المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ … } - تفسير الشعراوي - جـ ٦

[الشعراوي]

الفصل: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ … }

{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ

}

ص: 3577

عندما ننظر إلى قول الحق: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ، هنا لا نجد جواباً، مثل ما تجده في قولك: لو رأيت فلاناً لرحبت به أو لو رأيت فلاناً لعاقبته. إن في كلٍّ من هاتين الجملتين جواباً، لكن في هذا القول الكريم لا نجد جواباً، وهذا من عظمة الأداء القرآني، فهناك أحداث لا تقوى العبارات على أدائها، ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى مذاهبه التي يراها.

وفي حياتنا نجد مجرماً في بلد من البلاد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلاً وتعذيباً وسرقة واعتداءات، ولا أحد يقدر عليه أبداً، ثم يمكن الله لرجال الأمن أن يقبضوا عليه، فنرى هذا القاتل المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى لا يضع القيود في يديه. ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للآخرين قائلاً: آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا المجرم، وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع، إذن فحذف الجواب دائماً ترتيب لفائدة الجواب، ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب. لأن المشاهد لو شاء لحكى ما حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى هو، ويحجب بذلك تخيّل وتصوّر السامعين.

أما اكتفاء المشاهد بقوله: آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم. . فهذا القول يعمم ما يُرى حتى يتصور كل سامع من صور الإذلال ما يناسب قدرة خياله على التصور. وهكذا أراد القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق «لو» بلا جواب حين قال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام:‌

‌ 27]

.

ص: 3577

وقد أراد البعض أن يتصيد لأساليب القرآن، ومنهم من قال: كيف تقولون إن القرآن عالي البيان، فصيح الأسلوب، معجزة الأداء، وهو يقول ما يقول عن شجرة الزقوم؟

إن القرآن الكريم يقول عن هذه الشجرة: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 62 - 65] .

إن كل شجرة تحتاج إلى ماء وهواء، وفيها حياة تظهر باخضرار الأوراق، فكيف تخرج هذه الشجرة من النار، أليس في ذلك شذوذ؟ ثم تتمادى الصورة. . صورة الشجرة، فيصف الحق ثمارها بقوله الحق:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} [الصافات: 65 - 66] .

نحن لم نر شجرة الزقوم، ولم نر رأس الشيطان. ويَسْخَرُ الذين يتصيدون للقرآن في أقوالهم: بما أن أحداً من البشر لم يشهد رأس الشيطان، وكذلك شجرة الزقوم، فكيف يشبه الله المجهول بمجهول، وتساءلوا بطنطنة: ماذا يستفيد السامع من تشبيه مجهول بمجهول؟ ونقول رداً عليهم: إن غباء قلوبكم وفقدان طبعكم لملكة اللغة العربية هو الذي يجعلكم لا تفهمون ما في هذا القول من بلاغة.

وحين نقرب المثل نقول: هب أن إنساناً أقام مسابقة بين رسامي «الكاريكاتير» في العالم ليرسم كل منهم صورة للشيطان، ويوم تحديد الفائز ستوجد أكثر من صورة للشيطان، وستفوز أكثر الصور بشاعة، ذلك أن الفوز هنا ليس في الجمال، ولكن الفوز هما في مهارة تصوير القبح. وهكذا تتعدد أمامنا صور القبح، فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وقد أراد إطلاق الخيال لتصور شجرة الزقوم، وكذلك تصور رأس الشيطان؟ أراد الحق بهذا الأسلوب البليغ إشاعة الفائدة من إظهار بشاعة صورة الشجرة التي يأكل منها أهل الكفر.

وكذلك هنا قوله الحق: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} والذي يحدث لهؤلاء

ص: 3578

الوقوف على النار لا يأتي خبره هنا، بل يكتفي الحق بأن يعبر لنا عن أننا نراهم في مثل هذا الموقف؛ لأن اليوم الاخر هو يوم الجزآء؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار. والجنة - كما نعلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم َ - إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ونعلم أن رؤية العين محدودة، ورقعة السمع أكثر اتساعاً، ذلك أن الأذن تسمع ما تراه أنت وما رآه غيرك، لكن عينيك لا تريان إلا ما رأيته أنت بمفردك، ولا يكتفي الحق بذلك بل يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم َ أن في الجنة ما لا يخطر على قلب بشر، أي أن في الجنة أشياء لا تستطيع اللغة أن تعبر عنها؛ لأن اللغة تعبر عن متصورات الناس في الأشياء. والمعنى يوجد أولاً ثم يوجد اللفظ المعبر عنه.

وهكذا نعلم أن ما في الجنة من نعيم لا توجد ألفاظ تؤدي كل ما تحمله للمؤمن من معان، وكذلك نعلم أيضاً أن في النار عذاباً لم توضع له ألفاظ لتعبر عنه. ولو أن الحق سبحانه وتعالى قال:{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} لرأينا أمراً مفزعاً مخيفاً مذلاً إلى آخر تلك الألفاظ الدالة على عمق العذاب لما أعطي ذلك الأثر نفسه الذي جاء به حذف الجواب.

وعندما نقرأ «وُقِفوا» نعرف أن فيه بناء وكيانا موجوداً، وأن هناك من أوقفهم على النار، وهم كانوا مكذبين في الدنيا بالنار، ثم وجدوا أنفسهم يوم القيامة ضمن من وقفهم الله على النار ليروا العذاب الذي ينتظرهم، ويطلعوا على النار اطلاع الواقف على الشيء، كذلك يوقفهم الحق على النار التي أنكروها في الدنيا؛ فقد جاءهم الخبر في الدنيا، فمن صدق وعلم أن من أخبره صادق، فذلك علم يقين، وإن تجاوز الإنسان مرحلة العلم ورأى صورة محسة للخبر، فهذا عين يقين، والمؤمن بإخبار ربه وصل إلى الأشياء بعلم اليقين من الله، لأنه يصدق ربه، ولذلك فالإمام علي - كرم الله وجهه - يقول:«لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقيناً» ؛ لأنه مصدق بلاغى به.

