الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الثالث عشر (تابع)
…
فصل
وللحيل التى يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة:
المثال الأول: إن استأجر منه أرضاً أو بستاناً أو دارا سنين، ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان، بنوع من أنواع المكر والغدر، ولو لم يكن إلا بأن يدعى أن أجرة المثل فى هذه الحال أكثر مما سمى.
فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يسمى لكل سنة أجراً معلوماً، ويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة، وأقلها للسنين الأول، فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك. وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره فى المستقبل جعل معظم الأجرة فى السنين الأول، وأقلها فى الأواخر.
المثال الثانى: أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر، فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة، ولا من إخراجها.
فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يؤجرها رب الدار من المرأة. فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة، ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا. فإن كان قد أجرها من الزوج، وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له، وأنها فى يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا، وإن كفل المرأة وقت العقد أنها تردّ إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك.
المثال الثالث: أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه فى الأجرة، ويفسخ عقده، إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك، أو يتحيل عليه، حتى يبطل عقده.
فالحيلة فى أمنه وتخليصه: أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه، ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه، ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذى وقع عليه العقد. فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى. هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها، وعدم فسخها للزيادة.
المثال الرابع: أن يخاف أن يؤجره مالا يملك، فيأبى المالك ويفسخ العقد، ويرجع عليه بالأجرة. فالحيلة فى تخليصه: أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة، وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى.
المثال الخامس: أن يخاف فَلَس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة.
فالحيلة فى فسخه: أن يشهد عليه فى العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ. ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك. فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر، أو السنة، ويكون حدوث الفلس عيبا فى الذمة يتمكن به من الفسخ. كما يكون حدوث العيب فى العين المستأجرة مسوّغاً للفسخ. وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطاً معلوماً. ولا يعين مقدار المدة، بل يقول آجرتك كل سنة بكذا، أو كل شهر بكذا، تقوم لى بالأجرة فى أول الشهر أو السنة، فإن أفلس قبل مضى شئ من المدة ملك المؤجر الفسخ. وإن أفلس بعد مضى شئ منها، فهل يملك الفسخ؟ على وجهين:
أحدهما: لا يملكه. لأن مضى بعضها كتلف بعض المبيع، وهو يمنع الرجوع.
والثانى: يملكه. وهو قول القاضى. وهو الصحيح، لأنَّ المنافع إنما تملك شيئاً فشيئاً بخلاف الأعيان فإنها تملك فى آن واحد. فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع.
المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها، فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق فى ذلك.
فالحيلة فى ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج
الدار إلى عمارته من أجرتها، ويقدر لذلك قدراً معلوما. فيقول، مثلا: بمائة فما دونها، أو يقول: من عشرة إلى مائة. فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها، أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها، وأنه غير متبرع به، وحسب له من الأجرة.
وكذلك إذا استأجر منه دابة، واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك. فإن قال: أذنت لك أن تنفق على الدار، أو الدابة ما تحتاج إليه، فادعى قدراً وأنكره المؤجر. فالقول قول المؤجر.
والحيلة فى قبول المستأجر: أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة، ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعها إليه، ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه، فالقول حينئذ قوله لأنه أمين. فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذى قبضه ويقول إنه تلف، وهو أمانة، فلا يلزمنى ضمانه، فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يقرضه إياه، ويجعله فى ذمته، ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك.
المثال السابع: إذا آجره دابة، أو داراً مدة معلومة، وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة.
فطريق التخلص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأجرتها بعدها لكل يوم دينار أو نحوه، فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة.
المثال الثامن: إذا كان له عليه دين فقال: اشتر له به كذا وكذا ففعل، لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئاً لنفسه من دين الغير بفعله.
وطريق التخلص: أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برئ منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا، والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك، لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه، فكما قام مقامه فى التصرف قام مقامه فى الإبراء. فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه، وإنما برئ بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل.
المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة. فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا، فقالوا: لا يصح العقد. لأنا لا نعلم على أى المسافتين وقع العقد.
قالوا: والحيلة فى تصحيحه: أن يسمى للمكان الأقرب أجرة، ثم يسمى منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى. فيقول مثلا: آجرتك إلى الرملة بمائة، ومن الرملة إلى مصر بمائة. لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى، ويكون قد أقام فى المكان الأقرب. فالحيلة فى تخلصه: أن يشترط عليه الخيار فى العقد الثانى. إن شاء أمضاه، وإنْ شاء فسخه. ويصح اشتراط الخيار فى عقد الإجارة، إذا كانت على مدة لا تلى العقد. والقياس يقتضى صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة. وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان. ولا غرر فى ذلك، ولا جهالة. وكذا إذا قال: إن خطت هذا الثوب رومياً. فلك درهم، وإن خطته فارسياً، فلك نصف درهم، إنما يقع على وجه واحد. وكذلك قطع المسافة، فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة، فلا يشبه هذا قوله: بعتكه بعشرة نقداً، أو بعشرين نسيئة. فإنه إذا أخذه لا يدرى بأى الثمنين أخذ. فيقع التنازع، ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما. بخلاف عقد الإجارة، فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا، فيجب أجرة عمله.
المثال العاشر: إذا زرع أرضه. ثم أراد أن يؤجرها، والزرع قائم لم يجز، لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض.
طريق تصحيحها: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة. ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة. فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة، فالحيلة: أن يبيعه الزرع، ثم يؤجره الأرض، فإذا تم العقد اشترى منه الزرع، فعاد الزرع إلى ملكه، وصحت الإجارة.
المثال الحادى عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر. لم يصح،
لأن الخراج تابع لرقبة الأرض، فهو على مالكها، لا على المنتفع بها: من مستأجر، أو مستعير.
وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها، ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض فى الخراج كل سنة كذا وكذا. وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح. وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى، ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة، ويوكله فى إنفاقه عليها. والقياس يقتضى صحة العقد بدون ذلك، فإنَّا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته، كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه. فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها، وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة، يجوز أن يكون بعض الأجرة، والبعض الآخر شيئاً مسمى.
المثال الثانى عشر: لا تجوز إجارة الأشجار، لأن المقصود منها الفواكه. وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها.
قالوا: والحيلة فى جوازه: أن يؤجره الأرض، ويساقيه على الشجر بجزء معلوم.
قال شيخ الإسلام: وهذا لا يحتاج إليه، بل الصواب جواز إجارة الشجر. كما فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بحديقة أسيد بن حضير. فإنه أجرها سنين، وقضى بها دينه. قال: وإجارة الأرض لأجل ثمنها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها. فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقى والإصلاح، والذيار فى الكرم، حتى تحصل الثمرة. كما يقوم على الأرض بالحرث والسقى والبذر، حتى يحصل المَغَل. فثمرة الشجر تجرى مجرى مغل الأرض.
فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغل من البذر. وهو ملك المستأجر، والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه فى الأرض. وسقيه، والقيام عليه. بخلاف استئجار الشجر، فإن الثمرة من الشجرة، وهى ملك المؤجر.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا لا تأثير له فى صحة العقد وبطلانه. وإنما هو فرق عديم التأثير.
الثانى: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذى ينبته الله سبحانه وتعالى، بدون بذر من المستأجر، فهو نظير ثمرة الشجر.
الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقى والخدمة، والقيام على الشجرة، فهى متولدة من عمل المستأجر، ومن الشجرة. فللمستأجر سعى وعمل فى حصولها.
الرابع: أن تولد الزرع ليس من البذر وحده. بل من البذر: والتراب، والماء، والهواء. فحصول الزرع من التراب الذى هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة. والبذر فى الأرض قائم مقام السقى للشجرة. فهذا أودع فى أرض المؤجر عينا جامدة. وهذا أودع فى شجرة عينا مائعة، ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله، كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله. وهذا من أصح قياس على وجه الأرض.
وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعانى المؤثرة فى الأحكام، ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضى الله عنه، فهو إجماع منهم. ثم إن هذه الحيلة التى ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم، أو وقفاً، فإن المؤجر ليس له أن يحابى فى المساقاة حينئذ، ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق فى إجارة الأرض، فإنه إذا أربحه فى عقد لم يجز له أن يخسره فى عقد آخر، ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد فى عقد، بأن يقول: إنما أساقيك على جزء من ألف جزء، بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا، فإن هذا لا يصح. فعلى ما فعله الصحابة - وهو مقتضى القياس الصحيح - لا يحتاج إلى هذه الحيلة، وبالله التوفيق.
المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا، وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هى وأجرتها،
فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع، وأنه ضامن لما
غرمه المشترى من ذلك، ويصح ضمان الدرك، حتى عند من يبطل ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، للحاجة إلى ذلك، فإن ضمن من يخاف استحقاقه: كان أقوى، فإن خاف أن يظهر الاستحقاق على وارثه بعد موته، ضمن الدرك ورثة البائع، أو ورثة من يخاف استحقاقه إن أمكنه. فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة، وهى أجرة المثل لمدة استيلائه على العين، وهذا قول ضعيف جدا. فإن المشترى إنما دخل على أن يستوفى المنفعة بلا عوض، والعوض الذى بذله فى مقابلة العين لا للانتفاع، فإلزامه بالأجرة إلزام ما لم يلتزمه، وكذلك نقول فى المستعير إذا استحقت العين، لم يلزمه عوض المنفعة، لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجاناً بلا عوض، بخلاف المستأجر، فإنه التزم الانتفاع بالعوض، ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذى دخل عليه.
وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها، ثم استحقت، لم يلزمه المهر، لأنه دخل على أن يطأها مجاناً، بخلاف الزوج، فإنه دخل على أن الوطء فى مقابلة المهر، ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى، وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور، لأنه معذور، غير ملتزم للضمان، وهو محسن غير ظالم، فما عليه من سبيل، وهذا هو الصواب. فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانه خاصة، ولا يرجع عليه بما التزم غرامته. فإذا غرم المودع أو المُتَّهِب قيمة العين والمنفعة، رجع على الغار بهما، وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين، دون قيمة المنفعة، إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى، حيث لم يلتزم ضمانه، وإذا ضمن وهو مشتر، أو مستعير قيمة العين والمنفعة، رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين، لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى.
والمقصود: أن هذا المشترى متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع. فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار، أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة، ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة، فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة، طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة.
المثال الرابع عشر: إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشترى له جارية معينة، ثم خاف الموكل أن تعجب وكيله فيتزوجها، أو يشتريها لنفسه. فطريق التخلص من ذلك فى
الجارية: أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهى حرة. ويصح هذا التعليق والعتق، وأما الزوجة: فمن صحيح هذا التعليق فيها، كمالك، وأبى حنيفة، نفعه. وأما على قول الشافعى وأحمد، فإنه لا ينفعه.
فطريق التخلص: أن يشهد عليه أنها لا تحل له، وأن بينهما سبباً يقتضى تحريمها عليه، وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلاً. فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى،
فالحيلة: أن يعزل نفسه عن الوكالة، ثم يعقد عليها لنفسه، ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلاً لنفسه عن الوكالة. فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفى يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه فى غيبة الموكل، فأراد التخلص من ذلك. فالطريق فى ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه، فإنه إذا اشترها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه فى غيبة موكله، وهو ممتنع. فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلاً.
المثال الخامس عشر: إذا وكله فى بيع جارية، ووكله آخر فى شرائها. فإن قلنا: الوكيل يتولى طرفى العقد. جاز أن يكون بائعاً مشتريا لهما. وإن منعنا ذلك، فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه، ثم يشتريها لموكله. فإن خاف أن لا يفى له المشترى الذى توثق منه، فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار. فإن وفى له بالبيع، وإلا كان متمكنا من الفسخ.
المثال السادس عشر: لا يملك خلع ابنته بصداقها. فإن ظهرت المصلحة فى ذلك لها.
فالطريق: أن يتملكه عليها، ثم يخلعها من زوجها به، فيكون قد اختلعها بماله. والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل إذا ظهرت المصلحة فى افتدائها من الزوج بصداقها جاز بذلك. وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها، وربما كان هذا خيرا لها.
المثال السابع عشر: إذا وكله أن يشترى له متاعاً فاشتراه، ثم أراد أن يبعث به إليه. فخاف أن يهلك، فيضمنه الوكيل.
فطريق التخلص من ذلك: أن يستأذن الوكيل أن يعمل فى ذلك برأيه، ويفوض إليه ذلك. فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه.
المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يُسْلِم وعنده خمر، أو خنازير، وأراد أن لا يتلف عليه،
فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام. ثم يسلم، ويكون له المطالبة بالثمن، سواء أسلم المشترى أو بقى على كفره. نص على هذا أحمد فى مجوسى باع مجوسياً خمراً، ثم أسلما، يأخذ الثمن الذى قد وجب له يوم باعه.
المثال التاسع عشر: إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر، فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلاً.
فالحيلة: أن يلقى فيه أولا ما يمنع تخمره، فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته. ولم يجز له حبسه حتى يتخلل، فإن فعل لم يطهر، لأن حبسه معصية، وعوده خلاً نعمة، فلا تستباح بالمعصية.
المثال العشرون: إذا كان له على رجل دين مؤجل، وأراد رب الدين السفر وخاف أن يَتْوى ماله، أو احتاج إليه، ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول. فأراد أن يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه. فقد اختلف السلف والخلف فى هذه المسألة. فأجازها ابن عباس، وحرّمها ابن عمرْ. وعن أحمد فيها روايتان. أشهرهما عنه: المنع، وهى اختيار جمهور أصحابه، والثانية: الجواز، حكاها ابن موسى. وهى اختيار شيخنا.
وحكى ابن عبد البر فى الاستذكار ذلك عن الشافعى قولا. وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول، ولا يحكونه، وأظن أن هذا - إن صح عن الشافعى- فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط، بل لو عجل له بعض دينه، وذلك جائز، فأبرأه من الباقى، حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل، ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم، صح عنده. لأن الشرط المؤثر فى مذهبه: هو الشرط المقارن، لا السابق، وقد صرح بذلك بعض أصحابه. والباقون قالوا: لو فعل ذلك من غير شرط جاز، ومرادهم الشرط المقارن. وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط، ولا بدونه، سدا للذريعة.
وأما أحمد فيجوزه فى دين الكتابة، وفى غيره عنه روايتان.
واحتج المانعون بالآثار والمعنى.
أما الآثار: ففى سنن البيهقى عن المقداد بن الأسود قال: "أسلفت رجلاً مائة دينار، ثم خرج سهمى فى بعث بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فقلت له: عجل تسعين ديناراً، وأحط عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: فقال: أكلت ربا، مقداد، وأطعمته" وفى سنده ضعف.
وصح عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه: "قد سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل، فيضع عنه صاحبه، ويعجل له الآخر. فكره ذلك ابن عمر، ونهى عنه".
وصح عن أبى المنهال أنه سأل ابن عمر رضى الله عنهما رضى الله عنهما. فقال: لرجل على دين، فقال لى: عجل لى لأضع عنك، قال: فنهانى عنه، وقال: نهى أمير المؤمنين - يعنى عمر- أن يبيع العين بالدين.
وقال أبو صالح مولى السفاح، واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا، على أن أضع عنهم، وينقدونى، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت. فقال: لا آمرك أن تأكل هذا، ولا تؤكله. رواه مالك فى الموطأ.
وأما المعنى: فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقى، فقد باع الأجل بالقدر الذى أسقطه وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقدر الذى يزيده، إذا حل عليه الدين، فقال: زدنى فى الدين وأزيدك فى المدة، فأى فرق بين أن تقول: حط من الأجل، وأحط من الدين، أو تقول: زد فى الأجل، وأزيد فى الدين؟
قال زيد بن أسلم: كان ربا الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل، فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضى أم تربى؟ فإن قضاه أخذه، وإلا زاده فى حقه وأخر عنه فى الأجل. رواه مالك.
وهذا الربا مجمع على تحريمه، وبطلانه، وتحريمه معلوم من دين الإسلام، كما يعلم تحريم الزنى، واللواطة، والسرقة.
قالوا: فنقص الأجل فى مقابلة نقص العوض، كزيادته فى مقابلة زيادته، فكما أن هذا رباً، فكذلك الآخر.
قال المبيحون: صح عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: "أعجل لك وتضع عنى" وهو الذى روى:
"أَنّ رَسُولَ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسَلم: لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِى النَّضِيرِ مِنَ المَدِينَةِ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنّكَ أَمَرْتَ بِإخْرَاجِهِمْ، وَلَهُمْ عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ لَمْ تَحِلَّ، فَقَالَ النَّبُّى صلّى اللهُ تَعَالَى علْيهِ وآلهِ وَسلَمَ: ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا".
قال أبو عبد الله الحاكم: هو صحيح الإسناد.
قلت: هو على شرط السنن، وقد ضعفه البيهقى، وإسناده ثقات: وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجى، وهو ثقة فقيه، روى عنه الشافعى واحتج به.
وقال البيهقى: باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله، فوضع عنه، طيبة به أنفسهما. وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط، بل هذا عجل، وهذا وضع، ولا محذور فى ذلك.
قالوا: وهذا ضد الربا، فإن ذلك يتضمن الزيادة فى الأجل والدين، وذلك إضرار محض بالغريم، ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين، وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر، بخلاف الربا المجمع عليه، فإن ضرره لا حق بالمدين، ونفعه مختص برب الدين، فهذا ضد الربا صورة ومعنى.
قالوا: ولأن مقابلة الأجل بالزيادة فى الربا ذريعة إلى أعظم الضرر، وهو أن يصير الدرهم الواحد ألوفا مؤلفة، فتشتغل الذمة بغير فائدة، وفى الوضع والتعجيل تتخلص ذمة هذا من الدين، وينتفع ذاك بالتعجيل له.
قالوا: والشارع له تطلع إلى براءة الذمم من الديون، وسمى الغريم المدين: أسيراً ففى براءة ذمته تخليص له من الأسر، وهذا ضد شغلها بالزيادة مع الصبر، وهذا لازم لمن قال: يجوز ذلك فى دين الكتابة. وهو قول أحمد، وأبى حنيفة، فإن المكاتب مع سيده كالأجنبى فى باب المعاملات، ولهذا لا يجوز أن يبيعه درهما بدرهمين، ولا يبايعه بالربا، فإذا جاز له أن يتعجل بعض كتابته، ويضع عنه باقيها، لما له فى ذلك من مصلحة تعجيل العتق، وبراءة ذمته من الدين، لم يمنع ذلك فى غيره من الديون. ولو ذهب ذاهب إلى التفصيل فى المسألة وقال: لا يجوز فى دين القرض إذا قلنا بلزوم تأجيله ويجوز فى ثمن المبيع والأجرة، وعوض الخلع، والصداق، لكان له وجه، فإنه فى القرض يجب رد المثل، فإذا عجل له وأسقط
باقيه، خرج عن موجب العقد، وكان قد أقرضه مائة، فوفاه تسعين، بلا منفعة حصلت للمقرض، بل اختص المقترض بالمنفعة، فهو كالمربى سواء فى اختصاصه بالمنفعة، دون الآخر، وأما فى البيع والإجارة فإنهما يملكان فسخ العقد، وجعل العوض حالاً أنقص مما كان، وهذا هو حقيقة الوضع والتعجيل، لكن تحيلا عليه، والعبرة فى العقود بمقاصدها لا بصورها. فإن كان الوضع والتعجيل مفسدة فالاحتيال عليه لا يزيل مفسدته، وإن لم يكن مفسدة لم يحتج إلى الاحتيال عليه.
فتلخص فى المسألة أربعة مذاهب:
المنع مطلقاً، بشرط، وبدونه، فى دين الكتابة وغيره، كقول مالك.
وجوازه فى دين الكتابة، دون غيره، كالمشهور من مذهب أحمد وأبى حنيفة.
وجوازه فى الموضعين. كقول ابن عباس، وأحمد فى الرواية الأخرى.
وجوازه بلا شرط، وامتناعه مع الشرط المقارن، كقول أصحاب الشافعى، والله أعلم.
المثال الحادى والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم، فصالحه منها على مائة درهم يؤديها إليه فى شهر كذا من سنة كذا، فإن لم يفعل فعليه مائتان، فقال القاضى أبو يعلى: هو جائز، وقد أبطله قوم آخرون.
والحيلة فى جوازه على مذهب الجميع: أن يعجل رب المال حط ثمانمائة بَتا، ثم يصالح عن المطلوب من المائتين الباقيتين على مائة، يؤديها إليه فى شهر كذا، على أنه إن أخرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما.
المثال الثانى والعشرون: إذا كاتب عبده على ألف يؤديها إليه فى سنتين، فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى، فهى كتابة فاسدة، ذكره القاضى، لأنه علق إيجاب المال بخطر ولا يجوز ذلك.
والحيلة فى جوازه: أن يكاتبه على ألفى درهم، ثم يصالحه منها على ألف درهم يؤديها إليه فى سنتين. فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون قد علق الفسخ بخطر، فيجوز. وتكون كالمسألة التى قبلها.
المثال الثالث والعشرون: إذا كان له عليه دين حال فصالحه على تأجيله، أو تأجيل بعضه،
لم يلزمه التأجيل. فإن الحال لا يتأجل. والصحيح: أنه يتأجل، كما يتأجل بدل القرض. وإن كان النزاع فى الصورتين. فمذهب أهل المدينة فى ذلك هو الراجح.
وطريق الحيلة فى صحة التأجيل ولزومه: أن يشهد على إقرار صاحب الدين أنه لا يستحق المطالبة به قبل الأجل الذى اتفقا عليه، وأنه متى طالب به قبله فقد طالب بما لا يستحق. فإذا فعل هذا من رجوعه فى التأجيل.
المثال الرابع والعشرون: إذا اشترى من رجل دارا بألف، فجاء الشفيع يطلب الشفعة، فصالحه المشترى على نصف الدار بنصف الثمن جاز ذلك، لأن الشفيع صالح على بعض حقه، كما أنه صالح من ألف على خمسمائة. فإن صالحه على بيت من الدار بعينه بحصته من الثمن يقُوَّم البيت ثم تخرج حصته من الثمن، جاز أيضاً، لأن حصته معلومة فى أثناء الحال. فلا يضر كونها مجهولة حالة الصلح. كما إذا اشترى شقصاً وسيفاً: فللشفيع أن يأخذ الشقص بحصته من الثمن، وإن كانت مجهولة حال العقد، لأن مآلها إلى العلم. وقال القاضى وغيره من أصحابنا: لا يجوز، لأنه صالحه على شئ مجهول.
ثم قال: والحيلة فى تصحيح ذلك: أن يشترى الشفيع هذا البيت من المشترى بثمن مسمى، ثم يسلم الشفيع للمشترى ما بقى من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة، ومساومته بالبيت تسليم للشفعة.
فإن أراد الشفيع شراء البيت المعين وبقاءه على شفعته فى الباقى.
فالحيلة أن لا يبدأ بالمساومة، بل يصبر حتى يبتدئ المشترى، فيقول: هذا البيت أخذته بكذا وكذا، فيقول الشفيع: قد استوجبته بما أخذته به، ولا يكون مسلماً للشفعة فى باقى الدار وليس فى هذه الحيلة إبطال حق غيره، وإنما فيها التوصل إلى حقه.
المثال الخامس والعشرون: يجوز تعليق الوكالة على الشرط. كما يجوز تعليق الولاية والإمارة على الشرط. وقد صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تعليق الإمارة
بالشرط وهى وكالة وتفويض، وتولية، ولا محذور فى تعليق الوكالة بالشرط البتة.
والحيلة فى تصحيحها: أن ينجز الوكالة ويعلق الإذن فى التصرف بالشرط وهذا فى الحقيقة تعليق لها نفسها بالشرط، فإن مقصود الوكالة صحة التصرف ونفوذه، والتوكل وسيلة وطريق إلى ذلك، فإذا لم يمتنع تعليق المقصود بالشرط، فالوسيلة أولى بالجواز.
المثال السادس والعشرون: يجوز تعليق الإبراء بالشرط. ويصح، وفعله الإمام أحمد وقال أصحابنا: لا يصح. قالوا: فإذا قال: إن مت فأنت فى حل مما لى عليك. فإن علق ذلك بموت نفسه صح، لأنه وصية. وإن علقه بموت من عليه الدين لم يصح. لأنه تعليق البراءة بالشرط ولا يصح كما لا يصح تعليق الهبة. فيقال: أولا، الحكم فى الأصل غير ثابت بالنص، ولا بالإجماع، فما الدليل على بطلان تعليق الهبة بالشرط؟ وقد صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه علق الهبة بالشرط فى حديث جابر لما قال:
"لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ لأعْطَيْتُكَ هكَذَا، وَهكَذَا، ثمَّ هكَذَا" - ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ. وأنجز ذلك له الصديق رضى الله عنه لما جاء مال البحرين بعد وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
فإن قيل: كان ذلك وعداً؟.
قلنا: نعم، والهبة المعلقة بالشرط وعد. وكذلك فعل النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما بعث إلى النجاشى بهدية من مسك، وقال لأم سلمة: "إِنِّى قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِى حُلَّةً
وَأَوَاقِى مِنْ مِسْكٍ، وَلا أَرَى النَّجَاشِى لا قَدْ مَاتَ، وَلا أرَى هَدِيَّتِى إِلا مَرْدُودَةً فإن رُدَّتْ عَلَى فَهِى لَكِ" وذكر الحديث، رواه أحمد. فالصحيح: صحة تعليق الهبة بالشرط، عملا بهذين الحديثين.
وأيضاً. فالوصية تمليك، وهى فى الحقيقة تعليق للتمليك بالموت، فإنه إذا قال: إن مت من مرضى هذا فقد أوصيت لفلان بكذا، فهذا تمليك معلق بالموت. وكذلك الصحيح: صحة تعليق الوقف بالشرط. نص عليه فى رواية الميمونى فى تعليقه بالموت. وسائر التعليق فى معناه، ولا فرق البتة. ولهذا طرده أبو الخطاب. وقال: لا يصح تعليقه بالموت. والصواب طرد النص، وأنه يصح تعليقه بالموت وغيره. وهو أحد الوجهين فى مذهب أحمد. وهو مذهب مالك. ولا يعرف عن أحمد نص على عدم صحته. وإنما عدم الصحة قول القاضى وأصحابه.
وفى المسألة وجه ثالث: أنه يصح تعليقه بشرط الموت دون غيره من الشروط، وهذا اختيار الشيخ موفق الدين. وفرق بأن تعليقه بالموت وصية، والوصية أوسع من التصرف فى الحياة، بدليل الوصية بالمجهول والمعدوم، والحمل والصحيح: الصحة مطلقاً. ولو كان تعليقه بالموت وصية لامتنع على الوارث، ولا خلاف أنه يصح تعليقه بالشرط بالنسبة إلى البطون، بطنا بعد بطن، وأن كونه وقفا على البطن الثانى مشروط بانقضاء البطن الأول. وقد قال تعالى:{يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ".
والقياس الصحيح: يقتضى صحة تعليقه، فإنه أشبه بالعتق منه بالتمليك، ولهذا لا يشترط فيه القبول إذا كان على جهة، اتفاقاً، وكذلك إذا كان على آدمى معين، فى أقوى الوجهين،
وما ذاك إلا لشبهه بالعتق.
والمقصود: أن تعليق الإبراء بالشرط أولى من ذلك كله، فمنعه مخالف لموجب الدليل والمذهب.
ويقال ثانياً: لا يلزم من بطلان تعليق الهبة بطلان تعليق الإبراء، بل القياس الصحيح يقتضى صحة تعليقه، لأنه إسقاط محض، ولهذا لا يفتقر إلى قبول المبرئ، ولا رضاه، فهو بالعتق والطلاق أشبه منه بالتمليك.
وعلى هذا، فيستغنى بالصحة فى ذلك كله عن الحيلة. فإن احتاج إلى التعليق، وخاف أن ينقض عليه،
فالحيلة: أن يقول: لا شئ لى عليه بعد هذا الشهر أو العام، أو لا شئ لى عليه عند قدوم زيد، أو كل دعوى أدعيها عليه بعد شهر كذا، أو عام كذا، أو عند قدوم زيد بسبب كذا، أو من دين كذا، فهى دعوى باطلة، أو يقول: كل دعوى أدعيها فى تركته بعد موته: من دين كذا أو ثمن كذا، فهى دعوى باطلة. وعلى ما قررناه لا يحتاج إلى شئ من ذلك.
المثال السابع والعشرون: إذا أعسر الزوج بنفقة المرأة، ملكت الفسخ، فإن تحملها عنه غيره لم يسقط ملكها للفسخ، لأن عليها فى ذلك منة، كما أراد قضاء دين عن الغير، فامتنع ربه من قبوله، لم يجبر على ذلك.
وطريق الحيلة فى إبطال حقها من الفسخ: أن يحيلها بما وجب لها عليه من النفقة على ذلك الغير، فتصح الحوالة، وتلزم على أصلنا، إذا كان المحال عليه غنيا. وطريق صحة الحوالة: أن يقر ذلك الغير للزوج بقدر معين لنفقتها سنة أو شهراً، أو نحو ذلك، ثم يحيلها الزوج عليه، فإن لم يمكنه الإجبار على القبول، لعدم من يرى ذلك، وكل الزوج الملتزم لنفقتها فى الإنفاق عليها، والزوج مخير بين أن ينفق عليها بنفسه، أو بوكيله. وهكذا العمل فى مسألة أداء الدين عن الغريم سواء.
المثال الثامن والعشرون: إذا خاف المضارب أن يضمنه المالك بسبب من الأسباب التى لا يملكها بعقد المضاربة، فخلط المال بغيره، أو استبراء به بأكثر من رأس المال، والاستدانة على مال المضاربة، أو دفعه إلى غيره مضاربة أو إبضاعاً، أو إيداعاً، أو السفر به. فطريق التخلص من ضمانه فى هذا كله: أن يشهد على رب المال أنه قال له: اعمل برأيك، أو ما تراه مصلحة.
المثال التاسع والعشرون: إذا كان لكل من الرجلين عروض، وأرادا أن يشتركا فيها شركة عنان، ففى ذلك روايتان:
إحداهما: تصح الشركة. وتقوم العروض عند العقد، ويكون قيمتها هو رأس المال. فيقسم الربح على حسبه، أو على ما شرطاه. وإذا أرادا الفسخ رجع كل منهما إلى قيمة عروضه، واقتسما الربح على ما شرطاه، وهذا القول هو الصحيح.
والرواية الثانية: لا تصح إلا على النقدين، لأنهما إذا تفاسخا الشركة، وأراد كل منهما الرجوع إلى رأس ماله، ويقتسما الربح، لم يعلم ما مقدار رأس مال كل منهما إلا بالتقويم، وقد تزيد قيمة العروض وتنقص قبل العمل، فلا يستقر رأس المال.
وأيضاً فمقتضى عقد الشركة: أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال الآخر، وهذه الشركة تفضى إلى ذلك، لأنه قد تزيد قيمة عرض أحدهما، ولا تزيد قيمة عرض الآخر، فيشاركه من لم تزد قيمة عروضه. وهذا إنما يصح فى المقومات كالرقيق، والحيوان، ونحوهما. فأما المثليات، فإن ذلك منتف فيها، ولهذا كان الصحيح عند من منع الشركة بالعروض: جوازها بالمثليات. فالصحيح: الجواز فى الموضعين. لأن مبنى عقد الشركة على العدل من الجانبين، وكل من الشريكين متردد بين الربح والخسران، فهما فى هذا الجواز مستويان. فتجويز ربح أحدهما دون الآخر فى مقابلة عكسه، فقد استويا فى رجاء الغنم وخوف الغرم، وهذا هو العدل، كالمضاربة، فإنه يجوز أن يربحاً، وأن يخسراً، وكذلك المساقاة والمزارعة.
وطريق الحيلة فى تصحيح هذه المشاركة، عند من لا يجوزها بالعروض: أن يبيع كل منهما بعض عروضه ببعض عروض صاحبه، فإذا كان عَرضَ أحدهما يساوى خمسة آلاف،
وعرض الآخر يساوى ألفا، فيشترى صاحب العرض الذى قيمته خمسة آلاف من صاحبه خمسة أسداس عرضه الذى يساوى ألفا بسدس عرضه الذى يساوى خمسة آلاف، فإذا فعلا ذلك صارا شريكين، فتصير للذى يساوى متاعه ألفا سدس جميع المتاع. وللآخر خمسة أسداسه. أو يبيع كل منهما صاحبه بعض عرضه بثمن مسمى، ثم يتقابضان فيصير مشتركاً بينهما، ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه فى التصرف، فما حصل من الربح يكون بينهما على ما شرطاه عند أحمد، وعلى قدر رءوس أموالهما عند الشافعى، والخسران على قدر المال اتفاقاً.
المثال الثلاثون: إذا تزوجها على أن لا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج عليها، ولا يتسرى عليها، فالنكاح صحيح. والشرط لازم. هذا إجماع الصحابة رضى الله عنهم، فإنه صح عن عمر، وسعد، ومعاوية، ولا مخالف لهم من الصحابة. وإليه ذهب عامة التابعين وقال به أحمد.
وخالف فى ذلك الثلاثة، فأبطلوا الشرط ولم يوجبوا الوفاء به.
فإذا احتاجت المرأة إلى ذلك، ولم يكن عندها حاكم يرى صحة ذلك ولزومه، فالحيلة لها فى حصول مقصودها: أن تمتنع من الإذن، إلا أن تشترط بعد العقد أنه إن سافر بها، أو نقلها من دارها، أو تزوج عليها فهى طالق، أو لها الخيار فى المقام معه، أو الفسخ. فإن لم تثق به أن يفعل ذلك، فإنها تطلب مهراً كثيراً جداً، إن لم يفعل، وتطلب ما دونه إن فعل، فإن شرط لها ذلك رضيت بالمهر الأدنى، وإن لم يشرط ذلك طالبته بالأعلى، وجعلته حالاً، ولها أن تمنع نفسها حتى تقبضه، أو يشرط لها ما سألته.
فإن قيل: فعلى أى المهرين يقع العقد؟
قيل: يقع على المهر الزائد، لتتمكن من إلزامه بالشرط.
فإن خاف أن يشرط لها ما طلبت، ويستقر عليه المهر الزائد، فالحيلة: أن يشهد عليها أنها لا تستحق عليه بعد الاشتراط شيئاً من المبلغ الزائد على الصداق الأدنى، وأنها متى ادعت به فدعواها باطلة، فيستوثق منها بذلك، ويكتب هو الشرط، ولها أن تطالب بالصداق الزائد، إذا لم يف لها بالشرط، لأنها لم ترض بأن يكون الأدنى مهراً إلا فى مقابلة منفعة
أخرى تسلم لها، وهى المقام فى دارها، أو بلدها، أو يكون الزوج لها وحدها، وهذا جار مجرى بعض صداقها. فإذا فاتها فلها المطالبة بالمهر الأعلى.
المثال الحادى والثلاثون: إذا زوج ابنته بعبده صح النكاح، فإن حضره الموت فخاف هو، أو المرأة، أن ترث جزءا منه، فينفسخ النكاح.
فالحيلة فى بقائه: أن يبيع العبد من أجنبى، فإن شاء قبض ثمنه، وإن شاء جعله دينا فى ذمته، يكون حكمه حكم سائر ديونه، فإذا ورثت نصيبها من ثمنه، لم ينفسخ نكاحها. وإن باع العبد من أجنبى قبل العقد، ثم زوجه الابنة، أمن هذا المحذور أيضاً.
وكذلك إذا أراد أن يزوج أمته بابنه، وخاف أن يموت فيرث الابن زوجته، فينفسخ النكاح، باعها من أجنبى، ثم زوجها الابن، أو يبيعها من الأجنبى بعد العقد.
المثال الثانى والثلاثون: إذا أحاله بدينه، وخاف المحتال أن يبور ماله عند المحال عليه، وأراد التوثق لماله.
فالحيلة فى ذلك، أن يقول: لا تحلنى بالمال، لكن وكلنى فى المطالبة به، واجعل ما أقبضه فى ذمتى قرصاً، فييرآن جميعاً بالمقاصة. فإن خاف المحيل أن يهلك المال فى يد الوكيل قبل اقتراضه، فيرجع عليه بالدين.
فالحيلة له: أن يقول للمحال عليه: اضمن عنى هذا الدين لهذا الطالب، فيضمنه فإذا قبضه قبضه لنفسه. فإن امتنع المحال عليه من الضمان احتال الطالب عليه على أنه إن لم يوفه حقه إلى وقت كذا وكذا، فالمحيل ضامن لهذا المال، ويصح تعليق الضمان بالشرط. فإن وفاه المحيل عليه وإلا رجع إلى المحال، وأخذه بالمال.
المثال الثالث والثلاثون: إذا كان له دين على رجل فرهنه به عبداً، فخاف أن يموت العبد، فيحاكمه إلى من يرى سقوط الدين بتلف الرهن.
فالحيلة فى تخليصه من هذا المحذور: أن يشترى العبد منه بدينه، ولا يقبض العبد فإن وفاه دينه أقاله فى البيع. وإن لم يوفه الدين طالبه بالتسليم، وإن تلف العبد كان من ضمان البائع، ورجع المشترى إلى دينه الذى هو ثمنه.
المثال الرابع والثلاثون: إذا كان له عليه دين، فرهنه به رهنا، ثم خاف أن يستحق الرهن فتبطل الوثيقة.
فالحيلة فيه: أن يضمن دينه لمن يخاف منه استحقاق الرهن. فإذا استحقه عليه طالبه بالمال، أو يضمنه درك الرهن، أو يشهد عليه أنه لا حق له فيه. ومتى ادعى فيه حقاً فدعواه باطلة.
المثال الخامس والثلاثون: إذا كان له عليه مائة دينار خمسون منها بوثيقة، وخمسون بغير وثيقة، وجحده الغريم القدر الذى بغير وثيقة.
فالحيلة له فى تخليص ماله: أن يوكل رجلاً غريباً بقبض المال الذى بالوثيقة. ويشهد على وكالته علانية، ثم يشهد شهودا آخرين: أنه قد عزله عن الوكالة، ثم يطالب الوكيل المطلوب بذلك المال، ويثبت شهود وكالته. فإذا قبض الخمسين ديناراً دفعها إلى مستحقها وغاب، ثم يطالبه المستحق بهذه الخمسين. فإن قال: دفعتها إلى وكيلك. أقام البينة أنه كان قد عزله عن الوكالة، فيلزمه الحاكم بالمال، ويقول له: اتْبَعِ القابض، فخذ مالك منه. فإن كان الغريم حذرا لم يدفع إلى الوكيل شيئاً خشية مثل هذا. ويقول: لا أدفع إليك إلا بحضرة الموكل وإقراره أنك وكيله، فتبطل هذه الحيلة.
المثال السادس والثلاثون: إذا حضره الموت، ولبعض ورثته عليه دين، وأراد تخليص ذمته. فإن أقر له به، لم يصح إقراره، وإن وصى له به، كانت وصية لوارث.
فالحيلة فى خلاصه: أن يواطئه على أن يأتى بمن يثق به، فيقر له بذلك الدين، فإذا قبضه أوصله إلى مستحقه، فإن خاف الأجنبى أن يلزمه الحاكم أن يحلف أن هذا الدين واجب لك على الميت، ولم تبرئه منه، ولا من شئ منه لم يجز له أن يحلف على ذلك. وانتقلنا إلى حيلة أخرى، وهى أن يقول له المريض: بع دارك، أو عبدك من وارثى، بالمال الذى له على فيفعل. فإذا لزمته اليمين بعد هذا حلف على أمر صحيح، فإن لم يكن له ما يبيعه إياه وهب له الوارث عبدا أو أمة، فقبضه، ثم باعه من الوارث بالدين على الميت.
المثال السابع والثلاثون: إذا نكح أمة، حيث يجوز له نكاح الإماء، وخاف أن يسترق سيدها ولده.
فالحيلة فى ذلك: أن يسأل سيد الأمة أن يقول: كل ولد تلده منك فهو حر. فإذا قال فما ولدته منه فهم أحرار.
المثال الثامن والثلاثون: إذا قال لامرأته: إن سألتنى الخلع، فأنت طالق ثلاثاً إن لم أخلعك. وقالت المرأة: كل مملوك لها حر، إن لم أسألك الخلع اليوم.
فسئل أبو حنيفة عنها فقال للمرأة: سليه الخلع، فقالت: أسألك أن تخلعنى. فقال للزوج: قل خلعتك على ألف درهم، فقال ذلك. فقال أبو حنيفة للمرأة قولى: لا أقبل. فقالت: لا أقبل، فقال أبو حنيفة: قومى مع زوجك، فقد بر كل منكما فى يمينه.
المثال التاسع والثلاثون: سئل أبو حنيفة عن أخوين تزوجاً أختين، فزفت امرأة كل واحد منهما إلى الآخر، فوطئها، ولم يعلموا بذلك حتى أصبحوا، فقيل له: ما الحيلة فى ذلك؟ فقال: أكل منهما راض بالتى دخل بها؟ قالوا: نعم، فقال: ليطلق كل واحد منهما امرأته طلقة، ففعلا، فقال: ليتزوج كل منهما المرأة التى وطئها، فطابت أنفسهما.
المثال الأربعون: إذا كان لرجل على رجل مال وللذى عليه المال عقار، فأراد أن يجعل عقاره فى يد غريمه يستغله، ويقبض غلته من دينه جاز ذلك، لأنه توكيل له فيه، فإن خاف الغريم أن يعزله صاحب العقار عن الوكالة.
فالحيلة: أن يسترهنه منه ويستديم قبضه، ثم يأذن له فى قبض أجرته من دينه، ولو لم يأذن له فله أن يقبضها قصاصاً.
وله حيلة أخرى: أن يستأجره منه بمقدار دينه، فما وجب له عليه من الأجرة سقط من دينه بقدره قصاصاً.
المثال الحادى والأربعون: إذا كان له جارية فأراد وطأها، وخاف أن تحبل منه فتصير أم ولد، لا يمكنه بيعها.
فالحيلة: أن يبيعها لأبيه، أو أخيه، أو أخته، فإذا ملكها سأله أن يزوجه إياها فيطأها بالنكاح، ويكون ولده منها أحرارا يعتقون على البائع بالرحم، وهذا إذا كان ممن
يجوز له نكاح الإماء، بأن لا يكون تحته حرة عند أبى حنيفة. أو يكون خائفاً للعنت عادماً لطَوْل حرة، عند الجمهور.
المثال الثانى والأربعون: إذا بانت منه امرأته ببينونة صغرى، وأراد أن يجدد نكاحها فخاف إن أعلمها لم تتزوج به، فله فى ذلك حيل:
إحداها: أن يقول: قد حلفت بيمين، ثم استفتيت، فقيل لى: جدد نكاحك، فإن كانت قد بانت منك عاد النكاح، وإلا لم يضرك. فإن كان لها ولى جدد نكاحها، وإلا فالحاكم أو نائبه.
ومنها: أن يظهر أنه يريد سفراً، وأنه يريد أن يجعل لها شيئاً من ماله، وأن الاحتياط أن يجعله صداقاً بعقد يظهره.
ومنها: أن يظهر مرضاً، وأنه يريد أن يقر لها بمال، أو يوصى لها به، وأن ذلك لا يتم. والأحوط أن أظهر عقد نكاح وأجعل ذلك صداقاً فيه.
فإن قيل: إذا بانت منه ملكت نفسها، ولم يصح نكاحها إلا برضاها، ولعلها لو علمت الحال لم ترض بالنكاح الثانى.
قيل: رضاها بتجديد العقد للغرض الذى يريده يتضمن رضاها بالنكاح، وهى لو هزلت بالإذن صح إذنها وصح النكاح، مع أنها لم تقصده كما لو هزل الزوج بالقبول صح نكاحه، وهاهنا قد قصدت بقاء النكاح، ورضيت به، فهو أولى بالصحة.
فإن قيل: فالرجل قاصد إلى النكاح، والمرأة غير قاصدة له؟
قيل: بل قصدت إلى تجديد نكاح يتم به غرضها، فلم تخرج بذلك عن القصد والرضا.
ولو قال رجل لرجل، هزلاً ومزاحاً: زوجنى ابنتك على مائة درهم، أو قال: زوجنى موليتك، وهى تسمع، فقال له، مزاحاً وهزلاً: قد زوجتكها. انعقد النكاح وحل له وطؤها لحديث أبى هريرة الذى رواه أهل السنن عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: "ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ
جِد، وَهَزْلهُنَّ جد: النَّكَاحُ، وَالطّلاقُ، وَالرَّجْعَةَ".
المثال الثالث والأربعون: إذا كان الرجل حسن التصرف فى ماله، غير مبذر له،
فرفع إلى الحاكم وشهد عليه أنه مبذر، فخاف أن يحجر عليه. فقال: إن حجرت على فعبيدى أحرار، ومالى صدقة على المساكين لم يملك القاضى أن يحجر عليه بعد ذلك، لأنه إنما يحجر عليه صيانة لماله، وفى الحجر عليه إتلاف ماله، فهو يعود على مقصود الحجر بالإبطال.
المثال الرابع والأربعون: يصح الصلح عندنا، وعند أبى حنيفة، ومالك، على الإنكار، فإذا ادعى عليه شيئاً فأنكره ثم صالحه على بعضه جاز. والشافعى لا يصحح هذا الصلح، لأنه لم يثبت عنده شئ، فبأى طريق يأخذ ما صالحه عليه؟ بخلاف الصلح على الإقرار، فإنه إذا أقر له بالدين والعين، فصالحه على بعضه، كان قد وهبه، أو أبرأه من البعض الآخر.
والجمهور يقولون: قد دل الكتاب والسنة والقياس على صحة هذا الصلح، فإن الله سبحانه وتعالى ندب إلى الإصلاح بين الناس. وأخبر أن الصلح خير وقال:{إِنَّمَا الُمْؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكمْ} [الحجرات: 10] .
وقال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "الصُّلْحُ بَيْنَ الُمْسْلِمينَ جَائزٌ، إِلا صُلْحاً أَحَلَّ حَرَاماً أَوْ حَرَّمَ حَلالاً".
وأما القياس: فإن المدعى عليه يفتدى مطالبته باليمين وإقامة البينة، وتوابع ذلك: بشيء من ماله يبذله، ليتخلص من الدعوى ولوازمها. وذلك غرض صحيح، مقصود عند العقلاء. وغاية ما يُقَدَّر أن يكون المدعى كاذباً، فهو يتخلص من تحليفه له، وتعريضه للنكول، فيقضى عليه به، أو ترد اليمين، بل عند الخِرَقى: لا يصح الصلح إلا على الإنكار، ولا يصح مع الإقرار، قال: لأنه يكون هضما للحق.
فإذا صالحه مع الإنكار، فخاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل الصلح، فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يصالح أجنبى عن المنكر على مال، ويقر الأجنبى لهذا المدعى بما ادعاه على
غريمه، ثم يصالحه من دعواه على مال، ولا يفتقر إلى إذن المدعى عليه، ولا وكالته، إن كان المدعى دينا، لأنه يقول: إن كان كاذباً فقد استنقذته من هذه الدعوى، وذلك بمنزلة فكاك الأسير، وإن كان صادقاً فقد قضيت عنه بعض دينه، وأبرأه المدعى من باقيه، وذلك لا يفتقر إلى إذنه. وإن كان المدعى عينا، لم يصح حتى يقول: قد وكلنى المنكر. لأنه يقول: قد اشتريت له هذه العين المدعاة بالمال الذى أصالحك عليه، فإن لم يعترف أنه وكله، وإلا لم يصح.
فإن لم يعترف بوكالته، فطريق الصحة: أن يصالح الأجنبى لنفسه، فيكون بمنزلة شراء العين المغصوبة. فإن اعترف بها المدعى باطنا، صار هو الخصم فيها. وإن لم يعترف بها له لم يسعه أن يخاصم فيها المدعى عليه، ويكون اعترافه له بها ظاهراً حيلة على تصحيح الصلح.
وعلى هذا، فإن كان المدعى دار خلفها الميت لابنه وامرأته، فادعاها رجل فصالحاه من دعواه على مال، فإن كان صلحاً على الإنكار فالدار بينهما على ثمانية أسهم، على المرأة الثمن، وعلى الابن سبعة أثمان. وإن كان على الإقرار، فالمال بينهما نصفان والدار لهما نصفان. فإذا أراد لزوم الصلح على الإنكار، صالح عنهما أجنبى على الإقرار فلزم الصلح، وكان المال بينهما على سبعة أثمان، وكذلك الدار، فإنهما لم يقرا له بالدار وإقرار الأجنبى لا يلزمهما حكمه.
المثال الخامس والأربعون: إذا ادعى عليه أرضا فى يده، أو داراً أو بستانا. فصالحه على عشرة أذرع، أو أقل، أو أكثر، جاز، وكذلك لو صالحه على عشرة أذرع من أرض أو أخرى، جاز، لأنه يقول: قد أخذت بعض حقى وأسقطت البعض.
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم حنفى، لا يرى جواز ذلك بناء على أنه لا يجوز بيع ذراع، ولا عشرة، من أرض أو دار. فطريق الجواز: أن يذرع الدار التى صالحه على هذا القدر منها، ثم ينسبه إلى المجموع، فما أخرجته النسبة أوقع الصلح عليه، ويصح ذلك ويلزم.
