المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة. ولقائل أن يقول: - تفسير الشعراوي - جـ ٦

[الشعراوي]

الفصل: والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة. ولقائل أن يقول:

والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة. ولقائل أن يقول: ما دام الحق هو القاهر فكيف يكفر الكافر وكيف يعصي العاصي؟ . ونقول: إن الكافر يكفر بما خلق الله فيه من اختيار وكذلك تكون معصية العاصي. ولكن الحق أوجد في الإنسان اضطراريات وقهريات تدلنا على أنه سبحانه فعال لما يريد. ولا أحد من المتمردين على منهج الله يجرؤ أن يسحب هذا التمرد على ما يجريه الله عليه من مرض أو موت.

والمتمرد أو الكافر إنما يختار من باطن الاختيار الذي خلقه الله فيه، والله هو الحاكم للميلاد والموت ولا شيء للإنسان فيهما، وكذلك هو سبحانه له تصريف أمور الغنى والفقر ولا يجرؤ متمرد على أن يتمرد على المصائب التي تحدث له وإن تمرد على منهج الله؛ لأن التمرد هو من باطن خلق الله للاختيار الذي أودعه في الإنسان. {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:

‌ 61]

.

ص: 3675

وحين يتكلم الحق سبحانه عن ذاته ونفسه، قد يتكلم بضمير المتكلم. فيقول:{إنني أَنَا الله} [طه: 14] .

وقد يقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

ومرة يتكلم عن ذاته بما نسميه نحن ضمير الغيبة مثل قوله هنا: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] .

لأن ضمير المتكلم معه دليله، إنّ المتكلم يقول: أنا، ويخاطبك فيقول: أنت. لكن الذي يتكلم بضمير الغيبة لا بد أن يعود الضمير على مرجع لهذا الضمير. وحين يتكلم الحق عن ذاته بما يسمى لدينا ضمير الغيبة فإنه - سبحانه - يريد أن يبين لنا أنه في أجلىَ مجال المشاهدة والحضور؛ فكأنه إذا قال «هو» لا تنصرف إلا إلى ذاته العليا؛ فكأنه لا يوجد مرجع ضمير إلا هو، ولذلك يقول:{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .

وسبحانه يقول: «هو» قبل أن يذكر المرجع، وهو «الله» ؛ مع أن الأصل في المرجع أن يتقدم، ولكنه يقول:{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]

فكأنه إذا أُطلِق هذا الضمير فلا ينصرف إلا إلى ذاته. وحين يتكلم بضمير المتكلم نراه يتكلم عن ذاته بضمير الإفراد فيقول: {إنني أَنَا الله} [طه: 14] .

ص: 3676

ويقول مرة أخرى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

لماذا؟ . إنه سبحانه إن تكلم عن فعل من أفعاله نجد أن كل فعل من أفعاله يتطلب صفات الكمال كلها فيه، لأنه يتطلب علماً بما يتكلم به، ويتطلب قدرة لإبرازه، ويتطلب حكمة، ويتطلب صفات كثيرة، فإذا قال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .

فالتنزيل فعل، والفعل يقتضي صفات متعددة. فلا بد أن يأتي بضمير التعظيم وهو الجمع؛ لأن كل صفات الكمال متجلية في التنزيل.

ولكن إن تكلم عن الذات في التوحيد لا يأتي بضمير الجمع أبداً؛ لأنه يريد أن تنفي عن ذاته أنه متعدد؛ لأنه هو الواحد الذي لا شريك له، فحين يتكلم عن الذات يقول: {إنني أَنَا الله

} [طه: 14] .

وحين يتكلم عن الذكر يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر

} [الحجر: 9] .

ففي مجال التعظيم والتنزيل الذي يتطلب تجلي كثير من صفاته - جل شأنه - يأتي بضمير الجمع، وفي التوحيد والتفرد ونفي الشريك يأتي بضمير الإفراد.

هنا يقول سبحانه: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ

} [الأنعام: 61] .

وكلمة «قاهر» إذا سمعتها تتطلب مقهوراً. وما دام هناك قاهر ومقهور ففي ذلك

ص: 3677

ميزانان بين مجالين. وما دام هو قاهراً ففي أي مجال وبأية طريقة سيكون الطرف الثاني مقهوراً له؟ إننا نعلم أن كل شيء في الكون مقهور له، فقد قهر العدم فأوجد، وقهر الوجود فأعدم. وقهر الغنى فأفقر، وقهر الفقر فأغنى. وقهر الصحة فأمرض، وقهر المرض فأصح.

إذن فكل شيء في الوجود مقهور لله حتى الروح التي جعلها الله مصدر الحس والحركة للإنسان يقهرها سبحانه. فإذا جاء إنسان وقتل إنساناً آخر بأن ضربه على المكان الذي لا توجد عند عدمه وفقده حياة بأن أذهب صلاحيته للبقاء تنسحب الروح. وهذا يوضح لنا أن الروح في الجسم هي المسيطرة، لكن من ينقض البنية التي تسكنها الروح يُذْهبُ الروح ويخرجها من الجسم. ومرة يقهر المادة بالروح، فيأخذ الروح من غير آفة ومن غير أية إصابة ويتحول الجسم إلى رمّة. إذن فسبحانه يقهر الروح، ويقهر المادة، ولا توجد متقابلات في الوجود عالية ومتأبية ومتمردة عليه - سبحانه -:{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] .

والقاهر هو المتحكم بقدرة شاملة على المقهور. وانظر أي تقابل في الحياة تجده مديناً وخاضعا لصفة القهر. {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} وكلمة «فوق» تقتضي مكانية. ولكن المكانية تحديد، وما دام القهر يتطلب قدرة فهل يعني ذلك أن القادر لا بد أن يكون في مكان أعلى؟ لأننا نجد - على سبيل المثال ولله المثل الأعلى - من يضع قنبلة تحت العمارة العالية ويقهر من فيها. إذن فالقهر لا يقتضي الفوقية المكانية، إذن فالفوقية المرادة هي فوقية الاستعلاء، ونحن عندما تكلمنا عن الحق سبحانه وتعالى أوضحنا أن نلتزم بإطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهو ذات لا ككل الذوات. وصفاته ليست ككل الصفات، وكذلك نأتي ونقول في فعله، وعلى سبيل المثال نجد خلق الله يحتاجون إلى زمن ويحتاجون إلى علاج، وكل جزئية من الفعل تحتاج إلى جزئية من الزمن، لكن هو سبحانه إذا فعل أيحتاج فعله إلى زمن؟ لا؛ لأنه لا يفعل بعلاج، ولا يجلس ليباشر العملية، إنما يفعل سبحانه ب «كن» ، إذن القهر في قوله:{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} هو قهر الاستعلاء.

ولذلك يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة لآخر رمضان» .

ص: 3678

ففي آية ليلة ينزل فيها الله؟ ليلتك أم ليلة المقابل لك؟ أم الليلة التي تشرق الشمس فيها في مكان، وتغيب عن مكان آخر؟ إذن، فكل واحد من المليون من الثانية ينشأ ليل وينشأ نهار، وهكذا نعلم أن الله معك ومع غيرك، باسطا لك ولغيرك يده. {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .

لذلك لا تفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . لا تفهم ذلك بتخصيص ليل معين أو نهار معين؛ لأن يده مبسوطة في كل زمان وفي كل مكان وليس كمثله شيء.

{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} . وعباده من مادة العين والباء والدال، ومفردها «عَبْد» ، وجمعها يكون مرة «عبيداً» وأخرى «عِبادا» . و «العباد» هم المقهورون لله فيما لا اختيار لهم فيه، وهم أيضاً المنقادون لحكم الله فيما لهم فيه اختيار؛ لأن الإنسان مقهور في بعض الأمور ولا تصرف له فيها: لا تصرف له في نَفَسه، ولا تصرف له في نبضات قلبه، ولا تصرف له في حركة المعدة، ولا تصرف له في حركة الأمعاء، ولا تصرف له في حركة الحالبين، ولا تصرف له في حركة الكُلْيَة، وكلها مسائل تشمل المؤمن والكافر، والكل مقهور فيها.

إن من رحمة الله أننا مقهورون فيها ولا رأى لنا؛ لأنه لو كان لنا رأي في مثل هذه الأمور لكان لنا أن نسأل: كيف ننظم عملية تنفسنا في أثناء النوم؟ . إذن فمن رحمة الله أن منع عنا الاختيار في بعض الأمور التي تمس حياتنا. ومن رحمة الله أن كلاًّ منا مقهور فيها، فمن يستطيع أن يقول لمعدته: اهضمي الطعام؟ ومن يستطيع أن يأمر الكلى بالعمل؟!! .

إذن فكل أمر مقهور فيه الإنسان، هو فيه منقاد لله ولا اختيار له. أما الأمر الذي لك فيه اختيار فهو مناط التكليف. ولذلك لا يقول لك المنهج:«افعل» إلا وأنت

ص: 3679

صالح ألا تفعل، ولا يقول لك «لا تفعل» إلا وأنت صالح أن تفعل.

إذن الأمور الاختيارية هي التي وردت فيها «افعل» و «لا تفعل» . وهي الأمور التي فيها التكليف. ومن يطع ربنا في منهج التكليف يصبح وكأنه مقهور للحكم، ويكون ممن يسميهم الله «عباداً» ، فكأنهم تنازلوا عن اختيارهم في الأحكام التكليفية، وقالوا: يارب لن نفعل إلا ما يريده منهجك.

وكل منهم ينفذ حكم الله فيما له اختيار ألا ينفذه. أما العبيد فهم من يتمردون على التكليف، فالمؤمنون بالله هم عباده. ولذلك يقول الحق: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً

} [الزمر: 53] .

ويوضح سبحانه سمات هؤلاء العباد فيقول: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَاماً} [الفرقان: 63] .

هؤلاء هم العباد الذين تنازلوا عن اختيارهم في الفعل، وقبلوا أن يكونوا مأمورين ومطيعين لله فيما كلفَّ به، وهم في الأمور التي لا اختيار لهم فيها يكونون مثل بقية الكائنات، فكل الخلق والكون عبيد الله، فيما لا اختيار لهم فيه أما المؤمنون به فهم عباد الله. ولكن آية واحدَة في القرآن وهي التي تثير بعض الجدل في مثل هذا الموضوع. ساعة يقول الحق سبحانه وتعالى عما يحدث في الآخرة: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ

} [الفرقان: 17] .

وكأن «عبادي» هنا أطلقت على الضالين، ويقول: نعم؛ لأن الكل في الآخرة عباد؛ إذ لا اختيار لأحد هناك. لكن في الدنيا فالمؤمنون فقط هم العباد، والكافرون عبيد لأنهم متمردون في الاختيارات.

ص: 3680

{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] .

ومع مجيء معنى القهر يرسل الحق حفظة، وإذا كان القهر يعني الغلبة والتملك والسيطرة والقدرة، فهو قهار على عباده وأيضاً يرسل عليهم حفظة.

ويقول في موقع آخر: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ} [الرعد: 11] .

وهكذا يكون قهر الله لنا، لمصلحتنا نحن؛ لأن الضعيف حين يقهره جبار، يمكنه أن يقول: الله هو القهار الأعلى، وفي هذا تذكير للقوى نسبياً أن هناك قهاراً فوق كل الكائنات، فالله قهار فوق الجميع، وبذلك يرتدع القوي عن قهره، فيمتنع عن الذنب، وتمتنع عنه العقوبة، وفي ذلك رحمة له.

{وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [الأنعام: 61] .

وجاء معنى «الحفظة» في القرآن في قوله الحق: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .

فكل لفظ له رقيب عتيد، حفظة أي ملائكة يحفظون ويحصون أعمالكم ويسجلونها وهم الكرام الكاتبون، وكلما تقدم العلم أعطانا فهماً للمعاني الغيبية، وإن كانت المعاني الغيبية التي نستقبلها عن الله دليلنا فيها السماع، ففيه رقيب وعتيد يكتبان فقط، هكذا قال ربنا فآمنا بما قال وانتهت المسألة، وهذا هو المطلوب. ولذلك قال الحق:{الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] .

ص: 3681

لأن الإيمان لو كان بالمشهد فما الفرق - إذن - بين الناس؟ إن الإيمان في كماله وقمته هو الإيمان بالغيب، فإذا قال الحق سبحانه وتعالى:{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .

فهذا خبر عن الملائكة الذين يكتبون الحسنات، ويكتبون السيئات. وحين ننظر إلى البشر، نجدهم يتفاوتون ويرتفع بعض منهم على بعض في صفات وقدرات، وكلما تقدّم الزمن عرف الإنسان سِراً من أسرار الله يترقى به.

وقديماً عندما صنعوا جهاز التسجيل كان حجمه كبيراً ثم تقدم العلم حتى صغر حجم المسجل، إذن كلما تقدمت الصنعة صغرت الآلة، لدرجة أنهم صنعوا مسجلاً يشبه الحبوب، وينثرونها في أي مكان عندما يريدون التقاط أسرار جماعة أو أسرار مجلس، إذن كلما قويت قدرة الصانع دقت الصنعة. فإذا نسبتها لله، فأين دقة الذي صنعته أنت بجانب دقة صنعة الله؟

فإذا كان واحد من البشر قد استطاع أن يأتي بمسجلات غير مرئية مع أن قدرته محدودة، وحكمته في الصنعة محدودة، فإذا قال ربك: إن هناك ملائكة لن تراهم وستحصى عليك أعمالك وهم غيب فقل على العين والرأس، وسبحانه القائل:{كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] .

وهنا يقول الحق: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} [الأنعام: 61] .

وعندما أراد العلماء أن يعرِّفوا الموت قالوا: الموت سهم أرسل، وعمُرك بقدر سفره إليك، هو إذن سهم قد انطلق، لكن عمرك يُقدِّر بمقدار سفره إليك، وحين يقول الحق:{حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} فهو ينسب الموت لمن؟ . لقد أبهم الله زمانه، وأبهم مكانه، وأبهم سببه، وأبهم قدره، وهذا الإبهام هو أشد أنواع

ص: 3682

البيان؛ لأنه ما دام قد أبهمه في كل هذه الأمور يجب أن نستعد للقائه في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي سبب.

وإياك أن تتعجب لأنه يحدث في أي سن، فإبهام الحق له هو أكبر بيان؛ لأنه سبحانه لو حدده زماناً أو سنّاً أو سبباً؛ لكان على الإنسان أن ينتظر الموت، لكن شاء هذا الابهام وهو أقوى أنواع البيان، ليلفتك ويحثك على أن تنتظره في أي زمان وفي أي مكان وبأي سبب وفي أي سن، وبهذا يكون الموت واضحاً أمامنا جميعاً، ولذلك تخشى ارتكاب أي ذنب حتى لا تقبض روحك وأنت على الذنب؛ لأنك لا تحب أن تلقى الله وأنت عاصٍ.

وعندما يؤذن لصلاة الظهر ولم تصلِّه، قد تقول: إن وقته ممتد، وتجد من يقول لك: اضمن لي انك ستعيش إلى أن ينتهي وقت الظهر. «ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم َ: عندما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قائلا: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أيُّ؟ قال: بّر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال:» الجهاد في سبيل الله «» .

إنك لا تضمن من عمرك أن تعيش إلى آخر الوقت. ولذلك عندما نقول: إن الإبهامات من أقوى أنواع البيان فيجب أن نصدق ذلك؛ لأن البعض يقول: لماذا لم يبين الله لنا ذلك؟ ودائماً أقول: لقد أوضح الله ما أبهم، فإن الإبهام هو أقوى بيان، ألم نر إنساناً ذهب لطبيب ليعالجه في مسألة فكان الطبيب سبب موته؟ لقد رأينا ذلك. لقد أخذ هذا الإنسان بالأسباب ولم يمنع ذلك أن قدر الله قد نفذ فيه.

ولذلك قال شوقي - رحمة الله عليه -:

أسد لعمرك من يموت بظفره عند

اللقاء كمن يموت بنابه

إن نام عنك فكل طب نافع

أو لم ينم فالطب من أذنابه

ص: 3683

فقد يخطئ الطبيب - مثلاً - في إعطاء حقنة - فتنتهي الحياة ويقولون: خطأ الطبيب إصابة الأقدار.

مصداقاً لقوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] .

وعندما تأتي كلمة «توفّى» تجدها في القرآن دائرة على ثلاثة ألوان: اللون الأول هو قول الحق: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .

وقوله سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] .

ومرة يقول الحق سبحانه: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] .

سبحانه - إذن - ينسب الموت له ولملك الموت، ولرسله.

وهل الرسل يأخذون الأرواح ويقبضونها إلا بإذن من ملك الموت؟ إنهم جنوده، فلا أحد يميت دون إذن من الله، فأخذ الأرواح وقبضها إلى الله أمراً، وإلى ملك الموت وسيلة وواسطة، وإلى الرسل تنفيذاً.

{تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]

من أين يأتي التفريط؟ لقد تقدم في هذه الآية شيئان اثنان: حفظة يحفظون

ص: 3684

عليك تصرفاتك وفعالك، وهم يأخذون الروح أيضاً. وهؤلاء الملائكة لا يفرطون في هذه المهمة أو تلك. وحين ننظر في مادة ال «فاء» ، وال «الراء» وال «الطاء» نجدها تأتي مرة «فرّط» ، ومرة «أفرط» . ومن العجيب أنها تأتي للمتقابلين؛ ففرَّط في الشيء أي أهمله، وأفرط في الشيء أي جاوز الحد والقدر في الحدث.

