المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} والتوبة أولاً - تفسير الشعراوي - جـ ٩

[الشعراوي]

الفصل: ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} والتوبة أولاً

ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} والتوبة أولاً - كما عرفنا - هي تشريعها، ثم تأتي التوبة بالقبول، وقوله:{ليتوبوا} أي: أنها تصبح توبة رجوع وعودة إلى ما كانوا عليه قبل المعصية.

ويُنهي الحق الآية بقوله: {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} فلا توَّاب ولا رحيم سواه سبحانه وتعالى.

ويقول الحق بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ

}

ص: 5558

وساعة ينادي الحق عز وجل عباده المؤمنين، فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق بالإيمان، وإما أن يناديهم بالإيمان ويطلب منهم الإيمان مثل قوله الحق: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ

} [النساء: 136]

والحق سبحانه يُبيّن للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم، أنه من الممكن أن يؤمن الإنسان ثم يتذبذب في إيمانه، فيطلب منه الحق «دوام الإيمان» . فإذا طلب الله من عباده ما كان موجوداً فيهم ساعة الخطاب، فالمطلوب دوامه، وإن طلب منهم حكماً يتعلق بالأيمان، فهو يوجّههم إلى الاستماع وتطبيق ما يطلب منهم، ومثال هذا قول الحق سبحانه:{اتقوا الله} [التوبة:‌

‌ 119]

ص: 5558

وكلمة {اتقوا} تعني: اجعلوا بينكم وبين الله وقاية، ويتساءل البعض: هل يطلب أحد من الإنسان أن يجعل بينه وبين وقاية؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معيَّة الله. وهنا تأتي ضرورة فهم صفات الجمال وصفات الجلال. إن قوله سبحانه: {اتقوا الله} يعني: اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية، مثلما قال سبحانه:{اتقوا الله} [البقرة: 24]

لأن النار من جنود صفات الجلال، فاجعلوا بينكم وبين الله وقاية من صفات الجلال.

وهنا يقول الحق: {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} ، وفسر بعض العلماء قوله:{وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} بمعنى كونوا من الصادقين، أي: أن «مع» هنا بمعنى «من» والمقصود أن يعطي هذا القول معنى إجماليّاً عامّاً. لكني أقول: هنام فرق بين {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} و «كونوا من الصادقين» ، فقوله الحق:{وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: التحموا بهم فتكونوا في معيّتهم وبعد أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين.

ويقتضي الأمر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلامية والنسبة الذهنية، فأيُّ قضية تمر على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية، مثل قولك:«محمد زارني» ، وأنت قبل أن تقول هذه العبارة جاء في ذهنك أن تنطقها، وهذه «نسبة ذهنية» . ومن يسمعك لا يدري بها، ولكونك المتكلم فأنت وحدك الذي تدري بها، فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب؛ علم أن نسبة ذهنية جاءت في ذهنك فترجمتها قولاً بالنسبة الكلامية. فحين قلت:«محمد زارني بالأمس» ؛ جاءت في ذهنك قل أن تقولها، فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين؛ نسبة سمعها عن نسبة عندك.

وحين يمحّص السامع هذا القول؛ يعلم أن هناك واحداً في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد زارك، وخبرته معك أنه قد زارك، وخبرته معك دائماً أنك صادق، إذن:

ص: 5559

فالصدق هو أن تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع. أما إذا قلت: إن محمداً قد سافر إلى أمريكا، وهو لم يسافر، فهذا يعني أن النسبة الكلامية لم تتطابق مع النسبة الواقعية وهذا هو الكذب.

إذن: فهناك «نسبة ذهنية» و «نسبة كلامية» و «نسبة واقعية» . فإن تطابقت النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية، فذلك هو الصدق، وإن لم تتطابق يكون الكذب.

وكل نسبة تقولها تحتمل أن تكون صادقة أو كاذبة، والفيصل في هذا الأمر هو الواقع، هل يتطابق ما تقول أم لا؟ . أما إن قلت لك:«زُرْ فلاناً» فهذه نسبة إنشاء؛ لأن الواقع يأتي بعدها، لا قبلها.

وهنا يقول الحق سبحانه: {اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} والصدق هو الخَلَّة التي تجمع كل الإيمان، ولنر التطبيق لذلك في قصة الرجل البدوي الذي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقال: يا رسول الله، إن فيَّ خلالاً ثلاثة لا أقدر على التخلِّي عنها أبداً، أما الأولى فهي النساء، وأما الثانية فهي الخمر، وأما الثالثة فهي الكذب، وقد جئتك يا رسول الله، لتختار لي خصلة من الثلاثة وتقوِّيني عليها، وأعاهد ربنا عليها. فاختار رسول الله للأعرابي أن يتوب عن الكذب، وأن يتحلّى بالصدق، فقال له: كن صادقاً وما عليك. وحين أحب الأعرابي أن يشرب كأس خمر؛ تساءل: وماذا إن سألني النبي صلى الله عليه وسلم َ أشربت الخمر؟ وامتنع عن الخمر حتى لا يكذب على الرسول. وحين جاء ليختلس النظر إلى امرأة؛ قال لنفسه: «وماذا إن سألني صلى الله عليه وسلم َ وكيف أُخزي نفسي بصفة لا تليق بمسلم؛ فامتنع عن النظر إلى المحارم، وهكذا سيطر الصدق على الرجل فهذّب سلوكه. وحين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: أيكون المؤمن جباناً؟ فقال: نعم.

ص: 5560

فقيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: لا. لأن مدخل الإيمان هو التصديق بالقضية العقدية الجازمة، وهكذا تجد أن الصدق هو» رأس الأمر كله «.

وقوله الحق: {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: لا تقولوا كلاماً لا يصادفه الواقع، وكذلك إياكم أن تقولوا كلاماً تناقضه أفعالكم، لهذا يقول الحق سبحانه:{ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]

وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاوة وَآتَى الزكاوة

} [البقرة: 177]

ولننتبه إلى الملاحظ الدقيقة في هذه الآية، فقد قال الحق هنا:{وَآتَى المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177]

ثم ذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلماذا إذن ذكر {وَآتَى المال} ؟ أقول: لقد ذكر الحق هنا المال الذي ينفقه المؤمن دون أن يكون مفروضاً عليه إخراجه مثل الزكاة، فالزكاة واجبة، أما إيتاء المال تصدقاً، فهذا فوق الواجب.

ثم يقول سبحانه:

ص: 5561

{والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177]

هذه هي صفات من صدقوا، وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد تصدقوا واتقوا.

{ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} [التوبة: 119]

وقد جاء الحق بصفة «الصدق» هنا؛ لأن المجال هو الحديث عمن تخلّف عن الغزوات، وكذب في الأعذار التي افتعلها؛ لذلك يأتي التوجيه السماوي أن ادخلوا من باب الصدق.

يقول الحق بعد ذلك: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ

}

ص: 5562

والحديث هنا فيه رجوع إلى الذين تخلفوا عن الغزوة، وعرفنا من قبل أنك ساعة تقول:«ما كان لك أن تفعل كذا» أي: أنك تنفي القدرة على الفعل، أما إن قلت:«ما ينبغي» أي: عندك قدرة على الفعل، ولا يجب أن تفعله.

وهنا يقول الحق: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} وبعضهم قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في الغزو.

ثم يقول سبحانه: {وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} وهنا حديث عن نوعين من الأنفس: أنفس من قالوا بالتخلف، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وأنت إذا قلت:«رغبت» ، معناها: أنك ملتَ ميلاً قلبياً، فإن قلت:«رغبت في» كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل، أما إن قلت:«رغبت عن» وفيها التجاوز، هذا يعني أن الميل القلبي يهدف إلى الابتعاد عن الفعل. إذن: فحرف الجر هو الذي يحدِّد لون الميل القلبي.

وقوله الحق: {وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي: أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وفضَّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول الله، فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم أن يفعلوا ذلك؛ لأنكم ما دمتم آمنتم بالله، فإيمانكم لا يكمل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أحب إليكم من نفوسكم.

ولذلك نجد سيدنا عمر رضي الله عنه لما سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» ، فقال: يا رسول الله، أنا أحبك عن أهلي وعن مالي إنما عن نفسي، فلا. «

ص: 5563

وهكذا كان صدق عمر رضي الله عنه، فكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ القول:» لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه «فعلم عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حازم في هذه القضية الإيمانية، وعلم أن الحب المطلوب ليس حب العاطفة، إنما هو حب العقل، وهناك فرق بين حب العاطفة وحب العقل؛ فحب العاطفة لا تكليف فيه، لكن حب العقل يأتي بالتكليف.

وعلى سبيل المثال: فأنت تحب ابنك بعاطفتك، حتى وإن لم يكن ذكيّاً، لكنك تحب بعقلك ابن عدوك إن كان ذكيّاً وأميناً وناجحاً. وضربنا المثل من قبل وقلنا: إن الإنسان قد يحب الدواء المرّ؛ لأن فيه الشفاء، والإنسان لا يحب هذا الدواء بعواطفه، ولا يتلذذ به وهو يشربه، بل يحبه بعقله؛ لأن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية، وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكو، ويسرّ بمن يأتي له به من البلاد الأخرى.

إذن: فالذين تخلفوا عن رسول الله من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا؛ لأن هذا يناقض إيمانهم في أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أحب إليهم من أنفسهم، وكان من الواجب أن يرغبوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن أنفسهم، أما أن يكون الأمر بالعكس، فلا. لأن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إنما يأتي لهم بالخير.

أما اتباع حبهم لأنفسهم فهو حب ضيق البصيرة، سيأتي لهم بالشرور،

ص: 5564

وإن جاء لهم بخير فخيره موقوت، وبحسب إمكاناتهم، ولكن حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ عن أنفسهم يأتي لهم بالخير الثابت الدائم الذي يتناسب مع قدرة الله سبحانه.

ثم يقول سبحانه: {ذلك بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} و {ذلك} إشارة إلى حيثيات الترغيب التي يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم {لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} ، ونعلم أن الظمأ قد أصابهم في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير، ويصفي الماء الذي في معدته لِيبُلَّ ريقه، وريق زملائه.

{وَلَا نَصَبٌ} والنَّصَب: هو التعب، وكانت الغزوة في جو حار مرهق.

{وَلَا مَخْمَصَةٌ} أي: المجاعة، وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود، والشعير الذي انتشر فيه السوس. وإن كاناو قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل الله القادر على أن يمُنَّ عليهم بكل خير جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته.

{وَلَا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار} نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الأرض يتمركزون فيها، فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان، وينزلون إلى الوديان والبساتين التي يملكها الكفار، فهذا أمر يغيظ أهل الكفر، إذن: فهم حين يطأون موطئاً، فهذا يغيظ الكفار.

{وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} أي: يأخذون من عدوٍّ منالاً، والمعنى: أن يقهروا العدو فيتراجع ويشعر بالخسران، حينئذ يأخذون الجزاء الخيِّر من الله، وكل ما حدث أن الظمأ والنصب والمخمصة ووطء موطء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلاً. كل واحدة من هذه الأحداث لها جزاء يحدده الحق:{إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} .

إذن: فالذين رغبوا عن رسول الله بأنفسهم ولم بخرجوا للغزوة قد

ص: 5565

خسروا كثيراً؛ خسروا ما كتبه الحق سبحانه قابله مَنْ خرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم َ.

ويُنهي الحق سبحانه الآية: {إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} فهؤلاء الذين أحسنوا لا يضيع الله أجرهم أبداً.

ثم يأتي بأحداث أخرى غير الظمأ والنصب والمخمصة ووطء الموطئ الذي يغيظ الكفار، والنَّيْل من عدو الله نيلاً، فيقول سبحانه: {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا

}

ص: 5566

كل شيء - إذن - محسوب، فحتى هؤلاء الذين أنفقوا، فالله سبحانه يعلم ماذا أنفقوا وسيجازيهم عليه، وهؤلاء الذين ساروا الطريق الطويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم َ في غزواته، فالله سبحانه يكتب لهم الخير. وبعد ذلك تدفق المسلمون على تنفيذ أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، حتى كادت المدينة تفرغ من المسلمين؛ ليلحقوا بالسرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لنشر الدعوة.

