره، مخذول من خذله].
أما إنّي صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيّام صلاة الظّهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السّائل رأسه إلى السّماء وقال: اللهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسولك صلى الله عليه وسلم يوما من الأيّام فلم يعطني أحد، وكان عليّ راكعا فأومأ إليه نحوه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأخذ السّائل الخاتم من خنصره وذلك بحضرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا فرغ من صلاته رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى السّماء قال: [اللهمّ أخي موسى سألك قال: اللهمّ {اِشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هارُونَ أَخِي، اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} فأنزلت عليه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا}
(1)
،اللهمّ وأنا محمّد نبيّك وصفيّك، اللهمّ فاشرح لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا اشدد به ظهري].
قال أبو ذرّ: فما استتمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام حتّى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية {(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)} .
قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا؛} أي من تخيّر طاعة الله ورسوله ومحبّة المؤمنين، {فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ؛} فإن جند الله، {هُمُ الْغالِبُونَ} (56).
قوله سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ؛} وذلك أنّ اليهود كانوا إذا قام بلال للأذان يضحكون، ويستهزءون ويقولون: قام الغراب لا قام! وإذا قام المؤمنون للصّلاة قالوا: قد قاموا لا قاموا! وإذا رأوهم ركّعا وسجّدا استهزءوا بهم، وتغامزوا فيما بينهم تنفيرا للناس عن الصّلاة وعن الداعي إليها.
(1)
القصص 35/.
ومعنى الآية: لا تتّخذوا اليهود والنصارى الذين يتخذون {(دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً)} أي استهزاء وسخرية، يسخرون منكم إذا أذن مؤذّنكم، ويضحكون من صلاتكم إذا صلّيتم.
قوله سبحانه وتعالى: {وَالْكُفّارَ؛} فيه قراءتان: النصب والخفض، فمن نصبه فمعناه: لا تتّخذوا الكفار، {أَوْلِياءَ،} وأراد بهم مشركي العرب، ومن خفضه فمعناه: من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار. وقوله سبحانه وتعالى:
{وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (57)؛أي اخشوه في ولاية الكافرين إن كنتم مؤمنين بالله وبرسوله.
قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً؛} أي إذا ناديتم الناس إلى الصّلاة بالأذان والإقامة اتّخذوها سخرية واستهزاء وضحكا وباطلا، و {ذلِكَ؛} الاستهزاء واللعب، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (58)؛ ثواب الله تعالى في إقامة الصّلاة، ولا عقابه في إضاعته.
(1)
.
وفي الآية دليل أنّ للصلاة أذانا يدعو به الناس إليها، ونظير هذا قوله تعالى:
{إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ}
(2)
.وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ثلاثة لا يكترثون من الحساب، ولا تفزعهم الصّيحة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر: حامل القرآن العامل به، يقدم على الله سيّدا شريفا، ومؤذّن أذن سبع سنين لا يأخذ على أذانه طعاما، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه وأدّى حقّ مولاه]
(3)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9528) عن السدي.
(2)
الجمعة 9/.
(3)
في كنز العمال: الرقم (43308) عن ابن عباس. وأخرجه الط براني في الأوسط: الحديث (9276)،وفي الصغير: الحديث (1116) بلفظ: [ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر
…
]،وقال:«لم يروه عن بشير بن عاصم إلا عمر بن أبي قيس» .وفي مجمع الزوائد: ج 1 ص 327؛قال-
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أذن سنة من نيّة صادقة، أجلس يوم القيامة على باب الجنّة، فقيل له: اشفع لمن شئت]
(1)
.وعن أبي هريرة رضي الله عنه:
قال ابن عبّاس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من أذن خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر]
(2)
.وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [المؤذّن المحتسب كالشّهيد المتشحّط في دمه ما دام في أذانه، ويشهد له كلّ رطب ويابس، فإذا مات لم يدوّد في قبره]
(3)
.قال عمر رضي الله عنه: لو كنت مؤذّنا لكمل أمري، وما باليت أن لا أتنصب لقيام ولا لصيام، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:[اللهمّ اغفر للمؤمنين، اللهمّ اغفر للمؤذّنين]
(4)
.
قوله عز وجل: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ؛} أي قل يا محمّد: يا أهل الكتاب هل تطعنون علينا إلاّ لإيماننا بالله تعالى والقرآن، {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ} (59)؛أي إنّما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنّنا على حقّ؛ لأنّكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبّتكم الرئاسة وكسبكم بها الأموال، فهل تدرون شيئا يعاب علينا إلاّ هذا؟ فلماذا تطعنون.
(3)
-الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير، وفيه بحر بن كنيز السقا، وهو ضعيف» ،وقال:«رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الصمد بن عبد العزيز المقري، ذكره ابن حبان في الثقات» . وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: ج 9 ص 320.
(1)
كنز العمال: النص (20907 ز 20936).وفي الفوائد: ص 21؛قال الشوكاني: «في إسناده وضّاع» .
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الصلاة: جماع أبواب الأذان والإقامة: باب الترغيب في الأذان: الحديث (2077)،وقال:«لا أعرفه إلا من حديث إبراهيم بن رستم عن حماد» .وفي لسان الميزان: ج 1 ص 56:الترجمة (143)؛قال ابن حجر: «قال ابن عدي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: كان يرى الإرجاء، ليس بذاك، محله الصدق. وروى عثمان الدارمي عن يحيى بن معين: ثقة. وقال ابن أبي حاتم: قال أبي: كان آفته الرأي، وكان يذكر بفقه وعبادة، وكان طاهر ابن الحسن أراد أن يوليه القضاء فامتنع» .
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 12 ص 322:الحديث (13554).وفي مجمع الزوائد: ج 2 ص 3؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير، وفيه إبراهيم بن رسم-تقدم في الترجمة السابقة-وهو مختلف فيه في الاحتجاج به، وفيه من لم تعرف ترجمته» .
(4)
ذكره المتقي الهندي في كنز العمال: الرقم (32158 و 32165).
وأما قوله سبحانه وتعالى: {(وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)،} قال بعضهم: أراد بالأكثر كلّهم، وأكثر الشيء يقوم مقام الكلّ. وقيل: إنما ذكر لفظ الأكثر؛ لأن الآية خرجت مخرج التلطّف للدعاء إلى الإيمان، وكان في سابق علم الله سبحانه وتعالى أنّ فيهم من يسلم، وكان في القوم من يطعن بنفسه في دين الإسلام، وإن كان سكت عن طعن الطاعنين.
قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ؛} وذلك أنّ اليهود قالوا للمسلمين: ما نعلم أهل دين أقلّ حظا منكم في الدّنيا، ونرجو أن تكونوا في الآخرة! فأنزل الله هذه الآية؛ أي قل يا محمّد لهؤلاء اليهود: هل أخبركم بسوء من الذي قلتم جزاء، {مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ؛} أي أبعده عن رحمته، وسخط عليه وهم اليهود، فيكون موضع {(مَنْ لَعَنَهُ)} رفعا على معنى (هو) ويجوز أن يكون خفضا بدلا من (شرّ) على معنى: هل أنبّئكم بمن لعنه الله.
قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ؛} أي مسخ بعضهم قردة في زمن داود عليه السلام بدعائه عليهم حين اعتدوا في السّبت واستحلّوه، ومسخ بعضهم خنازير في زمن عيسى عليه السلام بعد أكلهم من المائدة حين كفروا بعد ما رأوا الآيات البيّنة. وروي: أنه لمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون لليهود: (يا إخوة القردة والخنازير) فنكّسوا رءوسهم وفضحهم الله تعالى.
قوله سبحانه وتعالى: {وَعَبَدَ الطّاغُوتَ؛} فيه عشر قراءات، قرأ العامة «(وعبد الطّاغوت)» بفتح العين والباء والدال على الفعل؛ ومعناها: وجعل منهم من عبد الطاغوت؛ أي بالغ في طاعة الشّيطان والكهّان ورؤساء المعصية. وقرأ ابن مسعود: «(وعبدوا الطّاغوت)» أي ومن عبد الطاغوت، وقرأ يحيى بن وثّاب وحمزة:
بفتح العين وضمّ الباء وكسر التاء من الطاغوت، وهو لغة في عبد، مثل سبع وسبع
(1)
.وقرأ أبو جعفر الفرّاء: «(وعبد الطّاغوت)» على الفعل المجهول
(2)
،وقرأ الحسن:«(وعبد الطّاغوت)» على الواحد.
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 235؛ قال القرطبي: «جعله اسما على فعل كعضد، فهو بناء للمبالغة والكثرة، كيقظ وندس وحذر» .وفي جامع البيان: النص (9534)، أسنده الطبري عن حمزة عن الأعمش عن يحيى بن وثّاب أنه قرأ:(وعبد الطّاغوت)، يقول:«وكان حمزة كذلك يقرؤها»
(2)
ذكره الطبري في جامع البيان: النص (9536).
وقرأ يزيد الأسلمي: «(وعابد الطّاغوت)» بالألف، وقرأ ابن عباس:«(وعبيد الطّاغوت)» بالجمع، وقرأ أبو واقد الليثيّ:«(وعبّاد الطّاغوت)» مثل كفّار، وقرأ عون العقيلي وأبان بن ثعلب:«(وعبّد الطّاغوت)» مثل راكع وركّع، وقرأ عبيد بن عمير:
«(أعبد الطّاغوت)» مثل كلب وأكلب، وقرأ الأعمش:«(وعبد الطّاغوت)» بضمّ العين والباء وكسر التاء من الطاغوت
(1)
.قال الشاعر:
انسب العبد إلى آبائه
…
أسود الجلد من قوم عبد
قوله سبحانه وتعالى: {أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} (60) فإن قيل: كيف معنى هذا ليس في الإيمان شرّ وضلال؟ قيل: سمة المشركين شرّ مكانا لا يوجب أن يكون في الإيمان شرّ وتطيّر. قوله سبحانه وتعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}
(2)
ومعلوم أنه لا خير في مستقرّ الكفّار ومنقلبهم، فلمّا نزلت هذه الآية قال المسلمون ليهود:(يا إخوان القردة والخنازير) فسكتوا وأفحموا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود
…
إنّ اليهود إخوة القرود
قوله عز وجل: {وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ؛} ومعناه: وإذا جاءكم المنافقون من أهل الكتاب قالوا آمنّا بك، ونحن نعرف نعتك وصفتك، يقول الله: وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به؛ أي دخلوا عليكم، وخرجوا من عندكم كافرين في السرّ كما دخلوا خرجوا، وقوله:{(وَهُمْ)} للصّلة والتأكيد، {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ} (61)؛أي بما كانوا يضمرون في قلوبهم من الكفر والنفاق، فأعلمكم به وأطلعكم عليه.
قوله سبحانه وتعالى: {وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ؛} أي وترى يا محمّد كثيرا من اليهود والمنافقين يبادرون في المعصية والاعتداء والظّلم،
(1)
في جامع البيان: تفسير الآية؛ قال الطبري: «ذكر ذلك عن الأعمش، وكأن من قرأ ذلك كذلك أراد جمع الجمع من العبد، كأنه جمع العبد عبيدا، ثم جمع العبيد عبدا، مثل ثمار وثمر» .
(2)
الفرقان 24/.
{وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ؛} وأكل الرّشوة والحرام في تغيير لأحكام، {لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (62)؛من المعصية ومجاوزة الحدّ.
قوله سبحانه وتعالى: {لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ} (63)؛معناه: هل ينهاهم العاملون بالعلم والعلماء الذين هم دونهم عن قول الشّرك والكذب على الله، وأكل الحرام والرّشوة في الحكم. قال الحسن:(الرّبّانيّون علماء النّصارى، والأحبار علماء اليهود).
ويقال: هو كلّه في اليهود، وقرأ أبو واقد الليثي:«(لولا ينهاهم الرّبّيّون)» كقوله تعالى:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ}
(1)
.
وقوله: {(لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)} أي بئس ما يصنع علماؤهم من كتمانهم الحقّ، وتركهم النهي عن المعصية. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما والضحاك:(إنّ هذه الآية أشدّ الآيات في تخويف من ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر)
(2)
، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[ما من رجل يجاور قوما فيعمل بالمعاصي بين أظهرهم، فلا يأخذون على يديه، إلاّ أوشك أنّ الله تعالى يعمّهم منه بعقاب]
(3)
.
قوله عز وجل: {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في فنحاص بن عازوراء اليهوديّ وأصحابه، كان الله تعالى قد بسط لهم في الرّزق، فكان من أخصب النّاس، وأكثرهم خيرا وأموالا،
(1)
آل عمران 146/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9546) عن الضحاك بن مزاحم، والنص (9547) عن ابن عباس.
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: ج 2 ص 332:الحديث (2384 بهذا اللفظ، وبألفاظ أخرى في الرقم (2380 - 2385).وأخرج طرقه وألفاظ الأئمة؛ الإمام أحمد في المسند: ج 4 ص 361 و 363 و 364 و 366.وأبو داود في السنن: كتاب الملاحم: باب الأمر والنهي: الحديث (4339).وابن ماجة في السنن: في الفتن: باب الأمر بالمعروف: الحديث (4009) من طريق عبد الله بن جرير عن أبيه، وإسناده حسن. وأخرجه الطبراني من طريق عبد الله بن مسعود في المعجم الكبير: ج 10 ص 215:الحديث (10512)،وفي المعجم الأوسط: ج 4 ص 470: الحديث (3061).وفي مجمع الزوائد: ج 7 ص 268؛قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عبد العزيز بن عبيد الله، وهو ضعيف» .
فلمّا عصوا الله تعالى في محمّد صلى الله عليه وسلم وبالغوا في تكذيبه، كفّ الله عنهم بعض الّذي كان بسط عليهم، فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة)
(1)
.أي قالوا على سبيل الهزء: إنّ إله محمّد الذي أرسله ممسكة يده عنان الرزق لا يبسط علينا كما كان يبسط. وهذا اللفظ في كلام العرب عبارة عن البخل، كما قال تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ}
(2)
أي لا تمسكها عن الإنفاق.
قال بعضهم: إنما قال هذه المقالة فنحاص ولم ينهه الآخرون، ورضوا بقوله فأشركهم الله فيها، وأرادوا باليد العطاء، لأن عطاء الناس وبذلهم في الغالب بأيديهم، فاستعمل الناس اليد في وصف الناس بالجود والبخل. ويقال للبخيل: جعد الأنامل؛ مقبوض الكفّ؛ مكفوف الأصابع
(3)
؛مغلول اليدين، قال الشاعر:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها
…
وكلّ باب من الخيرات مفتوح
فاستبدلت بعده جعدا أنامله
…
كأنّما وجهه بالخلّ منضوح
وقوله تعالى: {(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)} جواب عن كلامهم على طريق المقابلة في الازدواج؛ أي أمسكت أيديهم عن الإنفاق في الخير، وجعلوا بخلاء واليهود أبخل الناس، ولا أمّة أبخل منهم. ويقال: معنى {(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)} أي غلّت إلى أعناقهم في نار جهنم، ويقال: لا يخرج يهوديّ من الدنيا إلاّ وتصير يده مغلولة إلى عنقه.
قوله تعالى: {(وَلُعِنُوا بِما قالُوا)} أي عذّبوا بالجزية، وطردوا عن رحمة الله تعالى لقولهم:{(يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)} .
قوله تعالى: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ؛} عبارة عن الجود وكثرة العطيّة لمن يشاء، كما يقال: فلان بسط اليدين، وباسط اليدين إذا كان جوادا يعطي يمنة ويسرة، وعن ابن عباس:(أنّ معناه: بل نعمتاه مبسوطتان)،وأراد نعمة الدين والدنيا،
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 113؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن جرير عن عكرمة» .
(2)
الإسراء 29/.
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 238: «وكزّ الأصابع» ،والكزّ: البخل.
وقيل: نعمته الظاهرة ونعمته الباطنة. وقيل: أراد بالتثنية في هذا للمبالغة في صفة النعمة. قال الأعشى:
يداك يدا مجد فكفّ مفيدة
…
وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
وهذا كلّه لأنّ اليهود قصدوا تبخيل الله، فحوسبوا على قدر كلامهم.
قوله تعالى: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ؛} دليل على أن المراد بجواب اليهود بيان بسط النعمة، وأنّ الله يرزق كيف يشاء بحسب المصالح، فربّما كان الصلاح في أن يعتبروا، وربّما كان في أن يوسّع، ولا يخلو حكمه عن الحكمة.
واعلم أن اليد في اللغة تتصرف على وجوه؛ منها: الجارحة وهي معروفة، وتعالى الله عن الجوارح. ومنها: النعمة كما يقال: لفلان عليّ يد؛ أي نعمة. ومنها:
القوة كما قال تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ}
(1)
وقال تعالى: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ}
(2)
.
ومنها: الملك {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ}
(3)
أي يملكه. ومنها: القدرة كقوله {بِيَدَيَّ}
(4)
أي تولّيت خلقه، وفائدته التشريف. ومنها التصرّف كما يقال: هذه الدار في يد فلان؛ أي هو يتصرّف فيها بالسّكنى والإسكان، وقد يقال: أسلم فلان على يد فلان؛ أي كان سببا في إسلامه.