وهنا يقول الحق سبحانه: {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} أي لا يهملون ولا يقصرون. وفي إحدى قراءات القرآن نجد من يقرأ: «لا يفرطون» بالتخفيف، والمقصود أنهم لا يتجاوزون الحد. ولذلك نجد الحق يقول:{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] .

ويقول الحق من بعد ذلك: {ثُمَّ ردوا إلى الله

}

ص: 3685

وكلمة «ردوا» تفيدا أن كان لهم التقاء به أولا، وبعد ذلك سوف يرجعون، كيف؟ لقد كانوا منه إيجاداً ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ

} [طه: 55] .

{ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلَاهُمُ الحق} وكلمة «مولى» تعني أنه هو الذي يليك، ولا يليك إلا من هو قريب منك. وهذا القريب قد يكون منْجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يُعينك، وهكذا أخذت كلمة «مولى» معنى القريب، والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك، وقد يوجد لك مولى في الدنيا وهو من الأغيار. ومن الجائز أن يتغير قلبه عليك، ومن الجائز أن تنالك الأحداث التي هي فوق قدرته

ص: 3685

وطاقته، ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشده وتطلبه لنصرتك فيرفض؛ لأن خصْمك له بهذا المولى ولاء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن قلبه ليس معك.

لكن هناك في الآخرة مولى حق واحد {ردوا إلى الله مَوْلَاهُمُ الحق} وتطلق كلمة «موْلى» على السيد حين يعتق عبده. وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولاية؟ . إنه المولى الحق، فلا توجد قوة أعلى منه وهو لا يتغير؛ لأن الأغيار من طبيعة الخلق.

وحين يطلب منك الحق أن تُعمل عقلك لأنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل عليه، وتطلب مساعدته، وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي لا يموت، ولا تتكل على واحد من الأغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خلا بك وتخلىّ عنك. أما إذا كان مولاك هو الحق فلن يخذلك.

{ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلَاهُمُ الحق أَلَا لَهُ الحكم} . ولماذا جاء بكلمة «الحكم» هنا؟؛ لأننا في دنيا الأغيار قد يسند سبحانه بعض الأحكام إلى بعض خلقه؛ فهذا يحكم، وذلك يتصرف، وآخر يصدر قراراً بالتعيينات، وكلها أحكام، أما في الآخرة فالحق يقول:{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .

وأنت في الدنيا تملك، ويكون رزق ابنك - على سبيل المثال - من يدك، وتملك أن تصدر قراراً بترقية من هو أقل منك، وتملك أن تخيط الثوب لغيرك إن كانت تلك مهنتك، ففي الدنيا كل منا يملك بعضاً من أسباب الآخر. لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا:{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .

وساعة تسمع «ألا له الحكم» ف «ألا» في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها، ولماذا

ص: 3686

تأتي أداة التنبيه هنا؟ لأن الحكم القادم بعدها حكم مهم. والكلام - كما نعرف - واسطة بين متكلم ومستمع؛ لأن المتكلم ينقل أفكاره وخواطره توجد في خياله نسبة ذهنية، أي أنه يعايش مشروع الكلام ويتدبره قبل أن يتكلم، أما السامع فهو يفاجأ، وعندما تريد أن تقول أمراً مُهمٍّا فأنت تحاول أن تضمن انتباه السامع حتى لا تفلت منه أية جزئية من كلامك، فتقول:«ألا» لتشد انتباه السامع تماما.

والحق هنا يقول: «ألا» ليأخذ انتباه السامع، ويأتي بعدها قوله:{لَهُ الحكم} .

إذن: ساعة تسمع «ألا» فاعرف أن فيها تنبيهاً لأمر قادم {لَهُ الحكم} .

والحكم: هو الفصل بين أمرين، ويختلف الفصل بين أمرين باختلاف الحاكم؛ فإن كان الحاكم له هوى فالحكم يميل، لكن الفصل بين الأمرين يجب أن يكون بلا هوى، فالحكم بالميزان يقتضي أن تكون له كفة هنا وكفة تقابلها، وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين مسألتين ملتحمتين، وما دمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك: الإنصاف، أي أن نقف في النصف دون ميل أو حيْف.

{أَلَا لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} وساعة يسمع إنسان {أَلَا لَهُ الحكم} فالواحد منا يعلم أنه سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا، وكل واحد منا تتشابك مسائله مع غيره، وما دام الله الحكم فليس لغيره معه حكم، ويحكم بين الخلق جميعاً وفعله لا يحتاج إلى زمن، ونتذكر هنا الإمام عليّا - كَرمّ الله وجهه - حين قالوا له: كيف يحاسب ربنا الناس جميعا في وقت واحد، وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم؟ فقال الإمام عليّ:«كما يرزقهم في وقت واحد يحاسبهم في وقت واحد» ، وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبداً. وقديماً عندما كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج: هنا مسرجة، وهناك مسرجة، وعلى البعد مسرجة ثالثة، وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج. . إلخ، وارتقى العقل البشري المخلوق لله واستطاع أن ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد.

ويقول الحق بعد ذلك:

ص: 3687

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ

}

ص: 3688

المتعب للخلق أن تأتي الظلمة وتكون في مهمة النور، وأن يأتي النور في مهمة الظلمة، فلكل من الظلمات والنور ودور مهمة في الحياة. ولذلك قلنا في أول السورة حين تكلم الحق سبحانه وتعالى قائلاً: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور

} [الأنعام: 1] .

لقد ظن البعض أن المفترض أن يقول سبحانه: وجعل النور والظلمات، ولكن لنتلمس القول الحق، ولنعترف أن مهمة الظلمة تتساوى مع مهمة النور، وعلى الإنسان أن يعي مهمة الظلمة، وكلنا يعرف مهمة النور الذي يعيننا على السعي على أمور حياتنا، ويتطلب السعي طاقة، ولا يمكن أن تأتي الطاقة إلا بعد سكون وهدوء واطمئنان وراحة؛ لذلك فالراحة تحتاج إلى ظلمة لينام الإنسان ويستريح، إذن فالظلمة نعمة من نعم الله، والذي يتعب الإنسان أن يغير ويبدل فيجعل النور مكان الظلمة، ويجعل الظلمة مكان النور، وهذا خروج عن مهمة كل متقابلين. وحين ينشئ الحق المتقابلات لا ينشئها على أنها تتضاد، أو على أنها تتعاند، ولكنه - سبحانه - يريد متكاملا يعين متكاملا، فلا شيء يهدم شيئا مقابلاً له، بل كل متكامل يساعد الآخر. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:{والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1 - 2] .

وقد جاء سبحانه بالليل أولاً، والنهار ثانياً، ولكل منهما مهمة، ولا يمكن أن تؤدي مهمة النهار على حقيقتها إلا إن جاءت مهمة الليل فأُدّيَت على حقيقتها. وهات إنساناً لم يأخذ من الليل الراحة والسكون والهدوء، وعانى من قرص ولسْع

ص: 3688

الناموس أو البراغيث، أو من ضجيج وخلافه، ولم ينم، ثم في الصبح تجده نصف نائم، نصف مرهق، غير قادر على التركيز أو كما يقولون «مذهول» .

إذن فمن أجل حركة الضوء لا بد أن توجد الظلمة: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1 - 2]

الليل والنهار - إذن نعمتان، وكل نعمة تساوي الأخرى، وإياك أن تقول هذه ضد تلك، أو أنها جاءت لتعاندها، لا. لقد جاءت كل منهما لتساند الأخرى. وفي سورة الليل يتابع الحق:{وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3]

لقد جاء سبحانه أيضاً بمتقابلين، وإياك أن تظن أنهما متعاندان فقد جعلهما الله متكاملين لتنجح الحياة. وإن تعاندا تفسد الحياة. وما دام الليل له مهمة والنهار له مهمة، إذن فالذكر له مهمة، والأنثى لها مهمة. وإن خَلَطت المهمتين ينتج الفساد. {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1 - 4]

ويقول الحق هنا: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأنعام: 63]

والظلمة - إذن - هي عدم النور. ولم يقل الحق إن طلب النجاة يكون من ظلمة واحدة، وإنما طلب النجاة من ظلمات متعددة، وهي ظلمات متراكمة؛ لأن الظلمة

ص: 3689

إذا ما غُشيت بظلمة ثانية، ثم بظلمة ثالثة، حينئذ تصير ظلمات مركبة بعضها فوق بعض.

والحق سبحانه قال: {ظُلُمَاتِ البر والبحر} ، وحتى نعرف أهي ظلمات حسّية أم ظلمات معنوية لا بد لنا أن نعرف الظلمة في معناها الحسي، إنها ما يؤدي إلى عدم الاهتداء إلى الحركة المنجية، إذن فكل أمر يؤدي إلى عدم الاهتداء - حسّياً أو معنوياً - هو ظلمة؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يسير في أموره بغير اهتداء، والأحداث والكوارث التي يصعب على الناس أن يعرفوا طريق النجاة منها تُعتبر ظلمة، سواء أكانت ظلمة حسّية أَمْ معنوية.

والحق سبحانه وتعالى يقرب لنا المعنويات بالأمور الحسّية، والمراد بالظلمات هنا هي الأحداث والكوراث والنوازل التي تضيق أسباب البشر عن النجاة منها. والإنسان حريص دائماً على نفع نفسه. وتظهر التناقضات في أفعال إنسان عن أفعال إنسان آخر لاختلاف كل منهما في تقييم وتقدير النفعية. والمثال على ذلك واضح ونضربه دائماً هو: مثال التلميذ الذي يذهب صباحاً مبكراً إلى مدرسته، وينتبه إلى أساتذته، ويعود إلى منزله ليؤدي واجبه، ويخرج من لذيذ الكسل ليجد لذة في العمل، إنَّه بذلك يحب نفسه ويريد النفع لها. أما التلميذ الذي ينام يوقظه أهله فلا يستيقظ، وإذا أيقظوه فهو يخرج من البيت ليتسكع في الطريق، مثل هذا التلميذ يحب نفسه حباً أحمق لأنه يريد اللذة العاجلة التي تعقبها سلسلة من الآلام الآجلة. إنه ينتظر مستقبلاً لا كرامة له فيه عكس التلميذ المجد الذي يتبوأ المكانة اللائقة به.

والمثال الواضح أيضاً في الريف هو الفلاح الذي يقضي وقته على المقهى ويسهر الليل أمام التلفيزيون ويترك الأرض بلا حرث ولا رى ولا تسميد، ولا يمكن أن تنتج الأرض التي يفلحها محصولاً مساوياً لأرض الفلاح الذي يأخذ بأسباب الله فيحرث الأرض وينتظم في ريها في المواعيد المحددة، ويضع السماد المقرر لها؛ لأن الذي أخذ بأسباب الله وتعب وبذل جهداً لا بد أن يعطيه الحقُّ الرزقَ الوفيرَ. أما الذي يكسل عن أداء عمله فقد أحب نفسه حباً أحمق قصير الأجل، وأما الذي أخذ بأسباب الله وأقبل على عمله بحب وتقدير فقدد أحب نفسه حباً أعمق، فيه نفع له ولغيره.

ص: 3690

إن كل حركة يصنعها الإنسان في الحياة إنما يريد بها نفع نفسه، ولكنْ هناك اختلاف في تقدير النفعية بين إنسان وآخر، والعاقل من يرى النفعية الآجلة المجدية ويعمل لها. وهاهوذا المتنبي الشاعر العربي يقول:

أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه

حريصا عليها مستهامًا بها صبّاً

فحب الجبان النفس أورده التقى

وحب الشجاع النفس أورده الحربا

حب الشجاع لنفسه - إذن - جعله طموحاً إلى الحياة الخالدة كشهيد في سبيل الله، وحب الجبان لنفسه جعله أسير الخوف على الحياة الفانية.

فإذا ما صُدم الإنسان بأحداث ونوازل وكوارث نرى نفعيته وهي تحركه إلى البحث عن أسباب للنجاة، ويعتمد على أسبابه أو أسباب من هو قريب منه، أما إذا عزّت أسباب البشر. وكان غافلاً عن الله، فإن الأحداث والمصائب والكوارث تعيده وتذكره بخالقه فيقول:«يارب» ، وبذلك لا يبيع نفسه رخيصاً. لكن إن خدع مثل هذا الإنسان نفسه من البداية وأعرض عن الله تمرد على ربّه ووجد نفسه أمام الكوارث فهو يسلم أمره لله في وقت الشدة، فإن انجاب وانكشف عنه الضر عاد إلى كفره وتمرده. ولذلك يقول الحق سبحانه:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} [الإسراء: 67]

ونجد الذين يقابلون الأهوال وتنتهي أسبابهم لا يكذبون على أنفسهم. بل يتجهون فطرياً إلى الحق القادر على الأخذ بأيديهم. فلحظة أن تضطرب سفينة وتحيطها عواصف الموج والرياح، وتختل آلاتها لا تجد إلا كلمة: يارب، يارب. يارب على ألسنة كل ركابها بداية من «القبطان» والقائد إلى أصغر راكب بها، وتجد من يتمتم بآيات القرآن توسلاً إلى الله للنجاة. وكذلك لحظة أن تضطرب طائرة في الجو، ولا يعرف قائدها طريقاً للنجاة لا يقفز إلى أذهان الركاب وطاقم الطائرة إلا نداء التضرع إلى الله.

ص: 3691

ولهذا يقول لنا الحق سبحانه: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} ودعوة الإنسان ربّه ومولاه هي الوسيلة الأولى من وسائل اليقين، ونعلم أن أحداث الحياة تتراوح ما بين أمرين؛ أمر يبسط ويسعد الإنسان، وأمر يقبض ويضيق على الإنسان ويشقى به، فأما الذي يبسط ويسعد فهو إدراك الجمال، والنعمة والراحة، والسعادة، والإحساس بالرضى. وأما الذي يضيِّق على الإنسان ويشقيه فهو يريد أن يفلت منه وينجو.

ولنا العبرة الكاملة من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، فالإنسان بفطرته إن رأى ما يسعده، لا يجد تعبيراً أقوى من أن يقول:«الله» . وهي صيحة التقدير والتقديس لله الذي أعطاه موهبة إتقان العمل. وتتجلى العبرة الكاملة أيضاً عندما يدهم الإنسان الخطر فيقول بفطرته: «يارب» . إذن فلا ملجأ إلا إلى الله.

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} ؟ ويتضمن السؤال الحقيقة التي لا بد أن يقررها السامع لهذا السؤال وهي: إن الله هو المنجي من ظلمات البر والبحر. وحين يأمر الحق رسوله أن يقول هذا التساؤل للكافرين فهو سبحانه عليم بأن إجابة الفطرة هي التي ستغلب على ألسنة الكافرين ويعترفون به سبحانه وحده بأنه هو المنجي من ظلمات البر والبحر. والكون - كما نعلم - إما بر وإمّا بحر. ولقائل أن يقول: ولكن هناك كوارث جديدة في عصرنا هي كوارث الجو.

؟

ونقول: يجب أن تفهم أن كل جو يأخذ حكم مكانه. فجو البر من البر، وجو البحر من البحر، ومثال ذلك ما نراه عند الصلاة في المسجد الحرام؛ فنحن نرى المصلين يؤدون الصلاة حول الكعبة أو في الدور والطابق الأول أو الثاني أو الثالث من المباني المقامة كمسجد حول الكعبة. ونلحظ أن ارتفاع الكعبة لا يزيد على ارتفاع دور واحد من أدوار المباني التي حولها. والمصلون يتجهون في صلواتهم في تلك الأدوار إلى جو الكعبة، ذلك أن جو المكان المقدس هو مقدس أيضاً، وجو الحرم من الحرم.

ومثال آخر هو السعي بين الصفا والمروة؛ فالمسلم يسعى بين الصفا والمروة في الدور الأرضي، وهناك الآن دور ثان أقيم للسعي. وهكذا نرى أن جو المسعى

ص: 3692

مسعى أيضاً. وقديماً كان محرّماً على الطائرات أن تطير في جو مكة أو المدينة. حدث ذلك أيام أن كان الطيارون من غير المسلمين، وذلك حتى لا يطير غير المسلم في الجو المقدس. أما الآن فقد صار مسموحاً للطيارين المسلمين أن يقودوا طائراتهم في أجواء مكة والمدينة المنورة.

فالجو له حكم المكان سواء أكان المكان براً أم بحراً.

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} إن الدعاء بالفطرة يتجه إلى الله، والدعاء هو طلب لشيء. والطلب يقتضي طالباً، ومطلوباً، ومطلوباً منه. والطالب هو من يدعو. والمطلوب منه هو من ندعوه ونسأله. والمطلوب هو الشيء الذي نتضرع بالدعاء رجاء أن يحدث. والطلب لون من الأمر، لكن إذا ما جاء الطلب من الأدنى إلى الأعلى فلا تقل إنه أمر، بل هو دعاء.

وفي اللغة عندما نسأل الطالب أن يقوم بإعراب «رب اغفرلي» ، نجد الذي استذكر دروسه دون تفقه يقول:«اغفر فعل أمر» ، أما الطالب المتفقه في فهم دينه مع إجادة لدراسته فيقول بأدب الإيمان: اغفر هي فعل دعاء؛ لأن الطلب إن صدر من الأدنى إلى الأعلى فهو دعاء، وإن صدر من المساوى للمساوى فهو التماس، وإن صدر من الأعلى إلى الأدنى فهو أمر.