وجاء قول الحق:

ص: 5566

{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ

}

ص: 5567

هذه الآية جاءت عقب آيات المتخلفين عن الغزو مع رسول الله، وجاءت بعد أن بيّن الله سبحانه مزايا المجاهدين وما يثيبهم الله به جزاء هذا الجهاد في قوله سبحانه:{مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلَا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121]

كانت تلك الحيثيات التي ترغِّب الناس في الجهاد ترغيباً يخرجهم عما ألفوا من العيش في أوطانهم وبين أهليهم وأموالهم؛ لأن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك ثمن كبير، ثم جاءت هذه الآية.

وحينما استقبل العلماء هذه الآية قالوا: إنها تتمة لآيات الجهاد، وما دام الله قد رغَّب في الجهاد هذا الترغيب، فإن الناس أقسموا بعده ألا يتركوا غزوة من الغزوات ولا سرية من السرايا إلا ذهبوا إليها، فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلو على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وحده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ يسقبل وحي الله.

ص: 5567

واستقبال وحي الله يقتضي وجود سامعين ليبلغوه، فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد الله أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد، فبيّن أن الإسلام مُنزَّل من الله على رسوله ليبلغه للناس؛ لأن دين الله يحتاج إلى أمرين: أمر يحمله إلى الناس، وأمر يثبت صدقه في الناس، وحين يرى الناس إنساناً يضحى بنفسه ويدخل معركة، وآخر يضحي بماله، حينئذ يعلم الناس أن من يفعل ذلك لا بد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص.

لكن يبقى أمر آخر، هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالإسلام، فإذا كان المناضلون المضحّون بالنفس، والمنفقون المضحّون بالمال هم دليل صدق الإيمان، فهذا لا يعني الاستغناء عن هؤلاء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما يوحي به الله.

إذن: فهناك منهج من الله، وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أولاً، ومن السامعين لرسول الله ثانياً؛ ليسيحوا به في البلاد، سياحة إعلام بدين الله لنشر الإسلام، وهكذا كانت الإقامة مع رسول الله هي استقبال لذلك الإعلام، وإلا فماذا يُعْلِمون؟

إذن: فلا بد أن يحافظ الملسمون على أمرين: أمر بقاء الاستقبال من السماء، وأمر الإعلام بما استقبلوه إلى البلاد. فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل الله فقد حقّقتم أمراً واحداً، ولكنكم لم تحققوا الأمر الآخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول الله.

فأراد الله سبحانه أن يقسم الأمرين بين مجاهدين يجاهدون للإعلام، وباقين مع رسول الله ليستقبلوا إرسال السماء لهذه الأرض، فقال:{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} .

ص: 5568

وساعة تسمع «كَانَ» منفيةً فاعلم أنها جحود لهذه المسألة، أي: ما كان يصح أن ينفر المسلمون كافة، أي: جميعاً، بدون أن يبقى منهم أحد.

و {كَآفَّةً} مأخوذة من كف الشيء، وأنت تسمع خائط الثياب يقول:«أريد أن أكفّف الثوب» معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش، فهناك بعض من الخيوط تخرج منه؛ فيكففها حتى لا يتفكك نسيج الثوب، إذن: فمعنى كلمة {كَآفَّةً} : جميعاً.

ولنا أن نتساءل: لماذا لا ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعاً، أليس الجهاد إعلاماً بمنهج الله؟

نقول: نعم هو إعلام وسياحة بمنهج الله في الأرض، ولكن الذي يسيح للإعلام بمنهج الله لا بد أن تكون عنده حصيلة يُعْلم بها، وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ من منهج السماء حين ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

إذن: فلا بد من أناس يسمعون وحتى السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لأهل الأرض جميعاً، ولو انصرف كل هؤلاء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للإسلام؛ لذلك قال الحق:{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} وفي هذا نفي أمر فيه انبغاء أي: لهم قدرة عليه، ويستطيعون تنفيذ ما يطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ منهم.

ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلاغة، أمة بيان وأداء قويّ يسحر، وكان في هذه الأمة كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم يشتهر بهذا، وحاول بعضهم أن

ص: 5569

يقلل من فصاحة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فقالوا: إنها فصاحة دون من خطب، ودون من قال، ودون من شعر، فجاء الرد عليهم من الحق: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ

} [يس: 69]

أي: أنه صلى الله عليه وسلم َ كان لا يستطيع أن يتفوق في ذلك، لكن الحق سبحانه لم يُعلِّمه الشعر؛ لأنه لا ينبغي له أن يتعلَّمه، لماذا؟ لأن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه، وما دام أعذبه أكذبه، فالحق سبحانه لا يريد أن يعلم الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم َ مُرْتاض على صناعة البيان أساليب الأدب، وبعد ذلك يُفاجئ الدنيا بالبيان الأعلى في القرآن، ويعلن صلى الله عليه وسلم َ أن هذا البيان ليس من عنده.

وقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم َ بينهم مدة طويلة، ولم يسمعوا منه شعراً، فكل ما جاء به بلاغاً عن الله لا يُنسب لمحمد، ولكنه منسوب إلى رب محمد.

وقوله الحق: {وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69]

أي: لا يصح أن يكون الأمر، رغم استعداد محمد صلى الله عليه وسلم َ ذلك، وكان من الممكن أن يعلِّمه ربه الشعر وفنون القول؛ ولذلك حينما قال أناس: إن القرآن من عند محمد، جاء القول الحق مبلِّغاً محمداً:{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]

وقد عاش بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أربعين عاماً ولم يقل قصيدة أو مقالة.

ومن الذي يستطيع أن يؤخر عبقريته إلى الأربعين؟ نحن نعلم أن ميعاد بَدْء العبقرية إنما يظهر من قبل العشرين، أي: في العقد الثاني من العمر، ولا أحد يؤخر عبقريته.

ص: 5570

إذن: فرسول الله صلى الله عليه وسلم َ حينما نزل عليه القرآن بالترغيب في الجهاد كادت المدينة تخلو من المسلمين؛ فجاء قوله الحق:

{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]

وفي هذا القول الكريم محافظة على أمرين؛ أمر استقبال وحي الله، وأمر الإعلام به، وبذلك يتنوع الجهاد، طائفة تستقبل، وطائفة تعلِّم وترسل؛ لأنهم لو تركوا الرسول صلى الله عليه وسلم َ جميعاً، فكيف يصل الوحي من الرسول صلى الله عليه وسلم َ إلى المؤمنين؟ ولو أنهم جلسوا جميعاً في المدينة فمن الذي يسيح في الأرض معلِّماً الناس؟ أما إذا بقي الرسول صلى الله عليه وسلم َ والمؤمنون معه، في فترة لا قتال فيها، فهذا أمر مختلف؛ لأنها ستكون فترة استقبال فقط.

وكذلك إن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى القتال فعلى المؤمنين القادرين على القتال أن يصحبوه؛ لأن الرسول القادر على استقبال الوحي من الله موجود معهم، وكذلك الإعلام بالرسالة موجود.

إذن: فالمشكلة كانت في حالة عدم وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مع الخارجين للجهاد، فإذا ما خرج المقاتلون للجهاد، وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في المدينة، فعليهم أن ينقسموا قسمين: قسماً يبقى مع رسول الله ليتعلم منهج الله، وقسماً يخرج إلى القتال.

حين كان الرسول يخرج إلى اقلتال فالمهمة تسمى غزوة، وإذا لم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وأرسل جماعة للقتال سُمِّيت العملية ب «السَّرِية» .

ص: 5571

ولم يخرج عن التسمية بالسرية إلا عملية واحدة سُمِّيت غزوة ولم يخرج فيها رسول الله، وكان المفروض أن تُسمى سرية ولكنها سميت غزوة.

وقد خرجت المهمة عن اصطلاح السرية إلى اصطلاح الغزوة، رغم أن رسول الله لم يحضرها؛ لأن المعركة حدث فيها أشياء كالتي تحدث في الغزوات، فقد كانت معركة حاسمة وقُتل فيها عدد من المسلمين، وحمل الراية مقاتل واستشهد فحملها غيره وقتل، فحملها ثالث، وكانت المعركة حامية الوطيس فقالوا: لا يمكن أن نسمي تلك المعركة ب «السَّرية» بل هي غزوة؛ لأن فيها عنفاً شديداً.

لم يلحظوا شيئاً واحداً وهو أن التسمية بالغزوة انطبقت تمام الانطباق على مؤتة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كان في المدينة والمسلمون خارجون للغزو وأرسل إلى القوات: إن مات فلان في القتال فيليه فلان، وإن مات فلان ففلان يخلفه، أي: أنه صلى الله عليه وسلم َ قد سلسل أمور الغزوة قبل أن تبدأ.

وهي الحملة القتالية الوحيدة التي خرجت بهذه التعليمات، من بين مثيلاتها، من الحملات المحددة التي لم يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ مع المقاتلين، وكأنه صلى الله عليه وسلم َ كان يعلم مُقدّماً بمن سيموت من هؤلاء الخارجين إلى القتال.

ثم وصلت الحملة إلى موقعها فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يتكلم؛ قال: أخذ الراية فلان

ص: 5572

فقُتل، ثم أخذها بعده فلان فقُتِل. ثم قال: وأخذها بعده فلان، وكان صلى الله عليه وسلم َ يقصّ المعركة وهو في المدينة فقالوا: لم يقل ذلك إلا لأنه شهد.

وحينما عاد المقاتلون عرف الصحابة منهم أن الأمر قد دار كما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهو جالس في المدينة، وقد حدث مطابقاً غاية التطابق، فقالوا: شهدها رسول الله؛ وما دام قد شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فهي غزوة.

ونعود إلى الآية التي يقول فيها الحق:

{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين

} [التوبة: 122]

وساعة تسمع كلمة «لولا» فلك أن تعرف أن في اللغة ألفاظاً قريبة من بعضها، ف «لو» و «لولا» و «لوما» و «هلَاّ» ، هي - إذن - ألفاظ واردة في اللغة، وإذا سمعت كلمة «لو» فهذا يعني أن هناك حكماً بامتناع شيئين. شيء امتنع لامتناع شيء، مثل قولك:«لو كان عندك زيد لجئتك» وهنا يمتنع مجيئك لامتناع مجيء زيد، فكلمة «لو» حرف امتناع لامتناع، وتقول: لو جئتني في بيتي لأكرمتك. إذن: فأنا لم أكرمك لأنك لم تأت.

وتقول: «لولا زيد عندك لجئتك» أي: أنه قد امتنع مجيئي لك لوجود زيد. إذن: ف «لولا» حرف امتناع لوجود. ونلحظ أن «لولا» هنا جاء بعدها اسم هو «زيد» ، فماذا إن جاء بعدها فعل، مثل قولك:«لولا فعلت كذا» ؟ هنا يكون في القول حضٌّ على الفعل، مثل قوله الحق: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً

} [النور: 12]

ص: 5573

ومثل قوله: {لَّوْلَا جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ

} [النور: 13]

ومثلها أيضاً «لوما» مثل قوله الحق:

{لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الحجر: 7]

وأيضاً قولك: «هَلَّ» . فهي أيضاً تحضيض مثل قولنا: «هلا ذاكرت دروسك» ؟ وأنت بذلك تستفهم ب (هل)، وجئت بالمد لتصبح (هلَاّ) ؛ لتحثه على المذاكرة. أو قولك:«هلا أكرمت فلاناً؟» وفي هذا حَثٌّ على أن تكرم فلاناً.

والأسلوب هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يجمع المؤمنين ويقول لهم: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} ثم يأتي الحث على أن ينقسموا إلى قسمين في قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} ، والقسمان يذهب أحدهما للإعلام وللجهاد. والقسم الثاني يظل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهو يستقبل منهج السماء.

