الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل، أولَا: لا يخلقون، ثانياً: هم يُخلَقون، ثالثاً: لا ينصرونكم، ورابعاً: ولا ينصرون أنفسهم. ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ
…
}
وعلى ذلك فهي خمس مراحل - إذن -، أكررها لتستقر في الذهن، أولها أنه من الجائز أنه لا يَخلُق، ومن الجائز أن يكون مخلوقاً، ومن الجائز أنه لا يقدر أن ينتصر لغيره لأنه ضعيف، ولا ينتصر لنفسه لأنه أضعف، ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم فلا يقبل منك.
وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون: يا هبل، يا لات، يا عزى. وإن لم يصبهم أمر سكتوا عن نداء الأصنام؛ لذلك يقول لهم الله من خلال الوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم َ:{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامتون} [الأعراف:
193]
.
أي إن دعوتكم لهم لا تفيد في أي أمر تماماً كصمتكم.
ونلحظ أن الأسلوب هنا مختلف {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} فلم يقل: «أدعوتموهم أم صَمَتّم» ؛ لأن الفعل يقتضي الحدوث، ولنا أن نعرف أنهم كانوا لا يفزعون إلى آلهتهم إلا عند الأحداث الجسام. أما بقية الوقت فقد كانوا لا يكلمونهم أبداً؛ لذلك جاءت «صامتون» لازمة، لأنها اسم، والاسم يقتضي الثبوت والاستمرار، أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد.
والحق هنا يبلغ المشركين: سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا، فعدم الاستجابة متحقق فيهم وواقع منهم، وعدم النصر لأنفسهم ولغيرهم متحقق منهم.
ثم يتكلم الحق عن قضية أخرى فيقول: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله
…
}
و {تَدْعُونَ} لها معنيان، المعنى الأول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم، والمعنى الثاني هو أن يقال:«تدعونه» أي تطلب منه شيئاً. والمعنيان يجيئان في هذه الآية: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم} .
وعنْدَما يسمع الإنسان كلمة «عباد» يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي، فكيف تكون الأصنام عباداً؟ وأقول: نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ، أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده، فالبناء مأخوذ من التذلل والخضوع، ألم يقل موسى لفرعون:؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22] .
أي أذللتهم. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الأصنام عباداً أمثالهم في أنهم يُذلون؛ لأن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الأصنام قد وقعت وتكسرت رقابها، فيهرع المشركون ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه الآلهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لأنكم مخلوقون بالله قد تملكون قدرة، وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم، أما الأصنام فليست لها أدنى قدرة إن جاءها من يحطمها، أو يكسرها، أو يقبلها، فهي أضعف منكم. وبذلك تكون كلمة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} لوناً من الترقي.
وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم، فالعبد من الأحياء حينما يأتي شيء يستذله، قد يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض الشيء إلا إن كان الشيء قويا فوق طاقته. فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم أي مذللون ومسخرون ولا يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم. وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة وأخذت معنى عباد على معناها الإطلاقي، فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد.
لكن هناك مذلل ومسخر فيما لا اختيار له فيه، وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضاً، والفرق بين الاثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن لا يؤمن ويختار الكفر، بل إن الإنسان المؤمن له الاختيار في أن يطيع أو يعصي. ولكن هناك أشياء أخرى تجري على الإنسان لا اختيار له فيها، كأن يمرض ولا يقدر أن يقول: لا لن أمرض، أو قد يأتيه الموت فلا يقدر أن يقول: لن أموت. وقد يهلك ماله أو تحترق داره فلا يستطيع دفع القدر، وكل هذه أمور قهرية يكون الإنسان فيها مذللاً مسخراً، والكافر والمؤمن في هذه الأمور سواء.
والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج الله فيما له فيه اختيار، وهذه فائدة الإيمان، وبذلك يخرج المؤمن عن الاختيار المخلوق لله، إلى مراد الله منه في الحكم، ويستوي بكل شيء مسخر لله، ولذلك نقول للذين يكفرون: كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الاختيار عن الإيمان بالله.
وقد جعلها الله لكم بقوله:
{
…
فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]
وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم الله، إذن فللواحد منكم أيها الكافرون رياضة على التمرد، فلماذا لا تقول للمرض لن أستسلم لك. ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك، لأنه إنما يكفر بما له حق ممنوح من الله في منطقة الاختيار، أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون.
{إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [الأعراف: 194]
وقول الحق تبارك وتعالى: {فادعوهم} أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب، وهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم لا يقدرون أبداً. وفي هذا القول لون من التحدي {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لكنهم لن يستجيبوا، فليست لهم قدرة لأن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون، لأن طاقتهم وطبيعتهم لا تقدر أن تستجيب.
وبعد أن قال الحق عن الأصنام: إنهم عباد أمثالكم، أراد أن ينزلهم منزلة أدنى من البشر فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ
…
}
وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك، وكأنه يقول له: أنت لك رجل تمشي بها، ولك يد قد تبطش بها، ولك أذن تسمع، ولك عين تبصر، فهل للأصنام حواس مثل هذه؟ . لا، ليست لهم، إذن، فالأصنام أقل منك، فكيف تجعل الأقل إلهاً للأكبر؟ إن هذا هو جوهر الخيبة.