وحين ننظر إلى الحالة النفسية لمن تحيطه الكوارث والأحداث والنوازل وتضغط عليه الظروف ولا يجد من ينقذه، هل مثل هذا الإنسان يأمر أو يدعو إنه يدعو بطبيعة الحال، ويدعو بتذلل وامتثال وخضوع، وهذا معنى الدعاء

إنه السؤال بتضرع وخضوع، والتضرع يقتضي قولاً، ويقتضي فعلاً ويكون التضرع بالوجدانيات والسلوكيات.

ويخطئ من يظن أن هناك تضرعاً بالقول دون أن يربط ذلك بفعل، فعندما تكون في موقع قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن تتفضل عليه بشيء، فهذا منه تضرع بالقول. لكن عندما تكون في موقع قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن يفعل لك أمراً، فهذا تضرع بالقول والفعل. وفي لحظة الخطر يدعو الإنسان ربه ولا يمكن أن يكون

ص: 3693

في قلبه ذرة من نفاق؛ لأن الحق يقول: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .

والتضرع خفية يكون بالقلب أيضاً. وليس في ذلك رياء؛ لأن القلب لا اطلاع لأحد عليه إلاّ الخالق البارئ، والمثال على ذلك ما فعلته امرأة أوربية قرأت تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، ووصلت في قراءتها إلى أسباب نزول قوله الحق:{والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] .

ووجدت أن هذا القول الكريم قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وكان نائماً بعد ليلة من السهر، فقالت له عائشة رضي الله عنها: ألا من رجل صالح يحرسنا الليلة؟ وبينما هي تقول ذلك حتى سمعت صوت السلاح، وكان ذلك إعلانا عن مقدم سعد وحذيفة وقالا:

جئنا نحرسك يا رسول الله. ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حتى سمعت سيدتنا عائشة غطيطه، ثم نزل عليه الوحي بهذا القرآن الكريم:{والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] .

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من النوم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله» .

وعندما قرأت المرأة الأوربية هذه الحكاية في تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم َ وأحسنت الفهم لها أعلنت إسلامها على الفور قائلة: لو كان محمد يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته. لقد أدركت هذه المرأة بالفطنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم يكن ليصرف عنه الحرس لو لم يثق تمام الثقة في أن الله يحميه، وأنه سبحانه قادر على أن يحفظه. والإنسان لحظة الخطر إنما يدعو الله تضرعاً وخفية. والدعاء - كما علمنا - يحتاج إلى قول وفعل ووجدان. وهذه الأركان الثلاثة تتوافر في قوله الحق:{تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأنعام: 63] .

ص: 3694

فكلمة (تدعونه) : قول و (تضرعا) : فعل لأنه خشوع وخضوع - و (خفية) : انكسار القلب وخشيته و «أنجانا» تدل على التعدد؛ لأن الفعل للتجدد والحدوث وأيضاً قوله: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ} يدل على التكثير، أي أنه لا ينجِّي مرة واحدة ولكنه ينجِّي لمرات كثيرة. ويأتي لنا سبحانه بصور كثيرة لقدرته على أن ينجِّينا إما بتكرار النجاة أو بتعدي النجاة من موقف لموقف. وتكرار النجاة هو أن يكون الحدث واحداً وينجي الحق فيه أفراداً كثيرين، أو يكون الحدث واحداً والطالب للنجاة منه فرداً واحداً، ويكرر الله نجاته من هذا الحدث. إن الحق سبحانه ينجِّي الفرد أو الجماعة من الأحداث أو الكوارث المختلفة. وسبحانه القائل:{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] .

إن الإنسان إذا ما أصابه الضر في نفسه أو ماله أو نحو ذلك، أحس بضعفه ودعا ربه في أي حالة من حالاته - سواء أكان مضطجعاً أم قاعداً أم قائماً - حتى يكشف الله عنه هذا البلاء، وعندما يستجيب الله لدعاء هذا الإنسان ينسى هذا الإنسان فضل الله عليه كأنه لم يدع الله أن يزيل عنه الضر.

والحق سبحانه يقول: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} [الإسراء: 67] .

وسبحانه - هنا - يُذكِّر المشركين ومن كان على شاكلتهم أنهم عندما يصيبهم الضر في البحر يغيب عنهم كل من كانوا يدعونه سواء من الأصنام أو غيرها ولا يلجأون إلا الله حتى ينجيهم من الغرق ويخرجهم إلى البر، ومن بعد ذلك يعودون إلى الشرك بالله والجحود بنعمته سبحانه.

وكذلك هنا في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها.

ص: 3695

{قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأنعام: 63] .

لقد دعوا الله بالتضرع والتذلل أن ينِّجيهم من ظلمات البر والبحر، ووعدوا أن يكونوا من الشاكرين، ولكن ماذا كان موقفهم بعد أن أنجاهم الله؟

يقول الحق سبحانه: {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ

}

ص: 3696

إن الحق ينجيهم من الظلمات المادية في البر البحر، وسبحانه بعلمه الأزلي يعلم أنهم بعد النجاة سيعودون إلى ما نهاهم عنه من شرك به؛ لأن الإنسان بطبيعته عندما يجد حياته مكتفية بما يملكه قد يقع فيما قاله الحق تبارك وتعالى:{كَلَاّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7] .

والإنسان قد يتجاوز حدوده ويتكبر على من حوله، بل وعلى ربه إن رأى نفسه صاحب ثراء، ولا يعصم الإنسان من مثل هذا الموقف إلا الإيمان بالله؛ لأن الإنسان بدون منهج الله يسبح في بحر الغرور والتكبر، ولكن من يحيا في ضوء منهج الله فهو يعرف كيف يرعى الله في كل إمكانات أو ثراء يمنحه له الله، وينشر معونته ليستظل بها المحتاج غير الواحد. ولذلك نجد أن كلمة «الإنسان» إذا أُطلقت تقترن بالخسارة. {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] .

ص: 3696

أي أن الإنسان على إطلاقه في خُسْر. ولكن الحق يستثني مَن؟ . . {إِلَاّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] .

إذن فالإنسان المعزول عن منهج الله هو الذي يحيا في خسران، لكن من يعيش في رحاب المنهج هو الذي لا يخسر أبداً. والإنسانحين يعيش دون منهج يصدر ويحدث منه ما رواه الحق سبحانه:{فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ولكن أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] .

لأن الذي يعيش دون منهج يدعو الله إن أصابه الضرّ، فإذا ما أنجاه الله ادعّى أن النجاة إنما كانت بأسباب امتلكها هو، وإذا ما أعطاه الله نعمة من النعم زاد في الادعاء وزعم أن هذه النعمة مصدرها علم من عنده هو ولا ينسب ذلك إلى الموجد الحقيقي وهو الله، إنّه نسي أن كل نعمة هي مجرد اختبار من الله.

ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ هُوَ القادر

}

ص: 3697

وكلمة «قادر» تعني تمام التمكن وأنه لا قدرة ولا حيلة لأحد حيال قدرة الله؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يملي للقوم الظالمين ويمد لهم الأمر ثم يأخذهم بغتة بالعذاب، وقد يأتي العذاب من فوقهم كما جاء لقوم أبرهة الذين أرادوا هدم

ص: 3697

الكعبة، فسلط عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، جعلتهم كعصف مأكول، وهناك من أخذهم الحق بالصيحة، وهناك من أهلكتهم بريح صرصر عاتية، وكل ذلك عذاب جاء من فوق تلك الأقوام.

أما قارون فقد خسف الله به وبداره الأرض، وكذلك قوم فرعون أغرقتهم المياه، وهذه هي التحتية. فالعذاب قد يأتي من فوق أو من تحت الأرجل حسّياً، وقد يأتي أيضاً من فوقيّة أو تحتيّة معنوية، ومثال ذلك العذاب الذي يسلطه الله على الطغاة الكبار المستبدين، وقد يأتي العذاب من الفئات الفقيرة التي تعيش أسفل السلم الاجتماعي.

{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] .

والمقصود بلبس الأمر أي خلطه بصورة لا يتبينها الرائي. و «شيعاً» هي جمع «شيعة» . والشيعة هم: المتعاونون على أمر ولو كان باطلا، ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة وغاية واحدة. والمقصود بقوله الحق:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون لكل منهم أمير، وتختلط الأمور بين الاختلافات المذهبية التي تختفي وراء الأهواء، وبذلك يذيق الله الناس بأس بعضهم بعضاً.

ولماذا كل ذلك؟ لأن الناس ما دامت فد انفرطت عن منهج الله نجد الحق يترك بعضهم لبعض ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب. ولكن أُغيّر ذلك في ملك الله ونواميسه الثابتة من شيء؟ أبداً، فالسماء هي السماء، والأرض بعناصرها هي الأرض، والشمس هي الشمس، والقمر هو القمر، والنجوم هي النجوم، والمطر هو المطر.

إن الذي يحدث فقط هو أن يذيق الله الناس بعضهم بأس بعض، ويصير كل بعض من الناس ظالماً للبعض الآخر. وعندما نرى الناس تشكو، نعلم أن الناس كلها مذنبة، ومادام الكل قد أذنب وخرج عن منهج الله فلا بد أن يسلط الحق بعضنا على بعض حتى يعرف الجميع أنهم قد انفلتوا عن منهج الله لذلك يلقون المتاعب، ولن يرتاحوا إلا إذا عادوا إلى أحضان منهج الله؛ لأن منهج الله يمنع أن يتكبر إنسان مؤمن على أخيه المؤمن. والكل يسجد لإله واحد. ولهذا وضع الحق لنا العبادات

ص: 3698

الجماعية حتى يرى الضعيف في سلطان الدنيا القوي في السلطان وهو يشترك معه في السجود للإله الواحد.

مثال ذلك ما نراه من طواف الناس حول الكعبة في ملابس الإحرام، إن من بين الذين يطوفون قوما من وجهاء الناس وأصحاب الرتب العالية والمنازل الرفيعة، ومن بين هؤلاء أيضاً نجد الذين لا يحتلون إلا المكانة الضئيلة، ويرى الضعيف نفسه مساوياً لمن في المركز الاجتماعي القوي.

الكل يقف أمام ربّه وهو ذليل ويمسك بأستار الكعبة باكياً. ويريد سبحانه بذلك استطراق الغرور بين المؤمنين ويكون الناس جميعا أمام الله وفي بيته على سواء. {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] .

وها نحن أولاء نرى كيف أن الحق يلبس الناس شيعاً، إننا نرى المنسوبين إلى الإسلام يذبح بعضهم بعضاً لسنوات طويلة. وإذا كان هؤلاء وأولئك طائفتين مؤمنتين تتقاتلان فأين الطائفة الثالثة التي تفصل بين الطائفتين مصداقاً لقوله الحق:{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] .

ها هوذا الدم المنسوب إلى الإسلام يسيل، ويزداد عدد الضحايا، ومن العجيب أن الآخرين يقفون موقف المتفرج، أو يمدون كل طائفة بأدوات الدمار. وذلك يدل على أن المسألة طامة وعامة.

والقاعدة التي قلناها من قبل لا تتغير، القاعدة أنه لا يوجد صراع بين حقين؛

ص: 3699

لأنه لا يوجد في الأمر الواحد إلا حق واحد. ولا يطول أبداً الصراع بين الحق والباطل؛ لأن الباطل زهوق وزائل. ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين؛ لأن أحدهما ليس أولى من الآخر بأن ينصره الله.

ومثال آخر كنا نراه في بلد كلبنان - إبان الحرب الأهلية - وكان الصراع الدائر هناك يكاد يوضح لنا أن كل فرد صار طائفة بمفرده، وكل إنسان منهم له هواه، وكل إنسان يذيق غيره العذاب ويذوق من غيره العذاب.

{انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] .

وينوع سبحانه الحجج والبراهين ويأتي لهم بالأحداث والنوازل حتى يتبين للجميع أنه لا راحة أبداً في الانفلات عن منهج الله حتى يفقهوا. والفقه هو شدة الفهم. والمقصود أن نأخذ ونتفهم العظة من كل الآيات التي يجريها الحق أمامنا عسانا نرجع إلى مراد الله.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل

}

ص: 3700

ما الذي كذب به القوم؟ المقصود هو القرآن أو المنهج عامة؛ لأن المنهج الإيماني يشمل القرآن ويشمل ما آتى به الرسول عليه الصلاة والسلام ُ. فالقرآن معجزة مشتملة على الأصول. وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم َ بالسنُّة ليبين ويشرِّع. ولذلك نرد على هؤلاء الذين يطلبون كل حكم من الأحكام من القرآن ونقول:

إن القرآن جاء معجزة تتكلم عن أصول العقيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم َ جاء بالتشريعات التي تكمل المنهج، ومثال ذلك عدد الصلوات في كل فرض من الفروض الخمسة وعدد ركعات كل فرض من فروض الصلوات الخمس. إن القرآن

ص: 3700

لم يذكرها، ولكن أوضحها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فهو القائل في حديث شريف:«صلوا كما رأيتموني أصلي» . والرسول صلى الله عليه وسلم َ مفوض بالتشريع بنص القرآن الكريم: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] .

ونحن نصلي كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ. ونزكي بنصاب الزكاة الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، ونحج إلى بيت الله الحرام كما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وقد أنزل سبحانه القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ هو أول من طبق القرآن والسنة. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] .

أي أن هناك من الأمور العقدية التي أنزلها الحق مجملة في القرآن وفصلها للمؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بتكليف من الحق. وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ واجبة بنص القرآن وهي ضمن طاعة الحق سبحانه وتعالى، فالحق يقول مرة:{قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} [آل عمران: 32] .

وهنا طاعة الرسول غير مكررة إنها ضمن طاعة الله.

ويقول سبحانه مرة أخرى: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] .

أي أن هناك أمراً بإطاعة الله وأمراً بإطاعة الرسول.

ص: 3701

ومرة ثالثة يقول سبحانه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} .

وكل ذلك حتى نستوعب الأحكام التي التقت السنة فيها بكتاب الله.

وحين قال الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] .

فهو سبحانه لم يأت بطاعة مستقلة لأولي الأمر ولكنه جعلها طاعة من باطن طاعتين هما: طاعة الله، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم َ.

ونعود إلى معنى الآية التي نحن بصددها: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] .

إذن فالذي كذب بوجود الله وكذب بالقرآن هو مكذب للمنهج أيضا. فالمكَذَّب به هنا هو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وفي حياتنا اليومية تحدث واقعة ما ويأتي أكثر من شاهد عِيان لها فلا نجدهم يختلفون في رواية الواقعة لأنهم يستوحون واقعاً، لكن إن كان بعض من الشهود لم يروْا الواقعة التي يشهدون عليها الوقائع من أفواه الشهود؛ لأن الحق قد يختفي قليلا وراء بعضٍ من الضباب لكن لا يدوم اختفاؤه طويلاً بل يظهر جلياً ناصعاً.

والحق يضرب لنا المثل فيقول سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17] .

ص: 3702

الماء - إذن - ينزل بأمر الله من السماء فتستمر به حياة النبات والحيوان والإنسان، ويأخذ كل وادٍ على قدر حاجته. وعندما ينزل السيل فهو يصحب معه بعضاً من الشوائب التي تطفو على المياه، ومثل تلك الشوائب يَطفو - أيضاً - عندما يُصهر الذهب أو أي معدن ويُسمى الخبث. وهكذا يطفو الباطل كالزَّبَدِ ويذهب جُفاء مطروحا ومرميا به بعيداً أو ينزل على جوانبه، أما الحق الذي ينفع الناس فهو يبقى في الأرض. وتكذيب القوم للحق من الله وللقرآن وللمنهج الإيماني هو البهتان، والرسول صلى الله عليه وسلم َ ليس بوكيل على المكذبين ولا يلزمهم أن يصدقوا، فالوكيل هو الله الحق الذي يعاقب كل مكذِّب له، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم َ هي البلاغ.

«وكذّب به قومك» ، وكلمة «قومك» هذه هي تقريع فظيع لهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ جاء منهم، وعرفوه صادقاً أميناً مدة أربعين عاماً قبل الرسالة، وما جرّبوا عليه كذباً، ومقتضى مكثه معهم هذا التاريخ الطويل كان يفرض عليهم أن يتساءلوا من فور بلاغهم بالرسالة: إنه لم يكذب علينا قط ونحن من الخلق، أيكذب على الخالق؟ . ولكن الهوى أعمى بصيرتهم، ولذلك يقول الحق عن هذا البلاغ:{قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16] .

أي قل لهم يا محمد: لو أراد الله ألا ينزل قرآنا عليّ من لدنه وألَاّ أبلغكم وأعلمكم به ما أنزله وما تلوته عليكم، ولكنه أنزله وأرسلني به إليكم. وعندما يمتن الله على الذين أرسل إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم َ فهو يقول سبحانه:{لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .

وبرغم تكبر وعناد وتكذيب المشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 3703

فإنه عندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من مكة إلى المدينة ترك علياً بمكة ليسلم للناس أماناتهم. فهل هناك حمق أكثر من حمق هؤلاء الذين كذبوا برسول الله صلى الله عليه وسلم َ. أيكون أمينا معهم ولا يكون أمينا مع ربه؟

ويقول الحق من بعد ذلك: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ

}

ص: 3704

والنبأ هو الخبر المهم، فليس كل خبر نبأ، ذلك أن هناك المثير من الأخبار التافهة التي يتساوى فيها العلم الذي لا ينفع بالجهل الذي لا يضر. ومثال على الخبر المهم هو قوله الحق:{عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 1 - 3] .