وقوله الحق: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} فيه كلمة {نَفَرَ} وهي من النفور. لكنها استعملت دائماً في مسألة الخروج للحرب، مثل قول الحق: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ بالحياوة الدنيا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الحياوة الدنيا فِي الآخرة إِلَاّ قَلِيلٌ إِلَاّ تَنفِرُواْ

} [التوبة: 38 - 39]

ولماذا يجيء الحق بالنفرة في الجهاد؟ نقول: لأن الذي يعوق الإنسان عن

ص: 5574

الجهاد حبه لدَعَته، ولراحته، ولسعادته بمكانه، وبأهله، وبماله، فإذا ما خرج للقتال شَق ذلك على نفسه، ولذلك يقول الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ

} [البقرة: 216]

وفي ذكر أمر الكُرْه إنصاف لهم، فصحيح أن القتال أمر صعب ويكرهه الإنسان، لكن الحق قد كتبه، والمسلم إذا استحضر الجزاء عليه فهو يحتقر ما يتركه؛ لأنه قليل بالنسبة لعطاء الله؛ لذلك ينفر المؤمن الحق من الذي يملكه، ويذهب للثواب الأعلى، وهذا هو معنى التحديد في أنهم سمّوا الجهاد نفرة، فحين يقارن المؤمن بين حصيلة ما يأخذه من الجهاد وما يمسكه عن الجهاد لتساءل: ما الذي يجعلني أتمسك بالأقل ما دام هناك عطاء أكثر؟

فلما جاءت {فَلَوْلَا نَفَرَ} فهموا أن هذه الآية من تتمة الكلام عن الجهاد، ولتبقى طائفة من المؤمنين؛ لتسمع من رسول الله الوحي، وقد يتساءل المسلم حين يقرأ الآية ويجد قوله الحق:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} ، هنا يقول المسلم لنفسه: وهل تنفر الطائفة التي تتفقه في الدين، إنها الفرقة الباقية والمستقرة مع رسول الله في المدينة؟

ونجيب: إن قول الحق: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} نجد فيه كلمة {فِرْقَةٍ} وهي الجماعة، والجماعة إنما تنقسم إلى طوائف. مثلما نسمي في الجيوش «الفرقة الأولى» و «الفرقة الثانية» و «الفرقة الثالثة» ، ثم تنقسم الفرقة الواحدة إلى:«جماعة الاستطلاع» و «جماعة التموين» و «الشئون المعنوية» ، ونجد كلمة {طَآئِفَةٌ} وهي تعني «بعض الكثرة» .

ص: 5575

وما دام الحق قد قال: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} فهذا يعني أنه سبحانه قسمهم إلى طائفتين، إحداهما تنفر، والأخرى تبقى لتتفقه في الدين. إذن: فكأن أسلوب القرآن أسلوب أدائي كل ينفر لمهمته.

{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} يبين أن طائفة منهم تكون قتالية والأخرى إعلامية مهمتها {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} فمن يجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليستمع إليه، فهو يجهز للمقاتل حيثيات ما يجاهد على مقتضاه، وحين يرجع المقاتلون يُبلِّغهم من جلس مع الرسول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم َ من وحي، ويتناوب المسلمون الجلوس مع الرسول في المدينة، والقتال، وكل طائفة تؤدي مهمتها.

وهناك من العلماء من رأي رأياً آخر، وأخذ المسألة كلها مكتملة على بعضها، وقال: إن من بقي مع رسول الله له لون آخر من المجاهدة، ولأنه يأخذ من الرسول صلى الله عليه وسلم َ علْماً جديداً، يتبادله مع المقاتلين في ساحة القتال بعد أن يعودوا، فالمقاتلون في ساحة الجهاد يعودون بما يؤكد نصرة الله للقلة على الكثرة، وإمداد الله سبحانه للمؤمنين بالملائكة، وتهدم العدو، والمعجزات التي رأوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كنبوع الماء من بين أصابعه في حال قلة المياه عند العطش.

ثم إنهم يسمعون من المجاهدين الجالسين لتلقي العلم أخبار الوحي والفقه، وهكذا يتكافأ المؤمنون في المهامن وكأنهم البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً.

وما تقدم فهو فهم للآية إذا كانت خاصة بالجهاد، فماذا إذا كان للآية موضوع آخر غير الجهاد؟ نقول: إن الجهاد إعلام بمنهج الله في الأرض،

ص: 5576

والإعلام بمنهج الله في الأرض يقتضي المنهج المعلوم من السماء الذي يوضح مصير المجاهدين، ومصير المتخلفين. وهو هنا سبحانه يوضح أمر استقبال ما نجاهد من أجله.

{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} أي: يذهب بعض المسلمين إلى البلاد التي حول المدينة؛ ليقولوا للناس حقيقة الإسلام، وأيضاً أن يأتي آخرون من البلاد الأخرى لِيَعْلَمُوا أمر الدين، ويعلموه لأهاليهم.

ويكون قول الحق: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} مقصود به هؤلاء الذين يأتون من الأماكن البعيدة عن المدينة؛ ليجلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليسمعوا، ويتفقهوا في الدين؛ ليرجعوا إلى مجتمعاتهم، ويعلموهم أمور الإيمان.

إذن: فالآية إما أن تكون من تتمة آيات الجهاد، وإما أن تكون أمراً مستقلاً للذين يبعد بهم المكان عن منبع المنهج، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فهو صلى الله عليه وسلم َ يعلِّم من يأتون إليه من أي مجتمع؛ ليرجعوا بعد ذلك لقومهم، ويبلغوهم مطلوبات المنهج، وهذه مسألة بعيدة عن القتال.

إذن: تكون النفرة للتفقه في الدين على أي معنى، ليس هناك فرق بين الطائفة الباقية التي تتفقه؛ لتعلِّم الطائفة التي تجاهد، أو الطائفة التي تجاهد تتفقه بالمعجزات وبالأحداث التي حدثت أثناء قتالهم وتعلمها للطائفة التي لم تخرج للقتال.

أو أن المعنى هو الأمر الثاني الذي لا قتال فيه، بل يتناول أمر استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم َ لطائفة من كل بلد ليسمعوا منه صلى الله عليه وسلم َ، وقد سماها الحق «نفرة» ؛ لأنها جهاد في البحث في المنهج وتعلمه، وهي نفرة النفرة؛ لأن النفرة للجهاد بالقتال تتطلب فهماً لحيثيات الدفاع عن هذا المنهج المنزَّل من الله.

ص: 5577

وقوله الحق: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} علمنا منه أن الفرقة هي الجماعة، والجماعة إما أن تنقسم إلى أفراد وإما إلى طوائف، والفرقة أقلها ثلاثة؛ لأنها جمع. وحينما يذهب اثنان من هذه الفرقة للتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، ويعودان للبلاغ عنه صلى الله عليه وسلم َ نكون أمام خبر من شاهدين اثنين بأن النبي قال كذا وأبلغ بكذا، وكذلك قد يصح أن يكون المبلِّغ عن الرسول شاهداً واحداً، واختلف العلماء المسلمون فيما بينهم، هل يأخذون الخبر عن واحد فقط مبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أم لا بد من الأخذ بالخبر من شاهدين اثنين؟

وقد جاءت الآية صريحة في أنه {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} والفرقة أقلها ثلاثة، والطائفة إما أن تكون اثنين وإما أن تكون شخصاً واحداً يرجع إلى قومه؛ ليفقههم في الدين، ويؤدي البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

وتحفَّظ البعض على ذلك بأن قالوا: إن الذي نفر ليس فرداً من الفرقة، بل طائفة من الفرقة، ومفردات الفرقة طوائف ولا واحد، وكلمة طائفة مقصود بها الجماعة.

والنفرة لها علة محددة يذكرها الحق: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} فالتفقُّه إذن هو سبب النفرة، مثلما نبعث بعثة في أي بلد متقدم؛ لنأخذ بعلوم الحضارة، فإن خرج واحد عن حدود البعثة؛ ليلعب، ويلهو، فهو لم يحقق النفرة. لا بد إذن من ان يستوعب كل واحد في البعثة أنه قد جاء للتفقه.

والفقه في اللغة: هو الفهم، ويقال عن أي أمر تفهمه: فقهتُ الأمر

ص: 5578

الفلاني. فإن فهمت في الهندسة فهذا فقه، وإن فهمت في العلوم فهذا فقه، ولكن المعنى الذي غلب هو الفقه لأحكام الله؛ لأن هذا الأمر هو أهم أمور الحياة، فالفقيه في الدين هو من يبيّن للناس حدود المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» .

إذن: الفقه مطلقاً هو الفهم، لكنه أصبح مصطلحاً يعني فهم أحكام الله؛ لأنه هو الذي يحدد الصواب والخطأ. ولا يقال:«الفقيه» إلا لمن فَقُه. وهناك فرق بين فَقه وفَقُه. فَقُهَ في دين الله، أي: أصبح الفقه عنده ملكه، وساعة تسأله في أي موضوع لا يتردد، بل يجيب؛ لأن الفقه صار ملكه عنده، والملكة: الصفة التي ترسخ في النفس من مزاولة أي عمل؛ فيسهل أداء هذا العمل.

وكذلك الفقه. وهكذا نعرف أن معنى فَقِهَ: «فهم شيئاً» . أما فَقُهَ فمعناها: صار الفقه عند مَلَكَة.

وقوله الحق: {لِّيَتَفَقَّهُواْ} أي: ليعلموا أحكام الله، ويصير هذا العلم: من بعد ذلك مَلَكَة عندهم.

ولكنْ ماذا إن نفروا لشيء آخر مثلما ينفر واحد من البدو ليسأل جماعته: إلى أين تذهبون؟ فيجيبون: نذهب إلى رسول الله لنسمع منه، فيذهب معهم. لكنه لا يسمع بل يذهب هنا أو هناك، ولا يجلس لتفقُّه العلم، على الرغم من أن علّة نفوره مع غيره هي التفقّه في الدين؛ وليعلم حقائق هذا الدين؛ لينذر به قومه حين يعود إليهم، فالفقيه لا يطلب جاهاً، أو رئاسة، أو وظيفة، بل هو يبين للناس متطلبات الحركة على هذا المنهج الحق، ولينذرهم {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أي: يتجنَّبون ما يضرُّهم.

وحين ندقق في هذا الأمر نجده عدة مراحل: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} هذه هي المرحلة الأولى، ثم {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين} هذه هي المرحلة

ص: 5579

الثانية وهي التفقه، أما الثالثة {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} ، ومن تفقه لغير هذا؛ ليشار إليه بالبنان مثلا؛ نقول له: أنت من الذين قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياوة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103 - 104]

إذن: فالتفقه يكون للدعوة تبشيراً وإنذاراً؛ حتى يتجنب القوم ما يضرهم.

ويقول سبحانه بعد ذلك: {ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ

}

ص: 5580

ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى. ولنا أن نتساءل: لماذا - إذن - جاء الحديث عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد؟ أجيب: شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل من ينفر؛ لتعلُّم الفقه، وليعلِّم غيره؛ هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلُّم، ومعرفة الأسباب التي يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل الله.

وقد قسَّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين: فرقة تنفر، وطائفة منها تبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ. فإذا استوى الأمر، فرقة تجاهد، وفرقة تَتَعَلم وتعلُّم، وتبادل الفرقتان الخبرة الإيمانية والقتالية، تصبح

ص: 5580

الملكات الإيمانية متساندة غير متعاندة، ومن بعد ذلك يتجهون إلى الكفار.

{ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} وهذا يعني أن هناك قوماً قريبين منهم ما زالوا كافرين، وهناك قوم أبعد منهم، والحق قد قال: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً

} [التوبة: 36]

إذن: فهناك أولويات في القتال، وقتال الكفار القريبين منك تأمين معسكر الإيمان؛ لذلك جاء الأمر بقتال الأقرب؛ لأنه قتال لن يتطلب رواحل ولا مؤونة للسفر البعيد، كما أن العدو القريب منك أنت أعلم بحال الكفار البعيدين عنك؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم، وكيفية تحصيناتهم. فإذا تيسر أمر قتال العدو الأقرب كان ذلك طريقاً لمجابهة العدو الأبعد، بدلاً من أن تواجه العدو البعيد؛ فيتفق مع العدو القريب، ويصنع الاثنان حولك «كماشة» بلغة الحرب، فلا بد أن تحمي ظهرك أولاً، من شر العدو الأقرب.

إذن: فلا تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب. ولا تَعارض بين قوله الحق: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} وقوله سبحانه: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ؛ لأن معنى {كَآفَّةً} أي: جميعاً، ولكن الجماعة لها أولوية. فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك، فإذا كان الخصم معه سيف ومعك سيف، وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده؛ فأخذته؛ فبذلك يصبح معك سيفان وهو لا سيف معه.

ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار: اعتبروا أيها الكفار، فأنتم لا ترون الأرض كل يوم وهي تنقص من تحت أقدامكم، وما ينقص من

ص: 5581

أرض الكفار يزيد في أرض الإيمان. وما دام الحق قد جاء بكلمة «قتال» فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة، وجرأة تُجَرِّيء على القتال، وصبر عليه، فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك، فإن رأى شجاعة منك تفوق شجاعتهن وأحسَّ منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرته، فهذا ينزع من قلبه الأمل في الانتصار عليك؛ ولذلك يقول الحق:

{وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} والغلظة صفة، ويقال: غِلْظَة، وغُلْظَة، وغَلْظَة، والمعروف أنها الشدة، فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة، وبجرأة، وبشجاعة.

وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمُّل، وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين اثنتين؛ في حالة الإرسال منك، وفي حالة الاستقبال منه، فلا يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية، وحين يردُّ لك الضربة تخور وتضعف. إن الحق يطلب منك غلظة تحمِلُ على عدوّك، وغلظة تتحمَّل من عدوّك.

ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيه الحق: {اصبروا

} [آل عمران: 200]

ولكن هَبْ أن عدوَّك يصبر أيضاً، فيأتي الأمر من الحق: {وَصَابِرُواْ

} [آل عمران: 200]

أي: حاول أن تغلبه في الصبر. وحذَّر الحقُّ من إلقاء السلاح بعد انتهاء

ص: 5582

المعركة؛ لأن العدو قد يستنيم المؤمن؛ لذلك جاء الأمر من الحق: {وَرَابِطُواْ

} [آل عمران: 200]

أي: استقر أيها المؤمن في الأرض؛ ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدَّثته نفسه بالقتال مرة أخرى. إذن: فالغلظة تطلب منك أن تهاجم، وتطلب منك أن تتحمّل، والتحمُّل يقتضي صبراً، والتحامل يقتضي شجاعة، فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة؛ فعليك أن تصابره أي: تصبر أكثر منه، وهي مأخوذه في الأصل من «نافس فلان فلاناً. . أي سابقه وحاول أن يسبقه» ، والمنافسة من النفس، والحق يقول:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26]

أي: تنافسوا في الخير، ونحن نعلم أن تركيبة النفس الإنسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في اليوم، وتحتاج إلى شيء ثالث دائماً. فأنت في الأكل تأكل ثلاث وجبات، وفي الشراب تحتاج إلى لترين أو أربعة من الماء أو أكثر. أما التنفس فأنت لا تصبر على الانقطاع عنه، وهو أهم الضروريات لحياة الإنسان.

وقلنا قديماً: إن من رحمة الله سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان، وقد يستطيع الإنسان الصبر عن الطعام لأسابيع، ولا يصبر الإنسان عن انقطاع الماء إلا أياماً تتراوح من ثلاثة إلى عشرة، حسب كمية المياه التي في جسمه؛ لذلك لم يُملِّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلَّك

ص: 5583

الطعام، وأما الهواء فأنت لا تصبر على افتقاده للحظات؛ ولذلك لم يملِّك الله الهواء لأحد أبداً، وكأنه سبحانه علم أن عباده غير مأمونين على بعضهم البعض، ولذلك سُمّي استنشاق الهواء وزفيره بالتنفس، وهو من النفس، وهو سبب وجود النفْس وهي مزيج من المادة والروح، والأساس هو نَفَس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة.

وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس، وهو إعلاء منهج الله. وحين تصابر أهل الباطل، فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع؛ لأن الباطل زهوق، وهنا يقول سبحانه:{وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة، بل تعني أنك تَطَلّبَ الأمُر فيجب أن تتوافر فيك، وكذلك قلنا: إن الله

ص: 5584

لم يطبع المؤمن على الغلظة، ولم يطبعه على الشدة، ولم يطبعه على العزة، بل قال:

{أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ

} [الفتح: 29]

وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين

} [المائدة: 54]

ويُنهي الحق الآية:

{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} . إياك أن تفهم أنك تواجه أعداءك من الكفار بعددك وعُدَّتك، ولكن العدد والعدة أمران مطلوبان؛ لتدخل المعركة، وعندك شيء من الاطمئنان. ومثال هذا من يسلك مفاوز أو صحاري مقفرة أو طريقاً موحشاً، ويحتمل أن يصادف قُطَّاع طريق، نجده يستعد بحمل سلاح؛ فهو يعطيه شيئاً من الاطمئنان فقط، وهكذا الحال مع العدد والعدة.

أما النصر فهو من المدد الرَّبَّاني من الحق سبحانه وتعالى. وما دام الله مع المتقين، ولله معيَّة مع المتقين فلا بد أن يمدهم بمدده؛ لذلك جاء الحق هنا بقوله:{أَنَّ الله مَعَ المتقين} لننتبه إلى أن الداخل في الحق هو من سيسلك سلوكاً غليظاً مع الأعداء، وقد يسلك بالغلظة طمعاً في المغنم، فيدخل على الكافرة بالقسوة، وقد يكون قلب هذا الكافر مستعداً للإيمان، فيقول: أسلمت واستسلمت، لكن من دخل عليه تعجبه مطية هذا الكافر، ويعتبرها مغنماً.

ص: 5585

لذلك يأتي التحذير في قول الحق سبحانه: {أَنَّ الله مَعَ المتقين} فإن سلَّم لك واستسلم؛ فاستأسره، وإياك أن تؤذيه أو تأخذ معداته على أنها مغنم، فأنت لم تذهب للقتال من أجل الغنائم، أو لتكسب مكانة في مجتمعك كمقاتل، بل أنت تقاتل حين يكون القتال مطلوباً، وتسلك بالخلق الإيماني اللائق في إطار أنك من المتقين لله، وتحارب لتكون كلمة الله هي العليا وهنا تكون معيه الله لك {أَنَّ الله مَعَ المتقين} .

إذن: فالغلظة لا تعني أنها طبع أصبح فيك، ولكن عدوك يجد فيك غلظة إن احتاج الأمر إلى غلظة. فإن لم يحتج الأمر إلى غلظة؛ فلا بد أن يوجد في طبعك اللين والموادعة.

ولذلك يقولون: الرجل كل الرجل هو من كانت له في الحرب شجاعة، وفي السلم وداعة، وخيركم من كان في الجيش كميًّ وفي البيت صبيّاً، فلا يصطحب غلظته مع العدو إلى البيت والزوجة والأبناء؛ لأن ذلك وضع للطاقة في غير مجالها.

هكذا نفهم قوله الحق:

{ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} [التوبة: 123]

أي: كونوا في حربكم غلاظاً بما يناسب الموقف؛ لأن الحرب تتطلب القسوة والشدة، ولكن إياك أن تستعمل هذه الأمور لصالحك، ولكن

ص: 5586

استعملها لله؛ لتضمن أن تكون في معية الله

ويقول سبحانه بعد ذلك: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ

}

ص: 5587

قوله الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ} يعني: إذا نزلت، ونعلم أن هناك «نَزَل» و «أَنْزلَ» و «نَزَّل» ف «أنَزَل» للتعدية، فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ثم نزّله الحق نجوماً. فالتنزيل معناه: موالاة النزول لأبعاض القرآن، فالقرآن قد أنزل كله، ثم بعد ذلك نزله الحق، ونزل به جبريل عليه السلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم َ.

وقد جمعت الآية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزول جبريل عليه السلام بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، والحق سبحانه يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ

} [الإسراء: 105]

وفي آية أخرى يقول سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193]

ص: 5587

وهنا يقول الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} والسورة هي الطائفة من القرآن المسورة بسور خاص؛ أوله مثلاً: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان. وهل المقصود بقوله الحق هنا نزول سورة كاملة من القرآن أم نزول بعض من القرآن؟ إن المقصود هو نزول بعض من القرآن.

وتتابع الآية: {فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا عن الإيمان. ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند الله، وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء النفس، وقد سمعه الكفار من قبل، وشهدوا له، أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.

وهذا الأمر بسبب الاستعداد لتلقيه؛ لأن المسألة في كل الأحداث ليست من الفاعل وحده، ولكن من الفاعل والقابل للفعل - ولله المثل الأعلى - أنت تأتي بمطرقة مثلاً، وتطرق قطعة حديد فترق وتزيد مساحتها، أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.

إذن: فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر، وهكذا لا بد للفاعل من قابل، والمطلوب من القابل للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه. فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج ما في قلبه مما هو ضد

ص: 5588

القرآن، ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى قلبه بعد هذا فليصدقه. لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر به، مثلما قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا: لم نتأثر به.

وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز، وعدم التداخل في الحيز، فالقلب حيز لا يسع الشيء ونقيضه، فلا تملأ قلبك ببغضك للدين، ثم تقول: لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيَّ. هنا نقول لك: أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن، واجعل القرآن أيضاً خارج قلبك، ثم انظر في الاثنين لترى ما الذي يستريح له قلبك، لكن أن تكون مشحوناً ضد القرآن ثم تقول: إن القرآن لم يؤثر فيك، فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل، ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز، ومدى قدرته على الاستيعاب.

فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة لا تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لأن ضيق الفوهة لا يساعد الهواء الذي بداخلها على الخروج، ولا يساعد الماء على الدخول؛ لأن الماء لن يدخل إلا إذا خرج الهواء؛ لذلك لا بد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء، وعند ذلك سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة. وإذا كان الأمر كذلك في الحسيات، فما بالك في الأمور المعنوية وهي مثل الأمور الحسية.

إذن: فأخْرج ما يناقض الحق من قَلْبك، واجعل الباطل والحق خارجاً، ثم استقبل الاثنين. لا يمكن لك في مثل هذه الحالة إلا أن تستقبل الحق. ويصف سبحانه المصرين على الكفر: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ

} [التوبة: 93]

ص: 5589

أي: أن ما هو خارج هذه القلوب لا يدخل إليها، وما في داخلها لا يخرج منها.

إذن: ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تفتح هذه القلوب للإيمان، وستظل محتفظة بالكفر. فإذا كان من هؤلاء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن، ولا يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لأن الإنسان حينما يسمع القرآن، وتكون نفسه صافية ليس فيها ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.

ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه القرآن، وكان من قبل ذلك شديداً على الإسلام، ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلامها، وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها، ثم قرأ القرآن فاستقر في قلبه.

إذن: لا بد أن تخرج ما في ذهنك أولاً؛ لتستقبل القرآن. فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن بصفاء. أما الكافرون والمنافقون، فمنهم

ص: 5590

من يقول: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وتعطينا الآية معنى أننا أمام فريقين: واحد يقرأ، والثاني يسمع. ونفهم من سياق الآية أن الذي يتساءل مثل هذا السؤال إنما يوجه لفريقين: أحدهما من ضعاف الإيمان، أو حديثي الإسلام، أو المنافقين، وهؤلاء هم الذين لم يُخْرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم، وقابلية بعضهم لاستقبال الإيمان لم تتأَكد بعد، ومنهم من قال فيهم الحق: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً

} [محمد: 16]

ويقول: {والذين لَا يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى

} [فصلت: 44]

إذن: الفاعل شيء، والقابل شيء آخر. هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول:{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} وسياق الآية يوحي لنا أن هناك همساً من بعضهم: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} وهذا الهمس يأتي بلهجة المستهزئ، وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئاً عنده، ولم ينقص، وهو يهمس لمنافق مثله، أو لضعيف الإيمان {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فيرد الله على القضية النفسية، ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين: قسم كافر أو منافق، وهذا القسم يزيده القرآن كفراً، أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه.

ص: 5591

إذن: الفاعل شيء والقابل مختلف. ووقف العلماء أمام هذه الآية موقفاً فيه اختلاف بينهم {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقال بعضهم: إن الإيمان ينقص ويزيد، وقال بعضهم: إن الإيمان لا ينقص ولا يزيد، وقامت معركة بين علماء الكلام، ولا تتسرب معركة بين عقلاء إلا إذا كانت جهة الفهم في الأمر الذي يختلفون فيه منفكة، فمنهم من يذهب فكره إلى ناحية، ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى.

فالذين قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فلحظة أن يتألق الإيمان في القلب؛ يستقر فيه، وهو الإيمان بالله، وأن لا إله إلا الله ولا معبود سواه، وأن محمداً رسوله المبلغ عنه؛ هذا الإيمان لا يزيد ولا ينقص. والمثال: هو قول الإمام على كرم الله وجهه: لو انكشف عني الحجاب ما ازدادت يقيناً.

أما العلماء الذين قالوا بأن الإيمان يزيد ولا ينقص، فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات الإيمان من الآيات، فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمناً بالله أولاً، ثم ينفذ متطلبات الآية.

وكل المسلمين مؤمنون بالله، ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق ثلاثين، أما أصل الإيمان الذي استقبل به الإنسان التكليف وهو التوحيد، فلا يزيد أو ينقص. وهؤلاء المنافقون عندما قالوا:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} هل تداولوا ذلك سرّاً أم قالوه علناً؟ لا بد أنهم قالوا ذلك سرّاً وفضحهم الحق سبحانه، وكان يكفي أن يعلموا أن الله

ص: 5592

يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم َ بكل ما يكتمونه، ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا:{أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} .