المثال السادس والأربعون: إذا أوصى لرجل بخدمة عبده مدة معينة، أو ما عاش، جاز
ذلك. فإذا أراد الوارث أن يشترى من الموصى له خدمة العبد لم يصح، لأن الحق الموصى له به إنما هو فى المنافع، وبيع المنافع لا يجوز.
والحيلة فى الجواز: أن يصالحه الوارث من وصيته على مال معين، فيجوز ذلك. وكذلك لو أوصى له بحمل شاته أو أمته، أو بما يحمل شجره عاماً. فإذا أراد الوارث شراءه منه لم يصح، وله أن يصالحه عليه، فإن الصلح - وإن كان فيه شائبة من البيع - فهو أوسع منه.
المثال السابع والأربعون: لو شجه رجل، فعفا المشجوج عن الشجة، وما يحدث منها ثم مات منها، لم يلزم الشاج شيئاً، ولو قال: عفوت عن هذه الجراحة، أو الشجة، ولم يقل: وما يحدث منها، فكذلك فى إحدى الروايتين، وفى الأخرى: تضمن بقسطها من الدية. ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، فلا شئ له فى السراية، رواية واحدة. وعند أبى حنيفة له المطالبة بالدية فى ذلك كله، إلا إذا قال: عفوت عنها، وعما يحدث منها.
فالحيلة فى تخلص المعفو عنه: أن يشهد على المجنى عليه: أنه عفا عن هذه الجناية أو الشجة وما يحدث منها، فيتخلص عند الجميع.
المثال الثامن والأربعون: إذا مات وترك زوجة وورثة، فأرادت الزوجة أن يصالحها الورثة عن حقها نظرنا فى التركة، وفى الذى وقع عليه الصلح، فإن كان فى التركة أثمان: ذهب وفضة، فصالحتهم على شئ من الأثمان لم يصح، لإفضائه إلى الربا. لأن صلحها بيع نصيبها منهم. وإن صالحتهم على عرض أو عقار، أو كان فى التركة دراهم، فصالحتهم بدنانير، أو بالعكس جاز. ولا تضر جهالة حقها، لأن عقد الصلح أوسع من البيع كما تقدم.
فإن كان فى التركة ديون لم يصح، لأن بيع الدين من غير الذى هو فى ذمته لا يصح. ويحتمل أن يقول بصحته، كما يصح عن المجهول، وإن لم يصح بنفسه.
فالحيلة فى صلحها عن الدين أيضاً: أن يعجل لها حصتها من الدين، يقرضها الورثة
ذلك، وتوكلهم فى اقتضائه، ثم تصالحهم من الأعيان، على ما اتفقوا عليه، لأنهم إذا أقرضوها حصتها من الدين ثم وكلتهم بقبض حصتها من الدين، فإذا قبضوا حصتها من الدين فقد حصل فى أيديهم بمالها من جنس مالهم عليها فيتقاصان. ويكون عقد الصلح قد وقع على العروض والمتاع خاصة.
فإن لم تطب أنفسهم أن يقرضوها قدر حصتها من الدين، وأحبت تعجيل الصلح صالحتهم عن حقها من المتاع والعروض، دون الديون. وكلما قبض من الدين شئ أخذت حقهاً منه، فإن تعسر ذلك، وشق عليها، وأحبت الخلاص. حاسبوها فى الصلح من الأعيان بأكثر من حقها منها، وأقرت أن الدين حق للورثة دونها، من ثمن متاع باعه الميت لهم.
فإن أرادوا قسمة الدين فى الذمم. فالمشهور: أنه لا يصح لأن الذمم لا تتكافأ، وفيه رواية أخرى تجوز قسمته، وهى الصحيحة. فإن قد تكون مصلحة الورثة والغرماء فى ذلك، وتفاوت الذمم لا يمنع القسمة، فإن التفاوت فى المحل، والمقسوم واحد متماثل، وإن اختلفت محاله. وإذا كان الغرماء كلهم موسرين أو معسرين، أو بعضهم موسراً، وبعضهم معسراً، فأخذ كل من الورثة موسراً ومعسراً، كان هذا عدلاً غير ممتنع وقد تراضوا به فلا وجه لبطلانه، وبالله التوفيق.
المثال التاسع والأربعون: إذا كان لرجل على رجل دين، فقال: تصدق به عنى ففعل لم يبرأ، وكانت الصدقة عن المخرج ودينه باقياً، قاله أصحابنا لأنه لم يتعين، ولأنه لا يكون مبرئا لنفسه بفعله.
قالواً: وطريق الصحة أن يقول: تصدق عنى بكذا، بقدر دينه، ويكون ذلك إقراضاً منه. فإذا فعل ثبت له فى ذمته ذلك القدر، وعليه له مثله، فيتقاصان
وكذلك لو قال له: ضارب بالمال الذى عليك والربح بيننا، لم يصح.
والحيلة فى صحته: أن يقول: أذنت لك فى دفعه إلى ابنك، أو زوجتك وديعة ثم وكلتك فى أخذه والمضاربة به.
والظاهر: أنه لا يحتاج إلى شئ من ذلك. ويكفى قبضه من نفسه لرب الناس. وإذا تصدق عنه بالذى قال، كان عن الآمر. هذا هو الصحيح، وهو تخريج لبعض أصحابنا ولا حاجة به إلى هذه الحيلة، فإذا عينه بالنية تعين، وكان قابضاً من نفسه لموكله، وأى محذور فى ذلك؟.
المثال الخمسون: يجوز استئجار الأجير بطعامه وكسوته عندنا، وكذلك الدابة بعلفها وكذلك المرضعة، وهو مذهب مالك، وقال الشافعى: لا يجوز فيهما، وجوزه أبو حنيفة فى الظئر خاصة. فإذا عقد الإجارة كذلك، ثم خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانها، فيلزمه بأجرة مثله، فالحيلة فى تصحيح ذلك: أن يستأجر بنقد معلوم، يكون بقدر الطعام والكسوة، ثم يشهد عليه أنه وكله فى إنفاق ذلك على نفسه وكسوته، وكذلك فى الدابة.
المثال الحادى والخمسون: يجوز للمستأجر أن يؤجر ما استأجره المؤجر، كما يجوز لغيره. وأبو حنيفة يبطل هذه الإجارة.
فالحيلة فى لزومها: أن يؤجر ذلك لأجنبى غير المؤجر، ثم يؤجره إياها الأجنبى.
المثال الثانى والخمسون: إذا كفل اثنان واحدا، فسلمه أحدهما برئ الآخر، كما لو ضمنا دينا، فقضاه أحدهما، فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم لا يرى ذلك، ويلزم الآخر بتسليمه.
فالحيلة فى خلاصه: أن يكفلا هذا المكفول به، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعاً بريئان، أو يشهدا عليهما أن كل واحد منهما وكيل صاحبه فى دفع المكفول به إلى الطالب، والتبرى إليه منه، فيبرآن على قول الجميع.
المثال الثالث والخمسون: يصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب عندنا، كما يصح ضمان الدرك، فإذا قال: ما أعطيت لفلان فأنا ضامن له، صح ولزمه. وقال الشافعى: لا يصح.
فالحلية فى صحته، لئلا يبطل ذلك حاكم يرى بطلانه: أن يقول: ما أعطيت لفلان من درهم إلى ألف، فأنا ضامن له. فإن ضمنه اثنان وأطلقا جاز، واستويا فى الغرم. فإن ضمناه على أن على أحدهما الثلث، وعلى الآخر الثلثين، جاز ذلك لأن المال إنما يجب على كل منها بالتزامه، فإذا التزماه على هذا الوجه صح. فان أراد أحد الضامنين أن يضمن الآخر ما لزمه من هذا الضمان، فيصير ضامناً، جاز ذلك أيضاً، لأن المال قد ثبت فى ذمة كل واحد منهما، فإذا ضمنه أحدهما جاز كما يجوز فى الأصل.
المثال الرابع والخمسون: إذا اشترك رجلان شركة عنان، فسافر أحدهما بالمال بإذن شريكه، فخاف أن يموت المقيم، فيشترى بالمال بعد موته متاعاً، فيضمن، لأنه قد انتقل إلى الورثة، وبطلت الشركة.
فالحيلة فى تخلصه من ذلك: أن يشهد على شريكه المقيم أن حصته فى المال الذى بينه وبينه لولده الصغار، وقد أوصى إلى شريكه بالتصرف فيه، وأمره أن يشترى بها ما أحب فى حياته وبعد وفاته، فإن كان ولده كباراً أشهد على نفسه أن هذا المال لهم ثم يأمر ولده الكبار هذا الشريك أن يعمل لهم فى مالهم هذا بما يرى، ويشترى لهم ما أحب.
المثال الخامس والخمسون: إذا كان لرجلين على امرأة ألف درهم مثلا، فتزوجها أحدهما على نصيبه فى المال عليها صح النكاح، وبرئت ذمة المرأة من ذلك المقدار، ولم يلزم الزوج أن يضمن لصاحبه شيئاً منه، لأنه لم يقبض شيئاً من نصيبه، ولم يحصل فى ضمانه، فجرى مجرى إبرائها له منه. وبعض الفقهاء يضمنه نصيب شريكه من المهر، ويجعله كالمقبوض، لأنه عاوض عليه بالبضع، فهو كما لو اشترى منها به سلعة، فإنها تكون بينهما، وهاهنا تعذرت مشاركته فى البضع، فيشاركه فى بدله وهو المهر، فكأنها وفته نصيبه من الدين.
وطريق الحيلة فى تخليصه من ذلك: أن يهب لها نصيبه مما عليها، ثم يتزوجها بعد ذلك على خمسمائة فى ذمته، ثم تهب له المرأة مالها عليه من الصداق، فإن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لشريكه شيئاً، لأنه متبرع. فإن خاف أن يهبها أو يبرئها فتغدر به، ولا تتزوج به، فالحيلة له: أن يشهد على إقرارها أنه يستحق عليها ذلك المبلغ، مادامت أجنبية منه، وأنه لا يستحق على زوجته فلانة شيئاً من ذلك المال.
وأكثر ما فيه: أنه يسميها زوجة قبل العقد برئت من الدين. فإن خاف أن لا تبرئه من الصداق، وتطالبه به، ويسقط حقه من المال الذى عليها، فالحيلة له: أن يشهد عليها فى العقد: أنه برئ إليها من الصداق، وأنها لا تستحق المطالبة به.
المثال السادس والخمسون: إذا أراد أن يشترى جارية، وعرض له آخر يريد شراءها. فاستحلف أحدهما صاحبه: أنه إن اشتراها فهى بينه وبينه نصفين، فأراد أن يشتريها وتكون له. تأول فى يمينه: أنه إن اشتراها بنفسه فهى بينه وبينه. فإذا وكل من يشتريها له كانت له وحده.
فإن استحلفه أنه إن ملكها فهو شريكه فيها، بطلت هذه الحيلة، فله أن يأمر من يثق به أن يشتريها لنفسه، ويؤدى هو عنه الثمن. ثم يزوجه إياها. فإذا أراد بيعها استبرأها، ثم أمر ذلك الرجل أن يبيعها ويرجع ثمنها إليه.
المثال السابع والخمسون: إذا كان بينهما عرض من العروض، فاشتراه منهما أجنبى بمائه درهم وقبضه. ثم إن المشترى أراد أن يصالح أحدهما من جميع الثمن على بعضه، على أن يضمن له الدرك من شريكه، حتى يخلصه منه، أو يرد عليه جميع الثمن الذى وقع العقد عليه فقال القاضى: لا يجوز ذلك، لأن الضمان على شريكه إنما يجب بقبضه المال، وذلك لم يوجد، فلا يكون مضمونا عليه.
فالحلية للمشترى: أن يكون بريئا. وإن أدركه درك من شريكه رجع به على الذى صالحه أن يحط الشريك المصالح عن المشترى نصيبه كله من الثمن ثم يدفع المشترى إليه نصيب صاحبه، فصالحه على أنه ضامن لما أدركه من شريكه، حتى يخلصه منه، أو يرد عليه
ما قبضه منه، ويبرئه هو من نصيبه، لأنه إذا أبرأه من نصيبه لم يبق من الدين إلا نصيب صاحبه، فإذا قبضه كان مضمونا عليه، لأنه قبض دين الغير بغير أمره.
المثال الثامن والخمسون: إذا كان عبد بين شريكين موسرين، فأراد كل منهما عتق نصيبه، وأن لا يغرم لشريكه شيئاً.
فالحيلة: أن يوكلا رجلاً فيعتقه عنهما، ويكون ولاؤه بينهما.
المثال التاسع والخمسون: إذا سأله عبده أن يزوجه أمته فحلف أن لا يفعل، ثم بداله فى تزويجه.
فالحيلة: أن يبيع العبد والأمة لمن يثق به، ثم يزوجه المشترى، فإذا تم العقد أقاله فى البيع.
ولا بأس هذه الحيلة، فإنها لا تتضمن إبطال حق، ولا تحليل محرم. وذلك غير ممتنع على أصلنا، لأن الصفة، وهى عقد النكاح قد وجدت فى حال زوال ملكه. فلا يتعلق بها حنث، ولا يحنث أيضاً باستدامة التزويج بعد ملكهما. لأن التزويج عبارة عن العقد، وقد انقضى، وإنما بقى حكمه. ولهذا لو حلف لا يتزوج فاستدام التزويج. لم يحنث، وهذا بخلاف ما إذا حلف على عبده أنه لا يدخل الدار، فباعه. ودخلها ثم ملكه. فإن دخلها حنث، لأنه ابتدأ الدخول واليمين باقية، ولو دخلها فى حال زوال ملكه وهو داخل فيها حنث، لأن الدخول الأول عبارة عن الكون وذلك موجود بعد الملك الثانى فيحنث به، كما لو كان موجودا فى الملك الأول.
وقد قال أحمد فى رواية مهنا، فى رجل قال لامرأته: أنت طالق إن رهنت كذا وكذا. فإذا هى قد رهنته قبل يمينه، فقال: أخاف أن يكون حنث.
قال القاضى: وهذا محمول على أنه قال إن كنت رهنته. وهذا تأويل منه لكلام أحمد: فظاهر كلامه أنه جعل استدامة الرهن بمنزلة ابتدائه، كالدخول.
المثال الستون: إذا كان له عليه مال، فمرض المستحق وأراد أن يبرئه منه، وهو يخرج من ثلثه. فخاف أن تكتم الورثة ماله، ويقولوا: لم يدع إلا الدين الذى على هذا.
فالحلية فى خلاصه: أن يخرج المريض من ماله بقدر الدين الذى على غريمه، فيملكه إياه، ثم يستوفيه منه، ويشهد على ذلك، وكذلك إذا أراد المريض أن يعتق عبداً، وله مال يخرج من ثلثه، ويملكه ماله، فخاف أن يقول الورثة: لم يخلف الميت شيئاً غير هذا العبد وماله.
فالحيلة: أن يبيع المريض العبد من رجل يثق به، ويقبض الثمن، فيهبه للمشترى ثم يعتقه المشترى. فإن كان على الميت دين وله وفاء وفضل يخرج العبد من ثلثه فخاف المريض أن يغيب الورثة ماله، ثم يقولوا: أعتق العبد ولا مال له غيره، فلا نجيز له ما صنع من ذلك.
فالحيلة فيه: أن يبيع العبد من نفسه، ويقبض الثمن منه بمحضر من الشهود. ثم يهب المريض للعبد ما قبض منه فى السر، فيأمن حينئذ من اعتراض الورثة، فإن لم يكن للعبد مال يشترى به نفسه، وهبه مالا فى السر، وأقبضه إياه، فيشترى به العبد نفسه من سيده. فإن لم يرد السيد عتقه، وأراد بيعه من بعض ورثته بمال على المريض ليست له به بينة.
فالحيلة فى ذلك: أن يقبض وارثه ماله فى السر، ثم يبيعه العبد ويشهد له على ذلك، ويقبض الثمن بمحضر من الشهود، فيتخلص من اعتراض الورثة.
المثال الحادى والستون: إذا أوصى إلى رجل، فخاف أن لا يقبل، فقال: إن لم يقبل فلان وصيتى فهى لفلان. صح ذلك بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الصحيحة الصريحة، التى لا تجوز مخالفتها حيث علق الإمارة بالشرط. فتعليق الوصية أولى، لأنه يستفيد بالإمارة أكثر مما يستفيد بالوصية. وبعض الفقهاء يبطل ذلك.
فالحيلة فى ذلك: أن يشهد المريض أنهما جميعاً وصياه، فإن لم يقبل أحدهما، وقبل الآخر، فالذى قبل منهما وصى وحده. فإن قبلا جميعا، فلكل واحد منهما أن ينفرد بالتصرف عن صاحبه، لأنه رضى بتصرف كل واحد منهما، قاله القاضى:
فإن خاف أن يمنع ذلك من لا يرى انفراد أحدهما بالتصرف، ويقول: قد شرك بينهما وجعلهما بمنزلة وصى واحد.
فالحيلة فى الجواز: أن يقول: أو صيت إليهما على الاجتماع والانفراد.
المثال الثانى والستون: إذا تصرف الوصى وباع واشترى وأنفق على اليتيم. فللحاكم أن يحاسبه ويسأله عن وجوه ذلك، ولا يمنعه من محاسبته كونه أمينا، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حاسب عماله، كما ثبت فى صحيح البخارى:"أنّهُ بَعَثَ ابْنَ الُّلتْبِيَّةِ عَامِلاً عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ".
فإن أراد الوصى أن يتخلص من ذلك.
فالحيلة له: أن يجعل غيره هو الذى يتولى بيع التركة، وقبض الدين والإنفاق، ولا يشهد على نفسه بوصول شئ من ذلك إليه، فإذا سأله الحاكم، قال: لم يصل إلى شئ من التركة، ولا تصرفت فيها. فإن كانت التركة قد بيعت بأمره وقبض ثمنها بأمره، وصرف بأمره. فحلفه الحاكم إنه لم يقبض، ولم يوكل من قبض وتصرف وأنفق. فإن كان محسنا قد وضع التركة موضعها ولم يخن، وسعه أن يتأول فى يمينه. وإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله.
المثال الثالث والستون: يصح وقف الإنسان على نفسه، على أصح الروايتين، ويجوز اشتراط النظر لنفسه، ويجوز أن يستثنى الإنفاق منه على نفسه ما عاش، أو على أهله. وغيرنا ينازعنا فى ذلك، فإذا خاف من حاكم يبطل الوقف على هذا الوجه.
فالحيلة له: أن يملكه لولده أو زوجته، أو أجنبى يقفه عليه، ويشترط له النظر فيه.
وأن يقدم على غيره من الموقوف عليهم بغَلَّته، أو بالإنفاق عليه، فيصح حينئذ، ولا يبقى للاعتراض عليه سبيل.
المثال الرابع والستون: إذا اشترى جارية وقبضها، فوجد بها عيبا ولم يكن نقد ثمنها، فأراد ردها. فصالحه البائع على أن يأخذ البائع الجارية بأقل من الثمن الذى اشتراها به. فقال القاضى: لا يجوز ذلك، لأن هذا الصلح فى معنى البيع، وبيع المبيع من بائعه بأقل من ثمنه لا يجوز، لأنه ذريعة إلى الربا، وهو كمسألة العينة، فإن كان قد حدث بالجارية عيب عند المشترى جاز ذلك، لأن مقدار الحط يكون بإزاء العيب الذى حدث عند المشترى، فلا يؤدى إلى مسألة العينة.
والحيلة فى جواز ذلك، فى الصورة الأولى على وجه لا يشبه العينة: أن يخرج الجارية من ملكه، فيبيعها لرجل بالثمن الذى يأخذها به البائع، فيصالح الذى فى يده الجارية البائع على أن يقبلها بدون الثمن الذى وقع عليه العقد، ويجعل هذا الثمن الذى يأخذ به الجارية قضاء عن مشترى الجارية، لأن المشترى الثانى متى صالح البائع على أن يقبل الجارية بدون الثمن الذى اشتريت به، فهو عقد جرى بينهما مبتدأ، من غير بناء أحد العقدين على الآخر، فإذا اشتراها البائع من هذا الثانى حصل ثمنها فى ذمته له، وله هو على المشترى الأول ثمنها، فإذا طالبه البائع بالثمن أحاله على المشترى الأول، فيتقاصان.
المثال الخامس والستون: الضمان لا تبرأ ذمة المضمون عنه بمجرده، حيا كان المضمون عنه أو ميتا.
وفيه رواية أخرى: أنه يبرئ ذمة الميت دون الحى، وهى مذهب أبى حنيفة.
وفيه قول ثالث: أنه يبرئ ذمة الحى والميت، كالحوالة، وهو مذهب داود.
فإذا أراد الضامن أن يكون مراجعه مبرئاً لذمة المضمون عنه،
فالحيلة فى ذلك: أن يقول: لا أضمن دينه إلا بشرط أن تبرئه منه، فمتى أبرأته منه فأنا ضامن له، ويصح تعليق الضمان بالشرط فى أقوى الوجهين، فإذا أبرأه صحت البراءة، ولزم الدين الضامن وحده. فإن خاف رب الدين أن يرفعه إلى حاكم لا يرى صحة الضمان المعلق فيبطل دينه من ذمة الأصيل بالإبراء، ولا يثبت له فى ذمة الضامن.
فالحيلة له: أن يكتب ضمانه ضماناً مطلقاً، ويشهد عليه به من غير شرط، بعد إقراره ببراءة الأصيل، فيحصل مقصودهما.
المثال السادس والستون: الحوالة تنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه، فلا يملك مطالبة المحيل بعد ذلك إلا فى صورة واحدة، وهى: أن يشترط ملاءة المحال عليه فيتبين مفلساً.
وعند أبى حنيفة: إذا قرر المال على المحال عليه [بأن جحده حقه، إذ قرار المحال على المحال عليه] . فإن جحده حقه وحلف عليه أو مات مفلساً رجع على المحيل.
وعند مالك: إن ظن ملاءته، فبان مفلساً، رجع وإن طرأ عليه الفلس لم يكن له الرجوع.
فإذا أراد صاحب الحق التوثق لنفسه، وأنه إن تقرر ماله على المحال عليه رجع على المحيل.
فالحيلة له فى ذلك: أن يحتال حوالة قبض لا حوالة استيفاء. فيقول للمحيل: أحلنى على غريمك أن أقبض لك ما عليه من الدين، فيجيبه إلى ذلك. فما قبضه منه كان على ملك المحيل فيأذن له فى استيفائه. فإن خاف المحيل أن يهلك هذا المال فى يد القابض ولا يغرمه لأنه وكيل فى قبضه.
فالحيلة أن يقول له: ما قبضته فهو قرض فى ذمتك، فيثبت فى ذمته نظير ماله عليه، فيتقاصان.
فالحوالة ثلاثة أنواع: حوالة قبض محض، فهى وكالة، وحوالة استيفاء، وهى التى تنقل الحق، وحوالة إقراض.
فالأولى لا تثبت المقبوض فى ذمة المحال، والثانية تجعل حقه فى ذمة المحال عليه، والثالثة تثبت المأخوذ فى ذمته بحكم الاقتراض.
المثال السابع والستون: إذا ضمن الدين ضامن فلمستحقه مطالبة أيهما شاء.
وعن مالك روايتان، إحداهما: كذلك. والثانية: أنه ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر مطالبة الأصيل.
فإن أراد الضامن أن يضمن على هذا الوجه فالحيلة أن يقول: إن تعذر مالك قبله فأنا ضامن له. ويصح تعليق الضمان على الشرط على الأصح.
فإن أراد أن يصحح ذلك على كل قول، ويأمن رفعه إلى من يرى بطلان ذلك.
فالحيلة فيه: أن يقول: ضمنت لك ما يتقرر لك على فلان، أو يعجز عن أدائه، فيصح ذلك، ولا يتمكن من مطالبته إلا إذا تقرر المال على الأصيل، أو عجز عنه.
المثال الثامن والستون: إذا بذت عليه امرأته، فقال: الطلاق يلزمنى منك لا تقولين لى شيئاً إلا قلت لك مثله، فقالت: أنت طالق ثلاثاً، فقال بعضهم: يقول لها: أنت طالق ثلاثاً بفتح التاء، ولا تطلق، لأن الخطاب لا يصلح لها، وهذا ضعيف جداً، لأن قوله: أنت طالق إما أن يعنيها به، أو يعنى غيرها، فإن لم يعنها لم يكن قد قال لها مثل ما قالت بل يكون القول لغيرها فلا يبر به وإن عناها به طلقت للمواجهة وفتح لتاء لا يمنع صحة الخطاب، والمعنى: أنت أيها الشخص، أو الإنسان.
ثم ما يقول هذا القائل: إذا قالت له: فعل الله بك كذا، فقال لها: فعل الله بك وفتح الكاف، هل يكون باراً فى يمينه بذلك؟ فإن قال: لا يبر لزمه مثله فى الطلاق وإن قال: يبر، كان قائلا لها مثل ذلك فيكون مطلقاً لها. وأجود من هذا، أن يكون قوله على التراخى، ما لم يقيده بالفور، بلفظه أو نيته.
وقالت طائفة: يقول لها: أنت طالق ثلاثاً، إن لم أفعل كذا وكذا، أو إن فعلت لما لا تقدر هى عليه، فيكون قد قال لها مثل ما قالت، وزاد عليه، وفى هذا ضعف لا يخفى، لأن هذه الزيادة تنقص الكلام، فهى زيادة فى اللفظ ونقصان فى المعنى، فإنه إذا علق الطلاق بشرط خرج من التنجيز إلى التعليق، وصار كله كلاماً واحدا، وهى لم تعلق كلامها، وإنما نجزته. فالمماثلة تقتضى تنجيزا مثله.
وأجود من هذا كله أن يقال: لا يدخل هذا الكلام الذى صدر منها فى يمينه، لأنه لم يرده قطعاً، ولا خطر بباله، فيمينه لم يتناوله، فهو غير محلوف عليه بلا شك، واللفظ العام يختص بالنية والعرف، والعرف فى مثل هذا لا يدخل فيه قولها له ذلك، والأيمان يرجع فيها إلى العرف والنية والسبب، وهذا مطرد ظاهر على أصول مالك وأحمد، فى اعتبارهم
عرف الحالف ونيته وسبب يمينه، والله أعلم.
المثال التاسع والستون: يجوز أن يستأجر الشاة والبقرة ونحوهما مدة معلومة للبنها. ويجوز أن يستأجرها لذلك بعلفها وبدراهم مسماة، والعلف عليه، هذا مذهب مالك، وخالفه الباقون.
وقوله هو الصحيح، واختاره شيخنا. لأن الحاجة تدعو إليه، ولأنه كاستئجار الظئر للبنها مدة، ولأن اللبن وإن كان عينا فهو كالمنافع فى استخلافه وحدوثه شيئاً بعد شئ ولأن إجارة الأرض لما نبت فيها من الكلأ والشوك جائزة، وهو عين، ولأن اللبن حصل بعلفه وخدمته، فهو كحصول المغل ببذره وخدمته، ولا فرق بينهما، فإن تولد اللبن من العلف كتولد المغل من البذر، فهذا من أصح القياس.
وأيضاً فإنه يجوز أن يقفها، فينتفع الموقوف عليها بلبنها، وحق الواقف إنما هو فى منفعة الموقوف مع بقاء عينه.
وأيضاً فإنه يجوز أن يمنحها غيره مدة معلومة لأجل لبنها. وهى باقية على ملك المانح. فتجرى منحتها مجرى إعارتها، والعارية إباحة المنافع، فإذا كان اللبن يجرى مجرى المنفعة فى الوقف والعارية، جرى مجراها فى الإجارة.
وأيضاً فإن الله سبحانه وتعالى قال: {فَإِنْ أرْضعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
فسمى ما تأخذه المرضعة فى مقابلة اللبن أجرا، ولم يسمه ثمنا.
وأيضاً فيجوز أن يستأجر بئرا مدة معلومة لمائها، والماء لم يحصل بعمله، فلأن يجوز استئجار الشاة للبنها الحاصل بعلفه والقيام عليها أولى.
وأيضاً: فإنه يجوز أن يستأجر بركة يعشش فيها السمك لأجله، فهذا أولى بالجواز، لأنه معلوم بالعرف. وهو حاصل بعلفه والقيام على الحيوان.
وقياس المنع على تحريم بيع اللبن فى الضرع قياس فإن ذاك بيع مجهول لا يعرف قدره، وما يتحصل منه، وهو بيع معدوم، فلا يجوز. والإجارة أوسع من البيع ولهذا يجوز على المنافع المعدومة المستخلفة شيئاً بعد شئ، فاللبن فى ذلك كالمنفعة سواء وإن كان عينا، فهذا القول هو الصحيح.
فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يبطل هذا العقد.
فالحيلة فى لزومه: أن يؤجره الحيوان مدة بدراهم مسماة، ثم يأذن له فى علفه بها، ويبيحه اللبن.
وهذه الحيلة تتأتى فى إجارة البقرة، والناقة، والجاموس، إذ يمكن الحرث عليها وركوبها، وأما الشاة فلا يراد منها إلا الدر والنسل، فلا تتهيأ الإجارة على منفعتها، فالطريق فى ذلك: أن يستأجرها لرضاع سخلة له مدة معلومة، ويوكله فى النفقة عليها بأجرتها، أو ببعضها ويبيحه اللبن.
المثال السبعون: إذا دفع إليه ثوبه وقال: بعه بعشرة، فما زاد فلك. فنص أحمد على صحته، تبعاً لعبد الله بن عباس، ووافقه إسحاق، ومنعه أكثرهم.
ووجه الخلاف. أن فى هذا العقد شائبة الوكالة والإجارة والمضاربة، فمن رجح جانب الوكالة صحح العقد، ومن رجح جانب الإجازة أو المضاربة أبطله، لأن الأجرة والربح الذى جعل له مجهول.
والصحيح: الجواز لأن العشرة تجرى مجرى رأس المال فى المضاربة، وما زاد فهو كالربح، فإذا جعله كله له، كان بمنزلة الإبضاع، إذا دفع إليه مالاً يضارب به، وقال: ما ربحت فهو لك، فليس العقد من باب الإجارات، بل هو بالمشاركات أشبه. فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلانه.
فالحيلة فى ذلك: أن يقول: وكلتك فى بيعه بعشرة، فإن بعته بأكثر فلا حق لى فى الزيادة، فيصح هذا. وتكون الزيادة للوكيل.
المثال الحادى والسبعون: قال الإمام أحمد، فى رواية مهنا:"لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بسدس ما يخرج منه، وهو أحب إلى من المقاطعة" يعنى أن يقاطعه على كيل معين، أو دراهم أو عروض.
وكذلك نص فى رواية الأثرم وغيره، فى رجل دفع دابته إلى آخر ليعمل عليها، وما رزق الله بينهما نصفين:"أن ذلك جائز".
وقال أحمد أيضاً: "لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع"، لحديث جابر: "أَنَّ النَّبَّى صلّى الله
تعالى عليه وآله وسلم أَعْطَى خَيْبَرَ عَلَى الشّطْرِ".
ونقل عنه أبو داود فيمن يعطى فرسه على النصف من الغنيمة: "أرجو أن لا يكون به بأس".
وقال فى رواية إسحاق بن إبراهيم: "إذا كان على النصف والربع فهو جائز".
ونقل عنه أحمد بن سعيد فيمن دفع عبده إلى رجل ليكتسب عليه ويكون له ثلث الكسب أو ربعه: "أنه جائز".
ونقل عنه حرب فيمن دفع ثوبا إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها، وله نصف ربحها بحق عمله فهو جائز. ونص فى رجل دفع غزله إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه: أنه جائز.
وقال فى "المغنى": وعلى قياس قول أحمد: يجوز أن يعطى الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها.
وحكى عن ابن عقيل المنع منه. واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"نَهَى عَنْ قَفِيزِ الطّحَّانِ".
قال الشيخ: وهذا الحديث لا نعرفه ولا ثبت عندنا صحته. وقياس قول أحمد: جوازه لما ذكرنا عنه من المسائل.
وكذلك لو دفع شبكته إلى صياد ليصيد بها، والسمك بينهما نصفين. قال فى "المغنى": فقياس قول أحمد صحة ذلك، والسمك بينهما شركة. وقال ابن عقيل: السمك للصائد، ولصاحب الشبكة أجرة مثلها.
ولو كان له على رجل مال، فقال لرجل: اقبضه منه، ولك ربعه، أو ثلثه، أو ما اقتضيته منه فلك منه الربع أو الثلث، فهو جائز
وكذلك لو غصبت منه عين، فقال لرجل: خلصها لى، ولك نصفها، جاز أيضاً.
ولو غرق متاعه فى البحر، فقال لرجل: ما خلصته منه، فلك نصفه، أو ربعه، جاز.
ولو أبق عبده، فقال لرجل، أو قال: من رده على فله فيه نصفه، أو ربعه، أو شردت دابته فقال ذلك، صح ذلك كله.
قلت: وكذلك يجوز أن يقول له: انقض لى هذا الزيتون بالسدس، أو الربع. أو اعصره بالثلث، أو الربع، أو اكسر هذا الحطب بالربع، أو اخبز هذا العجين بالربع، وما أشبه ذلك. فكل هذا جائز على نصوصه وأصوله، وهو أحب من المقاطعة فى بعض الصور.
ولم يجوز الشافعى وأبو حنيفة شيئاً من ذلك.
وأما مالك فقال أصحابه عنه: إذا قال: احصد زرعى ولك نصفه، فذلك جائز، وإن قال: احصد اليوم، فما حصدت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وفى العينية أنه يجوز.
فإن قال: القط زيتونى فما لقطت فلك نصفه، فهو جائز عند ابن القاسم، وروى سحنون أنه لا يجوز. ولو قال: انقض زيتونى، فما نقضت فلك نصفه، لم يجز عند ابن القاسم وأجازه عبد الملك بن حبيب.
فإن قال: اقبض لى المائة دينار التى على فلان، ولك عشرها، جاز عند ابن القاسم وابن وهب. وعند أشهب لا يجوز.
فلو قال: اقبض دينى الذى على فلان، ولك من كل عشرة واحد، ولم يبين قدر الدين، لم يجز عند ابن وهب. وأجازه ابن القاسم وأصبغ.
والذين منعوا الجواز فى ذلك جعلوه إجارة، والأجر فيها مجهول، والصحيح: أن هذا ليس من باب الإجارات، بل من باب المشاركات، وقد نص أحمد على ذلك.
فاحتج على جواز دفع الثوب بالثلث والربع بحديث خيبر. وقد دلت السنة على جواز ذلك، كما فى المسند والسنن عن رويفع بن ثابت، قال: "أنْ كانَ أَحَدُنَا فى زَمَنِ رَسُولِ الله
صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلمَ لَيَأْخُذُ نِضْوَ أَخِيهِ عَلَى أنّ لَهُ النِّصْفَ مِمَّا يَغْنَمُ وَلَنَا النِّصفُ، وَإَنْ كانَ أَحَدُنَا لَيَطيرُ لَهُ النَّصْلُ وَالرَّيشُ وللآخَرِ القِدْح".
وأصل هذا كله: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دفع أرض خيبر إلى اليهود يعملونها بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. وأجمع المسلمون على جواز المضاربة. وأنها دفع ماله لمن يعمل عليه بجزء من ربحه. فكل عين تنمى فائدتها من العمل عليها جاز لصاحبها دفعها لمن يعمل بجزء من ربحها.
فهذا محض القياس، وموجب الأدلة. وليس مع المانعين حجة، سوى ظنهم أن هذا من باب الإجارات بعوض مجهول. وبهذا أبطلوا المساقاة والمزارعة.
واستثنى قوم بعض صورها، وقالوا: المضاربة على خلاف القياس، لظنهم أنها إجارة بعوض عنده لم يعلم قدره.
وأحمد رحمه الله عنده هذا الباب كله أطيب وأحل من المؤاجرة، لأنه فى الإجارة يحصل
على سلامة العوض قطعاً، والمستأجر متردد بين سلامة العوض وهلاكه فهو على خطر. وقاعدة العدل فى المعاوضات: أن يستوى المتعاقدان فى الرجاء والخوف. وهذا حاصل فى المزارعة، والمساقاة، والمضاربة، وسائر هذه الصور الملحقة بذلك، فإن المنفعة إن سلمت سلمت لهما، وإن تلفت عليهما، وهذا من أحسن العدل.
واحتج المتأخرون من المانعين بحديث أبى سعيد الذى رواه الدارقطنى:
"نُهِى عَنْ قَفِيزَ الطّحَّانِ" وهذا الحديث لا يصح. وسمعت شيخ الإسلام يقول: هو موضوع.
وحمله بعض أصحابنا على أن المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها، لأن ماعداه مجهول، فهو كبيعها إلا قفيزا منها، فأما إذا كانت معلومة القفزان، فقال: اطحن هذه العشرة بقفيز منها، صح حبا ودقيقاً. أما إذا كان حبا فقد استأجره على طحن تسعة أقفزة بقفيز حنطة. وأما إذا كان دقيقاً شاركه فى ذلك على أن العشر للعامل وتسعة الأعشار للآخر، فيصير شريكه بالجزء المسمى.
فإن قيل: فالشركة عندكم لا تصح بالعروض؟
قيل: بل أصح الروايتين صحتها، وإن قلنا بالرواية الأخرى، فإلحاق هذه بالمساقاة والمزارعة أولى بها من إلحاقها بالمضاربة على العروض، لأن المضاربة بالعروض تتضمن التجارة والتصرف فى رقبة المال بإبداله بغيره، بخلاف هذا.
فإن قيل: دفع حبه إلى من يطحنه بجزء منه مطحونا، أو غزله إلى من ينسجه بجزء منه منسوجاً يتضمن محذورين.
أحدهما: أن يكون طحن قدر الأجرة ونسجه مستحقاً على العامل بحكم الإجارة، ومستحقاً له بحكم كونه أجرة، وذلك متناقض. فإن كونه مستحقاً عليه يقتضى مطالبة المستأجر به، وكونه مستحقاً له يقتضى مطالبة المؤجر به.
الثانى: أن يكون بعض المعقود عليه هو العوض نفسه، وذلك ممتنع.
قيل: إنما نشأ هذا من ظن كونه إجارة، وقد بينا أنه مشاركة لا إجارة، ولو سلم أنه
من باب المؤاجرة فلا تناقض فى ذلك، فإن جهة الاستحقاق مختلفة، فإنه مستحق له بغير الجهة التى يستحق بها عليه، فأى محذور فى ذلك؟
وأما كون بعض المعقود عليه يكون عوضاً، فهو إنما عقد على عمله فالمعقود عليه العمل والنفع بجزء من العين، وهذا أمر متصور شرعاً وحساً.
فظهر أن صحة هذا الباب هى مقتضى النص والقياس، وبالله التوفيق.
وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة لتصحيح ذلك، إلا إذا خيف غدر أحدهما، وإبطاله للعقد، والرجوع إلى أجرة المثل.
فالحيلة فى التخلص من ذلك: أن يدفع إليه ربع الغزل والحب، أو نصفه. ويقول: انسج لى باقيه بهذا القدر، فيصيران شريكين فى الغزل والحب، فإذا تشاركا فيه بعد ذلك صح، وكان بينهما على قدر ما شرطاه.
والعجب أن المانعين جوزوا ذلك على هذا الوجه، وجعلوه مشاركة لا مؤاجرة، فهلا أجازوه من أصله كذلك؟ وهل الاعتبار فى العقود إلا بمقاصدها وحقائقها [ومعانيها] ، دون صورها وألفاظها؟ وبالله التوفيق.
المثال الثانى والسبعون: إذا كان لرجل على رجل دين فتوارى عن غريمه، وله هو دين على آخر. فأراد الغريم أن يقبض دينه من الدين الذى له على ذلك، لم يكن له ذلك إلا بحوالة أو وكالة، وقد توارى عنه غريمه، فيتعذر عليه الحوالة والوكالة.
فالحيلة له فى اقتضاء دينه من ذلك: أن يوكله، فيقول: وكلتك فى اقتضاء دينى الذى على فلان، وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصاً مما لى عليه، وأجزت أمرك فى ذلك. فيقبل الوكيل، ويشهد عليه شهودا، ثم يشهد الوكيل أولئك الشهود، أو غيرهم أن فلاناً وكلنى بقبض ماله على فلان، وأن أجعله قصاصاً بما لفلان على، وأجاز أمرى فى ذلك، وقد قبلت من فلان ما جعل إلى من ذلك، واشهدوا أنى قد جعلت الألف درهم التى لفلان على قصاصاً بالألف التى لفلان موكلى عليه، فتصير الألف قصاصاً، ويتحول ما كان للرجل المتوارى على هذا الوكيل للرجل الذى وكله.
المثال الثالث والسبعون: إذا كان لرجل على رجل مال فغاب الذى عليه المال. وأراد
الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم الحاكم عليه وهو غائب، جاز للحاكم أن يحكم عليه فى حال غيبته مع بقائه على حجته فى أصح المذهبين. وهو قول أحمد فى الصحيح عنه، ومالك، والشافعى. وعند أبى حنيفة لا يجوز الحكم على الغائب. فإذا لم يكن فى الناحية إلا حاكم يرى هذا القول ويخشى صاحب الحق من ضياع حقه.
فالحيلة له: أن يجئ برجل، فيضمن لهذا الرجل الذى له المال جميع ماله على الرجل الغائب، ويسميه وينسبه، ويشهد على ذلك، ثم يقدمه إلى القاضى، فيقر الضامن بالضمان، ويقول: قد ضمنت له ماله على فلان بن فلان، ولا أدرى كم له عليه. ولا أدرى: له عليه مال، أم لا؟ فإن القاضى يكلف المضمون له أن يحضر بينته على ذلك بماله على فلان فإذا أحضر البينة قبلها القاضى بمحضر من هذا الضمين، وحكم على الغائب، وعلى هذا الضامن بالمال بموجب ضمانه، ويجعل القاضى هذا الضمين بالمال خصماً على الغائب، لأنه قد ضمن ما عليه. ولا يجوز الحكم على هذا الضمين حتى يحكم على المضمون عنه. ثم يحكم بذلك على الضمين لأنه فرعه، فما لم يثبت المال على الأصل لا يثبت على الفرع.
المثال الرابع والسبعون: إذا غصبه متاعاً له، ويقر له فى السر بعينه. ويجحده فى العلانية، ويريد تخليص ماله منه.
فالحيلة له: أن يبيعه ممن يثق به، ويشهد له على ذلك ببينة عادلة. ثم يبيعه بعد ذلك من الغاصب. ويكون بين البيعين من المدة ما يعرفه الشهود ليوقنوا بذلك عند الأداء، فإذا أشهد الغاصب بالبيع فى الوقت المعين جاء الذى باع منه المغصوب قبله ببينته فيحكم له لسبق بينته فيرجع الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذى دفعه إليه فُيسلَّم العين للمغصوب منه. وكذلك لو أقربها المغصوب منه لرجل يثق به، ثم باعها بعد ذلك للغاصب، ثم جاء المقر له فأقام بينة على الإقرار السابق.
فإن قيل: فلو خاف الغاصب من هذه الحيلة، وقال للمغصوب منه: لست أبتاع منك
هذه السلعة، خشية هذا الصنيع، ولكن آمر من يبتاعها منك لى، فأراد المغصوب منه حيلة ترجع إليه بها سلعته.
فالحيلة: أن يبيعها أولا ممن يثق به، ولا يكتب فى كتاب هذا الشراء الثانى قبض المشترى، فإنه إذا أقر وكيل الغاصب بقبض العين من المغصوب منه، ثم جاء الرجل الذى كتب له المغصوب منه الشراء، كان أولى بها من وكيل الغاصب لأن وقت شرائه أقدم، وإقراره بقبضها وتسليمها إلى الرجل المشترى لها أولا أولى، ويرجع وكيل الغاصب على المغصوب منه بالثمن الذى دفعه إليه.
المثال الخامس والسبعون: إذا أقرضه مالاً وأجله. لزم تأجيله على أصح المذهبين، وهو مذهب مالك، وقول فى مذهب أحمد. والمنصوص عنه: أنه لا يتأجل، كما هو قول الشافعى، وأبى حنيفة، ويدل على التأجيل قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَالَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3] وقوله {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] .
وقوله صَلى اللهُ تعالى عَلَيه وسلم: "المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهمْ" وقوله: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ" وقوله: "يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لواء عِنْدَ اُسْتِهِ يَوْمَ القيامة بِقَدْرِ غُدْرَتِهِ" وقوله: "لا تَغْدِرُوا" وقوله: "إنّ الْغَدْر لا يصْلُحُ". وقوله فى صفة المنافق: "إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ".
وإخلاف الوعد مما فطر الله العباد على ذمه واستقباحه، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح، وعلى هذا فلا حاجة إلى التحيل على لزوم التأجيل.
وعلى القول الأخر: قد يحتاج إلى حيلة يلزم بها التأجيل.
فالحيلة فيه: أن يحيل المستقرض صاحب المال بماله إلى سنة أو نحوها، بقدر مدة التأجيل، فيكون المال على المحتال عليه إلى ذلك الأجل ولا يكون للطالب، ولا لورثته على المستقرض سبيل، ولا على المحال عليه إلى الأجل. فإن الحوالة تنقل الحق.
ولو أحال المحال عليه صاحب المال على رجل آخر إلى ذلك الأجل جازت الحوالة، فإن مات المحال عليه الأول، لم يكن لصاحب المال على تركته سبيل، ولا على المحال عليه الثانى.
المثال السادس والسبعون: إذا رهنه دارا أو سلعة على دين، وليس عنده من يشهد على قدر الدين ويكتبه.
فالقول قول المرتهن فى قدره، ما لم يَدَّع أكثر من قيمته هذا قول مالك: وقال الشافعى، وأبو حنيفة، وأحمد: القول قول الراهن، وقول مالك هو الراجح. وهو اختيار شيخنا، لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتاب يشهد بقدر الحق، والشهود التى تشهد به، وقائما مقامه. فلو لم يقبل قول المرتهن فى ذلك بطلت الوثيقة من الرهن، وادعى المرتهن أنه رهن على أقل شئ، فلم يكن فى الرهن فائدة. والله سبحانه وتعالى قد قال فى آية المداينة [البقرة: 282] التى أرشد بها عباده إلى حفظ حقوق بعضهم على بعض خشية ضياعها بالجحود، أو النسيان، فأرشدهم إلى حفظها بالكتاب وأكد ذلك بأن أمرهم بكتابة الدين، وأمر الكاتب أن يكتب، ثم أكد ذلك بأن نهاه أن يأبى أن يكتب. ثم أعاد الأمر بأن يكتب مرة أخرى، وأمر من عليه الحق أن يملل، ويتقى ربه فلا يبخس من الحق شيئاً. فإن تعذر إملاؤه لسفهه أو صغره أو جنونه، أو عدم استطاعته، فوليه مأمور بالإملاء عنه. فأرشدهم إلى حفظها باستشهاد شهيدين من الرجال أو رجل وامرأتين. فأمرهم بالحفظ بالنصاب التام الذى لا يحتاج صاحب الحق معه إلى يمين، ونهى الشهود أن يأبوا إذا دعوا إلى إقامة الشهادة. ثم أكد ذلك عليهم بنهيهم أن يمتنعوا من كتابة الحقير والجليل من الحقوق، سآمة ومللا. وأخبر أن ذلك أعدل عنده، وأقوم للشهادة. فيتذكرها الشاهد إذا عاين خطه فيقيمها. وفى ذلك تنبيه على أن له أن يقيمها إذا رأى خطه وتيقنه. وإلا لم يكن بالتعليل بقوله {وأقوم للشهادة} [البقرة: 282] فائدة.
وأخبر أن ذلك أقرب إلى اليقين، وعدم الريب. ثم رفع عنهم الجناح بترك الكتابة
إذا كان بيعاً حاضراً فيه التقايض من الجانبين، يأمن به كل واحد من المتبايعين من جحود الآخر ونسيانه. ثم أمرهم مع ذلك بالإشهاد إذا تبايعوا، خشية الجحود وغدر كل واحد منهما بصاحبه فإذا أشهدا على التبايع أمنا ذلك. ثم نهى الكاتب والشهيد عن أن يضارا، إما بأن يمتنعا من الكتابة والشهادة تحملاً وأداء، أو أن يطلبا على ذلك جعلا يضر بصاحب الحق، أو بكتم الشاهد بعض الشهادة، أو يؤخر الكتابة والشهادة تأخيراً يضر بصاحب الحق، أو يمطلاه، ونحو ذلك، أو هو نهى لصاحب الحق أن يضار الكاتب والشهيد، بأن يشغلهما عن ضرورتهما وحوائجهما، أو يكلفهما من ذلك ما يشق عليهما. ثم أخبر أن ذلك فسوق بفاعله. فهذا كله عند القدرة على الكتاب والشهود. ثم ذكر ما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتاب والشهود، وهو السفر فى الغالب، فقال سبحانه:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهَانٌ مَقبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
فدل ذلك دلالة بينة أن الرهان قائمة مقام الكتاب والشهود، شاهدة مخبرة بالحق، كما يخبر به الكتاب والشهود. وهذا، والله أعلم، سر تقييد الرهن بالسفر، لأنه حال يتعذر فيها الكتاب الذى ينطق بالحق غالباً، فقام الرهن مقامه، وناب منابه، وأكد ذلك بكونه مقبوضاً للمرتهن حتى لا يتمكن الراهن من جحده. فلا أحسن من هذه النصيحة، وهذا الإرشاد والتعليم، الذى لو أخذ به الناس لم يضع فى الأكثر حق أحد، ولم يتمكن المبطل من الجحود والنسيان. فهذا حكمه سبحانه المتضمن لمصالح العباد فى معاشهم ومعادهم.