قوله عز وجل: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً؛} معناه: ليزيدنّ القرآن الذي أنزل إليك، وما فيه من الإسلام، وحكم الرجم كثيرا من اليهود طغيانا وكفرا؛ أي كلّما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم.
قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؛} أي جعلناهم مختلفين في دينهم متباغضين كما قال تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى}
(5)
.
(1)
ص 45/.
(2)
الذاريات 47/.
(3)
البقرة 237/.
(4)
ص 75/.
(5)
الحشر 14/.
وقوله تعالى: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ؛} أي كلّما أجمعوا على قتالكم وأعدّوا
(1)
للحرب، فرّق الله جمعهم وأطفأ مكرهم وخالف بين كلمتهم.
وقوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً؛} أي يجتهدون في دفع الإسلام {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (64)؛أي لا يرضى عمل أهل الفساد.
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ؛} أي ولو أنّهم عملوا بما في التوراة والإنجيل، ولم يكتموا ما علموا من ذكر محمّد صلى الله عليه وسلم فيها، وعملوا ب؛ {وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ؛} يعني القرآن الذي أنزل على كافّة الناس، {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ؛} أي لوسّعنا عليهم الرزق بإنزال المطر من السماء، وإخراج النبات من الأرض والشجر والنبات
(2)
.وفي الآية بيان أن التّقى سبب لتوسعة الرزق، واستقامة الأمر في الدّنيا والآخرة، ونظير هذا قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ}
(3)
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}
(4)
.
قوله تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ؛} أي من أهل الكتاب أمّة عادلة، يعني جماعة عادلة في القول، وهم الذين أسلموا منهم، وهم ثمانية وأربعون رجلا:
النجاشيّ وأصحابه من النّصارى، وبحيرا الراهب وأصحابه، وسلمان الفارسيّ وأصحابه، وعبد الله بن سلام وأصحابه، وجبر مولى قريش، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ} (66)؛أي كثير من أهل الكتاب ساء ما يعملون من كتمان نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وتكذيبه، وهم: كعب بن الأشرف وأصحابه وسوف تسوؤهم أعمالهم يوم القيامة إذا رأوا وبالها.
(1)
في المخطوط: (واغزوا) وهو تصحيف.
(2)
في المخطوط أشار الناسخ إلى احتمال أنها (والثمار) بدل (والنبات)،وأثبت كما هو في المطبوع.
(3)
الأعراف 96/.
(4)
الطلاق 2/-3.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؛} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمر له أن يبلّغ الناس جميع ما أنزل إليه من ربه من القرآن. قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ؛} معناه: إن لم تبلّغ آية مما أنزل إليك، أو حكما أمرت بتبليغه إليهم، فكأنّك لم تبلّغ شيئا من الرسالة؛ أي يحصل لك الثواب الموعود على تبليغ الرسالة من قبل، وإنّ كتمان آية واحدة تحبط ثواب ما بلّغ من الرسالة.
يقال: إنّ في هذه الآية دليلا على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر بشيء خاص تأنّى قليلا عن تبليغه حذرا وخوفا أن يبتليه الله، كما ابتلى قبله إبراهيم بالنار وإسماعيل بالذبح وزكريّا ويحيى بالقتل، وكان صلى الله عليه وسلم عازما على فعل ما أمر به مع خوفه، فقيل له إن لم تفعل ما أمرت به من دعوتهم إلى الإسلام، وعبت دينهم فقد بطل جميع ما فعلت من قبل التبليغ، كأنّك لم تبلّغ شيئا من الرسالة، ولهذا قرأ نافع وابن عامر وعاصم:«(رسالاته)» بلفظ الجمع، وقد يذكر الواحد ويراد به الجماعة.
قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ؛} أمان من الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم كيلا يخاف ولا يحذر، كما روي في الخبر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا دخل المدينة قالت له اليهود: يا محمّد إنّا ذوو عدد وناس، فإن لم ترجع قابلناك، وإن رجعت زوّدناك وأكرمناك. فكان عليه السلام يحرسه مائة من المهاجرين والأنصار يبيتون عنده، ويخرجون معه خوفا من اليهود، فلمّا نزل قوله:{(وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ)} علم أنّ الله يحفظه من كيد اليهود وغيرهم، فقال للمهاجرين والأنصار:[انصرفوا إلى رحالكم، فإنّ الله قد عصمني من اليهود]،فكان صلى الله عليه وسلم عند ذلك يخرج وحده في أوّل اللّيل وعند السّحر إلى أودية المدينة وحيث ما شاء، فعصمه الله مع كثرة أعدائه وقلّة أعوانه، فعاش حميدا ومات سعيدا صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 118؛ قال السيوطي: «وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن مردويه عن عائشة قالت:[كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحرس حتّى نزلت وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ فأخرج رأسه من القبّة وقال: انصرفوا فقد عصمني الله].ومثله عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (9581).
قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ} (67)؛أي لا يرشدهم إلى دينه وحجّته، ولا يهديهم إلى طريق الجنة في الآخرة.
قوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ؛} أي لستم على شيء من الدّين والثواب إلاّ أن تقرّوا بما في التوراة والإنجيل من نعت محمّد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوّته وسائر الأحكام التي فيها، وتقرّوا بالقرآن الذي أنزل على كافّة الناس من ربهم.
قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً؛} قد ذكرنا تفسيره، {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} (68)؛أي ليس عليك إلاّ تبليغ الرسالة فلا تحزن عليهم إن كذبوك؛ أي لا تحزن على هلاكهم إذا أهلكناهم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (69)؛ معنى الآية: إنّ الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، والذين مالوا عن الإسلام وسمّوا باليهوديّة، والذين صبت قلوبهم، وهم صنف من النصارى يقال لهم السّابحون يحلقون أوساط رءوسهم.
ويقال: الصّابئ هو الخارج من ملّة فيها أمة عظيمة إلى ملّة فيها شرذمة قليلة.
قوله تعالى: {(مَنْ آمَنَ بِاللهِ)} أي من آمن من هذه الفرق بالله وبجميع ما أنزل الله، والبعث بعد الموت، وعمل صالحا فيما بينه وبين الله، فلا خوف عليهم، حيث يخاف أهل النار، ولا هم يحزنون حيث يحزن أهل النار.
وأما الرفع في قوله: {(وَالصّابِئُونَ):} قال الكسائيّ: هو نسق على المضمر في {(هادُوا)} تقديره: هادوهم والصابئون. وقال الخليل وسيبويه والبصريّون قوله:
{(وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئُونَ)} مرفوع بالابتداء؛ تقديره: إنّ الذين آمنوا ومن آمن من الذين هادوا والصابئون والنصارى، من آمن بالله واليوم الآخر. وقيل: إنما رفع لأنه عطف على (الذين) قبل دخول (إن)؛ لأنه لا يحدث معنى، كما تقول: زيد قائم، وإنّ زيدا قائم معناهما واحد. وقرأ الحسن:«(إنّ الله وملائكته)» برفع التاء.
وأما نفي الحزن عن المؤمنين هاهنا، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنه لا يكون عليهم حزن في الآخرة ولا خوف، ونظيره قوله تعالى:{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا}
(1)
.
وقال بعضهم: إنّ المؤمنين يخافون ويحزنون لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ}
(2)
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [يحشر النّاس يوم القيامة حفاة عراة] فقالت عائشة: وا سوأتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: [أما سمعت قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
(4)
]
(5)
.قالوا:
وإنما نفى الله تعالى في هذه الآية الحزن عن المؤمنين؛ لأن حزنهم لما كان يعرض الزوال، ولم يكن له بقاء معهم لم يعتدّ بذلك.
قوله عز وجل: {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي أخذنا عهد بني إسرائيل على أن يعملوا بما في التوراة والإنجيل، وكل نبيّ يبعثه الله إلى قومه فآمنوا به، فذلك أخذ ميثاقهم، {وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ؛} أي كلّما جاءهم رسول بما لا يوافق هواهم ولا ما هم عليه، {فَرِيقاً كَذَّبُوا؛} أي كذبوا جماعة من الرّسل مثل عيسى ومحمّد صلوات الله عليهما، {وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} (70)؛مثل زكريّا ويحيى عليهما السلام.
قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلاّ تَكُونَ فِتْنَةٌ؛} أي ظنّوا ألاّ يكون عذابا وعقوبة، وقيل: ابتلاء بسبب قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل. من قرأ «(يكون)» بالنصب فمعنى (أن يكون)،ومن قرأ بالرفع فمعناه:(أنّه لا يكون) أي فحسبوا أنّ فعلهم غير فاتن لهم، {فَعَمُوا وَصَمُّوا؛} عن الحقّ؛ أي عملوا معاملة الأعمى
(1)
فصلت 30/.
(2)
الحج 2/.
(3)
عبس 34/-35.
(4)
عبس 37/.
(5)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الرقاق: باب الحشر: الحديث (6527).ومسلم في الصحيح: كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب فناء الدنيا: الحديث (2859/ 65).والنسائي في السنن الصغرى: كتاب الجنائز: باب البعث: ج 4 ص 114.والحديث له طرق مختصرة عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم جميعا.
الذي لا يبصر، والأصمّ الذي لا يسمع، فصاروا كالعمي والصّمّ. {ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛} أي تجاوز عنهم بأن أرسل إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم يعلمهم أنه قد تاب عليهم إن آمنوا وصدّقوا فلم يؤمن أكثرهم، ويقال: دانوا بعد ذلك وتابوا من الكفر فقبل الله توبتهم، فلمّا بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم وجاءهم ما عرفوا كفروا به، فذلك قوله:{(فَعَمُوا وَصَمُّوا)} أي عموا عن الهدى، وصمّوا عن الحقّ بعد أن ازداد لهم الأمر وضوحا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ؛} بدل من الواو في قوله {(عَمُوا)} كأنه قال: عمي وصمّ كثير منهم، وهذا كما يقال: جاءني قومك أكثرهم، وقوله:{(كَثِيرٌ مِنْهُمْ)} يقتضي في المرة الثانية أنّهم لم يكفروا بأكملهم، وإنما كفر أكثرهم، كما قال تعالى:{لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ}
(1)
وقال تعالى: {(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)}
(2)
.
ويحكى عن بعض أهل اللّغة جواب جمع الفعل متقدّما على الاسم، كما يقال:
أكلوني البراغيث، ويجوز أن يكون {(كَثِيرٌ)} خبر مبتدأ محذوف؛ معناه: العمي والصمّ كثير منهم.
وقوله: {وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ} (71)؛أي بما تعملون من التكذيب ونقض الميثاق وتحريف الكلام.
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ؛} نزلت في نصارى نجران السيّد والعاقب ومن معهما، وهم الماريعقوبيّة؛ قالوا: إنّ الله هو المسيح بن مريم.
قوله تعالى: {وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ؛} إعلام من الله تعالى أن المسيح دعاهم إلى توحيد الله تعالى، وأعلمهم
(1)
آل عمران 113/.
(2)
المائدة 66/.
أنّ شيئا
(1)
حاله في أمه مربوب كحالهم، وأعلمهم أن من أشرك مع الله شيئا غيره فهو كافر من أهل النار، فذلك قوله تعالى:{(اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)} أي وحّدوه، فهو خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم. {فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ؛} أن يدخلها، {وَمَأْواهُ النّارُ؛} ومصيره في الآخرة النار، {وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} (72)؛أي ما للمشركين من مانع يمنعهم من عذاب الله.
ثم بيّن الله كفر الفريق الآخر من النّصارى، وهم المرقوشيّة، فقال عز وجل:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ؛} أي أحد ثلاثة: أب؛ وابن؛ وروح قدس، {وَما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا؛} أي المنافقون؛ {عَمّا يَقُولُونَ؛} من مقالتهم الأولى والثانية، {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} أي ليصيبنّ الذين أقاموا على مقالة الكفر، {مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} (73)؛وجيع يخلص وجعه إلى قلوبكم.
قوله تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ؛} أوّل هذه الآية استفهام، ومعناها الأمر؛ أي توبوا إلى الله عن النصرانيّة، واستغفروه من هذه المقالة الشّنيعة، {وَاللهُ غَفُورٌ؛} لمن تاب وآمن، {رَحِيمٌ} (74)؛بمن مات على التّوبة.
قوله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ؛} أي ما المسيح إلاّ رسول من رسل الله، فإنّ إبراء الأكمه والأبرص، وإتيانه بالمعجزات كما أتى موسى بالمعجزات؛ أي الآيات، وكما أتى إبراهيم عليه السلام وغيرهما من الأنبياء، فلو وجبت عبادة الأنبياء لظهور المعجزات عليه لوجبت عبادة سائر الأنبياء واتخاذهم آلهة بسبب المعجزات، {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ؛} أي كثيرة الصّدق والتصدّق، وذلك أنّ جبريل عليه السلام أتاها فقال لها: إنّما أنا رسول ربك؛ فصدّقته، كما قال تعالى:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها}
(2)
.
(1)
هكذا رسمها الناسخ في المخطوط واضحة.
(2)
التحريم 12/.
قوله عز وجل: {كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ؛} بيان أنّهما كانا محدثين محتاجين، وهذا احتجاج بيّن على القوم في أنه لم يكن إلها؛ لأنّ الله تعالى وصفه في الآية بصفات تنافي الإلهيّة، منها: أنّه رسول بعد أن لم يكن، ومنها: أنه كسائر الرّسل فيما ظهرت منه وعليه، ومنها: أنه مولود من أمّ، ومنها: أنّهما كانا يعيشان بالغداء كما يعيش سائر الآدميّين، وكيف يكون إلها من تكون حياته بالحيلة ولا يقيمه إلاّ أكل الطعام.
ومنها ما قالوا: إنّ أكل الطعام في الآية كناية عن قضاء الحاجة؛ لأن الذي يأكل الطعام لا بدّ له من قضاء الحاجة. فكلّ هذه الصفات دلالة على كونه عبدا مخلوقا مربوبا مستحيلا أن يكون إلها قديما، تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.
قوله تعالى: {اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ؛} أي انظر يا محمّد كيف نبيّن لهم العلامات في أمر عيسى أن لم يكن إلها ولا ابنا له ولا ثالث ثلاثة، {ثُمَّ انْظُرْ؛} يا محمّد، {أَنّى يُؤْفَكُونَ} (75)؛أي من أين يصرفون عن الحقّ الواضح إلى الباطل.
والإفك: هو الصّرف، كلّ شيء صرفته فهو مأفوك، تقول: أفكته عنه أفكه إفكا، ويسمّى الكذب إفكا؛ لأنه يصرف عن الحقّ.
قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً؛} أي قل يا محمّد لهؤلاء النّصارى ومن سلك طريقتهم واتّخذ غير الله إلها:
أتعبدون من دون الله ما لا يقدر على دفع ضرّ عنكم ولا جرّ نفع إليكم، {وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ؛} لمقالتكم في عيسى عليه السلام وأمّه، {الْعَلِيمُ} (76)؛بكم وبعقوبتكم.
قوله عز وجل: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ؛} أي قل لهم يا محمّد: لا تتجاوزوا الحدّ في دينكم إلى غير الحقّ فتقولوا:
هل فعل أحد مثل فعل عيسى؟ وتجعلوا لله ولدا؟ فإنه ليس بحقّ، ويقال: هذا خطاب لليهود والنصارى؛ أي لا ترفعوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوّة إلى درجة الرّبوبيّة، ولا تحطّوه عن درجته فتقولوا: إنه مولود على غير رشده.
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ؛} أي لا تتّبعوا شهوات أوليائكم ورؤسائكم، ولا تؤثروا الهوى على البيان والبرهان، {وَأَضَلُّوا كَثِيراً؛} من السّفلة الذين أطاعوهم، {وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ} (77)؛وأصرّوا على ضلالتهم عن قصد الطريق.
قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ؛} أي طرد الذين كفروا من بني إسرائيل وبوعدوا من رحمة الله، {عَلى لِسانِ داوُدَ؛} أي بدعائه عليهم حين اعتدوا في السّبت، فمسخهم الله قردة. {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ،} أي ولعنوا بدعاء عيسى حين كفروا بعد ذلك بالمائدة فمسخهم الله خنازير، {ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} (78)؛ذلك اللّعن والتعذيب بعصيانهم واستحلالهم المعاصي وقتلهم الأنبياء عليهم السلام بغير حقّ.
ثم بيّن الله تعالى سبب المعصية والكفر، فقال تعالى:{كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ؛} أي لا ينهى بعضهم بعضا عن قبيح يعملونه، واصطلحوا على الكفّ عن نهي المنكر، {لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ} (79)؛ ودخول اللام في {(لَبِئْسَ)} للقسم والتوكيد.
قوله عز وجل: {تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛} ترى يا محمّد كثيرا من اليهود يوالون مشركي العرب على معاداتك ومحاربتك، يعني كعب بن الأشرف وأصحابه. وقيل: معناه: ترى كثيرا من المنافقين يتولّون اليهود، {لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ؛} أي بئس ما عملوا لأنفسهم حين، {أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ؛} وموضع {(أَنْ سَخِطَ)} نصب على تأويل بئس الشيء ذلك لإن أكسبهم السّخط، فانتصب (أن) بلام (كي)،ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار (هو) تقديره: هو أن سخط الله عليهم، {وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ} (80)؛أي مقيمون دائمون.