إذن فكل نبأ مستقر، والمستقر هو ما طُلب القرار فيه. والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه. والمظروفية تنقسم قسمين: مظروفية زمان، ومظروفية مكان. أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر. وسوف يعلم الإنسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق بميلاد هذا المستقر الذي يُعلن فيه الخبر.

النبأ - إذن - هو الخبر العظيم المدهش. ولا أعظم من تجلي السماء على الأرض بمنهج جديد ينقذها مما هي فيه من ضلال، وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان. إذن هو نبأ عظيم؛ لأنه يخلص دنيا الناس من جبابرة الأرض، ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعاً من أهوائهم. فلا أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه؛ لأن هوى كل نفس يخدم شهواتها، والشهوات متضارية، فإذا حكّم كل إنسان هواه فلن تجد في الأرض قضية متفقاً عليها. ولذلك تكفل الحق سبحانه وتعالى للإنسان بمسألة تنظيم المنهج وهو الأمر الذي تختلف فيه الأهواء. وأما الأمر الذي تلتقي فيه الأهواء وهو استنباط ما في الأرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد تركه الحق للإنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه الله، من الكون

ص: 3704

الذي خلقه الله، وليسعد الإنسان بتلك الأسرار التي يستكشفها في الكون.

ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية، ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط منها الأسرار وأنجز الكثير من الاكتشافات العلمية. ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك المجالات، بل التقت كل الأهواء عند هذه الاكتشافات، فلا توجد - كما قلنا - كهرباء روسية وأخرى أمريكية، ولا نجد «كيمياء انجليزية» وأخرى «فرنسية» ، ولذلك تجد الأنظمة السياسية والاجتماعية على اختلافها تلتقي في مجالات العلم وتتفق ولا تختلف حتى إن بعضها قد يسرق من البعض الآخر ما توصل إليه. ولا نجد في عالم المادة والمعمل والتجربة اختلافات بين نظام سياسي ونظام آخر، بل تلتقي الأهواء عند القوانين المكتشفة والمأخوذة من مادة الكون، وهو الأمر الذي تركه الله للناس ليكونوا أحراراً فيه، ويفكرون، وينظرون، ويتأملون، ويبتكرون، ويصلون إلى أسرار في الكون تخفف عنهم تبعات الحياة، وتؤدي لهم غايات السعادة في الوجود بأقل مجهود.

ولكننا نجد الصراع العنيف على الجانب الآخر - جانب المبادئ والمنهج - وهو صراع لا يهدأ أبداً؛ لأنه صراع الأهواء فيما لم تحكمه تجربة مادية، وهم يختلفون خلافات عميقة، الرأسمالية تختلف عن الاشتراكية، وتتنوع الخلافات بين كافة المذاهب التي أنتجتها الأهواء: الشيوعية، الوجودية، الاشتراكية، الرأسمالية، وكل هذه المسائل لم تحكمها تجربة أو معمل ذلك كان الخلاف.

ومن المؤسف أن البشر قد استغلوا ما اتفقوا فيه من ابتكارات علمية في فرض النظم التي اختلفوا عليها.

وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم َ هذا الأمر؛ إنه جل وعلا قد ترك عقول البشرية حرة في كل ما يخضع للتجربة، ولكنه نظم حياة الإنسان على الأرض في ضوء المنهج الإيماني؛ لأن الإسلام جاء في إثر ديانة حاول القائمون على أمرها من الكهنة أن يفرضوا سيطرة الكهنوت على العقل البشري في أسرار الكون.

والمثال على ذلك واضح تماماً في التاريخ البشري، ففي العصر الذي تأخرت فيه أوروبا وسُمي «عصر الظلمات» كان المسلمون في الشرق باتباعهم لمنهج الله يعيشون

ص: 3705

في عصر النور؛ لأن الإسلام علمهم مجال استعمال العقل وقدراته على استنباط أسرار الله في الكون، وجاء سبحانه بهذا الدين وهو النبأ العظيم ليوضح لنا في مسيرة هذا الدين كل عبرة، وكأنه يقول لنا:

إن هذا الدين قد بدأ ضعيفاً والذين آمنوا به قلة مستضعفة لا يستطيعون حماية أنفسهم بل تلمسوا الحماية وطلبوها عند ملك غريب في الحبشة، وعلى الرغم من ذلك أنتصروا لأنهم أخذوا بهذا الدين.

وقال صلى الله عليه وسلم َ مقالة ربه: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] .

ومعنى «مستقر» أي ميلاد يستقر فيه. أي لا تتعجلوا الأحداث، ولا تجهضوها؛ فإن شاء الله سيكون لهذا الدين انتشار، وهذا الانتشار له ميلاد في زمان وميلاد في مكان، أما زمانه فإلى أن تقوم الساعة، وأما مكانه فالأرض كلها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ جاء رسولاً للناس كافة، وخاتما للنبيين والمرسلين.

ويؤيد الحق سبحانه قضية {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} بأن يشهد الواقع من الحقائق ما يؤكد ذلك. ومثل ما حدث في الزمن القريب المعاصر لميلاد الدعوة الإسلامية. فحينما جاء الإسلام آمن به قلة مستضعفة، ولما نزل قوله سبحانه:{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي جمع هذا الذي سيهُزم ويولون الدبر ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى مصارع القوم كما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بلاغاً عن الله قال عمر بن الخطاب: صدق الله، لقد هُزم الجمع وولَّوْا الدبر. ونجد كل قضية قرآنية محفوظة ومسجلة في السطور، يحفظها الله حتى لا يكون للناس على الله حجة؛ لأنه سبحانه القائل:

ص: 3706

{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] .

فلو لم يكن الواقع يؤيد أن لكل نبأ مستقراً، ولكن حدث ميلاداً زماناً ومكاناً، فماذا يظن الناس الذين يستقبلون القرآن؟ لذلك أتى الحق بكل قضية قرآنية ومعها دليلها، وأعطى الحق بعضاً من الحقائق الموثقة بالأحداث زماناً ومكاناً ليتأكد قوله الحق:{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] .

وقد علمت الدنيا وانتصر الإسلام. لقد شاء الحق أن يربي حامل الدعوة الأول عليه الصلاة والسلام ُ - ويعلم معه صحابته رضوان الله عليهم، يعلمهم منطقاً ليسايروا به أحداث الكون.

ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى كان يُنزل الرسل بالأديان على فترات، وعندما يعُم الفساد في الأرض ينزل الحق منهجه على رسول ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس بشرية تعادلاً ذاتياً، فإذا اشتهى الإنسان شهوة يحرمها الدين، وقضى الإنسان هذه الشهوة، وهدأت شرّة وحدّة المعصية في نفسه، فالإنسان يؤنب نفسه ويوبخها. ولكن النفس قد تستمرئ الشهوات، وينعدم الوازع الذي يردع الإنسان.

وإذا انعدم الوازع في فرد واحد فلن ينعدم في المجتمع، ونجد من الناس من يحمل المجتمع على المعروف، ويوجه صاحب النفس التي استمرأت المعصية إلى التوبة والخير. أما إذا عم الفساد في الفرد وفي المجتمع فماذا يكون الموقف؟

لا بد أن تتدخل السماء برسول جديد، ومنهج جديد. ويأتي الرسول الجديد ومعه المنهج اللازم لإصلاح الكون. ولا يتبع الرسول الجديد إلا المستضعفون القلة، وأهل البصيرة من أهل القوة حتى لا يظن ظان أن الضعفاء لاذوا بالدين ومالوا إليه بسبب ضعفهم. ويحذر الحق المؤمنين وكأنه يقول: إنكم تواجهون باطلاً

ص: 3707

عض الناس وأرهقهم وأعنتهم، وحين يعضّ الباطل المجتمعات فالذي ينتفع من ذلك هم أهل الباطل، والذي يشقى بذلك هم أهل الحق. فلكل فساد طبقة منتفعة به. وحين توجد الطبقة المنتفعة بالفساد. وحين توجد كلمة الحق فإن المنتفعين بالفساد ينظرون إلى نفوذهم الذي سينحسر حتماً عندما تسود كلمة الحق.

وحين ينتصر الحق لا بد أن يزول الفساد ومعه كل نفوذ أهل المفاسد. لذلك يقف المنتفعون من الفساد ضد الدين الجديد ليحافظوا على مكانتهم في المجتمع. ويقول الحق تهذيباً للمؤمنين، وتأديباً لغير المؤمنين: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ

}

ص: 3708

وبهذا القول يوضح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم َ: اعلم أن ما جئت به سيخاض فيه، ويقال مرة إنه سحر، ومرة إنه شعر، وثالثة إنه كهانة، ورابعة يتهمونك بالكذب، ولا يقول ذلك إلا المنتفعون بفساد الكون، فإذا ما جاء مصلح فسيجعلونه عدواً لهم. لذلك لا بد أن تحافظ على أمرين. . الأمر الأول: أن الذين اتبعوك - وهم ضعاف - قد لا يستطيعون مواجهة القوة الظالمة؛ لذلك لا تحملهم ما لا طاقة لهم به ولكن تَرَيَّثْ؛ فإن لكل نبأ مستقراً، والأمر الثاني: أَنك إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وبيِّن لهم الجفوة فلا تقبل عليهم، ولا توادهم، ولا تستمع إليهم، ولا يسمع إليهم أصحابك، لماذا؟ لأنهم يخوضون في آيات الله. ولكن أيستمر هذا الإعراض عنهم طوال الوقت؟ ، لا، فالإعراض عنهم إنما يكون في أثناء خوضهم وتكذيبهم لآيات الله، أما في غير ذلك من الأوقات فاعلم أن آذانهم في حاجة إلى سماع صيحة من الحق، لذلك انتهز به؛ لأنك إن تركتهم على ضلالهم فإن قضية الإيمان تصير بعيدة عنهم، وأنت مهمتك البلاغ، والله يريد الخير لكل خلقه.

ص: 3708

{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] .

وكلمة «الخوض» هذه تشعرنا بمعنى في منتهى الدقة؛ لأن الخوض في أصله هو الدخول في الماء الكثير. والماء الكثير ساتر لما تحت قدمي الذي يخوض فيه، وما دام قد ستر ما تحت قدميه فهو لا يدري إلى أي موقع تقع قدماه، وربما وقعتا في هوّة، لكن الذي يسير في غير ماء فالطريق واضح أمامه، يضع قدميه حيث يرى فيها ثباتاً واستقراراً وعدم إيذاء. وأخذوا من ذلك المعنى وصف الكلام بالباطل، لأنه خوض بدون اهتداء. ولذلك يقول الحق:{ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91] .

ولماذا وصف فعلهم هذا بأنه لعب؟

ذلك لأن اللعب هو شغل النفس بشيء غير مطلوب وكان في قالب الجد. ولكن إذا كان هذا الشيء يؤدي إلى نبوغ في مجال من مجالات الحياة فنحن ندرب أبناءنا عليه في فترة ما قبل البلوغ. ومثال ذلك تدريب الأبناء على السباحة والرماية. وركوب الخيل. وما إن يبلغ الإنسان فترة البلوغ حتى تصير له مهمة في الحياة، ويصبح عليه أن يتحمل المسئولية، فلا يضيع وقته في اللعب أو فيما يلهيه عن أداء الواجب.

{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] .

والنفس البشرية لها أغيار. وهذه الأغيار قد تنسيها بعض التوجهات. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ موعود من ربه بعدم النسيان. {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تنسى}

[الأعلى: 6] .

ص: 3709

فإذا كان هذا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فكيف نفهم قول الحق هنا: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] .

إننا نفهم هذا القول على أساس أنه تعليم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم َ، وحينما ينزل أمر من السماء فرسول الله أولى الناس بتطبيقه، فإذا كان الرسول يُخاطَب:{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} فإذا ما نسي إنسان لغفلة من الغفلات، فليأخذ علاج الله للنسيان، وهو ألا يقعد مع هؤلاء القوم الذين يخوضون في آيات الله في أثناء خوضهم، ولكن عليه أن يتركهم ويعرض عنهم. إذن فالحق سبحانه وتعالى احترم خلقه؛ لأنه وهو العليم بهم، خلق لكل إنسان ملكة حافظة، وملكة ذاكرة، وملكة مخيلة، وكل ملكة من هذه الملكات تؤدي مهمة: فالملكة الحافظة تحفظ المعلومات، والذاكرة تأتي بالمعلومات المحفوظة القديمة لتجعلها في بؤرة الشعور. ولو لم يكن هناك نسيان لما استطاعت فكرة أن تدخل في ذهن الإنسان؛ لأن العقل لا ينشغل إلا بقضية واحدة في بؤرة الشعور. وحتى تدخل قضية أخرى في بؤرة الشعور، لا بد أن تتزحزح القضية الأولى من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور.

لذلك لا بد من نسيان خاطر ما ليحل محله خاطر آخر. ولو ظل الإنسان ذاكراً لقضية من القضايا في نفسه لصار من المحال أن تدخل قضية جديدة أخرى. ولهذا خلق الله النسيان، أي انتقال قضية ما من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور.

والإنسان منا يتذكر شيئاً حدث من عشرين عاماً، ثم يمر هذا الحادث بالخاطر فجأة، ويتساءل الإنسان، كيف؟ ويعرف الإنسان أن هذا الحادث كان محفوظاً ومصوناً في دوائر شعورية بعيدة. ولذلك نجد الإنسان عندما يريد استعادة معنى من المعاني فهو يترك لنفسه فرصة لاستعادة هذا الخاطر أو ذلك المعنى، ولذلك يسمون هذه المسألة «تذكر» .

{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] .

ولماذا ينسب الحق النسيان للشيطان؟ ، لأن حقائق الحق في دينه هي الصدق،

ص: 3710

ولا يصح أن تغيب أبداً عن بال المؤمن، وهي لا تغيب عن بال المؤمن إلا بعمل الشيطان فالشيطان يزين الأمر الذي يحبه الإنسان ويشغله عن أمر آخر، فإذا ما نزغ الشيطان لينسى الإنسان، وتذكر الإنسان أن هذا من نزغ الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ولا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.

وأنت حين تفعل ذلك وتنفر من هؤلاء القوم الظالمين فأنت تلفتهم إلى أن ما عندك من يقين إيماني هو أعز عندك مما في مجالسهم من حديث وما يكون لديهم من نفع. وبذلك تنتفع أنت بهذه التذكرة وهم أيضاً يلتفتون إلى أهمية الإيمان وأفضليته عند المؤمن على ما عداه.

وما كان الحق سبحانه وتعالى ليفرض على المؤمنين مقاطعة المشركين في أثناء فترة ضعف المؤمنين في بداية الدعوة. وكان المؤمنون يلتقون في المسجد الحرام، وكان المشركون يذهبون أيضاً إلى الكعبة قبل فتح مكة، فهي مكان حجيجهم، فهل يقاطع المسلمون المسجد الحرام في بداية الدعوة الإسلامية ولا يلتقون؟ قطعاً لا. ولكن كان المسلمون يذهبون للقاء في المسجد الحرام، وإذا جاء الذين يخوضون في آيات الله فهم يعرضون عنهم. ووزر الخائضين على أنفسهم. ولذلك يقول الحق:{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ}

ص: 3711

أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت، فأنت تلفتهم إلى أنّ ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس، إنه احترام تكليف الله فيما أمرك به ونهاك عنه، وليس عليك ولا على الذين يتقون الله من أوزار هؤلاء الظالمين من شيء، وليس عليكم من حسابهم من شيء، ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم يتفكرون في منطق الحق ويخشون الله ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في وقاية من عذاب الله وسخطه.

ص: 3711

ويقول الحق من بعد ذلك: {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ

}

ص: 3712

قلنا - من قبل -: إن اللعب هو الاشتغال بما لا يفيد لقتل الوقت. وعرفنا أن اللعب مجاله قبل التكليف أي قبل سن البلوغ. وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لأنك لهيت عن امر واجب عليك، فاللهو - إذن - هو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة.

وقوله الحق: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} هو تصوير لا يوجد أبرع منه؛ لأنهم أصحاب العقول التي تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأناً من أن تكون غاية، ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الآخرة.

وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها، وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات، وغاية وجود الناس على الأرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق، فمن انجرف عن ذلك فله عقابه يوم الغاية الكبرى، وهو يوم الحساب.

إننا نعلم أن غاية الإنسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمراً طويلاً، ولا أن

ص: 3712

ينال المناصب، ولا أن يحصل على الثراء، ولا أن ينال القوة، فكل ذلك من الأغيار، والأغيار تختلف من إنسان إلى آخر.

وما نختلف فيه نحن البشر ليس غاية لوجودنا، والغاية للوجود الإنساني لا بد أن تكون واحدة. وأن نتفق فيها جميعاً، هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت. ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب الغاية منه. ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالاً أحمق، فعندما يموت شاب في العشرين نجد من يقول:«إنه لم يستمتع بشبابه» والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول متسائلاً: أين تريد أن يستمتع بشبابه؟ . ويجيب أصحاب الفهم السطحي: لقد مات قبل أن يستمتع بشبابه في هذه الدنيا.

ويقول المؤمن الحق: وهل هذه الدنيا هي الغاية؟ . إنها ليست الغاية، بل الغاية هي الحياة الأخرى. ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه الله من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم. فلماذا - إذن - هذه المبالغة في الحزن على أي ميت؟ والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية. وهب أن إنساناً غايته أن يذهب إلى الإسكندرية، والوسيلة إليها قد تكون حصاناً أو عربة أو طائرة، فكل شيء يقربه من الغاية يكون هو الأفضل.