لكن ماذا عن المكذبين؟ إن الإنسان يرى علم اليقين في اليوم الآخر وهو عين يقين، ويشترك في ذلك المؤمن والكافر. ولكن الكافر يرى النار عين اليقين ويدخلها ليحترق بها فيحس بها وهذا هو «حق اليقين» .

ص: 3579

هكذا نعلم أن النار «عين اليقين» يراها المؤمن والكافر، والنار ك «حق اليقين» يعانيها ويعذب بها الكافر فقط، أما المؤمن في الجنة فيحس «حق اليقين» لأنه يعيش ويسعد بنعيمها. ويصور سبحانه ذلك في قوله:{كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 5 - 7] .

وجاء حق اليقين في قوله تعالى: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88 - 95] .

وماذا يصنعون وهم المكذبون عندما يرون النار عين اليقين؟ لا بد أنهم يخافون أن يعانوا منها عندما تصبح حق اليقين، لذلك يقولون:{ياليتنا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27] .

إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا الإيمان. والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير الممكن للإشعار بأن طالبه يحب أن يكون، كقول القائل:

ألا ليت الشباب يعود يوماً

فأخبره بما فعل المشيب

أو قول القائل:

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها

عقود مدحٍ فما أرضى لكم كلمى

ص: 3580

وهم قالوا: {ياليتنا نُرَدُّ} فإن كانوا قالوا هذا تمنياً فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضاً وعداً بعد التكذيب بآيات الله، فهل هم قادرون على ذلك؟

لا؛ لأن القرآن الكريم قد قال في الآية التالية: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ

}

ص: 3581

إنهم يطلبون العودة إلى الدنيا لا لينفذوا الوعد في طلبهم المستحيل؛ لأنهم سيفعلون مثلما فعلوا من قبل، كفراً ونكراناً وجحوداً. إنهم لجأوا إلى هذا القول من فرط الخوف مما أعده الله لهم. بعد أن ظهر لهم كل ما كانوا يفعلونه في الدنيا من كفر وجحود. ويقال عن يوم القيامة «يوم الفاضحة» ؛ لأن كل إنسان سيجد كتابه في عنقه، ويقال له:{اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] .

فإذا كنا في الدنيا نسجل الأحداث بالصوت والصورة فما بالنا بتسجيل الحق لنا؟ ويرى الإنسان مَكْرَه يوم القيامة بالصوت والصورة، وكل فعل فعله سيراه بطريقة لا يمكن معها أن ينكره، وكأن الحق يوضح لكل عبد: أنا لن أحاسبك بل سأترك لك أن تحاسب نفسك. ويفاجأ الإنسان أن جوارحه تنطق لتشهد عليه: الأيدي تنطق بما فعل، واللسان ينطق بما قال، والقدم تحكي إلى أين ذهب بها صاحبها، فهذه الجوارح التي كانت تنفعل لمراد صاحبها في الدنيا، يختلف موقفها في الآخرة ولا تنفذ في اليوم الآخر مراد الإنسان بل مراد من أعطى الإنسان المراد. {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .

مثال ذلك - ولله المثل الأعلى - نجد السرية أو الكتيبة المقاتلة لها قائد يحكم

ص: 3581

الجنود، فإن أعطاهم أوامر خاطئة فهم ينفذونها، وبعد انتهاء المعركة يسألهم القائد الأعلى، فيقولون سلسلة الأوامر الخاطئة التي أصدرها قائدهم المباشر.

فإياك أن تظن أيها الإنسان أن أبعاضك مؤتمرة بقدرتك عليها دائما، إن سيطرتك عليها أمر منحك الله إياه، ويسلبه منك متى شاء في الدنيا. ويأتي يوم القيامة لتنتهي سيطرتك على الأبعاض. وأنت ترى في الدنيا بعضاً من صور سلب السيطرة على الأبعاض لتتذكر قدرة الواهب الأعلى؛ فأنت ترى من لا يرى، وترى من فقد السيطرة على جارحة أو أكثر من جوارحه، وذلك تنبيه من الله على أن سيطرة الإنسان على الجوارح إنما هي أمر موهوب من الله. وقول الحق سبحانه عن الكافرين:{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} يفضح تدليسهم في الحياة الدنيا، ثم يجيب الله على تمنيهم السابق المليء بالذلة والمسكنة، التمني بالعودة إلى الدنيا، فيقول سبحانه:{وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .

فهم كاذبون في الوعد بأن يؤمنوا لو عادوا إلى الدنيا، يوضح ذلك قول الحق سبحانه: {وقالوا إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا

}

ص: 3582

إنهم لم يأخذوا في أثناء حياتهم الإيمان كإيمان استدلال بكوْن منظم مرتب محكم التكوين، إنهم لم يلتفتوا إلى أن هذا النظام أو الإحكام والترتيب موجود في علاقات البشر بعضهم ببعض سواء أكانوا مؤمنين أم ملاحدة، ونعلم أن هناك صفات يشترك في كراهتها كل الناس مؤمنهم وملحدهم؛ فالملحد إن سرق من زميله، ألا يعاقب؟ إنه يتلقى العقاب من مجتمعه، وفي كل المجتمعات هناك ثواب وعقاب، بل هناك جزاء بإحسان. والإيمان لا يمنع أن يصطلح الناس على شيء من الإحسان، والمحرومون من الإيمان تلجئهم الأحداث أن يضعوا القانون لينظموا الثواب والعقاب.

إننا نجد أن تجريم المخالف للخير والجمال وإصلاح الكون هو أمر فطري

ص: 3582

وضروري للإنسان؛ فهم يجرمون أفعال السوء بعد أن تعضهم الأحداث ولا يلتفتون إلى أن المنهج السماوي جاء بالثواب والعقاب على كل فعل يحمي كرامة الإنسان. ويوم القيامة يقفون في صَغار وفي اضطرار ليروا ما فعلوا: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] .

فهم لو رُدُّوا إلى الدنيا بما كان لهم فيها من اختيار فسيفعلون مثلما فعلوا، ولم يقولوا مثل هذا القول في اليوم الآخر إلا أنهم مقهورون. وكانوا من قبل يقولون:{وقالوا إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] .