قوله تعالى: {وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ؛} معناه: لو كان اليهود يصدّقون بوحدانيّة الله تعالى، {وَالنَّبِيِّ،} وبمحمّد صلى الله عليه وسلم، {وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ،} أي والقرآن الذي أنزل إليه، {مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ،} ما اتّخذوا
كفار قريش وسائر عبدة الأوثان أحبّاء في العون والنّصرة على حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ {وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ؛} من اليهود؛ {فاسِقُونَ} (81)؛خارجون عن الطاعة، ناقضوا العهد.
قوله عز وجل: {*لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا؛} أي لتجدنّ يا محمّد أشدّ الناس عداوة لك وللذين آمنوا اليهود، وهم يهود بني قريظة وبني النضير وفدك وخيبر، كانوا أشدّ اليهود عداوة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[ما خلا يهوديّان بمسلم إلاّ همّا بقتله]
(1)
.قوله تعالى: {(وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)} يعني مشركي العرب كانوا في العداوة مثل اليهود.
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى؛} لم يرد جميع النّصارى مع ما هم فيه من عداوة المسلمين، وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وقتلهم وأسرهم وأخذ مصاحفهم. وإنما نزلت هذه الآية في النجاشيّ وأصحابه. قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير والسديّ:(نزلت هذه الآية في النّجاشيّ وأصحابه، وكان النّجاشيّ ملك الحبشة نصرانيّا قبل ظهور الإسلام، ثمّ أسلم هو وأصحابه)
(2)
.
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 129؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة» ،ولفظه:[ما خلا يهوديّ بمسلم إلاّ همّ بقتله]،وفي لفظ:[إلاّ حدّث نفسه بقتله]. وفي الفردوس بمأثور الخطاب: أخرجه الديلمي في النص (6340).وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: الترجمة (4411):ج 8 ص 312:خالد بن زيد أبو الهيثم الأزدي، وأشار إلى غرابته منه. وفي فيض القدير شرح الجامع الصغير: ج 5 ص 444:الحديث (7903)؛قال السخاوي: «طريق الخطيب أجود» أي أجود من طريق ابن حبان حيث ضعّفه. ومن كلام السخاوي في فيض القدير، وفي المقاصد الحسنة: الحديث (957).والعجلوني في كشف الخفا: الحديث (2208)،يميلون جميعهم من خلال نقولاتهم إلى تصحيح المعنى، مع أنهم ضعفوه إسنادا، ويأتون بالشواهد عليه واقعيا.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9616 - 9618).
قال المفسرون
(1)
:ائتمرت قريش أن يفتنوا المسلمين عن دينهم، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين، يؤذونهم ويعذّبونهم فافتتن كثير، وعصم الله من شاء منهم، ومنع الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بعمّه أبي طالب، فلمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه، ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال:[إنّ بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتّى يجعل الله للمسلمين فرجا]
(2)
،وأراد به النجاشيّ واسمه أصحمة، وهو بالحبشيّة عطيّة
(3)
،وإنما النجاشيّ اسم الملك، كقولهم: كسرى وقيصر.
فخرج إليه سرّا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وهم: عثمان بن عفّان وامرأته رقيّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزّبير، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عقبة وامرأته سهلة بنت سهيل، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة وامرأته أمّ سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت جثمة، وحاطب بن عمر، وسهيل بن بيضاء. فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف مثقال إلى الحبشة، وذلك في رجب في السّنة الخامسة من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى.
ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون، وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النّساء والصبيان، فلما علمت قريش بذلك وجّهت عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشيّ وإلى بطارقته ليردّوهم إليهم، فعصمهم الله تعالى، وقد ذكرنا هذه القصّة في سورة آل عمران.
فلمّا انصرفا خائبين أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره، وذلك في سنة ستّ من الهجرة. كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ على يد عمرو بن أميّة الضّمريّ ليزوّجه أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت هاجرت إليه مع زوجها، فأرسل النجاشيّ إلى أمّ حبيبة جارية يقال لها برهة، فأخبرتها
(1)
نقله البغوي في معالم التنزيل: ص 392 عن المفسرين أيضا.
(2)
الروض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 90.
(3)
في الروض الأنف: ج 2 ص 90؛ قال السهيلي: «واسم هذا النجاشي أصحمة بن أبجر، وتفسيره: عطية» .
بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إيّاها، فأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك، وأمرها أن توكّل من يزوّجها، فوكّلت خالد بن سعيد بن العاص، فأنكحها على صداق أوزن بمائة مثقال، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشيّ، وأنفد الصّداق إلى أمّ حبيبة على يدي برهة، فلمّا جاءتها بذلك أعطتها خمسين مثقالا، فقالت برهة: إنّ الملك أمرني أن لا آخذ منك شيئا، فردّته إليها ولم تأخذه.
ثم قالت لها برهة: أنا صاحب دهن الملك وبناته، وقد صدّقت بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به، فحاجتي إليك أن تقرءيه مني السّلام، ثم أمر الملك نساءه أن يبعثن إلى أمّ حبيبة بما عندهنّ من عود وعنبر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها ولا ينكره.
وقالت أمّ حبيبة: فخرجنا في سفينتين، وبعث معنا النجاشيّ الملاّحين، فلما خرجنا من البحر ركبا الظّهر إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه، فأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه، فكان يسألني عن النجاشيّ فبلّغته سلام برهة فردّ عليها السلام، وأنزل الله تعالى:{عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً}
(1)
يعني أبا سفيان، و (مودّة):تزويج أمّ حبيبة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لا أدري أيّا بفتح خيبر أسرّ أم بقدوم جعفر]
(2)
.
وبعث النجاشيّ بعد أن قدم جعفر المدينة ابنه أرهى بن أصحمة في ستّين راكبا من الحبشة، وكتب إليه: (يا رسول الله، إنّي أشهد أنّك رسول الله صادقا ومصدّقا، قد بايعتك وبايعت ابن عمّك، وأسلمت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني، وإن شئت أن آتيك بنفسي، فعلت. والسّلام عليك يا رسول الله. فركبوا سفينة في إثر جعفر وأصحابه، فلما بلغوا وسط البحر غرقوا.
وكان جعفر يوم وصل المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل في سبعين رجلا منهم اثنان وستّون من الحبشة، وثمانية من أهل الشّام منهم بحيرا الراهب، قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه
(1)
الممتحنة 7/.
(2)
الروض الأنف: ذكر قدوم جعفر: ج 4 ص 104.
هذا بما كان أنزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله تعالى فيهم:{(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى)} ووفد النجاشيّ الذين قدموا مع جعفر وهم سبعون
(1)
.
وقال مقاتل والكلبيّ: (كانوا أربعين رجلا، اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الشّام).وقال عطاء: (ثمانون رجلا، أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من أهل الرّوم من أهل الشّام)
(2)
.
قال قتادة: (نزلت هذه الآية في النّصارى الّذين هم متمسّكون بشريعة عيسى عليه السلام يعني أنّ النصارى كانوا أقلّ مظاهرة للمشركين من اليهود، فقوله: {(وَإِذا سَمِعُوا)} على هذا التأويل معناه: وإنّ منهم من إذا سمعوا، أو منهم قوم إذا سمعوا.
وفي الآية ما يشهد لهذا القول أيضا؛ لأن الله تعالى وصفهم بقرب مودّتهم للمسلمين، ولم يصفهم بأنّهم يوادّون المسلمين، ولا يجوز أن يعتقد أحد أنّ في الآية مدحا للنّصارى، وإخبارا أنّهم خير من اليهود إلاّ في معنى شدّة العداوة، لأن من أمعن النظر في مقالة اليهود والنصارى علم أن مقالة النصارى أظهر فسادا من مقالة اليهود، لأنّ اليهود يقرّون بالتوحيد في الجملة، وإن كانت فيهم مشبهة تنقض القول بالتوحيد بالشّبه، والنصارى لا يكونون مقرّين بالتوحيد بوجه من الوجوه.
قوله عز وجل: {ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً؛} معناه: إن قرب مودّة النصارى للمسلمين، وقلّة مظاهرتهم للمشركين بأنّ من النصارى قسّيسين؛ أي علماء وعبّاد أصحاب الصوامع، {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} (82)؛ عن اتّباع الحقّ إذا تبيّن لهم.
والقسّيسين في اللغة مأخوذ من القسّ وهو الشّرّ، يقال: قسّ فلان الأذى إذا تبعه، والقسّ: النميمة أيضا. والرّهبان: العبّاد أصحاب الصوامع. وقال قطرب:
(1)
ذكره البغوي عن المفسرين في معالم التنزيل: ص 393.
(2)
الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 256 - 257، نقله عن مقاتل والكلبي، وذكر البغوي عن عطاء في معالم التنزيل: ص 393.
(القسّيس: العالم) بلغة الرّوم
(1)
،والرّهبان: جمع راهب مثل فارس وفرسان وركبان، وقد يكون رهبان واحد وجمعه رهابين مثل قربان وقرابين. وهو من قول القائل رهب الله أي خافه
(2)
.
قوله عز وجل: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ؛} قال ابن عبّاس: (هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر ابن أبي طالب، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية من الشّام، فلمّا قرأ عليهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن عرفوه، فرقّوا له ففاضت أعينهم ولم يستكبروا أن يدخلوا في دينه).
ومعنى الآية: وإذا سمعوا القرآن ترى الدمع يسيل من أعينهم بمعرفتهم الحقّ من صفة محمّد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم، {يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا؛} أي صدّقنا بوحدانيّتك وكتابك ورسولك، {فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ} (83)؛أي مع من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنّك واحد لا إله غيرك؛ أي اجعلنا في جملتهم.
قال ابن عبّاس: (فلمّا رجعوا إلى قومهم لاموهم على الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقالوا لهم: تركتم ملّة عيسى عليه السلام ودين آبائكم، فردّوا عليهم
كما قال الله عز وجل: {وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصّالِحِينَ} (84)؛أي نحن نرجو أن يدخلنا ربّنا في الآخرة مع صالحي أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا؛} أي جازاهم الله بأن أوجب لهم الجنة في الآخرة بقولهم {(رَبَّنا آمَنّا)،} وقولهم: {(وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ)} . {جَنّاتٍ؛} أي بساتين، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} تجري من تحت شجرها ومساكنها
(1)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 257؛ قال القرطبي: (والقسيس: العالم، أصله من قسّ إذا تتبع الشيء فطلبه)،وقال:(والقسّ أيضا: رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وجمعه قسوس).وقال: (فالقسيسون هم الذين يتبعون العلماء والعبّاد).
(2)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 258؛ قال القرطبي: (قال أبو عبيد: وقد يكون (رهبان) للواحد والجمع؛ وقال الفراء: ويجمع (رهبان) إذا كان للمفرد رهابنة ورهابين، كقربان وقرابين).
وغرفها أنهار الماء والعسل والخمر واللبن، {خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ} (85)؛أي ذلك الثواب جزاء الموحّدين المخلصين.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} أي الذين جحدوا وكذبوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن فماتوا على ذلك، ف {أُولئِكَ،} هم، {أَصْحابُ،} أهل، {الْجَحِيمِ} (86)؛النار الشّديدة الوقود.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ؛} قال المفسّرون: (جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فذكر النّار ووصف القيامة، فرّق النّاس وبكوا، فاجتمع جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أبو بكر؛ وعمر؛ وعليّ؛ وعبد الله بن مسعود؛ وعثمان بن مظعون الجمحيّ؛ والمقداد؛ وعبد الله بن عمر؛ وأبو ذرّ؛ وسالم مولى أبي حذيفة؛ وسلمان الفارسيّ؛ وعمّار بن ياسر؛ ومعقل بن مصرّف رضي الله عنهم، تواثقوا في دار عثمان بن مظعون أن يصوموا النّهار ويقوموا اللّيل، ويرفضوا الدّنيا، ويسيحوا في الأرض، ويجبّوا مذاكيرهم ويعتزلوا النّساء، ولا يأكلوا لحما ولا دسما، ويلبسوا المسوح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم هذه الآية)
(1)
.
ومعناها: لا تحرّموا على أنفسكم طيّبات ما أحلّ الله لكم من الطعام والشراب واللباس والجماع، ولا تظلموا أنفسكم بقطع المذاكير، {وَلا تَعْتَدُوا؛} أي لا تجاوزوا حدود الله بتحريم حلاله، فإن محرّم ما أحلّ الله، كمحلّ ما حرّم الله. قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87)؛أي لا يرضى عمل المعتدين على أنفسهم المتجاوزين حدود الله.
قوله تعالى: {وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً؛} أي كلوا ممّا رزقكم الله من الطعام والشراب حلالا أحلّه الله لكم، {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (88).وقيل: أنّه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم؛ أتى دار عثمان
(1)
أسباب النزول للواحدي: ص 137.وفي لباب النقول في أسباب النزول: ص 97؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن عساكر في تاريخه من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس».وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9633).
بن مضعون فلم يجده، فقال لامرأة عثمان بن مضعون-أمّ حكيم بنت أميّة واسمها الخولة وكانت عطّارة-:[أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟] فكرهت أن تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكرهت أن تبدي خبر زوجها؛ فقالت: يا رسول الله! إن كان أخبرك عثمان فقد صدق، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلمّا جاء عثمان أخبرته زوجته بذلك، فعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: نعم. فقال عليه السلام: [أمّا أنا؛ فلم اؤمر بذلك، إنّ لأنفسكم عليكم حقّا؛ فصوموا وأفطروا؛ وقوموا وناموا، فأنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللّحم والدّسم، وآتي النّساء، من رغب عن سنّتي فليس منّي].
ثمّ جمع النّاس وخطبهم وقال: [ما بال قوم حرّموا النّساء والطّعام الطّيّب والنّوم، أمّا أنا فلا آمركم أن تكونوا قسّيسين أو رهبانا، فإنّه ليس من ديني ترك اللّحم والنّساء، واتّخاذ الصّوامع، فإنّ سياحة أمّتي الصّوم، ورهبانيّتهم الجهاد، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجّوا واعتمروا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وصوموا رمضان، واستقيموا ليستقيم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتّشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم].
وعن سعيد بن المسيّب؛ قال: جاء عثمان بن مضعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله! إنّ نفسي تحدّثني بأن أختصي، قال:[مهلا يا عثمان! إنّ اختصاء أمّتي الصّيام].قال: يا رسول الله! إنّ نفسي تحدّثني أن أترهّب في رءوس الجبال، قال:[مهلا يا عثمان! فإنّ ترهّب أمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصّلاة].
قال: يا رسول الله! إنّ نفسي تحدّثني أن أخرج من مالي كلّه. قال: [مهلا يا عثمان! فإنّ صدقتك يوم بيوم، وتعفّ بنفسك وعيالك، وترحم المساكين واليتيم، فتعطيهما أفضل من ذلك].قال: يا رسول الله! إنّ نفسي تحدّثني أن أطلّق امرأتي خولة. قال: [مهلا يا عثمان! فإنّ الهجرة في أمّتي من هجر ما حرّم الله عليه، أو هاجر إليّ في حياتي، أو زار قبري بعد وفاتي، أو مات وله امرأة أو امرأتان أو ثلاث أو أربع].
قال: يا رسول الله! فإن نهيتني أن لا أطلّقها فإنّ نفسي تحدّثني أن لا أغشاها.
قال: [مهلا يا عثمان! فإنّ المسلم إذا غشي امرأته أو ما ملكت يمينه فلم يكن له من وقعته تلك ولد، كان له وصيفة في الجنّة. وإن كان من وقعته تلك ولد، فمات قبله كان له فرطا وشفيعا يوم القيامة. وإن مات بعده كان له نورا يوم القيامة]
قال: يا رسول الله! نفسي تحدّثني أن لا آكل اللّحم. قال: [مهلا يا عثمان! فإنّي أحبّ اللّحم وآكله إذا وجدته، ولو سألت ربي أن يطعمنيه في كلّ يوم لأطعمنيه].قال: يا رسول الله! فإنّ نفسي تحدّثني أن لا أمسّ الطّيب. قال: [مهلا يا عثمان! فإنّ جبريل عليه السلام أمرني بالطّيب غبّا]،وقال:[يوم الجمعة لا تركه، يا عثمان لا ترغب عن سنّتي، فإنّ من رغب عن سنّتي ثمّ مات قبل أن يتوب، صرفت الملائكة وجهه عن حوضي يوم القيامة]
(1)
.
عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدّجاج، ورأيته يأكل الرّطب والبطّيخ]
(2)
.وعن ابن عبّاس؛ قال: (كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك ثنتان: سرف ومخيلة)
(3)
.وعن عائشة رضي الله عنها:
[أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدّجاج والفالوذج، وكان يعجبه الحلواء والعسل]
(4)
؛
(1)
أخرجه ابن الجوزي في تلبيس إبليس: ص 218 - 219.ورواه مختصرا عبد الله بن المبارك المروزي المتوفى (181 هـ) في كتاب الزهد: باب التواضع: ج 6 ص 290:الحديث (845).حقق كتاب الزهد وعلق عليه الأستاذ حبيب الرحمن الأعظمي. دار الكتب العلمية؛ بيروت-لبنان.