والمقصود: أنه لو لم يقبل قول المرتهن على الراهن فى قدر الدين لم يكن وثيقة ولا
حافظاً لدينه، ولا بدلا من الكتاب الشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته منه على ثمن درهم ونحوه، ومن يجعل القول قول الراهن، فإنه يصدقه على ذلك ويقبل قوله فى رهن الربع والضيعة على هذا القدر. فالذى نعتقده وندين الله به: هو قول أهل المدينة. فإذا أراد الرجل حفظ حقه، وخاف أن يقع التحاكم عند حاكم لا يرى هذا المذهب.
فالحيلة فى قبول قوله: أن يسترهنه المرتهن على قيمته، ويدفع إليه ما اتفقا عليه، ويشهد الراهن أن الباقى من قيمته أمانة عنده، أو قرض فى ذمته يطالبه به متى شاء، فيتمكن كل واحد منهما من أخذ حقه، ويأمن ظلم الآخر له، والله أعلم.
المثال السابع والسبعون: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، وفى يده رهن بالألف، فطالب صاحب الدين الغريم بالألف، وقدمه إلى الحاكم، وقال: لى على هذا ألف درهم، وخاف أن يقول: وله عندى رهن بالألف وهو كذا وكذا. فيقول الغريم: ماله على هذه الألف التى يدعيها، ولا شئ منها، وهذا الذى ادعى أنه لى رهن فى يده هو لى، كما قال، ولكنه ليس برهن، بل وديعة، أو عارية، فيأخذه منه ويبطل حقه.
فالحيلة فى أمنه من ذلك: أن يدعى بالألف، فيسأل الحاكم المطلوب عن المال، فإما أن يقر به، وإما أن ينكره، فإن أقر به وادعى أن له رهنا لزمه المال ودفع الرهن إلى صاحبه، أو بيع فى وفائه. وإن أنكره وقال: ليس له على شئ، ولى عنده تلك العين: إما الدار وإما الدابة. فليقل صاحب الحق للقاضى: سله عن هذا الذى يدعى على: على أى وجه هو عندى؟ أعارية، أم غصب أم وديعة، أم رهن؟ فإن ادعى أنه فى يده على غير وجه الرهن حلف على إبطال دعواه، وكان صادقاً، وإن ادعى أنه فى يده على وجه الرهن، قال للقاضى: سله: على كم هو رهن؟ فإن أقر بقدر الحق أقر له بالعين، وطالب بحقه. وإن جحد بعضه حلف على نفى ما ادعاه، وكان صادقاً.
المثال الثامن والسبعون: إذا باعه سلعة ولم يقبضه إياها، أو أجره دارا ولم يتسلمها، أو زوِّجه ابنته ولم يسلِّمها إليه. ثم ادعى عليه بالثمن، أو الأجرة، أو المهر، فخاف إن أنكر أن يستحلفه، أو يقيم عليه البينة بجريان هذه العقود، وإن أقر لزمه ما ادعى عليه به.
فالحيلة فى تخلصه: أن يقول فى الجواب: إن ادعيت هذا المبلغ من ثمن مبيع لم أقبضه، أو إجارة دار لم تسلمها إلى، أو نكاح امرأة لم تسلمها إلى، أو كانت المرأة هى التى ادَّعت فقال: إن ادعيت هذا المبلغ من مهر أو كسوة أو نفقة من نكاح لم تسلمى إلى نفسك فيه، ولم تمكنينى من استيفاء المعقود عليه فأنا مقر به. وإن كان غير ذلك فلا أقر به. وهذا جواب صحيح يتخلص به.
فإن قيل: فهذا تعليق للإقرار بالشرط، والإقرار لا يصح تعليقه، كما لو قال: إن شاء الله، أو إن شاء زيد، فله على ألف.
قيل: بل يصح تعليق الإقرار بالشرط فى الجملة، كقوله: إذا جاء رأس الشهر فله على ألف، فهذا إقرار صحيح، ولا يلزمه قبل مجيء الشهر، وكذا لو قال: إن شهد فلان على بما ادعاه صدقته، صح التعليق. فإذا شهد به عليه فلان كان مقراً به، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره، كما فى تعليق الطلاق والعتاق والخلع.
وفيه وجه آخر: أنه إن أخر الشرط لم ينفعه، وكان إقراراً ناجزاً. وهذا ضعيف جداً، فإن الكلام بآخره، ولو بطل الشرط الملحق به لبطل الاستثناء والبدل والصفة، فإن ذلك يغير الكلام، ويخرجه من العموم إلى الخصوص. والشرط يخرجه من الإطلاق إلى التقييد، فهو أولى بالصحة.
وقد جاء تأخير الشرط فى القرآن فيما هو أبلغ من الإقرار. كقوله تعالى، حاكيا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه:{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْناَ فِى مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] .
وقد وافق صاحب هذا الوجه على أنه إذا قال: له على ألف درهم إذا جاء رأس الشهر: أنه يصح، وجها واحداً. وهذا يبطل تعليله بأن إلحاق الشرط بعد الخبر كالرجوع عن الإقرار. وعلى هذا فلو قال: له على ألف مؤجلة، صح الإقرار ولزمه الألف مؤجلاً.
وقيل: القول قول خصمه فى حلوله، وشبهة هذا: أنه مقر بالدين مدع لحلوله وهذا ظاهر البطلان، فإنه إنما أقر به على هذه الصفة فلا يجوز إلزامه به مطلقاً، كما لو وصفها بنقد غير النقد الغالب، أو استثنى منها شيئاً.
وكذلك لو قال: له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو أجرة عن دار لم أتسلمها، أو قال: هلك قبل التمكن من قبضه، على أصح الوجهين، لأنه إنما أقر به على هذه الصفة، فلا يجوز إلزامه به مطلقاً.
وكذا لو قال: كان له على ألف فقصيته، لم يلزمه، لأنه إنما أقر به فى الماضى، لا فى الآن، هذا منصوص أحمد، وليس الكلام بمتناقض فى نفسه، فيكون بمنزلة قوله: له على ألف لا تلزمنى. والفرق بين الكلامين أظهر من أن يحتاج إلى بيان.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه مقر بالحق مدع لقضائه، فلا يقبل منه إلا ببينة. وهذا قول الأئمة الثلاثة.
وعنه رواية ثالثة: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب.
وعلى هذا، فإذا قال: له على ألف قضيته إياه. ففيه ثلاث روايات منصوصات.
إحداهن: أنه غير مقر، كما لو قال: كان له على.
والثانية: أنه مقر مدع للقضاء، فلا يقبل منه إلا ببينة.
والثالثة: أنه لا يسمع منه دعوى القضاء، ولو أقام به بينة. بل يكون مكذبا لها، وعلى هذا إذا قال: كان له على، ولم يزد على هذا فهو مقر.
وخرج أنه غير مقر من نصه، على أنه إذا قال: كان له على وقضيته: أنه غير مقر، وهو تخريج فى غاية الصحة، فإن أحمد لم يجعله غير مقر من قوله: وقضيته. فإن هذا دعوى منه للقضاء، وإنما جعله كذلك من جهة أنه أخبر عن الماضى، لا عن الحال، فلا يلزم بكونه فى ذمته فى الحال، وهو لم يقربه.
والمقصود: أن المدعى عليه إذا كان مظلوماً، فالحيلة فى تخلصه، أن يقول: إن ادعيت كذا من جهة كذا وكذا، فأنا غير مقر به، وإن ادعيته من جهة كذا وكذا فأنا مقر به، كان جواباً صحيحاً، ولم يكن مقراً على الإطلاق.
المثال التاسع والسبعون: قال أصحابنا: لا يملك البائع حبس المبيع على قبض ثمنه، بل يجبر على تسليمه إلى المشترى، ثم إن كان الثمن معينا فتشاحنا فى المبتدئ بالتسليم، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما. وإن كان ديناً أجبر البائع على التسليم، ثم يجبر
المشترى على دفع الثمن. فإن كان ماله غائبا عن المجلس حجر عليه فى ماله كله حتى يسلم الثمن. وإن كان غائباً عن البلد فوق مسافة القصر، ثبت للبائع الفسخ. وإن كان دونها، فهل يحجر عليه، أو يثبت للبائع الفسخ؟ على وجهين. وإن كان المشترى معسراً، فللبائع الفسخ والرجوع فى عين ماله. هذا منصوص أحمد، والشافعى.
وللشافعية وجه: أنه تباع السلعة، ويقضى دينه من ثمنها. فإن فضل له فضل أخذه وإن فضل عليه شئ استقر فى ذمته.
والصحيح: أن البائع يملك حبس السلعة على الثمن، حتى يقبضه، هذا هو موجب العدل، وإلا ففى تمكين المشترى من القبض قبل الإقباض إضرار بالبائع، فإنه قد يتلف المبيع بأن يكون طعاماً أو شراباً فيستهلكه، ويتعذر أو يتعسر عليه مطالبته بالثمن فيضر به ولا يزول ضرره إلا بحبس المبيع على ثمنه.
وعلى هذا، لو دفع الثمن إلا درهما منه، فله حبس المبيع كله على باقى الثمن، كما نقول فى الرهن.
وفيه قول آخر: أنه يملك أن يتسلم من المبيع بقدر ما دفع من الثمن، لأن كل جزء من المبيع فى مقابلة كل جزء من أجزاء الثمن، فإذا سلم بعض الثمن ملك تسليم ما يقابله. والفرق بينه وبين الرهن: أن الرهن ليس بعوض من الدين. وإنما هو وثيقة، فملك حبسه إلى أن يستوفى جميع الدين. والأول هو الصحيح، لأنه إنما رضى بإخراج المبيع من ملكه إذا سلم له جميع الثمن، ولم يرض بإخراجه، ولا إخراج شئ منه ببعض الثمن.
فإذا خاف البائع أن يجبر على التسليم، ثم يحال على تقاضى المشترى.
فالحيلة له فى الأمن من ذلك: أن يبيعه العين بشرط أن يرتهنها على ثمنها، ويجوز شرط الرهن والضمين فى عقد البيع، ويصح رهنه قبل قبضه على ثمنه فى أصح الوجهين، كما يصح رهنه قبل القبض بدين آخر غير ثمنه، ومن غير البائع، بل رهنه على ثمنه أولى. فإنه يملك حبسه على الثمن بدون الرهن كما تقدم، فلأن يصح حبسه على الثمن رهنا أولى وأحرى.
وأيضاً. فإذا جاز التصرف فيه بالرهن من الأجنبى قبل القبض، فجوازه من البائع أولى.
لأن المشترى يملك من التصرف مع البائع قبل القبض بالإقالة وغيرها مالا يملكه مع الأجنبى، ومن منع رهنه على ثمنه قبل قبضه لزمه أن يمنع رهنه على غير الثمن، أو من الأجنبى.
فإن قيل: الفرق بينهما: أنه قبل القبض عرضة للتلف، فيكون من ضمان البائع، وكونه رهنا يقتضى أن يكون من ضمان راهنه، فتنافى الأمران، حيث يكون مضمونا له ومضمونا عليه من جهة واحدة. وهذا بخلاف رهنه من أجنبى قبل القبض. فإنه يكون مضمونا عليه للأجنبى ومضمونا له من البائع، ولا تنافى بين أن يكون مضمونا له من شخص، ومضمونا عليه لغيره. كالعين المؤجرة إذا أجرها المستأجر، صارت المنافع مضمونة عليه للمستأجر الثانى، ومضمونة له من المؤجر الأول. وكذلك الثمار إذا بدا صلاحها جاز للمشترى بيعها، وهى مضمونة له على البائع الأول، ومضمونة عليه للمشترى الثانى.
فإن قيل: هذا هو الفرق الذى بنى عليه هذا القول، ولكن يقال: أى محذور فى ذلك، وأن يكون مضمونا له وعليه؟ وقولكم: إن ذلك من جهة واحدة، ليس كذلك، فإنه مضمون له من جهة كونه مشترياً، فهو من ضمان البائع حتى يمكنه من قبضه، ومضموناً عليه من جهة كونه راهنا، فإذا تلف تلف من ضمانه، حتى لو اتحدت الجهة لم يكن فى ذلك محذور بحيث يكون مضموناً له وعليه من جهة واحدة، كما قلتم: إنه يجوز للمستأجر إجارة ما استأجره لمؤجره، فتكون المنافع مضمونة عليه وله، فأى محذرو فى ذلك؟
فإن قيل: فإذا تلف هذا الرهن، فمن ضمان من يكون؟ فالبائع يقول للمشترى: يتلف من ضمانك، لأنه رهن. والمشترى يقول: يتلف من ضمانك، لأنه مبيع لم يقبض، وليس أحدهما بترجيح جانبه أولى من الآخر.
قيل: بل يكون تلفه من ضمان البائع، لأن ضمانه أسبق من ضمان الراهن، لأنه لما باعه كان من ضمانه حتى يسلمه، فحبسه على ثمنه لا يسقط عنه ضمانه، كما لو حبس من غير ارتهان فارتهانه إياه لم يسقط عنه ما لزمه بعقد البيع من التسليم، فإنه إنما احتاط لنفسه
بعقد الرهن، والراهن لم يتعوض عن الرهن بدين يكون الرهن فى مقابلته، فإذا تلف كان قد انتفع بالدين الذى أخذه فى مقابلة الرهن.
فإن أراد الحيلة فى تصحيح الرهن والوثيقة، وأن لا يعرضه للبطلان.
فالحيلة له: أن يقبضه من البائع، تم يرهنه إياه على ثمنه بعد قبضه، فيصح الرهن، ولا يتوالى هناك ضمانان، فإذا تلف بعد ذلك تلف من ضمان المشترى، ولا يسقط الثمن عنه، فإن خاف البائع أن يغيب المشترى، أو يؤخر فكاك الرهن، كتب كتاباً وأشهد فيه شهودا: أنه إن مضى وقت كذا وكذا ولم يفتك الرهن فقد أذن له فى بيعه وقبض دينه من ثمنه، وما بقى منه فهو أمانة فى يده.
فإن خاف أن يبطل هذه الوكالة من يرى أنه لا يصح تعليقها بالشرط. كتب فى الكتاب: أنه قد وكله الآن، ويعلق تصرفه فيه بالبيع بمجيء الوقت فيعلق التصرف، وينجز التوكيل.
فإن خاف أن يعز له الموكل فلا ينفذ تصرفه فيه.
فالحيلة له: أن يوكل وكالة دورية، عند من يرى ذلك، فيقول: وكلما عزلته فقد وكلته، وإن شاء أن يقول: وكلته وكالة لا تقبل العزل، وإن شاء أن يقول: على أنى متى عزلته فلا حق لى عنده ولا دعوى، وما ادّعيته عليه من جهة كذا وكذا فدعواى باطلة، والله أعلم.
المثال الثمانون: إذا ادعت عليه المرأة أنه لم ينفق عليها، ولم يكسها مدة مقامها معه أو سنين كثيرة، والحس والعرف يكذبها، لم يحل للحاكم أن يسمع دعواها، ولا يطالبه برد الجواب، فإن الدعوى إذا ردها الحس والعادة المعلومة كانت كاذبة.
وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُدَّعى دَعْوًى كَاذِبَةًَ لِيَتَكثَّرِ بهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلا قِلةً".
وفى الصحيح أيضاً عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُدّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَا
وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".
فلا يجوز لأحد. حاكم ولا غيره، أن يساعد من ادعى ما يشهد الحس والعرف والعادة أنه ليس له، وأن دعواه كاذبة، ففى سماع دعواه وإحضار المدعى عليه وإحلافه أعظم مساعدة ومعاونة على ما يكذبه الحس والعادة.
ثم كيف يسع الحاكم أن يقبل قول المرأة: أنها هى التى كانت تنفق على نفسها، وتكسو نفسها هذه المدة كلها، مع شهادة العرف والعادة المطردة بكذبها؟ ولا يقبل قول الزوج: أنه هو الذى كان ينفق عليها ويكسوها، مع شهادة العرف والعادة له، ومشاهدة الجيران وغيرهم له: أنه كل وقت يدخل إلى بيته الطعام والشراب والفاكهة، وغير ذلك. فكيف يكذب من معه مثل هذه الشهادة، ويقبل قول من يكذب دعواه ذلك؟ وكيف يمكن الزوج أن يتخلص من مثل هذا البلاء الطويل، والخطب الجليل إلا بأن يشهد كل يوم بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر بكرة وعشية شاهدى عدل على الإنفاق وعلى الكسوة. أو يفرض لها كل شهر دراهم معلومة يقبضها إياها بإشهاد؟. ثم إما أن يمكنها أن تخرج من بيته كل وقت تشترى لها ما يقوم بمصالحها، أو يتصدى هو لخدمتها، وشراء حوائجها، فيكون هو العانى الأسير المملوك، وهى المالكة الحاكمة عليه. وكل هذا ضد ما قصده الشارع من النكاح: من الألفة والمودة، والمعاشرة بالمعروف. فإن هذه المعاشرة من أنكر المعاشرة، وأبعدها من المعروف.
ثم من العجب: أنها إذا ادعت الكسوة والنفقة لمدة مقامها عنده، فقال الزوج للحاكم: سلها: من أين كانت تأكل، وتشرب، وتلبس؟ فيقول الحاكم: لا يلزمها ذلك!!.
فيالله العجب: إذا كانت غير معروفة بالدخول والخروج، ولا يمكن الزوج أحداً يدخل عليها، وهى فى منزله عدد سنين، تأكل، وتشرب، وتلبس، كيف لا يسألها الحاكم: من الذى كان يقوم لك بذلك؟ فمتى سأل الزوج سؤالها وجب عليه ذلك. ومتى تركه كان تاركاً
للحق؟ فإن سمت أجنبيا غير الزوج كلفها الحاكم البينة على ذلك، وإن قالت: أنا الذى كنت أطعم نفسى وأكسوها فى هذه المدة، كان كذبها معلوماً، ولم يقبل قولها، فإن النفقة والكسوة واجبان على الزوج، وهى تدعى أنها هى التى قامت عنه بهذا الواجب وأدته من مالها، وهو ويدعى أنه هو الذى فعل هذا الواجب، وقام به، وأسقطه عن نفسه، ومعه الظاهر والأصل.
أما الظاهر: فلا يمكن عاقلاً أن يكابر فيه، بل هو ظاهر ظهوراً قريبا من القطع بل يقطع به فى حق أكثر الناس.
وأما الأصل: فهو أيضاً من جانب الزوج. فإنهما قد اتفقا على القيام بواجب حقها، وهى تضيف ذلك إلى نفسها، أو إلى أجنبى، وهو يدعى أنه هو الذى قام بهذا الواجب، فقد اتفقا على وصول النفقة والكسوة إليها، وهى تقول: كان ذلك بطريق البدل والنيابة عنك. وهو يقول: لم يكن بطريق النيابة، بل بطريق الأصالة.
وهذا بخلاف ما إذا لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه كالديون والأعيان المضمونة، فإن قبول قول المنكر متوجه ومعه الأصل.
ونظيره: أن يعترف بقضاء الدين ووصوله إليه، ثم ينكر أن يكون وصل إليه من جهة من عليه الدين. فيقول: وصل إلى الدين الذى لى، لكن ليس من جهتك، بل غيرك أداه عنك. فهل يقبل قوله هاهنا أحد؟ ويقال: الأصل بقاء الدين فى ذمته؟.
وهذا نظير مسألة الإنفاق سواء بسواء، فإنها مقرة بوصول النفقة إليها، ولو أنكرتها لكذبها الحس، ومدعية أن وصول ذلك إلى لم يكن من جهتك، فدعواها تخالف الأصل والظاهر جميعاً. ولهذا لا يقبلها مالك، وفقهاء أهل المدينة، وقولهم هو الصواب والحق الذى ندين الله به، ولا نعتقد سواه.
وأى قبيح أعظم من دعوى امرأة على الزوج ترك النفقة والكسوة ستين سنة أو أكثر وهى لا تدخل ولا تخرج، ولا يمكنها أن تعيش عيش الملائكة، فيطالب الزوج بنفقة جميع المدة التى ادعت ترك الإنفاق فيها، وقد تستغرق جميع ماله وداره وثيابه ودوابه. فيؤخذ
ذلك كله منه، ويحبس على الباقى، ويجعل دينا مستقراً فى ذمته، تطالبه به متى شاءت. وهى تعلم كذب دعواها، ووليها يعلم ذلك، وجيرانها والله وملائكته، والذى يساعدها ويخاصم عنها.
ولما علم فقهاء العراق، كأبى حنيفة وأصحابه، ما فى ذلك من الشر والفساد، والضرر الذى لا تأتى به شريعة. أسقطوا النفقة والكسوة عن الزوج بمضى الزمان. فلم يسمعوا دعوى المرأة بذلك. كما يقوله منازعوهم فى نفقة القريب، فنفسوا الخناق عن الأزواج بهذا القول، وأشموهم رائحة الحياة، ونفسوا عنهم بعض الكرب.
ولقد أقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد أن أرسله الله تعالى إلى الناس ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشراً بالمدينة، فما ألزم زوجاً قط بنفقة وكسوة ماضية، ولا ادعتها عنده امرأة. وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وكذلك عصر الصحابة جميعهم، وعصر التابعين، ولا حبس على عهده وعهد أصحابه وتابعيهم رجل واحد على ذلك. ولا على صداق امرأته، مع صيانة نسائهم، ولزومهن بيوتهن، وعدم تبرجهن وتزينهن وخروجهن فى الأسواق والطرقات. والأزواج فى الحبوس، وهن مسيبات يخرجن ويذهبن حيث أردن. فوالله لو رأى هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لشق عليه غاية المشقة ولعظم عليه وعز عليه، ولكان إلى دفعه وإنكاره أسرع منه إلى غيره. وبالجملة فالدعوى، إذا كانت مما تردها العادة والعرف والظاهر لم يجز سماعها.
ومن هاهنا قال أصحاب مالك: إذا كان رجل حائزاً لدار، متصرفا فيها مدة السنين الطويلة، بالبناء والهدم، والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه، ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة، وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقاً ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحو ذلك من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، ولا بينه وبين المتصرف فى الدار قرابة، ولا شركة فى ميراث، وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات وذوو الصهر بينهم فى إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريّاً عن ذلك كله، ثم جاء بعد طول هذه المدة
يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بذلك بينة. فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينة، وتقر الدار بيد حائزها.
قالوا: لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة، غير مسموعة قال تعالى:
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] .
وأوجبت الشريعة الرجوع إليه عند الاختلاف فى الدعاوى وغيرها.
قلت: ومما يدل على ذلك: أن الظن المستفاد من هذا الظاهر أقوى بكثير من الظن المستفاد من شاهدين، أو شاهد ويمين، أو مجرد النكول، أو الرد.
وأيضاً، فإن البينة على المدعى، والبينة هى كل ما يبين الحق، والعرف والعادة والظاهر القوى الذى إن لم يقطع به فهو أقرب إلى القطع، يدل على صدق الزوج، وكذب المرأة فى إمساكها عن كسوتها والإنفاق عليها مدة سنين متطاولة، ولا يدخل عليها أحد، ولا هى ممن تخرج تشترى لها ما تأكل وتلبس.
فالشريعة جاءت بما يعرف لا بما ينكر، وقد أخبر الله سبحانه أن للزوجة مثل الذى عليها بالمعروف، وليس من المعروف إلزام الزوج بنفقة ستين سنة وكسوتها، واجتياح ماله كله، وسلبه نعمة الله عليه، وجعله مسكينا ذا متربة، وجعله أسيراً لها، ينافى ما ادعت به، بل هذا من أنكر المنكر، ومما يراه المسلمون، بل وغير المسلمين، قبيحاً.
وأيضاً: فالرجل له ولاية الإنفاق على زوجته، كما له ولاية حبسها ومنعها من الخروج من بيته، فالشارع جعل إليه ذلك، وأمره أن يقوم على المرأة ولا يؤتها ماله بل يرزقها ويكسوها فيه، وجعلها الله سبحانه فى ذلك بمنزلة الصغير والمجنون مع وليه، كما قال تعالى:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] .
قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذى خولك الله وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك فى كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم. فالسفهاء هم النساء والصبيان وقد جعل الله سبحانه الأزواج قوامين عليهم، كما جعل ولى الطفل قواماً عليه والقوام على غيره أمين عليه. ومن قبل قول الزوجة أو الطفل بعد
البلوغ فى عدم إيصال النفقة إليهما، فقد جعلهما قوامين على الأزواج والأولياء، ولو لم يقبل قول الزوج لم يكن قواماً على المرأة. فإن المرأة إذا كانت غريما مقبول القول دون الزوج، كانت هى القوامة.
وبالجملة فللرجل على امرأته ولاية، حتى فى مالها، فإن له أن يمنعها من التبرع به لأنه إنما بذل لها المهر لمالها ونفسها، فليس لها أن تتصرف فى ذلك بما يمنع الزوج من كمال استمتاعه، وقد سوى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بين نفقة الزوجات، ونفقة المماليك، وجعل المرأة عانية عند الزوج، والعانى: هو الأسير، وهو نوع من الرق، فقال فى المرأة:"تُطْعِمُهَا مِمَّا تَأْكُلُ، وَتَكْسُوهَا مِمَّا تَلبَسُ".
وكذلك قال فى الرقيق سواء، فهو أمير على نفقة امرأته ورقيقه، وأولاده، بحكم قيامه عليهم، ولم يوجب الله سبحانه على الأزواج تمليك النساء طعاماً وإداما، ولا دراهم أصلا، وإنما أوجب إطعامهن وكسوتهن بالمعروف، وإيجاب التمليك مما لم يدل عليه كتاب ولا سنة، ولا إجماع.
وكذلك فرض النفقة وتقديرها بدراهم، لا أصل له من كتاب، ولا سنة، ولا قول صحابى ولا تابعى، ولا أحد من الأئمة الأربعة.
فإن الناس لهم قولان، منهم من يرى تقديرها بالحب كالشافعى، ومنهم من يردها إلى العرف، وهم الجمهور، ولا يعرف عن أحد من السلف والأئمة تقديرها بالدراهم البتّة.
ثم أن فيه إيجاب المعاوضة على الواجب لها بغير رضا الزوج، ومن غير اعتبار كون الدراهم قيمة الواجب لها من الحب، أو الواجب بالعرف، ففرض الدراهم مخالف لهذا وهذا، ولأقوال جميع السلف والأئمة، وفيه من الفساد ما لا يحصيه إلا الله. فإنه إن مكن المرأة تخرج كل وقت تشترى لها طعاماً وإداما دخل على الزوج والزوجة من الشر والفساد ما يشهد به العيان، وإن منعها من الخروج أضر بها وبالزوج، وجعله كالأجير والأسير معها.
وبالجملة: فمبنى الحكم فى الدعاوى على غلبة الظن المستفاد من براءة الأصل تارة ومن الإقرار تارة، ومن البينة تارة، ومن النكول مع يمين الطالب المردودة. أو بدونها وهذا كله مما يبين الحق ظاهراً فهو بينة، وتخصيص البينة بالشهود عرف خاص، وإلا فالبينة اسم لما يبين الحق. فمن كان ظن الصدق من جانبه أقوى كان بالحكم أولى ولهذا قدمنا جانب المدعى عليه، حيث لا بينة ولا إقرار، ولا نكول، ولا شاهد حال استنادا إلى الظن المستفاد من البراءة الأصلية. فإذا كان فى جانب المدعى بينة شرعية قدم، لقوة الظن فى جانبه بالبينة.
وكذلك إذا كان فى جانبه قرينة ظاهرةٌ، كاللوث قدم جانبه.
ولذلك قدم جانبه فى اللعان، إذا نكلت المرأة، فإنها ترجم بأيمانه. لقوة الظن فى جانبه بإقدامه على اللعان، مع نكول المرأة عن دفع الحد والعار عنها باليمين.
وقد أجمع الناس على جواز وطء المرأة التى تزف إلى الزوج ليلة العُرْس، وإن لم يكن رآها، ولا وُصفَتْ له، من غير اشتراط شاهدى عدل يشهدان أنها هى امرأته التى وقع عليها العقد، اكتفاء بالظن الغالب، بالقطع المستفاد من شاهد الحال.
وكذلك يجوز الأكل من الهدْى المنحور إذا كان بالفلاة، ولا أحد عنده، اكتفاء بشاهدِ الحال.
وكذلك دَرَجَ السلفُ والخلف على جوازِ أكل الفقير مما يدفعه إليه الصبى ويخرجه من البيت: من كِسرةٍ ونحوها، اعتماداً على شاهدِ الحال.
وكذلك يُكتفَى بشاهدِ الحال فى بيع المحقَّرات بالمعاطاة. وهو عمل الأمة قديماً وحديثا.
واكتفى الشارع بسكوت البكر فى الاستئذان، وجعله دليلاً على رضاها، اكتفاء بشاهد الحال.
واكتفت الأمة فى الاعتماد على المعاملات، والهدايا، والتبرعات، بكونها بيد الباذل، لأن دلالتها على ملكه تورث ظنا ظاهراً.
واكتفتْ بمعاملة مجهول الحرية والرشد، وإقراره، وأكل طعامه، وقبول هديته وإباحة الدخول إلى منزله، اعتماداً على شاهد الحال والظن الغالب.
واكتفى الشارعُ بقول الخارص. الواحد فى محل الظن، والخرْصِ، نظراً إلى الظن المستفاد من خرصه.
واكتفت الأمة بقول المقومين فيما دق وجل، اعتمادا على الظن المستفاد من تقويمهم.
وقد اكتفى الشارع بتقويم اثنين فى جزاء الصيد. واكتفى بواحد فى الخرْص
واكتفى بواحد فى رؤية هلال رمضان.
واكتفت الأمة بقول القاسم وحده، أو بقول اثنين، وكذلك القائف، أو القائفين. واكتفت بقول المؤذن الواحد.
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بانتساب الصغير، وميل طبعه إلى من ادعاه، من رجلين أو أكثر، اعتمادا على الظن المستفاد من ميل طبعه، وهو من أضعف الظنون، ولذلك كان فى آخر رتب الإلحاق عندهم، عند عدم القائف.
وكذلك الاعتماد فى وجوب دفع اللقطة، أو جوازه، على الظن المستفاد من وصف الواصف لها.
وكذلك الاعتماد على أمارات الطهارة، والنجاسة. والقبلة، والاعتماد على قول الكيال والوزان.
وقال كثير من الفقهاء: يحبس المدعى عليه بشهادة المستورين، إلا أن يعدلا، إذ الغالب من المستورين العدالة. فاستجازوا عقوبة الرجل المسلم يمثل هذا الظن.
وقالوا: تسمع الشهادة على المقر بالإقرار من غير اشتراط ذكر الشاهدين أهلية المقر حال إقراره، اعتماداً على ظن الرشد والاختيار.
وقالوا: إذا كان الجدار حائلا بين الطريق وبين ملك المدعى، أو بين ملكه وبين موات، اختص به المدعى، لأن الظاهر أن الطريق والموات لا يحاط عليهما.
وقالوا: لو كان بين الملكين جدار متصل بأبنية أحد المالكين اتصالاً بدواخل وترصيف، اختص به صاحب الترصيف لقوة الظن من جانبه، إذ معه دلالتان، إحداهما: الاتصال. والثانية: التداخل والترصيف فلو تداخل من أحد طرفيه فى ملك أحدهما، ومن الطرف الآخر فى الملك الأخر اشتراكاً فيه: لتساويهما فى الدلالتين.
وقالوا: إن الأبواب المشرعة فى الدروب غير النافذة دالة على الاشتراك فى الدرب إلى حد كل باب منها، فيكون الأول شريكاً من أول الدرب إلى بابه، والثانى شريكاً إلى بابه، والذى فى آخر الدرب شريك من أول الدرب إلى بابه، قولاً واحداً، وإلى آخر الدرب على الصحيح، وكل ذلك بناء على الظن المستفاد من الاستطراق، وأنه بحق.
وقالوا: إن الأجنحة المطلة على ملك الجار وعلى الدروب غير النافذة أنها ملك لأصحابها اعتماداً على غلبة الظن بذلك، وأنها وضعت باستحقاق. وكذلك القنوات، والجداول الجارية فى ملك الغير، دالة على اختصاصها بأرباب المياه، بناء على الظن المستفاد من ذلك، وأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق.
ومن ذلك: دلالة الأيدى على الاستحقاق، اعتمادا على الظن الغالب، مع القطع بكثرة وضع الأيدى عدوانا وظلماً، ولا سيما ما اطردت العادة بإجارته وخروجه من يد مالكه، إلى يد مستأجره، كالأراضى والدواب، والحوانيت، والرباع، والحمامات وأن الغالب فيها الخروج عن يد مالكها، وقد اعتبرتم اليد، وقد استشكل كثير من فضلاء أصحابكم هذا، واعترف بأن جوابه مشكل جداً، ولما كان الظن المستفاد من الشهود أقوى من الظن المستفاد من هذه الوجوه قدم عليها.
ولما كان الظن المستفاد من الإقرار أقوى من الظن المستفاد من الشهود قدم الإقرار عليها. ولذلك اكتفى كثير من الفقهاء بالمرة الواحدة فى الإقرار بالزنا والسرقة لهذه القوة.
قالوا: لأن وازع المقر طبعى، ووازع الشهود شرعى، والوازع الطبعى أقوى من الوازع الشرعى، ولذلك يقبل الإقرار من المسلم، والكافر، والبر، والفاجر: لقيام الوازع الطبعى. ولما كان الوازع عن الكذب على نفسه مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه وعلى من يتلقى عنه، لكونه فرعه.
ولما كان الوازع الشرعى عاماً بالنسبة إلى جميع الناس، كان حجة عامة: فإن خوف
الله يزع الشاهد عن الكذب فى حق كل أحد. فكان قوله حجة عامة لكل أحد. ولما كان وازع الكذب مختصاً بالمقر قصر عليه، فهو خاص قوى، والشهادة عامة ضعيفة بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدى وإلى ما ذكرناه من الدلالات.
ومعلوم أن الظنون لا تقع إلا بأسباب تثيرها وتحركها. فمن أسبابها: الاستصحاب واطراد العادة، أو كثرة وقوعها، أو قول الشاهد، أو شاهد الحال. ولا يقع فى الظنون تعارض، وإنما يقع فى أسبابها وعلاماتها. فإذا تعارضت أسباب الظنون، فإن حصل الشك لم يحكم بشئ، وإن وجد الظن فى أحد الطرفين، حكم به، والحكم للراجح. لأن مرجوحية مقابله تدل على ضعفه.
فإذا تعارض سببا ظن- وكان كل واحد منهما مكذباً للآخر- تساقطاً: كتعارض البينتين والأمارتين، وإن لم يكن كل واحد منهما مكذباً للآخر عمل بهما، على حسب الإمكان، كدابة عليها راكبان، وعبد ممسك بيديه اثنان، ودار فيها ساكنان، وخشبة لها حاملان، وجدار متصل بملكين، ونظائر هذا.
فإن كان أحدهما أرجح من الآخر، عمل بالراجح، كالشاهد مع البراءة الأصلية، ومع اليد، يقدم عليهما، لرجحانه.
ولما كانت اليد لها مراتب فى القوة والضعف. كانت يد اللابس لثيابه، وعمامته، وخفه، ومنطقته، ونعله: أقوى من يد الجالس على البساط، والراكب على الدابة، ويد الراكب أقوى من يد السائق والقائد، ويد الساكن للدار أضعف من تلك الأيدى، ويد من هو داخل الحمام والخان، أضعف من هذا كله- قدم أقوى الأيدى على أضعفها. فلو كان فى الدار اثنان، وتنازعا فيها، وفى لباسهما الذى عليهما، جعلت الدار بينهما، لاستوائهما فى اليد. وكان القول قول كل منهما فى لباسه المختص به، لقوة يده بالقرب والاتصال. ولو تنازع الراكب والسائق والقائد، قدمت يد الراكب. وكذلك قال الجمهور.
ولو تنازع الزوجان فى متاع البيت، أو الصانعان فى حانوت، كان القول قول من يدعى منهما ما يصلح له وحده، لغلبة الظن القريب من القطع باختصاصه به.
وكذلك لو رأينا رجلا شريفاً حاسر الرأس، وأمامه داعر على رأسه عمامة، وبيده عمامة لا تليق به وهو هارب. فتقديم يده على الظن المستفاد من كونها يدا عادية مما يقطع ببطلانه.
وكذلك فقيه له كتب فى داره. وامرأته غير معروفة بشئ من ذلك البتة. فتقديم يدها على شاهد حال الفقيه فى غاية البعد.
وأين الظن المستفاد من هذا وأمثاله إلى الظن المستفاد من النكول، ومن الظن المستفاد من اليد؟ بل أين ذاك الظن من الظن المستفاد من الشاهد واليمين؟.
ومن الممتنع أن يرتب الشارع الأحكام على هذه الظنون، ولا يرتبها على الظنون التى هى أقوى منها بمراتب كثيرة. بل تكاد تقرب من القطع. كما أنه من المحال أن يحرم التأفيف للوالدين، ويبيح شتمهما وضربهما.
وهل تقديم قول المدعى فى القسامة إلا اعتمادا على الظن الغالب باللوث؟ وقدم هذا الظن على ظن البراءة الأصلية لقوته.
وقد حكى الله سبحانه فى كتابه عن الشاهد الذى شهد من أهل امرأة العزيز. وحكم بالقرائن الظاهرة على براءة يوسف عليه السلام. وكذب المرأة بقوله: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرِ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 26 - 28] .
وسمى الله سبحانه ذلك أية، وهى أبلغ من البينة، فقال:{ثُمَّ بِدِا لهَمُ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ ليسجُنَنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] .
وحكى سبحانه ذلك مقررا له غير منكر، وذلك يدل على رضاه به.
ومن هذا: حكم نبى الله سليمان بن داود عليهما السلام بالولد الذى تنازع فيه المرأتان، فقضى به داود للكبرى، فخرجتا على سليمان، فقصتا عليه القصة، فقال سليمان عليه السلام: ائتونى بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل يا نبى الله، هو ابنها. فقضى به
للصغرى، ولم يكن سليمان ليفعل، ولكن أوهمهما ذلك، فطابت نفس الكبرى بذلك. استرواحاً منها إلى راحة التسلى والتأسى بذهاب ابن الأخرى. كما ذهب ابنها، ولم تطب نفس الصغرى بذلك، بل أدركتها شفقة الأم ورحمتها، فناشدته أن لا يفعل، استرواحاً إلى بقاء الولد، ومشاهدته حيا، وإن اتصل إلى الأخرى.
وتأمل حكم سليمان به للصغرى، وقد أقرت به للكبرى تجد تحته: أن الإقرار إذا ظهرت أمارات كذبه، وبطلانه، لم يلتفت إليه، ولم يحكم به على المقر، وكان وجوده كعدمه. وهذا هو الحق الذى لا يجوز الحكم بغيره.
وكذلك إذا غلط المقر، أو أخطأ أو نسى، أو أقر بما لا يعرف مضمونه. لم يؤاخذ بذلك الإقرار، ولم يحكم به عليه، كما لو أقر مكرها.
والله تعالى رفع المؤاخذة بلغو اليمين، لكون الحلف لم يقصد موجبها. وأخبر أنه إنما يؤاخذ بكسب القلب، والغالط والمخطئ والناسى والجاهل والمكره، لم يكسب قلبه ما أقر به أو حلف عليه، فلا يؤاخذ به.
والمقصود: أن الزوج المظلوم المدعى عليه دعوى كاذبة ظالمة: بأنه ترك النفقة والكسوة تلك السنين كلها، أو مدة مقامها عنده، إذا تبين كذب المرأة فى دعواها، لم يجز للحاكم سماعها فضلاً عن مطالبته برد الجواب.
فله طرق فى التخلص من هذه الدعوى.
أحدها: أن يقول: كيف يسوغ سماع دعوى تكذبها العادة والعرف، ومشاهدة الجيران؟.
الثانى: أن يقول للحاكم: سلها: من كان ينفق عليها، ويكسوها فى هذه المدة؟.
فإن ادعت أن غيره كان يؤدى ذلك عنه، لم تسمع دعواها، وكانت الدعوى لذلك الغير. ولا يقبل قولها على الزوج إن غيره قام بهذا الواجب عنه. وهذا مما لا خفاء به، ولا إشكال فيه.
وإن قالت: أنا كنت أنفق على نفسى. قال الزوج: سلها: هل كانت هى التى كانت تدخل وتخرج تشترى الطعام والإدام؟ فإن قالت: نعم، ظهر كذبها ولا سيما إن كانت من ذوات الشرف والأقدار.
وإن قالت: كنت أوكل غيرى فى ذلك، ألزمت ببيانه، وإلا ظهر كذبها وظلمها وعدوانها. وكانت معاونتها على ذلك معاونة على الإثم والعدوان.
فإن أعوز الزوج حاكم عالم متحرٍّ للحق لا تأخذه فيه لومة لائم، فليعدل إلى التحيُّل بالخلاص بما يبطل دعواها الكاذبة، إما بأن يجحد استحقاقها لما ادعت به، ولا يعدل إلى الجواب المفصل، فتحتاج هى إلى إقامة البينة على سبب الاستحقاق. وقد يتعذر أو يتعسر عليها ذلك.
فإن أحضرت الصداق وأقامت البينة، فإن كانت لم تنتقل معه إلى داره، جحد تسليمها إليه، والقول قوله إذا لم تكن معه فى منزله.
فإن كانت قد انتقلت معه إلى منزله وادعى نشوزها تلك المدة، وأمكنه إقامة البينة بذلك، سقطت نفقتها فى مدة النشوز. وإن لم يمكنه إقامة البينة، وادعى عدم تمكينها له من الوطء، وادعت أنها مكنته فالقول قوله، لأن الأصل عدم التمكين، وهذا غير دعواه النشوز فإن النشوز هو العصيان، والأصل عدمه، وهذا إنكار لاستيفاء حقه، والأصل عدمه فتأمله. فإن كان له منها ولد لم يمكنه هذا الإنكار.
ومتى أحس بالشر والمكر احتال، بأن يخبئ شاهدى عدل، بحيث يسمعان كلامها، ولا تراهما، ثم يدفع إليها مالا، أو ترضى به، ويتلطف بها، ثم يقول: أريد أن يجعل كل منا صاحبه فى حل حتى تطيب أنفسنا، ولعل الموت يأتى بغتة، ونحو ذلك من الكلام.
وإن أمكنه أن يستنطقها بأنها لا تستحق عليه إلى ذلك الوقت نفقة ولا كسوة، وأنه
يرضيها من الآن، ويدفع إليها ما ترضى به كان أقوى. ثم يأخذ خط الشاهدين بذلك، ويكتمه منها. فإن أعجله الأمر عن ذلك، وأمكنه المبادرة برفعها إلى حاكم مالكى، أو حنفى بادر إلى ذلك. وبالجملة فالحازم من يستعد لحيلهن، ويعد لها حيلا يتخلص بها منها، وهذا لا بأس به، ولا إثم فيه، ولا فى تعليمه، فإن فيه تخليص المظلوم، وإغاثة الملهوف، وإخزاء الظالم المعتدى. والله الموفق للصواب.
وإنما أطلنا الكلام فى هذا المثال، لشدة حاجة الناس إلى ذلك، ولعموم البلوى، وكثرة الفجور، وانتشار الضرر بتمكين المرأة من هذه الدعوى وسماعها، وجعل القول قولها، وفى ذلك كفاية، وإلا فهى تحتمل أكثر من ذلك.
فصل
والمقصود بهذه الأمثلة وأضعافها، مما لم نذكره: أن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة، وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهله للأمة عن الدخول فى الآصار والأغلال، وعن ارتكاب طرق المكر والخداع، والاحتيال، كما أغنانا عن كل باطل ومحرم وضار، بما هو أنفع لنا منه من الحق، والمباح النافع.
فأغنانا بأعياد الإسلام عن أعياد الكفار والمشركين من أهل الكتاب والمجوس والصابئين وعبدة الأصنام. وأغنانا بوجوه التجارات والمكاسب الحلال عن الربا والميسر والقمار. وأغنانا بنكاح ما طاب لنا من النساء مثنى وثلاث ورباع، والتسرَّى بما شئنا من الإماء، عن الزنا والفواحش. وأغنانا بأنواع الأشربة اللذيذة، النافعة للقلب والبدن، عن الأشربة الخبيثة المسكرة المذهبة للعقل والدين. وأغنانا بأنواع الملابس الفاخرة: من الكتان، والقطن، والصوف، عن الملابس
المحرمة من الحرير والذهب. وأغنانا عن سماع الأبيات وقرآن الشيطان بسماع الآيات وكلام الرحمن. وأغنانا عن الاستقسام بالأزلام، طلبا لما هو خير وأنفع لنا باستخارته التى هى توحيد وتفويض واستعانة وتوكل. وأغنانا عن طلب التنافس فى الدنيا وعاجلها بما أحبه لنا وندبنا إليه من التنافس فى الآخرة، وما أعد لنا فيها، وأباح الحسد فى ذلك. وأغنانا به عن الحسد على الدنيا وشهواتها. وأغنانا بالفرح بفضله ورحمته، وهما القرآن والإيمان، عن الفرح بما يجمعه أهل الدنيا من المتاع، والعقار، والأثمان، فقال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] .
وأغنانا بالتكبر على أعداء الله تعالى، وإظهار الفخر والخيلاء لهم، عن التكبر على أولياء الله تعالى والفخر والخيلاء عليهم، فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن رآه يتبختر بين الصفين:"إِنّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ إِلا فى مِثْلِ هذَا المَوْطِنِ".
وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التى تأثيرها فى الغضب على أعدائه ونصرة دينه، عن الفروسية الشيطانية التى يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية.
وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف، عن الخلوة البدعية التى يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة. وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال.
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شئ إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يقتضى إباحته وتوسعته، بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه، ولا هذا. كما أغنانا بالبراهين والآيات التى أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة، التى باطلها أضعاف حقها: من الطرق الكلامية، التى الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التى تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه. وندب إليها، لما فيها من التوسعة، والفرج للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين. وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"مَا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنّةِ إلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَلا تَرَكْتُ مِنْ شَئْ يُبْعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إلا هَالِكٌ".
فهلا ندب النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الحيل، وحض عليها، كما حض على إصلاح ذات البين؟ بل لم يزل يحذر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل.
ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التى رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء، ولا رتب عليها العقوبة، ولا سد الذرائع إليها. ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة فى غلقها وسدها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية. فهذا مما تصان عنه الشرائع، فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا.
وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها، بل تقوى وتشتد مفاسدها.
فصل
إذا عرف هذا. فالطرق التى تتضمن نفع المسلمين، والذب عن الدين، ونصر المظلومين، وإغاثة الملهوفين، ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق، من أنفع الطرق، وأجلها علماً وعملاً وتعليما. فيجوز للرجل أن يظهر قولاً أو فعلاً مقصوده به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كان فيه مصلحة دينية، مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم، أو معاهد، أو نصرة حق، أو إبطال باطل، من حيلة محرمة، أو غيرها، أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله.
فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة، أو واجبة.
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له، فيصير مخادعاً له، فهذا مخادع لله ورسوله، وذلك مخادع للكفار والفجار، والظلمة، وأرباب المكر والاحتيال. فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، فأين من قصده إظهار دين الله تعالى، ونصر المظلوم، وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك؟.
إذا عرف هذا، فنقول: الحيل أقسام:
أحدها: الطرق الخفية التى يتوصل بها إلى ما هو محرم فى نفسه، فمتى كان المقصود بها محرماً فى نفسه، فهى حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجر ظالم آثم. وذلك كالتحيل على هلاك النفوس. وأخذ الأموال المعصومة، وفساد ذات البين، وحيل الشياطين على إغواء بنى آدم، وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق، وإظهار الباطل فى الخصومات الدينية والدنيوية. فكل ما هو محرم فى نفسه، فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية، بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما، وأكبر عقوبة، فإن
أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر، ولا يمكنه الاحتراز عنه، ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس.
ومن هذا: رأى مالك ومن وافقه: أن القاتل غيلة يقتل، وإن قتل من لا يكافئه، لمفسدة فعله، وعدم إمكان التحرز منه. ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير: قطع يد الزُّغلى، لعظم ضرره على الأموال، وعدم إمكان التحرز منه، فهو أولى بالقطع من السارق، وقوله قوى جداً. ومن هذا رأى الأمام أحمد قطع يد جاحد العارية، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذى ائتمنه.
والعمدة فى ذلك على السنة الصحيحة التى لا معارض لها.
والقصد: أن التوصل إلى الحرام حرام، سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر.
وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين:
أحدهما: ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص، والظلمة والخونة.
والثانى: ما لا يظهر ذلك فيه، بل يظهر المحتال أن قصده الخير، ومقصوده الظلم والبغى، مثل إقرار المريض لوارث لا شئ له عنده، قصداً لتخصيصه بالمقرَّ به، أو إقراره بوارث، وهو غير وارث، إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة، وتعليمه لمن يفعله حرام، والشهادة عليه حرام، إذا علم الشاهد صورة الحال. والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين. إذا علم صورة الحال، فهذه الحيلة فى نفسها محرمة، لأنها كذب وزور، والمقصود بها محرم، لكونه ظلما وعدواناً.
ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء فى إقرار المريض لوارث، هل هو باطل، سدا للذريعة، وردا للإقرار الذى صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه، لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم، فيرد للتهمة، كالشهادة على غيره، أو هو مقبول، إحسانا للظن بالمقر، ولا سيما عند الخاتمة؟.