وقوله: {يَمْشُونَ بِهَآ} ، و {يَسْمَعُونَ} و {يُبْصِرُونَ} جاءت لأن المشركين صوروا التمثال وله رجلان وله اذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين، وحين ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
{
…
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] .
وفي قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
…
} [الأعراف: 195] .
حين يعرض الحق مثل هذه الأمور بأسلوب الاستفهام. فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى طريق، لأن الاستفهام لا بد له من إجابة. والكلام من الله عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. وإجابة الكافر ستكون قطعاً بعدم استطاعة الأصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع؛ لذلك أراد الحق ألا يكون الحكم من جهته. بل الحكم من جهة المشركين، وفي هذا إقرار منهم. ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم َ. {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1] .
أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول: شرحنا لك صدرك؟ كان يستطيع ذلك. ولكنه يأتي بالاستفهام الذي يكون جوابه: بلى لقد شرحت لي صدري. وينبه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا
…
}
إلى مقارنة الأصنام بالبشر. فالبشر لهم أرجل وأيْدٍ وأعين وآذان، وكل من هذه الجوارح لها عمل تؤديه، وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم.
فكيف يجوز في عرف العقل أن يكون الأعلى مرتبة مربوباً للأدنى مرتبة؟ إن ذلك لون من الحمق. {
…
قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ}
ورسول الله جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الأصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلامهم فيها، وبذلك أعلن العداوة ضدهم - العابدين، والمعبودين - وصارت خصومة واقعة، وسألهم أن يدعوا الشركاء ليكيدوا لرسول الله بالأذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للإسلام، إن كانت عندكم أو عندهم قدرة على ضر أو نفع {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} .
ويتحداهم صلى الله عليه وسلم َ أن يكيدوا هم وآلهتهم، والكيد هو التدبير الخفي المحكم. وانظروا ما سوف يحدث، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء، ليثبت بها أشياء، وقد قالوا: إن واحداً قد سحر النبي، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل، فكيف ينسحر النبي؟ ونقول: ومن الذي قال: إنه سحر؟ .
إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله. {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
…
} [الأنفال: 30] .
وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل، فأوضح ربنا: أنتم بيتم، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم. وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته. ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته، ولا بتبييت الجن - وهم أكثر قدرة على التصرف - يستطيعون
مواجهة دعوته. وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم، إذن فلا بد أن ييأسوا، ولذلك تحداهم وقال: {
…
قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] .
وأنظره يعني أخره، والقول هنا: لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم، بل نفذوا الكيد بسرعة، وقد أمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم َ أن يقول ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم َ إنما آوى إلى ركن شديد؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب
…
}
وما دام الوليّ هو الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم َ لا يبالي بهم، و «الولي» هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أحداً يليك إلا أقربهم إلى نفسك، وإلى قلبك، ولا يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك، إلا إذا آنست منه نفعاً فوق نفعك، وقوة فوق قوتك، وعلماً فوق علمك، وقول الرسول بأمره سبحانه وتعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله
…
}
أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي. فالله هو ولي الرسول أي ناصره، والقريب منه بصفات الكمال والجلال التي تخصه سبحانه وتعالى، وعندما يكون لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة، ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلام حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
أي أن جيش فرعون سيدركهم، لأن البحر أمامهم والعدو وراءهم. وليس أمامهم فسحة أمامية للهرب ولا منفذ لهم إلا أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بلا قوة ولم يكذبهم موسى عليه السلام في قولهم. بل قال لهم يطمئنهم:{كَلَاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل. ولا يقول هذا القول إلا وهو واثق تمام الثقة من نصرة الله، وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الأوروبية التي أسلمت لأنها كانت تقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم َ كبطل من أبطال العالم، صنع أكبر انقلاب في تاريخ البشرية، ولما مرت في تاريخه صلى الله عليه وسلم َ، قرأت أن صحابته كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه، إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «اذهبوا عني. فإن الله أنزل عليّ: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس
…
} » [المائدة: 67] .
واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت: إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعاً ما كذب على نفسه، ولا يمكن أن يُسلم نفسه لأعدائه بدون حراسة إلا إذا كان واثقاً من أن الله أنزل عليه هذا، وأنه قادر أن يعصمه، وإلا دخلَ بنفسه في تجربة. والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت لفتة العبرة. وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: {
…
قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195] .
وكأنه صلى الله عليه وسلم َ يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت، وألا يتأخروا عن ذلك وهو واثق من أن الله عز وجل ينصره. {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} [الأعراف: 196]
وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق، ولا يمكن أن يسلمه إلى عدو يمنعه من تمام البلاغ عن الله.
لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ولا يمكن أن يتخلى عنه. {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين}
وقوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} أي أنه لا يجعل الولاية خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم َ، بل يقول لكل واحد من أتباعه: كن صالحاً في أي وقت، أمام أي عدو، ستجد الله وهو يتولاك بالنصر، وساعة يعمم الله الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة الإيمانية في قلوب أتباعه صلى الله عليه وسلم َ. وكل من يحمل من أمر دعوته صلى الله عليه وسلم َ شيئاً ما سوف يكون له هذا التأييد، وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغاً عنه المنهج، وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة الكون؛ لأن الله قد جعل الإنسان خليفة ليصلح في الكون، وأول مراتب الإصلاح أن يبقى الصالح على صلاحه، أو أن يزيده صلاحاً إن أمكن.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ
…
}
لأن الذي لا يستطيع نصرك. يجوز أن يكون ضنيناً بنصرتك؛ لأن حبه لك حب رياء، أو لأنه يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه، أما حين يكون غير قادر
على نصرتك؛ لأنه لا يملك أدوات النصر، فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا، وهكذا كان حال المشركين. وفي يوم الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الأصنام، ولم يقاوم صنم واحد. بل تكسرت كلها جميعاً.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لَا يَسْمَعُواْ
…
}
وبطبيعة الحال لو أن أحداً دعا هذه الأصنام إلى الهداية فلن تهتدي الأصنام لأنها من الجماد الذي لا تصلح معه دعوة أو فهم. رغم أن الصنم منها له عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو البوذيين، حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزاً ملوناً يشبه العين، وتوجه الحدقة بميلها وكأنه ينظر إليك وهو لا يرى شيئاً.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم َ: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف
…
}
وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الأخلاق.
وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم َ بأن يدعو المشركين لأن يكيدوا له مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا. وبعد ذلك يوضح له: أنا أحب أن تأخذ بالعفو، وفي هذا تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ ولمن يتبعه، وكلمة «العفو» ترد على ألسنتنا، ونحن لا ندري أن لها معنى أصيلاً في اللغة. وقد يسألك سائل: من أي أتيت بهذا الشيء؟ فتقول له: جاءني عفواً، أي بدون جهد، وبدون مشقة، وبدون سعي إليه ولا احتيال لاقتنائه.
ويقال أيضاً: إن هذا الشيء جاء لفلان عفو الخاطر، أي لم يفكر فيه، بل جاء ميسراً. هذا هو معنى العفو. والحق هنا يأمر رسوله عليه الصلاة والسلام ُ أن يأخذ العفو، أي أن يأخذ الأمر الميسر السهل، الذي لا تكلف فيه ولا اجتهاد؛ لأنك بذلك تُسهل على الناس أمورهم ولا تعقدها، أما حين تتكلف الأشياء، فذلك يرهق الناس، ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول:{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} [ص: 86] .
وقوله: {وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين} أي أنه صلى الله عليه وسلم َ لا يتكلف الأمور حتى تصير الحياة سهلة ولا يوجد لدد بين الناس؛ لأن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس، ويجب أن تقوم المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف. ولذلك يقال: إن المؤمن هو السمح إذا باع، والسمح إذا اشترى، والسمح إذا اقتضى، والسمح إذا اْقتُضِي منه: أي أنه في كل أموره سمح.
وللأمر بأخذ «العفو» معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك؛ لأن ذلك ييسر الأمور.
والعفو أيضاً له معنى ثالث، هو الأمر الزائد، مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض الزكاة: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو
…
} [البقرة: 219] .
ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها، ونلحظ أن الأمر بالإنفاق من قبل أن تفرض الزكاة، والإنفاق بعد أن نزل الأمر بالزكاة يلتقيان في السهولة؛ لأن المؤمن لا ينفق مما يحتاجه. بل من الزائد عن حاجته.
وقول الله سبحانه وتعالى في الآية «خذ العفو» فيه أمر «خذ» ومقابله «أعْطِ» وقد تعطي إنساناً فلا يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته، لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى:«خذ» فهذا أمر يعود نفعه عليك، فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر الأمر ينقصك شيئاً، فاعلم أنك أخذت العفو لنفسك.
واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا ليناً مع إخوانه من المؤمنين.
فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له، فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك، فلا تتعال عليه أو تتعالم حتى لا تقوم معركة بينكما، بل تواضع أنت، ليزيدك الله رفعة وعزة.
وكأن الله سبحانه وتعالى يؤكد لك: أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلاله. ودائماً أضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى - أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابناً لك قد أساء إلى أخيه فيتجه قلبك وحنانك إلى المظلوم. ونحن عيال ربنا، فإن ظلم واحدٌ آخرَ، فالظالم بظلمه يجعل الله في جانب المظلوم، ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية الله لنا فنفعل معه مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له: إن فلاناً اغتابك بالأمس. ونادى سيدنا حسن البصري الخادم وقال له: جاءنا طبق من باكورة الرطب. اذهب به إلى فلان - وحدد للخادم اسم من اغتابه - وتعجب الخادم: كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك؟ فقال: أفلا أحسن إلى من جعل الله بجانبي، قل له:«يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك، وهو أهداك رطبه» . {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}
وتتناول الآية الكريمة الأمر بالعرف:
والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه، وتطمئن إليه النفوس، ويوافق شرع الله، ونسميه العرف؛ لأن الكل يتعارف عليه، ولا أحد يستحيي منه، لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض ألوان السلوك: هذا ما جرى به العرف. وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر مصدراً من مصادر الأحكام الشرعية.