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الذبائح: باب لحم الدجاج: الحديث (5517) مختصرا. أما حديث أكل البطيخ؛ فأخرجه الترمذي في الجامع: كتاب الأطعمة: باب ما جاء في أكل البطيخ: الحديث (1843) عن عائشة، وقال: حسن غريب.
(3)
رواه البخاري في الصحيح: كتاب اللباس: باب (1)،من غير إسناد. وفي الشرح قال ابن حجر:«وصله ابن أبي شيبة في مصنفه» .
(4)
أخرجه البخاري في الصحيح: كتاب الأطعمة: باب الحلوى والعسل: الحديث (5431)،وفي كتاب الأشربة: باب الباذق: الحديث (5599) بلفظ: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ الحلوى والعسل].
وقال: [إنّ المؤمن حلو يحبّ الحلاوة]
(1)
.وقال: [إنّ في بطن المؤمن زاوية لا يملئوها إلاّ الحلواء]
(2)
.
وروي: أن الحسن كان يأكل الفالوذج، فدخل عليه فرقد السبخي، فقال:(يا فرقد، ما تقول في هذا؟) قال: لا آكله ولا أحبّ أكله
(3)
،فأقبل الحسن على من عنده كالمتعجّب؛ فقال: (لعاب النّحل ولباب القمح، وسمن البقر
(4)
أحلّ بعينه لكلّ مسلم)
(5)
.
وجاء رجل إلى الحسن فقال له: إنّ لي جارا لا يأكل الفالوذج، قال:(ولم؟) قال: لا يؤدّي شكره، قال:(أفيشرب الماء البارد؟) قال: نعم، قال:(إنّ جارك هذا جاهل، إنّ نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج)
(6)
.
قوله عز وجل: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ؛} قال ابن عبّاس:
(هو أن يحلف الرّجل بالله في الشّيء يرى أنّه كذلك).وقالت عائشة: (هو قول الرّجل: لا والله، وبلى والله، يصل به كلامه ولا يعقد عليه قلبه).واللّغو في اللغة:
هو الكلام الساقط الذي لا يعتدّ به.
قوله تعالى: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ؛} أي بما وكّدتم الأيمان. قرأ أهل الحجاز وحفص وأبو عمرو: «(عقّدتم)» بالتشديد، وقرأ أهل الكوفة
(1)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في المطاعم والمشارب: الحديث (5934).وقال: «أورده شيخنا في التاريخ: ترجمة سهل بن بشر بن القاسم، ومتن الحديث منكر وفي إسناده من هو مجهول» .
(2)
لم أجده.
(3)
ذكره في ميزان الاعتدال: ترجمة فرقد السبخي. في الكامل: ج 7 ص 140 - 141؛قال ابن عدي: (وكان فرقد السبخي حائكا من نصارى (أرمينية)
…
وكان يعد من صالحي أهل (البصرة) وليس هو بكثير الحديث).
(4)
في أصل المخطوط صحف الناسخ؛ كتب: (لباب البرصع وسنن البقر) والصحيح كما أثبتناه، وضبطت العبارة على ما قاله الأزهري في تهذيب اللغة: ج 15 ص 243،وابن منظور في لسان العرب: ج 12 ص 215.
(5)
في المخطوط: (أهل بعينه مسلم) وهو تحريف وفيه سقط.
(6)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: باب في تحديد نعم الله: الأثر (4583).وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 262.
إلاّ حفصا: بالتخفيف «(عقدتم).» ومعناه: أن يحلف الرجل على أمر في المستقبل ليفعله ثم لا يفعله، أو يحلف أن لا يفعله ثم يفعله. فمن قرأ «(عقّدتم)» بالتشديد فمعناه المبالغة والتأكيد. وفائدته أن يعتقدها في قلبه، ولو عقدها في أحدهما دون الآخر لم يكن معتقدا، وهو كالتعظيم.
وكان أبو الحسن الكرخيّ رحمه الله تعالى يقول: (قراءة التّشديد لا تحتمل إلاّ العقد بالقول، وقراءة التّخفيف تحتمل عقد القلب، وهو العزيمة والقصد إلى القول).
ويحتمل عقد اليمين قولا؛ يقال: عقدت على أمر كذا؛ إذا عزمت عليه.
وقيل: الأصحّ أن المراد بالعقد القول؛ لأنه لا خلاف بين الأئمّة أن القصد من اليمين لا يتعلق به وجوب الكفّارة، وإن وجوبها متعلق باللفظ دون القصد. ويحتمل أن يكون معنى التشديد: أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار، وهو يريد التكرار لا يلزمه إلا كفارة واحدة.
وقرأ أهل الشام: «(عاقدتم)» بألف وهو من المعاقدة، وهو أن يحلف الرجل لصاحبه على مسألته، أو يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه.
قوله تعالى: {فَكَفّارَتُهُ؛} أي كفّارة ما عقّدتم من الأيمان عند الحنث، {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ؛} أي من أعدل ما تطعمون أهليكم غداء وعشاء لا وكس ولا شطط.
وقيل: معناه: من أوسطه في الشّبع، ولا تفرط في الأكل، ولا يكون دون المغنى عن الجوع، فإن أراد أن يطعمهم الطعام أعطى لكلّ مسكين نصف صاع من حنطة عند أصحابنا، هكذا روي عن عمر وعليّ
(1)
وعائشة. وقال الشافعيّ ومالك: (مدّا بمدّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
والمدّ: رطل وثلث، وهكذا روي عن زيد بن ثابت وابن عبّاس وابن عمرو رضي الله عنهم أجمعين
(2)
.وأما غداؤهم وعشاؤهم فلا عبرة بمقدار الطعام، إلا أن
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9673) عن عمر، والنص (9674) عن علي.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9688) بأسانيد عنهم.
يكون فيهم صبيّ صغير لا يستوفي الأشياء يسيرا فلا يعتدّ به حينئذ، وإنما قال:
يغدّيهم ويعشّيهم؛ لأن ذلك أوسط طعام الأهل؛ لأن أكثر الأكل ثلاث مرات، وأقلّه وجبة، والغالب الأوسط؛ والأوسط الغالب مرّتان. وقال سعيد بن جبير:(يعطي لكلّ مسكين مدّين؛ مدّ لطعامه ومدّ لإدامه)
(1)
.
وسئل شريح عن الكفّارة؛ فقال: (الخبز والزّيت).فقال له السائل: رأيت إن أطعمت الخبز واللحم، فقال:(ذلك أرفع طعام أهلك وطعام النّاس)
(2)
.وعن ابن مسعود وابن عمرو: (أنّ أعلى ما بطعام الأهل الخبز واللّحم، والأدون الخبز البحت
(3)
بغير إدام، والأوسط الخبز مع السّمن ونحوه).
ظاهر الآية يقتضي أنه إذا أعطى مسكينا واحدا طعام العشرة لا يقع إلا عن الواحد، إلا أنّ أصحابنا إنّما اختاروا دفع ذلك إلى الواحد في العشرة أيّام على أعشار، والمعنى: لأنه جوّز على الحانث سدّ عشر خلات، ولا فرق بين سدّ خلة الواحد في عشرة أيام، وسدّ خلّة العشرة في يوم واحد.
قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ؛} قرأ السّلمي «(أو كسوتهم)» بضمّ الكاف وهما لغتان. ومعنى الآية: أو كسوة عشرة مساكين، وأدنى ما يجوز في الكسوة ثوب واحد أو رداء أو قميص أو إزار وقباء أو كساء. وأما القلنسوة والخمر والعمامة والسراويل، فلا تجوز عن الكسوة في ظاهر الرواية.
وروي عن محمد أن السراويل تجزئ لجواز الصلاة فيها للرجل. وعند الشافعيّ تجوز السراويل والعمامة. وعند سعيد بن المسيّب والضحاك: (يجب لكلّ مسكين ثوبان)
(4)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9676).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9667).
(3)
في المخطوط: (البحث).
(4)
أخرجه الطبري في البيان: النص (9727).
قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ؛} معناه: أو إعتاق مملوك يستوي فيه الذكر والأنثى؛ والصغير والكبير. وظاهر اللفظ يقتضي رقبة مسلّمة من العاهات؛ لأن اسم الشخص بكماله، إلا أنّ الفقهاء اتّفقوا أن النقص اليسير لا يمنع جوازها.
ولا يجوز عتق أمّ الولد، والمعتق بعضه بالإجماع، وأما المدبّر فالخلاف فيه كالخلاف في بيعه، وأما المكاتب فيجوز عتقه عن الكفارة إذا لم يؤدّ شيئا من الكتابة عندنا. وقال الشافعيّ:(لا يجوز).
ويجوز عندنا عتق الرقبة الكافرة والمؤمنة في كفّارة اليمين والظّهار؛ لأن الرقبة مبهمة فيهما، إلا العبد المرتدّ؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه غير محقون الدم. وقال الشافعيّ:(لا يجوز قياسا على كفّارة القتل).
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ؛} معناه: إذا لم يكن له فضل عن كسبه وثياب بدنه وما يقتات به في منزله مقدار ما يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم ويعتق رقبة، فعليه صيام ثلاثة أيّام. وظاهر الآية: يقتضي أنه يجزئ في الصيام التفريق، وهو قول مالك والشافعيّ. وفي قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب:
«(فصيام ثلاثة أيّام متتابعات)»
(1)
.وعن ابن عبّاس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس؛ أنّهم قالوا: (هي متتبعات).
قوله تعالى: {ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ؛} أي ذلك الذي ذكرت لكم، وأمرتكم به كفّارة أيمانكم إذا حلفتم. وقوله تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ؛} أي احفظوها من الحنث، وهذا إذا لم يقع اليمين على منع واجب أو فعل معصية، أما إذا كان اليمين على منع واجب أو فعل معصية، فعلى الحالف أن يحنث نفسه ويكفّر عن يمينه.
ويقال: معناه: {(احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ)} راعوا ألفاظ أيمانكم ليعلم الرجل ما حلف عليه فيكفّره إذا حنث. ويقال: معناه: لا تحلفوا، كما قال الشاعر
(2)
:
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9753 - 9756) عن عبد الله بن مسعود، والنص (9750) عن أبي بن كعب.
(2)
البيت لكثير عزة (40 - 105 هـ).ينظر: لسان العرب: مادة (ألا).
قليل الألايا حافظ ليمينه
…
إذا بدرت منه الألية برّت
والتأويل الأول أقرب إلى ظاهر الآية؛ لأن الإنسان لا يؤمر بحفظ شيء معدوم، لا يقال لمن لا مال له: احفظ مالك.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89)؛ أي هكذا يبيّن الله لكم أمره ونهيه كما بيّن كفارة اليمين؛ لكي تشكروا إنعامه وبيانه.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ؛} الميسر: هو القمار كلّه. والأنصاب: هي الأحجار؛ كانوا ينصبونها ويعبدونها. والأزلام: هي الأزلام التي كانوا يخيلونها عند المعزم على المسير.
نهى الله عن هذه الأشياء، وحرّمها بأبلغ أسباب التحريم؛ لأنه تعالى سمّاها كلها رجسا، والرّجس: هو الشيء المستقذر النّجس، الذي يرتفع «في القبح»
(1)
،ذكره بالفتح؛ يقال: رجس الرّجل يرجس، ورجس يرجس. والرّجس بفتح الراء: شدّة الصوت، ورعد رجّاس إذا كان شديد الصوت. وسميت هذه المعاصي رجسا؛ لوجوب اجتنابها كما يجب اجتناب الشيء المستقذر.
قوله عز وجل: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ؛} أي من تزيينه؛ لأنه هو الداعي إليه والمرغّب فيه والمرنّن له في قلوب فاعليه. وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90)؛أمر باجتنابه وهو تركه باطنا، وظاهر الأمر على الوجوب.
وروي عن عثمان بن عفّان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنّ الله تعالى لا يجمع الخمر والإيمان في قلب مؤمن أبدا]
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [مدمن الخمر كعابد الوثن، ومن شرب الخمر في الدّنيا ولم يتب منها، حرمها في الآخرة]
(3)
.
(1)
ما بين «» سقط من المخطوط. في تهذيب اللغة: ج 10 ص 307؛ قال الأزهري: (والرّجز بفتح الراء: شدّة الصوت، فكأنّ الرّجس: العمل الذي يقبح ذكره ويرتفع في القبح).
(2)
أخرجه ابن حبان في موارد الضمآن: الحديث (1375).وفي الإحسان: كتاب الأشربة: الحديث (5348) بإسناد ضعيف عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ شعيب: «إسناده ضعيف والصواب وقفه كما قال الدارقطني» .
(3)
أخرج شطره الأول ابن أبي شيبة في المصنف: كتاب الأشربة: في الخمر وما جاء فيها: الحديث-
وقال صلى الله عليه وسلم: [من شرب الخمر في الدّنيا سقاه الله من سمّ الأساود، وسمّ العقارب، إذا شربه تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها، فإذا شربها يفسّخ لحمه بالجيفة، يتأذى به أهل الموقف. ومن مات قبل أن يتوب من شرب الخمر كان حقّا على الله أن يسقيه بكلّ جرعة شربها في الدّنيا شربة من صديد أهل جهنّم]
(1)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: [لعن الله الخمر وساقيها؛ وشاربها؛ وبائعها؛ ومبتاعها؛ وعاصرها؛ ومعتصرها؛ وحاملها؛ والمحمولة إليه؛ وآكل ثمنها]
(2)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [اجتنبوا الخمر، فإنّها مفتاح كلّ شرّ]
(3)
.وقال صلى الله عليه وسلم: [من شرب الخمر بعد أن حرّمها الله على لساني، فليس له أن يزوّج إذا خطب، ولا يصدّق إذا حدّث، ولا يشفّع إذا شفع، ولا يؤتمن على أمانة؛ فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها فحقّ على الله تعالى أن لا يخلف عليه]
(4)
.
قوله عز وجل: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ؛} وذلك أنّ من شرب الخمر وسكر زال عقله وارتكب القبائح، وربّما عربد على جلسائه، فيؤدّي ذلك إلى العداوة والبغضاء، وكذلك القمار يؤدّي إلى ذلك. قال قتادة:(كان الرّجل يقامر غيره على ماله وأهله، فيقمره ويبقى حزينا سلبا، فيكسبه العداوة والبغضاء لذهاب ماله عنه بغير عوض ولا منّة)
(5)
.
(3)
- (24060) عن أبي هريرة. وابن ماجة في السنن: كتاب الأشربة: الحديث (3375) وإسناده حسن إن شاء الله.
(1)
أخرجه الطبران ي مختصرا في المعجم الكبير: الحديث (7852).
قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ؛} أي يريد الشيطان أن يصرفكم عن طاعة الله وعن الصّلوات الخمس على ما هو معلوم في العادة من أحوال أهل الشّراب والقمار.
قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (91)؛معناه: انتهوا عنهما، وهذا نهي بألطف الوجوه؛ ليكون أدعى إلى تنهاكما، كما قال تعالى:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
(1)
معناه: أسلموا. فلمّا نزلت هذه الآية قالوا: (انتهينا يا ربّ).فأنزل الله تعالى هذه الآية:
قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا؛} أي أطيعوا الله والرّسول في ترك جميع المعاصي عموما، واحذروا شرب الخمر وتحليلها وسائر المعاصي، {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ؛} أي أعرضتم عن طاعة الله وطاعة الرسول، {فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (92)؛أي تبليغ الرسالة عن الله بأوامره ونواهيه بلغة تعرفونها. وأما التوفيق والخذلان والثواب والعقاب، فإلى الله عز وجل.
فلمّا نزل تحريم الخمر والميسر قال الصحابة: (يا رسول الله! فكيف بإخواننا الّذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟) حتى قال المهاجرون: (يا رسول الله! قتل أصحابنا يوم بدر وماتوا فيما بين بدر وأحد وهم يشربون الخمر؛ فما حال من مات منهم؟)
(2)
فأنزل الله قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا؛} أي فيما شربوا من الخمر، {إِذا مَا اتَّقَوْا؛} الشّرك، {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا؛} وصدقوا واجتنبوا الخمر والميسر بعد تحريمها، {وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا؛} ما حرّم الله كلّه، {وَأَحْسَنُوا} .
وقيل: معناه: (ليس على الّذين آمنوا-بالله ورسوله-وعملوا الصّالحات) يعني الطاعات {(جُناحٌ)} أي حرج ومأثم {(فِيما طَعِمُوا)} من الحرام وشربوا من الخمر قبل
(1)
هود 14/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9770) عن ابن عباس، والنص (9772) عن البراء، وينظر النصوص (9773 - 9778).
تحريمها، وقبل العلم بتحريمها إذا ما اجتنبوا الكفر والشّرك وسائر المعاصي فيما مضى، {(وَآمَنُوا)} أي وصدّقوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن {(وَعَمِلُوا)} الطاعات {(ثُمَّ اتَّقَوْا)} شرب الخمر بعد التحريم {(وَآمَنُوا)} أي أقرّوا بتحريمها {(ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا)} أي ثم داوموا على ذلك وضمّوا إلى ذلك الإحسان في العمل.