ومن هذا الباب: احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج، مع إمساكه بالمعروف، بإنكارها الإذن للولى، أو إساءة عشرة الزوج، ونحو ذلك.
واحتيال البائع على فسخ البيع، بدعواه أنه كان محجوراً عليه. واحتيال المشترى على الفسخ بأنه لم ير المبيع. واحتيال المؤجر على المستأجر فى فسخ الإجارة. أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره. واحتيال الراهن على المرتهن فى فسخ الرهن، بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن، أو كان رهنه عند زوجته، أو أمته، ونحو ذلك.
فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم، وهو من أقبح المحرمات، وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام، وأنه فى نفسه معصية، لتضمنه الكذب والزور. ومن جهة تضمنه إبطال الحق، وإثبات الباطل.
القسم الثالث: ما هو مباح فى نفسه، لكن بقصد المحرم صار حراماً، كالسفر لقطع الطريق، ونحو ذلك، فهاهنا المقصود حرام، والوسيلة فى نفسها غير محرمة، لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما.
القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حق، أو دفع باطل، لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة. مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه، ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه. فهذا محرم أيضاً، وهو عند الله تعالى عظيم، لأن الشاهدين يشهدان بالزور، وشهادة الزور من الكبائر. وقد حملهما على ذلك.
وكذلك لو كان له عند رجل دين فيجحده إياه. وله عنده وديعة فجحد الوديعة، وحلف أنه لم يودعه، أو كان له على رجل دين لا بينة له به. ودين آخر به بينه، لكنه اقتضاه منه، فيدعى هذا الدين. ويقيم به بينة. وينكر الاستيفاء.
أو يكون قد اشترى منه شيئاً، فظهر به عيب تلف المبيع به، فادعى عليه بثمنه، فأنكر أصل العقد. وأنه لم يشتر منه شيئاً، أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة. فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا، فجحد نكاحها بالكلية.
فهذا حرام أيضاً لأنه كذب. ولاسيما إن حلف عليه. ولكن لو تأول فى يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم.
فإن قيل: فما تقولون لو عامله معاملة ربا، فقبض رأس ماله، ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة، هل يسوغُ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها؟.
قيل: يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها، وأن دعواها دعوى باطلة، فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل فى اليمين، لأنه مظلوم، ولا يسوغُ له الإنكارُ والحلف من غير تأويل، لأنه كذب صريح. فليس له أن يقابل الفجور بمثله، كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه، أو يقذف من قذفه، أو يَفجُر بزوجةِ من فَجَر بزوجته، أو بابنة من فَجر بابْنته.
فإن قيل: فما تقولون فى مسألة الظفر؟ هل هى من هذا الباب، أو من القصاص المباح؟.
قيل: قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال:
أحدها: أنها من هذا الباب، وأنه ليس له أن يخون من خانه. ولا يجحد من جحده. ولا يغصب من غصبه. وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك.
والثانى: يجوز له أن يَسْتَوْفى قدر حقه، إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه. وفى غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفى ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشافعى.
والثالث: يجوز له أن يستوفى قدر حقه، إذا ظفر بجنس ماله. وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبى حنيفة.
والرابع: أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذا إحدى الروايتين عن مالك.
والخامس: أنه إن كان سبب الحق ظاهراً، كالنكاح، والقرابة، وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهند. "أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبى سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِى بَنِيهَا".
وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يُضيَفِّوه أن يُعْقِبَهم
فى مالهم بمثل قِراه كما فى الصحيحين عن عُقْبة بن عامر قال:
"قُلْتُ لِلنَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم: إنّكَ تَبْعَثَنُا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لا يُقْرُونَا فمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمِرُوا لَكُمْ بَما يَنْبَغِى لِضيَّفِ فَاقْبَلْوا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيُفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُمْ".
وفى المسند من حديث المقْدام أبى كريمة أنه سمع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يُقْرُوهُ فله أَنْ يُعْقِبَهُمْ بمِثْلِ قِرَاهُ".
وفى المسند لأحمد أيضاً من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فأَصْبَحَ الضّيْفُ مَحْرُوماً، فَلهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلا حَرَجَ عَلَيْهِ".
وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهراً، لم يكن له
الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان فى الباطن آخذا حقه. كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التى تُسلط الناس على عرضه، وإن ادَّعى أنه محق غير متهم.
وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث.
فإنه قد روى أبو داود فى سننه من حديث يوسف بن ماهك قال: "كنت أكتب لفلان نفقه أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذى ذهبوا به منك، قال: لا حَدّثَنى أَبى أَنّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ يَقُولُ: " أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ اُئْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ".
وهذا، وإن كان فى حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر، وهو حديث طلْق بن غنام: أخبرنا شريك وقيس عن أبى حصين عن أبى صالح عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" وقيس هو ابن الربيع، وشريك ثقة، وقد قوى حديثه بمتابعة قيس له، وإن كان فيه ضعف.
وله شاهد آخر من حديث أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبى التياح عن أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نحوه، وأيوب بن سويد - وإن كان فيه ضعف - فحديثه يصلح للاستشهاد به. وله شاهد آخر، وإن كان فيه ضعف، فهو يقوى بانضمام هذه الأحاديث إليه. رواه يحيى بن أيوب عن إسحاق بن أسيد عن أبى حفص الدمشقى عن مكحول: أن رجلا قال لأبى أمامة الباهلى: "الرَّجُلُ أَسْتَوْدِعُهُ الوَدِيعَةَ، أَوْ يَكُونُ لِى عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجْحَدُنِى، ثُمَّ يَسْتَوْدِعُنِى أو يَكُونَ لَهُ عِنْدِى الشيء، أَفأَجْحَدُهُ؟ فَقَالَ: لا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وآله وسلمَ يقُولُ: أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ".
وله شاهد آخر مرسل. قال يحيى بن أيوب: عن ابن جريج عن الحسن عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أَدِّ الأمَانَةَ إلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ".
وله شاهد. آخر. وهو ما رواه الترمذى من حديث مالك بن نضله قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،
الرَّجُلُ أَمُرُّ بهِ فَلا يُقْرِينِى، وَلا يُضَيِّفُنِى. فَيَمُرُّ بى، أفأَجْزيهِ؟ قَالَ: لا، أَقْرِهِ".
قال الترمذى: هذا الحديث حسن صحيح.
وله شاهد آخر. وهو ما رواه أبو داود من حديث بِشر بن الخصاصية، قال:"قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّ أهْلَ الصّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: لا".
وله شاهد آخر من حديث بشر هذا أيضاً:
"قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لَنَا جِيرَاناً لا يَدَعُونَ لَنَا شَاذّةً، وَلا فَاذّةً إلا أَخَذُوهَا فإِذَا قَدَرْنَا لَهُمْ عَلَى شَئ أَنأْخُذُهُ؟ فَقَالَ: أَدِّ الأمَانَة إلى مَنِ ائْتَمَنكَ وَلا تخُنْ مَنْ خَانَك".
ذكره شيخنا فى كتاب إبطال التحليل.
فهذه الآثار، مع تعدد طرقها واختلاف مخارجها، يشد بعضها بعضاً، ولا يشبه الأخذ فيها الأخذ فى الموضعين اللذين أباح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيهما الأخذ لظهور سبب الحق، فلا يُنسب الآخذ إلى الخيانة، ولا يتطرق إليه تهمة، ولتعسر الشكوى فى ذلك إلى الحاكم، وإثبات الحق والمطالبة به والذين جوزوه يقولون: إذا أخذ قدر حقه من غير زيادة، لم يكن ذلك خيانة، فإن الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه، وهذا ضعيف جداً، فإنه يبطل فائدة الحديث. فإنه قال:"ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ" فجعل مقابلته له خيانة، ونهاه عنها، فالحديث نص، بعد صحته.
فإن قيل: فهلا جعلتموه مستوفياً لحقه بنفسه، إذ عجز عن استيفائه بالحاكم، كالمغصوب ماله. إذا رآه فى يد الغاصب، وقدر على أخذه منه قهراً؟ فهل تقولون: إنه لا يحل له أخذ عين ماله، وهو يشاهده فى يد الظالم المعتدى؟ ولا يحل له إخراجه من داره وأرضه؟.
وكذلك إذا غصب زوجته وحال بينه وبينها، وعقد عليها ظاهراً، بحيث لا يتهم فهل يحرم على الزوج الأول انتزاع زوجته منه، خشية التهمة؟ وهذا لا تقولونه أنتم، ولا أحد من أهل العلم.
ولهذا قال الشافعى، وقد ذكر حديث هِنْدٍ: وإذ قد دلت السنة وإجماع كثير من أهل العلم على أن يأخذ الرجل حقه لنفسه سراً، فقد دل أن ذلك ليس بخيانة. إذ الخيانة أخذ ما لا يحل له أخذه.
فالجواب: أنا نقول، يجوز له أن يستوفى قدر حقه، لكن بطريق مباح، فأما بخيانة وطريق محرمة فلا.
وقولكم: ليس ذلك بخيانة قلنا: بل هو خيانة حقيقة، ولغة، وشرعاً، وقد سماه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خيانة، وغايتها أنها خيانة مقابلة ومقاصة، لا خيانة ابتداء، فيكون كل واحد منهما مسيئا إلى الآخر ظالما له، فإن تساوت الخيانتان قدراً وصفة فقد يتساقط إثمهما، والمطالبة فى الآخرة، أو يكون لكل منهما على الآخر مثل ما للآخر عليه وإن بقى لأحدهما فضل رجع به، فهذا فى أحكام الثواب والعقاب.
وأما فى أحكام الدنيا فليس كذلك، لأن الأحكام فيها مرتبة على الظواهر، وأما السرائر فإلى الله، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وأله وسلم:"إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَّى، وَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَقْضِى بِنَحْوِ مِا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَمنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيء مِنْ حَقَّ أَخِيهِ فَلا يأّخُذْهُ، فَإِنَما أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ".
فأخبر صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه يحكم بينهم بالظاهر، وأعلم المبطل فى نفس الأمر أن حكمه لا يحل له أخذ ما يحكم له به، وأنه مع حكمه له به فإنما يقطع له قطعة من النار، فإذا كان الحق مع هذا الخصم فى الظاهر وجب على الحاكم أن يحكم له به، ويقره بيده وإن كانت يدا عادية ظالمة عند الله تعالى، فكيف يسوغ لخصمه أن يحكم لنفسه، ويستوفى لنفسه بطريق محرمة باطلة، لا يحكم بمثلها الحاكم وإن كان محقاً فى نفس الأمر؟.
وليس هذا بمنزلة من رأى عين ماله أو أمته أو زوجته بيد غاصب ظالم، فخلصها منه قهراً، فإنه قد تعين حقه فى هذا العين، بخلاف صاحب الدين، فإن حقه لم يتعين فى تلك العين التى يريد أن يستوفى منها، ولأنه لا يتكتم بذلك، ولا يستخفى به، كما يفعل الخائن، بل يكابر صاحب اليد العادية ويغالبه، ويستعين عليه بالناس، فلا ينسب إلى خيانة، والأول متكتم مستخف، متصور بصورة خائن وسارق. فإلحاق أحدهما بالآخر باطل، والله أعلم.
فصل
القسم الخامس من الحيل.
أن يقصد حل ما حرمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتى بسبب نصبه الشارع سبباً إلى أمر مباح مقصود، فيجعله المحتال المخادع سبباً إلى أمر محرم مقصود اجتنابه. فهذه هى الحيل المحرمة التى ذمها السلف، وحرموا فعلها وتعليمها.
وهذا حرام من جهتين: من جهة غايته، ومن جهة سببه.
أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرمه الله ورسوله، وإسقاط ما أوجبه.
وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هزواً، وقصد بالسبب ما لم يشرع لأجله، ولا قصده به الشارع، بل قصد ضده، فقد ضاد الشارع فى الغاية والحكمة والسبب جميعا.
وقد يكون أصحاب القسم الأول من الحيل أحسن حالاً من كثير من أصحاب هذا القسم، فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام، وإثم، ومعصية، ونحن أصحاب تحيل بالباطل، عصاة لله ورسوله، مخالفون لدينه. وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدين الذى جاءت به الشريعة، وأن الشارع جوز لهم التحيل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرمه، وإسقاط ما أوجبه، فأين حال هؤلاء من حال أولئك؟.
ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبة الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثا لا فائدة فيها، فإنها لم يقصد بها المحتال مقاصدها التى شرعت لها، بل لا غرض له فى مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضه التوصل بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سترة وجنة يتستر بها من ارتكاب ما نهى عنه صرفاً، فأخرجه فى قالب الشرع.
كما أخرجت الجهمية التعطيل فى قالب التنزيه.
وأخرج المنافقون النفاق فى قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشى.
وأخرج الظلمة الفجرة الظلم والعدوان فى قالب السياسة وعقوبة الجناة.
وأخرج المكاسون أكل المكوس فى قالب إعانة المجاهدين، وسد الثغور، وعمارة الحصون.
وأخرج الروافض الإلحاد والكفر، والقدح فى سادات الصحابة وحزب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأوليائه وأنصاره، فى قالب محبة أهل البيت، والتعصب لهم، وموالاتهم.
وأخرجت الإباحية وفسقة المنتسبين إلى الفقر والتصوف بدعهم وشطحهم فى قالب الفقر، والزهد، والأحوال، والمعارف، ومحبة الله، ونحو ذلك.
وأخرجت الاتحادية أعظم الكفر والإلحاد فى قالب التوحيد، وأن الوجود واحد لا اثنان، وهو الله وحده، فليس هاهنا وجودان: خالق، ومخلوق ولا رب وعبد، بل الوجود كله واحد، وهو حقيقة الرب.
وأخرجت القدرية إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات: أفعالها، وأعيانها، فى قالب العدل، وقالوا: لو كان الرب قادراً على أفعال عباده لزم أن يكون ظالما لهم، فأخرجوا تكذيبهم بالقدر فى قالب العدل.
وأخرجت الجهمية جحدهم لصفات كماله سبحانه فى قالب التوحيد، وقالوا: لو كان له سبحانه سمع وبصر، وقدرة، وحياة، وإرادة، وكلام يقوم به لم يكن واحداً وكان آلهة متعددة.
وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوق والعصيان فى قالب الرجاء وحسن الظن بالله تعالى، وعدم إساءة الظن بعفوه، وقالوا: تجنب المعاصى والشهوات إزراء بعفو الله تعالى، وإساءة للظن به، ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو.
وأخرجت الخوارج قتال الأئمة، والخروج عليهم بالسيف فى قالب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.
وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم فى قوالب متنوعة، بحسب تلك البدع.
وأخرج المشركون شركهم فى قالب التعظيم لله، وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء، وآلهة تقربهم إليه.
فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه فى قالب حق.
والمقصود: أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل فى القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها.
فصل
وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع:
أحدها: الاحتيال لحل ما هو حرام فى الحال. كالحيل الربوية، وحيلة التحليل.
الثانى: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه، فهو صائر إلى التحريم ولا بد، كما إذا علق طلاقها بشرط محقق، تعليقاً يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة، حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك.
الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب فى الحال، كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب، بأن يملك ماله لزوجته أو ولده، فيصير معسراً، فلا يجب عليه الإنفاق والأداء، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فيسافر ولا غرض له سوى الفطر، ونحو ذلك.
الرابع: الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب، لكنه صائر إلى الوجوب. فيحتال حتى يمنع الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة، بتمليكه ماله قبل مضى الحول لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك. وهذا النوع ضربان:
أحدهما: إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه، أو انعقاد سببه.
والثانى: إسقاط حق المسلم بعد وجوبه. أو انعقاد سببه. كالاحتيال على إسقاط الشفعة التى شرعت دفعاً للضرر عن الشريك، قبل وجوبها أو بعده.
الخامس: الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم. وله صور كثيرة.
منها: أن يجحده دينه، كما جحده.
ومنها: أن يخونه فى وديعته، كما خانه.
ومنها: أن يغشه فى بيع معيب، كما غشه هو فى بيع معيب.
ومنها: أن يسرق ماله كما سرق ماله.
ومنها: أن يستعمله بأجره دون أجرة مثله ظلما وعدواناً، أو غروراً وخداعاً. أو غبنا، فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته.
وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان، ونظار الوقوف، والعمال، وجباة الفيء والخراج والجزية والصدقة، وأمثالهم. فإن كان المال مشتركاً بين المسلمين رتعوا وربعوا، ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شئ منه. ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال. ويسعى فى السدس، تكملة للثلثين كما قيل فى بعضهم:
لَهُ نِصْفُ بَيْتِ المالِ فَرْضٌ مُقَرَّرٌ
…
وَفى سُدُسِ التَّكْمِيلِ يَسْعَى لِيَخْلُصَا
مِنَ القَوْمِ لا تُثْنِيهُمُ عَنْ مُرَادِهِمْ
…
عُقُوَبةُ سُلْطَانٍ بِسَوْطٍ وَلا عَصَا
فصل
وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التى تخلص من الظلم والبغى والعدوان، والحيل التى يحتال بها على إباحة الحرام، وإسقاط الواجبات، وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة. وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام، وإنما يتوسل بها إليه، وهو المقصود الذى اتفقا عليه، ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه، ومن شاهدهما يعلمه.
وكذلك تمليك ماله لولده عند قرب الحول، فراراً من الزكاة، لا يخلص من الإثم، بل يغمسه فيه، لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه، ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب، وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين، فإن له أن يمنع الوجوب، وليس له أن يمنع الواجب.
وهكذا القول فى التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع، فإنه يمنع وجوب الاستحقاق.
ولا يمنع الحق الذى وجب بالبيع فذلك لا يجوز، وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها.
وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه، بأن يسكن فى مكان لا يبلغه النداء أولا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع فى يومه، أو السفر قبل دخول وقتها، ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه.
وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب، بأن لا يكتسب ما لا يجب فيه الإنفاق. ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك.
فهذا سر الفرق اعتمده أصحاب الحيل.
وأما المانعون فيجيبون عن ذلك:
بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا، لئلا يحضرهم المساكين، فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه، وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها. وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب. فإن الله سبحانه إنما أوجبها فى أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة، ورحمة للمساكين، وسدا لفاقتهم. فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال.
وبأن الشارع لوجوّز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه، لم يكن فى الإيجاب فائدة، إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع، فيكون الإيجاب عديم الفائدة فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده.
وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف، فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق، ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر، حتى كأنه داخل فيه، كما إذا بقى من الحول يوم، أو ساعة، فالإسقاط هاهنا فى حكم الإسقاط بعد الحول سواء، ومفسدته كمفسدته، فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه.
وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذى قد صح ووجد.
وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول، ويكون واقعاً موقعه، ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب، وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضى الحول. وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذى يجب فيه الزكاة، فرارا من وجوبها عليه، أو ترك بيع الشْقص فراراً من أخذ الشفيع له أوترك التزوج فرار أمن وجوب الإنفاق ونحو ذلك، فإن هذا لم ينعقد فى حقه السبب. بل ترك ما يفضى إلى الإيجاب، ولم يتسبب إليه، وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب. واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها.
وأيضاً، فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله، وإسقاط للسببيه بالتحيل، وليس ذلك للمكلف، فإن الله سبحانه هو الذى جعل هذا سببا بحكمه وحكمته، فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة، وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهراً وباطنا، أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب، وأداء الواجب.
وأيضاً، فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب. ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعاً.
وأيضاً فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه، فإن الفارّ من الشيء فار من أسبابه، وهذا أحرص شئ على الملك الذى هو سبب وجوب الحق عليه، ومن حرصه عليه: تحيلَ على ترك الإخراج حرصاً وشحاً. فهو فار من أداء الواجب، ظاناً أنه يفر من وجوبه عليه. والأول حاصل له دون الثانى.
ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود، فإن المحتال على المحرمات، وإسقاط الواجبات، مقصوده فاسد، ووسيلته باطلة. فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده، وتوسل به إلى مقصود محرم.
فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة، والمصاهرة والنسل، وغض
البصر، وحفظ الفرج، والتمتع والإيواء، وغير ذلك من مقاصد النكاح، والمحلل لم يتوسل به إلى شئ من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى، فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له، فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له، ولم يتوسل به إلى ما شرع له. فكان القصد محرماً، والوسيلة باطلة.
وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشترى بالعين والبائع بالثمن، فتوسل به المرابى إلى محض الربا، وأتى به لغير مقصوده. فإنه لا غرض له فى تملك تلك العين، ولا الانتفاع بها، وإنما غرضه الربا، فتوسل إليه بالبيع.
وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعاً للضرر عن الشريك. فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذى لا حقيقة له إلى إبطالها، فكانت وسيلته باطلة، ومقصوده محرماً.
وكذلك الزكاة. فرضها رحمة منه بالمساكين، وطهرة للأغنياء، فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له، من بيع، أو هبة.
وكذلك القرض شرع الله سبحانه فيه العدل، وأن لا يزداد على مثل ما أقرضه. فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة.
وكذلك بيع الثمر قبل بُدُوّ صلاحها باطل، لما يفضى إليه من أكل المال بالباطل، فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل، كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود، بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه، ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما. فاشتراط قطعه خداع محض.
وكذلك سائر الحيل التى تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال، غاياتها محرمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها.
وكذلك الفدية والخلع التى شرعها الله ليخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما، فجعلوه حيلة للحنث فى اليمين، وبقاء النكاح. والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح. حيث يكون قطعه مصلحة لهما.
وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التى يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله وإقامة
دينه، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ونصر المحق، وكسر المبطل. والحيل التى يتوصل بها إلى خلاف ذلك. فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التى جعلت موصلة إليها شئ، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التى جعلت لغيرها شئ آخر.
فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه.
فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هى الطرق التى لا خداع فى وسائلها، ولا تحريم فى مقاصدها، وبالله التوفيق.
فصل
[الرد على أقوال من يجيز الحيل]
وأما قولكم: إن من حلف بطلاق زوجته: ليشربن هذا الخمر، أو ليقتلن هذا الرجل، أو نحو ذلك - كان فى الحيلة تخليصه من هذه المفسدة. ومن مفسدة وقوع الطلاق.
فيقال: نعم والله، قد شرع الله له ما يتخلص به، ولخلاصه طرق عديدة، فلا تتعين الحيلة التى هى خداع ومكر لتخليصه، بل هاهنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها.
الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحال، ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف، كقوله "الطلاق يلزمنى لأفعلن" أو بصيغة التعليق المقصود كقوله "إن طلعت الشمس، أو إن حضت، أو إن جاء رأس الشهر، فأنت طالق" أو التعليق المقصود به اليمين، من الحض والمنع، والتصديق والتكذيب، كقوله "إن لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا، فامرأتى طالق" وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعى، الذين جالسوه، أو من هو من أجلهم: أبى عبد الرحمن. وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعى، وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر.
فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح، ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفى.
الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأبى هريرة، وعائشة، وزينب بنت أم سلمة، وحفصة، فى الحلف بالعتق الذى هو قربه إلى الله تعالى، بل من أحب القرب إلى الله، ويسرى فى ملك الغير، فما يقول هؤلاء فى الحلف بالطلاق الذى هو أبغض الحلال إلى الله تعالى، وأحب الأشياء إلى الشيطان؟. والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته. فقالوا لها كفرى عن يمينك، وخلى بين الرجل وبين امرأته.
وهؤلاء الصحابة أفقه فى دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة فى الحلف بالعتق ويرونه يمينا. ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا،. ويلزمون الحانث بوقوعه، فإنه لا يجد فقيه شم رائحة بين البابين والتعليقين فرقاً بوجه من الوجوه.
وإنما لم يأخذ به أحمد، لأنه لم يصلح عنده إلا من طريق سليمان التيمى، واعتقد أنه تفرد به. وقد تابعه عليه محمد بن عبد الله الأنصارى، وأشعث الحمرانى، ولهذا لما ثبت عند أبى ثور قال به، وظن الإجماع فى الحلف بالطلاق على لزومه، فلم يقل به.
الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلف بالطلاق شيئاً، وهذا صحيح عن طاوس، وعكرمة.
أما طاوس فقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئاً.
وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبد الرزاق ذكره فى باب يمين المكره، فحمله على الحلف بالطلاق مكرها، وهذا فاسد، فإن الحجة ليست فى الترجمة. وإنما الاعتبار بما يروى فى أثناء الترجمة، ولا سيما المتقدمين، كابن أبى شيبة، وعبد الرزاق ووكيع وغيرهم، فإنهم يذكرون فى أثناء الترجمة آثاراً لا تطابق الترجمة، وإن كان لها بها نوع تعلق، وهذا فى كتبهم - لمن تأمله - أكثر وأشهر من أن يخفى، وهو فى صحيح البخارى وغيره، وفى كتب الفقهاء وسائر المصنفين.
ثم لو فهم عبد الرزاق هذا، وأنه فى يمين المكره، لم تكن الحجة فى فهمه، بل الأخذ بروايته، وأى فائدة فى تخصيص الحلف بالطلاق بذلك؟ بل كل مكره حلف بأى يمين كانت، فيمينه ليست بشيء.
وأما عكرمة، فقال سنيد بن داود فى تفسيره: حدثنا عباد بن عباد المهلبى عن عاصم الأحول عن عكرمة: فى رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتى طالق، قال "لا يجلد غلامه، ولا يطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان".
فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه، إلى أثر ابن عباس، فيمن قالت
لمملوكها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لى حر، إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس فى الحلف بتحريم الزوجة: أنها يمين يكفرها - تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه فى هذا الباب.
فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة فى الحلف بالتعليقات. كالحج، والصوم، والصدقة، والهدى، والمشى إلى مكة حافياً، ونحو ذلك: أنها أيمان مكفرة - تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة فى ذلك.
فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذى يستوفى فيه حكم الأصل والفرع: تبين لك توافق القياس وهذه الآثار.
فإذا ارتفعت درجة أخرى، ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، تبين لك الراجح من المرجوح.
ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان، ومن يقول: حكمت وثبت عندى، فالله المستعان.
الطريق الرابعة: طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو فعل نفسه، أو على غير الزوجة، فيقول: إن قال لامرأته "إن خرجت من الدار، أو كلمت رجلاً، أو فعلت كذا فأنت طالق" فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على فعل نفسه، أو غير امرأته، وحنث لزمه الطلاق.
وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق، وهو أشهبُ بن عبد العزيز، ومحله من الفقه، والعلم غير خاف.
ومأخذُ هذا: أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها، لم يقع به الطلاق، معاقبة لها بنقيض قصدها، وهذا جار على أصول مالك وأحمد، ومن وافقهما فى معاقبة الفار من التوريث والزكاة، وقاتل مورثه، والموصى له، ومن دبَّره بنقيض قصده، وهذا هو الفقه، لا سيما وهو لم يرد طلاقها، إنما أراد حضها، أو منعها، وأن لا تتعرض لما يؤذيه، فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أداه؟ وهو لم يملكها ذلك بالتوكيل والخيار، ولا ملكها الله إياه بالفسخ، فكيف تكون الفرقة إليها، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها؟ وأى شئ أحسن من هذا الفقه، وأطرد على قواعد الشريعة؟.
الطريق الخامسة: طريق من يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء، والحلف يصيغه الالتزام.
فالأول: كقوله: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعله، فأنت طالق.
والثانى: كقوله: الطلاق يلزمنى، أوْ لى لازم، أو على الطلاق إن فعلت، أو إن لم أفعل. فلا يلزمه الطلاق فى هذا القسم، إذا حنث دون الأول.
وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعى، وهو المنقول عن أبى حنيفة وقدماء أصحابه، ذكره صاحب الذخيرة، وأبو الليث فى فتاويه.
قال أبو الليث: ولو قال: طلاقُك على واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال: يقع واحدة رجعية، نواه أو لم يَنْوِه، ومنهم من قال: لا يقع وإن نوى، والفارق: العرف.
قال صاحب الذخيرة: وعلى هذا الخلاف: إذا قال: إن فعلت كذا فطلاقك على واجب، أو قال: لازم، ففعلت.
وذكر القُدورى فى شرحه: أن على قول أبى حنيفة: لا يقعُ الطلاق فى الكل، وعند أبى يوسف: إن نوى الطلاق يقع فى الكل، وعن محمد: أنه يقع فى قوله: لازم، ولا يقع فى: واجب.
واختار الصدرُ الشهيدُ الوقوع فى الكل، وكان ظهيرُ الدين المْرِغينانُّى يُفتى بعدم الوقوع فى الكل، هذا كله لفظ صاحب الذخيرة.
وأما الشافعية: فقال ابن يونس، فى شرح التنبيه: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لى، ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل، فجعل كناية وقال الرويانى: الطلاق لازم لى: صريح، وعدَّ ذلك فى صرائح الطلاق، ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق. وقال القفال فى فتاويه: ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه، لأن الطلاق لابد فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق، هذا لفظه.
وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد.
فقد صار الخلاف فى هذا الباب فى المذاهب الأربعة بنقل أصحابها فى كتبهم.
ولهذا التفريق مأخذ آخر من هذا الذى ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلزم التطليق، فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذى يلتزمه الرجل: هو التطليق، فالطلاق لازم لها إذا وقع.
إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق، فإنه لو قال: إن فعلت كذا فعلى أن أطلقك، أو تالله على أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لى، أو واجب على، وحنث لم يقع عليه الطلاق. فهكذا إذا قال: إن فعلت كذا فالطلاق يلزمنى، لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه.
والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البضع من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه.
فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق، فحينئذ يلزمه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب، وإنما أتى به معلقاً له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟.
والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق.
فصل
وممن ذكر الفرق بين الطلاق، وبين الحلف بالطلاق: القاضى أبو الوليد هشام ابن عبد الله بن هشام الأزدى القرطبى فى كتابه "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام".
فقال فى كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك فى الأيمان اللازمة. ثم قال: ولا ينبغى أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليدياً إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان، وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى.
منها: الفرق بين الطلاق إيقاعاً، وبين اليمين بالطلاق، وفى المدونة كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثانى للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفن فقه على الجملة. وذلك
أن الطلاق صورته فى الشرع. حل وارد على عقد، واليمين بالطلاق عَقد فليفهم هذا. وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل بنية، ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته، فقد نجمت هذه المسألة فى أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته، فى أيمان البيعة، وليس فى أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك. وذلك أن الطلاق على ضربين: صريح، وكناية.
فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه فى إثبات حكمه تحديداً.
والكناية: على ضربين، كناية غالبة، وكناية غير غالبة.
فالغالبة: كل ما أشعر بثبوت الطلاق فى موضوع اللغة، أو الشرع، كقوله: الحقى بأهلك، واعتدّى.
وغير الغالبة: كل مالا يشعر بثبوت الطلاق فى وضع اللغة والشرع، كقوله: ناولينى الثوب، وقال: أردت بذلك الطلاق.
فإذا عرضنا لفظ الأيمان يلزمنى على صريح الطلاق لم تكن من قسمه، وإن عرضناها على الكناية، لم تكن من قسيمها إلا بقرينة، من شاهد حال، أو جارى عرف، أو نية تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهد الحال، أو جارى العرف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغى لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم فى فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعانى، فإن الحكم إن لم يقع مستوضحاً عن نور فكرى مشعر بالمعنى المربوط اضمحل.
ثم قال: وأنا ذاكر لك ما بلغنى فى هذه اليمين من كلام العلماء، ورأيته من أقوال الفقهاء، وهى يمين محدثة، لم تقع فى الصدر الأول.
ثم ذكر اختلاف أهل العلم فى الحلف بالأيمان اللازمة.
والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطرى العقلى الشرعى بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكماً.
أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ، واليمين عقد والتزام. فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى:{وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيَمانَ} [المائدة: 89] .
ثم أشار إلى الافتراق فى الحكم بقوله: وإذا كانت اليمين عقداً لم يحصل بها حل، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل، ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل. فيجب بقاؤها على ما وضعت عليه، نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها فى العقد والحل، فتصير كناية فى الوقوع، وقد نواه. فيقع به الطلاق، لأن هذا العقد صالح للكناية. وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق. أما إذا نوى مجرد العقد، ولم ينو الطلاق البتة، بل هو أكره شئ إليه، فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعى، ولا نقلها عنه الشارع. فلا يلزمه غير موجب الأيمان.
فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق، ويخرج قلبه ساعة من التعصب والتقليد، واتباع غير الدليل.
والمقصود: أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان فى الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما فى الحكم. أما الحقيقة فما تقدم.
وأما القصد. فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، أو التصديق أو التكذيب، والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب. فالتسوية بينهما لا يخفى حالها.
وأما اختلافهما لفظاً، فإن لفظ اليمين لا بد فيها من التزام قَسَمِى يأتى فيه بجواب القسم، أو تعليق شرطى يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدم فى الصورة الأولى مؤخر فى الثانية، والمنفى فى الأولى ثابت فى الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئاً من ذلك، ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق فى هذه المسألة، والله الموفق.
الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذى كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث، لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة، فيزول بزوالها، وهذا مطرد على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد فى اليمين، تعميما وتخصيصاً وإطلاقاً وتقييداً. فإذا حلف: لا أكلم فلانة، وكان سبب اليمين الذى هيجها كونها أجنبية، يخاف الوقوع فى عرضه بكلامها، فتزوجها. لم يحنث بكلامها، إعمالا لسبب اليمين وما هيجها
فى التقييد بكونها أجنبية. هذا إذا لم يكن له نية مادامت كذلك، أما إذا كانت له نية فلا إشكال فى تقييد اليمين بها.
ونظيره: أن يحلف: لا يكلم فلاناً، ولا يعاشره. لكونه صبيا، فصار رجلاً، وكانت نيته وسبب يمينه لأجل صباه.
ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار لأجل من يَظُن به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث.
وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا. فباع العبد والدار.
ونظير هذا: أن يحلف لا يكلم فلانا، والحامل له على اليمين كونه تاركاً للصلاة، أو مرابياً أو خماراً، أو واليا، فتاب من ذلك كله، وزالت الصفة التى حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه.
وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة. والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغياً أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها.
كل هذا مراعاة للمقاصد التى الألفاظ دالة عليها. فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر. ولهذا لو حلف: ليقضينه حقه فى غد. وقصده، أو السبب: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث.
ولو حلف أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالى. والنية أو السبب: يقتضى التقييد مادام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه.
وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته: أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلق أو أعتق أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه. لأن اقتضاء السبب والقصد التقييد فى غاية الظهور.
ونظائر ذلك كثيرة جداً. وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه فى كثير من المواضع.
وهذا هو الصواب، لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان
الاعتبار له، وتقيد اللفظ به. ولهذا لو دعى إلى غداء، فحلف لا يتغذى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده، لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضى غيره.
وقد أخبر النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" وما لم ينوه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يلزم به، مع القطع بأنه لم يرده، ولا خطر على باله.
وقد أفتى غير واحد من الفقهاء، منهم ابن عقيل وشيخنا، وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال هى طالق، ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذى رميت به فى بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان ميتا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن، فإنه لا يقع عليه الطلاق، لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب، فهو كالشرط فى طلاقها.
وهذا الذى قالوه هو الذى لا يقتضى المذهب وقواعد الفقه غيره، فإنهم قد قالوا: لو قال: لها أنت طالق، وقال: أردت إن قمت، دُين، ولم يقع به الطلاق، فهذا مثله سواء.
ونظير هذا: ما قالوه: إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال، فقال: أنت حر، فبان أن المال الذى أعطاه مستحق، أو زيوف، لم يقع العتق، وإن كان قد صرح به. ذكره أصحاب أحمد والشافعى، لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض، ولم يسلم له، وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.
وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر.
فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث.
وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التى يتحيلون بها على عدم الحنث، وهى أنواع:
أحدها: التسريج.
الثانى: خلع اليمين.
الثالث: التحيل لفساد النكاح، إما بكون الولى كان قد فعل ما يفسق به، أو الشهود كانوا جلوساً على مقعد حرير، ونحو ذلك، فيكون النكاح باطلاً. فلا يقع فيه الطلاق.
الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه، بتغيير اسمه، أو صفته. أو نقله من مالك إلى مالك، ونحو ذلك.
فإذا غلبوا عن شئ من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار، فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا.
فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدى الله تعالى ومسئول، بين هذه الطرق وتلك الطرق التى قبلها. وليقم لله ناظراً، ومناظراً متجرداً من العصبية والحمية، فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب، والله ولى التوفيق.
فصل
وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] .
فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر فى يمينه.
هذا قول أصحاب أبى حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد.
وقال الشافعى: إن علم أنها مسته كلها بر فى يمينه، وإن علم أنها لم تمسه لم يبر. وإن شك لم يحنث، ولو كان هذا موجباً لبر الحالف لسقط عن الزانى والقاذف والشارب تعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط، أو ثمانين، ويضرب بها ضربة واحدة، وهذا إنما يجزئ فى حق المريض، كما قال الإمام أحمد فى المريض عليه الحد "يضرب بعثكال يسقط عنه الحد".
واحتج بما رواه عن أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدع، فلم يرع الحى إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، قال: فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسوِلِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم، وكانَ ذلِكَ الرَّجُلُ
مُسْلِماً، فقَالَ:"اضْرِبُوهُ حَدَّهُ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله: إِنّهُ أَضْعَفُ مَّمِا تحْسبُ، لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فقَالَ:"خُذُوا له عِثْكالاً فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا".
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق، فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه. فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان، ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط، فكانت معذورة محسنة فى شأنه، ولم يكن فى شرعهم كفارة، فإنه لو كان فى شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير، ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم، كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذوراً خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ، أو مائة سوط، فيضرب بها ضربة واحدة، وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذى خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان، فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البر فى يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التى لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن فى قصة أبوب عليه السلام لنص السنة فى شأن الضعيف الذى زنى، فلا يتعدى بها عن محلها.
فإن قيل: فقولوا هذا فى نظير ذلك، ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين، لا ذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك فى ضربة بمائة شمراخ.
قيل: قد جعل الله له مخرجاً بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر عن يمينه، ولا يعصى الله بالبر فى يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة، ولا يحل له أن يضربها، لا مفرقاً ولا مجموعاً.
فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا. كالحد، هل تقولون: ينفعه ذلك؟
قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال، كالحر والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله، ثم يحد الحد الواجب، كما روى مسلم فى صحيحه عن على رضى الله عنه:
"أَنَّ أَمَةً لرَسولِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم زَنَتْ، فأَمَرَنِى أَنْ أَجْلِدَهَا، فَأَتَيْتُهَا، فَإٍذَا هِى حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إن جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلَم، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، اُتْرُكْهَا حَتَّى تَماثَلَ".
فصل
وأما حديث بلال فى شأن التمر، وقول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم له:"بِعَ التَّمرَ بِالدَّرَاهمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيباً".
فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التى ليست مقصودة لوجوه:
أحدها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضى البيع الصحيح، ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كل بيع صحيح يفيد الملك، لكن الشأن فى بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها، وإن كان بيعاً، فإنها ربا وهى بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل فى الحديث، ولو اختلف رجلان فى بيع مثل هذا، هل هو صحيح، أو فاسد؟ وأراد أحدهما إدخاله فى هذا اللفظ، لم يمكنه ذلك، حتى يثبت أنه بيع صحيح، ومتى أثبت أنه بيع صحيح، لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث.
فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع البتة.
قلت: ونظير ذلك أن يحتج به محتج على جواز بيع الغائب، أو على البيع بشرط الخيار
أكثر من ثلاث، أو على البيع بشرط البراءة، وغير ذلك من أنواع البيوع المختلف فيها، ويقول المنازع: الشارع قد أطلق الإذن فى البيع، ولم يقيده.
وحقيقة الأمر، أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضى البيع الصحيح، ونحن لا نسلم له أن هذه الصورة التى تواطأ فيها على ذلك بيع صحيح.
والوجه الثانى: أن الحديث ليس فيه عموم، لأنه قال:"وابْتَعْ بالدَّراهِم جنِيبا" والأمر بالحقيقة المطلقة ليس أمرا بشيء من قيودها، لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد. والقدر المشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزما له، فلا يكون الأمر بالمشترك ليس هو ما يميز كل واحد من الأفراد عن الآخر، ولا هو مستلزما له، فلا يكون الأمر بالمشترك أمراً بالمميز بحال. نعم: هو مستلزم لبعض تلك القيود لا بعينه فيكون عاماً لها على سبيل البدل، لكن ذلك لا يقتضى العموم بالأفراد على سبيل الجمع، وهو المطلوب، فقوله: بِعْ هذا الثوب، لا يقتضى الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا وكذا، ولا بهذه السوق أو هذه. فإن اللفظ لا دلالة له على شئ من ذلك، لكن إذا أتى بالمسمى حصل ممتثلا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة وجود تلك القيود.
إذا تبين ذلك، فليس فى الحديث أنه أمره أن يبتاع من المشترى، ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنقد البلد ولا غيره، ولا بثمن حال أو مؤجل، فإن هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعم أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلاً، لكن اللفظ لا يمنع الأجزاء إذا أتى بها.
وقد قال بعض الناس: إن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الأجزاء إذا أتى بها إلا بقرينة، وهذا غلط بين، فإن اللفظ لا تعرض فيه للقيود بنفى ولا إثبات ولا الإتيان بها ولا تركها من لوازم الامتثال، وإن كان المأمور به لا يخلو عن واحد منهما، ضرورة وقوعه جزئياً مشخصاً، فذلك من لوازم الواقع، لأنه مقصود الأمر، وإنما يستفاد الأمر بتلك اللوازم، أو النهى عنها من دليل منفصل.
وقد خرج بهذا الجواب عن قول من قال: لو كان الابتياع من المشترى حراماً لنهى عنه. فإن مقصوده صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إنما هو بيان الطريق التى يحصل بها اشتراء
التمر الجيد لمن عنده رديء. وهو أن يبيع الردئ بثمن ثم يبتاع بالثمن جيداً. ولم يتعرض لشروط البيع وموانعه فلا معنى للاحتجاج بهذا الحديث على نفى شرط مخصوص، كما لا يحتج به على نفى سائر الشروط، وهذا بمنزلة الاحتجاج بقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] .
على جواز أكل كل ذى ناب من السباع، ومخلب من الطير، وعلى حل ما اختلف فيه من الأشربة، ونحو ذلك. فالاستدلال بذلك استدلال غير صحيح، بل هو من أبطل الاستدلال. إذ لا تعرض فى اللفظ لذلك، ولا أريد به تحليل مأكول ومشروب. وإنما أريد به بيان وقت الأكل والشرب وانتهائه.
وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] .
على جواز نكاح الزانية قبل التوبة، وصحة نكاح المحلل، وصحة نكاح الخامسة فى عدة الرابعة، أو نكاح المتعة، أو الشغار، أو غير ذلك من الأنكحة الباطلة، كان استدلاله باطلاً.
وكذلك من استدل بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] .
على حل بيع الكلب، أو غيره مما اختلف فيه، فاستدلاله باطل، فإن الآية لم يرد بها بيان ذلك. وإنما أريد بها الفرق بين عقد الربا وبين عقد البيع، وأنه سبحانه حرم هذا وأباح هذا فأما أن يفهم منه أنه أحل بيع كل شئ، فهذا غير صحيح، وهو بمنزلة الاستدلال بقوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] .
على حل كل مأكول ومشروب.
وبمنزلة الاستدلال بقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ".
على حل الأنكحة المختلف فيها.
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسَاءَ فَطَلِّقوهُنَّ لِعِدَّتهِنَّ} [الطلاق: 1] .
على جواز جمع الثلاث ونفوذه، وعلى صحة طلاق المكره والسكران.
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] .
على صحة النكاح بلا ولى وبلا شهود وغير ذلك من الصور المختلف فيها.
وبمنزلة الاستدلال بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] .
على حل كل نكاح اختلف فيه، فيستدل به على صحة نكاح المتعة، والمحلل، والشغار، والنكاح بلا ولى وبلا شهود، ونكاح الأخت، ونكاح الزانية، والنكاح المنفى فيه المهر، وغير ذلك، وهذا كله استدلال فاسد فى النظر والمناظرة.
ومن العجب أن ينكر من يسلكه على ابن حزم استدلاله بقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} [البقرة: 233] .
على وجوب نفقة الزوج على زوجته، إذا أعسر بالنفقة، وكان لها ما تنفق منه، فإنها وارثة له، وهذا أصح من تلك الاستدلالات، فإنه استدلال بعام لفظا ومعنى. وقد علق الحكم فيه بمعنى مقصود يقتضى العموم وتلك مطلقة لا عموم فيها لفظاً ولا معنى، ولم يقصد بها تلك الصور التى استدلوا بها عليها.
إذا عرف هذا، فالاستدلال بقوله "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا" لا يدل على جواز بيع العينة بوجه من الوجوه، فمن احتج به على جوازه وصحته فاحتجاجه باطل.
وليس الغالب أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشترى، حتى يقال: هذه الصورة غالبة، بل الغالب أن من يفعل ذلك يعرضه على أهل السوق عامة، أو حيث يقصد، أو ينادى عليه. وإذا باعه لواحد منهم، فقد تكون عنده السلعة التى يريدها وقد لا تكون.
ومثل هذا: إذا قال الرجل فيه لموكله: بع هذا القطن واشتر بثمنه ثياب قطن، أو بع هذه الحنطة العتيقة، واشتر بثمنها جديدة، لا يكاد يخطر بباله الاشتراء من ذلك المشترى بعينه، بل يشترى من حيث وجد غرضه. ووجود غرضه عند غيره أغلب من وجوده عنده.
فإن قيل: فهب أن الأمر كذلك، فهلا نهاه عن تلك الصورة، وإن لم يدخل فى لفظه؟ فإطلاقه يقتضى عدم النهى عنه.
قيل: إطلاق اللفظ لا يقتضى المنع منها، ولا الإذن فيها، كما تقدم بيانه، فحكمها إذنا
ومنعاً يستفاد من مواضع أخر، فغاية هذا اللفظ: أن يكون قد سكت عنها فقد علم تحريمها من الأدلة الدالة على تحريم العينة.
الوجه الثالث: أن قوله: "بع الجمع بالدراهم" إنما يفهم منه البيع المقصود، الخالى عن شرط يمنع كونه مقصودا، بخلاف البيع الذى لا يقصد، فإنه لو قال: بع هذا الثوب، أو بعت هذا الثوب، لم يفهم منه بيع المكره، ولا بيع الهازل، ولا بيع التلجئة، وإنما يفهم منه البيع الذى يقصد به نقل ذلك العوض. وقد تقدم تقرير هذا.
يوضحه: أن مثل هذين قد يتراوضان أولا على بيع التمر بالتمر متفاضلاً، ثم يجعلان الدراهم محللاً غير مقصودة. والمقصود إنما هو بيع صاع بصاعين، ومعلوم أن الشارع لا يأذن فى مثل هذا، فضلاً عن أن يأمر به ويرشد إليه.
الوجه الرابع: إن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. "نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنَ فى بَيعَةٍ".
ومتى تواطآ على أن يبيعه بالثمن، ثم يبتاع منه، فهو بيعتان فى بيعة، فلا يكون داخلاً فى الحديث، إذ المنهى عنه لا يتناوله المأذون فيه.
يبين ذلك الوجه الخامس: وهو أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "بع الجمع ثم ابتع بالدراهم جنيبا" وهذا يقتضى بيعاً ينشئه ويبتدئه، بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه من أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك، فقد اتفقا على العقدين معاً، فلا يكون داخلاً فى حديث الإذن، بل فى حديث النهى.
الوجه السادس: أنه لو فرض أن فى الحديث عموماً لفظيا، فهو مخصوص بصور لا تعد. فإن كل بيع فاسد فهو غير داخل فيه، فتضعف دلالته، وتخص منه الصورة التى ذكرناها بالأدلة، التى هى نصوص، أو كالنصوص، فإخراجها من العموم من أسهل الأشياء، وبالله التوفيق.
فصل
وقد تبين بهذا بطلان الاستدلال على جواز الحيل الباطلة، بقوله تعالى:{إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] .
وأن هذا يتناول صورة العينة وغيرها، فإن المتبايعين يديران السلعة بينهما.
فإن الله سبحانه قسم البياعات المقصودة التى شرعها لعباده، ونصبها لمصالحهم فى معاشهم ومعادهم إلى بيوع مؤجلة وبيوع حالة، ثم أمرهم أن يستوثقواً فى البيوع المؤجلة بالكتاب والشهود، وإن عدموا ذلك فى السفر استوثقوا بالرهن، حفظاً لأموالهم وتخلصاً من بطلان الحقوق بجحود أو نسيان، ثم أخبرهم أنه لا حرج عليهم فى ترك ذلك فى البيوع الحالة، لأمنهم فيها مفسدة التجاحد والنسيان.
فالمراد بالتجارة الدائرة: البيعات التى تقع غالباً بين الناس.