فإذا كان الله يريد أن يأخذ بعضاً من خلقه وهم في بطون أمهاتهم، فهذه إرادته. والذي ذهب من بطن الأم إلى القبر قرب من الغاية، وخلص من المراحل التي كانت في طياتها الفتنة. ودخل الجنة.

وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخاً ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج، فإلى أين مصيره؟ إنه إلى الجنة.

إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر الله بحب: قدر الميلاد أو قدر الخروج من الدنيا، ولذلك يقول الحق سبحانه:

{تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 1 - 2] .

ص: 3713

إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت، لا، بل قال:{خَلَقَ الموت والحياة} وذلك حتى يستقبل كل منا الحياة، ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت. إذن فهذه هي الغاية التي يتفق فيها كل الجنس البشري، أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها.

لذلك لا تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للإعدادية ثم يحصل على الشهادة الإعدادية، ثم يحصل على الثانوية العامة، ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بالكالوريوس التخرج أو درجة الماجستير أو درجة الدكتوراة، ثم يصير صاحب شأن في الحياة، لا تقل ذلك؛ لأن كل ذلك ليس غاية في الحياة، ولأن الغاية هي ما لا يوجد بعدها بعد، ولكن علينا أن نقوم بإعمار الأرض كما أمرنا الله ولكن لا نجعلها هي الغاية.

ولذلك قال الحق سبحانه: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ مَتَاعُ الغرور} [الحديد: 20] .

هذه هي الحياة الدنيا، ولذلك يجب أن نحيا دائماً على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر الله، إن الحق سبحانه يقول:{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70]

والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من الذكر أيضاً، أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من يخالف المنهج، وقوله الحق:{وَذَكِّرْ بِهِ} ، يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن الحق لا يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل

ص: 3714

المنحرفين. ومثال ذلك الإنسان الذي يخوض في أعراض الناس ويظلمهم لا يتصور أبداً - أن يلقى من الحق - سبحانه - المعاملة التي يعامل بها الإنسانَ الملتزم بمنهج الإيمان؛ فالفطرة تقول لنا: إن الحق يجازي كل إنسان بعمله، سواء أكان الجزاء في الدنيا أم في الآخرة. ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال: لن يموت ظلوم حتى ينتقم منه الله. ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء، فقال الرجل العربي:

والله إن وراء هذه الدار داراً يُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} والبَسْلُ معناه: المنع، والمنع له صورتان: الأولى منع حركة حياة حي.

. أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه، والثانية: منع من أصل الحياة. . أي أن تهلكه وتزهق روحه، {تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي تُمنع نفس بما كسبت، والمنع إما بالهلاك أو بالحبس حبساً يديم عليها العذاب. والحبس - في أعراف البشر - وهو وضع إنسان في مكان لكفِّه عن ظلم غيره، أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس.

وعندما جاء الإسلام لم يحبس فرداً إنما حبس المجتمع عن فرد، وهذا عقاب أكبر وأشد؛ فقد ترك الإسلام المجرم حرّاً في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه؛ فالمجرم يمشي فلا يجد من يكلمه أو يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه.

وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلاثة تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حتى أن إنساناً منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت. وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه فما رد عليه السلام فجلس يبكي. وقاطع كل الناس هؤلاء الثلاثة، وهذه هي عظمة الإسلام، لقد سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له.

{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي ذكر بالقرآن أو بالمنهج أو بعاقبة مخالفة الإنسان للمنهج. والعقاب إما حبس وإما هلاك، وذلك بسبب ما تكسب النفس. والكسب في اللغة معناه زيادة على رأس المال. وللكلمة اشتقاق ثان وهو «اكتسب» . ومرة تأتي الكلمتان في معنى واحد، فالكسب يحدث دون افتعال ودون

ص: 3715

تعب أو مشقة، أما الاكتساب فهو يحدث بافتعال وبمعالجة وعنت؛ لأن الذي يصنع المحرَّم يأخذ أكثر من قدرة ذاته، فيكون قد اكتسب. أما الذي يأخذ الأمر المشروع له فهو قد كسب. ولكن بعض الناس تأخذ ما اكتسبوه باحتيال ومكر ويظنون أنه كسب وهذا هو الشر؛ لأنه يأخذ غير المشروع له ويحلله لنفسه، ويعتبره كسباً لا اكتساباً.

ولذلك يقول الحق سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] .

إن «لها» أي لصالح النفس؛ لأنها أخذت ما هو حق لها. و «عليها» أي ضد النفس؛ لأنها افتعلت في أخذ ما ليس حقاً لها. ومثال ذلك: نظرة الرجل إلى زوجته، إنها نظرة طيبة إلى حلال طيب. لكن نظرة الرجل إلى امرأة غريبة قد تحتوي من الافتعال الكثير؛ فهو يتلصص ليراها، ولا يرغب في أن يراه أحد وهو يختلس النظر إليها، وهذه كلها انفعالات مفتعلة.

ومثال آخر: سيدة البيت عندما تدخل إلى مطبخها فتتناول شيئاً لتأكله، إنها تأكل من حلال مال زوجها، أما الخادمة فعندما تريد أن تأخذ قطعة من اللحم من المطبخ دون علم أهل البيت فهي تتلصص، وتحاول معرفة عدد قطع اللحم، وقد تتساءل بينها وبين نفسها: ألم تقم ربة البيت بحصر عدد قطع اللحم؟ ولذلك فهي تأخذ من كل قطعة لحم قطعة صغيرة.

وهذا افتعال يتعب الجوارح؛ لأن مثل هذه الأمور تتعب ملكات الإنسان، إنّه يحاول أن يرضي ملكة واحدة فيتعب كل ملكاته الأخرى.

{وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَاّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70] .

إذن فهي النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يُقبل منها عدل. وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق:{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ} والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق.

ص: 3716

ومأزق الآخرة كبير، فماذا عن الإنسان الذي ليس له ولاية؟ إنه العذاب الحق.

والمرحلة الثانية {وَلَا شَفِيعٌ} أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو الله؛ فالذي يحبك إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك. وهذا أيضاً لا يوجد لمن لم يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج الإيماني.

والمرحلة الثالثة {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَاّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} أي أنه لا تقبل منه فدية. فهذه المنافذ الثلاثة قد سُدّت ولا سبيل للنّجاة لهؤلاء الذين قال فيهم الحق: {أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} أي أهلكوا أو حُبسوا في الجحيم حبساً لا فكاك منه، وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضاً:{لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} .

إن كلمة «شراب» إذا سمعناها فإننا نفهم منها الرِّي. ولكن الحق هنا يتبع كلمة «شراب» بتحديد مصدر هذا الشراب، إنه «من حميم» ليحدث ما يُسمى «انبساط» و «انقباض» ؛ فالشيء الذي يسرّ الإنسان تنبسط له النفس. والشيء الذي يحزن الإنسان تنقبض له النفس. ولو أن الأمر المحزن جاء بداية في هذا القول الكريم لانقبضت النفس في المسار الطبيعي، لكن الحق شاء أن يأتي أولاً بكلمة من يسمعها تُسر نفسه وهي «شراب» ثم تبعها بما يقبض النفس «من حميم» ليكون الألم ألمين: ألم زوال السرور، وألم مجيء الحزن.

ويصور القرآن في موضع آخر هذه الصورة فيقول: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه

} [الكهف: 29] .

وتنبسط النفس حين تسمع الجزء الأول وهو: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} ولكنها تنقبض فور سماعها {بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} .

وصورة أخرى عندما يقول الحق: {

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .

ص: 3717

وتنبسط النفس - كما علمنا - حينما تسمع خير البشارة؛ لأن البشارة تأتي للأمر المفرح، وتنقبض عندما تعلم أن البشارة هي بالعذاب الأليم. إذن فقد جاء الحق بالانبساط، وجاء بالانقباض. وهذه سنة من سنن الله في التأديب. ومثال على ذلك: عندما يرتكب إنسان مظالم كثيرة، وتفاقم واستفحل شره ويريد الله أن ينتقم منه، إنه سبحانه لا ينتقم منه وهو على حاله الطبيعي، إنما يرفع الحق - سبحانه - هذا الظالم إلى درجات عالية ثم يخسف به الأرض.

ولذلك يقول الحق: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً

} [الأنعام: 44] .

وساعة تسمع {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} فأنت تخاف؛ لأن الفتح هنا «عليهم» وليس «لهم» . لكنك ساعة تسمع قوله الحق: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] .

فإنك تحس بالانشراح والسرور؛ لأن الفتح هنا لصالح المتلقي وليس عليه هكذا يريد الحق أن يصْلى المتجبرون العذاب المضاعف: {

لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] .

والعذاب هنا نتيجة لما فعلوه وليس فعل جبار متسلط. أما غيرهم من المتساوين معهم في الملكات، واختاروا الخير فآمنوا بالمنهج وطبقوه على أنفسهم فقد نالوا الخير بما فعلوا، والتكوين الإنساني في ذاته صالح لفعل الخير ولفعل الشر، وسنة الحق واضحة جلية:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] .

ص: 3718

ويقول الحق من بعد ذلك: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله

}

ص: 3719

هذه الآية تبدأ بسؤال عن عبادة الأصنام أو غيرها، ما الذي صنعته تلك الأصنام أو غيرها لمن عبدها؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها؟ . وهذا أول منطق في بطلان ألوهية غير الله، فمن عبد الشمس مثلا ماذا أعطته الشمس؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس؟ . إنها تشرق لمن عبدها ولمن لم يعبدها. والصنم الذي عبدوه، ماذا صنع لهم؟ لا شيء. وهذا الصنم لم يُنْزِل عقاباً على مَنْ لم يعبده، بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الأصنام؛ لأنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون.

وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الإله الحق: {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} والإنسان دائماً حين يسير فهو يقطع خطوة إلى الأمام فيقصر المسافة أمامه، أما من يُرَدُّ على عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها.

وهذا حديث المؤمنين الذي يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير الله لأنهم آمنوا وساروا في طريق الهدى، وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين.

{كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض} كلمة «شيطان» مقصود بها عاصي الجن. والجن جنس مقابل للإنس، وما دام في الإنس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون.

ص: 3719

والحق قال: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} [الجن: 1 - 2] .

إذن فمن الجن من هو مؤمن. ومن الجن من هو عاصٍ. والعاصي من الجن يُسمى شيطاناً. وإياك أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لأنك لا تراه، لأن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها الله من عالم الغيب، وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها، وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود الشيء وبين إدراك وجود الشيء. والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود شيء وإدراكه. وهناك فارق بين أن يوجد أو يدرك؛ ذلك أن هناك ما يكون موجوداً ولكنه لا يُدرك.

{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله} [الأنعام: 71] .

جاء هذا التصور في صورة استفهام. إنّ الحق طلب من رسوله أن يقوله، فكأن الصورة: أن قوماً هداهم الله إلى الحق فدُعُوا إلى أن يعبدوا غير الله ويدعوا ما لا ينفع ولا يضر، فيردوا على أعقابهم، أي بعد الهداية، وهذه هي صورة الحيرة والتردد؛ لأنهم كانوا على هدى، ثم دُعُوا إلى أن يعبدوا من دون الله ما لا ينفع ولا يضر. وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه الحيرة، ولهذا التردد، فقال:{كالذي استهوته الشياطين} .

و «استهوته» من مادة «استفعل» وتأتي دائماً للطلب؛ كقولنا «استفهم» .

أي طلب الفهم، و «استخرج» . أي طلب الإخراج للشيء، «فاستهوته» طلبت هُوِيَّة. أي جعلته يتقبّل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء، وترده مادة «الهاء والواو والياء» لمعانٍ، إن مُدَّت؛ فهي الهواء الذي نتنفسه، وما به أصل الحياة، وإن قُصِرَت، فإنها هي الهَوَى وهو ميل النفس إلى شيء، أو تكون هُويًّا أي سقوطاً.

ص: 3720

إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة، وإن كانت بالقصر فهي من الهَوَى أو من الهُوِىّ؛ كأن تقول:«هَوَى، يَهْوِي؛ هُوِيّاً» أي سقط من علوٍّ إلى أسفل، وهَوِىَ، يَهْوَى، هَوّى. أي أحبَّ، وهكذا نعرف أن «استهوته» أي طلبت هويَّه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع الهَوَى، وحين تستهوي الشياطين الإنسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه، وتوقظ الهوى في النفس، وبذلك تدعوه ليَهْوِي. والحق يقول:{وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

وحين يخرّ عبد من السماء، إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وحين تأتي إلى الهَوَى والهُوِىّ فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك، ولذلك لا تسلم منه إلا أن يكون هواك تبعاً لما جاء به الحق، ولكن إن اتبعت هواك فلا بد أن يؤدي بك إلى الهُوِيّ:{كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ} [الأنعام: 71] .

وما هي الحَيْرة؟ هي التردد بين أمر ومقابله. وعرفنا من قبل أن الحَيْرة في هذه الآية جاءت لمن اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رُدَّ على أعقابه ورجع، ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى، فهو بين شيطان يستهويه، وأصحاب يدعونه للمنهج؛ لذلك يكون حيران: بين هاوية ونجاة، والشيء الذي يهوي لا استقرار له، وحين نرى - على سبيل المثال - حجراً يهوي للأرض نجده يدور، ولا اتجاه له. وهذه صورة معبرة، ويأتي له القول الفصل:{قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [الأنعام: 71] .

فمن يتبع إذن؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى؛ لأن الهدى

ص: 3721

هو المنهج والطريق الموصل للغاية، والصنعة لا تضع غاية لنفسها، بل الذي يضع الغاية هو من صنعها، وسبق أن قلت: إنّ التليفزيون لا يقول لنا غايته، ولا يعرف كيف يصون نفسه، بل يضع ذلك مَنْ صنعه، وكذلك الإنسان عليه أن يأخذ غايته مِمَّن خلقه، والذي يفسد الدنيا أن الله خلق، لكن الناس أرادوا أن يضعوا لأنفسهم قانون الصيانة، لذلك نقول: إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا، وهدى الله هو هدى الحق.

وجاءت «الهدى» هنا لتعطينا يقيناً إيمانياً في إله واحد، وحين توجد عقيدتنا في إله واحد، لا تختلف أهواؤنا أبداً؛ لأنه هو الذي يضع لنا القانون، وساعة يضع لنا القانون ويكون كلٌّ مِنِّا خاضعا لقانونه، لا يذل أحد منا لأحد آخر؛ فأنا وأنت عبيد لإله واحد، ولا غضاضة عليك ولا غضاضة عليّ. وحين يُريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن يُذِل الآخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه، وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم، ولذلك تجد الهداية الحقة حين نخضع جميعاً لإله واحد، ويتساند المجتمع ويتعاضد ولا يتعاند، ويتوجه الهوى إلى محبة منهج الله. {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] .

ولهذا جاء الدين؛ لأن الشرع لا يقرر شيئاً ضد الإنسان.

ونذكر جميعاً قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلام حينما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} . ولم تقل: أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان لله، فلا غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة لسليمان، بل تابعة لرب سليمان، إذن حين يأتي التشريع من أعلى، لا غضاضة لأحد في أن يؤمن، ولا يظن واحد أنه تبع لآخر بل كلنا عبيد لله. وحين نكون جميعاً عبيداً لواحد نكون جميعاً سادة.

ويتمثل الهدى في الإيمان بإله واحد، ونأخذ هذا الإيمان بأدلتنا العقلية. إننا ندخل عليه من باب العقل، ونسلم أمرنا له؛ لأنه هو أعلم بما يصلحنا.

ص: 3722

{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71] .

وقوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة

}

ص: 3723

هنا تجد الأمر بثلاثة أشياء: نُسْلِمُ لرب العالمين، ونقيم الصلاة، ونتقيه سبحانه، لماذا؟؛ لأن كل الأعمال الشرعية التي تصدر من الجوارح لا بد أن تكون من ينابيع عقدية في القلب.

وكيف نسلم لرب العالمين؟ . أي نفعل ما يريد وننتهي عما ينهى عنه، ثم نقيم الصلاة وهو أمر إيجابي، ونتقي الله أي نتقي الأشياء المحرمة وهو أمر سلبي، وهكذا نجد أن الهدى يتضمن إيماناً عقدياً برب نسلم زماننا له؛ لتأتي حركتنا في الوجود طبقاً لما رسم لنا في ضوء «افعل» و «لا تفعل» ، وحركتنا في الوجود إما فعل وإما ترك. والفعل أن نقوم بسيد الأفعال وهو الصلاة، والترك أن نتقي المحارم، وهذا كله إنما يصدر من الينبوع العقدي الذي يمثله قوله:{لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} .

والحق سبحانه وتعالى حينما يأمر بفعل أو ينهى عن شيء هو يعلم أنك صالح للفعل وللترك، فإذا قال لك: افعل كذا، فأنت صالح ألا تفعل، وإذا قال:«لا تفعل كذا» ، فأنت صالح أن تفعل، ولو كنت لا تصلح لأن تفعل لا يقول لك: افعل؛ لأنك مخلوق على هيئة تستطيع أن تفعل وتستطيع ألا تفعل، وهذا هو الاختيار المخلوق في الإنسان، أما بقية الكون كله فليس عنده هذا الاختيار.