وخير مثال على ذلك: أننا نجد الشاب لا يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها، لأن هذا أمر متعارف عليه ولا حياء منه، بينما نجد المجتمع المسلم يستحي
أن يوجد بين أفراده إنسان يزني، والغاية من الزنا الاستمتاع، والغاية من طلب يد الفتاة هو الاستمتاع، لكْن هناك فارق كبير بين متعة يحرمها الله عز وجل، ومتعة يٌحلّها الله تعالى.
وفي نهاية الآية يقول الله تعالى: {
…
وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين}
وكيف يكون الإعراض عن الجاهلين؟ . يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي لا يعلم، لأن من لا يعلم هو الأمي، أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع. ونلحظ أن المشكلات لا تأتي من الأميين الذي لا يعلمون، فالأمي من هؤلاء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛ لأنه لا يملك بديلاً لها، أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك القضية، والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة.
والحق هنا يوضح: أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها، وأنت حين تعرض عن الجاهل، يجب ألا تماريه، أي لا تجادله؛ لأن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة؛ لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتاباً واحداً، وقرأ في كتب الانحراف عن الدين المئات، أقول له: كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن تكون عادلاً ومنصفاً فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها.
وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثاً منطقياً يصحح لك عقيدتك، فعليك أن تخْرِج كل الاقتناعات المسبقة من قلبك ووجدانك. وتدرس الأمرين بعيداً عن قلبك، ثم أدخل إلى قلبك الأمر الذي ترتاح إليه، لكن لا تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك. والحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
…
} [الأحزاب: 4] .
فأنت لك قلب واحد، إما أن يمتلئ بالإيمان واليقين وإما بغير ذلك. والقلب حيز واحد فلا تشغله أنت بباطل، حين تبحث قضية الحق، بل أخرج الباطل من قلبك أولاً، واجعل الباطل والحق خارجه، وابحث بعقلك، والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله.
وفي بيان معنى هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال: لما أنزل الله عز وجل ّ على نبيه صلى الله عليه وسلم َ: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين» قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» .
وسبحانه - إذن - يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية؛ لأنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه، فما بالك بالمصاب في قيمه، ألا يحتاج إلى معونتك؟ .
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ
…
}
و «نزغ» تساوي كلمة «نخس» أي أمسك بشيء ووضع طَرَفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه. ويتضح من معنى «نخس» أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس.
وعملية النخس لا يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض، أما كلمة «مس» فقد يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الآخر منهما بسرعة، لكن أحدهما لا يدرك نعومة الآخر، أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللامس والملموس. ومعارك الحرب كلها تدور في هذا النطاق، فحين يكون العدو بعيداً يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيلا يصيبه بالنبال أو السهام، ويحاول هو أن يصيب
خصمه بالنبال أو السهام. وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم. وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية دون قدرة تلك القوات على الرد، لأنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى. ونجد الإشارة في قول الحق تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ
…
} [الأنفال: 60] .
وأوضح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول وهو على المنبر: «إلا أن القوة الرمي» . لأن الرمي يُمَكّن قذيفتك من عدوك، وأنت بعيد عنه فلا يقدر أن يصيبك بما يرميه.
وقديماً كانت الجيوش تزحف، فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام، وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الآخر. وإذا حمى وطيس المعركة تتلاقى السيوف. إذن كلها من النخس، والمس، واللمس.
وحينما خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم َ ربه قائلاً: «يا رب كيف بالغضب؟» أي كيف يكون علاج الغضب؟ نزل قول الحق: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] .
وقد يستفهم قائل فيقول: أينزغ الشيطان الرسول؟ . وأقول: إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل: «وإذ نزغك الشيطان» ، ولكنه قال:«وإما ينزغنك» أي إن حدث
ذلك، وهو قول يفيد الشك - ثم لماذا يحرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم َ من لذة مجابهة الشيطان؟ . ونعم عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله
…
} .
والاستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت لا تطلب العون ولا تلجأ ولا تستجير إلا بمن هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر.
ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة، وقدرة التغلغل، ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي ألا تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه، ولكنك تستعيذ بخالق الإنس والجن وجميع المخلوقات، وهو القادر على أن يعطل فاعلية الشيطان. وسبحانه سميع عليم، والسمع له متعلق، والعلم له متعلق، فحين تستحضر معنى الاستعاذة وأنت مشحون بالإيمان وتلجأ إلى من خلقك. وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ لا بد أن يهرب الشيطان من طريقك لأنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة على خالقه، وسبحانه سميع لقولك:«أعوذ بالله» ، عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة.
وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلاة والسلام ُ، وقال:{وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ}
أي أن الشيطان بعيد، وهو يحاول مجرد النزغ، فماذا عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إزاء هذا؟ . هنا يقول الحق تبارك وتعالى: - {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف
…
} .
ومن رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «إذا مسّهم» ولم يقل: «لمسَهم» . لأنهم من الذين اتقوا، أي وضعوا بينهم بين صفات جلال الله وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده ولذلك يقول:{إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ} .
والطائف هو الخيال الذي يطوف بالإنسان ليلاً، وبما أن الشيطان لا يرى، لذلك نصوره على أنه خيال، فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم، وتذكروا منهج الله الذي يصادم شهواتهم، وتذكروا أن عين الله تراهم ولا تغفل عنهم، وأن محارم الله واضحة وبينة، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن بشير: «الحلال بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» .
وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم، هنا تزول عنهم أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي
…
} .
ونحن حين نتتبّع كلمة «يمدونهم» في القرآن، نجدها مرة «يمدونهم» ومرة يمددكم كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
…
} [نوح: 12] .
ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم، بل تظل في محاولة الغواية، وتحاول الشياطين غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لأن العاصي إنما يعاون الشيطان باتباعه شهوات نفسه، ولا يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك، بل يحاول العاصي أو الشيطان غواية المؤمنين و «أقصر» من مادة «قصر» ، أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها. وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين.
فالشيطان - كما جاء في القرآن - يعترف بموقفه من ملاحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين المعاصي. {
…
لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] .
والشيطان يعلم أن من لا يتقي الله لا يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لأنه يرغب ويميل للمعاصي والعياذ بالله؛ لذلك لا يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيراً.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ
…
}
وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة «آيات» ، والآيات - كما أوضحنا - إما آيات كونية وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل، وإما آيات الأحكام.
والله سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة: «آية» لا «آيات» ، والكون أمامهم ملئ بآياته، والمنهج المنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام ُ واضح، ولا ينقص إلا أن
تأتي الآية المعجزة - من وجهة نظرهم - وينبه الحق هؤلاء بقوله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلَاّ كُفُوراً وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَاّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 89 - 93] .
إذن فالآياتُ المعجزاتُ التي طلبوها، لا يأتي بها الرسول من عنده، والآيات التي ينزل بها المنهج أيضاً ليست من عنده، بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم. وكانوا يتهمونه صلى الله عليه وسلم َ أنه يفتري القرآن. لذلك طلبوا منه صلى الله عليه وسلم َ المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم َ:{قَالُواْ لَوْلَا اجتبيتها قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي}
يأمره هنا ربه أن يقول: {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي}
أي أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم َ مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح الأمين جبريل عليه السلام من آيات القرآن الحاملة للمنهج الإلهي، وهذا المنهج في حد ذاته معجزة متجددة العطاء، لذلك يضيف:
{
…
هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203] .
ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ، والبصائر جمع بصيرة، من الإبصار، إذا امتلأ القلب بنور اليقين الإيماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق، ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية صاحب بصيرة، أما البصر فهو مهمة العين في الأمور الحسية، لكنْ هناك أمور معنوية لا تكشفها إلا البصيرة، والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك الأمور المعنوية، ولا يمتلك القلب البصيرة إلا حين يكونُ مشحوناً باليقين الإيماني.
والقرآن الكريم بصائر؛ لأنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد الأمور المعنوية وقد صارت مُبصَرَةً، وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين.
وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى، أي يدل الإنسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق الله المستقيم، وهو رحمةٌ أيضاً لمن لا يملك إشراقات القلب التي تهدي للإيمان ولا يملك قوة أخذ الدليل الذي يوصله إلى الهداية، إذن فهو رحمة لكل الناس، وهدى لمن يسأل عن الدليل، وبصائر لمن تيقين أصول الإيمان مشهدياً.
وكما قلنا من قبل: إنَّ الله قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية، ومن هذه الأمور الغيبية أن له جنةً وأن له ناراً، وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلاغ عن ربهم، وعلموا أن ذلك من الله، وصار هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم، فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروباً عن متن جهنم مطابقاً لما صدقوه وصار عين يقين، وإذا ما دخل بعضهم النار - والعياذ بالله - تكفيراً لذنوب ارتكبوها، فهذا حق يقين. وضربت المثل من قبل - ولله المثل الأعلى - كان الجغرافيون يحدثوننا ونحن طلاب عن خريطة الولايات المتحدة، ويقولون: إن عاصمتها «واشنطن» ، والميناء الكبير فيها اسمه «نيويورك» ، وفي «نيويورك» توجد ناطحات السحاب وهي مبان
ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر، وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا، وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك من الطائرة، صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين. وعند هبوط الطائرة في مطار واشنطن صارت الرؤية حق يقين.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا الإيمان ببعض من الغيب في قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 1 - 7] .
أورد سبحانه هناك «علم اليقين» «وعين اليقين» ، وأما «حق اليقين» فقد جاء في قوله:{فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88 - 95] .
والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة. . فهناك من صدق الله في الخبر عن الغيب كعين يقين، وهناك من صدق قول الله حق اليقين، ولذلك فإننا نجد الإمام عليا - كرم الله وجهه - يقول:«لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا» .
وفي الحوار الآتي الذي دار بين حضرة النبي صلى الله عليه وسلم َ، والصحابي الجليل الحارث بن مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من الإيمان:
«فقد روى الحارث بن مالك الأنصاري: أنه مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال له: كيف أصبحت يا حارث؟ قال: أصبحت مؤمناً حقّاً، قال:» انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضارغون فيها. فقال يا حارث عرفت فالزم ثلاثاً «.
هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم َ قد صار حق يقين، وامتلك البصيرة التي رأى بها كلَّ ذلك.
وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لأصحاب المنزلة والدرجات العالية، وهدى لأصحاب الاستدلال ورحمةً للجميع.
ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا
…
} .
وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا
وهدى ورحمة، ألا يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟ . . ألا تجذبك هذه الحيثيات الثلاث لأن تعطي له أذنك وألا تنصرف عنه؟ .
إذن لا بد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلاث؛ البصائر، والهدى، والرحمة، وهو حقيق وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ.
ولنلحظ أن الله تعالى قال: {فاستمعوا لَهُ} ولم يقل «اسمعوا» ، لأن الاستماع فيه تعمد أن تسمع، أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك، وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد لا تنتبه، ومن الرحمة المحمدية يقول حضرة النبي صلى الله عليه وسلم َ ناهياً عن التسمع لأسرار الغير تجسساً عليهم بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «لا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تجسَّسُوا ولا تحسّسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانا» .
وفي هذا تحذير من هذه الأمور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس. {وَإِذَا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] .
والإنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الاستماع، فاستمع وأنصت بنية العبادة، لأن الله هو الذي يتكلم، وليس من المعقول والتأدب مع الله أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت عن كلامه، وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق: ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول:
«عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ
الوكيل} ، فإني سمعت الله عقبها يقول:{فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} .
وعجبت لمن اغتم، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى:{لَاّ إله إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} فإني سمعت الله عقبها يقول: {فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} .
وعجبت لمن مُكر به، ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى:{وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} . فإني سمعت الله عقبها يقول: - {فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} .
وعجبت لمن طلب الدنيا ولم يَفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى: {مَا شَآءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَاّ بالله} . فإني سمعت الله عقبها يقول: - {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} .
ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو حُسْن الأدب الذي يجب أن نستقبل به العبر التي تعود بالفائدة علينا.
ووقف العلماء حول الإنصات سماعاً للقرآن؛ أيكون الإنصات إذا قرئ القرآن مطلقاً في أي حال من الأحوال، أو حين يُقرأ في الصلاة، أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟
وقد اختلفوا في ذلك، فبعضهم قال: إن المقصود هو الإنصات للقرآن حين يُقرأ في الصلاة، والسبب في ذلك أن الأوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الصلاة، يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم؛ قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا قال:» الحمد لله رب العالمين «، قالوا:» الحمد لله رب العالمين «فينبههم الله عز وجل إلى أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة.
وقال آخرون من العلماء: الإنصات للقرآن الكريم يكون في الصلاة، وفي خطبة الجمعة أو العيدين، لأنها تشتمل على آيات من القرآن، ولكن اشتمالها على الآيات أقل مما يقوله الخطيب، ونبه البعض إلى أن الإنصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام ُ:«إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت» .
إذن الإنصات للخطبة جاء بدليل من السنة.
وهناك قول بأن الاستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الأوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ ومهابةٌ لكلام الله عز وجل، وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولانا سيدي «أبي عبد الله الحسين» ، فيقول:
إذا قُرئ القرآن سواءٌ إن كنت في صلاة أو كنت في خطبة، أو كنت حرّاً فأنصت؛ لأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلام، فميزه بأشياءَ، إذا قُرئ ننصت له، وإذا مسّ المصحف لا بد أن يكون على «وضوء» حتى لا يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب من الكتب، وهذا يربي المهابة فلا تمسك المصحف إلا وأنت متوضئ، فإذا علمنا أولادنا، نقول للواحد منهم: لا تقرب المصحف إلا وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد.
وأيضاً في «الكتابة» شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد الإملائي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة، فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلامه ليس ككل كلام. {وَإِذَا قُرِىءَ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] .
وبعض العلماء قال: ليس المطلوب مجرد الاستماع بالآذان، بل المقصود
بالاستماع هنا هو أن نستجيب لمطالبه، ألا تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض:«الله يسمع دعاك» ؟ إنك تقولها وأنت تعلم أن الله سامعك، ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء، إذن فالاستماع للقرآن يقتضي الاستجابة لمطلوبات القرآن. لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن الرحيم. {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
ونعلم أن «لعل» «وعسى» حين تقال يقصد بها الرجاء، و «ليت» تعني التمني وهو مستحيل ولا يُتَوَقّع، ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا، لكننا نعلم أنه مستحيل، مثلما قال الشاعر العجوز:
ألا ليت الشباب يعود يوما
…
فأخبره بما فعل المشيب
إنه يعلم يقيناً أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل على أن الشباب فترة محبوبة. ومثل قول الشاعر:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
…
عقود مدح فما أرضى لكم كَلِم
ولن تدنو الكواكب.
إذن ساعة تسمع «عسى» أو «لعل» يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لأن يحدث، وإذا كان رجاء من الله، فهو رجاء من كريم لا بد له من واقع.
ويقول الحق بعد ذلك:
والذكر مرور الشيء، إن كان بالبال، فهو ذكر في النفس، وإن كان باللسان ولا يُسْمِع الغير ويُسْمِعك أنت فهذا ذكر السر، وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر
مقبول، وجهر غير مقبول، والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذِّكرُ إلى إزعاج والعياذ بالله، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {
…
وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] .
ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الآية؛ تنبهاً يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر الله في هذا المجال فلا يجهرون ولا يرفعون أصواتهم به لدرجة الإزعاج، لأني أقول لكل واحد منهم: إن ربك لم يطلب منك حتى الجهر، إنما طلب دون الجهر، وأقول ذلك خاصة لهؤلاء الذين يفسدون نعمة الله على خلقه؛ فيصيحون ليلا ويمنعونهم من رحمة الله ليلا التي قال عنها:{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] .