ففي دنياهم كانوا لا يؤمنون إلا بحياة واحدة هي الدنيا. ولم يلتفتوا إلى أن الإنسان يحيا في الدنيا على قدر قوته، وويل للضعيف من القوي. والقوي إنما يخاف من قانون يعاقبه، أو يخاف من إله سيعاقبه على الذنب مهما أخفاه، ولذلك نجد القاضي المؤمن يقول دائماً: لئن عمَّيتم على قضاء الأرض، فلا تعمّوا على قضاء السماء.

ومن غباء أهل الكفر أنهم يسمون الحياة على الأرض «الحياة الدنيا» وهي في حقيقتها دنيا، وما داموا قد حكموا وعرفوا أنها «دنيا» فلا بد أن يقابلها حياة عليا. إنّ كل ذلك يحدث لهم عندما يقفون على النار، والنار جند من جنود الجبار، فما بالك بهم حين يقفون أمام خالق النار ورب العالمين؟

ويقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ

}

ص: 3583

هم - إذن - قد خافوا وارتبكوا وطلبوا العودة للحياة الدنيا؛ لأن ما شاهدوه هول كبير، فما بالك إذا وقفوا على الله؟ إنه موقف مرعب. وإذا كان الحق قد حذف من قبل الجواب عندما أوقفهم على النار؛ فالأولى هنا أن يحذف الجواب، حتى يترك للخيال أن يذهب مذاهب شتى. . إنه ارتقاء في الهول.

وهكذا نرى التبكيت لهم في قول الحق: {أَلَيْسَ هذا بالحق} إنهم يفاجأون بوجود إله يقول لهم بعد أن يشهدوا البعث ويقفوا على النار: {أَلَيْسَ هذا بالحق} ؟ وسبحانه وتعالى لا يستفهم منهم ولكنه يقرر، وقد شاء أن يكون الإقرار منهم، فيقولون:«بلى» لأن الأمر لا يحتاج - إذن - إلى مكابرة. و «بلى» حرف يجعل النفي إثباتاً.

ويطرح الحق هذه المسألة بالنفي حتى لا يظن ظان أن هناك تلقيناً للجواب. ويصدر حكم الحق: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} وهكذا يذوقون العذاب الذي كانوا به يكذبون. وذوْق العذاب ليس من صفة القهر والجبروت؛ لأن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولكن بسبب أنهم قدموا ما يوجب أن يعذبوا عليه.

ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ

}

ص: 3584

إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده، لكن أن يكون العمل قد أضاع المال، فهذا يعني الخسارة مرتين: مرة لأن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فنى وذهب وضاع، وثانية لأن هناك جهداً من الإنسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال.

ص: 3584

إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء الله؛ لأنهم باعوا الآجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر. وكل إنسان منا يريد أن يثمّر عمله ويحاول أن يعطي قليلاً ليأخذ كثيراً.

وعلى سبيل المثال نجد الفلاح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في الأرض بعد أن تُحرث. وهذا يعني النقص القليل في مخزن هذا الفلاح، ولكنه نقص لزيادة قادمة؛ فعندما وضع البذور في الأرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافاً مضاعفة. والفلاح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الآجل الكبير.

وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته، فإن أراد أن يزيد الثمار من حركته، فعليه أن يبذل الجهد. أما إن كانت الحركة لا تأتي له إلا بالقليل فلن يتحرك. ولأن العاقل لا يحب الخسارة نجده يوازن دائماً ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه. أما الذين كفروا بلقاء الله فهم قد خسروا أنفسهم، لأنهم لم يوازنوا بين حياتين: حياة مظنونة، وحياة متيقنة؛ لأن مدة حياتنا الدنيا مظنونة غير متيقنة.

إننا لا نعرف كم ستحيا فيها؛ فمتوسط عمر الإنسان على الأرض هو سبعون عاماً على سبيل المثال، ولكن أحداً لا يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط، وله أجل محدود. إنه فان وذاهب وميّت، ولكن حياة الآخرة متيقنة لا أجل لها، إنها دائمة، ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للإنسان هو على قدر الأسباب الموجودة لديه، أما نعيم الآخرة فهو على قدر طلاقة قدره المسبب وهو الله، وعلى هذا تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية؛ لأنهم لم يتاجروا مع الله. {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] .

ونعلم أن «حتى» هي جسر بين أمرين؛ فالأمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية، كقول إنسان ما:«سرت حتى وصلت المنزل» ، والمنزل هنا هو غاية السير.

ص: 3585

والذين كفروا، كان كفرهم وتكذيبهم موصلاً إلى الخسران، فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية المطاف، ولكنه وصول إلى أول الخسران؛ لأن خسرانهم لا ينتهي من فور مجيء الساعة، ولكنه يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم. فهم يفاجأون بوقوع ما كانوا يكذبون به. ويعلمون جيداً أن ما صنعوه في الدنيا لا يستوجب إلا العذاب.

وهنا تبدأ الحسرة التي لا يقدرون على كتمانها، ولذلك يقولون:{ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} . . أي على تفريطنا وإسرافنا في أمرنا وذلك في أثناء وجودنا في الدنيا. وبذلك نعرف أن عدم التفريط في الدنيا والأخذ بالأسباب فيها أمر غير مذموم، ولكن التفريط في أثناء الحياة الدنيا هو الأمر المذموم؛ لأنه إضاعة للوقت وإفساد في الأرض.

إنني أقول ذلك حتى لا يفهم أحد أن الاستمتاع في الدنيا أمر مذموم في حد ذاته، وحتى لا يفهم أحد أن الآخرة هي موضوع الدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين أيضاً، والجزاء في الآخرة إنما يكون على ألوان السلوك المختلفة في الدنيا؛ فمن يحسن السلوك في الدنيا ينال ثواب الآخرة ومن يسيء ينال عقاب الآخرة. ولذلك لا يصح على الإطلاق أن نقارن الدين بالدنيا.

إن علينا أن نعلم خطأ الذين يقولون: «دين ودنيا» فالدين ليس مقابلاً للدنيا. بل الدنيا هي موضوع الدين. أقول ذلك رداً على من يظنون أن سبب ارتقاء بعض البلاد في زماننا هو أن أصحابها أهملوا الدين وفتنوا بما في الدنيا من لذة ومتعة فعملوا على بناء الحضارات.