وقيل: أراد بالاتقاء الأول: اتقاء جميع المعاصي فيما مضى، وأراد بالثاني: اتقاء المعاصي في المستقبل، وأراد بالثالث: اتقاء ظلم العباد في المعاملات. وقيل: أراد بقوله:
{(إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا)} إذا ما اجتنبوا شرب الخمر بعد تحريمها وصدّقوا بتحريمها، {(ثُمَّ اتَّقَوْا)} سائر المعاصي، وأقرّوا بتحريم ما يحدث تحريمه من بعد مجانبته، ثم جمعوا بين اتّقاء المعاصي وإحسان العمل والإحسان إلى الناس. قوله تعالى:{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (93)؛أي يرضى عمل الذين يفعلون الأفعال الحسنة، ويجتنبون قبائحها.
وروي عن ابن عبد الرحمن السلمي أنه قال: (شرب نفر من أهل بدر الخمر وعليهم يومئذ يزيد بن أبي سفيان، وقالوا: هي لنا حلال! وتأوّلوا قوله تعالى: {(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا)} إلى آخر الآية. وكتب يزيد بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر: ابعثهم إليّ من قبل أن يفسدوا من معك، فبعثهم إليه، فلمّا قدموا، جمع عمر رضي الله عنه جماعة «من الصّحابة» فقال لهم: ما ترون فيهم؟ قالوا: إنّهم افتروا على الله، وشرعوا في دينه ما لم يأذن؛ فاضرب أعناقهم.
وكان في القوم عليّ كرّم الله وجهه وهو ساكت، فقال له عمر: ما ترى؟ قال: أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا فاضربوهم ثمانين جلدة، وإن لم يتوبوا فاضرب أعناقهم.
فاستتابهم فتابوا، فضربهم ثمانين وأرسلهم)
(1)
.
وروي: (أنّ قوما شهدوا عند عمر رضي الله عنه على قدامة بن مضعون أنّه شرب الخمر، فأراد عمر أن يجلده؛ فقال قدامة: ليس لك ذلك؛ لأنّ الله تعالى يقول:
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: كتاب الأشربة: باب من حدّ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (17076) عن عبد الله بن عامر بن ربيعة. والبيهقي من طريق في السنن الكبرى: كتاب الأشربة: الأثر (18007) عن محمد بن سيرين.
{(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا)} وقرأ الآية. فقال عمر رضي الله عنه: إنّك أخطأت التّأويل يا قدامة؛ لو اتّقيت الله ما شربت).وفي بعض الروايات:
(لو اتّقيت الله لاجتنبت ما حرّم عليك. ثمّ أمر بإقامة الحدّ عليه)
(1)
.
وإنما لم يحكموا بكفر قدامة ولم يستتيبوه؛ لأنه كان يتأوّل الآية على الحال الذي هو فيها، ووجود الصّفة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية مكفّرة لذنوبه، وأنه لا يستحقّ العقوبة على شربها مع اعتقاده بتحريمها، وإنّ إحسانه كفّر سيّئاته، فردّت الصحابة عليه هذا التأويل، فأقيم عليه الحدّ.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ؛} أي ليعاملنّكم الله معاملة المختبر ليجازيكم على ما يظهر منكم. قوله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ؛} اختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: (من) هاهنا للتبعيض، وأراد بذلك صيد البرّ دون صيد البحر، وصيد الإحرام دون الإحلال.
وقال بعضهم: (من) هاهنا للجنس كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ}
(2)
معناه: اجتنبوا الرّجس الذي هو وثن. وقال بعضهم: أراد بقوله: {(بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ)} بما يكون من جزاء الصّيد وإن لم يكن صيدا كالبيض والفرخ والريش، والآية شاملة لجميع هذه المعاني.
قوله تعالى: {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ؛} أي تأخذونه بأيديكم من فراخ الطّير وصغار الوحش والبيض، وما تصيبه رماحكم من كبار الصّيد التي لا تصاد باليد. قوله تعالى:{لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ؛} أي ليميّز الله من يخافه ممن لا يخافه في السرّ بينه وبين الله تعالى.
قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ؛} أي من تجاوز الحدّ في أخذ صيد البرّ مع الإحرام، وأخذ الصيد في الحرم بعد البيان له والنهي عنه، {فَلَهُ}
(1)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: الأثر (17076).وفي الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 298؛ قال: «ذكره الحميدي عن أبي بكر البرقاني عن ابن عباس» .
(2)
الحج 30/.
{عَذابٌ أَلِيمٌ} (94)؛يعني التعزير والكفّارة في الدّنيا؛ يفرق الضرب على أعضائه كلّها ما خلا الوجه والرأس والفرج، فيضرب ضربا وجيعا ويؤمر بالكفّارة، ويكون هذا المتعدّي مأخوذا بعذاب الآخرة إن مات قبل التوبة.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ؛} روي أن هاتين الآيتين نزلتا بالحديبية، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمين، وكان الصيد من الوحش والطير يغشى رحالهم. وفي قوله:{(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)} وجهان؛ أحدهما: وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة، والثاني: وأنتم داخلون في الحرم.
وقوله تعالى: {(لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ)} دليل على أن كلّ ما يقتله المحرم من الصيد لا يكون ملكا؛ لأن الله تعالى سمّى ذلك قتلا، ولا يجوز أكل المقتول وإنما يجوز أكل المذبوح على شرط الذكاة.
والصيد في اللغة: اسم لكل ممتنع متوحّش، فلا يفرق الحكم في وجوب الحلّ بين المأكول منه وبين غيره، إلا أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:[خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الحيّة؛ والعقرب؛ والغراب؛ والفأرة؛ والكلب العقور]
(1)
.
وأراد بالكلب العقور: الذئب على ما ورد في بعض الروايات
(2)
.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ؛} روي أنه نزل في كعب بن عمرو
(3)
؛عرض له حمار وحش فطعنه برمحه فقتله، ولم يكن علم بنزول التحريم.
(1)
أخرجه أبو داود في السنن: كتاب المناسك: باب ما يقتل المحرم من الدواب: الحديث (1848). والترمذي في الجامع: أبواب الحج: باب ما يقتل المحرم من الدواب: الحديث (8374) عن عائشة، والحديث (8375) عن ابن عمر.
(2)
عن عبد الله بن سيلان أنه سأل أبا هريرة عن الكلب العقور؛ فقال: «هو الأسد» .أخرجه عبد الرزاق في المصنف: الأثر (8378).
(3)
في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 302؛ قال القرطبي: (وروي أن أبا اليسر-واسمه عمرو بن مالك الأنصاري-كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه).وفي تهذيب التهذيب: ج 6 ص 577: الرقم (5840)؛قال ابن حجر: (كعب بن عمرو بن عباد الأنصاري السّلمي: أبو اليسر، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
…
فكان من آخر الصحابة موتا).
واختلفوا في صفة العمل الموجب للجزاء والكفّارة في قتل الصيد، فقال الأكثرون من أهل العلم: سواء قتل المحرم الصّيد عمدا أو خطأ فعليه الجزاء، وجعلوا فائدة تخصيص العمل بالذّكر في هذه الآية ما في نسخها بقوله:{(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)؛} لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد
(1)
.
والقول الثاني: ما روي عن قتادة وطاوس وعطاء؛ أنّهم قالوا: (لا شيء على الخاطئ) وهو رواية عن ابن عبّاس.
والقول الثالث: وهو قول مجاهد والحسن: (أنّ المراد به إذا قتله ناسيا لإحرامه، وحصل القتل عمدا)
(2)
.وهذا القول يقتضي أن غير العامد الذاكر لإحرامه لا يؤمر بالكفّارة، ولكنّ الله يعاقبه في الآخرة على ما فعله. وعلى هذا التأويل قالوا:
إنّ معنى قوله: {(وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ)} أي عاد إلى هذا الفعل من بعد العلم بالنهي، كان عقوبته النقمة ينتقم الله منه.
وقال آخرون: هو القتل عمدا وهو ذاكر لإحرامه، فحكم عليه في العمد والخطأ الكفارة والجزاء، وهو اختيار الشافعيّ. وقال الزهريّ:(نزل القرآن بالعمد، وجرت السّنّة بالخطإ)
(3)
.وقال ابن عبّاس: (إن قتله عمدا سئل: هل قتل قبله شيئا من الصّيد؟ فإن قال: نعم؛ لم يحكم عليه، ويقال له: اذهب، فينتقم الله منه، وإن قال: لم أقتل قبله شيئا، حكم عليه، فإن عاد إلى قتل الصّيد ثانيا وهو محرم بعد ما حكم، ولم يحكم عليه ثانيا، ويملأ بطنه وظهره ضربا وجيعا)
(4)
.وعندنا إذا عاد حكم عليه ثانيا، وعليه الجمهور.
وقال بعضهم: إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله تعالى؛ لأنه أعظم من أن يكون له كفّارة. والقول الأول أصحّ هذه الأقاويل كلّها؛ لأن
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9787) عن عطاء، والنص (9788) عن طاوس، والنص (9790) عن ابن عباس.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النصوص (9782) والنص (9784) عن الحسن.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9789).
(4)
بمعناه أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9865 و 9866).
سائر جنايات الإحرام لا تختلف بين المعذور وغير المعذور، وإنّ الله تعالى أحلّ للمحرم والمريض حلق الرأس على الأذى، وأوجب عليه الفدية.
قوله تعالى: {(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)} نوّنه أهل الكوفة، ورفعوا ال {(مِثْلُ)} على البدل من الجزاء، كأنه فسّر الجزاء؛ أي فعليه جزاء مثل الصيد المقتول من النّعم.
وقرأ الباقون بالإضافة، ومعناه: عليه أن يجزي بمثل المقتول؛ أي يشتري بقيمته من النّعم فيذبح. وقد تجوز إضافة الشيء إلى نفسه كما يقال: ثوب جزوبات جديد
(1)
، ويوم الجمعة.
ويحتمل أن يكون معناه: عليه جزاء مثل النّعم المقتول، ومثل النّعم المقتول:
قيمته من جهة الحكم، {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
وقوله تعالى: {هَدْياً؛} منصوب على الحال؛ أي يحكمان بقدر أن يهدي.
وقوله تعالى: {بالِغَ الْكَعْبَةِ؛} لفظه لفظ المعرفة ومعناه النّكرة، كأنه قال: بالغا الكعبة، إلا أن التنوين حذف استخفافا، وكنّى بالكعبة عن الحرم؛ لأن حرمته لأجل الكعبة. وفي ذكر بلوغ الكعبة بيان اختصاص من هذا الجزاء بالحرم، وأنه لا يجوز ذبحه إلا فيه. ومعنى قوله تعالى:{(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)} أي فعلى القاتل الفداء مثل المقتول من النعم.
والنّعم في اللغة: من الإبل والبقر والغنم، فإذا انفردت الإبل قيل: إنّها نعم، وإذا انفردت البقر والغنم لم تسمّ نعما.
واختلف أهل العلم في كيفيّة الجزاء، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: (ينظر الحكمان العدلان من أهل المعرفة إلى الصّيد المقتول، فيقوّمانه حيّا في ذلك المكان وذلك الزّمان، فإذا عرفت القيمة خيّر القاتل، فإن شاء اشترى بتلك القيمة هديا من النّعم فذبحه في الحرم، وإن شاء اشترى بها طعاما فأطعمه مساكين الحرم وغيرهم؛ كلّ مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير كما في
(1)
هكذا وردت في المخطوط بوضوح تام.
الكفّارات. وإن شاء صام مكان كلّ صاع من برّ نصف يوم، وإن لم يبلغ قيمة الصّيد إطعام مسكين، صام يوما كاملا إذا اختار الصّوم؛ لأنّ الصّوم ممّا لا تبعيض فيه).
وقال محمد والشافعيّ: (إن كان للصّيد المقتول مثل من النّعم من جهة الخلقة، كان على القاتل النّظير في الخلقة؛ فيجب عليه في النّعامة بدنة؛ وفي بقر الوحش بقرة؛ وفي الظّبي شاة؛ وفي الغزال عنز؛ وفي الأرنب عناق؛ وفي اليربوع جفرة. وإن لم يكن للصّيد مثل من جهة الخلقة، كان عليه قيمته).وعن محمّد الخيار في هذا إلى الحكمين دون التعيين، وهو قول مالك
(1)
.
قوله تعالى: {(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)} أي يحكم بالجزاء فقيهان عدلان ينظران إلى أشبه الأشياء به، فيحكمان به.
وروي عن قبيصة بن جابر قال: (خرجنا حجّاجا، وكنّا إذا صلّينا الغداة أوقدنا نارا، وأحلنا بشيء ونتحدّث، فبينما نحن ذات يوم إذ سنح لنا ظبي، فابتدرته ورميته بحجر فأصبت حشاه، فوكب درعه فمات، فلمّا قدمنا مكّة سألنا عمر رضي الله عنه وكان حاجّا، وكان عبد الرّحمن بن عوف جالسا عنده، فسألته عن ذلك فقال لعبد الرّحمن:
ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، قال: فاذهب فاهد شاة. قال: فخرجت إلى صاحبي فقلت: إنّ أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتّى سأل غيره، قال: فلم يفجأنا إلاّ عمر ومعه الدّرّة، فعلاني بالدّرّة، قال: أتقتل في الحرم وتغمض الفتوى؟! قال الله تعالى: {(يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)} فأنا عمر، وهذا عبد الرّحمن)
(2)
.
قوله تعالى: {أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ؛} فيه قراءتان؛ أحدهما: الرفع والتنوين في {(كَفّارَةٌ)} ،والرفع في {(طَعامُ)} من غير تنوين. والأخرى: الرفع في «(كفّارة)» بغير تنوين، والخفض في «(طعام)» على الإضافة.
(1)
في معالم التنزيل: ص 398؛ قال البغوي: (قال مالك: إن لم يخرج المثل يقوّم الصيد ثم يجعل القيمة طعاما فيتصدق به، أو يصوم).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9808) وما بعده. وفي الدر المنثور: ج 3 ص 191؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه
…
» وذكره.
قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ؛} أي ليذوق عقوبة صنعه. والوبال: تقبّل الشيء في المكروه، مأخوذ من الوبيل، يقال: طعام وبيل؛ وماء وبيل؛ إذا كانا ثقيلين، قال الله تعالى:{فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً}
(1)
أي ثقيلا شديدا.
قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَمّا سَلَفَ؛} أي تجاوز الله عما مضى من قتل الصيد قبل التحريم. قوله تعالى: {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ؛} أي من عاد إلى قتل الصيد بعد العلم بالتحريم متعمّدا لقتله يعذّبه الله في الآخرة ويعاقبه على فعله. وأصل الانتقام: الانتصار والانتصاف، وإذا أضيف إلى الله تعالى أريد به المعاقبة والمجازاة. قوله تعالى:{وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} (95)؛أي منيع بالنقمة ينتقم ممّن عصاه.
قوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ؛} أي أحلّ لكم اصطياد ما في البحر، {وَطَعامُهُ؛} أي ما لفظه البحر وحسر عنه الماء، وهذا قول أبي بكر
(2)
وعمر وأبي هريرة
(3)
.وقال بعضهم: {(طَعامُهُ)} هو الملح؛ وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة والنخعي وقتادة.
وقوله تعالى: {مَتاعاً لَكُمْ؛} أي منفعة لكم. وهو مصدر مؤكّد للكلام؛ أي تمتّعوا متاعا لكم. وقوله تعالى: {وَلِلسَّيّارَةِ؛} أي ومنفعة للمارّة في السفر.
قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في قوم من بني مدلج، كانوا أهل صيد البحر، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنّا نصطاد في البحر، وربّما يعلو البحر وربّما مدّ البحر، فيعلو الماء كلّ شيء، ثمّ يرجع ويبقى السّمك بالأرض، ويذهب الماء عنه فنصيبه مدّا، فحلال لنا أكله أم لا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية).
(1)
المزمل 16/.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9889) عن ابن عباس رضي الله عنهم جميعا؛ قال: «خطب أبو بكر الناس فقال: أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم، وطعامه: ما قذف» ، والنص (9877).
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9890) وفيه اتفاق عمر وأبي هريرة في الفتوى.
قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً؛} أي وحرّم عليكم اصطياد ما في البرّ. ويقال: عين صيد البر ما دمتم محرمين، ولا خلاف في الاصطياد أنه حرام على المحرم في البرّ، فأما عين الصيد فإن صاده حلال بأمر المحرم أو بإعانته أو دلالته وإشارته حرم على المحرم تناوله، وإن صاده حلال بغير أمر المحرم حلّ للمحرم تناوله كما روي في حديث أبي قتادة؛ قال: (كنت في رهط من المحرمين وأنا حلال، فبصرت بحمار وحش فقلت: ناولني الرّمح، فأبوا، فأخذته وأتيت الصّيد، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فقال:[هل أعنتم؟ هل أشرتم؟ هل دللتم؟] فقالوا:
لا؛ فقال: [إذا فكلوا]
(1)
).