ولم يفهم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا من التابعين، ولا تابعيهم، ولا أهل التفسير، ولا أئمة الفقهاء منها: المعاملة الدائرة بالربا بين المترابيين، بل فهموا تحريمها من نصوص تحريم الربا. ولا ريب أن دخولها فى تلك النصوص أظهر من دخولها فى هذه الآية.
ومما يدل عليه: أن هذه المعاملة الدائرة بينهما بالربا لا تكون فى الغالب إلا مع أجل، بأن يبتاع منه سلعة بثمن حال، ثم يبيعها إياه بأكثر منه إلى أجل، وذلك فى الغالب مما يطلب عليه الشهود والكتاب خشية الجحود، والله سبحانه قال:{إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] .
فاستثنى هذا من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] .
وهذه المعاملة الربوية قد اتفقا فيها على التداين إلى أجل مسمى، واتفقا فيها على المائة بمائة وثلاثين ونحو ذلك، فأين هى من التجارة الحاضرة، التى يعرف الناس الفرق فيها بين التجارة والربا؟
فالتجارة فى كلام الله ورسوله، ولغة العرب، وعرف الناس: إنما تنصرف إلى البياعات
المقصودة التى يقصد فيها الثمن، والمثمن. وأما ما تواطآ فيه على الربا المحض، ثم أظهرا بيعا غير مقصود لهما البتة، يتوسلان به إلى أن يعطيه مائة حالة بمائة وعشرين مؤجلة، فهذا ليس من التجارة المأذون فيها، بل من الربا المنهى عنه، والله أعلم.
فصل
وأما استدلالكم بالمعاريض على جواز الحيل.
فما أبطله من استدلال، فأين المعاريض التى يتخلص بها الإنسان من الظلم والكذب إلى الحيل التى يسقط بها ما فرض الله تعالى، ويستحل بها ما حرم الله، فالمعَرِّض تكلم بحق، ونطق بصدق فيما بينه وبين الله تعالى، لا سيما إذا لم ينو باللفظ خلاف ظاهره فى نفسه، وإنما كان الظهور من ضعف فهم السامع وقصوره فى معرفة دلالة اللفظ، ومعاريض النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ومزاحه عامته كان من هذا الباب، كقوله صلى الله عليه وسلم:"نَحْنُ مِنْ مَاءٍ" و "إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلدِ النَّاقَةِ" و "وَزوَجُكِ الّذِى فى عَيْنِه بيَاضٌ" و "لا يَدْخُلُ الجنة عَجُوزٌ".
وأكثر معاريض السلف كانت من هذا.
فالمعرِّض إنما يقصد باللفظ ما جعل اللفظ دالا عليه ومثبتا له فى الجملة، فهو لم يخرج بتعريضه عن حدود الكلام، فإن الكلام فيه الحقيقة والمجاز، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمفرد والمشترك، والمتباين والمترادف، وتختلف دلالته تارة بحسب اللفظ المفرد، وتارة بحسب التأليف، فأين هذا من الحيل التى يقصد بالعقد فيها ما لم يشرع العقد له أصلاً، ولا هو مقتضاه، ولا موجبة شرعاً ولا حقيقة؟،.
وفرق ثان، وهو أن المعرض لو صرح بقصده لم يكن باطلاً ولا محرماً، بخلاف المحتال، فإنه لو صرح بما قصده بإظهار صورة العقد كان محرماً باطلاً، فإن المرابى بالحيلة لو قال: بعتك مائة حالة بمائة وعشرين إلى سنة، كان حراماً باطلاً، وذلك عين مقصوده، ومقصوده الآخر.
وكذلك المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً على أن تعيدها إلى ومعها زيادة كذا وكذا، كان حراماً باطلاً، وذلك نفس مقصوده.
وكذلك المحلل لو قال: تزوجتها على أن أحلها للمطلق ثلاثاً.
والمعرض لو صرح بمقصوده لم يكن حراماً، فأين أحدهما من الآخر؟
وفرق ثالث: وهو أن المعرض قصد بالقول ما يحتمله اللفظ، أو يقتضيه. والمحتال قصد بالعقد مالا يحتمله، ولا جعل مقتضياً له، شرعاً ولا عرفاً ولا حقيقة.
وفرق رابع: وهو أن المعرض مقصده صحيح، ووسيلته جائزة، فلا حجر عليه فى مقصوده، ولا فى وسيلته إلى مقصوده، بخلاف المحتال، فإن قصده أمر محرم، ووسيلته باطلة، كما تقدم تقريره.
وفرق خامس: وهو أن التعريض المباح ليس من مخادعة الله سبحانه فى شئ، وإنما غايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه، جزاء له على ذلك، ولا يلزم من جواز مخادعة الظالم جواز المحق، فما كان من التعريض لظاهر اللفظ فى نفسه كان قبيحاً إلا عند الحاجة، وما لم يكن كذلك كان جائزاً إلا عند تضمن مفسدة، والذى يدخل فى الحيل المذمومة إنما هو الأول، فالمعرض قاصد لدفع الشر، والمحتال بالباطل قاصد لدفع الحق.
والتعريض كما يكون بالقول يكون بالفعل، كما يظهر المحارب أنه يريد وجها من الوجوه، ويسافر إلى تلك الناحية، ليحسب العدو أنه لا يريده، ثم يكر عليه.
ومثل أن يستطرد المبارز بين يدى خصمه ليظن هزيمته، ثم يعطف عليه.
ومثل أن يظهر ضعفاً وعجزاً يتخلص به من تسخيره وأذاه، ونحو ذلك.
وقد يكون التعريض بالقول والفعل معاً، كما قال سليمان عليه السلام "ائتونى بالسكين أشقه بينكما" وقد يكون بإظهار الصمم وأنه لا يسمع، وبإظهار النوم، وإظهار الشبع، وإظهار الغنى، بحيث يحسبه الجاهل غنيا.
وكما يقع الإجمال فى الأقوال فكذلك يقع فى الأفعال، كما أعطى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عمر رضى الله عنه حلة من حرير، فلما لبسها أنكر عليه وقال:"لم أعطكها لتلبسها" فكساها أخا له مشركاً بمكة.
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع فى الألفاظ تارة، وفى الأفعال تارة، وفيهما معاً تارة.
ومن أنواع التعريض: أن يتكلم المتكلم بكلام حق يقصد به حقيقته وظاهره، ويوهم السامع نسبته إلى غير قائله، ليقبله ولا يرده عليه، أو ليتخلص به من شره وظلمه، كما أنشد عبد الله بن رواحة رضى الله تعالى عنه امرأته تلك الأبيات، وأوهمها أنه يقرأ وكذلك إذا كان الرجل يريد تنفيذ حق صحيح، ولكن لا يقبل منه، لكونه هو أو من لا يحسن به الظن قائله، فإذا عرّض للمخاطب بنسبة الكلام إلى معظم يقبله منه كان من أحسن التعريض، كما علمه أبو حنيفة رحمه الله أصحابه -، حين شكوا إليه: إنا نقول لهم: قال أبو حنيفة، فيبادرون بالإنكار. فقال: قولوا لهم المسألة، فإذا استحسنوها ووقعت منهم بموقع، فقولوا: هذا قول أبى حنيفة. وكما يجرى لأصحابنا مع الجهمية وفروخهم كثيراً.
فصل
وأما استدلالهم بأن الله سبحانه علم نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التى توصل بها إلى أخذ أخيه، إلى آخره.
فهذا قد ظن بعض أرباب الحيل أنه حجة لهم فى هذا الباب، وليس كما زعموا، والاستدلال بذلك من أبطل الباطل.
فإن المحتجين بذلك لا يجوِّزون شيئاً مما فى هذه القصة البتة، ولا تجوزها شريعتنا بوجه من الوجوه، فكيف يحتج المحتج بما يحرم العمل به، ولا يسوغه بوجه من الوجوه؟ والله سبحانه إنما سوغ ذلك لنبيه يوسف عليه السلام جزاء لإخوته، وعقوبة لهم على ما فعلوا به، ونصراً له عليهم، وتصديقاً لرؤياه، ورفعة لدرجته ودرجة أبيه.
وبعد، ففى قصته مع إخوته ضروب من الحيل المستحسنة.
أحدها قوله لفتيانه: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهمْ لَعَلّهُمْ يعْرفونَهَا إذَا انْقَلَبُوا إلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] .
فإنه تسبب بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا فى ذلك معانى:
منها: أنه تخوّف أن لا يكون عندهم ورق يرجعون بها.
ومنها: أنه خشى أن يضر أخذ الثمن بهم.
ومنها: أنه إذا رأى لؤما أخذ الثمن منهم.
ومنها: أنه أراهم كرمه فى رد البضاعة، ليكون أدعى لهم إلى العود.
وقد قيل: إنه علم أن أمانتهم تحوجهم إلى الرجعة، ليردوها إليه، فهذا المحتال به عمل صالح.
والمقصود: رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم وله، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرفهم نفسه لأسباب أخر، فيها منفعة لهم ولأبيهم وله، وتمام لما أراده الله تعالى بهم من الخير فى هذا البلاء.
وأيضاً، فلو عرفهم نفسه فى أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم، ولم يحل ذلك المحل، وهذه عادة الله سبحانه فى الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسباباً من المحن والبلاياً والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرزخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك، الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المحرج ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه.
وكذلك ما فعله برسله، كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهود، وصالح، وشعيب عليهم السلام، فهو سبحانه يوصل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التى تكرهها النفوس وتشق عليها. كما قال تعالى:
وربما كانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إِلَىمَحْبُوبِهَا سَبَباً مَا مِثْلَهُ سَبَبُ
وبالجملة، فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة المؤلمة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره، وخلق النار وحفها بالشهوات.
فصل
ومنها: أنه لما جهزهم فى المرة الثانية بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه. وهذا القدر يتضمن اتهام أخيه بأنه سارق.
وقد قيل: إنه كان بمواطأة من أخيه ورضا منه بذلك، والحق كان له، وقد أذن فيه، وطابت نفسه به، ودل على ذلك قوله تعالى:{ولَمَّا دَخلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ، قَالَ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبتَئِسْ بَما كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] .
فهذا يدل على أنه عَرّف أخاه نفسه.
وقد قيل: إنه لم يصرح له بأنه يوسف، وأنه إنما أراد بقوله:{إِنِّى أَنَا أَخُوكَ} [يوسف: 69] .
أى أنا مكان أخيك المفقود.
ومن قال هذا قال: إنه وضع السقاية فى رحل أخيه، والأخ لا يشعر بذلك، والقرآن يدل على خلاف هذا، والعدل يرده. وأكثر أهل التفسير على خلافه.
ومن لطيف الكيد فى ذلك: أنه لما أراد أخذ أخيه توصل إلى أخذه بما يقر إخوته أنه حق وعدل، ولو أخذه بحكم قدرته وسلطانه لنسب إلى الظلم والجور، ولم يكن له طريق فى دين الملك يأخذه بها. فتوصل إلى أخذه بطريق يعترف إخوته أنها ليست ظلما، فوضع الصواع
فى رحل أخيه بمواطأة منه له على ذلك. ولهذا قال: {فلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [يوسف: 69] .
ومن لطيف الكيد: أنه لم يفتش رحالهم وهم عنده، بل أمهلهم حتى جهزهم بجهازهم، وخرجوا من البلد، ثم أرسل فى آثارهم لذلك.
قال ابن أبى حاتم فى تفسيره: حدثنا على بن الحسين حدثنا محمد بن عيسى حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: "أمهلهم حتى إذا انطلقواً فأمعنوا من القرية أمر فأدركوا ثم جلسوا، ثم ناداهم مناد: أيتها العير إنكم لسارقون، فوقفوا، وانتهى إليهم رسوله، فقال لهم فيما يذكرون: ألم نكرم ضيافتكم، ونوفكم كيلكم ونحسن منزلتكم، ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم، وأدخلنا كم علينا فى بيوتنا ومنازلنا؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ {قال إنكم لسارقون} .
وذكر عن السدى "فلما ارتحلوا أذن مؤذن أيتها العير".
والسياق يقتضى ذلك، إذ لو كان هذا وهم بحضرته لم يحتج إلى الأذان، وإنما يكون الأذان نداء لبعيد، يطلب وقوفه وحبسه.
فكان فى هذا من لطيف الكيد: أنه أبعد من التهمة للطالب بالمواطأة والموافقة، وأنه لا يشعر بما فقد له، فكأنه لما خرج القوم وارتحلوا، وفصلوا عن المدينة احتاج الملك إلى صواعه لبعض حاجته إليه، فالتمسه، فلم يجده، فسأل عنه الحاضرين، فلم يجدوه، فأرسلوا فى أثر القوم. فهذا أحسن وأبعد من التفطن للحيلة من التفتيش فى الحال قبل انفصالهم عنه. بل كلما ازدادوا بعدا عنه كان أبلغ فى هذه المعنى.
ومن لطيف الكيد: أنه أذن فيهم بصوت عال رفيع، يسمعه جميعهم، ولم يقل لواحد واحد منهم، إعلاماً بزن ذهاب الصواع أمر قد اشتهر، ولم يبق فيه خفاء، وأنتم قد اشتهرتم بأخذه، ولم يتهم به سواكم.
ومن لطيف الكيد: أن المؤذن قال إنكم لسارقون ولم يعين المسروق، حتى سألهم عنه القوم، فقالوا لهم: ماذا تفتقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك فاستقر عند القوم أن الصواع هو المتهم به، وأنهم لم يفقدوا غيره. فإذا ظهر لم يكونوا ظالمين باتهامهم بغيره. وظهر صدقهم وعدلهم فى اتهامهم به وحده، وهذا من لطيف الكيد.
ومن لطيف الكيد: قول المؤذن وأصحابه لإخوة يوسف عليه السلام – {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ
كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} - أى ما عقوبة من ظهر عليه أنه سرقه منكم، ووجد معه؟ أى ما عقوبته عندكم وفى دينكم؟. {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] .
فأخذوهم بما حكموا به على نفوسهم، لا بحكم الملك وقومه.
ومن لطيف الكيد: أن الطالب لما هم بتفتيش رواحلهم بدأ بأوعيتهم يفتشها قبل وعاء من هو معه، تطمينا لهم، وبعدا عن تهمة المواطأة.
فإنه لو بدأ بوعاء من هو فيه لقالوا: وما يدريه أنه فى هذا الوعاء دون غيره من أوعيتنا؟ وما هذا إلا بمواطأة وموافقة. فأزال هذه التهمة بأن بدأ بأوعيتهم أولا، فلما لم يجده فيها هم بالرجوع قبل تفتيش وعاء من فيه الصواع، وقال: ما أراكم سارقين وما أظن هذا أيضاً أخذ شيئاً. فقالوا: لا والله، لا ندعكم حتى تفتشوا متاعه، فإنه أطيب لقلوبكم، وأظهر لبراءتنا، فلما ألحوا عليهم بذلك فتشوا متاعه، فاستخرجوا منه الصواع. وهذا من أحسن الكيد. فلهذا قال تعالى:{كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .
فالعلم بالكيد الواجب أو المستحب الذى يتوصل به إلى طاعة الله تعالى ورسوله، ونصر المحق وكسر المبطل مما يرفع الله به درجة العبد.
وقد ذكروا فى تسميتهم سارقين وجهين:
أحدهما: أنه من باب المعاريض، وأن يوسف عليه السلام نوى بذلك أنهم سرقوه من أبيه، حيث غيبوه عنه بالحيلة التى احتالوا بها عليه، وخانوه فيه. والخائن يسمى سارقاً، وهو من الاستعمال المشهور.
الثانى: أن المنادى هو الذى قال ذلك، من غير أمر يوسف عليه السلام.
قال القاضى أبو يعلى وغيره: أمر يوسف بعض أصحابه أن يجعل الصاع فى رحل أخيه. ثم قال بعض الموكلين به لما فقده، ولم يدر من أخذه - أيتها العير إنكم لسارقون - على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف عليه السلام بذلك، ولعل يوسف عليه السلام قال للمنادى: هؤلاء قد سرقوا، وعنى سرقته من أبيه، والمنادى فهم سرقة الصواع، وصدق فى قوله: إنكم
لسارقون - ولم يقل: صواع الملك ثم لما جاء إلى ذكر المفقود قال - نفقد الملك - وهو صادق فى ذلك، فحذف المفعول فى قوله - لسارقون - وذكره فى قوله - نفقد صواع الملك - وكذلك قال يوسف عليه السلام لما عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم مكان أخيهم - معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده - ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، فإن المتاع كان موجوداً عنده، ولم يكن سارقاً. وهذا من أحسن المعاريض.
وقد قال نصر بن حاجب: سئل سفيان بن عيينة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذى قد فعله، ويحرف القول فيه ليرضيه، أيأثم فى ذلك؟ فقال: ألم تسمع قوله عليه الصلاة والسلام:
"لَيْسَ بِكَاذِبٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ فَكَذَبَ فِيهِ".
فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم كان خيراً من أن يصلح بين الناس بعضهم فى بعض، ذلك أنه أراد به مرضاة الله، وكراهية أذى المؤمن، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم، ولا طمعاً فى شئ يصيبه منهم، فإنه لم يرخص فى ذلك ورخص له إذا كره موجدتهم وخاف عداوتهم.
قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه "إنى أشترى دينى بعضه ببعض، مخافة أن أقدم على ما هو أعظم منه".
قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْضِ} [ص: 22] .
أراد معنى شئ ولم يكونا خصمين، فلم يصيرا بذلك كاذبين.
وقال إبراهيم عليه السلام: {إِنِّى سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقالَ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا} [الأنبياء: 63] .
وقال يوسف عليه السلام {إنكم لسارقون} [يوسف: 70] أراد يعنى أخاهم.
فبين سفيان رحمه الله تعالى أن هذا كله من المعاريض المباحة، مع تسميته كذباً. وإن لم يكن فى الحقيقة كذباً.
وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق.
قال شيخنا: وهذه الحجة ضعيفة، فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف. حتى يقال قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذى أبيهم، وللميثاق الذى أخذه عليهم، وقد استثنى فى الميثاق بقوله:
{إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] .
وقد أحيط بهم ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته، فإنه كان أكرم من هذا وإن كان فى ضمن ما فعل من تأذى أبيه أعظم من أذى إخوته، فإنما ذلك أمر أمره الله تعالى به، ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذى استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء، وعلو المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى - التى قدّرها وقضاها - نهايتها، ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل، فليس هذا، بموضع خلاف بين العلماء. فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل له أن يخونه، كما خانه؟ أو يسرقه، كما سرقه؟ ولم تكن قصة يوسف عليه السلام من هذا النوع.
نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا شبهة له أيضا على هذا التقدير، فإن مثل هذا لا يجوز فى شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه، كان فى هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا، كالوحى إلى إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وتكون حكمته فى حق الأخ امتحانه وابتلاءه، لينال درجة الصبر على حكم الله، والرضا بقضائه، ويكون حاله فى هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام فى احتباس يوسف عليه السلام عنه.
وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله:
{كَذلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ الله} [يوسف: 76] .
وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعانى، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق، كقوله تعالى:
{إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كيدا} [الطارق: 15 - 16] وقوله {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} [آل عمران:54] وقوله {اللهُ يسْتَهْزِئُ بِهم} [البقرة: 15] وقوله {إِنَّ المُنَافِقِينَ يَخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وقوله {وَأُمْلِى لهم إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} [القلم: 45] .
فهذا منه سبحانه فى أعلى مراتب الحسن، وإن كان من العبد قبيحاً سيئاً، لأنه ظالم فيه، وموقعه بمن لا يستحقه، والرب تعالى عادل فيه، موقعه بأهله ومن يستحقه، سواء قيل: إنه مجاز للمشاكلة الصورية، أو للمقابلة، أو سماه كذلك مشاكلة لاسم ما فعلوه، أو قيل: إنه حقيقة، وإن مسمى هذه الأفعال ينقسم إلى مذموم ومحمود، واللفظ حقيقة فى هذا وهذا، كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام فى كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.
فصل
وإذا عرف ذلك، فيوسف صلوات الله عليه وسلامه أكْيَد، من وجوه عديدة.
أحدها: أن إخوته كادوه، حيث احتالوا فى التفريق بينه وبين أبيه، كما قال له يعقوب عليه السلام:{لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] .
وثانيها: أنهم كادوه حيث باعوه بيع العبيد، وقالوا: إنه غلام لنا أبق.
وثالثها: كيد امرأة العزيز له، بتغليق الأبواب، ودعائه إلى نفسها.
ورابعها: كيدها له بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بأَهْلِكَ سُوءا إِلا أنْ
يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] .
فكادته بالمراودة أولا، وكادته بالكذب عليه ثانيا، ولهذا قال لها الشاهد لما تبين له براءة يوسف عليه السلام:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] .
وخامسها، كيدها له حيث جمعت له النسوة، وأخرجته عليهن، تستعين بهن عليه، وتستعذر إليهن من شغفها به.
وسادسها: كيد النسوة له، حتى استجار بالله تعالى من كيدهن فقال:{وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ إلَيْهِنَّ أصب وأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِين فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [يوسف: 33- 34] .
ولهذا لما جاء الرسول بالخروج من السجن قال له: {اُرْجعْ إِلَى ربك فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] .
فإن قيل: فما كان مكر النسوة اللاتى مكرن به، وسمعت به امرأة العزيز، فإن الله سبحانه لم يقصه فى كتابه؟.
قيل: بلى، قد أشار إليه بقوله:{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى المَدينَةِ اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] .
وهذا الكلام متضمن لوجوه من المكر:
أحدها: قولهن: {اُمْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِد فَتَاهَا} [يوسف: 30] .
ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذى ينادى عليها بقبيح فعلها، بكونها ذات بَعْل. فصدور الفاحشة منها أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.
الثانى، أن زوجها عزيز مصر ورئيسها وكبيرها، وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.
الثالث: أن الذى تراوده مملوك لا حُر، وذلك أبلغ فى القبح.
الرابع: أنه فتاها الذى هو فى بيتها وتحت كنفها، فحكمه حكم أهل البيت، بخلاف من طلب ذلك من الأجنبى البعيد.
الخامس: أنها هى المراودة الطالبة.
السادس: أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.
السابع: أن فى ضمن هذا أنه أعف منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هى المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافاً وكرماً وحياء، وهذا غاية الذم لها.
الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع، حالا واستقبالا: وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقرى الضيف، ويطعم الطعام، ويحمل الكل. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.
التاسع قولهن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30] .
أى إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح فنسبن الاستقباح إليها. ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى، ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغى أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.
العاشر: أنهن جمعن لها فى هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط. فلم تقتصد فى حبها، ولا فى طلبها. أما العشق فقولهن:{قَدْ شَغَفَهَا حُباً} [يوسف: 30] .
أى وصل حبه إلى شغاف قلبها. وأما الطلب المفرط فقولهن: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} [يوسف: 30] .
والمراودة: الطلب مرة بعد مرة، فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة. فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن وخبأت يوسف عليه السلام عنهن. وقيل: إنها جملته وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة، فلم يَرعْهُنَّ إلا وأحسن خلق الله وأجملهم قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك المنظر البهى، وفى أيديهن مُدًى يقطعن بها ما يأكلنه فدهشن حتى قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن. وقد قيل: إنهن أبن أيديهن، والظاهر خلاف ذلك، وإنما تقطيعهن أيديهن: جُرحُها وشقها بالمُدى لدَهَشهنَّ بما رأين،
فقابلت مكرهن القولى بهذا المكر الفعلى، وكانت هذه فى النساء غاية فى المكر.
والمقصود: أن الله سبحانه كاد ليوسف عليه السلام، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدى إخوته بغير اختيارهم، كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره. وكاد له بأن أوقفهم بين يديه موقف الذليل الخاضع المستجدى، فقالوا:{يَا أَيَّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِى المَتَصَدِّقيِنَ} [يوسف: 88] .
فهذا الذل والخضوع فى مقابلة ذله وخضوعه لهم يوم إلقائه فى الجب وبيعه بيع العبيد.
وكاد له بأن هيأ له الأسباب التى سجدوا له هم وأبوه وخالته، فى مقابلة كيدهم له، حذرا من وقوع ذلك، فإن الذى حملهم على إلقائه فى الجب خشيتهم أن يرتفع عليهم حتى يسجدوا له كلهم، فكادوه خشية ذلك. فكاد الله تعالى له حتى وقع ذلك. كما رآه فى منامه.
وهذا كما كاد فرعون بنى إسرائيل: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيى نِسَاءَهُمْ} [القصص: 4] .
خشية أن يخرج فيهم من يكون زوال ملكه على يديه، فكاده الله سبحانه، بأن أخرج له هذا المولود، ورباه فى بيته، وفى حجره، حتى وقع به منه ما كان يحذره، كما قيل:
وَإذَا خَشيتَ مِنَ الأُمُورِ مُقَدَّرا
…
وَفَرَرْتَ مٍنْهُ، فَنَحْوَهُ تَتَوَجَّهُ
فصل
وكيد الله سبحانه لا يخرج عن نوعين.
أحدهما: أن يفعل سبحانه فعلا خارجاً عن قدرة العبد الذى كاد له، فيكون الكيد قدرا محضا، ليس من باب الشرع، كما كاد الذين كفروا، بأن انتقم منهم بأنواع العقوبات وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام، فإن يوسف أكثر ما قدر عليه أن ألقى الصواع فى رحل أخيه، وأرسل مؤذنا يؤذن:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] فلما أنكروا قال: {فَما جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتَمْ كَاذِبينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وَجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74] .
أى جزاؤه استعباد المسروق ماله للسارق، إما مطلقا، وإما إلى مدة. وهذه كانت شريعة آل يعقوب عليه السلام
حتى قيل: إن مثل هذا كان مشروعا فى أول الإسلام: أن المدين إذا أعسر بالدين استرقه صاحب الحق، وعليه حمل حديث بيع النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سُرَّق.
وقيل: بل كان بيعه إياه: إيجاره لمن يستعمله، وقضى دينه بأجرته، وعلى هذا فليس بمنسوخ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى: أن المفلس إذا بقيت عليه ديون وله صنعة أجبر على إجارته نفسه، أو أجره الحاكم ووفى دينه من أجرته.
وكان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] .
كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسن إخوته، وذلك خارج عن قدرته. وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك، بأن يقولوا: لا جزاء عليه، حتى يثبت أنه هو الذى سرق، فإن مجرد وجوده فى رحله لا يوجب أن يكون سارقاً.
وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة، وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق فى دينكم، وقد كان من دين ملك مصر - فيما ذكر -: أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك، لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه:{كَذلكَ كِدْنَا لِيُوسُفْ مَا كَانَ لِيَأْخُذُ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] .
أى ما كان ليمكنه أخذه فى دين ملك مصر، لأنه لم يكن فى دينه طريق إلى أخذه.
وقوله {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [يوسف: 76] .
استثناء منقطع، أى لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، ويجوز أن يكون متصلا، والمعنى: إلا أن يهيئ الله سببا آخر يؤخذ به فى دين الملك غير السرقة.
وفى هذه القصة تنبيه على الأخذ باللوث الظاهر فى الحدود، وإن لم تقم بينة، ولم يحصل إقرار، فإن وجود المسروق مع السارق أصدق من البينة، فهو بينة لا تلحقها التهمة، وقد اعتبرت شريعتنا ذلك فى مواضع.
منها: اللوث فى القسامة، والصحيح: أنها يقُاد بها، كما دل عليه النص الصحيح الصريح.
ومنها: حد الصحابة رضى الله عنهم فى الخمر بالرائحة والقيء.
ومنها: حد عمر رضى الله عنه فى الزنا بالحبل، وجعله قسيم الاعتراف والشهادة فوجود المسروق مع السارق إن لم يكن أظهر من هذا كله فليس دونه.
فلما فتشوا متاعه فوجدوا فيه الصواع كان ذلك قائما مقام البينة والاعتراف، فلهذا لم يمكنهم أن يتظلموا من أخذه ولو كان هذا ظلما لقالوا: كيف يأخذه بغير بينة ولا إقرار؟.
وقد أشبعنا الكلام فى ذلك فى كتاب "الإعلام باتساع طرق الأحكام".
والمقصود: أنه ليس فى قصة يوسف عليه السلام شبهة، فضلا عن الحجة، لأرباب الحيل.
فإنا إنما تكلمنا فى الحيل التى يفعلها العبد، وحكمها فى الإباحة، والتحريم، لا فيما يكيد الله سبحانه وتعالى لعبده، بل فى قصة يوسف عليه السلام تنبيه على أن من كاد غيره كيداً محرماً فإن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكيده، وأنه لا بد أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده، وتلطف به، فالمؤمن المتوكل على الله إذا كاده الخلق فإن الله تعالى يكيد له، وينتصر له، بغير حول منه ولا قوة.
فهذا أحد النوعين من كيده سبحانه لعبده.
النوع الثانى: أن يلهمه أمرا مباحا، أو مستحبا، أو واجبا، يوصله به إلى المقصود الحسن، فيكون على هذا إلهامه ليوسف عليه السلام أن يفعل ما فعل هو من كيده سبحانه أيضا، فيكون قد كاد له نوعى الكيد، ولهذا قال سبحانه:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] .
وفى ذلك تنبيه على أن العلم الدقيق بلطيف الحيل الموصلة إلى المقصود الشرعى الذى يحبه الله تعالى ورسوله، من نصر دينه وكسر أعدائه، ونصر المحق وقمع المبطل: صفة مدح يرفع الله تعالى بها درجة العبد، كما أن العلم الذى يخصم به المبطل، ويدحض حجته صفة مدح يرفع
بها درجة عبده، كما قال سبحانه فى قصة إبراهيم عليه السلام، ومناظرته قومه، وكسر حجتهم:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] .
وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، ولكن ليس هو الكيد الذى تستحل به المحرمات، وتسقط به الواجبات، فإن هذا كيد لله تعالى ودينه، فالله سبحانه ودينه هو المكيد فى هذا القسم، فمحال أن يشرع الله سبحانه هذا النوع من الكيد.
وأيضا، فإن هذا الكيد لا يتم إلا بفعل يقصد به غير مقصوده الشرعى، ومحال أن يشرع الله تعالى لعبد أن يقصد بفعله ما لم يشرع الله ذلك الفعل له.
وأيضا، فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحاً لشخص كان مباح لكل من كان حاله مثل حاله، فمن احتال بحيلة فقهية محرمة أو مباحة لم يكن له اختصاص بتلك الحيلة عمن لا يفهمها ولا يعلمها، وإنما خاصية الفقيه، إذا حدثت به حادثة: أن يتفطن لاندراجها تحت الحكم العام الذى يعلمه هو وغيره والله سبحانه إنما كاد ليوسف عليه السلام كيدا خاصاً به، جزاء له على صبره، وإحسانه، وذكره فى معرض المنة عليه، وهذه الأفعال التى فعلها يوسف عليه السلام والأفعال التى فعلها الله سبحانه له إذا تأملها اللبيب رآها لا تخرج عن نوعين:
أحدهما: إلهام الله سبحانه له فعلا كان مباحا له أن يفعله.
الثانى: فعل من الله تعالى به خارج عن مقدور العبد.
وكلا النوعين مباين للحيل المحرمة التى يحتال بها على إسقاط الواجبات وإباحة المحرمات.
فصل
لعلك تقول: قد أطلت الكلام فى هذا الفصل جدا، وقد كان يكفى الإشارة إليه.
فيقال: بل الأمر أعظم مما ذكرنا، وهو بالإطالة أجدر. فإن بلاء الإسلام ومحنته عظمت من هاتين الطائفتين: أهل المكر والمخادعة، والاحتيال فى العمليات، وأهل التحريف والسفسطة والقرمطة فى العلميات. وكل فساد فى الدين - بل والدنيا - فمنشؤه من هاتين الطائفتين.
فبالتأويل الباطل قتل عثمان رضى الله عنه، وعاثت الأمة فى دمائها، وكفر بعضها بعضا وتفرقت على بضع وسبعين فرقة، فجرى على الإسلام من تأويل هؤلاء، وخداع هؤلاء ومكرهم ما جرى، واستولت الطائفتان، وقويت شوكتهما، وعاقبوا من لم يوافقهم وأنكر عليهم، ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه، ويبين أعلامه وحقائقه، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته على عباده.
فلنرجع إلى ما نحن بصدده من بيان مكايد الشيطان ومصايده.
فصل
ومن مكايده ومصايده: ما فتن به عشاق الصور.
وتلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى التى استعبدت النفوس لغير خلاقها. وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فصيرت القلب للهوى أسيرا وجعلته عليه حاكما وأميرا. فأوسعت القلوب محنة. وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها. وصرفتها عن طريق قصدها.
ونادت عليها فى سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالى من غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن، فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس، الذى ألمهُا به أضعاف لذتها، ونَيْله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها، فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب. ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأنه لم يكن له بحبيب. وإن تمتع به فى هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين. لاسيما إذا صار الأخِلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوا إلا المتقين.
فيا حسرة المحب الذى باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة، وبقيت الشّقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة، فوا رحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين، حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب فى العذاب الأليم. فهناك يعلم
المخدوع أى بضاعة أضاع، وأن من كان مالك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع، فأى مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا. فلو رأيت قلبه وهو فى يد محبوبه لرأيته:
كعُصْفُورَةٍ فِى يد طِفْلٍ يَسُومُهَا
…
حِيَاضَ الرَّدَى، وَالطِّفْلُ يلْهُو وَيَلْعَبُ
ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت:
وَمَا فِى الأرْضِ أشْقَى مِنْ مُحِبٍ
…
وَإنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ المَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِياً فى كُلِّ حِينٍ
…
مَخَافَةَ فُرْقَةٍ، أَوْ لاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِى إنْ نَأَوْا، شَوْقاً إِلَيْهِمْ
…
وَيَبْكِى إنْ دنَوْا، حَذَرَ الْفِرَاقِ
ولو شاهدت نومه وراحته، لعلمت أن المحبة والمنام تعاهدا وتحالفا أن ليسا يلتقيان ولو شاهدت فيض مدامعه، ولهيب النار فى أحشائه لقلت:
سُبْحَانَ رَبِّ الْعَرْشِ، مُتْقِنِ صُنْعِهِ
…
وَمُؤَلِّفِ الأَضْدَادِ دُونَ تَعاَنُد
قَطْرٌ تَوَلّدَ عَنْ لَهِيبٍ فى الْحَشَا
…
مَاءٌ وَنَارٌ فى مَحَلٍّ واحِدِ
ولو شاهدت مسلك الحب فى القلب وتغلغه فيه، لعلمت: أن الحب ألطف مسلكا فيه من الأرواح فى أبدانها.
فهل يليق بالعاقل أن يبيع هذا الملك المطاع لمن يسومه سوء العذاب، ويوقع بينه وبين وليه ومولاه الحق الذى لا غناء له عنه ولا بد له منه أعظم الحجاب؟ فالمحب بمن أحبه قتيل. وهو له عبد خاضع ذليل. إن دعاه لباه. وإن قيل له: ما تتمنى؟ فهو غاية ما يتمناه، لا يأنس بغيره ولا يسكن إلى سواه، فحقيق به أن لا يملك رقه إلا لأجلِّ حبيب. وأن لا يبيع نصيبه منه بأخس نصيب.
فصل
إذا عرف هذا فأصل كل فعل وحركة فى العالم: من الحب والإرادة، فهما مبدأ لجميع الأفعال والحركات، كما أن البغض والكراهية مبدأ كل ترك وكف، إذا قيل: إن الترك والكف أمر وجودى، كما عليه أكثر الناس، وإن قيل: إنه عدمى فيكفى فى عدمه عدم مقتضيه.
والتحقيق: أن الترك نوعان: ترك هو أمر وجودى. وهو كف النفس ومنعها وحبسها عن الفعل، فهذا سببه أمر وجودى، وترك هو عدم محض، فهذا يكفى فيه عدم المقتضى.
فانقسم الترك إلى قسمين: قسم يكفى فيه عدم السبب المقتضى لوجوده، وقسم يستلزم وجود السبب الموجب له: من البغض والكراهة، وهذا السبب لا يقتضى بمجرده كف النفس وحبسها.
والالتئام مسبب عن المحبة، والإرادة تقتضى أمرا هو أحب إليه من هذا الذى كف نفسه عنه، فيتعارض عنده الأمران. فيؤثر خيرهما وأعلاهما وأنفعهما له، وأحبهما إليه، على أدناهما، فلا يترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليه منه ولا يرتكب مبغوضا إلا ليتخلص به من مبغوض هو أكره إليه منه.
ثم خاصية العقل واللب: التمييز بين مراتب المحبوبات والمكروهات بقوة العلم والتمييز، وإيثار أعلى المحبوبين على أدناهما، واحتمال أدنى المكروهين التخلص من أعلاهما، بقوة الصبر واليقين.
فالنفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب، ولا تتحمل مكروها إلا لتحصيل محبوب، أو للتخلص من مكروه آخر، وهذا التخلص لا تقصده إلا لمنافاته لمحبوبها، فصار سعيها فى تحصيل بالذات، وأسبابه بالوسيلة، ودفع مبغوضها بالذات، وأسبابه بالوسيلة، فسعيه فى تحصيل محبوبه لماله فيه من اللذة، وكذلك سعيه فى دفع مكروهه أيضاً لماله فى دفعه من اللذة. كدفع ما يؤلمه من البول والنجو، والدم والقيء، وما يؤلمه من الحر والبرد، والجوع والعطش، وغير ذلك.
وإذا علم أن هذا المكروه يفضى إلى ما يحبه يصير محبوبا له، وإن كان يكرهه. فهو يحبه من وجه، ويكرهه من وجه، وكذلك إذا علم أن هذا المحبوب يفضى إلى ما يكرهه يصير مكروها له، وإن كان يحبه. فهو يكرهه من وجه، ويحبه من وجه.
فلا يترك الحى ما يحبه ويهواه مع قدرته إلا لما يحبه ويهواه. ولا يرتكب ما يكرهه ويخشاه إلا حذار وقوعه فيما يكرهه ويخشاه، لكن خاصية العقل أن يترك أدنى المحبوبين وأقلهما نفعا لأعلاهما وأعظمهما نفعا، ويرتكب أدنى المكروهين ضررا ليتخلص به من أشدهما ضررا.
فتبين بذلك أن المحبة والإرادة أصل للبغض والكراهة، وعلة لهما، من غير عكس فكل بغض فهو لمنافاة البغيض للمحبوب. ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض، بخلاف الحب للشيء. فإنه قد يكون لنفسه، لا لأجل منافاته للبغيض. وبغض الإنسان لما يضاد محبوبه مستلزم لمحبته لضده. وكلما كان الحب أقوى كانت قوة البغض للمنافى أشد.
ولِهذا كان "أوْثَقُ عُرَى الإيَمانِ الْحُبُّ فى اللهِ وَالْبُغْضُ فى اللهِ"، وكان "مَنْ أحَبَّ للهِ، وَأبْغَضَ للهِ، وَأعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإيَمانَ".
فإن الإيمان علم وعمل، والعمل ثمرة العلم، وهو نوعان: عمل القلب حبا وبغضا، ويترتب عليهما عمل الجوارح، فعلا، وتركا، وهما العطاء والمنع.
فإذا كانت هذه الأصول الأربعة لله تعالى، كان صاحبها مستكمل الإيمان، وما نقص منها فكان لغير الله، نقص من إيمانه بحسبه.
فصل
إذا عرف هذا فكل حركة فى العالم العلوى والسفلى فسببها المحبة والإرادة، وغايتها المحبة والإرادة.
فإن الحركات ثلاث: إرادية، وطبعية، وقسرية.
فإن المتحرك إن كان له شعور بحركته وإرادة لها، فحركته إرادية، وإن لم يكن له شعور بحركته، أوله بها شعور وهو غير مريد لها، فحركته إما على وفق طبعه، أو على خلافه، فالأولى طبعية، والثانية قسرية.
أظهر من هذا أن يقال: مبدأ الحركة إما أن يكون أمرا مباينا للمتحرك، أو قوة فيه، فالأول الحركة فيه قسرية، والثانى، إما أن يكون له به شعور أم لا، فالأول: الحركة فيه إرادية، والثانى طبعية.
فالحركة متى لازمت الشعور والإرادة فهى إرادية، ومتى انتفى عنها الأمران، فإن كانت بقوة فى المتحرك فهى الطبعية، وإن كانت من غير قوة فى المحرك فهى القسرية.
وكل حركة فى السماوات والأرض: من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهى ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، كما قال تعالى:
{فَالمُدَبِّرَاتِ أمْرا} [النازعات: 5]، وقال {فَالمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات: 4] .
وهى الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل عليهم السلام، وأما المكذبون للرسل، المنكرون للصانع، فيقولون: هى النجوم.
وقد أشبعنا الرد على هؤلاء فى كتابنا الكبير المسمى بالمفتاح.
وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكِّل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها. ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظه، وملائكة لحفظ ما يعمله
وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالسؤال فى القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها، وعمل الأنهار فيها ملائكة فالملائكة أعظم جنود الله تعالى. ومنهم:
{وَالمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فالمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} [المرسلات: 1-5] ومنهم {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرَا} [النازعات:1-5] ومنهم {وَالصَّافّاتِ صَفا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرَا} [الصافات:1-3] .
ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش،
وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التى لا يحصيها إلا الله تعالى.
ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره:
{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إلا لَمِن اُرْتَضَى وَهْمْ مِنْ خَشْيَتهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 27 - 28]{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤمَرُونَ} [النحل: 50]{لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرْونَ} [التحريم: 6] .
ولا تتنزل إلا بأمره، ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه، فهم:
{عِبَادٌ مُكرَمُونَ} [الأنبياء: 26] .
منهم الصافون، ومنهم المسبحون. ليس منهم إلا من له مقام معلوم، لا يتخطاه وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه، ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده سبحانه:
{لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَستَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليْلَ وَالنَّهَارَ لا يفْتُروُنَ} [الأنبياء: 19- 20] .
ورؤساؤهم الأملاك الثلاث: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وكان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول:"الّلهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكائِيلَ وَإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمْ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اُهْدِنِى لَمِا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".
فتوسل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصة لهؤلاء الأملاك الثلاثة الموكلين بالحياة.
فجبريل موكل بالوحى الذى به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذى به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ فى الصور الذى به حياة الخلق بعد مماتهم.
فسأله رسوله بربوبيته لهؤلاء أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، لما فى ذلك من الحياة النافعة.
وقد أثنى الله سبحانه على عبده جبريل فى القرآن أحسن الثناء، ووصفه بأجمل الصفات فقال:
فهذا جبريل، فوصفه بأنه رسوله، وأنه كريم عنده، وأنه ذو قوة ومكانة عند ربه سبحانه، وأنه مطاع فى السماوات، وأنه أمين على الوحى.
فمن كرمه على ربه: أنه أقرب الملائكة إليه.
قال بعض السلف: منزلته من ربه منزلة الحاجب من الملك.
ومن قوته: أنه رفع مدائن قوم لوط على جناحه، ثم قلبها عليهم. فهو قوى على تنفيذ ما يؤمر به، غير عاجز عنه، إذ تطيعه أملاك السماوات فيما يأمرهم به عن الله تعالى.
قال ابن جرير فى "تفسيره": عن إسماعيل بن أبى خالد عن أبى صالح: أمين على أن يدخل سبعين سُرادقاً من نور بغير إذن.
ووصفه بالأمانة يقتضى صدقه ونصحه، وإلقاءه إلى الرسل ما أمر به من غير زيادة ولا نقصان ولا كتمان. فالمكانة والأمانة والقوة والقرب من الله. ونظير الجمع له بين المكانة والأمانة: قول العزيز ليوسف عليه السلام: {إِنّكَ الْيَوْمَ لَدَيَنَا مَكِين أَمِينٌ} [يوسف: 54] .
والجمع بين القوة والأمانة: نظير قول ابنه شعيب فى موسى
عليهما السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأمِينُ} [القصص: 26] .
وقال تعالى فى وصفه: {عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مٍرَّةٍ فَاسْتَوى} [النجم: 5-6] .
قال ابن عباس رضى الله عنهما "ذو منظر حسن" وقال قتادة "ذو خلق حسن" وقال ابن جرير: "عنى بالمرة صحة الجسم وسلامته من الآفات والعاهات، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان كان قويا".
والمرة واحدة المرر، وإنما أريد به ذو مرة سوية، ومنه قول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"لا تحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِى، وَلا لِذِى مِرَّةٍ سَوِى".
قلت: هذا حجة من قال: المرة القوة فى الآية، وهو قول مجاهد وابن زيد، وهو قول ضعيف. لأنه قد وصفه قبل ذلك بأنه:{شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] .
ولا ريب أن المرة فى الحديث هى القوة، لا المنظر الحسن، فإما أن يقال: المرة تقال على هذا وعلى هذا، وإما أن يقال - وهو الأظهر -: إن المرة هى الصحة والسلامة من الآفات والعاهات الظاهرة والباطنة، وذلك يستلزم كمال الخلقة وحسنها وجمالها. فإن العاهة والآفة إنما تكون من ضعف الخلقة والتركيب، فهى قوة وصحة تتضمن جمالا وحسنا، والله أعلم.
وقالت اليهود للنبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "من صاحبك الذى يأتيك من الملائكة؟ فإنه ليس من نبى إلا يأتيه ملك بالخبر؟ قال: "هو جبريل". قالوا: ذاك الذى ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذى ينزل بالنبات والقطر والرحمة؟ فأنزل الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوا لْجِبِريلَ فَإنَّه نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإنَّ اللهَ عَدُوٌ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 97 - 98] .
والمقصود: أن الله سبحانه وكل بالعالم العلوى والسفلى ملائكة، فهى تدبر أمر العالم بإذنه ومشيئته وأمره، فلهذا يضيف التدبير إلى الملائكة تارة، لكونهم هم المباشرين للتدبير، كقوله:
{فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً} [النازعات: 5] .
ويضيف التدبير إليه كقوله: {إِنَّ رَبَّكُم اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ فِى سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 3] قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَى مِنَ المَيِّتِ وَيخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَى وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] . فهو المدبر أمراً وإذناً ومشيئةً، والملائكة المدبرات مباشرة وامتثالاً.
وهذا كما أضاف التوفى إليهم تارة، كقوله تعالى:{تَوَفّتْهُ رُسُلنَا} [الأنعام: 61] .
وإليه تارة، كقوله:{اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفسَ} [الزمر: 42] ونظائره.
والملائكة الموكلة بالإنسان من حين كونه نطفة إلى آخر أمره لهم وله شأن آخر فإنهم موكلون بتخليقه، ونقله من طور إلى طور، وتصويره، وحفظه فى أطباق الظلمات الثلاث، وكتابة رزقه، وعمله، وأجله، وشقاوته، وسعادته، وملازمته فى جميع أحواله، وإحصاء أقواله وأفعاله، وحفظه فى حياته، وقبض روحه عند وفاته، وعرضها على خالقه وفاطره. وهم الموكلون بعذابه ونعيمه فى البرزخ، وبعد البعث. وهم الموكلون بعمل آلات النعيم والعذاب. وهم المثبتون للعبد المؤمن بإذن الله، والمعلمون له ما ينفعه، والمقاتلون الذابون عنه، وهم أولياؤه فى الدنيا والآخرة، وهم الذين يرونه فى منامه ما يخافه ليحذره، وما يحبه ليقوى قلبه، ويزداد شكرا، وهم الذين يعدونه بالخير ويدعونه إليه، وينهونه عن الشر، ويحذرونه منه.
فهم أولياؤه وأنصاره، وحفظته، ومعلموه، وناصحوه، والداعون له، والمستغفرون له، وهم الذين يصلون عليه مادام فى طاعة ربه، ويصلون عليه مادام يعلم الناس الخير، ويبشرونه بكرامة الله تعالى فى منامه، وعند موته، ويوم بعثه. وهم الذين يزهدونه فى الدنيا، ويرغبونه فى الآخرة. وهم الذين يذكرونه إذا نسى. وينشطونه إذا كسل، ويثبتونه إذا جزع. وهم الذين يسعون فى مصالح دنياه وآخرته.
فهم رسل الله فى خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، تتنزل بالأمر من عنده فى أقطار العالم، وتصعد إليه بالأمر قد أطت بهم السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، أو راكع أو ساجد ويدخل البيت المعمور كل يوم منهم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه آخر ما عليه.
والقرآن مملوء بذكر الملائكة، وأصنافهم، وأعمالهم، ومراتبهم. كقوله تعالى:{وَإذْ قَالَ رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّى جَاعٍلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَل فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ وَنُقّدِّسُ لَكَ قّالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَالَا تَعْلَمُونَ وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكةِ فَقالَ أَنْبِئُونِى بِأَسْماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاّ مَا عَلّمْتَنَا إنّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسمائهم فَلمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّى أعْلُم غَيْبَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ} إلى آخر القصة [البقرة: 30 - 38] وقوله: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبهِّمْ} [القدر: 4] .
وما بين هاتين السورتين فى سور القرآن. بل لا تخلو سورة من سور القرآن عن ذكر الملائكة تصريحا، أو تلويحا، أو إشارة.
وأما ذكرهم فى الأحاديث النبوية فأكثر وأشهر من أن يذكر.
ولهذا كان الإيمان بالملائكة عليهم السلام أحد الأصول الخمس التى هى أركان الإيمان، وهى الأيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر.