مثال ذلك: الشمس، إنها ليست حرّة أن تشرق أو لا تشرق، الهواء ليس ليس حراً أن

ص: 3723

يهب أو لا يهب، والأرض في عناصرها ليست حرّة في أن تكتمها أو لا تكتمها، لكن الإنسان مميز بقدرته على أن يختار بين البدائل؛ لذلك لا بد أن يكون صالحاً للأمرين، والخطأ إنما يأتي من أن تنقل مجال «افعل» في «لا تفعل» . أو مجال «لا تفعل» في «افعل» . والمؤمن يأخذ منطقية «افعل» في مجال «الفعل» ، ومنطقية «لا تفعل» في مجال الترك.

وحين تنظر إلى الإنسان تجد أن التكليف الإلهي يناسب التكوين البشري. وأنت تشترك مع الجماد في أشياء، ومع النبات في أشياء، ومع الحيوان في أشياء، وتتفوق على الكل بقدرة الاختيار التي منحك الله إياها.

ولتوضيح هذا الأمر أقول: لنفترض أن واحداً أخذك إلى مكان مرتفع ثم تركك في الجو عندئذ تسقط على الأرض، وهكذا تجد أن قانون الجماد ينطبق عليك، فليس لك إرادة أن تقول:«لا أريد أن أقع» وهكذا نرى الجمادية فيك، وانظر إلى «النمو» الذي لا تتحكم فيه ولا تقدر أن تقول:«سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر» بل أنت لا تعرف كيف تنمو، وأنت لا تعرف كيف ينبض قلبك، ولا سرّ الحركات الدودية للأمعاء، ولا حركة المعدة، أو عمل الكبد، أو حركة التنفس التي بها تقوم الحياة، وكل ذلك أمور قهرية، ومن رحمة الله بنا أنها قهرية، فلو كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك.

إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل، ومسخرين فيها، وبعد ذلك خلق لنا الاختيار في التكليف، افعل، ولا تفعل، والتكليف من الله سبحانه وتعالى في الأفعال التي تقع من الإنسان لا في الأفعال التي تقع على الإنسان؛ لأن الأفعال التي تقع من الإنسان هي التي فيها اختيار ويبحثها العقل أولاً، لينفذها الإنسان بعد ذلك. ولذلك لا يكلف ربنا إلا العاقل الناضج؛ لأنه لا توجد قوة تقهره على غير ما يختار. أما المجنون فليس عليه تكليف؛ لأنه لم يُدرْ المسألة في رأسه قبل ان يفعل، وكذلك من لم ينضج؛ لأنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل، وكذلك المقهور على فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه.

ص: 3724

وهكذا نعلم أن التكليف لا يلزم الإنسان في تلك الحالات حيث لا يوجد عقل أو يكون العقل غير ناضج، أو أن يوجد قهر.

ويتابع الحق: {وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ولو أن المسألة - مسألة الإيمان - مجرد مظهر لا جوهر لما ترتب عليها نتيجة، ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية. وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - نجد التلميذ مثلاً إن حضر الدرس أو لم يحضر، استمع إلى المدرس أولاً، ذاكر أو لم يذاكر، ألا يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام؟ .

إذن فالحساب قائم على كل فعل؛ لأنك تتمتع أيها الإنسان بخاصية الاختيار، أي أنك صالح لتفعل أو ألَاّ تفعل، ولذلك يرشدك الإيمان إلى العمل الصالح؛ لأن هناك غاية؛ إنَّك ستصير إلى من يحاسبك على أنك نقلت «افعل» في مجال «لا تفعل» ، أو «لا تفعل» في مجال «افعل» . فإن كنت لا تأخذ أمور الإيمان لصلاحية حياتك فخذها خوفاً من الجزاء والحساب.

ثم يقول الحق من بعد ذلك: {وَهُوَ الذي خَلَقَ

}

ص: 3725

والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير فلننظر إلى خلق السماء والأرض، يقول سبحانه:{إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولَا} [فاطر: 41]

ص: 3725

وحين ننظر إلى الأفق نجد السماء من غير عمد، وهذه مسألة عجيبة، ولذلك يقول سبحانه:{بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]

وهنا يقول الحق: {خَلَقَ السماوات والأرض} وذلك حتى نعرف أن خلق السموات والأرض ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر؛ إنّه خلقك أنت بخلق عجيب، وأعجب منه خلق السموات والأرض، فهو القائل:{لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57]

وحين ينظر الإنسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة، ويتحقق من قول الله:{وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]

وحين تتأمل السماء والأرض تجد دقة الخلق، فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياساً، إنك ستعلم أحوالها تباعاً وأنك سَتُهْدَي مع الأيام، إلى سر جديد في هذه النفس، هذا السر لم يعرفه الأولون، لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلات السبر وآلات الاختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد.

مثال ذلك ما يسمى بالاستطراق، وكلنا رأينا الأواني المستطرقة التي نضع فيها سائلا ينفذ في أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة، فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة الاستطراق، وهناك استطراق مائي، ويوجد أيضاً حراري، ويتمثل الاستطراق الحراري حين نأتي بالمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة، ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة، وأنت تجد نفسك محتفظاً بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلاثون درجة. ومن العجيب أنها تتساوى في البشر جميعاحتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي!! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع

ص: 3726

الجو؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة؟ .

إن ذلك يثبت أن ذلك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيا فيه، وتظل درجة حرارتك عند خط الاستواء 37 درجة، وفي القطبين 37 درجة، هذا عجيب، والأعجب من ذلك أن أجزاء جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة، فلو أن درجة حرارة العين 37 درجة لانصهرت؛ لذلك تجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط، وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين درجة، وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك لا تستطرق فيها درجة الحرارة. ولذلك قال الحق:{وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} .

ومثال آخر من عملية التنفس، فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم الإنسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسراً إلى أن تطرد هذه الذرة، فهل أنت سعلت بقرار منك؟ لا، بل هو عمل لا إرادي خاضع لنظام دقيق لا يمكن أن يصممه إلا خالق له مطلق الحكمة، وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين درجة؛ لأنه لا يؤدي مهمته إلا عند هذه الدرجة.

وكذلك نجد أنّ الأذن هي أطول عضو يشعر بالبرودة؛ لأن درجة حرارتها قليلة، وهكذا أراد الصانع الأعلى. كما جاء في قوله تعالى:{وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} [الأنعام: 73]

لقد خلق الحق السموات والأرض بقوانين ثابتة لا تتغير إلا بمشيئته، فهو القائل:{لَا الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلَا الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]

فيامَنْ تريد النظام دليلاً على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام الأعلى. ويا من تريد الشذوذ دليلاً على سيطرة الحق فوق الميكانيكية، خذها في الأفراد؛ لأنه

ص: 3727

لو حصل شذوذ في الكون الأعلى لفسدت السموات والأرض، لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان، فلا يحدث خلل في الكون، ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض، والنظام يأتي فيما في تركه فساد، كما يقول سبحانه:{وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} [الأنعام: 73]

وبذلك نرى الإيجاد الأول بالحق، وأيضاً حين يهدم سبحانه السماء والأرض وينهي الدنيا ويزيلها، فتمور السماء، والكواكب تنتثر وتتساقط؛ فإن ذلك يحدث أيضاً بالحق، فليس الخلق والإيجاد وحده دليلاً على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضاً دليل عظمة؛ لأنه سبحانه قال في البدء:«كن» فكان الكون، وفي النهاية يقول:«كن» فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء إحسانه، ويحاسب المسيء؛ لأن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره، ولا بد له من ثواب، والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقاباً. فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب لينال كلٌُّ جزاءه.

إذن فخلق السموات والأرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق، فالحق في الإيجاد والحق في الإعدام، إنّه حاصل في بدء الخلق، وفي نهايته.

{وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير} [الأنعام: 73]

وهل كان الملك يوماً لغير الله؟

في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملْكاً، ويقال لصاحبه مالك، وفيه مُلك ويقال لصاحبه ملك. والملك ما تملكه؛ فقد تملك جلبابك الذي ترتديه. أما المُلْك فهو أن تملك من يَمْلك، فهذا اسمه مُلْك، وربنا سبحانه وتعالى في دنيا الأسباب جعل لكل واحد منا ملكاً، وجعل لبعض علينا مُلكاً فبقوا ملوكاً، لكن في الآخرة لا يوجد شيء من هذا، لذلك يقول الحق:

ص: 3728

{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]

وفي الدنيا قد تملك مثلاً أن توظفني عندك وتعطيني أجراً، وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو تعطيني طعاماً، أو تملك أنك تخيط جلبابي، لكن في الآخرة لا يملك أحد لأحد سبباً؛ لأننا نحيا في الدنيا بالأسباب التي منحنا الله إياها، وفي الآخرة بالمسبب وحده دون أسباب.

{وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضاً لله ولكن بوسائط؛ لأن الحق سبحانه وتعالى جعل الأرض أرض معاش، وهناك الآخرة إنّها أرض معاد، لذلك قال:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48]

والأرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها، ونحرث جزءاً منها لنزرعه، ونبني بيوتاً على جزء آخر، وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض؛ فأنا لا أستطيع أن أحرث إلا بمحراث، وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الأرض يقيم منجماً، ومن يرغب في استخراج البترول يأتي بالآلات التي تستكشف أماكنه، ولا أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته بل توجد في يده زاوية واحدة، وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق.

وحين تسلسل الأسباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى، فحين تنتهي يد المخلوق وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائماً، وإياك أن تغرك الأسباب ولكن سلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى الله.

ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق؛ فالطفل الصغير يرقب ظاهرة في البيت، هي زر في الحائط، عندما يضغطون عليه بأصبع واحد يضيء المصباح، فيقلدهم، وحين يراه أخوه الذي يدرس الإعدادية يقول له:

ص: 3729

لا تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل، وحين يسمعهما من هو أعلى منهما علماً يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في موقع ما من المدينة، وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار المكهرب المستخلص من شلالات الأنهار مثلا.

إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى، وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له مُلك، ولكن نقول لكل مَلِك: إن هذا المُلك ليس بذاتك؛ لأنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا المُلْك أبداً. وسبحانه القائل: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26]

إذن فليس هناك من له المُلْك بذاته إلا الله.

والحق يقول هنا: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير} [الأنعام: 73] .

ينفخ في الصور تفيد الإيذان بمقدم أمر ما، فبعد النفخة الأولى يموت من كان حيًّا، وبعد النفخة الثانية يصحو الموتى ويقومون.

وكلمة {عَالِمُ الغيب والشهادة} تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم المشهود. وهذا تعبير دقيق، وإنّه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء لا عن تحكم، ولكن عن حكمة.

ويذيل الحق الآية بقوله سبحانه: {وَهُوَ الحكيم الخبير} والحكيم هو الذي يضع كل أمر في مكانه، والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة، وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً، لأن من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم،

ص: 3730

وربنا لا ينتفع بحاجة من هذه، بل ينفعنا جميعاً، ولذلك إذا نظرت إلى الإيمان تجده كله عزّة، وأنت تجد الناس تكره كلمة «عبودية» ، وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر، أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف؛ لأن العبودية للبشر، نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده، ولكن العبودية لله نجد فيها أن العبد يأخذ خير سيده، وهكذا تكون العبودية لله عزّة، أما العبودية للبشر فهي ذلة.

ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] .

فقد أخلص صلى الله عليه وسلم َ العبودية لله، فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته.

والحق سبحانه يوضح لكل عبد: نم ملء جفنيك؛ فأنا لا تأخذني سنة ولا نوم، وأنا قيوم، وإن احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك، فهل في هذه العبودية لله شيء غير العزّة؟!

ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً

}

ص: 3731

والحق سبحانه وتعالى يعطي له صلى الله عليه وسلم َ ما يسليه ويصبّره على مشقات الدعوة؛ لأن الدعوة للإسلام في أوله أرهقت رسول الله وأصحاب رسول الله، فيريد سبحانه أن يعطيهم مُثُلاً حدثت للرسل، وهنا يأتي الحق بخبر عن أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم:

ص: 3731

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام: 74] .

وساعة أن تسمع «إذ» فافهم أن «إذ» ظرف، أي واذكر جيداً الوقت الذي قال فيه إبراهيم لأبيه آزر «أتتخذ أصناماً آلهة» ؟ وما دمت تذكر هذه، ففي التذكرة تسلية لك عما يصيبك في أمر الدعوة. وهنا وقف العلماء وقفة طويلة، وتساءل بعضهم: هل آزر هو أبو إبراهيم، أو أن والده هو تارخ؟

وقلت من قبل: إن الأبوة تمثل ما هو أصل للفرد؛ فالأب، والجد، وجد الجد أب، وأطلقت الأبوة على المساوي للأب، مثل العم. وجاء مثل هذا في القرآن حين قال الحق سبحانه:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} [البقرة: 133] .

وآباء هنا جمع، وإذا ما عددنا هؤلاء الآباء نجدهم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، والكلام من يعقوب، وأبوه إسحاق، وإسحاق بن إبراهيم، وبرغم ذلك جاء سيدنا إسماعيل وسط هؤلاء الآباء، فكأنك إن وزعتها قلت:«إبراهيم أب، ويبقى اثنان: هما إسماعيل وإسحاق. وإسماعيل هو أخ لإسحاق، كأن القرآن نطق بأن العلم يطلق عليه أب» .

وأقول ذلك لأضفي مسألة وقع فيها اللغط الكثير؛ فالبعض من العلماء قال: هل كان آزر أباً لإبراهيم؛ والحديث الشريف يقول:

«خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء» .

ص: 3732

فكأن النبي صلى الله عليه وسلم َ أخبر أنه من سلسلة نسب مُوَحِّد لا يمكن أن يكون للشرك فيه مجال، وآزر كان مشركاً، وما دام الحق يقول في آية أخرى:{إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} . فلو أن آزر الوالد الحقيقي لإبراهيم لكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم َ من ذريته. وأرى أنه عمّه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم َ قال: «ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» ، وهو قول يدل على أن نسبة الشريف مطهر من الشرك من جهة الآباء ومن جهة الأمهات، إذن فلا يصح أن نعتقد أن أبا إبراهيم هو آزر؛ لأنه كان على هذا الوضع مشركا، لكن كيف نفسر قول الحق سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} ؟ .

نقول: إننا نأخذ اللغة، ونأخذ استعمالات القرآن في معنى الأبوة. والقرآن صريح في أن الأبوة كما تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه تطلق كذلك على أخي الوالد أو عمه.

والدليل على ذلك أن القرآن الذي قال: {لأَبِيهِ آزَرَ} وهو بعينه القرآن الذي قال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} [البقرة: 133] .

إذن آباء هي جمع أب، وأقل الجمع ثلاثة: إبراهيم إذن وكذلك العم إسماعيل يطلق على كل منهما أب، وأيضاً إسحاق وهو والد يعقوب، هؤلاء هم الآباء المذكورون في هذه الآية.

وهنا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة؛ لأن يعقوب بن إسحاق، وإسحاق أخو إسماعيل. إذن فقد أطلق الأب وأريد به العم، ويدلنا الرسول صلى الله عليه وسلم َ على ذلك حينما أُخِذَ عمه العباس أسيراً فقال: ردوا عليّ أبي؛ وأراد عمّه العباس.

وبعد ذلك نأتي لنقول: إننا حين نطلق كلمة الأب في أعرافنا نعلم أن اللغة التي نتكلمها لغة منقولة بالسماع، مركوزة في آذاننا، ينطق بها لساننا، والعامية وإن كانت

ص: 3733

تحرف الفصيح إلا أن أصولها منقولة عن أسلافنا وآبائنا، وهم حين يريدون الأب الحقيقي يقولون له أب ولا يأتون باسمه الشخصي؛ فإذا جاء لك إنسان وقال لك: أبوك موجود؟ . ولم ينطق باسم الوالد فهو يقصد والدك فعلاً. لكن افرض أن لك عَمّاً، فيقول لك السائل: أبوك محمد موجود؟

لقد جاء هنا بتحديد الاسم العلم حتى ينصرف الذهن إلى السؤال عن العم؛ لأنه لو أراد الأب الحقيقي لما ذكر اسمه واكتفى بالسؤال عنه بالأبوة فقط، إذن فلو قال الحق سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} . ولم يحدد العلم لقلنا إن آزر هو والد إبراهيم وليس عمّه وبذلك يكون هو جد رسولنا، ولكن القرآن حدد الاسم وقال:{لأَبِيهِ آزَرَ} أي ميّز اسم الشخص ليخرج الأب الحقيقي من كلمة أب، وبذلك تنتهي الخلافية في هذه المسألة.

ولماذا يطلب الحق سبحانه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يذكر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ} ؟ لأن رسول الله جاء على فترة من الرسل وجاء في الأزمة التي واجهت الدعوة أول مواجهة وهي أمة العرب وعلى رأسها قريش، وهو صلى الله عليه وسلم َ إن كان قد جاء على فترة الرسل، إلا أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلاء القوم؛ لأن كل أمور إبراهيم النسكية كانت في هذا المكان، فمثلاً همّه بذبح ابنه وفداء السماء لابنه كانا في هذا المكان، ورفعه للكعبة كان في هذا المكان، والكعبة هي مركز السيادة لقريش، ولولا الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل.