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (96)؛أي اتّقوا الله في أخذ الصّيد في الإحرام الذي إلى موضع جزائه تبعثون.
قوله عز وجل: {*جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ؛} أي جعل الله الكعبة أمنا للناس، بها يقومون ويأمنون، وذلك أنّ الرجل كان إذا أصاب ذنبا في الجاهليّة والإسلام، أو قتل قتيلا لجأ إلى الحرم فأمن بذلك، وكانت الكعبة قواما لمعايشهم وعمادا لهم في أمر دينهم ودنياهم؛ لما يحصل في ذلك من الحجّ والعمرة والتجارات، وما يجيء إلى الحرم من ثمرات كلّ شيء.
وقيل: معنى قوله: {(قِياماً لِلنّاسِ)} أي قبلة لهم، أمروا أن يقوموا في الصلاة متوجّهين إليها. قوله تعالى:{(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ)} أي جعل الشهر الحرام آمنا أيضا، كانوا إذا دخل الشّهر الحرام لم يقتلوا فيه أحدا حتى يمضي.
قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ؛} جعل الهدي الذي يهدى إلى البيت أمنا للرّفقة، وجعل القلائد أمنا، والقلائد البدن من البقر والإبل كانوا يقلّدونها بنعل أو خفّ، وربّما كانوا يقلّدون رواحلهم إذا رجعوا من مكّة من لحاء شجر الحرم فيأمنون
(1)
أخرجه البخاري بمعناه في الصحيح: كتاب الصيد: باب إذا صاد الحلال: الحديث (1821)، وباب إذا المحرمون صيدا: الحديث (1822).ومسلم في الصحيح: كتاب الحج: باب تحريم الصيد: الحديث (95 و 1196/ 64).
بذلك، وكان أهل الجاهلية يأكل الواحد منهم القضيب والشجر من الجوع وهو يرى الهدي والقلائد فلا يتعرّض له تعظيما له.
قوله تعالى: {ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (97)؛معناه: ذلك أمر الجاهلية دليل أنه تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض وما فيه صلاح الخلق إذ جعل في أعظم الأوقات فسادا يؤمن به، وشرع الحجّ وفيه مصالح الخلق على نحو ما تقدّم.
قوله تعالى: {اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ؛} لمن استحلّ ما حرّم الله، {وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (98)؛لمن تاب.
قوله تعالى: {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ؛} أي ما على محمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ تبليغ الرسالة في أمر الثواب والعقاب، {وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ؛} أي ما تظهرون من القول والعمل، {وَما تَكْتُمُونَ؛} وليس على محمّد طلب سرائركم، ولا يعلم السرائر إلاّ الله عز وجل.
قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ؛} أي قل يا محمّد: لا يستوي الحلال والحرام، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ؛} ولو أعجبك كثرة الحرام، فمثقال حبّة من الحلال أرجح عند الله من جبال الدّنيا من حرام.
وقيل: معناه: ولا يستوي الكافر والمؤمن ولو أعجبك كثرة الكافر، والعدل والفاسق وإن كان في الفسّاق كثرة، ولا يبارك في الحرام وإنما يبارك في الحلال، {فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (100)؛أي اخشوا عذاب الله في أخذ الحرام يا ذوي العقول، لكي تفوزوا بالنجاة والسّعادات في الآخرة.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ؛} قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (لمّا نزل قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
(1)
قام رجل من بني أسيد فقال: يا رسول الله أفي كلّ عام؟
(1)
آل عمران 97/.
فوجد من قول ذلك الرّجل وجدا شديدا، ثمّ قال له:[ما كان يؤمنك أن أقول: نعم، فيجب عليكم في كلّ عام فلا تطيقوه، فإن لم تفعلوه كفرتم، ذروني ما تركتكم])
(1)
.
وفي بعض الروايات: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قام خطيبا، فسأله النّاس عن أشياء، فقال:[لا تسألوني عن شيء إلاّ حدّثتكم به]،فأكثروا عليه السّؤال حتّى سأله رجل عن الحجّ:
أفي كلّ عام؟ فسكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأعاد الرّجل عليه ثالثا، فقال صلى الله عليه وسلم: [لو قلت لكم:
نعم، لوجبت ولما استطعتم] فقام رجل آخر فقال: أفي الجنّة أنا أم في النّار؟! فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى تغيّر لونه، فقال عمر: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبك نبيّا، نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسرى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم الغضب
(2)
.
وروي: أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي؟ فقال: [في النّار]،فقام عمر رضي الله عنه وقال: رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيّا وبالقرآن إماما، إنّا يا رسول الله حديثو عهد بالجاهليّة فاعف عنّا عفا الله عنك، فسكن غضبه
(3)
.
وروي: أنّ رجلا من قريش يقال له عبد الله بن حذافة، وكان يطعن في نسبه إذا لاحى؛ أي يدعى لغير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: [أبوك حذافة].
قال الزّهريّ: فقالت أمّه: ما رأيت ولدا أعقّ منك قط! أكنت تأمن أن تكون أمّك قارفت ما قارف «نساء» أهل الجاهليّة، فيفضحها على رءوس النّاس
(4)
.
وفي رواية أخرى: أنّه لمّا قال له: [أبوك حذافة]،قال: يا رسول الله أبي فلان، قال: [إنّك ولد الزّانية، وإنّ الّذي ولدت على فراشه كان كثير المال،
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: الحديث (9982) وإسناده ضعيف.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9978 و 9979).وأصله أخرجه البخاري في الصحيح، ومسلم في الفضائل.
(3)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9977).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9973).والبخاري في الصحيح: تفسير سورة المائدة: باب (12).
فتعرّضت أمّك لحذافة فجامعها فاشتملت بك] فأنزل الله هذه الآية
(1)
.
ومعناها: يا أيّها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشياء إن أظهر لكم جوابها ساءكم، ذلك {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ؛} وإن تسألوا عنها عند نزول القرآن أظهر لكم جوابا، {عَفَا اللهُ عَنْها؛} أي عن مسألتكم لم يؤاخذكم بالبحث عنها. ويقال: أراد بالعفو الستر عليهم، {وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (101)؛أي متجاوز عن العباد، حليم عن الجهّال لا يعجّل عليهم بالعقوبة.
قوله عز وجل: {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ} (102)؛أي قد سأل نحو هذه المسائل من قبلكم، قال ابن عبّاس:
(كانت بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء لم تكتب عليهم ولم يؤمروا بها، فإذا بيّنوا لهم حكمها لم يفعلوا، فعذبهم الله وأهلكهم بسبب ذلك، كما سأل قوم عيسى المائدة ثمّ كفروا، وسأل قوم صالح النّاقة ثمّ عقروها وكفروا)
(2)
.
قوله تعالى: {ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ؛} أي لم يجعل الله ما يقوله كفّار قريش من تحريم البحيرة والسّائبة والوصيلة والحامي، {وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ؛} ولكنّهم هم الذين جعلوا من ذات أنفسهم، واختلقوا على الله بأنه حرّم هذه الأشياء، {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} (103) وهم السّفلة والعوامّ لا يعقلون، بل يقلّدون رؤساءهم فيما يقولون.
وأما تفسير البحيرة: كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا، فإن كان البطن الخامس ذكرا ذبحوه لآلهتهم، وكان لحمه للرّجال من سدنة آلهتهم ومن أبناء السّبيل دون النّساء، وإن مات قبل الذبح أكله الرجال والنّساء، وإن كان الخامس أنثى نحروا أذنها؛ أي شقّوها شقّا واسعا وهي البحيرة: لا تركب ولا تذبح ولا تطرد من ماء ولا أكل، وألبانها ومنافعها للرّجال من السّدنة وأبناء السبيل دون النّساء حتى تموت، فاذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء.
(1)
ربما هو ما رواه السدي؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9976) وإسناده مرسل.
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9989).
وأما السّائبة: فكان إذا قدم الرجل من سفر أو برأ من مرض أو بنى بناء، سيّب شيئا من إناث الأنعام وسلّمها إلى سدنة آلهتهم، فيطعمون منه أبناء السّبيل من ألبانها وأسمانها إلاّ النساء، فإنّهم كانوا لا يطعمونهن منها شيئا حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا.
وأما الوصيلة: فهي من الغنم كانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن، فإن كان البطن السّابع ذكرا ذبحوه لآلهتهم، وإن كانت أنثى صنعوا بها ما يصنعون بالأنثى من البحيرة، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: إنّها وصلت أخاها، فلم تذبح الذكر لمكانه منها، وكان منافعهما للرّجال دون النساء من السّدنة وأبناء السّبيل الى أن يموت واحد منهما فيشترك فيه الرجال والنساء.
وأما الحامي: فهو الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى حتى يموت، فيأكله الرّجال والنساء.
وقد روي عن زيد بن أسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إنّي لأعرف أوّل من سيّب السّوائب، وأوّل من غيّر عهد إبراهيم خليل الله]،قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: [عمرو بن لحي، ولقد رأيته يجرّ قصبه في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه.
وإنّي لأعرف أوّل من بحّر البحائر]،قالوا: من هو؟ قال: [رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرّم ألبانها، ثمّ شربه بعد ذلك، ولقد رأيته في النّار يعضّانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما]
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم الخزاعيّ: [رأيت عمرو ابن لحي يجرّ قصبه في النّار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منه بك ولا بك منه، وهو أوّل من غيّر دين إبراهيم عليه السلام، ونصب الأوثان، وبحّر البحيرة، وسيّب السّائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامي، ولقد رأيته في النّار يؤذي أهل النّار بريح قصبه]، قال أكثم: يا رسول الله أيضرّني شبهه؟ فقال: [إنّك مؤمن وهو كافر]
(2)
.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (9996) بإسناد مرسل.
(2)
أخرجه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 337.والطبري في جامع البيان: النص (9994)،والحاكم في المستدرك؛ وقال: صحيح على شرط مسلم.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا؛} معناه: إذا قيل لأهل مكة هلمّوا إلى تحليل وتحريم ما أنزل الله في كتابه وبيّنه الرسول في سننه، قالوا: يكفينا ما وجدنا عليه آباءنا من الدّين والسّنة، يقول الله تعالى:{أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً؛} من الدّين والسّنة، {وَلا يَهْتَدُونَ} (104)؛الطريق المستقيم.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ؛} أي الزموا أنفسكم واحفظوها كما يقال: عليك زيدا، فتنصب زيدا على الإغراء بمعنى: الزم زيدا، كأنّه تعالى قال: عليكم أيّها المؤمنون بإصلاح أنفسكم، ومتابعة سنّة نبيّكم، فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يضرّكم ضلالة من ضلّ من أهل مكة إذ هديتم أنتم، {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ؛} في الآخرة، {جَمِيعاً؛} البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، {فَيُنَبِّئُكُمْ؛} فيجزيكم؛ {بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (105)؛ من خير أو شرّ.
وروي عن السّلف في تأويل هذه الآية أحاديث مختلفة الظواهر، وهي متفقة في المعنى، فمنها ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال على المنبر: أيّها النّاس، إنّي أراكم تتأوّلون هذه الآية:{(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)} وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من قوم يعمل بين أظهرهم بالمعاصي فلم يغيّروها إلاّ يوشك أن يعمّهم الله بعقابه]
(1)
.
وعن أبي أمامة قال: سألت أبا ثعلبة الخشنيّ عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: [يا أبا ثعلبة ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، فإنّ من بعدكم أيّام الصّبر، والصّابر فيها كالقابض على الجمر،
(1)
في الدر المنثور: ج 3 ص 215؛ قال السيوطي: «أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد عن جرير البجلي، وذكره بمعناه» .وأخرجه عبد الرزاق في المصنف: الحديث (20723).
والصّبر فيها كالقبض على الجمر، والمتمسّك فيها بمثل الّذي أنتم عليه له كأجر خمسين عاملا منكم]
(1)
.
ففي هذه الأخبار دليل على أنّ فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط إلاّ عند العجز عن ذلك. كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إذا رأى أحدكم منكرا واستطاع أن يغيّره فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان]
(2)
.
وحكي: أنّه لمّا مات الحجّاج قال الحسن رضي الله عنه: (اللهمّ أنت أمتّه فاقطع عنّا سنّته، فإنّه أتانا أخيفش أعيمش، يمدّ بيد قصيرة، والله ما عرق فيها في سبيل الله عنان، يرجل جمّته ويتبختر في مشيته، ويصعد المنبر فيهدر حتّى تفوته الصّلاة، لا من الله يتّقي ولا من النّاس يستحيي، فوقه الله عز وجل، وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل: الصّلاة أيّها الرّجل. ثمّ جعل الحسن يقول: هيهات، والله حال دون ذلك السّيف والسّوط)
(3)
.وفي هذا الخبر دليل أن السّلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك الإنكار باليد واللّسان.
قوله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ؛} قال ابن عبّاس: (نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر، خرجوا من المدينة إلى الشّام لتجارة، أحدهم: عديّ بن بدّاء، والآخر عامر بن
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10022).وفي الدر المنثور: ج 3 ص 215؛ قال السيوطي: «أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجة وابن جرير والبغوي في معجمه وابن المنذر وابن حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب) واللفظ للطبري في جامع البيان.
(2)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب كون النهي عن المنكر من الإيمان: الحديث (49/ 78).وأبو داود في السنن: كتاب الصلاة: الحديث (1140).وابن ماجة في السنن: كتاب إقامة الصلاة: باب ما جاء في صلاة العبد: الحديث (1275)،وفيه: [من رأى منكرا فاستطاع
…
].
(3)
ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 16 ص 339: تفسير الآية (12) من سورة الحجرات: المسألة التاسعة.
أوس الدّاريّ، وهما نصرانيّان، والثّالث بديل بن ورقاء
(1)
مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا، فحضر بديل بن ورقاء الوفاة وكان مسلما، فأوصى إلى صاحبيه، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله إذا رجعا، فمات بديل ففتّشا متاعه، وأخذا منه إناء من فضّة منقوشا بالذهب كان فيه ثلاثمائة مثقال.
فلمّا قدما المدينة وسلّما المتاع إلى أهله، وجد أهله كتابا في درج الثّياب فيه أسماء الأمتعة، قالوا لهما: هل باع صاحبكما شيئا من متاعه؟ قالا: لا، فهل طال مرضه فأنفق شيئا؟ قالا: لا، إنّما مرض حين قدم البلد، فلم يلبث أن مات. فقال لهما عمرو بن العاص والمطّلب ابن أبي وداعة: فإنّا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية متاعه، وفيها إناء منقوش مموّه بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال. قالا: ما ندري، إنّما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه. فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا ذلك له، فأنزل الله هذه الآية
(2)
.
ومعناها: يا أيّها الذين آمنوا شهادة الحال الذي بينكم إذا حضر أحدكم الموت فأراد الوصيّة شهادة اثنين ذوي عدل منكم؛ أي من أهل دينكم. وهذه جملة تامّة تتناول حكم الشّهادة على الوصيّة في الحضر والسفر.
قوله تعالى: {أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ؛} مقيّد بالسّفر خاصّة، معناه: أو آخران من غير أهل دينكم، {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ؛} إن أنتم سافرتم في الأرض، {فَأَصابَتْكُمْ؛} في السّفر، {مُصِيبَةُ الْمَوْتِ؛} ولم يكن يحضركم مسلمون.
قوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ؛} أي تقفونهما وهما النصرانيّان، والمراد بقوله:{(بَعْدِ الصَّلاةِ)} بعد صلاة العصر كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقضي بعد صلاة العصر وهو وقت اجتماع الناس، وأهل الكتاب يعظّمونه، {فَيُقْسِمانِ بِاللهِ}
(1)
ويسمى أيضا بديل بن أبي مريم.
(2)
أخرجه الترمذي في الجامع: كتاب التفسير: الحديث (3059) من رواية محمد بن السائب الكلبي (أبو النضر) وضعفه، وفي الحديث (3060) قال: حسن غريب. والبخاري في التاريخ الكبير: ج 1 ص 285:الترجمة (676).والحديث أخرجه أهل التفسير بألفاظ طويلة ومختصرة، ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 346.
{إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً؛} أي الشّاهدان النصرانيان يحلفان بالله إذا ادّعى عليهما ورثة الميّت بسبب شأنهم في جنايتهما، ويقولان في اليمين: لا نشتري بهذا القول الذي نقوله بأنا دفعنا المال جميعه إليكم عرضا يسيرا من الدّنيا، {وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى؛} أي وإن كان الميت ذا قرابة منّا في الرّحم؛ أي لم نحن في التّركة لقرابته منّا.
روي أنه كان بين الميت المسلم وبين هذين النصرانيين قرابة في الرّحم، ومعنى قوله:
{(إِنِ ارْتَبْتُمْ)} أي شككتم.
قوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ؛} أي ويقولون في اليمين: ولا نكتم شهادة الله، {إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ} (106)؛أي العاصين إن كتمناها كما قال تعالى في آية أخرى {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ}
(1)
.
وإنّما أضاف الشهادة إلى الله تعالى تعظيما لها وتهويلا لأمرها، وقرأ بعضهم:
«(شهادة الله)» بتنوين (شهادة) ونصب اسم (الله) على معنى: لا نكتم لله شهادة، وقرأ الشعبيّ:«(شهادة الله)» بتنوين (شهادة)،وخفض الهاء من اسم (الله) موصولا على القسم، تقديره: إي والله.