فلنرجع إلى المقصود. وهو أن حركات العالم العلوى والسفلى بالملائكة. فالحركات الإرادية كلها تابعة للإرادة التى تحرك المريد إلى فعل ما يفعله، والحركة الطبيعية سببها ما فى
المتحرك من الميل والطلب لكماله وانتهائه، كحركة النار، وحركة النبات، وحركة الرياح. وكذلك حركة الجسم الثقيل إلى أسفل فإنه بطبعه يطلب مستقره من المركز، ما لم يعقه عنه عائق. وأما الحركة القسرية: كحركته بالقسر إلى العلو، فتابعه لإرادة القاسر له، فلم يبق حركة أصلية إلا عن الإرادة والمحبة.
فصل
فإذا عرف ذلك فالمحبة هى التى تحرك المحب فى طلب محبوبه الذى يكمل بحصوله له، فتحرك محب الرحمن، ومحب القرآن، ومحب العلم والإيمان، ومحب المتاع والأثمان، ومحب الأوثان والصلبان، ومحب النسوان والمردان، ومحب الأوطان ومحب الإخوان فتثير من كل قلب حركة إلى محبوبه من هذه الأشياء. فيتحرك عند ذكر محبوبه منه دون غيره، ولهذا تجد محب النسوان والصبيان، ومحب قرآن الشيطان بالأصوات والألحان لا يتحرك عند سماع العلم وشواهد الإيمان، ولا عند تلاوة القرآن، حتى إذا ذكر له محبوبه اهتز له وربا، وتحرك باطنه وظاهره شوقا إليه وطربا لذكره.
فكل هذه المحاب باطلة مضمحلة سوى محبة الله وما والاها، من محبة رسوله، وكتابه، ودينه، وأوليائه. فهذه المحبة تدوم وتدوم ثمرتها ونعيمها بدوام من تعلقت به، وفضلها على سائر المحاب كفضل من تعلقت به على ما سواه. وإذا انقطعت علائق المحبين، وأسباب توادهم وتحابهم لم تنقطع أسبابها. قال تعالى:{إذّ تَبَرَّأَ الّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الّذِينَ اُتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتقَطّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] .
قال عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما: "المودة".
وقال مجاهد: "تواصلهم فى الدنيا".
وقال الضحاك: "يعنى تقطعت بهم الأرحام، وتفرقت بهم المنازل فى النار".
وقال أبو صالح: "الأعمال".
والكل حق. فإن الأسباب هى الوُصَل التى كانت بينهم فى الدنيا، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها. وأما أسباب الموحدين المخلصين لله فاتصلت بهم ودام اتصالها بدوام معبودهم ومحبوبهم. فإن السبب تبع لغايته فى البقاء والانقطاع.
فصل
إذا تبين أصل هذا فأصل المحبة المحمودة التى أمر الله تعالى بها وخلق خلقه لأجلها: هى محبته وحده لا شريك له، المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه.
فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل وحده.
ولما كانت المحبة جنسا تندرج تحته أنواع متفاوتة فى القدر والوصف، كان أغلب ما يذكر فيها فى حق الله تعالى: ما يختص به ويليق به، كالعبادة والإنابة والإخبات، ولهذا لا يذكر فيها لفظ العشق والغرام، والصبابة، والشغف، والهوى، وقد يذكر لها لفظ المحبة، كقوله:{يحُبُّهُمْ وَيحُبُّونِهُ} [المائدة: 54] وقوله {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبْبِكْمْ اللهُ} [آل عمران: 31] وقوله {وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبا للهِ} [البقرة: 165] .
ومدار كتب الله تعالى المنزلة من أولها إلى آخرها على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهى عن محبة ما يضادها وملازمتها، وضرب الأمثال والمقاييس لأهل المحبتين، وذكر قصصهم ومآلهم، ومنازلهم، وثوابهم، وعقابهم، ولا يجد حلاوة الإيمان، بل لا يذوق طعمه، إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كما فى الصحيحين من حديث أنس رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله سلم قال:"ثَلَاثٌ مَنْ كُن فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَة الإيمَانِ - وفى لفظ: لا يَجُد طَعْمَ الإِيمَانِ إلا مَنْ كانَ فِيهِ ثَلاثُ: مَنْ كانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مَّمِا سِوَاهُما، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَرْجِعَ فى الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنُقَذَهُ اللهُ تعالى مِنْهُ، كما يَكْرَهُ أَنْ يُلقَى فى النَّارِ".
وفى الصحيحين أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجَمَعِينَ".
ولهذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، على عبادة الله وحده لا شريك له.
وأصل العبادة وتمامها وكمالها هو المحبة، وإفراد الرب سبحانه بها، فلا يشرك العبد به فيها غيره.
والكلمة المتضمنة لهذين الأصلين هى الكلمة التى لا يدخل فى الإسلام إلا بها، ولا يعصم دمه وماله إلا بالإتيان بها، ولا ينجو من عذاب الله إلا بتحقيقها بالقلب واللسان وذكرها أفضل الذكر، كما فى صحيح ابن حبان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم:
"أَفْضَلُ الذِّكْرِ لا إِلهَ إلاّ اللهُ".
والآية المتضمنة لها ولتفضيلها سيدة آى القرآن، والسورة المختصة بتحقيقها تعدل ثلث القرآن، بها أرسل الله سبحانه جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، وشرع جميع شرائعه، قياما بحقها وتكميلا لها. وهى التى يدخل بها العبد على ربه، ويصير فى جواره وهى مفزع أوليائه وأعدائه، فإن أعداءه إذا مسهم الضر فى البر والبحر فزعوا إلى توحيده، وتبرءوا من شركهم، ودعوه مخلصين له الدين. وأما أولياؤه فهى مفزعهم فى شدائد الدنيا والآخرة.
ولهذا كانت دعوات المكروب "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم".
ودعوة ذى النون التى ما دعاً بها مكروب إلا فرج الله كربه "لا إله إلا أنت، سبحانك إنى كنت من الظالمين".
وقال ثوبان رضى الله تعالى عنه "كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا راعه
أمر قال: الله ربى لا أشرك به شيئا" وفى لفظ قال: " هو الله لا شريك له".
وقالت أسماء بنت عميس رضى الله عنها "علمنى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كلمات أقولها عند الكرب: الله، الله ربى، لا أشرك به شيئا".
وفى الترمذى من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبى وقاص عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"دَعْوَةُ يُونُسَ إِذْ نَادَى فى بَطْنِ الْحُوتِ: لا إِلهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظّالمِينَ، فَإنّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فى شَئْ إلا اُسْتُجِيبَ لَهُ".
وفى "مسند الإمام أحمد" مرفوعا "دَعوَاتُ المَكْرُوبِ: الّلهُمَّ رَحْمَتكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِى إلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنِ، وَأَصْلِحْ لِى شَأْنِى كُلّهُ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ".
فالتوحيد ملجأ الطالبين، ومفزع الهاربين، ونجاة المكروبين، وغياث الملهوفين، وحقيقته إفراد الرب سبحانه بالمحبة والإجلال التعظيم، والذل والخضوع.
فصل
فإذا عرفٍ أن كل حركة فأصلها الحب والإرادة، فلا بد من محبوب مراد لنفسه، لا يطلب ويحب لغيره، إذ لو كان كل محبوب يحب لغيره لزم الدور أو التسلسل فى العلل والغايات، وهو باطل باتفاق العقلاء، والشيء قد يحب من وجه دون وجه، وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله عز وجل وحده، الذى لا تصلح الألوهية إلا له، فلو كان فى السماوات والأرض آلهة إلا الله لفسدتا. والإلهية التى دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هى العبادة والتأليه. ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذى أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلهية.
فصل
وكل حى فله إرادة وعمل بحسبه، وكل متحرك فله غاية يتحرك إليها، ولا صلاح له إلا أن تكون غاية حركته ونهاية مطلبه: هو الله وحده. كما لا وجود له إلا أن يكون الله وحده هو ربه وخالقه، فوجوده بالله وحده، وكماله أن يكون لله وحده. فما لا يكون به لا يكون، ومالا يكون له لا ينفع ولا يدوم، ولهذا قال تعالى:{لَوْ كانَ فِيهِمَا آلَهِةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
ولم يقل لعدمتا، إذ هو سبحانه قادر على أن يبقيهما على وجه الفساد، لكن لا يمكن أن تكونا صالحين إلا بأن يكون فاطرهما وخالقهما هو المعبود وحده لا شريك له، فإن صلاح الأعمال والحركات بصلاح نياتها ومقاصدها، فكل عمل فهو تابع عامله وقصده وإرادته.
وتقسيم الأعمال إلى صالح فاسد، هو باعتبارها فى ذواتها تارة وباعتبار مقاصدها ونياتها تارة.
وأما تقسيم المحبة والإرادة إلى نافعة وضارة، فهو باعتبار متعلقها، ومحبوبها، ومرادها، فإن كان المحبوب المراد هو الذى لا ينبغى أن يحب لذاته ويراد لذاته إلا هو، وهو المحبوب الأعلى، الذى لا صلاح للعبد، ولا فلاح، ولا نعيم، ولا سرور، إلا بأن يكون هو وحده محبوبه، ومراده، وغاية مطلوبه، كانت محبته نافعة له. وإن كان محبوبه ومراده ونهاية مطلوبه غيره كانت محبته ضارة غيره كانت محبته ضارة له وعذابا شقاء.
فالمحبة النافعة هى التى تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم، والمحبة الضارة هى التى تجلب لصاحبها ما يضره من الشقاء والألم والعناء.
فصل
إذا تبين هذا فالحى العالم الناصح لنفسه لا يؤثر محبة ما يضره ويشقى به ويتألم به، ولا يقع ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته، أو من فساد قصده وإرادته.
فالأول: جهل، والثانى ظلم: والإنسان خلق فى الأصل ظلوماً جهولا، ولا ينفك عن
الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد به الخير علمه ما ينفعه، فخرج به عن الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم، ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على أصل الخلقة، كما فى المسند من حديث عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:
"إِنَّ اللهَ خَلَقَ خَلْقَهُ فى ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فمَنْ أصَابَهُ ذلِكَ النُّورُ اُهْتَدَى، وَمَنْ أخْطأَهُ ضَلَّ".
فالنفس تهوى ما يضرها ولا ينفعها، لجهلها بمضرته لها تارة، ولفساد قصدها تارة، ولمجموعهما تارة، وقد ذم الله تعالى فى كتابه من أجاب داعى الجهل والظلم، فقال:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهَمْ وَمَنْ أَضَلُّ مَّمِنِ اتبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظّالمِين} [القصص: 50] وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} [النجم: 23] .
فأصل كل خير: هو العلم والعدل، وأصل كل شر: هو الجهل والظلم.
وقد جعل الله سبحانه للعدل المأمور به حدا، فمن تجاوزه كان ظالما معتديا، وله من الذم والعقوبة بحسب ظلمه وعدوانه، الذى خرج به عن العدل، ولهذا قال سبحانه وتعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] .
قال فيمن ابتغى سوى زوجته أو ملك يمينه:
{فَمَن اُبْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولِئكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وقال {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] .
والمقصود: أن محبة الظلم والعدوان سببها فساد العلم. أو فساد القصد، أو فسادهما جميعا.
وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم، وإلا فلو علم ما فى الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم لما آثره، ولهذا من علم من طعام شهى لذيذ أنه مسموم فإنه لا يقدم عليه، فضعف علمه بما فى الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه عن اجتنابه
يوقعه فى ارتكابه، ولهذا كان الإيمان الحقيقى هو الذى يحمل صاحبه على فعل ما ينفعهُ، وترك ما يضره، فإذا لم يفعل هذا ولم يترك هذا لم يكن إيمانه على الحقيقة، وإنما معه من الإيمان بحسب ذلك. فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان، حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها
الموصلة إليها، فضلا عن أن يسعى فيها بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها، وهذا أمر يجده الإنسان فى نفسه فيما يسعى فيه فى الدنيا من المنافع، أو التخلص منه من المضار.
فصل
إذا تبين هذا، فالعبد أحوج شئ إلى معرفة ما يضره ليجتنبه، وما ينفعه ليحرص عليه ويفعله، فيحب النافع: ويبغض الضار، فتكون محبته وكراهته موافقتين لمحبة الله تعالى وكراهته، وهذا من لوازم العبودية والمحبة، ومتى خرج عن ذلك أحب ما يسخطه ربه وكره ما يحبه، فنقصت عبوديته بحسب ذلك.
وهاهنا طريقان: العقل، والشرع. أما العقل، فقد وضع الله سبحانه فى العقول والفطر استحسان الصدق والعدل، والإحسان، والبر، والعفة، والشجاعة، ومكارم الأخلاق، وأداء الأمانات، وصلة الأرحام، ونصيحة الخلق، والوفاء بالعهد، وحفظ الجوار، ونصر المظلوم، والإعانة على نوائب الحق، وقرى الضيف، وحمل الكل، ونحو ذلك. ووضع فى العقول والفطر استقباح أضداد ذلك، ونسبة هذا الاستحسان والاستقباح إلى العقول والفطر كنسبة استحسان شرب الماء البارد عند الظمأ، وأكل الطعام اللذيذ النافع عند الجوع، ولبس ما يدفئه عند البرد، فكما لا يمكنه أن يدفع عن نفسه وطبعه استحسان ذلك ونفعه. فكذلك لا يدفع عن نفسه وفطرته استحسان صفات الكمال ونفعها، واستقباح أضدادها، ومن قال: إن ذلك لا يعلم بالعقل، ولا بالفطرة، وإنما عرف بمجرد السمع، فقوله باطل، قد بينا بطلانه فى كتاب المفتاح من ستين وجها وبينا هناك دلالة القرآن والسنة والعقول والفطر على فساد هذا القول.
والطريق الثانى لمعرفة الضار والنافع من الأعمال: السمع. وهو أوسع وأبين وأصدق من الطريق الأول، لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها، وأن العالم بذلك على التفصيل ليس هو إلا الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فأعلم الناس وأصحهم عقلا ورأيا واستحسانا من
كان عقله ورأيه واستحسانه وقياسه موافقا للسنة، كما قال مجاهد "أفضل العبادة الرأى الحسن، وهو اتباع السنة" قال تعالى: {وَيَرَى الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الّذِى أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] .
وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول فى مسائل العلم الخبرية وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم: أهل الشبهات والأهواء، لأن الرأى المخالف للسنة جهل لا علم، وهوى لا دين. فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله واتبع هواه بغير علم وغايته الضلال فى الدنيا والشقاء فى الآخرة، وإنما ينتفى الضلال والشقاء عمن اتبع هدى الله الذى أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى:{فَإمَّا يَأْتيَّنكُمْ مِنِّى هُدى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلَا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123-124] .
واتباع الهوى يكون فى الحب والبغض، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالٍدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيَّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَولَى بهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135]، وقال:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .
والهوى المنهى عن اتباعه كما يكون هو هوى الشخص فى نفسه، فقد يكون أيضا هوى غيره، فهو منهى عن اتباع هذا وهذا، لمضادة كل منهما لهدى الله الذى أرسل به رسله، وأنزل به كتبه.
فصل
فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين، من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها، فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل، قال تعالى: {هُوَ الّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَل بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً} [الروم: 21] .
وفى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه سئل "من أحب الناس إليك؟ فقال: عائشة" ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول، إذا حدث عنها:"حدثتنى الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، المبَّرأة من فوق سبع سماوات".
وصح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب. وجعلت قرة عينى فى الصلاة".
فلا عيب على الرجل فى محبته لأهله، وعشقه لها، إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له، من محبة الله ورسوله، وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله، بحيث تضعفها وتنقصها فهى مذمومة. وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهى محمودة، ولذلك كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يحب الشراب البارد الحلو، ويحب الحلواء والعسل، ويحب الخيل، وكان أحب الثياب إليه القميص، وكان يحب الدباء، فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله، بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله، فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه.
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة، وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يُثَبْ ولم يعاقب. وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله.
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله ومحبة فى الله، ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته.
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله، ومحبة ما يبغضه الله تعالى، ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها.
فهذه ستة أنواع، عليها مدار محاب الخلق.
فمحبة الله عز وجل أصل المحاب المحمودة، وأصل الإيمان والتوحيد، والنوعان الآخران تبع لها.
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة، والنوعان الآخران تبع لها.
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا، كان أبعد من عشق الصور، ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق، لشركها. ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه، قال تعالى:{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] .
فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا. فالمخلص قد خلص حبه لله، فخلصه الله من فتنة عشق الصور. والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله عز وجل.
فصل
ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور: أنه يمنى أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد، أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى، لا للفاحشة، ويأمره بمواخاته.
وهذا من جنس المخادنة، بل هو مخادنة باطنة. كذوات الأخدان اللاتى قال الله تعالى فيهن:{مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] .
وقال فى حق الرجال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] .
فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى، ويبطنون اتخاذها خدنا، يتلذذون بها فعلا، أو تقبيلا، أو تمتعا مجرد النظر والمخادنة، والمعاشرة، واعتقادهم أن هذا لله، وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغى، وتبديل الدين، حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له، وذلك من نوع الشرك، والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت. فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله، وأنه حب فيه: كفر وشرك، كاعتقاد محبى الأوثان فى أوثانهم.
وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق، جدير بالثواب، وأنه ساع فى دوائه وشفائه، وتفريج كرب العشق عنه، وأن "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة".
فصل
ثم هم بعد هذا الضلال والغى أربعة أقسام:
قوم يعتقدون أن هذا لله، وهذا كثير فى طوائف العامة، والمنتسبين إلى الفقر والتصوف، وكثير من الأتراك.
وقوم يعلمون فى الباطن أن هذا ليس لله، وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا.
وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك، لما يرجى لهم من التوبة. ومن وجه أخبث، لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم، وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهى قربة وطاعة، ووقع فى ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد، فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة.
القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى. فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التى لا وطء فيها لله تعالى، وأن الفاحشة معصية، فيقولون نفعل شيئا لله تعالى، ونفعل أمرا لغير الله تعالى، وتارة يكونون من أهل القسم الثانى الذين يظهرون أن هذه المحبة لله، وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك، فيجمعون بين الكذب والفاحشة، وهم فى هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح، فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين. وقد يزيد عليه تارة فى الكم والكيف، وقد ينقص عنه. وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين فى الله، لكن الذين
آمنوا أشد حباً لله، فإن المتحابين فى الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت، بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية.
ثم قد يشتد بينهما الاتصال حتى يسمونه زواجاً، ويقولون: تزوج فلان بفلان، كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة، ويقرهم الحاضرون على ذلك، ويضحكون منه، ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح. وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله، والملتحى عدو الله، وربما اعتقد كثير من المرادن أن هذا صحيح، وأنه المراد بقوله "إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل إنى أحب فلانا فأحبه - الحديث".
وأنه توضع له المحبة فى الأرض، فيعجبه أن يحب، ويفتخر بذلك بين الناس، ويعجبه أن يقال: هو معشوق، أو حظوة البلد، وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك.
وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان. وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح، والشكوى إلى القاضى، وفرض النفقة، والحبس على الحقوق.
وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان. لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الأخر بحكم الطبيعة.
وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر، ومملوك، ومعشوق خاص.
فالأول: بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن.
والثانى: بإزاء الأمة والسرية.
والثالث: بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة.
وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث. وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان
واستفراشهم على النساء من وجوه.
وهذا مضادة ومحادة لله ودينة وكتبه ورسله.
وصنف بعضهم كتابا فى هذا الباب، وقال فى أثنائه: باب فى المذهب المالكى، وذكر فيه الجماع فى الدُبر من الذكور والإناث.
وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأشدهم مذهبا فى هذا الباب، حتى إنه يوجب قتل اللوطى حدا، بكرا أو ثيبا، وقوله فى ذلك هو أصح المذاهب، كما دلت عليه النصوص، واتفق عليه أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وإن اختلفت أقوالهم فى كيفية قتله، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته فى دبرها، وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه. ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور، وجعلوا البابين بابا واحدا. وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة.
ونظير هذا: ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن تكون صغيرة من الصغائر.
وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة. فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك.
وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب، بل من صغائرها. وهذا ظن كاذب. فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره، فإن جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا. ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم، وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم.
وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فحش هذا مركوز فى طباع الأمم. فاكتفى فيه بالوازع الطبعى، كما اكتفى بذلك فى أكل الرجيع وشرب البول والدم، ورتب الحد على شرب الخمر، لكونه مما تدعو إليه النفوس.
والجمهور يجيبون عن هذا بأن فى النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعى لذلك فالحد فيه أولى من الحد فى الزنا، ولذلك وجب الحد على من وطئ أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان فى النفوس وازع وزاجر طبعى عن ذلك، بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا فى أصح الأقوال، وهو مذهب أحمد وغيره. هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان.
ونظير هذا الظن الكاذب، والغلط الفاحش: ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة، أو مباحة، أو أنها أيسر من ارتكابها من الحر، وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك، وأدخلت المملوك فى قوله:{إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6، المعارج: 30] .
وحتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها، تتأول القرآن على ذلك، كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها، وتأولت هذه الآية، ففرق عمر رضى الله عنه بينهما، وأدبها، وقال "ويحك، إنما هذا للرجال لا للنساء".
ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْد مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مٍنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] .
على ذلك، قال: وقد سألنى بعض الناس عن هذه الآية، وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها فى إباحة ذكران العبيد المؤمنين.
قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع، يبيحه بعض العلماء، ويحرمه بعضهم، ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل، فإنه ليس فى فرق الأمة من يبيح ذلك، بل ولا فى دين من أديان الرسل، وإنما يبيحه زنادقة العالم، الذين لا يؤمنون بالله ورسله، وكتبه واليوم الآخر.
قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة، مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع، إلى أمثال هذه الأمور التى خاطبنى فيها وسألنى عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء.
قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء فى وجوب الحد فيه، فظن أن ذلك خلاف فى التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات، كالميتة والدم ولحم الخنزير، وليس فيه حد مقدر.
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا، فيتولد من ذلك القول الضعيف الذى هو من خطأ بعض المجتهدين، وهذا الظن الفاسد الذى هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين، وطاعة الشيطان، ومعصية رب العالمين، فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة، وأعانتها الأهواء الغالبة، فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك، والخروج عن جملة الشرائع بالكلية.
ولما سهل هذا الأمر فى نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده، أنه لم يطأه سواه، كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها، وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه، أو مؤاخيه أو معلمه، وكذلك من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذى هو قرينه وعشيره كالزوجة، أو عما سوى مملوكه، الذى هو كسريته.
ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبى على فعل الفاحشة، فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس، فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به.
قال شيخنا: وحكى لى من أثق به: أن بعض هؤلاء أخُذِ على هذه الفاحشة، فحكم عليه بالحد، فقال: والله هو ارتضى بذلك، وما أكرهته ولا غصبته، فكيف أعاقب؟ فقال نصير المشركين - وكان حاضرا - هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب.
ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة، وحفظ النفس، كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير فى المخمصة.
وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التدواى، وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر ولا ريب أن الكفر والفسوق والمعاصى درجات، كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات، كما قال تعالى:
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ الله وَاللهُ بَصِيرٌ بَما يَعْمَلُونَ} [آل عمران: 163] وقال: {وَلِكلٍّ دَرَجَاتٌ مّمِا عَمِلُوا، وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] . وقال {إنَما النّسِئُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْر} [التوبة: 37] وقال {فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناًِ وَهُمْ يَسْتَبِشرُونَ وَأمَّا الّذِينَ فِى قُلُوبهمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رجْساً إلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125] .
ونظائره فى القرآن كثيرة.
ومن أخف هؤلاء جرما: من يرتكب ذلك معتقدا تحريمه، وأنه إذا قضى حاجته قال: استغفر الله فكأن ما كان لم يكن.
فقد تلاعب الشيطان بأكثر هذا الخلق، كتلاعب الصبيان بالكرة، وأخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان فى كل قالب.
وبالجملة فمراتب الفاحشة متفاوتة بحسب مفاسدها، فالمتخذ خدْناً من النساء والمتخذة خدنا من الرجال أقل شرا من المسافح والمسافحة مع كل أحد، والمستخفى بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتم له أقل إثما من المخبر المحدِّث للناس به، فهذا بعيد عن عافية الله تعالى وعفوه، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:"كُلُّ أُمَّتِى معافى إلا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَسْتُرَ اللهُ تعَالى عَلَيْهِ ثُمً يُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ، يَقُولُ، يَا فُلَان، فَعَلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا فَيَبِيتُ رَبُّهُ يَسْتُرُهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْ نَفْسِهِ" أو كما قال.
وفى الحديث الآخر عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "مَنِ اُبْتُلِى مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيءْ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ، فَإنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ":
وفى الحديث الآخر "إنَّ الْخَطِيئَةَ إذا خفِيتَ لَمْ تَضُرَّ إلا صَاحِبَهَا، وَلكِنْ إذَا أعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ".
وكذلك الزنا بالمرأة التى لا زوج لها أيسر إثما من الزنا بذات الزوج، لما فيه من ظلم الزوج والعدوان عليه، وإفساد فراشه عليه، وقد يكون إثم هذا أعظم من إثم مجرد الزنا، أو دونه.
والزنا بحليلة الجار أعظم إثما من الزنا ببعيدة الدار، لما اقترن بذلك من أذى الجار، وعدم حفظ وصية الله تعالى ورسوله به.
وكذلك الزنا بامرأة الغازى فى سبيل الله أعظم إثما عند الله من الزنا بغيرها. ولهذا يقام له يوم القيامة ويقال له: "خذ من حسناته ما شئت".
وكما تختلف درجاته بحسب المزنى بها فكذلك تتفاوت درجاته بحسب الزمان والمكان والأحوال، وبحسب الفاعل. فالزنا فى رمضان ليلا أو نهاراً أعظم إثما منه فى غيره. وكذلك فى البقاع الشريفة المفضلة هو أعظم إثما منه فيما سواها.
وأما تفاوته بحسب الفاعل: فالزنا من الحر أقبح منه من العبد. ولهذا كان حَدُّه على النصف من حده. ومن المحصن أقبح منه من البكر، ومن الشيخ أقبح منه من الشاب. ولهذا كان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: الشيخ الزانى. ومن العالم أقبح منه من الجاهل، لعلمه بقبحه، وما يترتب عليه، وإقدامه على بصيرة. ومن القادر على الاستغناء عنه أقبح من الفقير العاجز.
فصل
ومما ينبغى أن يعلم: أنه قد يقترن بالأيسر إثما ما يجعله أعظم إثما مما هو فوقه.
مثاله: أنه قد يقترن بالفاحشة من العشق الذى يوجب اشتغال القلب بالمعشوق، وتأليهه له وتعظيمه، والخضوع له، والذل له، وتقديم طاعته وما يأمر به، على طاعة الله تعالى ورسوله وأمره، فيقترن بمحبة خدنه وتعظيمه، وموالاة من يواليه، ومعاداة من يعاديه، ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، ما قد يكون أعظم ضررا على صاحبه من مجرد ركوب الفاحشة.
فإن المحبوبات لغير الله قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد. كقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فى الحديث الصحيح:
"تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفةِ، تَعِسَ عَبْد الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتُكِسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتُقِشَ، إِنْ أُعْطِى رَضِى، وَإِنْ مُنعَ سَخِطَ" رواه البخارى.
فسمى هؤلاء الذين إن أعطوا رضوا، وإن منعوا سخطوا عبيدا لهذه الأشياء، لانتهاء محبتهم ورضاهم ورغبتهم إليها.
فإذا شغف الإنسان بمحبة صورة لغير الله، بحيث يرضيه وصوله إليها وظفره بها، ويسخطه فوات ذلك كان فيه من التعبد لها بقدر ذلك.
ولهذا يجعلون الحب مراتب: أوله: العلاقة، ثم الصبابة، ثم الغرام، ثم العشق. وآخر ذلك: التتيم. وهو التعبد للمعشوق. فيصير العاشق عبدا لمعشوقه.
والله سبحانه إنما حكى عشق الصور فى القرآن عن المشركين.
فحكاه عن امرأة العزيز، وكانت مشركة على دين زوجها. وكانوا مشركين، وحكاه عن اللوطية، وكانوا مشركين، فقال تعالى فى قصتهم:{لَعَمْرُكَ إنهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعمَهُونَ} [الحجر: 72] .
أخبر سبحانه أنه يصرفه عن أهل الإخلاص، فقال:{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنّهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] وقال عن عدوه إبليس أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجَمعِينَ * إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [ص: 82 - 83] وقال تعالى: {إنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلطَانٌ إلا مَنِ اُتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] .
والغاوى ضد الراشد، والعشق المحرم من أعظم الغى.
لهذا كان أتباع الشعراء وأهل السماع الشعرى غاوين. كما سماهم الله تعالى بذلك فى قوله:
{الشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224] .
فالغاوون يتبعون الشعراء، وأصحاب السماع الشعرى الشيطانى، وهؤلاء لا ينفكون عن طلب وصال، أو سؤال نوال. كما قال أبو تمام لرجل: أما تعرفنى؟ فقال: ومن أعرف بك منى؟.
أَنْتَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ تَبْرُزُ لِلنَّ
…
اسِ وَكِلْتَاهُما بِوَجْهٍ مُذَالِ
لَسْتَ تَنْفَكُّ طَالِباً لوصال
…
مِنْ حَبِيبٍ أَوْ رَاجِياَ لِنَوَالِ
أى مَاءٍ يَبْقَى لِوَجْهِكَ هذَا
…
بَيْنَ ذُلِّ الْهَوَى، وَذُلِّ السُّؤَالِ؟
والزنا بالفرج - وإن كان أعظم من الإلمام بالصغيرة، كالنظرة والقبلة واللمس- لكن إصرار العاشق على محبة الفعل، وتوابعه، ولوازمه، وتمنيه له، وحديث نفسه به: أنه لا يتركه، واشتغال قلبه بالمعشوق، قد يكون أعظم ضررا من فعل الفاحشة مرة بشيء كثير. فإن
الإصرار على الصغيرة قد يساوى إثمه إثم الكبيرة، أو يربى عليها.
وأيضاً، فإن تعبد القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية، ومفسدة الشرك أعظم من مفسدة المعصية.
وأيضاً، فإنه قد يتخلص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلب فإنه يعز عليه التخلص منه، كما قال القائل:
تَاللهِ مَا أسَرَتْ لَوَاحِظُكِ امْرَأً
…
إلا وَعَزّ عَلَى الوَرَى استنقَاذُهُ
بل يصير تعبدا لازما للقلب لا ينفك عنه، ومعلوم أن هذا أعظم ضررا وفسادا من فاحشة يرتكبها مع كراهيته لها، وقلبه غير معبد لمن ارتكبها منه.
وقد أخبر الله سبحانه أن سلطان الشيطان إنما هو: {عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] .
وأن سلطانه إنما هو على من اتبعه من الغاوين، والغى اتباع الهوى والشهوات، كما أن الضلال اتباع الظنون والشبهات.
وأصل الغى من الحب لغير الله، فإنه يضعف الإخلاص به، ويقوى الشرك بقوته، فأصحاب العشق الشيطانى لهم من تولى الشيطان والإشراك به بقدر ذلك، لما فيهم من الإشراك بالله، ولما فاتهم من الإخلاص له، ففيهم نصيب من اتخاذ الأنداد، ولهذا ترى كثيرا منهم عبدا لذلك المعشوق، متيما فيه. يصرخ فى حضوره ومغيبه: أنه عبده، فهو أعظم ذكرا له من ربه، وحبه فى قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهدا بذلك على نفسه:{بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14- 15] .
فلو خير بين رضاه ورضا الله، لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه عليه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقة وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته، وكان عنده قليل من الإيمان، صرف تلك الفضلة فى طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله تعالى، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله - إن جعل له - كل رذيلة
وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه، وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسيا، إن قام فى خدمته فى الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجى معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق. ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف فى الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، وتكلفه لفعلها، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه فرحا بها، ناصحا له فيها، خفيفة على قلبه لا يستثقلها ولا يستطيلها.
ولا ريب أن هؤلاء من الذين اتخذوا من دون الله أندادا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبا لله.
وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة، والباطنة، والإثم، والبغى بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم. فكثيرا ما يوجد فى هذا العشق من الشرك الأكبر الأصغر، ومن قتل النفوس، تغايرا على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها فى رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم مالا خفاء به.
وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى، والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره فى المحبة، ومن محبة ما يحب لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. وفى الأثر. "مَا تحْتَ أدِيمِ السَّماءِ إلهٌ يْعْبَدُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ مِنْ هَوًى مُتَّبَعُ".
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللهُ عَلَى عْلِمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةَ فَمَنَ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .
وإذا تأملت حال عشاق الصور المتيمين فيها، وجدت هذه الآية منطبقة عليهم، مخبرة عن حالهم.
قال بعض العلماء: ليس شيء من المحبوبات يستوعب محبة القلب إلا محبة الله، أو محبة بشر مثلك، أما محبة الله فهى التى خلق لها العباد، وبها غاية سعادتهم، وكمال نعيمهم وأما البشر المماثل من ذكر أو أنثى، فإن فيه من المشاكلة والمناسبة بين العاشق وبينه
ما ليس مثله وبين جنس آخر من المخلوقات. ولهذا لا يعرف فى محبة شيء من المحبوبات المخالفة للمحب فى الجنس ما يزيل العقل، ويفسد الإدراك، ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب، وإنما يعرف ذلك فى محبته لجنسه، فتستوعب قلبه، وتسلب لبه، ويصير لمعشوقه سامعاً مطيعاً كما قيل:
إنَّ هَوَاكَ الَّذِى بِقَلبىصَيَّرَنِى سَامِعاً مُطِيعَا
ويقوى هذا السمع والطاعة عند كثير من العشاق، حتى يبذل نفسه، ويسلمها للتلف فى طاعة معشوقه، كما يبذل المجاهد نفسه لربه، حتى يقتل فى سبيله، وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قد قال فى الحديث الذى رواه أحمد وغيره:
"شَارِبُ الْخَمرِ - أو قَال مُدْمِنُ الْخَمْرِ - كَعَابِدِ وَثَنٍ".
ومر على بن طالب رضى الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال "ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون؟ ".
فما الظن بالعاشق المتيم الفانى فى معشوقه؟ ولهذا قرن الله سبحانه بين الخمر والأنصاب وهى الأصنام التى تعبد من دون الله، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَما الْخَمَرُ وَالمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسُ مِنْ عَمَلِ الشَّيطاًنِ فَاجْتَنبِوُهُ لَعَلّكُمْ تَفْلِحُونَ * إنمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَّدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أنْتُمْ مُنْتهُونَ} [المائدة: 90 - 91] .
ومعلوم أن شارب الخمر لا يدوم سكره، بل لا بد أن يفيق، ولعل أوقات إفاقته أكثر من أوقات سكره. وأما سكرة العشق فقل أن يستفيق صاحبها إلا إذا جاءت الرسل تطلبه للقدوم على الله تعالى، ولهذا استمرت سكرة اللوطية حتى فاجأهم عذاب الله وعقوبته
وهم فى سكرتهم يعمهون، فكيف إذا خرج العشق إلى حد الجنون المطبق؟ كما أنشد محمد بن جعفر الخرائطى فى كتاب اعتلال القلوب، قال: أنشد الصيدلانى:
قَالَتْ: جُنِنْتَ عَلَى رَأْسِى، فَقُلْتُ لهَا
…
العِشق أَعْظَمُ مَّمِا بِالمَجاَنِينِ
الْعِشْقُ لا يَستَفِيق الدَّهْرَ صَاحِبُهُ
…
وَإنَما يُصْرَعُ المَجْنُونُ فى الْحِينِ
فصاحبه أحق بأن يشبه بعابد الوثن، والعاكف على التماثيل، فإن عكوف قلب العاشق على صورة محبوبه وتمثاله يشبه عكوف عابد الصنم على صنمه.
وإذا كان الشيطان يريد أن يوقع العدواة والبغضاء بين المسلمين فى الخمر والميسر، ويصدهم بذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، فالعدواة والبغضاء والصد الذى يوقعه بالعشق أعظم بكثير.
وجميع المعاصى يجتمع فيها هذان الوصفان، وهما العدواة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن التحاب والتآلف إنما هو بالإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى:{إنَّ الَّذِينَ آمَنْوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدا} [مريم: 96] .
أى يلقى بينهم المحبة، فيحب بعضهم بعضا، فيتراحمون، ويتعاطفون بما جعل الله لبعضهم فى قلوب بعض من المحبة.
وقال ابن عباس "يحبهم ويحببهم إلى عبادة".
قال هرم بن حيان "ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم".
وأهل المعاصى والفسوق وإن كان بينهم نوع مودة وتحاب، فإنها تنقلب عدواة وبغضا وفى الغالب يتعجل لهم ذلك فى الدنيا قبل الآخرة، أما فى الآخرة فالأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وقال إمام الحنفاء لقومه: {إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بَبَعْضُ ويلعن بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] .
فالمعاصى كلها توجب ذلك، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وذكر ذلك فى الخمر الميسر - اللذين هما من أواخر المحرمات - تنبيه على ما فى غيرهما من ذلك، مما حرم قبلهما، وهو أشد تحريما منهما، فإن ما يوقعه قتل النفوس، وسرقة الأموال، وارتكاب الفواحش من ذلك، وما يصد به عن ذكر الله وعن الصلاة أضعاف أضعاف ما يقتضيه الخمر والميسر، والواقع شاهد بذلك.
وكم وقع، وهو واقع بين الناس - بسبب عشق الصور - من العداوة والبغضاء، وزوال الألفة والمحبة، وانقلا بها عدواة.
وأما صده عن ذكر الله، فقلب العاشق ليس فيه موضع لغير معشوقه، كما قيل:
مَا فِى الْفُؤَادِ لِغَيْرِ حُبِّكَ مَوْضِعٌ
…
كَلاّ، وَلا أَحَدٌ سِوَاكَ يَحُلُّهُ
وأما صده عن الصلاة، فهو إن لم يصد عن صورتها وأعمالها الظاهرة، فإنه يصد عن حقيقتها ومقاصدها الباطنة.
فصل
ومما يبين أن هذه الفواحش أصلها المحبة لغير الله تعالى، سواء كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة، أو غير ذلك: أنها فى المشركين أكثر منها فى المخلصين، ويوجد فيهم منها ما لا يوجد مثله فى المخلصين.
قال تعالى {يَا بَنِى آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِع عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمْا سَوْءاتِهِمَا إِنَّهُ يرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ
لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَالا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ - إلى قوله تعالى - قُلْ إِنَما حَرَّمَ رَبِّى الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنّهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمِ وَالْبَغْى بِغَيرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَالا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 27- 33] .
فأخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وهو قوله:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوِنى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] .
وقال تعالى فى الشيطان: {إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100] .
وأخبر عنه أنه أقسم بعزة ربه أنه يغوى عباده أجمعين، واستثنى أهل الإخلاص منهم، وأخبر سبحانه عن أولياء الشيطان: أنهم إذا فعلوا فاحشة احتجوا بتقليد أسلافهم، وزعموا أن الله سبحانه أمرهم بها، فاتبعوا الظن الكاذب والهوى الباطل.
قال شيخنا: وفى هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة، من الصوفية والعُبّاد، والأمراء، والأجناد، والمتفلسفة، والمتكلمين، والعامة وغيرهم، يستحلون من الفواحش ما حرمه الله ورسوله، ظانين أن الله أباحه، أو تقليدا لأسلافهم وأصله العشق الذى يبغضه الله، فكثير منهم يجعله ديناً، ويرى أنه يتقرب به إلى الله، إما لزعمه أنه يزكى النفس ويهذبها، وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على آدمى، ثم ينقله إلى عبادة الله وحده، وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده، ويسميها "مظاهر الجمال الأحدى" وإما لاعتقاده حلول الرب فيها، واتحاده بها، ولهذا تجد بين نساك هؤلاء وفقرائهم وأمرائهم وأصحابهم توافقا وتآلفا على اتخاذ أنداد من دون الله يحبونهم كحب الله. إما تَدَيُّناً، وإما شهوة، وإما جمعاً بين الأمرين. ولهذا يتآلفون ويجتمون على السماع الشيطانى، الذى يهيج الحب المشترك، فُيَهيِّج من كل قلب ما فيه من الحب.
وسبب ذلك: خلو القلب مما خلق له، من عبادة الله تعالى التى تجمع محبته وتعظيمه، والخضوع والذل له، والوقوف مع أمره، ونهيه ومحابَّه ومساخطه. فإذا كان فى القلب وجدان حلاوة الإيمان وذوق طعمه أغناه ذلك عن محبة الأنداد وتأليهها. وإذا خلا القلب من ذلك احتاج إلى أن يستبدل به ما يهواه، ويتخذه إلهه، وهذا من تبديل الدين، وتغيير فطرة الله التى
فطر عليها عباده. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَةَ اللهِ التى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا. لا تَبْدِيلَ لِخَلْق الله} [الروم: 30] .
أى نُفس خلق الله لا تبديل له، فلا يخلق الخلق إلا على الفطرة، كما أن خلقه للأعضاء على السلامة من الشق والقطع. ولا تبديل لنفس هذا الخلق. ولكن يقع التغيير فى المخلوق بعد خلقه، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:" كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يَهُوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيمَجِّسَانِهِ، كَمَا تَنْتَجُ الْبَهميَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تَحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونهَا".
فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه. فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة.
ولما تغيرت فطر الناس بعث الله الرسل بصلاحها وردها إلى حالتها التى خلقت عليها فمن استجاب لهم رجع إلى أصل الفطرة، ومن لم يستجب لهم استمر على تغيير الفطرة وفسادها.
فصل
والفتنة بعشق الصور تنافى أن يكون دين العبد كله الله، بل ينقص من كون دينه لله بحسب ما حصل له من فتنة العشق. وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شئ من الدين لله. قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ} [الأنفال: 39] .
فناقض بين كون الفتنة وبين كون الدين كله. فكل منهما يناقض الآخر.
والفتنة قد فسرت بالشرك.
فما حصلت به فتنة القلوب فهو إما شرك، وإما من أسباب الشرك.
وهى جنس تحته أنواع من الشبهات، والشهوات.
وفتنة الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن.
ومنه فتنة أصحاب العجل، كما قال تعالى لموسى:{إنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه: 85] .
وكذلك فتنة العشق من أعظم الفتن، قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِى وَلا تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] .
نزلت فى الجد بن قيس لما غزا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تبوك قال له "هل لك يا جَدّ فى بلاد بنى الأصفر، تتخذ منهم السرارى والوصفاء؟ فقال جَدُّ: ائذن لى فى القعود عنك. فقد عرف قومى أنى مغرم بالنساء، وأنى أخشى إن رأيت بنات الأصفر أن لا أصبر عنهن، فأنزل الله تعالى هذه الآية".
قال ابن زيد: يريد لا تفتنى بصباحة وجوههن.
وقال أبو العالية: لا تعرضنى للفتنة.
وقوله تعالى: {أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] .
قال قتادة: "ما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله سلم والرغبة بنفسه عنه أعظم".
فالفتنة التى فر منها - بزعمه - هى فتنة محبة النساء، وعدم صبره عنهن، والفتنة التى وقع فيها هى فتنة الشرك والكفر فى الدنيا، والعذاب فى الآخرة.
لفظ الفتنة فى كتاب الله تعالى يراد بها الامتحان الذى لم يفتتن صاحبه، بل خلص من الافتتان. ويراد بها الامتحان الذى حصل معه افتتان.
فمن الأول: قوله تعالى لموسى عليه السلام: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] .
ومن الثانى: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَة} [الأنفال:39] وقوله: {أَلا فِى الْفِتنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] .
ويطلق على ما يتناول الأمرين، كقوله تعالى:{الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 -3] .
ومنه قول موسى عليه السلام: {إنْ هِى إِلا فِتْنَتُكَ تُضِل بهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155] . أى امتحانك وابتلاؤك، تضل بها من وقع فيها، وتهدى من نجا منها.
وتطلق الفتنة على أعم من ذلك، كقوله تعالى:
{إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة} [التغابن: 15] .
قال مقاتل "أى بلاء، وشغل عن الآخرة. قال ابن عباس: فلا تطيعوهم فى معصية الله تعالى".
وقال الزجاج: أعلمهم الله عز وجل أن الأموال والأولاد مما يفتنون به، وهذا عام فى جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده، لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه، تناول الحرام لأجله، ووقع فى العظائم، إلا من عصمه الله تعالى.
ويشهد لهذا ما روى أن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "كان يخطب، فجاء الحسن والحسين رضى الله عنهما، وعليهما قميصان أحمران يعثران، فنزل النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إليهما فأخذهما، فوضعهما فى حجره على المنبر، وقال: صدق الله: {إنَما أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما".
وقال ابن مسعود رضى الله عنه "لا يقولن أحدكم: اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، لأن الله تعالى يقول: {إنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله تعالى من مضُلات الفتن".
ومنه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] .
وهذا عام فى جميع الخلق، امتحن بعضهم ببعض، فامتحن الرسل بالمرسل إليهم ودعوتهم إلى الحق والصبر على أذاهم. وتحمل
المشاق فى تبليغهم رسالات ربهم، وامتحن المرسل إليهم بالرسل، وهل يطيعونهم، وينصرونهم، ويصدقونهم، أم يكفرون بهم، ويردون عليهم، ويقاتلونهم؟ وامتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم، وينصحونهم، ويصبرون على تعليمهم ونصحهم، وإرشادهم، ولوازم ذلك؟ وامتحن الجهال بالعلماء، هل يطيعونهم، ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية، والرعية بالملوك، وامتحن الأغنياء بالفقراء، والفقراء بالغنياء، وامتحن الضعفاء بالأقوياء، والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع والأتباع بالسادة، وامتحن المالك بمملوكه، ومملوكه به، وامتحن الرجل بامرأته وامرأته به، وامتحن الرجال بالنساء والنساء بالرجال، والمؤمنين بالكفار ولكفار بالمؤمنين. وامتحن الآمرين بالمعروف بمن يأمرونهم، وامتحن المأمورين بهم، ولذلك كان فقراء المؤمنين وضعفاؤهم، من أتباع الرسل، فتنة لأغنيائهم ورؤسائهم، امتنعوا من الإيمان بعد معرفتهم بصدق الرسل، وقالوا:{لَوْ كانَ خَيْراَ مَا سَبَقُونَا إلَيْهِ} [الأحقاف: 11] هؤلاء.
وقالوا لنوح عليه السلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] .
قال تعالى: {وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] .
فإذا رأى الشريف الرئيس المسكين الذليل قد سبقه إلى الإيمان ومتابعة الرسول حمى وأنف أن يسلم، فيكون مثله، وقال: أسلم فأكون أنا وهذا الوضيع على حد سواء؟.
قال الزجاج: كان الرجل الشريف ربما أراد الإسلام، فيمتنع منه لئلا يقال أسلم قبله من هو دونه فيقيم على كفره لئلا يكون للمسلم السابقة عليه فى الفضل.
ومن كون بعض الناس لبعضهم فتنة، أن الفقير يقول: لِمَ لَمْ أكن مثل الغنى؟ ويقول الضعيف: هلا كنت مثل القوى؟ ويقول المبتلى، هلا كنت مثل المعافى؟ وقال الكفار:{لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِى رُسلُ اللهِ} [الأنعام: 124] .
قال مقاتل: نزلت فى افتتان المشركين بفقراء المهاجرين، نحو بلال، وخباب، وصهيب، وأبى ذر، وابن مسعود، وعمار، كان كفار قريش يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين تبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا؟ قال الله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيق مِنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتّخَذْتُموهُمْ سِخْرِيا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بَما صَبَرُوا أَنّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 109- 111] .
فأخبر سبحانه أنه جزاهم على صبرهم، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] .
قال الزجاج: أى أتصبرون على البلاء، فقد عرفتم ما وجد الصابرون:
قلت: قرن الله سبحانه الفتنة بالصبر هاهنا، وفى قوله:{ثُمَّ إنَّ رَبّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} [النحل: 110] .
فليس لمن قد فتن بفتنة دواء مثل الصبر، فإن صبر كانت الفتنة ممحصة له، ومخلصة من الذنوب، كما يخلص الكير خبث الذهب والفضة.
فالفتنة كير القلوب، ومحك الإيمان، وبها يتبين الصادق من الكاذب: قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] .
فالفتنة قسمت الناس، إلى صادقٍ وكاذبٍ ومؤمن ومنافق، وطيبٍ وخبيثٍ. فمن صبر عليها كانت رحمة فى حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع فى فتنة أشد منها.
فالفتنة لا بد منها فى الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يفُتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكمْ هذا الّذِى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 13، 14] .
فالنار فتنة من لم يصبر
على فتنة الدنيا، قال تعالى فى شجرة الزقوم:{إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَة لِلظَّالِمينَ} [الصافات: 63] .
قال قتادة: لما ذكر الله تعالى هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: يكون فى النار شجرة والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله عز وجل: {إِنّهَا شَجَرَة تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] .
فأخبرهم أن غذاءها من النار، أى غذيت بالنار.