لقد أراد الحق أن يوضح لقريش أن السيادة التي أخذتموها على العرب كافة جاءت لكم بسبب الكعبة وهذا البيت، فلو لم يوجد هذا البيت وهذه الكعبة، لكنتم قبيلة من القبائل، لا مهابة لكم ولا سلطان، ولا جاه، ولكنكم تعلمون أن تجارتكم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب، ولا يتعرض لها أحد بسوء أبداً؛ لأن الذين يتعرضون لكم سواء منهم من كان في الشمال أو في الجنوب سيأتون في يوم ما إلى الكعبة هذه ليؤدوا مناسك الحج وستتمكنون منهم في أثناء وجودهم في البيت.

ولذلك قلنا حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ

ص: 3734

طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5]

إن الحق أتبعها بالقول: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2]

إذن لو أن البيت تعرض للهدم من أبرهة الحبشي لسقطت مهابة قريش، وقد نصرهم الله لتظل لقريش رحلة الشتاء والصيف، ولذلك قال:{فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]

إن رب هذا البيت هو الذي أعزهم وحماهم بوجود هذا البيت الذي رفعه إبراهيم.

إذن فالقوم وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا أن لهم صلة عقدية بإبراهيم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يدخل إلى قلوبهم بالحنان الذي يعرفونه لإبراهيم الذي هو سبب هذا العزّ وسبب هذا الجاه والسيادة وأيضاً لأن المواجهة العقدية إنما جاءت أولاً لعبادة الأصنام، والمسألة في سيدنا إبراهيم كانت كذلك في عبادة الأصنام، فهناك - إذن - ارتباطات متعددة فأتى الحق هنا بقصة سيدنا إبراهيم ليرقق بها قلب هؤلاء.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} والأصنام هي شيء من الحجارة يصنع على مثال حي، أما الوثن فهو قطعة من حجر خام لم يشكل أو يعالج أو يصنّع كانوا يقدسونه، وهكذا نعرف الفارق بين الصنم والوثن، وكيف دخلت فكرة الأصنام على عقول الناس؟ ومن أين جاءت؟ .

نعلم أن الناس لهم أسباب مباشرة في الحياة؛ فالإنسان حين يتطلب الضوء يرى الشمس قد أشرقت، وفي الليل يرى القمر قد طلع، ويرى الجبال تعطي له الصلابة والقوة، ويقيم فيها بيوتاً.

ص: 3735

إذن فيه أشياء يرى الإنسان فيها السببية الظاهرة، فيعتقد أنها الفاعلة. وحين يرى هذه الأشياء ويظن أنها الفاعلة يظن أن لها قداسة سواء أكانت الشمس أم القمر. إذن فقبل أن توجد أصنام وجدت كواكب وكانوا يعبدونها. بدليل أن الحق يقول: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً

} [الأنعام: 74]

وبعد ذلك يأتي في النقاش ولا يأتي بسيرة الأصنام: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً

} [الأنعام: 76]

إذن فقد كانت هناك علاقة بين الأصنام وبين الكواكب، والأصل فيها أن الأنسان حينما يرى شيئاً ينفعه، ينسب إليه كل نفع يحصل عليه ويرى له قوة يحترمها فيه، ولم ينتبه الإنسان إلى أن خالق هذه الأشياء غيب، فَعَبَدَ الشيء الظاهر له، وعندما وجد الإنسان أن الكواكب تأفل وتغيب قال بعض الناس: لنقيم أصناماً تذكرنا بها، وصار هناك صنم يمثل الشمس، وصنم يمثل القمر، وآخر يمثل النجم الفلاني، أي أن الأصنام إنما جعلت لتذكر بالأصل من الكواكب، ولذلك أقول دائما: يجب على الناس ألا تغفل عن المسبب لأنه سبحانه - هو وراء الأسباب، وكلما ارتقى العقل يسلسل الأسباب، إلى أن تنتهي إلى مسبب ليس وراءه سبب، وإذا انتهت يد المخلوق وعجزت في الأسباب تبدأ يد الخالق؛ فالذين يفتنون بالأسباب هم الذين ينظرون إليها على أنها الفاعلة بذاتها.

ولذلك حينما أغفلت وسترت قضية الدين في أذهان الناس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم وما ينفهم، فتوجهوا بالعبادة له، وكانوا قبل الرسالة يحجون إلى الكعبة ويحبون الكعبة، وحين يغتربون في كثير من الرحلات يأخذون قطعة من حجر من نوعية أحجار الكعبة في الرحلة الطويلة، وحين يراها أحد من هؤلاء يطمئن، ولكن بطول الزمن انفردت هذه الأشياء بتقديس خاص يعزلها عن الأسباب.

وهكذا عرفنا أن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن كانت له عند العرب هذه المكانة،

ص: 3736

وكذلك عند أهل الكتاب حتى أنهم ادعوا انتسابه لهم فبعضهم قال: إن إبراهيم كان يهودياً، وقال الآخرون: إنه كان نصرانياً، وجاء القرآن وهو يواجه كفار قريش، وكذلك أهل الكتاب فيأتي الله بقصة سيدنا إبراهيم ليعطينا قضية العقائد ويوضحها توضيحاً يؤنسهم بمن له في نفوسهم ذكر.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74]

والضلال أن تريد غاية فتضل الطريق إليها، وكان الناس عندهم غاية في ذلك الزمان أن يقدسوا، ويقدروا من ينعم عليهم بالنعم. إلا أنهم أخطأوا الطريق ووقفوا عند السبب، ولم يذكروا ولم يدركوا ما وراء السبب، ومن هنا جاء الضلال المبين. فكان من طبيعة الإنسان أنه يتقدم بالولاء وبالخضوع وبالشكر لمن يرى نعمة منه عليه، لكنهم ضلوا الطريق؛ لأنهم ساروا في النعمة في حلقات الأسباب، ولم يصلوا بالأسباب إلى المسبب. وهذا ضلال مبين لأنه فتنة خَلْقٍ في خَلْق؛ فالإنسان الأول الذي جاء وأقبل على عالم مخلوق له، وأقبل على أرض وأقبل على شمس، وأقبل على قمر، وأقبل على نجوم، وأقبل على سحاب يمطر له الماء، وأقبل على جبال تمده بالأقوات كان من الواجب عليه أن يلتفت لهذه المسألة؛ لأنه لم يصنعها ولا ادّعى أحد أنه صنعها، أما كان من الواجب أن يفكر تفكيراً يسيرا فيمن خلق له هذه الأشياء؟!

إن أتفه الأشياء تحتاج إلى صانع، مثال ذلك الكوب الذي نشرب فيه الماء لا يكون كوباً أمام أي واحد فينا إلا بعد أن انتقل وتقلب في مراحل متعددة ممن اكتشف المادة وممن صهرها كيماوياً وممن أنفق عليها إلى أن وصل إلى الكوب، وكذلك المصباح، إن نظرنا إلى الأجهزة التي خَلْفَه وأسهمت في إيجاده لوجدناها أجهزة كثيرة من إمكانات مالية إلى قدرات علمية، من ماديات موجودة في الأرض إلى أن وصل إلى هذا المصباح الذي يتغير كل فترة، فما بالنا بالشمس التي تنير نصف الكون في

ص: 3737

وقت، ونصف الكون الآخر في وقت آخر وليس لها قطع غيار، ولم تقصر يوماً في أداء مهمتها.

وكثيراً ما درسنا في المدارس قصة من اخترع المصباح «أديسون» وكانت قصة هذا الاختراع تفيض بإعجاب من يكتبون عنها ولم نجد من يدرس لنا - بإعجاب وإيمان - دقة الشمس التي تنير الكون، فالآفة أننا نقف فقط عند حلقات الأسباب، والوقوف عند حلقات الأسباب هو وقفة عقلية سطحية، ومن أجل أن نزيد من عمق الفهم لا بد أن نسلسل السبب وراء السبب وراء السبب إلى أن نصل إلى مسبب ليس وراءه سبب. وأن نرهف آذاننا لمن يأتي ليحل لنا هذا اللغز ويقول لنا: لقد خلق الله كل الكون من أجلكم وصفاته سبحانه أنه لا مثيل له في قدرته ومطلق حكمته، ومطلوبه هو منهجه.

إذن فالرسل قد جاءوا رحمة لينقذونا ويبينوا لنا هذا اللغز. فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأوضح: أنا الذي خلقت السموات، وأنا الذي خلقت الأرض، وأنا الذي سخرت لك كل ما في الكون، فهذه دعوة، والدعوة إما أن تكون حقيقية فتعلن الإيمان به وسبحانه، وإما غير حقيقية، فنسأل: من خلق الكون - إذن - غير الله؟ . ولماذا لم يقل لنا صفاته، ولم يرسل لنا بلاغاً عنه؟ . ولأن أحداً لم يفعل ذلك إذن فالألوهية تثبت لمن أبلغنا عن ذاته وصفاته وصنعته عبر الرسل، فلم يوجد معارض له، وحين قال سبحانه: أنا إله واحد، وأنا خلقت الكون، وسخرته لكم فنحن نصدق هذا البلاغ.

ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا ألا نقف عند الأسباب فقط حتى لا نقع في ضلال مبين، ومن الواجب أن نبحث عما وراء الأسباب إلى أن تنتهي إلى شيء لا شيء بعده ننتهي إلى مسبب السباب ومالك الملك - جلت قدرته.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ

}

ص: 3738

أي كما اهتدى إبراهيم إلى أن عبادة الأصنام ضلال مبين فسيريه الله ملكوت السموات والأرض ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلهاً حقًّا، فالإله الحق يبين له أسرار الكون:

والملكوت صيغة المبالغة في الملك، مثلها مثل «رحموت» . وهي صيغة مبالغة من الرحمة، والملكوت تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة، فالذي يمشي وراء الأسباب المشهودة له يأخذ الملك؛ لأن ما يشهده ويحسَّه هو أمامه، والملكوت هو ما يغيب عنه، إذن ففيه «ملك» ، وفيه «ملكوت» ، الملك هو ما تشاهده أمامك، والملكوت هو ما وراء هذا الملك.

والمثال هو ما قاله سيدنا إبراهيم حينما تكلم على الشركاء لله قال سبحانه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلَاّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 77 - 81]

ولنلحظ هنا أن الأساليب مختلفة، فهو يقول:{الذي خَلَقَنِي} ولم يقل «الذي هو خلقني» ، ثم قال {فَهُوَ يَهْدِينِ} لأن أحداً لم يدّع أبداً خلق الإنسان، وهي قضية مسلمة لله ولا تحتاج إلى تأكيد، أما هداية الناس فهناك من يدعي أنه يهدي الناس. وما يَدَّعي من البشر يؤكد ب «هو» وما لا يُدَّعي من البشر كالخلق والإماتة والإحياء لا يؤتى فيه بكلمة هو.

ويتابع سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} وهنا قفز سيدنا إبراهيم من كل الأسباب والحلقات الظاهرية إلى الحقيقة، وعرف الغيب {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وهو بذلك يميز بين الوسيلة للشفاء وهم الأطباء المعالجون والشافي الأعظم وهو الله تبارك وتعالى لأن الناس قد تفتن بالأسباب وتقول: إن الطبيب هو من

ص: 3739

يشفي، ولذلك ينتقل سيدنا إبراهيم من ظواهر الأسباب إلى بواطن الأمور، وينتقل من ظواهر الملك إلى باطن الملكوت حتى نعرف أن الطبيب يعالج ولكنه لا يشفي، بدليل أننا كثيراً ما رأينا من يذهب للطبيب ويعطيه الطبيب حقنة فيموت المريض، وبذلك يصير الطبيب في مثل هذا الموقف من وسائل الموت:

سبحان من يرث الطبيب وطبه

ويرى المريض مصارع الآسين

إذن، {فَهُوَ يَشْفِينِ} أي أن الشفاء من الله والعلاج من الطبيب.

وبذلك جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام في قصة العقيدة نجده قد أخذ سلطاناً كبيراً يعترف به جميع الأنبياء؛ لأن ربنا قال فيه: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} .

وكذلك قال سبحانه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124]

أي أنك يا إبراهيم مأمون أن تكون إماماً للناس، وببشرية إبراهيم وبظاهر الملك. سأل الله أن تكون الإمامة في ذريته، وقال:{وَمِن ذُرِّيَّتِي} .

أي اجعل من ذريتي أئمة، فيقول الحق:

{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .

لأن مسألة الإمامة ليست وراثة دم، ولا يأخذها إلا من يستحقها. وقلنا: إن سيدنا إبراهيم جاء بهاجر وابنه إسماعيل منها وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم، ويقول القرآن على لسانه:

ص: 3740

{رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ وارزقهم مِّنَ الثمرات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] .

أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام وعى مسألة تعليم الحق له لأسرار الملكوت، وظل في ذهن سيدنا إبراهيم، أن الحق سبحانه - لا يعطي الإمامة من ظلم ثم أوضح له أنه يجب أن تفرق بين خلافة النبوة، وعطاء الربوبية في الطعام ويتمثل ذلك في دعاء سيدنا إبراهيم:{وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126]

فكأن إبراهيم حين طلب الرزق من الثمرات لمن آمن بالله واليوم الآخر لم يفرق في دعائه بين عهد النبوة والإمامة، ومطلوبات الحياة، فيقول له الحق: {وَمَن كَفَرَ

} .

أي أنه سبحانه سيرزق بالطعام من آمن ومن كفر؛ لأن الطعام ومقومات الحياة من عطاءات الربوبية، أما المناهج فهي من عطاءات الألوهية، والله سبحانه وتعالى رب لجميع الناس؛ لأنه هو الذي استدعاهم جميعاً: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وما دام هو الذي استدعاهم إلى الوجود فهو لا يمنعهم الرزق.

{وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] .

وكل من يسير على قدم إبراهيم عليه السلام يرتبط ويتعلق بذات الحق سبحانه وتعالى، وفيه فرق بين الارتباط والتعلق بالذات، والارتباط والتعلق بالصفات؛ والذي يعبد الله لأنه رزّاق، ولأنه مُغْنٍ هو من يرتبط بالصفات. أما من يرتبط بالله لأنه إله فقط وإن أفقره فهو من يرتبط بالذِّاب، وحين صفى سيدنا إبراهيم نفسه من كل

ص: 3741

العقائد السابقة أوضح له الحق: أنت مأمون على أسرار كوني، وأعطاه الحق الكثير كما يعطي لكل من يخلص في الارتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من أسرار كونه. ويضرب الحق سبحانه لنا كثيراً من المُثُل في القرآن فيقول:{واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله} [البقرة: 282]

أي أنك ما دمت مأموناً على ما عرفت من أحكام الحق لحركة حياتك وتنفذه فإن الحق يعتبرك أميناً على أسراره، ويعطيك المزيد من الزيادة.

ومعنى «تتقي» أي أن تلتحم بمنهج الحق، وإذا التحمت بالمنهج الحق كنت في الفيوضات الدائمة التي لا تنقضي من الحق؛ لأن الذي في معيته لا بد أن يخلع الحق عليه من واردات وعطاءات صفاته ما يجلي صلته بربه ويطمئنه عليه، ومثال ذلك ما حدث في «قصة الهجرة» تجد الرسول صلى الله عليه وسلم َ وسيدنا أبا بكر في الغار، ويقول أبو بكر لرسول الله: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، وهذه قضية كونية مؤكدة، ويرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم َ بما نقله من القضية الكونية الظاهرة الواضحة إلى عالم الملكوت الخالص، ويقول:

«يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»

أي أنه يقول له: اطمئن، لن يرانا أحد؛ لأننا في معية الله، وسبحانه لا تدركه الأبصار. وحين يكون الضعيف في معية القوي فقانون القوى هو الذي يتغلب، فلا يصبح الضعيف ضعيفاً، فحين يكون هناك ولد بين الأطفال الذين في مثل سنّه ويضطهدونه ويؤلمونه ويؤذنه، ثم يرونه في يد أبيه لا يجرؤ أحد منهم أن يأتي إلى ناحيته، والناس لا يقدر بعضهم على بعض إلا إذا انفلتوا من معية الله، ومَن في معية الله لا يجترئ عليه أحد أبداً. ولذلك يرسل لنا ربنا قضايا الملك وقضايا الملكوت، ويمثلها في رسول الله من أول العزم من الرسل مع عبد صالح آتاه الله شيئاً من علمه وفيضه لأنه اتقاه.

ص: 3742

يقول الحق سبحانه: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] .

إن هذا العبد قد أخذ منهج الرسول الذي جاء به واتبعه، فأداه حق الأداء فاتصل بالحق فأعطاه الحق من لدنه علماً. وحين ننظر في هذه القضية نتعجب لأننا نجد سيدنا موسى - ينظر في عالم الملك بينما ينظر من آتاه الله من لدنه رحمة ومن عنده علما ينظر من عالم الملكوت، وموسى معذور؛ لأنه ينظر في دائرة الأسباب، والعبد الصالح معذور هو الآخر لأنه ينظر في دائرة ثانية، ولذلك سيقول العبد الصالح:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} .