وقرأ أبو جعفر «(شهادة)» بالتّنوين «(الله)» بقطع الألف وكسر الهاء على معنى:
ولا نكتم شهادة الله، بالاستفهام وكسر الهاء فجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم.
قال ابن عبّاس: (فلمّا نزلت هذه الآية، صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر وحلّفهما بعد الصّلاة عند المنبر بالّذي لا إله إلاّ هو أنّهما لم يختانا-يخونا-شيئا ممّا دفع إليهما بديل، فحلفا، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيلهما. فمكثا بعد ذلك ما شاء الله ثمّ ظهر الإناء، فبلغ الورثة ذلك، فسألوا الّذي بيده الإناء فقال: اشتريته من تميم وعديّ)
(2)
.
(1)
البقرة 283/.
(2)
ألفاظ الحديث مخرجة في كتب التفسير؛ ينظر: الدر المنثور: ج 3 ص 220 - 226.
قيل: إنّه لمّا طالت المدّة أظهرا الإناء ولم يبيعاه، فقال لهما الورثة: إنّما حلفتما فما بال الإناء معكما؟ فقالا: إنّا كنّا اشتريناه منه ولم يكن لنا بيّنة، فكرهنا أن نقرّ به لكم فتأخذوه. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله تعالى:
معناه: فإن اطلع على أن الوصيّين استوجبا ذنبا بالخيانة واليمين الفاجرة حيث قالا: إنّ الميت لم يبع شيئا من متاعه، ثم قالا بعد ظهور الإناء في أيديهما أنّهما ابتاعاه منه، فآخران من أولياء الميت وهما عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة، يقومان مقام النصرانيّين الخائنين في اليمين، فيحلفان بالله، {لَشَهادَتُنا أَحَقُّ؛} بأنّ الإناء لصاحبنا، وأنّهما لا يعلمان بأن الميت باعه في حياته، {مِنْ شَهادَتِهِما؛} أي أعدل وأحقّ بالقبول من شهادة النصرانيّين، {وَمَا اعْتَدَيْنا؛} فيما ادّعينا وحلفنا، {إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ} (107)؛على أنفسنا لو اعتدينا.
وقوله: {(مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ)} راجع إلى قوله {(فَآخَرانِ،)} و {(الْأَوْلَيانِ)} بدل من {(فَآخَرانِ)} كأنه قال: وآخران من الذين استحقّ عليهم الوصية، وهم ورثة الميت وأولياؤه، وهما الأوليان بالميت. ويقال: الأوليان باليمين يقومان مقام النصرانيّين في اليمين،
ويقال: معنى {(اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ)} أي استحقّ فيهم الإثم وهم الورثة، استحقّ النصرانيّان الإثم بسببهم، وقد تقام على مقام (في)،كما في قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}
(1)
.واحد الأوليان: الولى، والجمع: الأولون، والأنثى الولياء، والجمع الوليات والولي
(2)
.
وقرأ الحسن وحفص: «(من الّذين استحقّ عليهم)» بفتح التاء والحاء؛ أي وجب عليهم الإثم، ثم قال {(الْأَوْلَيانِ)} راجع إلى قوله {(فَآخَرانِ)} الأوليان، ولم يرتفع
(1)
طه 71/.
(2)
في معاني القرآن وإعرابه: ج 2 ص 175؛قال الزجاج: (وهذا موضع من أصعب ما في القرآن في الإعراب).
بالاستحقاق. وقرأ الباقون «(استحقّ)» بضمّ التاء وكسر الحاء على المجهول، يعني الذين استحقّ فيهم ولأجلهم الإثم وهم ورثة الميت، استحق الحالفان بسببهم وفيهم الإثم.
وقرأ الحسن: «(من الّذين استحقّ عليهم الأوّلان)»
(1)
.
قوله تعالى: {(لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما)} أي يميننا من يمينهما، ونظيره {فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ}
(2)
أراد الأيمان.
فلمّا نزلت هذه الآية حلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص والمطّلب بن أبي وداعة، فحلفا فدفعا المتاع إلى أولياء الميت. قال ابن عبّاس:(فذكرت هذه الآية لتميم بعد ما أسلم فقال: صدق الله وبلّغ رسوله، أنا أخذت الإناء، فأتوب إلى الله وأستغفره)
(3)
.
وإنّما نقلت اليمين إلى الأولياء؛ لأن الوصيّين صحّ عليهما الإناء، ثم ادعيا أنّهما ابتاعاه، وكذلك إذا ادّعى رجل على رجل مالا، فأقرّ المدعى عليه بذلك، وادّعى أنه قضاه، فالقول قول صاحب المال مع يمينه، وكذلك إذا ادّعى سلعة في يد رجل فاعترف بذلك، ثم ادّعى أنه اشتراها من المدّعي أو وهبه منه المدعي.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما: (عن تميم الداريّ قال: بعنا الإناء بألف درهم، فاقتسمناه أنا وعديّ، فلمّا أسلمت تأثّمت من ذلك بعد ما حلفت كاذبا، فأتيت أولياء الميّت فأخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسألهم البيّنة، فلم يكن لهم بيّنة، فأمر الأولياء أن يحلفوا، فحلفوا، فأخذت الخمسمائة من عديّ ورددت أنا الخمسمائة)
(4)
.
فذلك قوله تعالى: {ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها؛} أي ذلك لكم أقرب إلى أن تقوم شهود الوصيّة على وجهها، {أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ}
(1)
ينظر: جامع البيان: النص (10092).
(2)
النور 6/.
(3)
جزء من أثر طويل عن عكرمة؛ أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10093).
(4)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10092).
{بَعْدَ أَيْمانِهِمْ؛} وأقرب إلاّ أن يخافوا أن تردّ عليهم أيمانهم بعد أيمان المسلمين، ويقال: أن يردّ الأيمان إلى المدّعين المسلمين بعد أيمان المدعى عليهم الكفّار.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ؛} أي اخشوه أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا أمانة، {وَاسْمَعُوا؛} أي أقبلوا الموعظة، {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} (108)؛أي لا يصلح أمر الخائنين عن طاعة الله.
روي عن مجاهد أنه أخذ بظاهر الآية وقال: (إذا مات المؤمن في السّفر، ولا يحضره إلاّ كافر، إن أشهدهما على ذلك، فإن رضي ورثته بذلك، وإلاّ حلف الشّاهدان أنّهما صادقان، فإن ظهرا أنّهما خانا، حلف اثنان من الورثة، وأبطلت أيمان الشّاهدين)
(1)
.وعن هذا قال شريح: (لا تجوز شهادة اليهوديّ والنّصرانيّ على المسلم إلاّ في السّفر، ولا يجوز في السّفر إلاّ على الوصيّة)
(2)
.
وذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ شهادة الكافر لا تقبل على المسلم بوجه من الوجوه؛ لأنه روي أنّ آية الدّين من آخر ما نزل من القرآن، وتلك الآية تقتضي جواز نسخ شهادة الكافر على المسلمين لا محالة؛ لأن قوله تعالى:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ}
(3)
يتناول المؤمنين؛ لأن الخطاب في تلك الآية يوجّه إليهم باسم الإيمان وهو قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
قوله تعالى: {*يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا؛} يعني يوم القيامة، ونصب {(يَوْمَ)} على إضمار اذكروا واحذروا، ويحتمل أنه انتصب بقوله {(وَاتَّقُوا اللهَ)،} والسّؤال للرسل توبيخ للذين أرسلوا إليهم، كما في قوله تعالى {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ}
(4)
إنما تسأل الموءودة لتوبيخ قاتلها.
وأما قول الرسل: {(لا عِلْمَ لَنا)،} فقال ابن عبّاس والحسن والسديّ ومجاهد: (إنّ هذا الجواب إنّما يكون في بعض مواطن القيامة، وذلك عند زفرة جهنّم، وجثوّ
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10096)،وبمعناه عن ابن عباس: الأثر (10103).
(2)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10099) بمعناه.
(3)
البقرة 282/.
(4)
التكوير 8/.
الأمم على الرّكب، لا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلاّ قال: نفسي نفسي، فعند ذلك تطير القلوب من أماكنها، فتقول الرّسل من شدّة هول المسألة وهول الموطن:
لا علم لنا)
(1)
{إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} (109)؛ترجع إليهم عقولهم، فيشهدون على قومهم أنّهم بلّغوهم الرسالة، وأنّ قومهم كيف ردّوا عليهم.
فإن قيل: كيف يصحّ ذهول العقل مع قوله تعالى {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}
(2)
قيل: إن الفزع الأكبر دخولهم جهنّم. وعن ابن عبّاس: (أنّ معنى: لا علم لنا؛ أي لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا، فحذف الاستثناء. وقيل: معناه: لا علم لنا بتفصيل الأمور.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ؛} معناه: واذكروا أيّها المؤمنون {(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى)،} ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ)} تقديره: إذ يقول الله: يا عيسى بن مريم، إلاّ أنه ذكره بلفظ الماضي لتقديم ذكر الوقت.
ومعنى الآية: أظهر منّتي عليك بالنبوّة وعلى أمّك بأن طهّرتها واصطفيتها على نساء العالمين؛ ليكون حجّة على من كفر وادّعاك إلها، فيكون ذلك حسرة وندامة عليهم يومئذ. والفائدة في ذكر أمّه: أنّ الناس تكلّموا فيها كما تكلّموا فيه.
ثم عدّ الله نعمة نعمة: {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ؛} أعنتك وقرّبتك بجبريل الطاهر حين حاولت بني إسرائيل قتلك، ويقال: أيّدتك به في الحجّة في كلّ أحوالك.
وقوله تعالى: {(يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)} انتصب {(ابْنَ مَرْيَمَ)} لأنه منادى مضاف؛ أي يا عيسى يا ابن مريم، قوله تعالى:{(اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)} معناه: اذكر نعمتي، لفظة واحدة ومعناها الجمع، كقوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها}
(3)
أي نعم الله، لأنّ العدد لا يقع على الواحد.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10114) عن ابن عباس، والنص (10110) عن السدي، والنص (10111) عن الحسن، والنص (10112 - 10113).
(2)
الأنبياء 103/.
(3)
ابراهيم 34/.
قوله تعالى: {تُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً؛} أي تكلّم الناس في حجر أمّك في حال صغرك، وتخاطبهم كهلا بعد ثلاثين سنة، على صفة واحدة واحدا واحدا، وذلك من أعظم الآيات.
ويقال: أراد بالمهد الذي يربّى فيه الطفل حين قال لهم وهو في المهد: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}
(1)
.قال الكلبيّ: (مكث في رسالته بعد ثلاثين سنة ثلاثين شهرا، ثمّ رفعه الله إليه)،وقيل: ثلاث سنين، ثم رفع إلى السّماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
قوله تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ؛} أي علّمتك كتب الأنبياء قبلك والفهم، ويقال: أراد بالكتاب الخطّ بالقلم، وأراد بالحكمة كلّ صواب منهنّ من قول أو فعل.
قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي؛} معناه: إذ تصوّر من الطين كشبه الخفّاش بأمري، {فَتَنْفُخُ فِيها؛} أي في الهيئة، {فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي؛} يطير بين السّماء والأرض بأمر الله، ويكون النفخ كنفخ الرّاقي.
قوله تعالى: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي؛} الأكمه: الذي ولد أعمى، والأبرص: الذي لا تعالجه الأطبّاء، وهو الذي إذا غرز الإبرة لا يخرج منه الدّم.
قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي؛} أي الموتى تخرجهم من قبورهم أحياء بإرادتي، والمراد بالإذن أنّ الله تعالى كان يأذن له في المسألة والدّعاء، فيقع ذلك عن الله.
قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ؛} معناه وإذ صنعت (صرفت) أولاد يعقوب عنك حين همّوا بقتلك، {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ؛} أي بالمعجزات الدالّة على رسالتك، {فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا؛} أي ما هذا
(1)
مريم 30/.
الذي يرينا عيسى، {إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} (110)؛سحر ظاهر. ومن قرأ «(ساحر مبين)» أراد به عيسى عليه السلام.
قوله عز وجل: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي؛} معناه: وإذ ألهمت الحواريّين وهم خواصّ عيسى، وألقيت في قلوبهم: أن صدّقوا بتوحيدي وبرسولي، {قالُوا آمَنّا؛} وصدّقنا، {وَاشْهَدْ؛} يا عيسى، {بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ} (111)؛أي مخلصون بالعبادة والتوحيد.
قوله عز وجل: {إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (112)؛كأنه قال:
اذكر نعمتي عليك إذ قال الحواريّون.
وقوله تعالى: {(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)} . قرأ الكسائيّ «(هل تستطيع ربّك)» بالتاء بإدغام ونصب الباء من ربّك، أي هل تقدر أن تسأل ربّك؟.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: (كان الحواريّون أعلم بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربّك؟)
(1)
وفيه ثلاثة أقوال:
أحدهم: أنّ هذا السؤال كان في ابتداء أمرهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله تعالى ولذلك أنكر عليهم عيسى عليه السلام فقال: {(اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)} لأنه لم يستكمل إيمانهم في ذلك الوقت.
والقول الثاني: أنّ معناه: هل يفعل ذلك كما يقول الرجل لآخر: هل تستطيع أن تقوم معي في أمر كذا؟ أي هل أنت فاعله؟
والقول الثالث: أنّ معناه: هل يستجيب لك ربّك؟ وهل يطيعك إن سألته؟ كما تقول: استجاب بمعنى أجاب.
والحواريّون: خواصّ أصحاب عيسى عليه السلام. قال الحسن: (كانوا قصّارين) وقال مجاهد: (كانوا صيّادين) وقيل: كانوا ملاّحين. وقال قتادة: (الحواريّون: الوزراء) وقال عكرمة: (هم الأصفياء) وكانوا اثنى عشر رجلا.
(1)
أخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10117).
قوله تعالى: {قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا؛} أي قال الحواريّون: نريد بما سألناك أن نأكل من المائدة، وتسكن قلوبنا بما جئتنا به من المعجزات، {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا؛} بأنّك رسول الله، وقيل: صدقتنا في دعائك، وفيما دعوتنا من كفاية الله تعالى إيانا، {وَنَكُونَ عَلَيْها؛} على المائدة؛ {مِنَ الشّاهِدِينَ} (113)؛إذا رجعنا إلى قومنا.
قوله تعالى: {قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا؛} أي قال عيسى: يا الله، إلاّ أنه أقيم الميم في آخره مقام النداء في أوّله، وقوله:{(أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)} أي طعاما، {(تَكُونُ لَنا عِيداً)} أي نتّخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة يوم سرور لأزماننا ولمن يكون خلفنا. وروي:
(أنّ نزول المائدة كان في يوم الأحد، فاتّخذت النّصارى ذلك اليوم عيدا).وقرأ زيد ابن ثابت: «(لأولانا وأخرانا)» .
وقوله تعالى: {وَآيَةً مِنْكَ؛} أي تكون المائدة دلالة وحجة لمن آمن على من كفر، {وَارْزُقْنا؛} أي اجعل ذلك رزقا لنا، وقيل: ارزقنا الشّكر عليه، {وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} (114)؛وأنت أفضل المعطين والموفّقين.
قوله تعالى: {قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ؛} أي قال الله: يا عيسى إنّي منزل المائدة عليكم. قرأ أهل المدينة والشام وقتادة وعاصم: «(منزّلها)» بالتشديد؛ لأنها نزلت مرارا، والتفعيل يدلّ على التكثير مرّة بعد مرّة كقوله تعالى {وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً}
(1)
.
وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله: «(أنزل علينا)» .
قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} (115)؛أي فمن يكفر بعد نزول المائدة، وقيل: بعد ما أكل من المائدة، فإنّي أعذّبه بجنس من العذاب لا أعذّب أحدا من عالمي زمانهم بذلك العذاب، وهو أن جعل الله من كفر منهم بعد نزول المائدة خنازير. وقيل: أراد بهذا عذاب الآخرة، كما روي عن ابن عمر أنه قال (أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون، ومن
(1)
الاسراء 106/.
كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون)
(1)
.
وروي عن ابن عبّاس في سبب نزول المائدة: (أنّ عيسى كان إذا خرج اتّبعه خمسة آلاف رجل أو أكثر من أصحابه الّذين يقتدون به، وأهل الزّمانة والمرضى والبطارة، فسلك بهم ذات يوم القفار، ففني طعامهم وجاعوا جوعا شديدا، فأعلم النّاس تلاميذه الحواريّين قالوا: إن كان صاحبكم حقّا فليدع ربّه ينزّل علينا مائدة من السّماء، فكلّمه في ذلك رجل من الحواريّين يقال له: شمعون الصّفّار، فقال: قل لهم يتّقوا الله ولا يسألوا لأنفسهم البلاء، فإنّهم إن كفروا بعد نزولها عاقبهم الله.
فأخبرهم شمعون بذلك، فقالوا:{(نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا)} .