ويرد الحق سبحانه:

{فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} و «يستبشر» أي: يملأ السرور بشرته، فترى البريق، والفرحة، والانبساط. وكلها من علامات الاستبشار، ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو الذي يفهم من الآية شيئاً جديداً؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية جديدة، ليعظم ويزداد ثوابه، وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديدة من الله

هذا هو معنى «يستبشر» .

أما الآخرون فيقول الحق سبحانه عنهم: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم

}

ص: 5593

والرجس: هو الشيء المستقذر، وتكون القذارة حسية، ومرة تكون معنوية. فالميتة مثلاً قذارتها حسية؛ لأنها ماتت ودمها فيها، والدم - كما نعلم - له مجريان؛ مجرى للدم قبل أن يكرر، ومجرى آخر للدم بعد أن يكرر، والدم قبل أن يكرر يمر على الرئة والكلى فتنفيه الرئة والكلى من

ص: 5593

الأشياء الضارة التي تصل إليه نتيجة تفاعلات أعضاء الجسم المختلفة. وبعد أن تتم تنقية عن طريق الرئتين والكلى يصير دماً صالحاً.

فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله، ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد؛ حتى لا يصيبنا الدم الفاسد بالأمراض؛ ولذلك تعتبر الميتة رجساً. والخمر أيضاً نجاسة حسية ورجس. وهناك رجس معنوي، ولذلك قال الحق: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه

} [المائدة: 90]

إذن: فهناك رجس حسي، ورجس معنوي، ويطلق الرجس على الكفر أيضاً، ومرة يطلق الرجس على همسات الشيطان ووسوسته.

وفي ذلك يقول الحق: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان

} [الأنفال: 11]

وهنا يقول الحق: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} ولأنهم يكفرون بالله وبآياته؛ فهذا يزيدهم رجساً على رجسهم ويصبح كفرهم مركَّباً، وهكذا نجد البشارة للمؤمنين، أما الكافرون فلهم النذارة؛ لأن كفرهم يزيد، ويموتون على ذلك الكفر.

ويقول سبحانه بعد ذلك:

ص: 5594

{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي

}

ص: 5595

وقوله الحق: {أَوَلَا يَرَوْنَ} أي: ألا يستشهد المنافقون تاريخهم مع الإسلام، ويعلمون أنهم يفتنون في كل عام مرة بالمصائب ومرة بالفضيحة، فتجد رسول الله حين يراهم يخرج بعضهم من بين الصفوف ويقول لهم:«اخرج يا فلان فإنك منافق» . ثم بعد شهور يتكرر الموقف، وهنا يذكرهم الحق سبحانه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يصفيهم كل عام مرة أو مرتين.

الأصل في الفتنة أنها امتحان واختبار، وهي ليست مذمومة في ذاتها، لكنها تذم بالنتيجة التي تأتي منها، فالامتحان - أي امتحان - غير مذموم، لكن المذموم هو أن يرسب الإنسان في الامتحان. إذن: الابتلاء أو الفتنة في ذاتها ليست مذمومة، إنما المذموم أن تأتي النتيجة على غير ما تشتهي، وهم يفتنون حين يرون انتصار المسلمين وغم نفاقهم وكيدهم للمسلمين، وكان يجب أن يعلموا أنهم لن يستطيعوا عرقلة سير الإسلام؛ لأنه منتصر بالله. وكان يجب أن يعتبروا ويتوبوا لينالوا خير الإسلام،

ص: 5595

فخيره ممدود رغم أنوفهم، والخسارة لن تكون على الإسلام، وإنما الخسارة على من يكفر به.

ونحن نعلم أن الإسلام بدأ بين الضعفاء إلى أن سار الأقوياء إليه، وتلك سنة الله في الكون، بل إننا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم َ في بدء الرسالة كان مطلوباً منه أن يؤمن بأنه رسول. وكما تقول أنت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، كان على النبي صلى الله عليه وسلم َ أيضاً أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وسبحانه جل شأنه، الخالق الأكرم، آمن بنفسه أولاً، بدليل قوله سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ هُوَ

} [آل عمران: 18]

فأول شاهد بالألوهية الحقة هو الله، وقد شهد لنفسه، ومعنى ذكر شهادته لنفسه لنا أن نؤمن بأنه سبحانه يزاول قيوميته وطلاقة قدرته بكلمة «كن» وهو عالم أن مخلوقاته تستجيب قطعاً، وكان لا بد أن يعلمنا أنه آمن أولاً بأنه الأول، وأنه الإله الحق، بحيث إذا أمر أي كائن أمراً تسخيرياً فلا بد أن يحدث هذا الأمر، وسبحانه لا يتهيب أن يأمر؛ لذلك قال لنا:{شَهِدَ الله أَنَّهُ لَا إله إِلَاّ هُوَ} شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، وحين يشهد محمد صلى الله عليه وسلم َ أنه رسول الله فهو يؤمن بأنه رسول، ولو لم يؤمن برسالته لتهيب أن يبلغنا بالرسالة، وبعد أن آمن صلى الله عليه وسلم َ أنه رسول من الله جاءه التكليف من الحق:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214]

وظل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يدعو إلى الإسلام، ويبلغ آيات الحق إلى أن جاءت آيات الدفاع عن دين الله، وقال الحق:

ص: 5596

{قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ

} [التوبة: 123]

إذن: في البداية كان لا بد أن يؤمن أنه رسول، وأن يبلغ الدعوة إلى قريش وسائر الجزيرة، وتعبر دعوته بعد ذلك من الجزيرة إلى الشام، وتتعدى الرسالة الشام بالإعلام في كل بقاع الأرض، ولذلك كانت الرمزية في إرسال الكتب: كتاب لفلان وكتاب لفلان؛ ليفهم العالم أن دعوة النبي صلى الله بالإيمان والإسلام دعوة متعدية؛ لأنها خالفت دعوات الرسل عليهم السلام، فقد كان رسول إنما يعلم أن حدود دعوته هي أمته.

أما محمد صلى الله عليه وسلم َ فقد كانت لرسالته مراحل: آمن بذلك أولاً، ثم دعا الأقربين، ثم من بعد ذلك قريش، ثم أبلغ العرب، ثم الشام، وتعدت الدعوة بالكتب إلى جميع الملوك في العالم، وصارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم َ مؤتمنة على حمل الدعوة ونشرها في أي مكان ومعها حجتها وهي القرآن.

وشاء الله أن يختم رسول الله الرسالات، وأرسله بالإسلام الذي يغلب الحضارات، رغم أنه صلى الله عليه وسلم َ من أمة أمية لا تعرف شيئاً؛ حتى لا يقال عن

ص: 5597

الإسلام أنه مجرد وثبة حضارية، وجاء لهم منهج غلب الحضارات المعاصرة له: فارس والروم في وقت واحد.

إذن: فالمسألة كانت مسألة قبيلة، يحكمهم واحد منهم هكذا، دون تمرس بالنظم الاجتماعية، ولم يعرفوا شيئاً قبل الإسلام، بل هم أمة متبدية لا شأن لها بالنظم السياسية أو الاقتصادية، وطن الواحد منهم جمله وخيمته وبضعة أدوات تعينه على الحياة، وتستقر كل جماعة في أي مكان يظهر به العشب ويوجد به الماء، وبعد أن تأكل الأغنام والأنعام العشب، ينتقل العربي مع جماعته إلى مكان آخر، بعد أن ينظر الواحد منهم إلى السماء؛ ليعرف مسار الغمام وأين ستمطر السحب، ثم ينساح هؤلاء بالدعوة بعد ذلك، فلو كان لهم انتماء إلى وطن أو بيت أو مكان لصار الرحيل صعباً عليهم، لكنهم كانوا متمرسين بالسياحة في الأرض.

والآية التي نحن بصددها تكشف ضعف إيمان البعض، ونفاق البعض، فيقول الحق:{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: كان لا بد أن يتوبوا أو يتعظوا ويعلموا أن وقوفهم ضد الإسلام لم ولن يحجب الإسلام وأنهم سينسحقون ويضيعون، فلماذا لا يتذكر كل منهم تفسه، ويرى مصلحته في الإيمان.

ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى

}

ص: 5598

ومن قبل جاء قول الحق: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً

} [التوبة: 124]

أي: أن هؤلاء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار، ويخافون أن يتكلموا؛ لأنهم موجودون مع المسلمين، ولكنهم لا يعدمون وسيلة للتعبير عن كفرهم، فيغمز الواحد منهم بعينه، أو يشير إشارة بيده، فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل ب {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} فقد كان هذا السؤال يتعلق بالتكاليف، أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة.

لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم، فتكلموا بأعينهم ونظراتهم، فكأن النظر نفسه كان فيه هذه الكلمة:{هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} ، وهذا قد تراه من واحد يسمع خطبة الخطيب، ولكنه يرى بها أشياء لا تعجبه، فتجده يعبر بانفاعالات وجهه عن عدم رضاه.

إذن: فهناك نظر، وهناك كلام، وهم قد تساءلوا: هل يراكم من أحد؟ زمثلها مثل قولك: ما عندي من مال؟ أي أنك لا تملك بداية ما يقال عنه مال، والقول الكريم أبلغ بالقطع من أن تقول: هل يراكم أحد.

إن قوله الحق: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد، ومن بعد ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الاستماع للقرآن أو للرسول؛ لأنهم لا يطيقون الاستمرار في الاستماع؛ لأن منطق الحق يلجم الباطل، والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر على إعلان الكفر؛ فينسحبون، وينصرف كل واحد منهم؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل:

ص: 5599

{لَا تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ

} [فصلت: 26]

وقد قالوا ذلك لأن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل، فيتسلل الإيمان إلى قلبه، كما أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق، لكنه يستغفر الله عنها.

وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه؛ فتأتيه هجمة الإيمان فيخافها، فيقول لمن هم مثله: من الأفضل أن نقول لمن معنا لا تسمعوا هذا القرآن. لماذا؟ حتى لا يصادف فترة غفلة عن النفاق، فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل الإيمان القلب. ولذلك قالوا:{لَا تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} ، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل طلبوا من الأتباع ان يلغوا فيه، أي: أن يشوشوا عليه: {والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ

} [فصلت: 26]

إذن: لا غلبة لهم مطلقاً إلا بعدم الاستماع إلى القرآن، أو أن يشوشوا عند سماع القرآن؛ حتى لا ينفذ القرآن إلى القلوب.

وهنا يقول الحق سبحانه عن هؤلاء المنافقين:

{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} كانوا يقولون ذلك؛ لأنهم كمنافقين سبق لهم إعلان الإسلام، وكانوا يدعون أنهم متقدمون في تطبيق أحكام الإيمان، وكانوا يصرون على الوقوف أثناء الصلاة في الصف الأول؛ حتى يدفعوا عن أنفسهم تهمة النفاق، وكما

ص: 5600

يقول المثل: يكاد المريب أن يقول خذوني.

وينظر بعضهم إلى بعض متسائلين: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا} لأنهم لا يطيقون الجلوس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم َ أو إلى المؤمنين. وينهي الحق الآية:

{صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ} وذلك نتيجة لانصرافهم نفسيّاً إلى النفاق؛ فيساعدهم سبحانه على ذلك، فما داموا لا يعرفون قيمة الإيمان؛ فليذهبوا بعيداً عنه، فالحق لهم يصرفهم إلا باختيارهم، حتى لا يقول أحد: إن الله هو مصرف القلوب، فما ذنبهم؟ لا، لقد انصرفوا هم بما خلقه الله فيهم من اختيار، فصرف الله قلوبهم، لماذا؟ لأنهم {قَوْمٌ لَاّ يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون.

والفهم أول مرحلة من مراحل الذات الإنسانية، وهناك فرق بين الفهم والعلم. فالفهم يعني أنك تملك القدرة على تَفَهُّم ذاتية الأشياء بملكة فيك، لكن العلم يعني أنك قد لا تفهم أنت بذاتك، وإنما يفهم غيرك ويعلمك. فأنت قد تعلم جزئية لا من عندك وإنما من معلم لك. ولكن قد يقول قائل: ما داموا لا يفقهون فما ذنبهم؟ ونقول: الذي لا يفهم عليه أن يتقبل التعليم، لكن هؤلاء لم يفهموا ولم يتعلَّموا، وأصروا على عدم قبول العلم.