أي أن المسألة ليست من ذاته، بل هو مأمور بها. وحين ننظر إلى تقدير موقف كل منهما للآخر نجد العبد الصالح يقول:{إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . أي أن العبد الصالح يعذر موسى، ويضيف:{وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68]

فيقول القرآن على لسان موسى: {قَالَ ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69]

فها هوذا الرسول الذي جاء ليبلغ المنهج يطيع عبداً صالحاً طبق المنهج من رسول سابق ونفذه كما يحب الله، والتحم بالمنهج، وجاء لنا ربنا بهذه القصة مع رسول من أولي العزم. ويتلقى موسى عليه السلام الأمر من العبد الصالح:{قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 70]

ص: 3743

لماذا؟ لأن العبد الصالح يعلم أن موسى سيتكلم عن عالم الفلك، وهو يتكلم من عالم الملكوت.

وحين ركبا السفينة، وخرقها العبد الصالح، والخرق إفساد ظاهري في عالم المُلْك. يوضح سيدنا موسى للعبد الصالح أن هذا الفعل إخلال بالقانون، وكيف يعتدي على السفنية بالإفساد؟ فيرد العبد الصالح: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً، وليست لك طاقة على مثل هذه المسائل، فيتذكر موسى، ثم تأتي حكاية الغلام، وحكاية الجدار.

وحين ندقق النظر في هذه الأمور نجد عالم الملكوت يصحح الأمور الشاذّة في عالم الملك؛ فخرق السفينة إفساد ظاهري لكن إذا علم موسى أن هناك مَلِكاً يأخذ السفن السليمة الصالحة ويستولي عليها غصبا وهذه السفينة لمساكين يعملون في البحر، ويريد العبد الصالح أن يحافظ لهم على السفينة فيخرقها حتى لا يأخذها المغتصب؛ وحين يقارن الملك المغتصب بين سفينة سليمة وسفينة مخروقة. فلن يأخذ السفينة غير السليمة، ويمكن لأصحابها إصلاحها.

إذن لو علم موسى بهذه المسألة، ألا يجوز أن يكون موسى هو الذي كان يقوم بخرق السفينة؟ إنه كان سيخرقها، إذن لو علم صاحب نظرية الملك ما في نظرية الملكوت من أسرار، لفعل هو الفعل نفسه. وحين نأتي لقتل الغلام، لا بد من التساؤل: وما ذنب الغلام؟ فيفسر العبد الصالح الأمر: {وَأَمَّا الغلام فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف: 80]

والأبوان قد يدللان هذا الابن، ويطعمانه من مال حرام، ويكون فتنة لهما، فقتل الغلام ليظلا على الإيمان، وعجلّ ربنا بالولد إلى الجنة مباشرة.

وفي مسألة الجدار تجد الخلاف بين رؤية عالم المُلْك، ورؤية عالم الملكوتففي ظاهر الأمر أنهما حين أتيا أهل القرية طلباً للطعام، وطلب الطعام شهادة صدق

ص: 3744

على الضرورة، لأنه ليس طلباً للنقود، فقد يطلب أحد النقود ليدخرها، لكن من يقول:«أعطني رغيفاً لآكل» فهذه آية صدق الضرورة في طلب الطعام. ولكن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما، إذن هم لئام لا كرام. ويرى العبد الصالح جداراً يريد أن ينقض، وآيلاً للسقوط فأقامه، وغضب سيدنا موسى، سبب غضبه أنه والعبد الصالح استطعما هؤلاء فلم يطعموهما، فكيف تبني جداراً لهم؟! وكان يصح أن تأخذ عليه أجراً، وغضب سيدنا موسى سببه ظاهر، لكن العبد الصالح يشرح المسألة:

لقد أقام الجدار لأن أهل القرية لئام ولم يعطونا طعاماً، ولو وقع الجدار وظهر الكنز تحته أمام لئام بهذا الشكل لسرقوه من أصحابه، وهم أطفال، وقد بناه العبد الصالح بهندسة إيمانية ألهمه الله بها بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار. أي أنه بناء موقوت، مثلما نضبط المنبه على وقت محدد، كذلك الجدار بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار ويأخذان الكنز.

وهذا يوضح لنا الخلاف بين عالم المُلْك وبين عالم الملكوت؛ فعالم الملكوت هو الذي يغيب عنا وراء الأسباب. وكثير من الناس يقف عند الأسباب، ولا ينتقل من الأسباب إلى السبب المباشر، إلى أن ينتهي إلى مسبب ليس بعده سبب.

{وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] .

فهل تيقن أو لم يتيقن؟ .

و «موقنين» جمع «موقن» والجمع أقله ثلاثة، واليقين ينقسم إلى ثلاث مراحل: يقين بعلم من تثق فيه لأنه لا يكذب؛ ويقين بعين ما تخبر به، ويقين بحقيقة المُخْبَر به.

وحين عرض الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في سورة التكاثر قال: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 1 - 5]

ص: 3745

إذا أخبرتكم فهذا الخبر هو الصورة العلمية، وكان يجب أن يكون ما أخبركم به علم اليقين. {كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 5 - 7] .

لأننا سوف نرى النار في الآخرة، لكن لم تأت حقيقة اليقين، وجاءت حقيقة اليقين في سورة الواقعة:{وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 90 - 95]

وسيدنا إبراهيم عليه السلام كان حقا من الموقنين في كل أدوار حياته؛ لأن الله أعلمه ما وراء مظاهر الملك، ما وراء مظاهر الأشياء؛ وعواقبها. فمثلا عندما أُخذ ليطرح في النار جاء له جبريل ليقول: ألك حاجة؟ قال سيدنا إبراهيم: أمّا إليك فلا.

ويقول ذلك وهو يعرف أن النار تحرق، ولكن هذا ظاهر المُلك، وظواهر الأشياء، وسيدنا ابراهيم يعلم أن الذي خلقها جعلها محرقة، ويستطيع ألا يجعلها محرقة، وهو متيقن به، ولذلك لم يطفئ الله النار بظاهر الأسباب ولكن جعلها الله ليّاً لأعناق خصومه، فأوضح الحق: يا نار أنا خلقت فيك قوة الإحراق، وأنا أقول لك الآن: لا تحرقي. {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]

إذن فإبراهيم يعرف هذه الحقائق المختفية وراء المُلك الظاهر، وهذا من الابتلاءات الأولى في حياته، ويملك أن يرد على سيدنا جبريل لحظة أن سأله قبل

ص: 3746

أن يلقوا به في النار: ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أمّا إليك فلا.

ثم يأتي له الابتلاء في آخر حياته بذبح ولده. ونعلم أن الإنسان تمر عليه أطوار تكوين ذاتيته، وأحياناً تكون الذات هي المسيطرة، وفي طور آخر تبقى ذاتية أولاده فوق ذاتيته، أي أنه يحب أولاده أكثر من نفسه. يتمنى أن يحقق لأولاده كل ما فاته شخصياً. فلما كبر إبراهيم ووهبه الله الولد يأتيه الابتلاء بأن يذبح ابنه إنه ابتلاء شديد قاس، وهو ابتلاء لا يأتي بواسطة وحي بل بواسطة رؤيا. وكلنا نعلم أن رؤيا الأنبياء حق. لكن إبراهيم يعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يطلب من خلقه إلا أن يستسلموا لقضائه، ولذلك إذا رأيت إنساناً طال عليه قضاء ربه في أي شيء؛ في مرض، في مصيبة، في مال، أو غير ذلك فاعلم أنه لم يرض بما وقع له، ولو أنه رضي لانتهى القضاء. فالقضاء لا يُرفع حتى يُرضى به، ولا يستطيع أحد أن يلوي يد خالقه.

إذن فالناس هم الذين يطيلون على أنفسهم أمد القضاء.

ولذلك عرف سيدنا إبراهيم هذه القضية: قضية فهمه لعالم الملكوت. فلما قيل له: «اذبح ابنك» لم يرد أن يمر ابنه بفترة سخط على تصرف أبيه؛ لأنه إن أخذه من يده وفي يده الأخرى السكين فلا بد أن تكون هذه اللحظة مشحونة بالسخط، فيحرم من الجزاء، فيبين له المسألة. ويقول القرآن حكاية عن إبراهيم:{يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102]

وهذا القول يريد به إبراهيم أن ينال ابنه ثواب الاستسلام وهو دليل محبة إبراهيم لولده، فماذا قال إسماعيل:{قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102]

قال إسماعيل ذلك ليأخذ عبودية الطاعة. ويؤكد القرآن رضا إبراهيم وابنه بالقضاء فيقول:

ص: 3747

{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]

وهذا القبول بالقضاء هو ما يرفعه. لذلك يقول القرآن بعدها: {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين} [الصافات: 104 - 105]

ويفدي الله إسماعيل بذبح عظيم، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يرزق الله إبراهيم بولد آخر؛ لأنه فهم ملكوت السموات والأرض، وعرف نهاية الأشياء. فإذا ما أصيب الإنسان بمصيبة فما عليه إلا أن يرضى ويقول: ما دامت هذه المصيبة لا دخل لحركتي فيها، وأجراها عليّ خالقي فهي اختبار منه - سبحانه - ولا يوجد خالق يفسد ما خلق. ولا صانع يفسد ما صنع، ولا بد أن لذلك حكمة عنده لا أفهمها أنا، لكني واثق في حكمته.

إن طريق الخلاص من أي نائبة من النوائب أن يرضى المؤمن بها، فتنتهي. ومن تحدث له مصيبة بأن يموت ولد له، ويظل فاتحاً لباب الحزن في البيت، وتبكي الأم كلما رأت من في مثل سنّه فسيظل باب الحزن مفتوحا، وإن أرادوا أن يزيل الله عنهما هذا الابتلاء فليقفلا باب الحزن بالرضا. وليعلم كل مؤمن أن ما أخذ منه هو معوض عنه بأجر خير منه، والمأخوذ الذي قبضه الله إليه وتوفاه معوض بجزاء خير مما يترك في الدنيا، ولذلك يقال: المصاب ليس من وقعت عليه مصيبة وفارقه الأحباب، بل المصاب من حُرم الثواب، فكأنه باع نكبته بثمن بخس.

ويقول الحق بعد ذلك: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل

}

ص: 3748

و «جن» تفيد الستر والتغطية، ومنها «الجنون» أي ستر العقل، و «جن الليل» أي أظلم وستر عنك، فلا ترى غيرك ولا غيرك يراك. و «الجَّنة» كذلك لأن فيها الأشجار والأشياء التي تستر من يمشي فيها، إذن المادة كلها تفيد الستر.

وكلمة «كوكب» تفيد أنه يأخذ ضوءه من غيره، ونفهم من الآية أن إبراهيم كان في ظلمة ثم طلع الكوكب فرآه، ثم غاب الكوكب أي انتقل من بزوغ وطلوع إلى أفول، وقديماً كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، فجاء لهم إبراهيم من جنس ما يعبدون، وقال:{لا أُحِبُّ الآفلين} .

ويتابع الحق بعد ذلك: {فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً

}

ص: 3749

وهنا قال إبراهيم عليه السلام: هذا ربي، ووقف العلماء هنا وتساءلوا: كيف يقول إبراهيم هذا ربي، وهي جملة خبرية من إبراهيم، وكيف يجري إبراهيم على نفسه لفظ الشرك، وأراد العلماء أن يخلصوا إبراهيم من هذه المسألة. ونقول لهؤلاء العلماء: جزاكم الله كل خير، وكان يجب أن تؤخذ هذه المسألة من باب قصير جداً؛ لأن الذي قال: إن إبراهيم قال: هذا ربي، هو الذي قال في إبراهيم:{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]

إذن فقوله {هذا رَبِّي} لا تخدش في وفائه الإيماني، ولا بد أن لها وجهاً. ونعلم أن القوم كانوا يعبدون الكواكب، ويريد إبراهيم أن يلفتهم إلى فساد هذه العقيدة، فلو أن إبراهيم من أول الأمر قال لهم: يا كذابون، يا أهل الضلال، وظل يوجه لهم

ص: 3749

السباب لما اهتموا به ولا سمعوا له. لكن إبراهيم استخدم ما يسمي في الجدل ب «مجاراة الخصم» ؛ ليستميل آذانهم ويأخذ قلوبهم معه، وليعلموا أنه غير متحامل عليهم من أول الأمر، فيأخذ بأيديهم معه.

مثال ذلك في حياتنا، تجد رجلاً له ابنة وجاء لها خطيب، وهذا الخطيب قصير جداً، بينما البنت - ما شاء الله - طويلة، وحين جاء الخطيب ليراها وتراه تقول لأمها: هذا خطيبي؟! وهذا القول يعني أنها تنكر أن يكون هذا القصير عنها هو خطيبها، وحين قال إبراهيم:{هذا رَبِّي} معناه إنكار أن يكون مثل هذا الكوكب أو ذلك القمر أو تلك الشمس هي الرب.

ونلحظ أنه يحدد لهم مصير من يعبد تلك الكواكب، فقال:{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} ، وفي هذا معرفة بمن على هدى أو على ضلال، ويكون قوله:{هذا رَبِّي} لونا من التهكم؛ لأنهم قالوا بما جاء به القرآن على لسانهم: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} .

فكأنه قال: سلمنا جدلاً أنه ربكم، لكنه يأفل ويغيب عنكم، وقوله:{لا أُحِبُّ الآفلين} يعني أنه غير متعصب ضدهم.

وكذلك حين يقول الحق: {فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً

}

ص: 3750

وهكذا يثبت له أن كل كوكب - حتى الشمس - مصيره إلى أفول، فكأنه قد وصل بهم بالمنطق إلى أن عبادة الكواكب لا تصلح، واستخدم المنطق الذي يحقق نيته في

ص: 3750

أن ينكر هذه الربوبية، ويستأنس به آذان من يسمعه. وهناك أشياء يجعلها الحق سبباً مبرراً لارتكاب أشياء كثيرة، إلا أننا نعقد مقارنة بين بعضهم البعض مثلما قال الحق:{ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]

وقد جاءت بعد قوله سبحانه: {إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106]

فإذا كان الله قد أباح إجراء كلمة الكفر على لسان المؤمن المطمئن لينجي حياته وهو فرد، أفلا يصح لإبراهيم أن يقول لهم:{هذا رَبِّي} بما تحتمل من أساليب حتى ينجي أمة بأسرها من أن تعبد الأصنام؟ .

إذن فيقول إبراهيم {هذا رَبِّي} يؤخذ على محملين: ألم يقل الله سبحانه وتعالى بنفسه عن نفسه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي} [فصلت: 47]

وسبحانه يعلم أنّه لا شركاء له، ولكن الشركاء هم مِن زعْم المشركين.

«ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ حينما كان ينادي في بعض القوم: يا إله الآلهةلأنه يعلم أن قوماً قد ألهوا ظواهر طبيعية في الكون لما يرون من الخير فيها، فأراد أن ينبههم إلى أن هناك إلهاً حقًّا» .

ويوضح القرآن عدم جدوى الشرك حين يقول: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91]

ص: 3751

ويقول سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَاّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42]

والحق سبحانه وتعالى يقول للكافر الذي كان يعتز بجاهه في دنياه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]

فهل هذا القول اعتراف بأن الكفر عزيز كريم أو هو قول تهكمي؟ . إنه تهكم؛ لأن الكافر لو كان عزيزاً كريماً عند نفسه لما كفر ولما استقر في الجحيم.

وكان المنطق في اللغة أن يقول: فلما رأى الشمس بازغة قال هذه ربي؛ لأن الشمس مؤنثة، ولكنه قال:{هذا رَبِّي} كما قال في القمر وفي غيره من الكواكب، فجعل الأمر على سياق أو حالة واحدة، أو هو بهذا القول يريد أن ينزه كلمة الرب تنزيها مطلقا عن أن تلحق بها علامة التأنيث؛ لأن علامة التأنيث فرع التذكير، وأيضاً لأن الشمس ليست مؤنثاً حقيقياً، بل هي مؤنث مجازي، ولذلك يفطن العلماء إلى هذه المسألة فيقولون: إنك إذا أعطيت واحداً صفة العلم، وقلت: فلان عالم، أما إذا صار علمه ملكة عنده فنقول:«فلان عليم» ؛ ولذلك يقول الحق: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]

وإذا كان العالم متمكناً من علمه بشكل غير مسبوق نقول عنه: «علَاّم» . والحق سبحانه يصف نفسه فيقول: {عَلَاّمُ الغيوب} [المائدة: 116]

ص: 3752

ولم يقل العلماء في وصف الله علامة، وإن كان هذا الوصف أبلغ احترازا من أن تلحق علامة التأنيث صفة من صفات الله عز وجل.

وحين تأفل الشمس يقول سيدنا إبراهيم: {فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78]

وجاء الأمر صريحاً لأنه سبق المسألة بالترقيات الجدلية التي قالها، وحين يسمعها أي عاقل فلا بد أن يعلن اتفاقه في هذا الأمر، ولذلك قال:{إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} . ولأنه كإنسان مؤمن لن يغش نفسه، وبالتالي لن يغش قومه، وهذا ما ينبه العقل حين يعطيه الله هبة الهداية.

والبراءة من الشرك تخلية عن المفسد، والتخلية تعني أن تنفك أو تنقطع عن العمل المفسد، وبعد ذلك تدخل في العمل المصلح. . العمل الإيجابي.

ويقول الحق بعد ذلك: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ

}

ص: 3753

والسموات والأرض هما المظهر الأول للكون الذي طرأ عليه الإنسان؛ لأن الكون طرأ عليه الإنسان - الخليفة في الأرض - ووجد كل الخيرات والمسخرات، ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى: إياكم أن تقولوا إني خلقتكم فقط، بل خلقت لكم الكون. {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57]

ص: 3753