فقام عيسى عليه السلام فصلّى ركعتين، فأوحى الله إليه:{(إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)،} ثمّ أنزل الله مائدة من السّماء فوقها منديل، والنّاس ينظرون إليها وعيسى يبكي، حتّى استقرّت المائدة بين يدي عيسى وهو يقول: اللهمّ اجعلها رحمة، ثمّ كشف المنديل وقال: بسم الله، فإذا على المائدة سمكة مشويّة لا شوك فيها، والودك يسيل منها، والخلّ عند رأسها، والملح عند ذنبها، وعليها أربعة أرغفة، وعليها البقول إلاّ الكرّاث-قال عطيّة:
(كان في السّمكة طعم كلّ شيء).
فقال لهم عيسى: كلوا من رزق ربكم، فأكلوا منها، ورجعت المائدة كما كانت، فلمّا فرغ القوم إلى قرارهم، وبشّروا هذا الحديث لسائر النّاس، ضحك من لم يشهد، وقال: ويحكم! إنّه قد سحر أعينكم وأخذ بقلوبكم. فمن أراد الله به الخير ثبّته على الصّبر، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، فلعنهم عيسى فباتوا ليلتهم، ثمّ أصبحوا خنازير ينظر النّاس إليهم، الذكر ذكر والأنثى أنثى ويلعنوهم، فمكثوا كذلك ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا، ولم يتوالدوا ولا طعموا ولا شربوا)
(2)
.
(1)
ذكره ابن عطية في المحرر الوجيز: ص 598.والبغوي في معالم التنزيل: ص 408.والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 369.
(2)
الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 369 - 371.وفي الدر المنثور: ج 3 ص 232 - 234؛ قال: «أخرجه الحكيم الترمذي في نوادره وابن أبي الشيخ في العظمة وأبو بكر الشافعي في فوائده المعروفة بالغيلانيات. وذكره بمعناه».
وقال بعضهم: لمّا دعا عيسى ربّه أن ينزّل عليهم مائدة من السّماء، أقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخرهم كما أكل أوّلهم.
وقال الكلبيّ: (دعا عيسى عليه السلام شمعون الصّفّار، وكان أفضل الحواريّين، فقال: هل معك طعام؟ قال: نعم؛ معي سمكتان وسبعة أرغفة، قال: عليّ بها، فقطّعها عيسى قطعا صغارا، ثمّ قال: اقعدوا وترافقوا رفقة، كلّ رفقة عشرة، ثمّ قام عيسى فدعا الله فاستجاب له، وأنزل فيه البركة، فصار خبزا صحاحا وسمكا صحاحا، ثمّ قال: كلوا بسم الله، فجعل الطّعام يكثر حتّى بلغ ركبهم، فأكلوا كلّهم وفضل شيء كثير.
وكان النّاس يومئذ خمسة آلاف ونيّفا، فقال النّاس جميعا: نشهد أنّك عبد الله ورسوله. ثمّ سألوه مرّة أخرى، فدعا عيسى فأنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة وسمكتين، فصنع بها ما صنع بالمرّة الأولى، فلمّا رجعوا إلى بيوتهم ونشروا هذا الحديث، ضحك منهم من لم يعاين ذلك، وقالوا لهم: إنّما سحر أعينكم، فمنهم من ثبّته الله تعالى على بصيرته، ومنهم من رجع إلى كفره، فمسخوا خنازير)
(1)
.
وعن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال: (لمّا سألت الحواريون عيسى أن ينزّل عليهم مائدة، لبس صوفا وبكى؛ وقال: اللهمّ أنزل علينا مائدة من السّماء، وارزقنا عليها طعاما نأكله وأنت خير الرّازقين، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من فوقها، وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها منقضّة تهوي حتّى نزلت بين أيديهم.
فبكى عيسى وصلّى وقال: اللهمّ اجعلني من الشّاكرين، واليهود ينظرون إليها لم يروا مثله قط، ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه. فقام عيسى فتوضّأ وصلّى ركعتين صلاة طويلة، وبكى كثيرا.
وكشف المنديل عنها وقال: بسم الله خير الرّازقين، فإذا هي سمكة طويلة مشويّة ليس عليها فلوسها
(2)
ولا شوك فيها، تسيل سيلا من الدّسم، وعند رأسها
(1)
ينظر: اللباب في علوم الكتاب للحنبلي: ج 7 ص 636.
(2)
في الدر المنثور: ج 3 ص 233: «ليس عليها بواسير» .
ملح وعند ذنبها خلّ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الآخر عسل، وعلى الثّالث بيض، وعلى الرّابع خبز، وعلى الخامس قديد.
فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الآخرة، فقالوا: لا من طعام الدّنيا ولا من طعام الآخرة، ولكنّه شيء أنشأه الله بقدرته العالية، فكلوا ممّا سألتم يمددكم ربّكم ويزيدكم من فضله، فقالوا: يا رسول الله لو أريتنا آية أخرى؟
فقال عيسى عليه السلام: يا سمكة احيي بإذن الله، فاضطربت السّمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها، ففزعوا من ذلك. فقال: ما لكم تسألون أشياء فإذا أعطيتموها كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعذبوا، يا سمكة عودي كما كنت بإذن الله تعالى، فعادت مشويّة كما كانت.
فقالوا: يا روح الله كن أنت أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن، فقال: معاذ الله أن آكل منها، ولكن يأكل منها من سألها. فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا عيسى أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين، فقال: كلوا من رزق الله لكم المهنأ ولغيركم البلاء، فأكلوا منها فصدر عنها ألف وثلاثمائة من رجل وامراة وفقير وزمن وأبرص ومبتلى كلّهم شبعان يتجشّأ.
ثمّ نظر عيسى إلى السّمكة فإذا هي كهيأتها، وطارت الملائكة بالمائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منهم زمن إلاّ صحّ، ولا مريض إلاّ برأ، ولا مبتلى إلاّ عوفي، ولا فقير إلاّ استغنى ولم يزل غنيّا حتّى يموت، وندم من لم يأكل منها من الحواريّين.
وكانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والضّعفاء والكبار والصّغار والرّجال والنّساء، يزدحمون عليها، فلمّا رأى ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل صبحا، فلا تزال منصوبة يأكلون منها حتّى إذا فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظرون، وكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما، يعني كانت تنزل غبّا كناقة صالح عليه السلام، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون
الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكوا وشكّكوا النّاس فيها، وقالوا: ترون المائدة حقّا نزلت من السّماء؟!
فقال لهم عيسى عليه السلام: هلكتم بعذاب الله تعالى، فأوحى الله إليه: أنّي شرطت على المكذّبين شرطا أنّ من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين.
فقال عيسى: إن تعذّبهم فإنّهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم.
فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم، فأصبحوا في ديارهم خنازير يسعون في الطّرقات والكناسات، ويأكلون العذرة، فلمّا رأى النّاس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام، وبكى على الممسوخين أهلوهم، فلمّا أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى، وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا، فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيّام وهلكوا)
(1)
.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؛} أوّل هذه الآية معطوف على قوله: {(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)} ويجوز أن يكون عائدا على ما تقدّم من قوله:
{(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ)} كأنه قال: إذ يقول الله يوم القيامة، وفي آخر السّورة ما يدلّ على هذا، وهو قوله تعالى:{(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)} وذكر اللفظ على صيغة الماضي؛ لتحقّق أمره كأنه قد وقع وشوهد، ونظيره {وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ}
(2)
وقوله: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ}
(3)
أي سيقول.
وقال السديّ وقطرب: (إنّ الله تعالى قال لعيسى عليه السلام هذا القول حين رفعه)،واحتجّا بقوله:{(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)،} ولا خلاف أنّ الله لا يغفر لمشرك مات على شركه، وإنما معنى الآية: وإن تغفر لهم بتوبتهم.
(1)
أخرجه الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة: ذكر المائدة وصفتها: ص 363:الحديث (1011/ 1) مع تغاير في بعض الألفاظ.
(2)
الأعراف 44/.
(3)
ابراهيم 22/.
وقال أكثر المفسّرين: إنّما يقول الله تعالى هذه المقالة يوم القيامة، بدليل ما ذكرنا من قوله:{(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ)،} {(يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)،} فإن قالوا (إذ) للماضي، قلنا قد تكون بمعنى (إذا) كقوله:{وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ}
(1)
أي إذا فزعوا.
قوله تعالى: {(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ)} يعني أأنت قلت لهم في الدّنيا: {(اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ)} ؟ فإن قيل: ما وجه سؤال الله تعالى لعيسى مع علمه بأنه لم يقل؟ قيل: ذلك توبيخ لقوم عيسى وتحذير لهم عن هذه المقالة. وقيل: أراد الله بذلك أن يقرّ عيسى بالعبوديّة على نفسه، فيظهر منه تكذيبهم بذلك، فيكون حجّة عليهم.
قال أبو روق وميسرة: (إذ قال الله لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ}؟ ارتعدت مفاصله، وانفجرت من كلّ شعرة من جسده عين من الدّم)
(2)
.
ثمّ يقول عيسى عليه السلام مجيبا الله عز وجل: {قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ؛} أي تنزيها لك يا رب، ما ينبغي لي أن أدّعي شيئا لست بجدير له، {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي؛} عندي وما في ضميري، وما كان منّي في الدّنيا، {وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ؛} غيبك، {إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ} (116)؛لا يعلم الغيب أحد غيرك. وقيل: معناه: تعلم ما أريد، ولا أعلم ما تريد، {(إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ)} أي ما كان وما يكون.
وأمّا ذكر النفس في قوله: {(وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)} فعلى من أوجه الكلام: بأن الغيب من الله تعالى في حكم الضمير من الآدميّين، والنّفس في كلام العرب على ضروب؛ تذكر ويراد بها ذات الشيء، كما يقال: جاءني زيد نفسه؛ أي ذاته، وقتل فلان نفسه، وأهلك فلان نفسه، ويراد بذلك الذات بكمالها. وتذكر ويراد بها الروح،
(1)
سبأ 51/.
(2)
ينظر: الجامع لأحكام القرآن: ج 6 ص 375، بلفظ قريب منه. وأخرجه الطبري في جامع البيان: النص (10147) عن ميسرة. وفي الدر المنثور: ج 3 ص 238؛ قال السيوطي: «أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ» .
كما يقال: خرجت نفس فلان؛ أي روحه. وتذكر ويراد بها ما في القلب، كما يقال:
أضمر فلان ما في نفسه كذا وكذا.
فإذا احتمل اللفظ هذه الوجوه كلّها وجب حمل الآية على أصحّ الوجوه؛ لقيام الدّلالة على وجوب تنزيه صفات الله تعالى عما لا يجوز. ولو كانت النفس لا تستعمل إلاّ في أمر كائن في غيره لوجب في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها}
(1)
أن يقال: إن النفس نفسا، فإذا بطل ذلك صحّ أن المراد به الجملة والذات، كأنه قال: يوم يأتي كلّ أحد يجادل عن نفسه، فكان المراد بقوله:{(وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)} جملة الأمر، وحقيقة ما عند الله تعالى.
فإن قيل: ليس في النّصارى من اتخذ مريم إلها فما معنى هذا القول؟ قيل: إن لم يكن فيهم من يقول هذا القول اليوم، فلا بدّ أن يكون فيهم من قال ذلك؛ لأن هذه الآية تدلّ على أنّهم قد قالوا ذلك، وتصديق لكتاب الله تعالى أوجب من التصديق لنقل ناقل.
قوله عز وجل: {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ؛} أي ما قلت لهم شيئا إلاّ القول الذي أمرتني به، {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ؛} أي وحّدوه وأطيعوه، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ؛} معناه:
فلمّا قبضتني إليك من بينهم، ورفعتني إلى السّماء كنت أنت الحفيظ عليهم، {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (117)؛من مقالتي ومقالتهم، مطّلع عالم مشاهد.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله: {(فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي)} أمتّني، وقالوا: إنّ عيسى ليس بحيّ في السّماء. إلاّ أنّ القول الأول أشهر، ويحتمل أنّ الله تعالى أماته، ثم أحياه ورفعه إلى السّماء.
وقال الحسن: (الوفاة في كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: وفاة الموت كقوله تعالى {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها}
(2)
،ووفاة النّوم كقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي}
(1)
النحل 111/.
(2)
الزمر 42/.
{يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ}
(1)
أي ينيمكم، ووفاة الرّفع كقوله:
{يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}
(2)
.
قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ؛} قرأ الحسن: «(عبدك)» ،قيل:
معناه التبعيض؛ أي إن تعذّب الذين أقاموا على الكفر فإنّهم عبادك، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ؛} للّذين أسلموا وتابوا، {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (118)؛لأنه قال:
{(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ)،} وما قلت لهم، وفيهم المسلمون والمشركون، فقوله:{(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ)} راجع إلى الكافرين، وقوله:{(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ)} راجع إلى المؤمنين.
وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما في معنى هذه الآية: (وإن تعذّبهم على هذه المقالة الّتي أجزموها فإنّهم عبادك، وإن يتوبوا فتغفر لهم)
(3)
.قوله: {(فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)} أي المنيع في مغفرتك لهم لا يمنعك أحد مما تريد، الحكيم في أمرك.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي سؤال المغفرة للكفّار، والله لا يغفر أن يشرك به، فما معنى هذا السؤال؟ قيل: يحتمل أنه لم يكن في كتابه: إنّ الله لا يغفر أن يشرك به، ويحتمل أن يكون معناه: إن تغفر لهم كذبهم الذي قالوا عليّ.
وقيل: إنّ عيسى علم أنه منهم من آمن، ومنهم من أقام على الكفر، فكأنه قال:
إن تعذّب الكفار منهم فإنّهم عبادك، وأنت القادر عليهم، وإن تغفر لمن تاب منهم فذلك تفضّل منك؛ لأنه كان لك أن لا تفعل ذلك بهم بعد عظيم فريتهم عليك، وكان هذا القول من عيسى عليه السلام على وجه الخضوع والانقياد والاستسلام على معنى أنّك أنت المالك والقادر على كلّ شيء، فلذلك قال:{(فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)،} ولو كان قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لأوهم الدعاء بطلب المغفرة والرحمة.
(1)
الأنعام 60/.
(2)
آل عمران 55/.
(3)
في الدر المنثور: ج 3 ص 241؛ قال السيوطي: «أخرجه أبو الشيخ، وذكره بمعناه» .
وروي: أنه لمّا نزلت هذه الآية، أحيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته بها، وكان بها يقوم وبها يقعد وبها يسجد، ثمّ قال:[أمّتي أمّتي يا رب]،فنزل عليه جبريل فقال: إنّ الله تعالى يقرؤك السّلام ويقول لك: [إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك]
(1)
.
قوله عز وجل: {قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ؛} من قرأ «(يوم)» بالرفع فمعناه: قال الله لعيسى عليه السلام هذا يوم ينفع النبيّين صدقهم بتبليغ الرسالة، والمؤمنين إيمانهم الذي هو صدق في الدنيا والآخرة، ولا ينفع الكفار صدقهم في الآخرة.
ومن قرأ «(يوم)» بالنصب فعلى الظرف، على معنى: قال الله لعيسى هذا القول الذي تقدّم ذكره في يوم ينفع الصادقين صدقهم. وقال الكلبيّ: (معنى الآية: قال الله:
هذا يوم ينفع المؤمنين إيمانهم)،وقيل: ينفع الصّادقين في الدّنيا صدقهم وفي الآخرة.
وقرأ الأعمش «(هذا يوم)» بالتنوين.
قوله تعالى: {لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ؛} أي بساتين تجري من تحت شجرها وغرفها الأنهار، {خالِدِينَ فِيها أَبَداً؛} أي إلى الأبد، {رضي الله عنهم؛} بإيمانهم وطاعتهم، {وَرَضُوا عَنْهُ؛} بإكرامهم في الجنّة النجاة الوافرة.
وحقيقة الفوز نيل المراد. قوله عز وجل: {(وَرَضُوا عَنْهُ)} أي بما أكرمهم به من الثواب، {ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (119)؛أي ذلك الثواب والخلود في الجنّة النجاة الوافرة، وحقيقة الفوز نيل المراد.
قوله عز وجل: {لِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ؛} أي لله خزائن السّماوات والأرض، وما فيهنّ من الخلق، يعطي من شاء ما شاء، ويغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء، {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (120)؛مما يريد بعباده من المغفرة والعذاب قادر.
والغرض من هذه الآية نفي الرّبوبية عن عيسى عليه السلام، وبيان أنّ الله تعالى هو المستحقّ للعبادة دون غيره، فإنه هو القادر على كلّ شيء من الجزاء؛ ترغيبا في الطاعة؛ وتحذيرا عن المعصية.
(1)
أخرجه مسلم في الصحيح: كتاب الإيمان: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: الحديث (202/ 346).
وعن أبيّ بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:[من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كلّ يهوديّ ونصرانيّ يتنفّس في الدّنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات]
(1)
.
آخر تفسير سورة (المائدة) والحمد لله رب العالمين
آخر المجلد الثاني من التفسير الكبير للإمام الطبراني
(1)
أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات من حديث أبي بن كعب.