وبعد ذلك يتأتى ختام سورة التوبة.

والسورة بدأت بالقطيعة: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1]

ص: 5601

ووردت لنا أحوال الكفار والمنافقين وتكاليف الجهاد الشاقة، وأراد الحق أن يختم السورة بما يبرر هذه المشقات المتقدمة، فبيّن لنا: إياكم أن تنفضُّوا عن الرسول أو تغضبوه؛ لأنه وإن جاء لكم ببلاغ فيه أمور شاقة عليكم فخذوا هذه الأمور الشاقة على أنها من حبيب لكم، لا من عدو لكم.

إنك مثلاً إن رأيت عدوّا ضرب ابنك وجرحه، يكون وقع هذا الأمر شديداً عليك؛ لأنه عدو. لكنك إذا أخذت ابنك للطبيب وقرر الطبيب إجراء جراحة للابن، فأنت تقبل ذلك؛ لتزيل عن ابنك خطراً. إذن: فهناك فارق بين جرح عدوك لابنك وجرح الطبيب له رغم أن الإيلام قد يكون واحداً.

إذن: لا ترفض الأمور الشاقة عليك لمجرد ورود المشاق عليك، ولكن اعرف أولاً من الذي أجرى المشاق عليك، فإن كان ربك، فربك بك رحيم. وإن كان الرسول فخذ أوامر الرسول وطبيقها؛ لأنها من حبيب يريد لك الخير.

وهنا يقول الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ

}

ص: 5602

ونلحظ هنا أن الحق قد نسب المجيء هنا للرسول صلى الله عليه وسلم َ، ولم يقل: جئتكم برسول. وكلنا يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم َ لم يأت من عند نفسه، ولم يدع هذا الأمر الجليل لنفسه، ولكن الشحنة الإيمانية تفيد أنه خلق بما

ص: 5602

يؤهله للرسالة، وبمجرد أن نزل عليه الوحي امتلك اندفاعاً ذاتيّاً لأداء الرسالة، ولم يحتج لمن يدفعه لأداء الرسالة؛ لذلك أراد الحق سبحانه أن يثبت للرسول صلى الله عليه وسلم َ المجيء ذاتيّاً، ولكن هذا المجيء الذاتي ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم َ في البداية، بل هو رسول من عند الله، فأتى الحق سبحانه هنا بكلمة «جاء» .

وكلمة {رَسُولٌ} تدل على أنه ليس من عنده، وكلمة «جاء» تدل على أن الشحنة الإيمانية جعلت لذاته عملاً، فهو صلى الله عليه وسلم َ يعشق الجهاد من أجل الرسالة، ويعشق الكفاح من أجل تحقيق هذه الرسالة.

إذن: لا تنظروا إلى ما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم َ نظرتكم إلى الأمور الشاقة التي تتعبكم، ولكن انظروا ممن جاءت، إن كانت من الأصل الأصيل في إرسال الرسل، فالرب رحيم، خلقكم من عدم وأمدكم من عدم، ويوالي نعمة عليكم حتى وأنتم في معصيته. فأنت تعصاه ويحب الله سبحانه من يستر عليك، فلا تشك ولا تتشكك. وعليك أن تأخذ التكاليف على أنها من حبيب فلا تقل: إنها مشقة. فأنت - ولله المثل الأعلى - تطلب من ابنك أن يستذكر دروسه، وتراجعها معه قهراً عنه في بعض الأحيان، وأنت قد تمسك بيدي ابنك ليعطيع الطبيب حقنة من الدواء الذي جعله الله سبباً للشفاء.

ص: 5603

إذن: فلا تأخذ الأحوال بوارداتها عليك، ولكن خذها بوارداتها ممن قدرها وقضاها؛ وهو الحق سبحانه وتعالى.

وهنا يقول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: أن الحق سبحانه لم يأت بإنسان غريب عنكم، بل جاء بواحد منكم قادر على التفاهم معكم. ولقوله الحق:{مِّنْ أَنفُسِكُمْ} معان متعددة، فمرة يكون معناها ب «من جنسكم» ، مثلما قال الحق عن حواء: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا

} [النساء: 1]

أي: خلق حواء من نفس جنس آدم البشري، فلا يقولن أحد: كيف بعث الله لنا بشراً رسولاً؟ لأن الحق أراد الرسول من البشر رحمة بالناس؛ ولذلك يؤكد صلى الله عليه وسلم َ على بشريته أكثر من مرة وفي مواقع كثيرة. والقرآن يقول: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلَاّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94]

إذن: فبشرية رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لا تؤخذ على الله، ولكن تؤخذ لله؛ لأنه أرسل واحداً من نفس الجنس؛ ليكون قادراً على أن يتفاهم مع البشر، وتكون الأسوة به سهلة.

ولذلك قال سبحانه:

ص: 5604

{قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95]

وقوله الحق: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: من جنس العرب، ولم يأت به من الروم أو من فارس، لكن اختار لكم من هو أعلم بطبائعكم. أو أن معنى {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: من نفس القبيلة التي تنتمون إليها معشر قريش.

أو أن {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} تعني: أنكم تعلمون تاريخه، وتعرفون أنه أهل لتحمل أمانة السماء للأرض، كما تحمل أماناتكم من الأرض للأرض؛ ولأن هذا هو سلوكه، فهو قادر على أن يتحمل أمانة السماء للأرض. ولقد سميتموه الصادق الأمين، والوفي، وكلها مقدمات كانت توحي بضرورة الإيمان به كرسول من عند الله. وإن كانت سلسلة أعماله معكم تثير فخركم، فمجيئة كرسول إنما يرفع من ذكركم، ويعلي من شأنكم. فأنتم أهل قريش ومكة ولكم السيادة في البيت الحرام، وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم َ؛ ليزيد من رقعة السيادة لكم، فإذا كنتم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم َ سادة البيت، فأنتم بعد بعثته سوف تصيرون سادة العالم.

ويقول الحق سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]

فهو نبي الله للعالم أجمع ومن العرب ومن قريش، وكان يجب أن يفرحوا برسالته وأن يؤيدوها، لكن الله لم يشأ ذلك؛ لأن قريشاً قبيلة قد ألفت السيادة على العرب، وهذا جعل العرب يعملون لها حساباً، وخافت منها كل قبائل العرب في أنحاء الجزيرة العربية، وكانت لها مهابة هائلة؛ لأن كل العرب مضطرون للحج إلى الكعبة، وأثناء الحج تكون القبائل كلها في

ص: 5605

أرض قريش؛ لذلك كانت كل القبائل ترعى قوافل قريش، ولا تتعرض أي قبيلة لقريش أبداً، فقوافلها تروح وتغدو، جنوباً وشمالاً، ولا تقدر قبيلة أن تقف في مواجهة قريش، أو أن تتعرض لها.

وكل هذه المكانة وتلك المهابة أخذتها قريش من خدمتها لبيت الله الحرام؛ ولذلك شاء الحق ألا يمكن أبرهة من هدم البيت لتظل السيادة لقريش، فلو انهدم البيت الحرام وانصرف الحج إلى اليمن كما كان يريد أبرهة، فمن أين تأتي السيادة لقريش؟ لذلك قال الحق عن أبرهة وقومه:{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5]

وأتبعها بقوله: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 1 - 2]

وما دام الحق سبحانه قد شاء هذا فيأتي أمره في الآية التالية: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4]

وشاء الحق سبحانه أن يبعث بمحمد صلى الله عليه وسلم َ رسولاً يدعو أولاً الصناديد، والقبيلة ذات المهابة والمكانة، وأن تكون الصيحة الإيمانية في آذان سادة الجزيرة الذي تهابهم كل القبائل، حتى لا يقال: إن محمداً قد استضعف قلة من الناس وأعلن دعوته بينهم، لا، بل جاءت دعوته في آذان الصناديد، والسادة، وسفه أحلامهم، وحين رفضوا دعوته هاجر، ثم جاءه الإذن بقتالهم، ولم تأت نصرة الإسلام من السادة، بل آمن به الضعاف أولاً، ثم هاجر إلى المدينة؛ لتأتي منها النصرة.

ص: 5606

فلو أن النصرة جاءت من السادة لقالوا: جاءت نصرة الإسلام من قوم ألفوا السيادة، ولما ظهر واحد منهم يقول: إنه رسول؛ أرادوا أن يسودوا به، لا الجزيرة العربية، بل الدنيا كلها، فتكون العصبية لمحمد هي التي خلقت الإيمان بمحمد، والله يريد أن تكون النصرة من الضعيف؛ حتى يفهم الجميع أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم َ هو السبب في العصبية لمحمد.

هكذا نفهم معنى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} أي: مرسل من الله و {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} بكل ما تعنيه مراحل النفس، وهو مبلغ عن الله، فلم يأت بشيء من عنده، بل كل البلاغ الذي جاء به من ربه، والرب بإقراركم هو الذي خلق لكم ما تنتفعون به من السموات والأرض. وسبحانه يقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله

} [الزخرف: 87]

ويقول: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله

} [لقمان: 25]

إذن: فالمخلوق هو الخليفة الإنسان، وما خلقه الله في الكون، إنما خلقه لخدمتكم كلكم، وأنتم تقرون ذلك، فإذا كان الرب قد سبق لكم بهذه النعم، وجاء الرسول الذي جاء لكم من عنده بما يسعدكم، وقد استقبلتم خيره قبل أن يأتي لكم بالتكاليف، واستقبلتم نعمته قبل أن تكونوا مخاطبين له، إذن: فالله الذي أرسل رسوله بالتكاليف والمنهج لكم، لا بد أن يكون قد كلف من هو مؤتمن عليكم، وهو صلى الله عليه وسلم َ لم يأت من جنس الملائكة، بل هو بشر مثلكم، فإذا قال لكم: افعلوا كذا وكذا وأنا أسوة لكم في الفعل، فلا تتعجبوا، لكن غبار الكافرين بالله جعلهم يريدون أن يكون الرسول ملكاً، فقال الحق:

ص: 5607

{وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلَاّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 94 - 95]

أي: إن كنتم تريدون مَلَكاً، فالملك له صورة لا ترونها، ولا بد أن نجعله ملكاً في صورة بشر؛ ليخاطبكم، إذنك فهل المشكلة مشكلة هيئة وشكل؟ ثم إن الملائكة بحكم الخلق:{لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]

فإذا قال لكم الرسول الملك: أنا أسوة لكم في العمل الصالح، أكانت تصح الأسوة؟ من المؤكد أن بعضنا سيقول: لا، لن تنتفع الأسوة؛ لأنك مَلَك مطبوع على الخير، وليس لك شهوة بطن، ولا شهوة فرج، إذن: فأسوتنا بك لا تصلح.

إذن: فمن رحمته سبحانه بكم أن جعل لكم رسولاً من أنفسكم، ومن قبيلتكم، ومن العرب، لا من فارس والروم، وهو يخاطبكم بلغتكم؛ لأنكم أنتم أول آذان تستقبل الدعوة؛ فلا بد أن يأتي الرسول بلسانكم، وجاءكم محمد صلى الله عليه وسلم َ بالأنس والألفة؛ لأن من قريش التي لها بطون في كل الجزيرة ولها قرابات، وأنس وألفة بكل العرب، وأنس ثالث أنه من البشر، وجاء به الحق سبحانه فرداً من الأفراد، محكوم له بالصدق والأمانة قبل أن يبلغكم رسالته من الله.

إذن: فإذا جاءكم الرسول بتكليف قد يشق عليكم، فاستصحبوا كل هذه الأشياء؛ لتردوا على أنفسكم: هو بشر وليس مَلَكاً. هو من العرب

ص: 5608

وليس من العجم. هو من قبيلتكم التي نشأ بينكم فيها. هو من تعرفون سلوكه قبل أن يبلغ عن الله، فما كذب على البشر في حق البشر. أفيكذب على البشر بحق الله؟

وقرأ عبد الله بن قسيط المكي هذه الآية: {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: أنه صلى الله عليه وسلم َ بالمقياس البشري هو من أقدركم وأحسنكم. ولذلك حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم َ بالدعوة عن الله، هل انتظرت سيدتنا خديجة رضي الله عنها أن يأتي لها بمعجزة؟ هل انتظر أبو بكر أن يأتي له بمعجزة؟ لا، لم ينتظر أحدهما لأن كلاّ منهما أخذ المعجزة من ناحية تاريخه الماضي.

وحينما قال لخديجة: «يأتيني ويأتيني ويأتيني» وكانت ناضجة التكوين والفكر والعقل، وعلمنا مما قالت لماذا اختار الله له أن يتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاماً، وعمرها أربعون سنة، مع أن المألوف أن يحب الإنسان الزواج ممن هي دونه في العمر.

لكن المسألة لم تكن زواجاً بالمعنى المعروف، لكنه زواج لمهمة أسمى مما نعرف، ففي فترة هذا الزواج ستكون الفترة الانتقالية بين البشرية العادية إلى البشرية التي تتلقى من السماء، وهذه فترة تحتاج إلى قلب أم، ووعاء أم تحتضنه وتُربِّت عليه.

فلو كانت فتاة صغيرة وقال لها مثلما قال صلى الله عليه وسلم َ لخديجة لشكت في قواه العقلية، لكن خديجة العاقلة استعرضت القضية استعراضاً عقليّاً بحتاً. فحين قال لها: أنا أخاف أن يكون الذي يأتيني رئي من الجن. قالت

ص: 5609

له: «إنك لتصل الرحم، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق، والله لا يخزيك الله أبداً» .

إذن: فقد أخذت من مقدمات حياته قبل البعثة ما يدل على صدقه بعد البعثة.

وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، حينما قالوا له: إن صاحبك يدعي أنه رسول. قال: أهو قالها؟ قالوا: نعم. قال: إنه رسول من الله لأنه لم يكذب طوال عمره.

وبعد ذلك يقول الحق: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} . وكلمة {عَزِيزٌ} أي: لا يُنال ولا يقدر عليه أحد، والشيء العزيز أي نادر الوجود. وقد تقول لإنسان:«قد تكن وزيراً» ؛ فيصمت رجاء، لكن إن قلت له:«ستصبح رئيس وزراء» فيقول: هذه مسألة مستعصية وكبيرة عليَّ بعض الشيء.

إذن: فالعزة تأتي لامتناع شيء إما لقدرته، أو عزيز بمعنى نادر، أو يستحيل. والعزيز - هو الأمر الذي يعز على الناس أن يتداولوه، فيقال:«عز عليّ أن أصل إلى قمة الجبل» . {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} أي: شاق عليه أن يعنتكم بحكم؛ فقلبه رحيم بكم، وهو لا يأتي لكم بالأحكام

ص: 5610

لكي تشق عليكم، بل تنزل الأحكام من الله لمصلحتكم، فهو نفسه يعز عليه أن يشق عليكم.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم َ «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها.»

فإذا كان الرسول صفته أنه من أنفسكم أو من أنفسَكم أو يحبكم حبّاً يعز عليه أن تكونوا في مشقة. إذن: فخذوا توجيهاته بحسن الظن وبحسن الرأي فيها، وذلك هو القانون التربوي الذي يجب أن يسود الدنيا كلها. فقد يقسو والد على ولده بأوامر ونواه:«افعل كذا» و «لا تفعل كذا» لا تذهب إلى المكان الفلاني، ولا تجلس إلى فلان، ولا تسهر خارج المنزل بعد الساعة كذا.

كل هذه أوامر قد تشق على الولد فنقول له: مشقة التكليف ممن صدرت؟ لقد صدرت من أبيك الذي تعرف حبه لك، والذي يشقى ليوفر لك بناء المستقبل، ويتعب؛ لترتاح أنت، فكيف تسمح لنفسك أن تصادق صعاليك يخرجونك عن طاعة أبيك إلى اللهو وإلى الشر. وانظر إلى والدك الذي تحمل المشقة حتى لا تتحمل أنت المشقة، ويشق عليه أن تتعب فهو أولى بأن تسمع كلامه.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ عزيز عليه مشقتكم، والمشقات أنواع: مشقات في الدنيا تتمثل في التكاليف التي يتطلبها الإيمان، ولكنها تمنع مشقات أخلد

ص: 5611

في الآخرة؛ لذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم َ يحزن أن ينالكم في الآخرة تعب، وتعب الدنيا موقوت وينتهي، لكن تعب الآخرة هو الذي يرهق حقّاً ويتعب.

ولذلك يقول الحق في تصوير هذه المسألة بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6]

لماذا؟ لأنك تعرف يا محمد أنهم إن لم ينتهوا فسوف يجدون العنت كله في الآخرة.

أو أن مشقة الآخرة هي التي يجب أن نتلافاها، وأن نتحمل المشقات الزائلة العرضية التي تورد ثماراً.

فنحن قد نجد الرجل يقول لابنه مثلاً: اخرج إلى الحقل، واحمل السباخ فوق الحمار واحرث وارْو، كل هذه مشقات ستجد لذتها يوم الحصاد، وتعطيك الأرض من خير الله كذا إردب قمحاً أو غير ذلك. ولو ترك الأب ابنه لكسله فهذه هي المشكلة الأكبر، وحث الأب لابنه على العمل هو دفع لمغبة الضياع.

وقد يأخذ الأب ابنه للطبيب، ويجد الطبيب مشغولاً، ويرجوه الأب أن يجري للابن جراحة تنجيه وتنقذه من خطر رغم أن الأب يعلم أن الطبيب سيستخدم مع ابنه أدوات جراحية كالمشارط وغيرها، ولكن ليعلم الابن أن

ص: 5612

هذا المشرط سيمسُّ أباك قبل أن يمسَّك، وعلى ذلك إذا أُمرت بتكليف شاق فانظر مَنْ أمرك؟ أهو ممن تعز عليه ومن تحبه وممن يريد لك الخير؟ إن كان الأمر كذلك؛ فعليك أن تقبل ولا تسيء الظن، ولا تُرهق مَنْ يحبك.

واعلم أن والدك حين يصرفك عن أصدقاء السوء - مثلاً - فهو يرد عنك مصارف الشر؛ لأنك إن اجتهدت في عملك؛ فسوف تحصد النتيجة الطيبة، أما إن اتجهت إلى مصارف الشر فسوف تُشَرّد وتجوع، وسوف تدق باب بيت أبيك. وعندئذ ستسمع مثلاً عاميّاً يلخص الحكمة التي تقول «من يأكل لقمتي فليسمع كلمتي» .

وهنا يقول الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ومعنى الحرص: أن يحوطكم بالرعاية؛ حتى لا تقعوا في المشقة الأكبر. ولذلك قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم َ قد صوَّر هذه المسألة بقوله صلى الله عليه وسلم َ: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار - أي أمسككم من خلفكم حتى لا تذهبوا إلى النار - وأنتم تفلتون من يدي»

والحق يُسَرّي عن رسوله صلى الله عليه وسلم َ فيقول: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ} [الكهف: 6]

ويقول الحق أيضاً لرسوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]

ص: 5613

فالرسول صلى الله عليه وسلم َ يدعو الناس إلى إتقان العمل في الدنيا؛ ليصلوا إلى الجنة في الآخرة؛ لأن كل مؤمن عزيز عليه صلى الله عليه وسلم َ ويخشى أن يُرهَق إنسان واحد في الآخرة، ولذلك قال الحق:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3 - 4]

أي: إياك أن تحزن أنك حريص على أن يؤمنوا؛ لأن الحق سبحانه يقدر أن ينزل عليهم آية تجعل رقابهم خاضعة، ولكن الرب لا يريد رقاباً تخضع؛ وإنما يريد قلوباً تخشع.

{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}

والرأفة والرحمة قد تلتقيان في المعنى العام، ولكن هناك أموراً تسلب مضرّة، وأموراً تجلب منافع. وسلب المضرّات - دائماً - مُقدّم على جلب المنافع، فحين نواجه عملاً يضر وعملاً ينفع؛ نُقدم على العمل لدرء ما يضر، ثم ننجز العمل النافع.

وساعة يطرأ عليك أمر يضر، وأمر ينفع، وأنت في حال متساوية ولا بد أن تدرأ عن نفسك الأمر الضار الذي يخرجك عن الاستواء، ثم تقبل على الأمر الذي يزيد من الارتقاء.

وحتى نقرب هذه المسألة إلى الذهن، سأضرب هذا المثل الحسّي: هَبْ أن واحداً معه حجر يريد أن يضربك به، وآخر يريد أن يقذفك بتفاحة، فهل تنشغل بالتقاط التفاحة أو تنشغل برد الحجر؟ إنك تنشغل أولاً بدرء الضرر، ثم تقبل على جلب المنفعة.

ص: 5614

ومثال آخر: هب أنك ترى إنساناً يغرق أمامك في البحر، فهل توبخه؛ لأنه نزل البحر دون أن يتعلم العوم؟ أم تنقذه أولاً وتدفع الأذى عنه، ثم توبّخه وتعاقبه بعد ذلك جزاء إهماله؟

إنك تنقذه أولاً، وبذلك تكون قد قدمت الإحسان بدفع المضرة أولاً، وحتى إن عاقبته فهو يتقبل منك العقاب أو النهر؛ لأن صنيعك أنقذه من الموت.

والحق يقول: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ

} [آل عمران: 185]

إذن: فمراحل الفوز أن يُزْحزح الإنسان أولاً عن النار، ففي هذا سلب للمضرَّة، وجلب للمنفعة، وإن ظل الإنسان في موقعه لا هو في الجنة ولا هو في النار؛ فهذا هين أيضاً. وإن أدخل الجنة فهذا هو الخير كله.

وإذا كانت هذه هي بعض من خصال الرسول صلى الله عليه وسلم َ: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} ، و {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} ، و {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، و {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، فهذه خصال إن استوعبها الإنسان فهو يندفع إلى اتباع هذا الرسول.

وقوله الحق: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} نرى فيه الوصف ب «الرءوف» والرأفة هي سلب ما يضر من الابتلاء والمشقة، و «رحيم» هو الذي يجلب ما ينفع من النعيم والارتقاء.

وحسبكم من هاتين الصفتين أن الله سبحانه وتعالى وصف رسوله بهذين

ص: 5615

الوصفين {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وقد ثبت أنه سبحانه قد وصف نفسه بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 7]

إذن: فالرسول صلى الله عليه وسلم َ لا يسلك بما عنده، بل يسلك برأفة مستمدة من رأفة العل الأعلى، وكذلك رحمته صلى الله عليه وسلم َ مستمدة من رحمة العلي الأعلى. وكأن الحق سبحانه يبيّن لنا أنه أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم َ بعضاً من الصفات التي عنده، فكما يبلغكم المشقات في التكاليف، فهو يبلغكم السلامة من المشقات في الرأفة، وترقية المنعمات بالرحمة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه:{وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]

ونعلم أن الشفاء إنما يكون من المرض، أي: أن القرآن يسلب المضرة أولاً، ثم يأتي لنا بالمنفعة بعد ذلك وهي الرحمة.

وقوله الحق: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} هذا القول خلاصته: إن استقبلتم مشقات التكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ؛ فاعلموا ممن جاءت هذه المشقات، واعلموا أن مجيئه بها إنما هو ليرفع عنكم مشقات أكبر وأخلد؛ لأن مشقات التكليف تنتهي بانتهاء زمن التكليف وهو الدنيا، ثم يذهب المؤمن إلى الجنة ليحيا بلا تكليف، وما يخطر على باله من أشياء، يجده فوراً؛ بدءاً من الطعام والشراب وجميع ما خلقه الله لأهل الجنة من نعيم.

ص: 5616

وإن نظرنا إلى متع الدنيا نجد أن من اجتهدوا في حياتهم، يستأجرون من يقوم لهم بالأعمال التي كانوا يقومون بها لأنفسهم؛ فالثري الذي كان يطهو طعامه قبل الثراء، يستأجر طاهياً؛ ليعد له طعامه، والفلاح الذي كان يبني بيته لنفسه، ثم رزقه الله بالرزق الوفير فاستأجر من يبني له، وكل الأعمال التي تسعد الإنسان وكان يقوم بها بنفسه ولنفسه، صار يستأجر من يقوم له بها، فما بالنا بالآخرة حيث تعيش في رضا الله وبأسرار كلمة {كُن} .

وهكذا نجد الحق سبحانه وتعالى قد جاء في هذه السورة بمشقات التكليف، والثواب عليها وطمأن المؤمنين بان الرسول صلى الله عليه وسلم َ يتميز بكل المواصفات الموحية: من أنه بشر، وأنه حريص عليهم، وأنه لا يكلفهم إلا بالمشقات التي تنجيهم من المشقات الأبدية، وأنه رءوف بهم ورحيم.