فلا تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لأن الدعوة إلى الله ليست صياحاً على المنابر، إلا إذا كنتم تصنعون لأنفسكم دعاية إعلامية على مساجد الله وعلى منابر الله. وهذا أمر مرفوض وغير مقبول شرعاً. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} والحق تبارك وتعالى يقول مرة:{ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41] .
ومرة يقول: {واذكر رَّبَّكَ}
وقوله: «اذكر الله» يستشعر سماعها التكاليف؛ لأن الله هو المعبود، والمعبود
هو المطاع في الأوامر والنواهي.
أما قوله: «اذكر ربك» فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض نعمه ما لا يعد ولا يحصى. فاذكر ربك؛ لأنك إن لم تعشقه تكليفاً، فأنت قد عشقته لأنه ممدك بالنعم، وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعاً بالنعم.
وأضرب لك هذا المثل - ولله المثل الأعلى وهو منزه عن التشبيه - وأنت لك أولاد، وتعطي لهم مصروفاً، وحين تعطي لهم المصروف كل شهر، تجدهم لا يحرصون على أن يروك إلا كل شهر، لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك، فإن كنت نائماً يدخل ابنك لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة، فما بالك وأنت بكل وجودك عبد لإحسان ربك؟ وما دمت عبد الإحسان فاذكر من يحسن إليك، اذكر ربك دائماً.
واذكره على حالين: الأول تضرعاً. أي بذلة، لأنك قد تذكر واحداً بكبرياء، إنما الله الخالق المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية، واذكر ربك «خيفة» أي خائفاً متضرعاً؛ لأنك كلما ذللت له يعزك، ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد، والناس ينفرون ممن يستعبدهم؛ لأن عبودية الإنسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير العبد للسيد، ولكن عبوديتك لله تعطي خير الله لك. ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم َ فيقول:{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1] .
وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم َ منزلة كبرى بحادث الإسراء، وكان الحديث عنها بامتنان من الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم َ.
والشاعر المؤمن يقول:
حسب نفسي عزَاً بأني عبد
…
يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن
…
أنا ألقي متى وأين أحب
وأنت أيها العبد المؤمن تلقى الله متى أردت، وإذا أسلمت زمامك للإيمان؛ فالزمام في يدك. يكفي أن تنوي الصلاة وتقول: الله أكبر فتكون في حضرته سبحانه سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان. وفي منتهى العزة لك. {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول
…
} [الأعراف: 205] .
ولم يقل هنا رب العالمين: بل ربك أنت يا محمد، وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس، فهذا العطاء الذي جاء بمحمد رسولاً، نعمةٌ ومنةٌ من الله على المؤمنين برسالته، وبعد ذلك ينسب لكل مسلم العطاء الذي جاء لمحمد. وقوله تعالى لرسوله:{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي أنه سبحانه لم يجعل دليل عنايته بك مقصوراً على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لأنك قد لا ترى شيئاً في الكون أو لا تسمع شيئاً في الكون؛ لأن الكون منفصل عنك، إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد الآيات كلها تذكرك بخالقك، {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] .
فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك، جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لأن نفسك لا تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها، وبنوازعها، ولهذا كان التضرع إلى الله والخيفة منه لهما مجال هنا؛ لأنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك، وستجد الكثير من الآيات، وهي آيات أكبر منك، لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا، وتخاف ألا تؤدي حقه لديك.
ونعود إلى قول الله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والآصال} والذكر حَدَثٌ، والحدَثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان. والغدو والآصال زمنان يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار، والآصال هو من العصر للمغرب، مثلما نقول «شمس الأصيل» .
وهذه الآية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا، فالحق تبارك وتعالى يقول:{ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 41 - 42] .
وكما يقول عز وجل: {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 8 - 9] .
و «الأصيل» هنا مشترك، ومقابل الأصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة، وأخرى يطلق عليه: الغدو، وسبحانه القائل:{الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَاّ شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 35 - 36] .
إنك ساعة أن تقرأ «في بيوت» تعرف أن هنا حدثاً؛ لأن قوله: «في بيوت»
شبه جملة «في معنى الظرف، وإذا استقرأت ما قبلها، لم تجد لها مُتَعَلَّقاً. والحظ إذن أن ما قبلها هو {نُّورٌ على نُورٍ} {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى الله، فذلك نور، وتصلى له فذلك نور، وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته، وكل هذا نور على نور، فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور الله عز وجل؛ فليكثر من الذهاب إلى بيوت الله، وللمساجد مهابة النور لأنها مكان الصلاة، ونعلم أن الصلاة هي الخلوة التي بين العبد وربه، وكان رسول الله إذا حز به أمر قام إلى الصلاة. وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صلى الله عليه وسلم َ وتصلي ركعتين لله فلن حز بك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت بها إلى الله فلن يخرجك الله إلا راضياً. {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} .
والغدو والآصال أو البكرة والأصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل.
ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أو الليل؟
لأن هذه الأزمنة هي التي يطلب فيها الذكر. فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة، وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم، لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة، ولك أن تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة:(الحمد لله) وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول:» ما شاء الله «وعندما ترى أي شيء يعجبك تقول: (سبحان الله) .
ولذلك حينما دعا الله خلقه المؤمنين به إلى الصلاة قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] .
وهذا التكليف في صلاة الجمعة المفروضة كصلاة للجماعة، والجماعة مطلوبة فيها، ومن الضروري أن نتواجد فيها كجمع؛ لأن الجماعة مشروطة فيها فلا تصح بدون الجماعة.
ونعرف أن الصلاة إنما هي ذكر لربنا، فماذا بعدها؟ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] .
أي إياك أن يشغلك انتشارك في الأرض وابتغاؤك من فضل الله، والأخذ بأسباب الدنيا عن واجبك نحو الله، بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً
…
} .
أي لا تكن من الغافلين عن مطلوبات الله بالحدود التي بينها الله عز وجل؛ لأن الغفلة معناها انشغال البال بغير خالقك، وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك لا تغفل عن مطلوباته في الغدو والآصال وفي كل وقت، سواء كنت في الصلوات الخمس، أو كنت تضرب الأرض في أي معنى من المعاني، وتأس أيها المؤمن بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان الملائكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية، ولا يأكلون ولا يتناسلون، وليس لهم شهوة بطن ولا شهوة فرج، وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية، مع ذلك يجب عليك أن تتأسى بهم؛ لأنهم هم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا يستكبرون عن عبادته، ويسبحونه؛ وله يسجدون، لذلك يقول الحق بعد ذلك:
{إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ
…
}
وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء، فلماذا خص هؤلاء بالعندية؟ .
إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لأن المكان مُحَيَّز، وربنا عز وجل لا يتحيز في مكان، والعندية هنا عندية الفضل، وعندية الرحمة، وعندية الملك، وعندية العناية. أو إن كل خلق لله جعل لهم أسباباً ومسبَّبات، ولكن خلقاً من خلقه يسبحونه بذاته، وليس لهم عمل آخر، ويعرفون بالملائكة العالين، لا الملائكة المدبرات أمراً أو الحفظة. ولذلك قلنا سابقاً: إن الحق سبحانه وتعالى حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم، وامتنع إبليس، قال له:{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] .
و {العالين} هم الذين لم يشملهم أمر السجود، فهم ملائكة موجودون ولا عمل لهم إلا تسبيح الذات العلية ولا يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئاً. وهم غير الملائكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين عند ربنا هم الملائكة المُهيَّمون الذين لا يعرفون شيئاً إلا الذات الإلهية وتسبيح الذات وعملهم يحدده الله هنا:{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}
واختلف العلماء في كيفية سجود الملائكة، أهو الخضوع؟ أهو الصلاة؟ أهو السجود الذي نعرفه نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع لله عز وجل وقت الصلاة. لأنه نزول بأشرف شيء في الإنسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الأرض خضوعاً لله عز وجل. ولذلك علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ
أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب الله فيها مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلاوة، ويكون ذلك عند تلاوتها أو سماعها من القارئ، وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة وجعلوا عندها علامة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطاً. وحين قام العلماء ببيان المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة «الأعراف» التي نتناولها بخواطرنا الآن، وانتهت بسجدة «العلق» :{اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] .
وبينهما سجدات، وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في هذه السورة. فمن حسبها خمس عشرة سجدة، عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة الحج الأولى - المتفق عليها - وبعض العلماء قال: إنها أربع عشرة سجدة؛ لأنه لم يحسب سجدة الحج الثانية.
وهب أنك أردت أن تسجد لله شكراً في أي وقت، وعند أي آية فاسجد لله سجدة الشكر، وهي سجدة واحدة كسجدة التلاوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه، أو زوال نقمة ولا تكون إلا خارج الصلاة.
والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير، ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلاة، والمفترض أن تقول:«سبحان ربي الأعلى» ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ علمنا ما نقوله في السجود للتلاوة، وروي عن ابن عباس قال:
«كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم َ فأتاه رجل فقال: إنِّي رأيتُ البارحَة - فيما يرى النائم كأنِّي أصلي إلى أصل شجرة، فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول: اللهم احطُطْ عني بها وِزْراً، واكتُب لي بهاَ أَجْراً، واجْعْلها لي عندكَ ذُخْراَ. قال ابنُ عباس: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم َ قرأ السجدة فسجد، فسمعته يقول في
سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ الشجرة» .
وبذلك تختم سورة الأعراف، والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لأن «الأعراف» هو المكان العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة وينظروا إلى أهل النار، وهكذا تكون الأعراف مكاناً يزيد في الارتفاع، وهي مأخوذة من «عرف الفرس» ، وعرف الفرس أعلى شيء فيه، والأنفال أيضاً هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة سواء بالنسبة لسورة الأعراف أو الأنفال، وأيضاً يوجد التناسب في المعنويات، وهذا التناسب نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة الأعراف:{إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] .
ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ
…
} [الأنفال: 1] .
لأن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم، فإذا ما تذكروا الله وما أعده لأهل الإيمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الأولى التي ترتفع على كل شيء وهي الإيمان بالله، وهذا الإيمان إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية.