المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بعضاً؛ لأنه استخدم كلمة أولياء بالنسبة لهم أيضاً. والحق سبحانه - تفسير الشعراوي - جـ ٨

[الشعراوي]

الفصل: بعضاً؛ لأنه استخدم كلمة أولياء بالنسبة لهم أيضاً. والحق سبحانه

بعضاً؛ لأنه استخدم كلمة أولياء بالنسبة لهم أيضاً. والحق سبحانه وتعالى لم يشرع للكافرين.

وبعد أن بينا أقسام المؤمنين الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعرفنا أنهم أربعة، ذكرنا ثلاثة منهم هم المهاجرون والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا، وبقي من هذه الأقسام الذين آمنوا وهاجروا بعد ذلك، ويقول الحق تبارك وتعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا

}

ص: 4825

أي إياكم أن تقولوا بأنهم لم يهاجروا معكم. وتنكروا أنهم منكم. بل هم منكم وأولياؤكم فهم قد اتبعوكم بإحسان.

وما الذي جعل الحق سبحانه وتعالى يذكر هذا مرة أخرى؟ . لقد تكلم سبحانه وتعالى عن الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل الله والذين نصروا، ولننتبه إلى أن هذا ليس تكراراً لأنه سبحانه وتعالى يذكر لنا هنا أنهم جاهدوا بالمال والنفس. وقد جاءت هذه الآية لتثبيت الحكم الشرعي. وانظر إلى عجز كل آية لتعرف. ففي عجز هذه الآية:

{أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:‌

‌ 74]

.

ص: 4825

والحكم الشرعي بالنسبة لهم هو أن يكونوا أولياء بعض، وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة حيث يقول:{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] .

أي أعطانا الحكم الشرعي في ولاية بعضهم لبعض. وأوضح أن هؤلاء لا بد أن يكونوا أولياء، وهذا هو الحكم المطلوب منهم، ولكنه سبحانه في هذه الآية الكريمة:

{والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74] .

فلم يتكلم الحق سبحانه وتعالى هنا عن الولاية ولم يعط حكماً بها، وإنما قال سبحانه وتعالى:{هُمُ المؤمنون حَقّاً} وهذا حصر يسمونه قصراً، أي أن غيرهم لا يكون مؤمنا حقا، مثلما تقول: فلان هو الرجل، يعني أن غيره لا تعد رجولته كاملة من كل نواحيها. وهذه مبالغة إيمانية.

ثم يذيل الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله الكريم:

{لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] .

وهنا يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن الجزاء. والجزاء إما أن يكون في الدنيا،

ص: 4826

ولذلك حكم الله لهم بأنهم هم المؤمنون حقا، وإما أن يكون الجزاء في الآخرة. وجزاء الآخرة يمحو السيئات ويرفع الدرجات فقوله:{لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ} أي تمحي سيئاتهم. وقوله تعالى: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي تضاعف لهم الحسنات في الجنة. فكأن الآية الأولى كان مقصوداً بها حكم الولاية. وهو حكم مطلوب منهم. والآية الثانية تكلمت عن الجزاء وبينت جزاءهم في الدنيا والآخرة. والجزاء في الدنيا أنهم هم المؤمنون حقا، أمَّا الجزاء في الآخرة فهو محو الذنوب حتى لا يعاقبوا. ورفع درجاتهم بإعطائهم الثواب؛ وهو رزق كريم.

والمغفرة لهم على قليل الذنوب؛ لأنه لا يوجد أحد بلا كبوة في شيء من الأشياء ولا أحد معصوم مثل الرسل فهم وحدهم الذين عصمهم الله من الوقوع في المعاصي، ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يغفر لمن ذكرهم في هذه الآية النزوات الصغيرة، ولهم رزق كريم أيضاً. والرزق هو ما انتفع به الإنسان، وإن كان الناس ينظرون إلى الرزق على أنه المادة فقط؛ من مال وأرض وعقار وطعام ولباس، ولكنَّ الحقيقة أن الرزق مجموع أشياء متعددة؛ منها ما هو مادي وما هو معنوي.

فالاستقامة رزق، والفضيلة رزق، والعلم رزق، والتقوى رزق، وكلما امتد نفع الرزق يوصف بأنه حسن وجميل. وهنا وصف الحق الرزق بأنه كريم. والكرم هو مجموع الأشياء التي فيها محاسن. وإذا جاء الرزق بلا تعب يكون كريماً، فالهواء رزق لا عمل لك فيه؛ يمر عليك فتتنفس، والماء رزق لا عمل لك فيه لأنه يهبط عليك من السماء، والطعام رزق لك فيه عمل قليل، فأنت بذرت ورويت وانتظرت حتى جاء الثمر.

إذن فهناك رزق لا عمل لك فيه مطلقاً وهو رزق في قمة الكرم، وهناك رزق لك فيه عمل ضئيل وهو رزق كريم لأنه أكبر من العمل. وأنت حين تعطي إنساناً

ص: 4827

أجره ليس هذا مناّ أو كرما منك لأنه مقابل عمل، ولكن الكرم أن تعطيه بلا مقابل. ورزق الجنة بلا مقابل لأنه بمجرد أن يخطر الشيء على بالك وتشتهيه تجده أمامك.

إذن فهو رزق في قمة الكرم، والحق سبحانه وتعالى قد جعل الكرم من صفات الرزق، فالرزق يعرف عنوانك ومكانك وأنت لا تعرف عنوانه ولا مكانه لأنك قد تبذل جهداً كبيراً في زراعة أرضك ثم تأتي آفة وتصيب الزرع فلا يعطيك رزقاً. وقد تذهب إلى مكان وأنت خالي الذهن فتأتيك صفقة فيها رزق وفير.

إذن فالرزق يعرف مكانك ويأتي إليك ولكنك لا تعرف أين هو. وقد حدد الله سبحانه وتعالى الرزق وقسمه على عباده، وكل رزق مقسوم لك سيصل إليك ولن يذهب إلى غيرك، وأنت قد تأكل طعاماً تلتذ به ثم يهيج معدتك فتفرغ معدتك منه، ويأتي طائر ليلتقط بعضه؛ هذا رزق الطائر تعافه أنت. وقد تأكل الطعام ويتحول إلى مكونات في دمك ثم تذهب تتبرع بهذا الدم إلى غيرك.

إذن فهذا الطعام الذي أكلته وتحول إلى دم في جسدك ليس رزقك ولكنه رزق من نقل إليه الدم. ولذلك إذا قرأت القرآن تجد أن الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} [النحل: 112] .

ص: 4828

ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ

}

ص: 4829

إذن فمن آمن بعد هؤلاء الأولين وهاجر وجاهد له أيضاً مغفرة ورزق كريم.

هكذا حدد الحق سبحانه وتعالى فئات المؤمنين وجعل لكل فئة مقامها، فالذين آمنوا هم جميعاً قد انتموا انتماء أوليا إلى الله، ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان مقهوراً في أشياء ومختاراً في أشياء يفعلها أو لا يفعلها، والمؤمن يختار ما أراده الله تعالى له؛ ففعل ما قال له:«افعل» ، ولم يفعل ما قال له:«لا تفعل» ، فكأنه اختار مرادات الله في التشريع.

إن معنى الإيمان أن يستقر في قلبك وأن تؤمن أن الله تعالى بكل صفات كماله خلق لنا هذا الكون وخلقنا، وأننا جئنا إلى هذا الكون فوجدناه قد أعد لنا إعداداً جيداً، كل ما فيه مسخر لخدمة الإنسان، وأعطانا الله سبحانه وتعالى الاختيار في أشياء، وجعلنا من رحمته مقهورين في أشياء.

مثلا دقات القلب والدورة الدموية وأجزاء جسمك الداخلية مقهورة لله عز وجل لا دخل لاختيارك فيها، وكذلك التنفس فأنت تتنفس وأنت نائم ولا تعرف كيف يحدث ذلك، ولكن الأفعال التي تصدر منك بعد فكر، تلك هي الأفعال التي جعل الله لك فيها اختياراً. ولو أرادك الخالق أن تكون مقهورا لفعل، ولو أراد أن يؤمن الناس جميعاً لفعل؛ ولكنه سبحانه وتعالى ترك لهم الاختيار؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؛ ليعرف مَنْ مِن عباده أحب الله فأطاعه في التكليف، ومَنْ مِن الخلق قد عصاه.

ص: 4829

إذن فالانتماء الأول للمسلم هو انتماء الإيمان، وللإنسان انتماءات أخرى؛ ينتمي لوطنه ولأهله ولأولاده ولماله، ولمن الانتماء الأول يجب أن يكون لله تعالى، بحيث يترك الناس أوطانهم وأموالهم وأهلهم إذا كان الإيمان يقتضي ذلك. والإنسان المؤمن هو الذي يترك اختياره فيختار ما أمر به الله عز وجل، ويجعل كل ما يملكه في خدمة ذلك؛ فيجاهد بنفسه لأن الله أمره بذلك، ويجاهد بماله لأن الله أمره بذلك. إذن فالمؤمن الحق لا انتماء له إلا لله. فالذين هاجروا والذين آووا ونصروا، تركوا أموالهم وأولادهم وكل ما يملكون حبا في الله وطاعة له.

فالأنصار لم يهاجروا ولكنهم وضعوا كل إمكاناتهم في إيواء المهاجرين حبا لله؛ فتنازلوا عن مساكن لهم وأموال لهم، وتنازلوا عن زوجاتهم في سبيل الله كل منهم مؤمن حقًا، أما الفئة الثانية فهناك نقص في إيمانهم؛ ذلك أنهم لم يهاجروا رغم إسلامهم وفضلوا أن يبقوا مع أولادهم وأهلهم. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى عنهم:{مَا لَكُمْ مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 72] .

أي ليس مطلوباً أن توالوهم، لكن إذا استنصروكم في الدين فعليكم النصر، لماذا؟ لأنهم لم يتركوا الانتماءات الأخرى مثل المال والولد والأهل ومكان الإقامة. والفئة الثالثة هم الذين جاءوا بعد ذلك، لم تكن هناك هجرة ليهاجروا ولكن من آمن منهم وجاهد وترك اختياره وخضع لاختيار الله خضوعاً تاما يكون كالمؤمنين الأوائل؛ لأنهم تركوا كل الانتماءات من أجل الله تعالى. ثم يختتم الحق سبحانه سورة الأنفال بهذه الآية الكريمة: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمِْ

}

ص: 4830