نقول: إن الإقبال على الدين بروح من الفهم هو الذي يبني الحضارات ويُثاب المصلح في الدنيا يوم الجزاء، ولنا أن نعرف أن المقابل للدنيا هو الآخرة، والدين يشملهما معاً؛ يشمل الدنيا موضوعاً، والآخرة جزاءً. والذين يفتنون بالدنيا ولا يؤمنون بالآخرة هم الذين يقولون يوم القيامة:{ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} . والأوزار المعنوية في الدنيا - وهي الذنوب - ستتجسم بحسيات وذلك حتى تكون الفضيحة علنية؛ فمن سرق غنمه يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على ظهره، ومن سرق بقرة يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على

ص: 3586

كتفه وهي تخور، وكذلك من سرق طنا من حديد عمارة سيُبعث يوم القيامة وهو يحمله على ظهره، وكذلك يفضحه الله يوم القيامة.

وهذا يكون موقف أهل النار؛ لذلك يقول: {أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} ونعلم أنهم لا يحملون أوزاراً فقط بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له، فهذا وزر الإضلال ويعرفون - جميعاً أن حمل الوزر يتجسد في الإحساس بعبئه؛ فقد قادتهم هذه الأوزار إلى الجحيم، ونعلم أن نتيجة كل عمل هي الهدف منه، فمن عمل صالحاً سيجد صلاح عمله، ومن أساء فسيجد عمله السيء.

إننا نرى الأمثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية؛ فهذان شقيقان يعملان بالزراعة، وكل منهما يملك فدانين من الأرض مثلاً: الأول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحمل إليها السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام. والاخر يسهر الليل أمام شاشة التليفزيون، ولا يقوم من النوم إلا في منتصف النهار، ولا يخدم أرضه إلا بأقل القليل من الجهد.

ثم يأتي يوم الحصاد فينال الأول ناتج تعبه من محصول وفير، وينال الآخر محصولاً قليلاً بالإضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله. إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه حركته في الحياة. ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، واطمئنان النفس في الدنيا والآخرة.

إن من ينام ولا يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه، ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب نفسه أيضاً، ولكنّ هناك فارقاً بين حب أحمق عقباه الندم، وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء الوافر.

والحق سبحانه وتعالى يقول لنا: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ

}

ص: 3587

هكذا تكون الحياة بالنسبة لمن يقف عند وصفها على أساس أنها «الحياة الدنيا» إنها لا تزيد على كونها لهواً ولعباً. واللعب - كما نعلم - هو مزاولة حدث ونقضه في آن واحد، والمثال على ذلك الطفل على شاطئ البحر قد يقيم بيتاً من الرمال ثم يهدمه، إنه لم يقم ببناء بيت من الرمال إلا ليهدمه. واللعب عملية يُقصد بها قتل وقت في عمل قد يُنقض، فالبناء والنقض في هذه الحالة لعب ولا يشغل اللعبُ الإنسان عن الواجب. أما اللهو فهو قتل الوقت في عمل قد ينقض ويشغل الإنسان عن الواجب أيضاً.

والطفل الصغير - على سبيل المثال - يتلقى من والديه بعض اللعب ليقضي وقته معها وقد يخربها ويهدمها وقد يعيد بناءها. ولعب الطفل هو لهو في الوقت نفسه؛ لأن الطفل غير مكلف بواجب. وما أن يدخل إلى المدرسة وتصير له بعض من المسئوليات نجد الأسرة تعلمه أن يفرق بين وقت أداء مسئولياته ووقت اللعب؛ لأنه إن لعب في وقت أداء المسئوليات صار لعبه لهواً؛ لأنه شَغَله عن أداء مسئولية مطلوبة منه.

وكذلك الحياة الدنيا مجردة من منهج الله الذي خلقها وخلق الإنسان فيها هي لهو ولعب، إما إن أخذ الإنسان الحياة بمواصفات من خلقها فهي حياة منتجة للخير في الدنيا وفي الآخرة. والذي خق الحياة الدنيا جعلها بالنسبة لنا مزرعة للأخرة. والمؤمن - إذن - له حياتان: حياة صلاح في الدنيا، وحياة نعيم في الآخرة؛ لأنه يعيش الحياة الدنيا على مراد من خلقه.

ومن العجيب أن من خلقنا لم يكلفنا إلا بعد أن يصل الإنسان منا إلى البلوغ، أي أن يكون الإنسان صالحاً لإنجاب إنسان مثله إن تزوج. ويأتي التكليف متناسباً مع النضج وعند تمام العقل. وسمح الحق لنا أن نلعب في سنوات ما قبل النضج، ولكن لا بد أن يكون مثل هذا اللعب تحت إشراف من الكبار حتى يمكن للعب أن يتحول إلى دُرْبة تفيدنا في مجالات الحياة، ويجلعنا نعرف كيف وصلنا في العصر الحديث إلى درجة من التقدم في صناعة اللعب التي يتعلم منها الطفل، ويمكن أن يقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها، وحتى الكبار نجدهم في زماننا يتعلمون قيادة السيارات في حجرات مغلقة وأمامهم شاشة تليفزيون، وكأنهم في طريق حقيقي وفي شارع مزدحم بالسيارات، ومن يتقن هذا التدريب العملي يخرج إلى قيادة السيارة.

ص: 3588

وهكذا نجد أن التدريب مفيد للإنسان، يعلم الصغار اللعب الذي ينفعهم عندما يكبرون، وكذلك يفيد التدريب الكبار أيضاً.

وعندما أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن نعلم أبناءنا ركوب الخيل والسباحة والرماية، كانت الخيل - في زمن الرسالة - هي إحدى الأسلحة المهمة ليركبها الداعون إلى الله المجاهدون في سبيله.

وحين طلب منا أن نعلم الأبناء السباحة فهذا بناء للجسم والقوة يفيد الشاب ويعلمه مواجهة الصعاب، وحين طلب منا أن نعلم الأبناء الرماية فذلك لأن تحديد الهدف مادياً أو معنوياً ومعرفة الوصول إليه أمر مطلوب من كل شاب. وكل هذه ألعاب ولكنها ليست لهواً، إنها ألعاب ممتعة ويمكن أن تستمر مع الإنسان بعد أن يكلف. قال عليه الصلاة والسلام ُ:«علموا أبناءكم السباحة والرماية» . فماذا عن ألعاب عصرنا وزماننا؟

إننا نجد أن لعبة كرة القدم قد أخذت اهتمام الرجال والنساء والكبار والصغار، وهي لعبة لا تعلم أحداً شيئاً، لأنها لعبة لذات اللعب، وهي لعبة تعتدي على وقت معظم الناس، وأخذت تلك اللعبة كل قوانين الأمور الجادّة. فهي تبدأ في زمان محدد، ويذهب المشاهدون إليها قبل الموعد بساعتين، وتجند لها الدولة من قوات الأمن أعداداً كافية للمحافظة على النظام مع أنها من اللهو ولا فائدة منها للمشاهد. وقد تمنع وتحول وتُعَطِّل البعض عن عمله والبعض الآخر عن صلاته. يحدث كل ذلك بينما نجد أن بعضاً من ميادين الجد بلا قانون.

وأقول ذلك حتى يُفيق الناس ويعرفوا أن هذه اللعبة لن تفيدهم في شيء ما. وأقول هذا الرأي وأطلب من كل رب أسرة أن يُحكم السيطرة على أهله، وينصحهم بهدوء ووعي حتى ينتبه كل فرد في الأسرة إلى مسئولياته ولنعرف أنها لون من اللهو، ونأخذ الكثير من وقت العمل وواجبات ومسئوليات الحياة، حتى لا نشكو ونتعب من قلة الإنتاج.

إن على الدولة أن تلتفت إلى مثل هذه المسائل، ولنأخذ كل أمر بقدره، فلا يصح أن ننقل الجد إلى قوانين اللعب، ولكن ليكن للجد قانونه، وللعب وقته وألا ننقل

ص: 3589

اللعب إلى دائرة اللهو؛ لأن معنى اللهو هو أن ننصرف إلى عمل لا هدف له ولا فائدة منه. وإن نظرنا إلى الحياة مجردة من منهج الله فهي لعب ولهو.

ونلتفت هنا إلى دقة الحق حين جاء باللعب أولاً ثم اللهو من بعد ذلك، ثم يقول:{وَلَلدَّارُ الآخرة} وفي هذا لفت واضح إلى أن الإنسان حين ينعزل عن منهج الحق في الحياة تفاجئه الأحداث بالانتقال المفاجيء إلى جد واضح؛ لذلك فلنأخذ الحياة في ضوء منهج الله؛ لأنه سبحانه حين أبلغنا أنه خلق الإنسان من طين، وصوره ونفخ فيه من روحه فقد أعطاه الحق بذلك حياة أولى، يشترك فيها المؤمن والكافر، والطائع والعاصي وكل إنسان إلى الغاية منها وهي الحياة الثانية وهي الدار الآخرة فإنها الحياة الكاملة الباقية، ونسمع قول الحق سبحانه وتعالى:{ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] .

إن الحق سبحانه وتعالى يقدم لنا حياة عالية دائمة تخلف الحياة التي تنتهي.

والذي يتوقف عن أخذ منهج الله في حياته يكتفي بمثل ما يَأخذ الحيوان من الحياة وهي النفخ في الروح، لكن الذي يأخذ بمنهج الله يأخذ الحياة العالية. . حياة الخير والجمال والإصْلاح والإحسان. ونعلم أن الجمال في الحياة هو الجمال الذي لا يورث قبحاً. والخير الحقيقي هو الذي يعمم خير الله على العباد، فلا يأخذ الإنسان الخير لنفسه ويترك شروره للآخرين؛ لذلك أقول: لا تأخذ أيها المسلم الخير لنفسك على حساب الشر للآخرين؛ لأنك لا تحب أن يحقق الآخرون الخير على حسابك، والذي يحب أن ينطلق بشروره في الناس فليستقبل الشر من غيره. ومن يحب أن يأخذ الخير من الناس فليعطهم من خيره حتى يبقى الوجود جميلاً. إذن فالحياة بدون منهج الله تكون قبيحة؛ لأن القوي يعيث فيها فساداً بقوته وينزوي الضعيف إلى الإحساس بالذلة والضياع.

لكن الحق سبحانه أراد الحياة للمؤمنين في ضوء منهجه، وعندما يطبقون تكاليفه ب «افعل» و «لا تفعل» فهم يصونون الحياة من الفساد حسب أوامر الخالق الأعلى للحياة، فهو سبحانه الذي أوجدنا ووضع لنا قوانين صيانة الحياة. وحين منع مؤمنا واحداً من الشر، فهو قد منع وحرم على كل إنسان مؤمن من أن يصنع شراً لأخيه،

ص: 3590

وبذلك حمى الإنسان من الشر. وإنما خص الله المؤمنين بالنداء والدعاء؛ لأنهم أهل الاستجابة والطاعة؛ أما ما عداهم من أهل الكفر والشرك فقد تأبوا على الله وعصوه ولم يؤمنوا به. وحين يأمر الله المؤمن بالخير، فهو يأمر المؤمنين جميعاً بأن يصنعوا الخير لهم ولغيرهم. وبذلك يكسبون حياة مطمئنة؛ لذلك يقول سبحانه:{استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} .

فالذين لا يستجيبون لله ولا لرسوله حين يدعوهم لما يحييهم يظلون في الحياة الدنيا غارقين في اللهو واللعب، إنهم كالموتى. وحتى نعرف أن الحق سبحانه أراد لنا - نحن المؤمنين - الحياة العالية؛ إنه - سبحانه - قد سمى المنهج الذي يرسم لنا الأوامر والنواهي بالروح:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} . وسمى الحق سبحانه وتعالى بهذا المَلكَ الذي نزل بالوحي: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] .

إذن فالحياة التي تعطي الإنسان الحس والحركة هي الحياة الأولى التي يلعب ويلهو من خلالها، وليست هي الحياة المرادة لله؛ لأن الحياة المرادة لله هي الحياة الإيمانية ولذلك سماها الحق سبحانه الحيوان أي الحياة الكاملة وسمى المنهج روحاً. {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] .

إن مجرد التعقل يعطي الإنسان الخير، والتعقل هو محاولة فهم نواميس الكون من الأسباب والمسببات، ونحن نرى نور الشمس يعمّ النهار ويشيع الضوء والدفء، وغياب الشمس وظهور القمر يحقق صفاء السكون ويهدي الناس في ظلمات البر والبحر، وجَريان الماء يروي الإنسان والزرع، وحركة الرياح تحرك السحب وتقود السفن وتساعد في حركة الملاحة في الجو والبحر وتلقح النبات، وكل ذلك أسباب أرادها الله حتى يتحقق التوازن في الكون.

والإنسان يأخذ حظه من الحياة بالأسباب التي عمل فيها ولا يأخذ الإنسان من أسباب غيره.

صحيح أن هناك أناساً يعيشون بلا أسباب ويأخذون تعب غيرهم، ولكن عليهم أن يحذروا الله، فإياك أيها المسلم أن تبني لحمك ولحم أولادك من استغلالك

ص: 3591

لغيرك؛ ذلك أن أغيار الحياة ستمر عليك وقد تصير قوتك إلى ضعف، وتأمين الإنسان لضعفه إنما يكون بإخراج الزكاة للضعيف، ومساعدته ومعاونته في كل ما يحتاج إليه، ونجد غير المؤمنين وقد أخذوا فكرة التأمين من الزكاة، فأنت تدفع للفقير زكاتك لتؤمن نفسك كمؤمن، وهم أخذوا هذه الفكرة ليحولوها إلى تأمين على الحياة، ولذلك تدخلوا في قدر الله.

لكن الحق أراد بالزكاة أن يطمئن المجتمع كله لا أن يطمئن من يؤمن على نفسه فقط. ونعلم أن الذي يخيف الإنسان ويجعله يكدس المال ويجمعه ويكنزه هو الخوف من الضعف، لكن لو أعطى الغني بعضاً من المال للفقير لأشاع الاطمئنان في نفسه ونفوس الضعفاء.

والذي يجعل الناس تلهث في الحياة للادخار لأبنائها هو عدم اقتناعهم بالتكافل الاجتماعي الذي شرعه الإسلام. وهم يرون اليتيم وهو يضيع في المجتمع، لكن لو آمن الناس في المجتمع بالتكافل الاجتماعي لوجد كل يتيم أبوة المجتمع كله له.

والإنسان الذي يلهث وراء الكسب من أجل أن يؤمن مستقبل أولاده قد يحول أولاده إلى يتامى لأنه مشغول عن تربيتهم، ولذلك يقول أمير الشعراء شوقي رحمة الله عليه:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من

هم الحياة وخلفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له

أمَّاً تخلت أو أباً مشغولا

إن على المجتمع أن يأخذ قضية الخير من قول الحق سبحانه: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} . فكما أحيا الحق الأجسام بالروح التي نفخها في القالب الطيني فصار لها حس وحركة، فهو قد أنزل المنهج أيضاً روحاً من عنده لترتقي به روح الحس والحركة، حتى لا يصير الإنسان كالأنعام أو أضل سبيلاً:{وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32] .

ص: 3592

والدار الآخرة خير؛ لأن الدنيا مهما طالت فهي منتهية، لكن الحياة الآخرة خلود أبداً، ونعيمنا في الدنيا نأخذه بالأسباب، ولكن نعيم الآخرة نأخذه على قدر سعة ورحابة قدرة الله. وآفة الدنيا حتى بالنسبة لأهل النعيم والقوة والثراء هي الخوف من الفقر أو الموت، لكن في الآخرة لا يفوت أهل الجنة النعيم ولا يفوتون النعيم.

ويقول سبحانه بعد ذلك: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ

}

ص: 3593

لقد شرح الحق حال الكفار وموقفهم في الآخرة حين يقفون على النار، ويقفون أمام الله، ومن بعد ذلك يوجه الحديث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم َ الذي تقع عليه مشقة البلاغ من الله لهؤلاء الكفار، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم َ حزيناً لأن قومه لا يذوقون حلاوة الإيمان، وهو الرسول الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى:{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .

وكان صلى الله عليه وسلم َ يحرص على أن يكون كل الناس مؤمنين، ويتألم لمقاومة بعض الناس دعوة الإيمان، إنه صلى الله عليه وسلم َ كان حريصاً على الكافر ليؤمن على الرغم من أن مهمة الرسول هي البلاغ فقط، ولو شاء الحق أن يجعل الناس كلهم مؤمنين لأنزل عليهم آية تجعلهم جميعاً مؤمنين:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4] .

ص: 3593

لكن الحق سبحانه وتعالى لا يريد خضوع أعناق، وإنما يريد خضوع قلوب. إنه - سبحانه - يريد أن يأتي الناس طواعية واختياراً ليثبتوا الحب للخالق؛ لذلك يقول الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم َ:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} وساعة نسمع: «قد» فلنعرف أن ما يأتي بعدها هو أمر محقق، ويأتي ذلك إذا دخلت على الفعل الماضي فهي في هذه الحالة تأتي لتسبق أمراً تحقق، ومرة تأتي للتقليل أو للتكثير إذا دخلت على الفعل المضارع الذي يدل على الحال أو الاستقبال، فإذا كان العامل والمعمول بينهما ارتباط سبب. . فهذا للتكثير، وإذا كان ظاهر الأمر غير مرتبط ارتباطاً واضحاً. . فهذا للتقليل. والمثال على الارتباط الذي يدل على التكثير هو قول القائل: قد ينجح المُجدّ؛ لأن المجِدَّ والنجاح مرتبطان ارتباط سببية، ولكن قد يكون هناك حادث مفاجئ لأحد المجدين فلا يستطيع النجاح، كأن يمرض يوم الامتحان، ولكن احتمال الصحة أكثر من احتمال المرض فكانت للتكثير.

والمثال على مجيء «قد» للتقليل هو قول القائل: قد ينجح الكسول، أي أن الكسول قد ينجح بالمصادفة وبدون أسباب منطقية، كأن يقرأ عدداً من الدروس ليلة الامتحان فيأتي فيها الامتحان فينجح، إذن ق «قد» إذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق، وإن دخلت على المضارع فهي للتكثير إن كانت منطقية الأسباب، وهي للتقليل إن كانت غير منطقية الأسباب. ولكن كلنا يعلم أن علم الله هو علم أزلي، ولا قوة ولا أمر يخرجان عن معلوم الله. إذن ف «قد» هنا للتحقيق وهي داخلة على الفعل المضارع، فالحق أراد أن يبلغنا أنه علم أزلاً بما حدث وجاء ب «قد» لنستحضر صورة الفعل:

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي

ص: 3594

يَقُولُونَ} .

والحزن هو خروج النفس من سياق انبساطها؛ فالإنسان يكون في غاية الاستقامة والسرور عندما يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي مهمته، فإن حدث شيء يخل بعمل أحد الأجهزة فذلك يورث الحزن. أو يكون الحزن انفعالا لمجيء وحصول أمر غير مطلوب للنفس.

لقد كان مطلب الرسول صلى الله عليه وسلم َ أن يؤمن كل الذين استمعوا إلى البلاغ عنه، لكن البعض قاوم الإيمان، والبعض اتهم الرسول بالسحر أو الجنون أو قول الشعر، وها هوذا الحق يسلي رسوله فيقول:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} أي إنك يا محمد لا بد لك أن تعلم أن أقوالهم هذه ليست متعلقة بك؛ لأنك - بإجماع الآراء عندهم - أنت الصادق الأمين. وهم إنما يكذِّبون بآياتي التي أرسلتها معك إليهم؛ لأن ماضيك معهم هو الصدق والأمانة، بدليل أن الكافر منهم كان لا يأمن أحداً على شيء من أمواله ونفائسه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ. والإنسان لا يغش نفسه فيما يخصه. فكأن الله يريد أن يتحمل عن رسوله؛ لأن من يوجه إهانة للرسول إنما يوجهها للمرسِل له وهو الله جلت قدرته.

ولذلك يقول الحق: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} وسبحانه يبين لنا أن رسوله صلى الله عليه وسلم َ كان حريصاً أشد ما يكون الحرص على أن تستجيب أمته لداعي الحق، حتى يتأكد لدى المؤمنين قول الحق سبحانه وتعالى في رسوله:{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .

ولا معنى للحرص إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يحب إلا يفلت أحد من قومه عن منهجه وعن دينه. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل أمر الدين اختيارياً حتى يعلم من يجيء له طواعية ويقدر ألا يجيء، ومن لا يجيء وهو قادر أن يجيء.

إن الحق سبحانه وتعالى له سنن كونية في الكون يجريها على كل الخلق. وقد يتساءل قائل: وما الذي يجعل الحق سبحانه وتعالى يترك للكفر به مجالاً في دنياه؟ ولماذا يجعل الحق سبحانه وتعالى للشر مجالاً في دنياه ألا يحكمها بهندسة حكيمة؟ ونقول: لو لم يوجد للشر مضار تُفْزِّع الناسَ لما عرفوا للحق حلاوة. إذن فوجود الشر، ووجود الكفر، وآثار الكفر في الناس جبروتاً وقهراً واستذلالاً ينادي في الناس أنه لا بد من الإيمان، وأنه لا بد من وجود الخير. فلو لم يكن للشر مكان في الكون فما الذي يلفت الناس إلى الخير؟ ولذلك تجد أن هبات الإيمان عند المؤمنين لا تأخذ فتوتها إلا حين تجد قوماً من خصوم الإيمان يهيجون المؤمنين ويؤذونهم ويستفزونهم.

أما إذا صارت الدنيا إلى رتابة فربما فتر أمر الإسلام في نفوس المسلمين. ولذلك نجد المؤمنين بالله في غيرة دائمة؛ لأن هناك من يكفر بالله. فيقول لرسوله: {قَدْ نَعْلَمُ

ص: 3595

إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} وكأنه سبحانه يبلغنا أنه أراد كونه ليكون فيه المؤمن والكافر.

لذلك إن تساءلت - أيها المسلم - كيف يكون في الأرض كافرون؟ فلك أن تعلم أنهم من خلق الله أرادهم الحق أن يختاروا الكفر فلم يختاروا الكفر قهرا عنه - سبحانه - وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، يحزن لأن هناك أناساً لم يؤمنوا، فيسليه الحق سبحانه وتعالى، بأنه يعلم أنه يحزنه الذي يقولون من الكفر ومن اتهامات لرسول الله. ألم يقولوا إنه ساحر؟ ألم يقولوا إنه مجنون؟ ألم يقولوا إنه كاذب؟ ألم يقولوا إنه كاهن؟ ألم يقولوا إنه شاعر؟ وسبحانه وتعالى يعلم ما قالوا ويعلم أن هذه الأقوال تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، ويريد الحق سبحانه أن يرفع ويدفع هذا الحزن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيبلغه أنهم لا يكذبونك يا رسول الله؛ فأنت تعرف منزلتك عندهم وهي منزلة الصادق الأمين، ولا يجرؤ أحد على تكذيبك ولكنهم يجحدون بآيات الله. وهل هناك تسلية أكثر من ذلك. لا يمكن أن توجد تسلية أكثر من ذلك.

ونعلم أن ما قاله أهل الشرك عن رسول الله هو قول مردود، فهم أمة البلاغة والفصاحة والبيان، فكيف يقولون إن القرآن شعر وهم أصحاب الدراية بالأساليب مرسلها، ومسجوعها، ونظمها، ونثرها؟

أمن المعقول أن يلتبس عليهم أسلوب القرآن بالشعر؟ ومن المؤكد أن هذا غير ممكن. ولقد قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم َ: إنه ساحر، فكيف سحر الذين آمنوا به ولم يسحر الباقين؟ ولو كان ساحراً لسحرهم أيضاً، وبقاؤهم على الكفر ينقض هذا. وقالوا كاذب، فهم بقولهم هذا يكذِّبُون أنفسهم لأنهم يعرفون عنه أنه الصادق الأمين، وها هوذا الحوار بين الأخنس بن شريق وأبي جهل.

قال الأخنس: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل: ماذا سمعت {وهنا نسمع قول الغيرة والحسد والبغض، نسمع عن تلك الأمور البعيدة عن موضوع الرسالة النورانية المحمدية فيقول أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوْ افأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى

ص: 3596

ندرك مثل هذا} والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. فقام الأخنس وتركه. إذن هي مسألة غيرة غاضبة على مناصب وسلطة زمنية، ولذلك يرد الله عليهم قائلاً:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}

[الزخرف: 32] .

وها هو ذا الحق يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم َ ويقول له: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .

إنهم ظالمون، لأن الظلم نقل حق إلى غير مستحقه. وأبشع أنواع الظلم هو الشرك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو المستحق وحده للعبادة، والظلم الأخف وطأة هو أن ينقل الإنسان حقاً مكتسباً أو موهوباً إلى غير صاحبه وهذا ظلم موجود بين الناس. وقد نقل المشركون حق الذات الإلهية إلى غير مستحقها من أوثان وأصنام، أما المؤمنون فهم الذين اعترفوا بحق الذات الإلهية في العبادة.

وهناك نوع آخر من الظلم أريد أن أتحدث عنه، وهو أن يظلم الإنسان اسمه، كأن يكون والده قد سماه «مهدياً» ولكنه يملأ الدنيا فساداً بإيذاء نفسه وبإيذاء الآخرين. نقول لمثل هذا الإنسان: إن الواجب يقتضي منك أن تحترم أمل والدك فيك، فلا تظلم اسمك «مهدياً» ولتكن هناك عدالة بين الاسم والمسمى وذلك بأن يكون سلوكك متوافقاً مع الاسم الذي سماك به أبوك.

أما إن كان أبوه قد سماه «مهدياً» ولم يلقنه أي شيء من تعاليم الهدى والدين، ثم خرج الشاب إلى الدنيا ليملأها بالشقاء لنفسه ولغيره ثم اهتدى من بعد ذلك فهذا شاب استطاع أن يتعلم الهداية فصار اسمه على مسماه.

وقد كنا في الثلاثينيات من هذا القرن نسمع التحذيرات ونحن نزور القاهرة: «

ص: 3597

إياكم أن تطأوا بأقدامكم شارع عماد الدين لأن كل الموبقات في هذا الشارع» . وتعجبت أن يكون اسم الشارع «عماد الدين» ويكون مكاناً للموبقات فقلت في ذلك:

وأقبح الظلم بعد الشرك منزلة

أن يَظْلم اسماً مُسمّىً ضده جُبِلا

فشارع كعماد الدين تسميةً

لكنه لعناد الدين قد جُعلا

وفي الحياة كثير من حالات الأسماء يظلمها أصحابها. ولكن أكبر وأقبح درجات الظلم هو الشرك بالله {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} والجحد هو إباء اللسان وترفعه وعدم رضاه بأن ينطق بكلمة الحق، فلو أن المشركين خلوْا إلى أنفسهم واستعرضوا مسائل محمد ومسائل الرسالة لوجدوا أن قلوبهم مقتنعة بأنه صادق وأنه رسول وأن المنهج إنما جاء للهداية. لكن ألسنتهم غير قادرة على الاعتراف بذلك.

ولذلك يأمر المنهج الإيماني أن على الواحد منا إن أراد أن يناقش قضية أهي حق أم باطل فلا يصح أن نناقشها في حشد من الناس، ولكن فلنناقشها أولاً في نفوسنا لنتبين الحق فيها من الضلال، ولذلك يقول الحق سبحانه:{قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] .

كأن الحق يهدينا إلى كيفية التمييز، فإما أن نناقش أنفسنا، وإما أن يتناقش اثنان حتى يمكن أن يقتنع أحدهما برأي الآخر دون أن يشهد ثالث هزيمته فيكابر ويجادل.

وقد نصح الحق بذلك هؤلاء الذين اتهموا رسول الله أن به - والعياذ بالله - مسَّاً من الجنون؛ فالجنون هو أن تحدث الأفعال بلا مقدمات وبدون تدبر أو نظر في آثارها وتكون خالية من حكمة فاعلها. أما العاقل فهو الذي يرتب الأفعال بحكمة ويوازن ويدرس وينتهي به عقله وحكمته إلى حسن ما يفعل ويعامل الناس بانسجام وسوية خلقية عالية، فهل أحد من المشركين أخذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أي

ص: 3598

سلوك يمكن أن يشير إلى عدم ترتيب الأفعال؟ لا.

ولذلك يقول الحق: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] .

إن الخلُق العظيم يتنافى مع الجنون، وكذلك فعل كل قوم مع رسولهم، إنَّهم رمَوْه بالسفه والجنون. فكلما جاء رسول لقومه بمنهج حق ليطمس معالم الباطل قابله قومه بمثل تلك المقابلة. ونعرف أن السماء لا تتدخل بالنبوات والمعجزات إلا حين يطم الفساد وتنطمس النفس المؤمنة. فالمؤمن فيه خميرة الخير فيندفع إلى فعل الخير. وإن حدثته نفسه بفعل معصية وفَعَلَها، فإن نفسه اللوامة تؤنبه على ذلك، لكن إن انطمست نفسه ولم تعد تلوم، صارت نفسه الأمارة بالسوء هي المسيطرة وإن لم يجد من يقول له في المجتمع: لا تفعل ذلك. . فالمجتمع كله يكون قد فسد. {كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} .

إذن السماء لا تتدخل برسالة أو معجزة أو منهج إلا حين يطم الفساد. وما دام قد طم الفساد فهناك من يستفيد من هذا الفساد. وحين يأتي الرسول من أجل أن يمنع الفساد فهذا الرسول يمنع عن المفسدين استغلال الناس ويحول بينهم وبين الاستفادة من الفساد. ولذلك كان لكل رسول مقاومة من المفسدين وكانوا يقولون: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلَاّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} [هود: 27] .

وأتباع كل رسول هم المظلومون الذين يحتاجون إلى منقذ. أما الجبابرة فهم يخاصمون الرسول ويقاومونه، ويستقبله هؤلاء الجبابرة بإيذاء يتناسب مع مهمته. فإن كانت مهمته لقبيلة فالإيذاء يأتيه من هذه القبيلة. وإن كانت مهمته أوسع من ذلك فإنه يلقى من صنوف العذاب ألواناً.

وما دام محمد صلى الله عليه وسلم َ رسولاً إلى الناس كافة فعليه أن يجد المتاعب

ص: 3599