فإن استعموا إلى هذه الحيثيات وآمنوا، فأهلاً بهم في معسكر الإيمان، وإن تولوا ولم يسمعوا لهذه الحيثيات ولم يدخل القرآن قلوبهم، فإياك أن تظن - يا رسول الله - أنك منصور بهم؛ لأنك منصور بالله، فإن تولوا عنك وأعرضوا عن الإيمان بالله، وأعرضوا عن الاستماع لك، فاعلم أن ركنك الشديد هو الله، لذلك يختم الحق السورة بقوله:

ص: 5617

{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ

}

ص: 5618

ولم يقل الحق لرسوله: «إن تولوا وأعرضوا فاعتقد أن حسبك الله» لا، بل أعلنها للناس كافة؛ حتى يسمعوها، ولعل في إعلانك لها ما يلفتهم إلى الحقيقة؛ لأنك إن قلتها؛ فلن تقولها إلا وعندك رصيد إيماني بها، وإن فعل أحدهم شيئاً ضدك؛ فسوف يعاقبه الله.

وحين تعلن: {حَسْبِيَ الله} بعد أن كذبوك، فالأحداث التي سوف تأتي بعد إعلانك {حَسْبِيَ الله} ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح، ولله المثل الأعلى - أنت تقول:«حسبي نصرة فلان» ؛ لأنك تثق في قدرة فلان هذا، ولكن القوة في الحياة أغيار، وحين تقول:{حَسْبِيَ الله} فلا إله غيره سبحانه، ولا إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره.

وقل {حَسْبِيَ الله} برصيد {لا إله إِلَاّ هُوَ} و {لا إله} نفي، و {إِلَاّ هُوَ} إثبات، إذن: ففي هذا القول: {لا إله إِلَاّ هُوَ} نفي منطقي مع سلب، وإثبات منطقي مع الإيجاب، وهنا نفي أيِّ ألوهية لغير الله، والاستثناء من ذلك هو الله، ورحم الله شيخنا عبد الرحمن عزام حين ترجم عن محمد إقبال شاعر باكستان الكبير، فقال:

إنَّما التوحيد إيجابٌ وسلبٌ

فيهما للنفسِ عزمٌ ومضاءُ

إيجاب في {إِلَاّ هُوَ} ، وسلب في {لا إله} ، فيهما للنفس عزم ومضاء، أي: هما للنفس قطبا الكهرباء، فاسلب الألوهية من غير الله وأثبتها لله.

ص: 5618

والناس - كما نعلم - ثلاثة أقسام: قسم ينكر وجود إله للكون مطلقاً، وهم الملاحدة، وقسم ثان يقول: إن هناك الله الذي يوحده المسلمون؛ لكن له شركاء ينفعوننا عند الله. وقسم ثالث يقول بوحدانية الله.

وساعة نقول {لا إله إِلَاّ هُوَ} نكون قد أثبتنا الألوهية لله، وأثبتنا أن لا شريك له، وأثبتنا ألا إله غيره، وسبحانه يقول:

{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} وهذا أمر طبيعي، ويمكن أن نعرفه بالحساب؛ ولذلك جاء ب {حَسْبِيَ} من الحساب. واحسبها فلن تجد إلا الله. وما دام حسبك الله ولا إله إلا هو، فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرته لك، فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي رسولك، الذي أبلغك البلاغ الكامل عن الله، وأن تتوكل عليه سبحانه.

وما دام سبحانه هو حسبك ولا إله إلا هو، والواجب يفرض عليك أن تظل في مَعيَّته سبحانه، ومعيّة الله مرحلتان: الأولى بأخذ الأسباب التي أمدّ بها خلقه، ومعية إيمانك المطلق بأن الأسباب إن عجزت معك، فأنت تلجأ إلى مسبِّب الأسباب الموجود وهو رب الوجود.

وترى - مثلاً - الناس وهي تحتاج إلى المياه؛ لأنها ضرورة للحياة؛ فيذهبون إلى البئر فلا يجدون الماء رغم وجود البئر؛ لأن المياه التي تأتي من جوف الأرض لم تعد تتسرب إليه، ولماذا؟ لأن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الأرض قد نفد، ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء؛ لتجري إلى المسارب تحت الأرض وتعود المياه إلى البئر.

وإذا جفَّت الآبار المحيطة بنا، هل نيأس؟ لا؛ لأن ربنا بيَّن لنا: ارفعوا أيديكم لربكم. إذن: فنحن إذا استنفدنا الأسباب نطلب من

ص: 5619

المسبب، ولذلك أتحدى أن يستنفد واحد أسباب الله الممدودة إليه، ويلجأ إلى الله فيرده.

إن يد الله ممدودة لنا بالأسباب ولا يصح أن يهمل إنسان ولا يأخذ بالأسباب، ويقول: أنا متوكل على الله، إن على الإنسان أن يأخذ أولاً بالأسباب وأن يستنفدها، وبعد ذلك يقول: ليس لي ملجأ إلا أنت سبحانك، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه:{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]

والمضطّر: هو من استنفد أسبابه، وليس له إلا الله. لكن أن يقول إنسان: أنا أدعو الله ليل نهار وأسبِّحُه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلاً، ولا يستجيب الله لدعائي. ونقول لمثل هذا القائل: أنت لا تدعو عن اضطرار ولم تأخذ بالأسباب، خذ بالأسباب التي خلقها الله، أولاً، ثم ادْعُ بعد ذلك. ولا تدْعُ إلا إذا استنفدت الأسباب؛ فيجيبك المسبِّب، وبذلك لا تفتن بالأسباب، فحين تمتنع الأسباب؛ تلجأ إلى الله. ولو كانت الأسباب تعطي كلها لفُتِنَ الإنسان بالأسباب، والحق سبحانه يقول:{كَلَاّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7]

لذلك نجد الحق يبيّن دائماً أن كل الأسباب بيده، فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى، ثم يقترب الزرع من النضج، وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته، أو ينزل سيل يجرفه. إذن: خذ بالأسباب واجعل المسبب دائماً في بالك، وهنا يصح توكلك على الله.

ص: 5620

وكثير من الناس يخطئ في فهم كلمة «التوكُّل» ، وأقول: إن التوكل يعني أن تأخذ، أولاً، أسباب الله التي خلقها سبحانه في كونه، فإن عَزّت الأسباب ولم تصل إلى نتيجة؛ فاتجه إلى الله، مصداقاً لقوله:{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} .

ونحن ندعو أحياناً عن غير اضطرار ونهمل الأسباب، والمثال تجده في حياتنا حين يقول الابن لأمه:«ادعي لي حتى أنجح» وتجيب الأم الأمية قائلة كلمة بسيطة هي: «ساعد الدعاء بقليل من المذاكرة» ، وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الخذ بالأسباب.

إذن: فمعنى التوكل، أن تستنفد الأسباب التي مدَّتها يد الله إليك. فإذا استنفدتها؛ إياك أن تيأس؛ لأن لك ربّاً، وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه.

ومثال آخر: إذا كنت سائراً في الشارع ومعك جنيه واحد مثلاً ثم وقع منك أو سُرق، ولا تملك في البيت أو في البنك مليماً واحداً، هنا تغضب وتحزن، أما إن كان في البيت عشرة جنيهات؛ فنسبة الغضب والحزن ستكون قليلة، وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه؛ فلن تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد.

وهكذا تثق بالمثل عوضاً عن المثل، أفلا تثق بواهب هذا المثل عن عوض المثل؟

إذن: فالتوكل هو أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب. والكسالى هم من يريدون أن يكون التوكل للجوارح وليس القلوب.

ص: 5621

وكان من الممكن أن يغيّر الحق الأسلوب في الآية فيقول: توكلت عليه. بدلاً من {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ولكن إن وفقت الفهم عن قوله الحق، ستجد أن الإنسان إن قال:«أنا اعتمدت عليك» فقد تعطف قائلاً: «وعلى فلان وعلى فلان» . لكن قولك: عليك توكلت لا يمكن أن تعطف من بعدها، وفيها تنزيه لله ولا أحد غيره يتوكل عليه الخلق، مثلما تقول في الفاتحة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي: لا نعبد غيرك، فتكون قد قصرت العبادة عليه سبحانه.

وتوكلك على الله له رصيد؛ لأن ربك ورب الكون الذي استقبلك، ولا تصل قدرتك إليه، فأنت في الأرض تحرثها، وتبذرها، وترويها، ثم تأخذ من عطاء الله لك؛ فهو ربك، ورب الكون الذي استقبلك، وأًصبح هذا الكون مسخراً لك، وأنت لم تكن قادراً على تسخير الكون.

صحيح أنك قد تُسخِّر الدابة وتربطها وتمتطيها وتحمل عليها السماد مثلاً وكل ذلك مسخر لك وفي قدرتك، وهذا من فضل الله عليك. ويزيد فضله سبحانه، وترى مخلوقات مُسخَّرة لك؛ تشرق كل يوم بالدفء وبالحرارة، وكذلك القمر، والغمام، وكل هذه مخلوقات ليس في قدرتك السيطرة عليها، بل سخرها الله لخدمتك.

وربك رب الكون الذي استقبلك سخر لك ما ليس في يدك، وهو سبحانه رب الملكوت الذي يدير كل ذلك وأنت لا تراه، وهو الذي يدير كل هذه الأشياء. فلا تنظر إلى ظواهر العطاء فقط، بل انظر إلى مسبِّبات العطاء في ظواهر العطاء، ولا تلتفت إلى ظاهرة إلا لتعرف ما وراء هذه الظاهرة. وما وراء أي ظاهرة كثير.

ويقول الحق سبحانه: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} نعم، هو رب الكون الذي استقبلك وسخر لك ما في يدك وما ليس في يدك، وما وراء المرئيات من

ص: 5622

عالم الملكوت؛ ليدير بكمال قدرته كل شيء، وكل ما في الكون ملك لله.

وله سبحانه العرش العظيم، فما هو العرش؟ نعرف لأول وهلة أن العرش هو السقف، فحين تبني دوراً واحداً تصنع له السقف؛ ليحميك من وهج الشمس والمطر، وإن كانت الأرض رخوة فالمباني تهبط، وبنينا السقوف حتى تحمي الجدران من عوامل التعرية.

وقول الله سبحانه: {العرش العظيم} معناها: استواء الأمر استواءً يدخل فيه كل مقدور؛ ولذلك عبر سبحانه عن الملك مثلاً في ملكة سبأ على لسان الهدهد فقال: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]

العرش، إذن، رمز السيطرة، وفي حياتنا - ولله المثل الأعلى - نجد أن الذي يأخذ الملك من واحد قبله يبدأ في تطهير الجيوب المحيطة به ويبحث عن الأنصار؛ ليعيد ترتيب الملك بما يراه مناسباً له؛ حتى تستقر له الأمور، ثم يجلس بعد ذلك على العرش.

إذن: فالجلوس على العرش معناه استتباب الأمر استتباباً نهائياً للمالك الأعلى.

وسبحانه يقول: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ

} [غافر: 7]

وساعة تسمع كلمة «العرش» خذها على أنها رمز لللاستتباب الأمر لله، وأن كل شيء دخل في حيِّز قدرته، وفي حيِّز {كن} ، كما يستقر

ص: 5623

للملك المحَسِّ، فلا يجلس على العرش، ولا يهدأ، إلا إذا استقرت الأمور. هذا ما نراه في الأمور الدنيوية، فما بالنا باستقرار كل الكون من الأزل لله سبحانه وتعالى؟

يقول الحق سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش

} [الأعراف: 54]

أي: أن الأمور قد استتبت له. وهكذا نجد أن كلمة «الْعَرْشِ» وردت في عروش الدنيا، وفي عرش الله سبحانه، فعروش الدنيا ترمز إلى استتباب الأمر لمن يجلس عليها، والعرش بالنسبة لله رمز للاستتباب أمر الكون كله له سبحانه لا ينغص عليه شيء ولا يخرج من ملكه شيء. والكون كله، بكل ما فيه مستتب لكلمة «كن» ومخلوق بها وخاضع لسلطان الحق سبحانه وتعالى.

وهنا يقول الحق: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} ولا يوصف العرش بأنه عظيم إلا وفي أذهان الناس عروش الملوك التي نراها في حياتنا، مثلما قال الهدهد عن ملكة سبأ:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]

أي: بمقاييس البشر.

أما قوله تعالى هنا: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129]

فهو بمقاييس رب البشر، إنه عرش الخالق العظيم سبحانه وهو فوق التصور البشري؛ لذلك نفهمه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

} [الشورى: 11]

ص: 5624