قال ابن قتيبة: قد تكون شجرة الزقوم نبتا من النار، ومن جوهرٍ لا تأكله النار، وكذلك سلاسل النار وأغلالها وأنكالها، وعقاربها وحياتها، ولو كانت على ما يُعلم لم تبق على النار، وإنما دلَّنا الله تعالى على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة، والمعانى مختلفة، وما فى الجنة من ثمرها وفرشها وشجرها وجميع آلاتها على مثل ذلك.
والمقصود: أن هذه الشجرة فتنة لهم فى الدنيا، بتكذيبهم بها، وفتنة لهم فى الآخرة بأكلهم منها.
وكذلك إخباره سبحانه بأن عدة الملائكة الموكلين بالنار تسعة عشر، كان فتنة للكفار، حيث قال عدو الله أبو جهل: أيخوفكم محمد بتسعة عشر، وأنتم الدهم أفيعجز كل مائةٍ منكم أن يبطشوا بواحد منهم، ثم تخرجون من النار؟ فقال أبو الأسد: يا معشر قريش، إذا كان يوم القيامة فأنا أمشى بين أيديكم على الصراط، فأدفع عشرة بمنكبى الأيمن، وتسعة بمنكبى الأيسر فى النار، ونمضى فندخل الجنة.
فكان ذكر هذا العدد فتنة لهم فى الدنيا، وفتنة لهم يوم القيامة.
والكافر مفتون بالمؤمن فى الدنيا، كما أن المؤمن مفتون به، ولهذا سأل المؤمنون
ربهم أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، كما قال الحنفاء:{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 4-5] .
وقال أصحاب موسى عليه السلام: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنْةً لِلْقَوْمِ الظّالمِينَ} [يونس: 85] .
قال مجاهد: المعنى، لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم هذا.
وقال الزجاج: معناه: لا تظهرهم علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتنوا بذلك.
وقال الفراء: لا تظهر علينا الكفار، فيروا أنهم على حق وأنا على باطل.
وقال مقاتل: لا تقتر علينا الرزق وتبسطه عليهم، فيكون ذلك فتنة لهم.
وقد أخبر الله سبحانه أنه قد فتن كلا من الفريقين بالفريق الآخر، فقال:
{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيقُولُوا أَهؤلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 52] فقال الله تعالى {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرين} [الأنعام: 53] .
والمقصود: أن الله سبحانه فتن أصحاب الشهوات بالصور الجميلة، وفتن أولئك بهم، فكل من النوعين فتنة للآخر، فمن صبر منهم على تلك الفتنة نجا مما هو أعظم منها، ومن أصابته تلك الفتنة سقط فيما هو شر منها، فإن تدارك ذلك بالتوبة النصح وإلا فبسبيل من هلك، ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله سلم:"مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ" أو كما قال.
فالعبد فى هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوى المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده، مما يعجز صبره عنه، ويتفق مع ذلك ضعف الإيمان واليقين وضعف القلب ومرارة الصبر، وذوق حلاوة العاجل، وميل النفس إلى زهرة الحياة الدنيا، وكون العوض مؤجلا فى دار أخرى غير هذه الدار التى خلق فيها، وفيها نشأ، فهو مكلفٌ بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طلب منه الإيمان به:
فَوَ اللهِ، لَوْلا اللهُ يُسْعِدُ عَبْدَهُ
…
ِتَوْفِيقِه وَاللهُ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ
لمَا ثَبَتَ الإيمَانُ يَوْماَ بِقَلْبِهِ
…
عَلَى هذِه العِلاّتِ، وَالأَمْرُ أَعْظَمُ
وَلا طَاوَعَتْهُ النّفْسُ فى تَرْكِ شَهْوَةٍ
…
مَخَافَةَ نَارٍ جَمْرهَا يَتَضَرَّمُ
وَلا خَافَ يَوْماً منْ مَقَامِ إلهِهِ
…
عَلَيْهِ بحُكْمِ القِسْطِ، إذْ لَيْسَ يَظْلِمُ
فصل
والفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهى أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات.
وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما.
ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت فى ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته، وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم:
{إِنْ يَتّبِعُونَ إلا الظّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنُفُسُ} [النجم: 23] .
وقد أخبر الله سبحانه أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتّبِعِ الْهَوَى فَيضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بَما نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ} [ص: 26] .
وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهى فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التى اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل، والهدى بالضلال.
ولا ينُجى من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه فى دِقِّ الدين وجِلِّه، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه، فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام. وما يثبته الله من الصفات والأفعال، والأسماء، وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها، ومقادير نُصبُ الزكاة ومستحقيها، ووجوب الوضوء والغسل
من الجنابة، وصوم رمضان، فلا يجعله رسولا فى شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول فى كل شيء تحتاج إليه الأمة فى العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه، ولا يؤخذ إلا منه، فالهدى كله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه، ووزنه بما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة، وإن خالفه رده، ولو قاله من قاله، فهذا الذى ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.
وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب، وتارة من حق ثابت خفى على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهى من عمى فى البصيرة، وفساد فى الإرادة.
فصل
وأما النوع الثانى من الفتنة. ففتنة الشهوات.
وقد جمع سبحانه بين ذكر الفتنتين فى قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعْوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] .
أى تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال وخضتم كالذى خاضوا فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات.
فأشار سبحانه فى هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان، من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به، أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح.
فالأول: هو المبدع وما والاها، والثانى: فسق الأعمال.
فالأول فساد من جهة الشبهات، والثانى من جهة الشهوات.
ولهذا كان السلف يقولون "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه".
وكانوا يقولون "احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون".
وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأى على الشرع، والهوى على العقل.
فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثانى: أصل فتنة الشهوة.
ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال:{وَجَعَلْنَا مِنّهُمْ أَئمِةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة فى الدين.
وجمع بينهما أيضاً فى قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] .
فتواصوا بالحق الذى يدفع الشبهات، وبالصبر الذى يكف عن الشهوات. وجمع بينهما فى قوله:
{وَاذْكْرُ عِبَادَنَا إبراهيم وَإِسْحقَ وَيَعْقُوبَ أُولِى الأَيْدِى وَالأَبْصَارِ} [ص: 45] .
فالأيدى: القوى والعزائم فى ذات الله، والأبصار: البصائر فى أمر الله. وعبارات السلف تدور على ذلك.
قال ابن عباس "أولى القوة فى طاعة الله، والمعرفة بالله".
وقال الكلبى "أولى القوة فى العبادة، والبصر فيها".
وقال مجاهد "الأيدى: القوة فى طاعة الله، والأبصار: البصر فى الحق".
وقال سعيد بن جبير "الأيدى: القوة فى العمل، والأبصار: بصرهم بما هم فيه من دينهم".
وقد جاء فى حديث مرسل "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات".
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة والله المستعان.
فصل
إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله. وهما الهدى، والرحمة.
قال تعالى عن موسى وفتاه:
{فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] .
فجمع له بين الرحمة والعلم، وذلك نظير قول أصحاب الكهف:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10] .
فإن الرشد هو العلم بما ينفع، والعمل به. والرشد والهدى إذا أفرد كل منها تضمن الآخر، وإذا قرن أحدهما. فالهدى هو العلم بالحق. والرشد هو العمل به وضدهما الغَى واتباع الهوى.
وقد يقابل الرشد بالضر والشر. قال تعالى: {قُلْ إنِّى لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرا وَلا رَشَداً} [الجن: 21] .
وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَر أُرِيدَ بِمَنْ فى الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن: 10] .
فالرشد يقابل الغى، كما فى قوله:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخذُوهُ سَبِيلاً، وَإنْ يَروْا سَبيلَ الْغَى يَتَّخِذوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] .
ويقابل الضر والشر كما تقدم، وذلك لأن الغى سبب حصول الشر والضر ووقوعهما بصاحبه.
فالضر والشر غاية البغى وثمرته، كما أن الرحمة والفلاح غاية الهدى وثمرته.
فلهذا يقابل كل منهما بنقيضه وسبب نقبضه، فيقابل الهدى بالضلال، كقوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاء} [النحل: 93] وقوله {إنْ تَحْرصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وهو كثير.
ويقابل بالضلال والعذاب. كقوله: {فَمنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] .
فقابل الهدى بالضلال والشقاء.
وجمع سبحانه بين الهدى والفلاح، والهدى والرحمة، كما يجمع بين الضلال والشقاء والضلال والعذاب: كقوله: {إنَّ المُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] .
فالضلال ضد الهدى، والسعر العذاب، وهو ضد الرحمة.
وقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعيِشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَي} [طه: 124] .
والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة، والهدى والفلاح.
قال تعالى عن أوليائه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَة إِنّكَ أنت الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِى نُسْخَتهَا هُدًى وَرَحْمَة لِلَّذِينَ هُمْ لِربِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] وقال تعالى: {هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الأعراف: 203] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِنْ تصديِقَ الّذِى بَيْنَ يَدَيَهِ وتفصيل كُلِّ شَئ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاء لَمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .
فقوله: "هذا بصائر من ربكم" عام مطلق، وقوله:"وهدى ورحمة لقوم يوقنون" خاص بأهل اليقين.
ونظير ذلك قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَة مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لَمِا فِى الصُّدُورِ وَهُدى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ} [يونس: 57] .
ونظيره فى الخصوص قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتّقِينَ} [البقرة: 2] وقوله: {يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اُتَبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] .
ونظيره أيضا قوله: {هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ} [آل عمران: 138] .
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين. فقال: {إِنْ يَتّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدْى} [النجم: 23] .
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس. والبصائر جمع بصيرة، وهى فعيلة بمعنى مفعلة، أى مبصرة لمن تبصر. ومنه قوله تعالى:{وَآتَيْنَا ثُمودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] .
أى مبينة موجبة للتبصر. وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا. يقال: أبصرته، بمعنى أريته، وأبصرته، بمعنى رأيته، فمبصرة فى الآية: بمعنى مرئية، لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا فى الآية، وتحيروا فى معناها.
فإنه يقال: بصر به، وأبصره، فيعدى بالباء تارة، والهمزة تارة. ثم يقال: أبصرته كذا، أى أريته إياه، كما يقال: بصرته به. وبصر هو به.
فهاهنا بصيرة، وتبصرة، ومبصرة. فالبصيرة: المبينة التى تبصر، والتبصرة مصدر مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة، فيقال: هذه الآية تبصرة، لكونها آلة التبصر، وموجبه.
فالقرآن بصيرة وتبصرة، وهدى وشفاء، ورحمة، بمعنى عام، وبمعنى خاص. ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا، فهو هدى للعالمين، وموعظة للمتقين، وهدى للمتقين، وشفاء للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وموعظة للعالمين، وموعظة للمتقين، فهو فى نفسه هدى ورحمة، وشفاء وموعظة.
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى، كان بمنزلة من استعمل الدواء الذى يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل. وإن لم يستعمله، فهو دواء له بالقوة، وكذلك الهدى.
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به، وبالقوة لمن يهتد به، فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون.
والهدى فى الأصل: مصدر هدى يهدى هدى.
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا، كما فى الأثر "من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا" ولكن يسمى هدى، لأن من شأنه أن يهدى.
وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى، بمعنى هاد، فهو مصدر بمعنى الفاعل، كعدل بمعنى العادل، وزور بمعنى الزائر، ورجل صوم أى بمعنى صائم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدى به.
فالله الهادى، وكتابه الهدى الذى يهدى به على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
فهاهنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآله. فالفاعل: هو الله تعالى، والقابل: قلب
العبد، والآلة: هو الذى يحصل به الهدى، وهو الكتاب المنزل، والله سبحانه يهدى خلقه هدى، كما يقال: دلهم دلالة، وأرشدهم إرشادا، وبين لهم بيانا.
والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقى، المنيب إلى ربه، الخائف منه، الذى يبتغى رضاه، ويهرب من سخطه، فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل، فيتأثر به، فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول، وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه، كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء، فإنه لا يؤثر فيه شيئا، بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده، كما قال تعالى فى السورة التى نزلها:{فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِروُنَ وَأَمَّا الّذِينَ فِى قُلُوبِهمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125]، وقال:{وَنُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ، وَلا يزِيدُ الظّالمِينَ إلا خَسَارًا} [الإسراء: 82] .
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة، ولعدم آلة الهدى تارة، ولعدم فعل الفاعل، وهو الهادى تارة، ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة.
وقد قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] .
فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء، وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها، لعدم قبول المحل، فإنه لا خير فيه، فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذى فيه، والميل إليه، والطلب له، ومحبته، والحرص عليه، والفرح بالظفر به، وهؤلاء ليس فى قلوبهم شيء من ذلك، فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية، والتى لا تمسك ماء، ولا تنبت كلاء، فلا هى قابلة للماء ولا للنبات، فالماء فى نفسه رحمة وحياة، ولكن ليس فيها قبول له.
ثم أكد الله هذا المعنى فى حقهم بقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] .
فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى، وهى الكبر والإعراض، وفساد القصد، فلو فهموا لم ينقادوا، ولم يتبعوا الحق. ولم يعملوا به، فالهدى فى حق هؤلاء هدى بيان وإقامة
حجة، لا هدى توفيق وإرشاد، فلم يتصل الهدى فى حقهم بالرحمة.
وأما المؤمنون: فاتصل الهدى فى حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة ولأولئك هدى بلا رحمة.
والرحمة المقارنة للهدى فى حق المؤمنين عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى فى الدنيا من محبة الخير والبر، وذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته، والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم، ولما اختلف فيه من الحق، فهم يتقلبون فى نور هداه، ويمشون به فى الناس، ويرون غيرهم متحيرا فى الظلمات، فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى، قال تعالى:{قلْ بِفَضْل اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مَّمِا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] .
فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته.
وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن، واتباع الرسول، وهذا من أعظم الرحمة التى يرحم الله بها من يشاء من عباده، فإن الأمن والعافية والسرور، ولذة القلب ونعيمه وبهجته، وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة، والخوف، ولهم، والغم، والبلاء، والألم، والقلق: مع الضلال والحيرة.
ومثل هدا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده، فسار آمنا مطمئنا، والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه؟ كما قال تعالى:{قلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ كَالّذِى اسْتهْوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِى الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى اُئْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى الله هو الُهدَى} [الأنعام: 71] .
فالرحمة التى تحصل لمن حصل له الهدى، هى بحسب هداه، فكلما كان نصيبه من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، وهذه هى الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين، وهى غير الرحمة العامة بالبر والفاجر.
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم، فقال تعالى:{أُولِئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحَمةٌ وَأُولئِكَ هُمْ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] . قال عمر
بن الخطاب رضى الله تعالى عنه "نعم العدلان، ونعمت العلاوة" فبالهدى خلصوا من الضلال، وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب، وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة. والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة: الضلال عن طريق السعادة، والوقوع فى ضد الرحمة من الألم والعذاب، والذم واللعن، الذى هو ضد الصلاة.
ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة، كما قال تعالى فى أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وكان الصديق رضى الله تعالى عنه من أرحم الأمة، وقد روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال:"أرحم أمتى بأمتى أبو بكر" رواه الترمذى، وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة، كما قال أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه "وكان أبو بكر رضى الله عنه أعلمنا به، يعنى النبى صلى الله تعالى وآله وسلم" فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة.
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما. فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل
هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه، والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول، فكم من مكرم لنفسه بزعمه، وهو لها مهين، ومرفه لها، وهو لها متعب، ومعطيها بعض غرضها ولذتها، وقد حال بينها وبين جميع لذاتها، فلا علم له بمصالحها التى هى مصالحها، ولا رحمة عنده لها، فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه. فقد بخسها حظها، وأضاع حقها، وعطل مصالحها، وباع نعيمها الباقى، ولذتها الدائمة الكاملة، بلذة فانية مشوبة بالتنغيص، إنما هى كأضغاث أحلام أو كطيف زار فى المنام، وليس هذا بعجيب من شأنه، وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة. فلو هدى ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن، ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذى يصلح للهدى والرحمة. فهو الذى يؤتيها العبد. كما قال عن عبده الخضر:{فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلمْنَاهُ مِنْ لَدُنّا عِلمْاً} [الكهف: 65]، {رَبنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهِّيئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} [الكهف: 10] .
فصل
ومما ينبغى أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضى إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها. فهذه هى الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك فى إيصال مصالحك، ودفع المضار عنك.
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه فى ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التى تعود بضرره، ومتى أهمل من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه [ويرفّهُهُ] ويريحه. فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة الأم.
ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه.
وقد جاء فى الأثر "إن المبتلى إذا دعى له: اللهم ارحمه، يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ " وفى أثر آخر "إن الله إذا أحب عبداً حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمى أحدكم مريضه".
فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه.
كيف؟ وهو الجواد الماجد، الذى له الجود كله، وجود جميع الخلائق فى جنب وجود أقل من ذرة فى جبال الدنيا ورمالها.
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهى رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغنى الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم.
ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فى النعيم المقيم فى داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى:
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوف بِالْعِبًادِ} [آل عمران: 30] .
قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه، لئلا يغتروا به.
فصل
ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة، كان لهما ضدان: الضلال والغضب.
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم، وهم أولو الهدى والرحمة، يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين، ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء، وأفضله وأوجبه، وبالله التوفيق.
فصل
إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة، والمقصود به التنعم بالمراد المحبوب، فكل حى إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته. فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة، كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف، ولكن وقع الجهل والظلم من بنى آدم بمعنيين: بالدين الفاسد، والدنيا الفاجرة، طلبوا بهما النعيم وفى الحقيقة فإنما فيهما ضده. ففاتهم النعيم من حيث طلبوه، وآثروه، ووقعوا فى الألم والعذاب من حيث هربوا منه.
وبيان ذلك: أن الأعمال التى يعملها جميع بنى آدم إما أن يتخذوها دينا أو لا يتخذوها دينا.
والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حق، وإما أن يكون دينا باطلا.
فنقول: النعيم التام: هو فى الدين الحق علما وعملا. فأهله هم أصحاب النعيم الكامل. كما أخبر الله تعالى بذلك فى كتابه فى غير موضع، كقوله:
{اهْدِنَا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] .
وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب: {أُولئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وقوله {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتْبَعَ هُدَاى فَلَا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه: 123] وفى الآية الأخرى {فَمَنْ تَبِعَ هُدَاى فَلَا خَوفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]، وقوله:{إِنَّ الأَبْرَارَ لفِى نَعِيمٍ وَإنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 13-14] .
فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام فى الدار الآخرة، ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء فى الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وتضمنته الكتب.
ولكن نذكر هاهنا نكتة نافعة. وهى: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان فى الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة فى الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم فى الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم فى الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة فى الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذا سمع فى القرآن قوله تعالى:
{وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]
وقوله {وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} [الصافات: 173] وقوله {كَتَبَ الله لأغْلِبن أَنَا وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] وقوله {وَالعَاقِبةُ لِلْمُتّقِينَ} [الأعراف: 128، القصص: 83] .
ونحو هذه الآيات، وهو ممن يصدق بالقرآن، حمل ذلك على أن حصوله فى الدار الآخرة فقط وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون، ويكون لهم النصر والظفر. والقرآن لا يرد بخلاف الحس، ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين، أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى. فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق. وأنا مغلوب: فصاحب الحق فى هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها الباطل.
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين، قال: هذا فى الآخرة فقط.
وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه، وأهل الحق؟
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح، قال: يفعل الله فى ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد:
{لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] .
وإن كان ممن يعلل الأفعال، قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات، وتوفية الأجر بغير حساب.
ولكل أحد مع نفسه فى هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة، بحسب حاصله وبضاعته، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته، والجهل بذلك، فالقلوب تغلى بما فيها، كالقدر إذا استجمعت غليانا.
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه، ما لا يصدر إلا من عدو، فكان الجهم يخرج بأصحابه، فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء، ويقول انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ إنكارا لرحمته، كما أنكر حكمته.
فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما.
وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضر من الخالق.
وكان بعضهم يتمثل:
إذَا كانَ هذَا فِعْلُهُ مُحِبِّة
…
فمَا تَرَاهُ فى أَعَادِيهِ يَصْنَعُ؟
وأنت تشاهد كثيرا من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربى ما كان ذنبى، حتى فعلت بى هذا؟
وقال لى غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق على رزقى، ونكد على معيشتى، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسى مرادها، جاءنى الرزق والعون ونحو هذا.
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق فى مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة، أم أنت كاذب فترجع على عقبك؟.
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين.
إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهى عنه، واعتقاده فى خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة فى الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحت قهر أهل الظلم، والفجور والعدوان.
فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترار من عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.
فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب فى الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع، ودفع الضر، بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح. فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة ينافى ذلك. وأنه يعادى جميع أهل الأرض لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة فى كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بل قد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا فى أصل الدين كان فى كثير من فروعه وأعماله، كما قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمسِى كافِراً، وَيُمْسِى كافِراً وَيُصْبِحُ مُؤْمِناً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لابد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.
فسبحان الله، كم صدت هذه الفتنة الكثير من الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين.
وأصلها ناشئ من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة النعيم الذى هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها، فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم.
ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذى يطلبه، والعمل الذى يوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر.
فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة علمه بالنعيم المطلوب ومحبته له، وعلمه بالطريق الموصل إليه وعمله به، وصبره على ذلك.
قال الله تعالى {وَالْعَصْرِ إنَّ الإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3] .
والمقصود: أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده.
فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطنا وظاهرا، وترك المحظور باطنا وظاهرا، وهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدرا ونوعا وصفة.
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى فى الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة فى الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين، على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده.
فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا ما يترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرا فى العلم، وكثيرا ما يتركها بعد العلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هى من باب الفضائل والمستحبات.
فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما.
بل ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعم أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع
ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه.
بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله فى ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما، كأصحاب السماع الشعرى الذى يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنون أنهم من أولياء الرحمن، وهم فى الحقيقة من أولياء الشيطان.
وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، حبك الشيء يعمى ويصم. والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد به حبه لنفسه، حتى يرى مساويها محاسن، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيَّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهٍ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] .
ويشتد به بغض خصمه، حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قيل:
نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ، وَلَوَ أنَّهَا
…
عَيْنُ الرِّضَا، لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا
وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا، فإن الإنسان ظلوم جهول.
وأكثر ديانات الخلق إنما هى عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلدوهم فيها: فى الإثبات والنفى، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة.
والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علما وعملا، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذى بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى:{وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .
فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى:{وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوِلهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون: 8] .
فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففى مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علما وعملا ظاهرا وباطنا.
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] .
فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه.
وكذلك الكفاية والحَسْب هى بقدر الإيمان، قال تعالى:{يأَيُّهَا النَّبى حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] .
أى الله حسبك وحسب أتباعك، أى كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص.
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هى بحسب إيمانه قال تعالى: {وَاللهُ وَلِى المُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] وقال الله تعالى: {اللهُ وَلِى الّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] .
وكذلك معيته الخاصة هى لأهل الإيمان، كما قال تعالى:{وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] .
فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد من ولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان.
وكذلك النصر والتأييد الكامل. إنما هو لأهل الإيمان الكامل، قال تعالى:{إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] وقال {فَأَيَّدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] .
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة فى نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هى بذنوبه، إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذى يورده كثير من الناس على قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] .
ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا فى الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفى، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة
الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا. وقد قال تعالى للمؤمنين:{وَلَا تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقال تعالى {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التى هى جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.
فصل
وأما المقام الثانى الذى وقع فيه الغلط، فكثير من الناس يظن أن أهل الدين الحق فى يكونون الدنيا أذلاء مقهورين مغلوبين دائما، بخلاف من فارقهم إلى سبيل أخرى وطاعة أخرى، فلا يثق بوعد الله بنصر دينه وعباده، بل إما أن يجعل ذلك خاصا بطائفة دون طائفة، أو بزمان دون زمان أو يجعله معلقا بالمشيئة، وإن لم يصرح بها.
وهذا من عدم الوثوق بوعد الله تعالى، ومن سوء الفهم فى كتابه.
والله سبحانه قد بين فى كتابه أنه ناصر المؤمنين فى الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] .
وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِى الأَذَلَّينَ * كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 20- 21] وهذا كثير فى القرآن.
وقد بين سبحانه فيه أن ما أصاب العبد من مصيبة، أو إدالة عدو، أو كسر، وغير ذلك فبذنوبه.
فبين سبحانه فى كتابه كلا المقدمتين، فإذا جمعت بينهما تبين لك حقيقة الأمر، وزال الإشكال بالكلية، واستغنيت عن تلك التكليفات الباردة، والتأويلات البعيدة.
فقرر سبحانه المقام الأول بوجوه من التقرير: منها ما تقدم.
ومنها: أنه ذم من يطلب النصر والعزة من غير المؤمنين، كقوله:
فأنكر على من طلب النصر من غير حزبه، وأخبر أن حزبه هم الغالبون.
ونظير هذا قوله: {بشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً الّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ، أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّة؟ فَإنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً} [النساء: 138 - 139] .
وقال تعالى: {يَقُولونَ لَئنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لِيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَلكِنَّ المُنَافِقينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .
وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَا إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلمِ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] .
أى من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله من الكلم الطيب والعمل الصالح.
وقال تعالى: {هُوَ الّذِى أَرْسلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيظْهِرَهُ عَلَى الدِّينَ كُلِّهِ} [التوبة: 33، الفتح: 29، الصف: 9] .
وقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فى سَبِيلِ اللهِ بأَمْوَالِكُمْ وَأَنُفُسكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبِكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة فى جَنّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحبِوُّنَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] أى ويعطيكم أخرى فوق مَغْفِرَةِ الذنوب ودُخول الجنة، وهى النّصْرُ والفتح {يأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ كمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِى إلَى اللهِ، قالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحَنُ أَنْصَارُ اللهِ، فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِى إسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةُ، فَأَيدْنَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِين} [الصف: 14] .
وقال تعالى للمسيح: {إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى وَمْطَهِّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِل الّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] .
فلما كان للنصارى نصيب ما من اتباعه كانوا فوق اليهود إلى يوم القيامة، ولما كان المسلمون أتبع له من النصارى كانوا فوق النصارى إلى يوم القيامة.
وقال تعالى للمؤمنين: {وَلَوْ قَاتَلَكمُ الّذِينَ كَفَرُوا لَولَّوا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيا وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِنْ قبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلَا} [الفتح: 22- 23] .
فهذا خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان ظاهرا وباطنا.
وقال تعالى: {والْعَاقِبَةَ لِلْمتُقّيِنَ} [الأعراف: 128] وقال: {وَالْعَاقِبةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] .
والمراد: العاقبة فى الدنيا قبل الآخرة، لأنه ذكر ذلك عقيب قصة نوح، ونصره وصبره على قومه. فقال تعالى:
أى عاقبة النصر لك ولمن معك، كما كانت لنوح عليه السلام ومن آمن معه.
وكذلك قوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] .
وقال تعالى: {وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرٍّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] .
وقال: {بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكمْ بِخمسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] .
وقال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أنه نُصِرَ بتقواه وصبره، فقال:
{أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِى قدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا إِنّهُ مَنْ يَتّقِ وَيَصْبِرْ فَإنَ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]{يأَيَّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيكَفِّرْ عنكم سَيَّئَاتِكُم} [الأنفال: 29] .
والفرقان: هو العز والنصر، والنجاة والنور الذى يفرق بين الحق والباطل.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَتّق اللهَ يْجعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْب إنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ، قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلَّ شَيءْ قَدْراً} [الطلاق: 2- 3] .
وقد روى ابن ماجه وابن أبى الدنيا عن أبى ذر رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لَوْ عَمِلَ النَّاسُ كُلُّهمْ بِهذِهِ الآية لَوَسِعَتْهُمْ" فهذا فى المقام الأول.
وأما المقام الثانى: فقال تعالى فى قصة أُحُدٍ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذَا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] .
وقال تعالى: {إنَّ الّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] .
وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبمِاَ كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
وقال: {وَإنَّا إذَا أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنّا رَحْمَةَ فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصبْهُمْ سَيِّئَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] .
وقالَ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهمْ سَيِّئَةٌ بما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إذَا هُمْ يَقْنَطُون} [الروم: 36] .
وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] .
وقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنَ نَفُسِكَ} [النساء: 79] .
ولهذا أمر الله سبحانه رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمر بانتظار وعده، وهو المقدمة الثانية، وأمر بالاستغفار والصبر لأن العبد لا بد أن يحصل له نوع تقصير وسرف يزيله الاستغفار، ولا بد فى انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة. وبالصبر يتم اليقين بالوعد. وقد جمع الله سبحانه بينهما فى قوله:
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَق وَاستْغَفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحَ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِى وَالإبْكَارِ} [غافر: 55] .
وقد ذكر الله سبحانه فى كتابه قصص الأنبياء وأتباعهم، وكيف نجاهم بالصبر والطاعة، ثم قال:
{لَقَدْ كانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِى الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] .
فصل
وتمام الكلام فى هذا المقام العظيم يتبين بأصول نافعة جامعة.
الأول: أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار. والواقع شاهد بذلك. وكذلك ما يصيب الأبرار فى هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
الأصل الثانى: أن ما يصيب المؤمنين فى الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعوَّلهم على الصبر، وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء، ومؤنته، فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله:
{وَلا
تَهِنُوا فِى ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإٍنّهُمْ يَأْلمونَ كَمَا تَأْلمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَالا يَرْجُونَ} [النساء: 104] .
فاشتركوا فى الألم، وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
الأصل الثالث: أن المؤمن إذا أوذى فى الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه ووجود حقائق الإيمان فى قلبه، حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لعجز عن حمله، وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن، فإنه يدفع عنه كثيرا من البلاء، وإذا كان لابد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته.
الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت فى القلب ورسخت فيه، كان أذى المحب فى رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:
لَئنْ سَاءنِى أَنْ نِلْتَنِى بَمسَاءةٍ
…
لَقَدْ سَرَّنِى أَنِّى خَطَرْتُ بِبَالِكَ
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى، الذى ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه.
الأصل الخامس: أن ما يصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان، وإن كان فى الظاهر بخلافه.
الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التى لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر، وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما
قال النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "والذى نفسى بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له".
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته، ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء حسب دينه، فإن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان فى دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
الأصل السابع: أن ما يصيب المؤمن فى هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، وأذاه له فى بعض الأحيان: أمر لازم، لابد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية فى هذه الدار، حتى للأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير فى هذا العالم عن الشر، والنفع عن الضر، واللذة عن الألم، لكان ذلك عالما غير هذا، ونشأة أخرى غير هذه النشأة، وكانت تفوت الحكمة التى مزج لأجلها بين الخير والشر، والألم واللذة، والنافع والضار، وإنما يكون تخليص هذا من هذا، وتمييزه فى دار أخرى، غير هذه الدار، كما قال تعالى:
الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم، وقهرهم، وكسرهم لهم أحيانا فيه حكمة عظيمة، لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
فمنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤالهم نصرهم على أعدائهم، ولو كانوا دائما منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا: ولو كانوا دائما مقهورين مغلوبين منصورا عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة، ولا كانت للحق دولة
فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن صرفهم بين غَلَبهم تارة، وكونهم مغلوبين تارة، فإذا غُلِبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له، وانكسروا له وتابوا إليه، وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أو لياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائما منصورين، غالبين قاهرين، لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول. فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد. فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله، ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفى حال العافية والبلاء، وفى حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلله سبحانه على العباد فى كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد، والجوع والعطش والنصب، وأضدادها. فتلك المحن والبلايا شرط فى حصول الكمال الإنسانى والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمة ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم، ويخلصهم، ويهذبهم كما قال تعالى فى حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:
فذكر سبحانه أنواعا من الحكم التى لأجلها أديل عليهم الكفار، بعد أن ثبتهم وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوه من الإيمان، وسلاهم بأنهم وإن مسهم القرح فى طاعته وطاعة رسوله فقد مس أعداءهم القرح فى عداوته وعداوة رسوله.
ثم أخبرهم أنه سبحانه بحكمته يجعل الأيام دولا بين الناس، فيصيب كلا منهم نصيبه منها، كالأرزاق والآجال.
ثم أخبرهم أنه فعل ذلك ليعلم المؤمنين منهم، وهو سبحانه بكل شيء عليم قبل كونه وبعد كونه، ولكنه أراد أن يعلمهم موجودين مشاهدين، فيعلم إيمانهم واقعا.
ثم أخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء، فإن الشهادة درجة عالية عنده، ومنزلة رفيعة لا تنال إلا بالقتل فى سبيله، فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التى هى من أحب الأشياء إليه، وأنفعها للعبد.
ثم أخبر سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين: أى تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التى أديل بها عليهم العدو، وأنه مع ذلك يريد أن يمحق الكافرين ببغيهم وطغيانهم، وعدوانهم إذا انتصروا.
ثم أنكر عليهم حسبانهم وظنهم دخول الجنة بغير جهاد ولا صبر. وأن حكمته تأبى ذلك فلا يدخلونها إلا بالجهاد والصبر، ولو كانوا دائما منصورين غالبين لما جاهدهم أحد ولما ابتلوا بما يصبرون عليه من أذى أعدائهم فهذا بعض حِكَمِه فى نصر عدوهم عليهم، وإدالته فى بعض الأحيان.
الأصل التاسع: أنه سبحانه وتعالى إنما خلق السماوات والأرض وخلق الموت والحياة وزين الأرض بما عليها لابتلاء عباده، وامتحانهم، ليعلم من يريده ويريد ما عنده ممن يريد الدنيا وزينتها.
قال تعالى: {وَهُوَ الّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ فى سِتّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَ المَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَا} [هود: 7] .
وقال {إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف:7] .
وقال {الَّذِى خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيكُمْ أَحسَنُ عَمَلَا} [الملك: 2] .
وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] .
وقال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] .
وقال تعالى {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يفُتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3] .
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، أولا يؤمن، بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا.
فأما من قال: آمنت فلا بد أن يمتحنه الرب ويبتليه، ليتبين: هل هو صادق فى قوله، آمنت، أو كاذب؟ فإن كان كاذبا رجع على عقبيه، وفر من الامتحان، كما يفر من عذاب الله، وإن كان صادقا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه.
قال تعالى {وَلَمَّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هذا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُه وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولهُ وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيِماً} [الأحزاب: 22] .
وأما من لم يؤمن، فإنه يمتحن فى الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهى أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها، وعقوبتها التى أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلا بد من المحنة فى هذه الدار وفى البرزخ، وفى القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية. فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته. وأما الكافر والمنافق والفاجر، فتشتد محنته
وبليته وتدوم، فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة.
فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم فى الدنيا ابتداء، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر، تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحبة والألم البتة، يوضحه:
الأصل العاشر: وهو أن الإنسان مدنى بالطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، واعتقادات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب من وجه آخر، فلا بد له من الناس ومخالطتهم، ولا ينفك عن موافقتهم أو مخالفتهم. وفى الموافقة ألم وعذاب، إذا كانت على باطل، وفى المخالفة ألم وعذاب، إذا لم يوافق أهواءهم واعتقاداتهم، وإراداتهم ولا ريب أن ألم المخالفة لهم فى باطلهم أسهل من الألم المترتب على موافقتهم.
واعتبر هذا بمن يطلبون منه الموافقة على ظلم أو فاحشة أو شهادة زور، أو المعاونة على محرم. فإن لم يوافقهم آذوه وظلموه وعادوه، ولكن له العاقبة والنصرة عليهم إن صبر واتقى، وإن وافقهم فرارا من ألم المخالفة أعقبه ذلك من الألم أعظم مما فر منه، والغالب أنهم يسلطون عليه، فيناله من الألم منهم أضعاف ما ناله من اللذة أولا بموافقتهم.
فمعرفة هذا ومراعاته من أنفع ما للعبد، فألم يسير يعقب لذة عظيمة دائمة أولى بالاحتمال من لذة يسيرة تعقب ألما عظيما دائما، والتوفيق بيد الله.
الأصل الحادى عشر: أن البلاء الذى يصيب العبد فى الله لا يخرج عن أربعة أقسام. فإنه إما أن يكون فى نفسه، أو فى ماله، أو فى عرضه أو فى أهله ومن يحب.
والذى فى نفسه قد يكون بتلفها تارة، وبتألمها بدون التلف، فهذا مجموع ما يبتلى به العبد فى الله.
وأشد هذه الأقسام: المصيبة فى النفس.
ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد فى الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل ألم القرصة، فليس فى قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبنى آدم. فمن عد مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها ولكن الفارَّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول:
{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إن فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذْا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلَا} [الأحزاب: 16] .
فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا، إذ لابد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه.
ثم قال: {مَنْ ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَة؟ وَلا يَجِدُونَ لَهُمُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيا وَلا نَصِيراً} [الأحزاب: 17] .
فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله، إن أراد به سوءا غير الموت الذى فر منه، فإنه من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل فى سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه.
وإذا كان هذا فى مصيبة النفس، فالأمر هكذا فى مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه فى سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره. فيكون له مَهْنَؤهُ وعلى مخلِّفه وزوه. وكذلك من رَفَّه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفى سبيله أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك فى غير سبيله، ومرضاته وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب.
قال أبو حازم: "لما يلقى الذى لا يتقى الله معالجة الخلق أعظم مما يلقى الذى يتقى الله من معالجة التقوى".
واعتبر ذلك بحال إبليس. فإنه امتنع من السجود لآدم فرارا أن يخضع له ويذل، وطلب إعزاز نفسه، فصيره الله أذل الأذلين، وجعله خادما لأهل الفسوق والفجور من ذريته فلم يرض بالسجود له، ورضى أن يخدم هو وبنوه فساق ذريته.
وكذلك عباد الأصنام، أنفوا أن يتبعوا رسولا من البشر، وأن يعبدوا إلها واحدا سبحانه، ورضوا أن يعبدوا آلهة من الأحجار.
وكذلك كل من امتنع أن يذل لله، أو يذل ماله فى مرضاته، أو يتعب نفسه وبدنه فى طاعته ومرضاته عقوبة له، كما قال بعض السلف:"من امتنع أن يمشى مع أخيه خطوات فى حاجته أمشاه الله تعالى أكثر منها فى غير طاعته".
فصل
فى خاتمة لهذا الباب، هى الغاية المطلوبة، وجميع ما تقدم كالوسيلة إليها.
وهى: أن محبة الله سبحانه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والرضى به وعنه: أصل الدين وأصل أعماله وإرادته، كما أن معرفته والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها. فمعرفته أجل المعارف، وإرادة وجهة أجل المقاصد، وعبادته أشرف الأعمال، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ومدحه وتمجيده أشرف الأقوال، وذلك أساس الحنيفية ملة إبراهيم.
وقد قال تعالى لرسوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلّةَ إبراهيم حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} [النحل: 123] .
وكان النبى صلى الله عليه وآله وسلم يوصى أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم، حنيفا مسلما، وما كان من المشركين".
وذلك هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، وعليها قام دين الإسلام الذى هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وليس لله دين سواه ولا يقبل من أحد دينا غيره.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينا فَلَنَ يُقْبَلَ مَنْهُ وهو فِى الآخرة مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .
فمحبته تعالى، بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق، من أعظم واجبات الدين، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، ومن أحب معه مخلوقا مثل ما يحبه فهو من الشرك الذى لا يغفر لصاحبه، ولا يقبل معه عمل.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبا للهِ} [البقرة: 165] .
وإذا كان العبد لا يكون من أهل الإيمان حتى يكون عبد الله ورسوله أحب إليه من نفسه وأهله وولده ووالده والناس أجمعين، ومحبته تبع لمحبة الله، فما الظن بمحبته سبحانه؟ وهو سبحانه لم يخلق الجن والإنس إلا لعبادته، التى تتضمن كمال تعظيمه والذل له، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. وعلى ذلك وضع الثواب والعقاب، وأسست الجنة والنار، وانقسم الناس إلى شقى وسعيد، وكما أنه سبحانه ليس كمثله شيء، فليس كمحبته وإجلاله محبة وإجلال ومخافة.
فالمخلوق كلما خفته استوحشت منه، وهربت منه. والله سبحانه كلما خفته أنست به وفررت إليه. والمخلوق يخُاف ظلمه، وعدوانه، والرب سبحانه إنما يخُاف عدله وقسطه.
وكذلك المحبة. فإن محبة المخلوق إذا لم تكن لله فهى عذاب للمحب ووبال عليه.
وما يحصل له بها من التألم أعظم مما يحصل له من اللذة. وكلما كانت أبعد عن الله كان ألمها وعذابها أعظم.
هذا إلى ما فى محبته من الإعراض عنك، والتجنى عليك، وعدم الوفاء لك، إما لمزاحمة غيرك من المحبين له، وإما لكراهته ومعاداته لك، وإما لاشتغاله عنك بمصالحه وما هو أحب إليه منك، وإما لغير ذلك من الآفات.
وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن، فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها. فمحبة نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن. فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التى يجدها المؤمن فى قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذى يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التى تناله أعلى من كل لذة. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله "إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة فى مثل هذا، إنهم لفى عيش طيب".
وقال آخر: "إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له".
وقال آخر: "مساكين أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها".
وقال آخر: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".
ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب
وجد من هذه الحلاوة فى قلبه ما لا يمكن التعبير عنه، ولا يعرف إلا بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدم عليه حبا لغيره، ولا أنسابه، وكلما ازداد له حبا ازداد له عبودية وذلا، وخضوعا ورقا له، وحرية عن رق غيره.
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له جميع ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن إليها، ولم يسكن إليها، بل لا تزيده إلا فاقة وقلقا، حتى يظفر بما خلق له، وهيئ له: من كون الله وحده نهاية مراده، وغاية مطالبه. فإن فيه فقرا ذاتيا إلى ربه وإلهه، من حيث هو معبوده ومحبوبه وإلهه ومطلوبه، كما أن فيه فقرا ذاتيا إليه من حيث هو ربه وخالقه ورازقه ومدبره. وكلما تمكنت محبة الله من القلب وقويت فيه أخرجت منه تألهه لما سواه وعبودبته له.
فَأَصْبَحَ حُرا عِزَّةً وَصِيَانَةً
…
عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهْ وَضِيَاؤُهْ
وما من مؤمن إلا وفى قلبه محبة لله تعالى. وطمأنينة بذكره، وتنعم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنس بقربه، وإن لم يحسن به، لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافه إلى ما هو مشغول به، فوجود الشيء غير الإحساس والشعور به.
وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصانه: هو بحسب قوة الإيمان وضعفه وزيادته ونقصانه.
ومتى لم يكن الله وحده غاية مراد العبد ونهاية مقصوده، وهو المحبوب المراد له بالذات والقصد الأول، وكل ما سواه فإنما يحبه ويريده ويطلبه تبعا لأجله، لم يكن قد حقق شهادة أن لا إله إلا الله، وكان فيه من النقص والعيب والشرك بقدره، وله من موجبات ذلك من الألم والحسرة والعذاب بحسب ما فاته من ذلك.
ولو سعى فى هذا المطلوب بكل طريق، واستفتح من كل باب، ولم يكن مستعينا بالله، متوكلا عليه، مفتقرا إليه فى حصوله، متيقنا أنه إنما يحصل بتوفيقه ومشيئته، وإعانته، لا طريق له سوى ذلك بوجه من الوجوه، لم يحصل له مطلوبه. فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. فلا يوصِّل إليه سواه، ولا يدل عليه سواه، ولا يعبد إلا بإعانته، ولا يطاع إلا بمشيئته.
{لَمِنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] .
وإذا عرف هذا، فالعبد فى حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته ولذته، تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية قد استترت عنه وتوارت، أو نقصت، أو ذهبت. فإنها لو كانت موجودة كاملة لما قدم عليها لذة وشهوة، لا نسبة بينها بوجه ما، بل هى أدنى من حبة خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها. ولهذا قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
"لا يَزْنِى الزَّانِى حِينَ يَزْنِى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشَرَبُ الْخَمَر حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ".
فإن ذوق حقيقة الإيمان ومباشرته لقلبه يمنعه من أن يؤثر عليه ذلك القدر الخسيس، وينهاه عما يُشَعِّثه وينقصه.
ولهذا تجد العبد إذا كان مخلصا لله منيبا إليه، مطمئنا بذكره، مشتاقا إلى لقائه منصرفا عن هذه المحرمات، لا يلتفت إليها، ولا يعول عليها، ويرى استبداله بها عما هو فيه كاستبداله البعر الخسيس بالجوهر النفيس، وبيعه الذهب بأعقاب الجزرَ، وبيعه المسك بالرجيع.
ولا ريب أن فى النفوس البشرية من هو بهذه المثابة، إنما يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، ينفر من المطالب العالية، واللذات الكاملة ينفر الجُعَل من رائحة الورد. وشاهدنا من يمسك بأنفه عند وجود المسك ويتكره بها، لما يناله بها من المضرة.
فمن خلق للعمل فى الدباغة لا يجيء منه العمل فى صناعة الطيب، ولا يليق ولا يتأتى منه. والنفس لا تترك محبوبا وإلا لمحبوب هو أحب إليها منه، أو للخوف من مكروه هو أشق عليها من فوات ذلك المحبوب.
فالذنب يعدم لعدم المقتضى له تارة، ولاشتغال القلب بما هو أحب إليه منه، ولوجود المانع تارة، ومن خوف فوات محبوب هو أحب إليه منه تارة.
فالأول: حال من حصل له من ذوق حلاوة الإيمان وحقائقه والتنعم به، ما عوض قلبه عن مْيله إلى الذنوب.
والثانى: حال من عنده داع وإرادة لها، وعنده إيمان وتصديق بوعد الله تعالى ووعيده، فهو يخاف إن واقعها أن يقع فيما هو أكره إليه، وأشق عليه.
فالأول: النفوس المطمئنة إلى ربها. والثانى: لأهل الجهاد والصبر.
وهاتان النفسان هما المخصوصتان بالسعادة والفلاح.
قَال اللهُ تعَالَى فى النفس الأولى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَة مَرْضِيَّةً فَادْخُلِى فى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى} [الفجر: 27 - 30] .
وقال فى الثانية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110] .
فالنفوس ثلاثة: نفس مطمئنة إلى ربها. وهى أشرف النفوس وأزكاها. ونفس مجاهدة صابرة. ونفس مفتونة بالشهوات والهوى، وهى النفس الشقية، التى حظها الألم والعذاب، والبعد عن الله تعالى والحجاب.
فصل
فى بيان كيد الشيطان لنفسه، قبل كيده للأبوين. ثم لو يقتصر على ذلك، حتى كادّ ذرية نفسه، وذرية آدم. فكان مشئوما على نفسه وعلى ذريته وأوليائه وأهل طاعته من الجن والإنس.
أما كيده لنفسه:
فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عليه السلام، كان فى امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه وعزه ونجاته. فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة: أن فى سجوده لآدم عليه السلام غضاضة عليه، وهضما لنفسه، إذ يخضع ويقع ساجدا لمن خلق من طين، وهو مخلوق من نار. والنار - بزعمه - أشرف من الطين. فالمخلوق منها خير من المخلوق منه، وخضوع الأفضل لمن هو دونه غضاضة عليه، وهضم لمنزلته. فلما قام بقلبه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم، لما رأى ربه سبحانه قد خصه به من أنواع الكرامة. فإنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وميزه بذلك عن الملائكة
وأسكنه جنته، فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، وكان عدو الله يطيف به وهو صلصال كالفخار، فيتعجب منه، ويقول: لأمر عظيم قد خلق هذا، ولئن سلط على لأعصينه، ولئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما تم خلق آدم عليه السلام فى أحسن تقويم وأكمل صورة وأجملها، وكملت محاسنه الباطنة، بالعلم والحلم والوقار، وتولى ربه سبحانه خلقه بيده، فجاء فى أحسن خلق، وأتم صورة، طوله فى السماء ستون ذراعا، قد ألبس رداء الجمال والحسن، والمهابة والبهاء، فرأت الملائكة منظرا لم يشاهدوا أحسن منه ولا أجمل، فوقعوا كلهم سجودا له، بأمر ربهم تبارك وتعالى، فشق الحسود قميصه من دبر، واشتعلت فى قلبه نيران الحسد المتين، فعارض النص بالمعقول بزعمه، كفعل أوليائه من المبطلين.
وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] .
فأعرض عن النص الصريح، وقابله بالرأى الفاسد القبيح. ثم أردف ذلك بالاعتراض على العليم الحكيم، الذى لا تجد العقول إلى الاعتراض على حكمته سبيلا. فقال:
{أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى؟ لَئنْ أَخّرْتَنِ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذرِّيّتَهُ إلا قَلِيلاً} [الإسراء: 62] .
وتحت هذا الكلام من الاعتراض معنى: أخبرنى، لم كرمته على؟ وغور هذا الاعتراض: أن الذى فعلته ليس بحكمة ولا صواب، وأن الحكمة كانت تقتضى أن يسجد هو لى، لأن المفضول يخضع للفاضل، فلم خالفت الحكمة؟.
ثم أردف ذلك بتفضيل نفسه عليه، وإزرائه به، فقال:
{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] .
ثم قرر ذلك بحجته الداحضة، فى تفضيل مادته وأصله على مادة آدم عليه السلام وأصله. فأنتجت له هذه المقدمات إباءه وامتناعه من السجود، ومعصيته الرب المعبود. فجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد والمعصية، ومعارضة النص بالرأى والعقل، فأهان نفسه كل الإهانة من حيث أراد تعظيمها، ووضعها من حيث أراد رفعتها، وأذلها من حيث أراد عزتها، وآلها كل الألم من حيث أراد لذتها، ففعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه فى مضرته لم يبلغ منه ذلك المبلغ. ومن كان هذا غشه لنفسه فكيف يسمع منه العاقل ويقبل ويواليه؟.
قال تعالى {وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجدُوا إِلا إِبْلِيس كانَ مِنْ
الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو؟ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلا} [الكهف: 50] .
فصل
وأما كيده للأبوين:
فقد قص الله [الأعراف: 20- 22] سبحانه علينا قصته معهما، وأنه لم يزل يخدعهما، ويعدهما، ويمنيهما الخلود فى الجنة، حتى حلف لهما بالله جهد يمينه: إنه ناصح لهما، حتى اطمأنا إلى قوله وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحبة والخروج من الجنة ونزع لباسهما عنهما ما جرى، وكان ذلك بكيده ومكره الذى جرى به القلم، وسبق به القدر، ورد الله سبحانه كيده عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة مكره عليه.
{وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] .
وظن عدو الله بجهله أن الغلبة والظفر له فى هذه الحرب، ولم يعلم بكمين جيش:
{رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفَسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ} [الأعراف: 23] .
ولا بإقبال دولة {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] .
وظن اللعين بجهله أن الله سبحانه يتخلى عن صفيه وحبيبه الذى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، من أجل أكلة أكلها.
وما علم أن الطبيب قد علم المريض الدواء قبل المرض، فلما أحس بالمرض بادر إلى استعمال الدواء، لما رماه العدو وبسهم وقع فى غير مقتل فى غير مقتل، فبادر إلى مداواة الجرح، فقام كأن لم يكن به قلبة.
بلى العدو بالذنب فأصر واحتج وعارض الأمر، وقدح فى الحكمة، ولم يسأل الإقالة، ولا ندم على الزلة. وبلى الحبيب بالذنب فاعترف وتاب وندم، وتضرع واستكان وفزع إلى مفزع الخليقة، وهو التوحيد والاستغفار، فأزيل عنه العتب، وغفر له الذنب، وقبل منه المتاب، وفتح له من الرحمة والهداية كلٌّ باب، ونحن الأبناء، ومن أشبه أباه فما ظلم، ومن كانت شيمته التوبة والاستغفار فقد هدى لأحسن الشيم.
فصل
ثم كاد أحد ولدى آدم، ولم يزل يتلاعب به، حتى قتل أخاه، وأسخط أباه، وعصى مولاه، فسن للذرية قتل النفوس، وقد ثبت فى الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال:
"مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْماً إِلا كانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ".
فكاد العدو هذا القاتل بقطيعة رحمه، وعقوق والديه، وإسخاط ربه، ونقص عدده، وظلم نفسه، وعرضه لأعظم العقاب، وحرمه حظه من جزيل الثواب.
فصل
[كيده بالناس من بعد آدم]
ثم جرى الأمر على السداد والاستقامة، والأمة واحدة، والدين واحد، والمعبود واحد. قال تعالى:
{وَمَا كانَ النّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِى بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخَتْلِفُونَ} [يونس: 19] وقال تعالى: {كَانَ النّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبْعثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] .
قال سعيد عن قتادة "ذكر لنا: أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون
كلهم على الهدى، وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحاً، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض، وبُعِث عند الاختلاف بين الناس وترك الحق".
وقال ابن عباس "كان الناس أمة واحدة: كانوا على الإسلام كلهم".
وهذا هو القول الصحيح فى الآية.
وقد روى عطية عن ابن عباس رضى الله عنهما "كانوا أمة واحدة، كانوا كفارا".
وهذا قول الحسن وعطاء، قالا "كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أمة واحدة على ملة واحدة، وهى الكفر، كانوا كفارا كلهم أمثال البهائم، فبعث الله نوحا وإبراهيم والنبيين".
وهذا القول ضعيف جدا، وهو منقطع عن ابن عباس، والصحيح عنه خلافه.
قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال "كانوا على الإسلام كلهم".
وهذا هو الصواب قطعا، فإن قراءة أبى بن كعب "فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين".
ويشهد لهذه القراءة: قوله تعالى فى سورة يونس:
{وَمَا كانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفوا} [يونس: 19] .
والمقصود: أن العدو كادهم وتلاعب بهم حتى انقسموا قسمين، كفارا ومؤمنين فكادهم بعبادة الأصنام، وإنكار البعث.
وكان أول ما كاد به عباد الأصنام من جهة العكوف على القبور، وتصاوير أهلها ليتذكروهم بها، كما قص الله سبحانه قصصهم فى كتابه، فقال:
قال البخارى فى صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت".
وقال ابن جرير عن محمد بن قيس قال: "كانوا قوما صالحين من بنى آدم، كان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم، الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم".
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبى: أخبرنى أبى قال: "أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم فى مغارة فى الجبل الذى أهبط عليه أدم بأرض الهند، ويقال للجبل: نوذ، وهو أخصب جبل فى الأرض".
قال هشام: فأخبرنى أبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: "فكان بنو شيث عليه السلام يأتون جسد آدم فى المغارة، فيعظمونه، ويترحمون عليه، فقال رجل من بنى قابيل بن آدم: يا بنى قابيل، إن لبنى شيث دوارا يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها".
قال هشام: وأخبرنى أبى قال: "كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر: قوما صالحين، فماتوا فى شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بنى قابيل: يا قوم، هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم؟ غير أنى لا أقدر أن أجعل فيها أرواحاً، قالوا:
نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم، ونصبها لهم، فكان الرجل يأتى أخاه وعمه وابن عمه، فيعظمه ويسعى حوله، حتى ذهب ذلك القرن الأول وكانت عملت على عهد برد ابن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، ثم جاء قرن آخر فعظموهم أشد من تعظيم القرن الأول، ثم جاء من بعدهم القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا يرجون شفاعتهم عند الله تعالى، فعبدوهم، وعظموا أمرهم، واشتد كفرهم، فبعث الله إليهم إدريس عليه السلام نبيا فدعاهم، فكذبوه، فرفعه الله مكانا عليا، ولم يزل أمرهم يشتد فيما قال ابن الكلبى عن أبى الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس: - حتى أدرك نوح عليه السلام، فبعثه الله تعالى نبيا، وهو يومئذ ابن أربعمائة وثمانين سنة، فدعاهم إلى الله تعالى فى نبوته عشرين ومائة سنة، فعصوه وكذبوه، فأمره الله تعالى أن يصنع الفلك، ففرغ منها وركبها، وهو ابن ستمائة سنة، وغرق من غرق، ومكث بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة فدعاهم إلى الله. وكان بين آدم ونوح ألفا سنة ومائتا سنة: فأهبط الماء هذه الأصنام من أرض إلى أرض حتى قذفها إلى أرض جدة، فلما نضب الماء وبقيت على الشط فسفت الريح عليها حتى وارتها".
قلت: ظاهر القرآن يدل على خلاف هذا، وأن نوحا عليه السلام لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وأن الله عز وجل أهلكهم بالغرق بعد أن لبث فيهم هذه المدة.
قال الكلبى: وكان عمرو بن لحى كاهنا وله رئى من الجن:
عجل المسير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة قال: جير ولا إقامة، قال: ائت ضف جدة، تجد فيها أصناما معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب. فأتى نهر جدة فاستثارها، ثم حملها حتى ورد تهامة، وحضر الحج، فدعا العرب إلى عبادتها قاطبة، فأجابه عوف بن عذرة بن زيد اللات، ابن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب ابن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة فدفع إليه ودا، فحمله فكان بوادى القرى بدومة الجندل، وسمى ابنه عبدود، فهو أول من سمى به، وجعل عرف ابنه عامرا الذى يقال له: عامر الأجدار سادنا له. فلم يزل بنوه يسد نونه حتى جاء الله بالإسلام.
قال الكلبى: فحدثنى مالك بن حارثة أنه رأى ودا. قال: وكان أبى يبعثنى باللبن إليه، فيقول: اسقه إلهك، فأشربه. قال: ثم رأيت خالد بن الوليد رضى الله عنه بعد كسره فجعله جذاذا. وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عذرة وبنو عامر الأجدار. فقاتلهم، فقتلهم وهدمه وكسره.
قال الكلبى: فقلت لمالك بن حارثة: صف لى ودا، حتى كأنى أنظر إليه. قال: كان تمثال رجل كأعظم ما يكون من الرجال، قد دُبِّر - أى نقش - عليه حلتان، متزر بحلة مرتد بأخرى، عليه سيف قد تقلده، وقد تنكب قوسا، وبين يديه حربة فيها لواء ووفضة فيها نبل، يعنى جعبة.
قال: ورجع الحديث. قال: وأجابت عمرو بن لحى مضر بن نزار. فدفع إلى رجل من هذيل يقال له: الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر: سواعا، فكان بأرض يقال لها: وهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر. وفى ذلك يقول رجل من العرب:
تَرَاهُمْ حَوْلَ قِبْلَتهِمْ عُكُوفا
…
كَمَا عَكَفَتْ هُذَيْلُ عَلَى سُوَاعِ
تَظَلُّ جَنَابَهُ صَرْعَى لَدَيْهِ
…
عَتَائِرَ مِنْ ذَخَائِرِ كُلّ رَاعِ
وأجابته مذحج، فدفع إلى أنعم بن عمرو المرادى يغوث. وكان بأكمة باليمن تعبده مذحج ومن والاها.
وأجابته همدان. فدفع إلى مالك بن مرثد بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان: يعوق. فكان بقرية يقال لها: خيوان. تعبده همدان ومن والاها من اليمن.
وأجابت حمير: فدفع إلى رجل من ذى رعين. يقال له: معد يكرب نسرا. فكان بموضع من أرض سبأ، يقال له: بلخع تعبده حمير ومن والاها. فلم يزل يعبدونه حتى هوّدهم ذو نواس.
فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فهدمها وكسرها.
قلت: هذا شرح ما ذكره البخارى فى صحيحه عن ابن عباس قال "صارت الأوثان التى كانت فى قوم نوح فى العرب تعبد. أما ود، فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما سواع فكانت لهذيل. وأما يغوث، فكان لمراد، ثم لبنى غطيف، بالحرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر، فكانت لحمير، لآل ذى الكلاع، قال: وهؤلاء أسماء رجال صالحين من قوم نوح" وذكر ما تقدم.
وفى صحيح البخارى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِى يَجُرُّ قُصْبَهُ فى النّارِ. وَكانَ أَوَّلَ مَنَ سَيَّبَ السَّوَائِبَ".
وفى لفظ "وَغَيَّرَ دِينَ إبراهيم".
وقال بن إسحق: حدثنى محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لأكثم ابن الجون الخزاعى "يا أكثم رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك، فقال أكثم: عسى أن يضرنى شبهه يا رسول الله، قال: لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام".
قال ابن هشام: وحدثنى بعض أهل العلم "أن عمرو بن لحى خرج من مكة إلى الشام فى بعض أموره، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، وهم ولد عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام. فقال لهم: ما هذه الأصنام التى تعبدون؟ فقالوا: نستمطر بها فتمطرنا. ونستنصرها فتنصرنا. فقال: أفلا تعطونى منها صنما، فأسير به
إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له: هبل. فقدم به مكة، فنصبه، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه".
قال هشام: وحدثنى أبى وغيره "أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده، فكثروا، حتى ملؤوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضا، فتفسحوا فى البلاد والتماس المعاش، فكان الذى حملهم على عبادة الأوثان والحجارة: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم، تعظيما للحرم، وصبابة بمكة. فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت، حبا للبيت وصبابة به، وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل، يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة. وإهداء البدن مع إدخالهم فيه ما ليس منه وكانت نزار تقول فى إهلالها:
لَبَّيْكَ الّلهُمَّ لَبَّيْكْ
…
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
إِلا شَرِيكٌ هُوَ لَكْ
…
تَمْلكُهُ وَمَا مَلَكْ
ويوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده. يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] .
أى ما يوحدوننى بمعرفة حقى إلا جعلوا معى شريكا من خلقى.
وكانت تلبية عك، إذا خرجوا حجاجا، قدموا أمامهم غلامين أسودين. فكانا أمام ركبهم فيقولان:
نَحْنُ غُرَابَا عَكٍّ
فتقول عك من بعدهما:
عَك إِلَيْكَ عَانِيَهْ
…
عِبَادُكَ الْيَمَانِيَهْ
وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت فى المواقف، نفرت فى النفر الأول، ولم تقم إلى آخر التشريق.
وكان أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة وبحر البحيرة ووصل الوصيلة، وحمى الحامى: عمرو بن ربيعة. وهو لحى بن حارثة ابن عمرو بن عامر الأزدى - وهو أبو خزاعة. وكانت أم عمرو فهيرة بنت عامر بن الحارث. ويقال قمعة بنت مضاض وكان الحرث الذى يلى أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لحى نازعه فى الولاية، وقاتل جرهما ببنى إسماعيل، فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة. وتولى حجابة البيت بعدهم ثم إنه مرض مرضا شديدا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت فأتاها، فاستحم فيها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقى بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة.
واتخذت العرب الأصنام، فكان أقدمها مناة وقد كانت العرب تسمى: عبد مناة وزيد مناة وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعها تعظمه. وكانت الأوس والخرزج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب
من المواضع يعظمونه، ويذبحون له، ويهدون له وكان أولاد معد على بقية من دين إسماعيل. وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج.
قال هشام: وحدثنا رجل من قريش عن أبى عبيدة بن عبد الله بن أبى عبيدة ابن محمد بن عمار بن ياسر قال: "كانت الأوس والخزرج ومن جاورهم من عرب أهل يثرب، وغيرها يحجون، فيقفون مع الناس المواقف كلها. ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه، فحلقوا عنده رؤوسهم، وأقاموا عنده لا يرون لحجهم تمام إلا بذلك".
وكانت مناة لهذيل وخزاعة. فبعث رسول الله عليه السلام عليا فهدمها عام الفتح.
ثم اتخذوا اللات بالطائف. وهى أحدث من مناة. وكانت صخرة مربعة وكان يهودى يلت عندها السويق وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك. وكانوا قد بنوا عليها. وكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمى زيد اللات. وتيم اللات. وكانت فى موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم.
فلم تزل كذلك
حتى أسلمت ثقيف. فبعث رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
ثم اتخذوا العزى. وهى أحدث من اللات ومناة، اتخذها ظالم بن أسعد. وكانت بواد من نخلة [الشامية. يقال له: حُرَاض، بإزاء الغُمَير، عن يمين المصعد إلى العراق من مكة. وذلك] ، فوق ذات عرق، وبنوا عليها بيتا. وكانوا يسمعون منه الصوت.
قال هشام: وحدثنى أبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: كانت العزى شيطانة تأتى ثلاث سمرات ببطن نخلة. فلما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد، فقال: ائت بطن نخلة. فإنك ستجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى. فأتاها فعضدها. فلما جاء إليه قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية. فأتاها فعضدها. ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة. فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها [دبَيَّة ابن حرمى الشيبانى ثم السلمى وكان] سادنها [فلما نظر إلى خالد] قال:
أَعُزَّاء شُدّى شَدّةً لا تُكَذِّبى
…
عَلَى خَالد، أَلْقى الخمارَ وَشَمِّرِي
فَإِنّكِ إلا تَقْتُلِى الْيَوْمَ خَالِدا
…
تَبُوئى بِذُل عَاجِلاً وَتَنَصَّرِي
فقال خالد:
يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ، لا سُبْحَانَكِ
…
إنِّى رَأَيْتُ اللهَ قَدْ أَهَانَكِ
ثم ضربها، ففلق رأسها. فإذا هى حممة. ثم عضد الشجرة، وقتل السادن ثم أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب [أما إنها لن تعبد بعد اليوم] .
قال هشام: وكانت لقريش أصنام فى جوف الكعبة وحولها، وأعظمها عندهم: هبل. وكان - فيما بلغنى - من عقيق أحمر، على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش كذلك. فجعلوا له يدا من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر [وكان يقال له: هبل خزيمة] . وكان فى جوف الكعبة. وكان قدامه [سبعة] قداح، مكتوب فى أحدها: صريح، وفى الآخر: ملصق. فإذا شكوا فى مولود أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج "صريح" ألحقوه. وإن خرج "ملصق" دفعوه [وقدح على الميت، وقدح على النكاح. وثلاثة لم تفسر، لى علام كانت؟] .
وكانوا إذا اختصموا فى أمر، أو أرادوا سفرا أو عملا، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده [فما خرج عملوا به وانتهوا إليه. وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله والد النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم] وهو الذى قال له أبو سفيان يوم أحد أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:"قولوا له: الله أعلى وأجل".
وكان لهم إساف ونائلة.
قال هشام: فحدث الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس "أن إسافا رجل من جرهم يقال له: إساف بن يعلى، ونائله بنت زيد من جرهم، وكان يتعشقها فى أرض اليمن فأقبلوا حجاجا، فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من الناس وخلوة من البيت، ففجر بها فى البيت، فمسخا حجرين، فأصبحوا فوجدوهما مسخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد من العرب".
قال هشام: لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ بهما الناس، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها. وكان أحدهما ملصقا بالكعبة والآخر فى موضع زمزم، فنقلت قريش الذى كان ملصقا بالكعبة إلى الآخر، فكانوا يذبحون عندهما.
وكان من تلك الأصنام ذو الخلصة، وكان مروة بيضاء، منقوشة، عليها كهيئة التاج، وكان له بيت بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة [وكان سدنتها بنو أمامة من
باهلة بن أعصر] وكانت تعظمها وتهدى لها خثعم وبجيلة، [وأزد السراة ومن قلوبهم من بطون العرب من هوازن] فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لجرير:
"ألا تَكْفِينِى ذَا الْخَلَصَة؟ ".
فسار إليه بأحمس، فقاتلته خثعم وباهلة دونه، فظفر بهم. وهدم بيت ذى الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق.
وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة.
وكان لدوس صنم يقال له "ذو الكفين" فلما أسلموا بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الطفيل بن عمرو فحرقه.
وكان لبنى الحارث بن يشكر [بن مبشر من الأزد] صنم يقال له "ذو الشرى".
وكان لقضاعة ولحم وجذام، وعاملة وغطفان، صنم فى مشارف الشام يقال له "الأقيصر".
وكان لمزينة صنم يقال له "نُهم" وبه كانت تسمى عبد نهم.
[وكان لأزد السراة صنم يقال له "عائم"] .
وكان لعنزة صنم يقال له "سعير".
وكان لطيء صنم يقال له "الفلس".
وكان لأهل كل دار من مكة صنم فى دارهم، كان يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع فى منزله: أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله: أن يتمسح به.
قال ابن إسحاق: وكان لخولان صنم يقال له: عم أنس بأرض خولان يقسمون له من أنعامهم، وحروثهم، قسما بينه وبين الله، بزعمهم، فما دخل فى حق الله من حق عم أنس رده عليه، وما دخل فى الحق الصنم من حق الله الذى سموا له تركوه له وفيهم أنزل الله سبحانه:
قال ابن إسحق: وكان لبنى ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له: "سعد" صخرة بفلاة من الأرض طويلة، فأقبل رجل من بنى ملكان بإبل مؤبلة، ليقفها عليه ابتغاء بركته - فيما يزعم - فلما رأته الإبل، [وكانت مرعية لا تركب] وكان يهراق عليه الدماء، نفرت منه فذهب فى كل وجه، فغضب ربها، فأخذ حجرا فرماه به، ثم قال: لا بارك الله فيك نفرت عنى إبلى، ثم خرج فى طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له، قال:
أَيتنا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا
…
فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ، فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدُ إِلا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ
…
مِنَ الأَرْضِ لا تَدْعُو لِغَى وَلا رُشْدِ؟
قال ابن إسحق: وكان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بنى سلمة، وشريفا من أشرافهم. وكان قد اتخذ فى داره صنما من خشب، يقال له مناة [كما كان الأشراف يصنعون. يتخذه إلها يعظمه ويظهره] فلما أسلم فتيان بنى سلمة معاذ بن جبل، وابنه معاذ بن عمرو، وغيرهم ممن أسلم، وشهد العقبة، وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه، فيطرحونه فى بعض حفر بنى سلمة، وفيها عذرات الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو، قال: ويلكم، من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ قال ثم يغدو يلتمسه، حتى إذا وجده غسله وطهره، وطيبه، ثم قال: والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه. فإذا أمسى ونام غدوا
ففعلوا بصنمهم مثل ذلك، فيغدو فيلتمسه، فيجده فى مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، فيغدون عليه إذا أمسى فيفعلون به ذلك، فلما طال عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه، فعلقه عليه، ثم قال له: والله إنى لا أعلم من يصنع بك ما ترى. فإن كان فيك خير فامتنع: فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام غدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقربوه به بحبل، ثم ألقوه فى بئر من آبار بنى سلمة فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو، فلم يجده فى مكانه الذى كان به فخرج يتبعه، حتى وجده فى تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت. فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلامه، فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك، وما أبصر من أمره، ويشكر الله إذ أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة، ويقول:
وَاللهِ لَوْ كُنْتَ إِلها لَمْ تَكُنْ
…
أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فى قَرَنْ
أُفٍّ لَمِلْقَاكَ إِلهَا مُسْتَدَنْ
…
الآنَ فَتِّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
الْحَمدُ للهِ الْعِلِّى ذِى المِنَنْ
…
الوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدَّيَنْ
هُوَ الّذِى أَنْقَذَنى مِنْ قَبْلِ أَنْ
…
أَكُونَ فى ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
قال ابن إسحق: واتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد رجل منهم سفرا تمسح به، وإذا قدم من سفرٍ تمسح به، فيكون آخر عهدِه به، وأول عهده به، فلما بعث الله محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالتوحيد قالت قريش:
{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِدًا؟ إِنَّ هذَا لَشَيءْ عُجَابٌ} [ص: 5] .
وكانت العرب قد اتخذت مع الكعبة طواغيت، وهى بيوت تعظمها، كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب، وتهدى لها كما تهدى للكعبة، وتطوف بها كما تطوف بالكعبة وتنحر عندها كما تنحر عند الكعبة.
وكان الرجل إذا سافر، فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها، فاتخذه رباً، وجعل الثلاثة أثافى القدرة، فإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك.
قال حنبل: حدثنا حسن بن الربيع قال: حدثنا مهدى بن ميمون قال: سمعت أبا رجاء العُطارِدى يقول "لما بُعث النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسمعنا به، لحقنا بمسيلمة الكذاب، فلحقنا بالنار، قال: وكنا نعبد الحجر فى الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقى ذلك ونأخذه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه، ثم طفنا به".
وقال أبو رجاء أيضا "كنا نعمد إلى الرمل فنجمعه، ونحلب عليه، فنعبده، وكنا نعمد إلى الحجر الأبيض فنعبده، زمانا، ثم نلقيه".
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا الحجاج بن أبى زينب قال
سمعت أبا عثمان النهدى يقول "كنا فى الجاهلية نعيد حجرا، فسمعنا مناديا ينادى: يا أهل الرحال، إن ربكم قد هلك، فالتمسوا ربا، قال: فخرجنا على كل صعب وذلول، فبينا نحن كذلك نطلبه إذا نحن بمناد ينادى: إنا قد وجدنا ربكم، أو شبهه، فإذا حجر، فنحرنا عليه الجزر".
وقال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر قال حدثنى الحجاج بن صفوان عن ابن أبى حسين عن شهر بن حوشب عن عمر بن عبسة قال "كنت امرأ ممن يعبد الحجارة، فينزل الحى ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم، فيأتى بأربعة أحجار، فينصب ثلاثة لقدره، ويجعل أحسنها إلها يعبده، ثم لعله يجد ما هو أحسن منه قبل أن يرتحل فيتركه، ويأخذ غيره".
ولما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، فجعل يطعن بسية قوسه فى وجوهها، وعيونها، ويقول:
{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلَ إن الباطلَ كَانَ زَهُوقاَ} [الإسراء: 81] .
وهى تتساقط على رؤوسها، ثم أمر بها، فأخرجت من المسجد وحرقت.
فصل
وتلاعب الشيطان بالمشركين فى عبادة الأصنام له أسباب عديدة، تلاعب بكل قوم على قدر عقولهم.
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى، الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم، كما تقدم عن قوم نوح عليه السلام، ولهذا لعن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة إلى القبور، وسأل ربه سبحانه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا، وقال:"اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وأمر بتسوية القبور، وطمس التماثيل.
فأبى المشركون إلا خلافه فى ذلك كله، إما جهلا، وإما عنادا لأهل التوحيد، ولم يضرهم ذلك شيئا. وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين.
وأما خواصهم فإنهم اتخذوها - بزعمهم - على صور الكواكب المؤثرة فى العالم عندهم، وجعلوا لها بيوتا وسدنة، وحجابا، وحجا وقربانا، ولم يزل هذا فى الدنيا قديما وحديثا.
فمنها: بيت على رأس جبل بأصبهان. كان به أصنام أخرجها بعض ملوك المجوس، وجعله بيت نار.
ومنها بيت ثان وثالث ورابع بصنعاء. بناه بعض المشركين على اسم الزهرة، فخربه عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه.
ومنها بيت بناه قابوس الملك على اسم الشمس بمدينة فرغانه، فخربه المعتصم.
وأشد الأمم فى هذا النوع من الشرك: الهند.
قال يحيى بن بشر: إن شريعة الهند وضعها لهم رجل يقال له برهمن، ووضع لهم أصناما، وجعل أعظم بيوتها بيتا بمدينة من مدائن السند. وجعل فيه صنمهم الأعظم. وزعم
أنه بصورة الهيولى الأكبر. وفتحت هذه المدينة فى أيام الحجاج. واسمها "الملتان" فأراد المسلمون قلع الصنم. فقيل: إن تركتموه ولم تقلعوه جعلنا لكم ثلث ما يجتمع له من المال، فأمر عبد الملك بن مروان بتركه، فالهند تحج إليه من نحو ألفى فرسخ ولا بد لمن يحجه أن يحمل معه من النقد ما يمكنه، من مائةٍ إلى عشرة آلاف، لا يكون أقل من هذا ولا أكثر. فيلقيه فى صندوق هناك عظيم، ويطوف بالصنم، فإذا ذهبوا ورجعوا إلى بلادهم قسم ذلك المال، فثلثه للمسلمين، وثلثه لعمارة المدينة وحصونها، وثلثه لسدنة الصنم ومصالحه.
وأصل هذا المذهب من مشركى الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم فى بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه، وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه.
وهو مذهب قديم فى العالم، وأهله طوائف شتى.
فمنهم عباد الشمس، زعموا أنها ملك من الملائكة، لها نفس وعقل، وهى أصل نور القمر والكواكب، وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم، منها، من عندهم ملك الفلك، فيستحق التعظيم والسجود، والدعاء.
ومن شريعتهم فى عبادتها: أنهم اتخذوا لها صنما بيده جوهرة على لون النار. وله بيت خاص قد بنوه باسمه، وجعلوا له الوقوف الكثيرة، من القرى والضياع، وله سدنة وقوام وحجبة، يأتون البيت ويصلون فيه لها ثلاث كرات فى اليوم. ويأتيه أصحاب العاهات، فيصومون لذلك الصنم ويصلون، ويدعون ويستسقون به، وهم إذا طلعت الشمس سجدوا كلهم لها، وإذا غربت، وإذا توسطت الفلك، ولهذا يقارنها الشيطان فى هذه الأوقات الثلاثة لتقع عبادتهم وسجودهم له. ولهذا نهى النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تحرى الصلاة فى هذه الأوقات، قطعا لمشابهة الكفار ظاهرا، وسدا لذريعة الشرك، وعبادة الأصنام.
فصل
وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلى.
ومن شريعة عباده: أنهم اتخذوا له صنما على شكل عجل يجره أربعة، ويبد الصنم جوهرة، ويعبدونه، ويسجدون له ويصومون له أياما معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب، والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل أخذوا فى الرقص والغناء وأصوات المعازف بين يديه.
ومنهم من يعبد أصناما اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكل، ومتعبدات، لكل كوكب منها هيكل يخصه، وصنم يخصه، وعبادة تخصه.
ومتى أردت الوقوف على هذا، فانظر فى كتاب "السر المكتوم فى مخاطبة النجوم" المتسوب إلى ابن خطيب الرَّى تعرف سر عبادة الأصنام، وكيفية تلك العبادة وشرائطها.
وكل هؤلاء مرجعهم إلى عبادة الأصنام، فإنهم لا تستمر لهم طريقة إلا بشخص خاص على شكل خاص، ينظرون إليه، ويعكفون عليه.
ومن هاهنا اتخذ أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما، زعموا أنها على صورتها فوضع الصنم إنما كان الأصل على شلك معبود غائب فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته، ليكون نائبا، وقائما مقامه. وإلا فمن المعلوم أن عاقلا لا ينحت خشبة أو حجرا بيده، ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده.
ومن أسباب عبادتها أيضاً: أن الشياطين تدخل فيها، وتخاطبهم منها وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين، فجهلتهم وسقطهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب، وعقلاؤهم يقولون: إن تلك روحانيات الأصنام، وبعضهم يقولون: إنها الملائكة وبعضهم يقول: إنها العقول المجردة. وبعضهم يقول:
هى روحانيات الأجرام العلوية. وكثير منهم لا يسأل عما عهد بل إذا سمع الخطاب من الصنم اتخذه إلها، ولا يسأل عما وراء ذلك.
وبالجملة فأكثر أهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منها إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها فى الأرض من قبل نوح عليه السلام كما تقدم، وهياكلها ووقوفها وسدنتها وحجابها. والكتب المصنفة فى شرائع عبادتها طبق ذلك كله الأرض.
قال إمام الحنفاء: {وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُن أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35 - 36] .
والأمم التى أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام، كما قص الله تعالى ذلك عنهم فى القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين.
ويكفى فى معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
"أَن بَعْثَ النَّارِ مِنْ كلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتسعة وتَسْعُونَ" وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورَا} [الإسراء: 89] وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فى الأَرْضِ يِضُلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام: 116] وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] .
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها، فهم يشاهدون مصارع إخوانهم وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر عليها، وتحمل أنواع المكاره فى نصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التى فتنت بعبادتها، وما حل بهم من عاجل العقوبات، ولا يثنيهم ذلك عن عبادتها.
ففتنة عبادة الأصنام أشد من فتنة عشق الصور، وفتنة الفجور بها. والعاشق لا يثنيه
عن مراده خشية عقوبة فى الدنيا، ولا فى الآخرة، وهو يشاهد ما يحل بأصحاب ذلك: من الآلام والعقوبات، والضرب، والحبس، والنكال، والفقر، غير ما أعد الله له فى الآخرة وفى البرزخ، ولا يزيده ذلك إلا إقداما وحرصا على الوصول والظفر بحاجته.
فهكذا الفتنة بعبادة الأصنام أشد، فإن تأله القلوب لها أعظم من تألها للصور التى يريد منها الفاحشة بكثير.
والقرآن بل وسائر الكتب الإلهية، من أولها إلى آخرها، مصرحة ببطلان هذا الدين وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسله، وأنهم أولياء الشيطان وعباده وأنهم هم أهل النار الذين لا يخرجون منها، وهم الذين حلت بهم المثلاث، ونزلت بهم العقوبات، وأن الله سبحانه برئ منهم هو وجميع وملائكته، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل لهم عملا.
وهذا معلوم بالضرورة من الدين الحنيف.
وقد أباح الله عز وجل لرسوله وأتباعه من الحنفاء دماء هؤلاء، وأموالهم، ونساءهم وأبناءهم بتطهير الأرض منهم، حيث وجدوا، وذمهم بسائر أنواع الذم، وتوعدهم بأعظم أنواع العقوبة، فهؤلاء فى شق ورسل الله تعالى كلهم فى شق.
فصل
ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو فى المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا التشبيه الواقع فى الأمم، الذى أبطله الله سبحانه، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله.
فهو سبحانه ينفى، وينهى، أن يجعل غيره مثلا له، وندا له، وشبها له، لا أن يشبه هو بغيره، إذ ليس فى الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف فى طائفة من طائفة بنى آدم، وإنما الأول هو
المعروف فى طوائف أهل الشرك، غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا:
{اصْبِرُوا عَلَى آلَهِتِكُمْ} [ص: 6] .
وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة، التى لا تنبغى إلا لله تعالى.
فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه، حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب كقولهم:
{إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] وإن {يَدُ اللهِ مَغْلُولَة} [المائدة: 64] .
وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم. والذين جعلوا له ولدا وصاحبة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا، ثم يشبهون به الخالق، بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالا، لا قصدا أن يكون غيره أصلا فيها، وهو مشبه به.
ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من إبطال الباطل، لكونها فى نفسها نقائص وعيوبا، ليس جهة البطلان فى اتصافه بها: هو التشبيه والتمثيل، فلا يتوقف فى نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه، كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل، حيث صرحوا بأنه لا يقوم دليل عقلى على انتفاء النقائص والعيوب عنه، وإنما تنفى عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل.
وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات: نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه، بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا يماثل فيه خلقه، كما تثبتون أنتم له علما وقدرة، وحياة وسمعا، وبصرا، لا يماثل فيها خلقه. فقولنا فى هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء - لم يتمكنوا من إبطال قولهم، ويصيرون أكفاء لهم فى المناظرة، فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلى على انتفاء النقائص والعيوب، وإنما ننفى ما نفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل، وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه، فقال أولئك: وهكذا نقول نحن.
ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع، وقال: إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع، وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية، لا تفيد اليقين، فليس عند
القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب.
وأهل السنة يقولون: إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب له لذاته، وهو أظهر فى العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء.
ومن العجب أن هؤلاء جاءوا إلى ما علم بالاضطرار أن الرسل جاءوا به، ووصفوا الله سبحانه به، ودلت عليه العقول والفطر والبراهين، فنفوه، وقالوا: إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه، فلم يثبت لهم قدم البتة، فيما يثبتونه له سبحانه، وينفونه عنه. وجاءوا إلى ما علم بالاضطرار والفطر والعقول، وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب، فقالوا: ليس فى أدلة العقل ما ينفيه، وإنما ننفيه بما ننفى به التشبيه.
وليس فى الخذلان فوق هذا، بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه، ونفيها أظهر وأبين فى العقول من نفى التشبيه، فلا يجوز أن يثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه.
والمقصود: أنه لم يكن فى الأمم من مثله بخلقه، وجعل المخلوق أصلا ثم شبهه به، وإنما كان التمثيل والتشبيه فى الأمم، حيث شبهوا أوثانهم ومعبوديهم به فى الإلهية، وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام، فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام، صرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذى لم تعرف أمة من الأمم عليه، وبالغوا فيه حتى نفوا به عنه صفات الكمال.
ولهذا موضع مهم نافع جدا، به يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه، وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه، وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله، ويزعمون أن القرآن دل عليه وأريد به نفيه.
والقرآن مملوء من إبطال أن يكون فى المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله، فهذا هو الذى قصد بالقرآن، إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره.
قال تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]
وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] .
فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق. فالند: الشبه. يقال فلان نِد فلان، ونَدِيدُه أى مثله وشبهه، ومنه قول حسان بن ثابت:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ؟
…
فَشَرُّ كُمَا لِخَيْرِ كُمَا الْفِداءُ
ومنه قول النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أَجَعَلْتَنِى للهِ نِدَّا" وقال جرير:
أَتَيماً تَجْعَلُونَ إِلَى نِدا؟
…
وَمَا تَيْمٌ لِذِى حسَبٍ نَدِيدُ
قال ابن مسعود، وابن عباس:"لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال، تطيعونهم فى معصية الله".
وقال ابن زيد: "الأنداد الآلهة التى جعلوها معه".
وقال الزجاج: "أى لا تجعلوا لله أمثالا".
فالذى أنكره الله سبحانه عليهم: هو تشبيه المخلوق به، حتى جعلوه ندا لله تعالى، يعبدونه كما يعبدون الله، وكذلك قوله فى الآية الأخرى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} [البقرة: 165] فأنكر هذا التشبيه عليهم، وهو أصل عبادة الأصنام.
ونظيرُ هذا قولهُ سبحانه: {الْحَمْدُ للهِ الّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلْونَ} [الأنعام: 1] .
أى يعدلون به غيره، فيجعلون له من خلقه عَدلا وشبها.
قال ابن عباس: يريد عدلوا بى من خلقى الحجارة والأصنام، بعد أن أقروا بنعمتى وربوبيتى.
وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر فى هذه الآية. وأن خالقها لا شيء مثله، وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلا. والعدل التسوية، يقال: عدل الشيء بالشيء إذا سواه به، ومعنى يعدلون به: يشركون به غيره.
قال مجاهد قال الأحمر: يقال: عدل الكافر بربه عدلا، وعدولا: إذا سوى به غيره فعبده.
وقال الكسائى: عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولا إذا ساويته به.
ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين إنهم يقولون فى النار لآلهتهم: {تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98] .
فاعترفوا أنهم كانوا فى أعظم الضلال وأبينه، إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه سووهم به فى العبادة والتعظيم.
وقال تعالى: {رَبِّ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِر لِعِبَادَتِهِ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً} [مريم: 65] .
قال ابن عباس: "شبها ومثلا، وهو من يساميه".
وذلك نفى عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق، ومماثلا له، بحيث يستحق العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه: هل تعلمه سميا، أو مشبها لغيره، فإن هذا لم يقله أحد. بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها له، مساميا، وندا وعدلا، فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل.
وكذلك قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 73 - 74] .
فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلا لخلقه فإن هذا لم يقله أحد، ولم يكونوا يفعلونه. فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء فى فطر الناس كلهم. ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه. فيشبهونهم بالخالق، والله تعالى أجل فى صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره.
فالذى يشبهه بغيره، إن قصد تعظيمه، لم يكن فى هذا تعظيم، لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه، بل بما ليس بينه نسبة وشبه فى العظمة والجلالة، وعاقل لا يفعل هذا.
وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين، لا بالكاملين الممدوحين.
ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل، لا بالكاملين ولا بالناقصين وأن نفى تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين.
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم، جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا، وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا، عكس ما يثبته القرآن، وجاء به من كل وجه.
ومن هذا قوله تعالى: {وَلمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواَ أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوا لأحد، فينفى عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه.
وسر ذلك: أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه فى شيء من صفاته وخصائصه. وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق لا يماثل المخلوق، ولا يشابهه، ولا هو ندّ له ولا كفؤ، فليس فيه مدح له.
فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب، ونحو ذلك، لم يعد هذا مدحا، ولا ثناء عليه، ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للملك ندا ولا كفؤا، ولا شبيها من رعيته، تعظمه كتعظيمه، وتطيعه كطاعته، فإنه ليس فى رعيته من يساميه. ولا يماثله، ولا يكافئه: كان هذا غاية المدح.
وكذلك قول سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [الشورى: 11] .
إنما قصد به نفى أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. ولم يقصد به نفى صفات كماله، وعلوه على خلقه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لرسله،
ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم، كما ترى الشمس والقمر فى الصحو. فإنه سبحانه إنما ذكر هذا فى سياق رده على المشركين، الذين اتخذوا من دونه أولياء. يوالونهم من دونه فقال تعالى:
فتأمل كيف ذكر هذا النفى تقريرا للتوحيد، وإبطالا لما عليه أهل الشرك: من تشبيه آلهتهم، وأوليائهم به، حتى عبدوهم معه. فحرفها المحرفون وجعلوها تُرْسا لهم فى نفى صفات كماله، وحقائق أسمائه وأفعاله.
وهذا التشبيه الذى أبطله الله سبحانه نفيا ونهيا: هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام: ولهذا نهى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يسجد أحد لمخلوق مثله أو يحلف بمخلوق مثله، أو يصلى إلى قبر، أو يتخذ عليه مسجدا، أو يعلق عليه
قنديلا أو يقول القائل: ما شاء الله وشاء فلان. ونحو ذلك، حذرا من هذا التشبيه الذى هو أصل الشرك.
وأما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد.
فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فى العبادة والتعظيم والخضوع، والحلف به، والنذر له، والسجود له، والعكوف عند بيته، وحلق الرأس له، والاستغاثة به، والتشريك بينه وبين الله، فى قولهم: ليس لى إلا الله وأنت، وأنا متكل على الله وعليك. وهذا من الله ومنك. وأنا فى حسب الله وحسبك، وما شاء الله وشئت. وهذا لله ولك. وأمثالك ذلك.
فهؤلاء هم المشبهة حقا، لا أهل التوحيد، المثبتون لله ما أثبته لنفسه، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه، الذين لا يجعلون له ندا من خلقه، ولا عدلا، ولا كفؤا، ولا سميا، وليس لهم من دونه ولى ولا شفيع.
فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة فى الأرض بعبادة الأصنام، وتبين له سر القرآن فى الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة، ولا سيما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيل الصفات والأفعال. كما هو الغالب عليهم. فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله، وبين تشبيه خلقه به.
فصل
ومن كيده وتلاعبه: ما تلاعب بعباد النار، حتى اتخذوها إلها معبودة.
وقد قيل: إن هذا كان من عهد قابيل. كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير: "أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم عليه السلام. أتاه إبليس. فقال له: إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار، لأنه كان يخدمها ويعبدها، فانصب أنت أيضاً نارا تكون لك ولعقبك. فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها".
وسرى هذا المذهب فى المجوس، فبنوا لها بيوتا كثيرة، واتخذوا لها الوقوف والسدنة
والحجاب، فلا يدعوها تخمد لحظة واحدة، فاتخذ لها إفريدون بيتا بطوس، وآخر ببخارى. واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان، واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى، واتخذت لها بيوت كثيرة.
وعباد النار يفضلونها على التراب، ويعظمونها، ويصوبون رأى إبليس، وقد رمى بشار بن برد بهذا المذهب، لقوله فى قصيدته:
الأَرْضُ سَافِلَة سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ
…
وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كانَتِ النَّارُ
ويقولون: إنها أوسع العناصر خيرا، وأعظمها جرما، وأوسعها مكانا، وأشرفها جوهراً، وألطفها جسماً، ولا كون فى العالم إلا بها، ولا نمو ولا انعقاد، إلا بممازجتها.
ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أخدودا مربعا فى الأرض ويطوفون به.
وهم أصناف مختلفة.
فمنهم من يحرم إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها، وهم أكثر المجوس.
وطائفة أخرى منهم: تبلغ بهم عبادتهم لها إلى أن يقربوا أنفسهم وأولادهم لها، وهؤلاء أكثر ملوك الهند وأتباعهم. ولهم سنة معروفة فى تقريب نفوسهم، وإلقائهم فيها، فيعمد الرجل الذى يريد أن يفعل ذلك بنفسه، أو بولده، أو حبيبه. فيجمله ويلبسه أحسن اللباس، وأفخر الحلى. ويركبه أعلى المراكب وحول المعازف والطبول والبوقات، فيزف إلى النار أعظم من زفافه ليلة عرسه. حتى إذا ما قابلها ووقف عليها وهى تأجج طرح نفسه فيها، فضج
الحاضرون ضجة واحدة بالدعاء له، وغبطته على ما فعل. فلا يلبث إلا يسيرا حتى يأتيهم الشيطان فى صورته وشكله وهيأته، لا ينكرون منه شيئا، فيأمرهم بأمره، ويوصيهم بما يوصيهم به، ويوصيهم بالتمسك بهذا الدين. ويخبرهم أنه صار إلى جنة ورياض وأنهار، وأنه لم يتألم بمس النار له، فلا يهولنهم ذلك ولا يمنعهم عن أن يفعلوا مثله.
ومنهم زهاد وعباد، يجلسون حول النار صائمين، عاكفين عليها.
ومن سنتهم: الحث على الأخلاق الجميلة، كالصدق، والوفاء، وأداء الأمانة، والعفة، والعدل، وترك أضدادها. ولهؤلاء شرائع فى عبادتها، ونواميس وأوضاع لا يخلون بها.
فصل
ومن كيده وتلاعبه: تلاعبه بطائفة أخرى تعبد الماء من دون الله، وتسمى الحلبانية.
وتزعم أن الماء لما كان أصل كل شيء، وبه كل ولادة ونمو ونشوء، وطهارة وعمارة. وما من عمل فى الدنيا إلا ويحتاج إلى الماء، فكان حقه أن يعبد.
ومن شريعتهم فى عبادته: أن الرجل منهم إذا أراد عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل فيه، حتى يصير إلى وسطه، فيقيم هناك ساعتين أو أكثر، بقدر ما أمكنه ويكون معه ما يمكنه أخذه من الرياحين. فيقطعها صغارا، فيلقيها فيه شيئا فشيئا، وهو يسبحه ويمجده. فإذا أراد الانصراف حرك الماء بيديه، ثم أخذ منه فيضعه على رأسه ووجهه وجسد، ثم يسجد وينصرف.
فصل
ومن تلاعبه: تلاعبه بعباد الحيوانات. فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت
البقر، وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات، وطائفة تعبد الشجر، وطائفة تعبد الجن، كما قال سبحانه:
وقال تعالى: {ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِى آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60- 61] .
يعنى قد استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم.
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن وغيرهم "أضللتم منهم كثيرا" فيجيبه سبحانه أولياؤهم من الإنس بقولهم:
{رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] .
يعنون استمتاع كل نوع بالنوع الآخر. فاستمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يأمرونهم به: من الكفر، والفسوق، والعصيان. فإن هذا أكثر أغراض الجن من الإنس. فإذا أطاعوهم فيه فقد أعطوهم مُنَاهُم. واستمتاع الإنس بالجن: أنهم أعانوهم على معصية الله تعالى، والشرك به بكل ما يقدرون عليه: من التحسين، والتزيين، والدعاء، وقضاء كثير من حوائجهم، واستخدامهم بالسحر والعزائم، وغيرها. فأطاعهم الإنس فيما يرضيهم: من الشرك، والفواحش، والفجور، وأطاعتهم الجن فيما يرضيهم: من التأثيرات، والإخبار ببعض المغيبات.
فتمتع كل من الفريقين بالآخر.
وهذه الآية منطبقة على أصحاب الأحوال الشيطانية الذين لهم كشوف شيطانية وتأثير شيطانى. فيحسبهم الجاهل أولياء الرحمن، وإنما هم من أولياء الشيطان. أطاعوه فى الإشراك، ومعصية الله، والخروج عما بعث به رسله، وأنزل به كتبه. فأطاعهم فى أن خدمهم بإخبارهم بكثير من المغيبات والتأثيرات، واغتر بهم من قل حظه من العلم والإيمان فوالى أعداء الله، وعادى أولياءه، وحسن الظن بمن خرج عن سبيله وسنته، وأساء الظن بمن اتبع سنة الرسول، وما جاء به، ولم يدعها لأقوال المختلفين، وآراء المتحيرين وشطحات المارقين، وترهات المتصوفين.
والبصير الذى نور الله بصيرته بنور الإيمان والمعرفة إذا عرف حقيقة ما عليه أكثر هذا الحلق، وكان ناقدا، لا يروج عليه الزغل، تبين له أنهم داخلون تحت حكم هذه الآية، وهى منطبقة عليهم.
فالفاسق يستمتع بالشيطان، بإعانته له على أسباب فسوقه، والشيطان يستمتع به فى
قبوله منه وطاعته له فيسره ذلك، ويفرح به منه.
والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به، وعبادته له. ويستمتع هو بالشيطان فى قضاء حوائجه، وإعانته له.
ومن لم يحط علما بهذا لم يعلم حقيقة الإيمان والشرك، وسر امتحان الرب سبحانه كلا من الثقلين بالآخر.
ثم قالوا {وَبلَغْنَا أَجَلَنَا الّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] .
وهو يتناول أجل الموت، وأجل البعث. فكلاهما أجل أجله الله تعالى لعباده وهما الأجلان اللذان قال الله فيهما:{ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] .
وكأن هذا - والله أعلم - إشارة منهم إلى نوع استعطاف وتوبة. فكأنهم يقولون: هذا أمر قد كان إلى وقت وانقطع بانقطاع أجله. فلم يستمر ولم يدم، فبلغ الأمر الذى كان أجله وانتهى إلى غايته. ولكل شيء آخر، فقال تعالى:{النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام: 128] .
فإنه وإن انقطع زمن التمتع وانقضى أجله، فقد بقى زمن العقوبة، فلا يتوهم أنه إذا انقضى زمن الكفر والشرك، وتمتع بعضكم ببعض أن مفسدته زالت بزواله، وانتهت بانتهائه.
والمقصود: أن الشيطان تلاعب بالمشركين حتى عبدوه، واتخذوه وذريته أولياء من دون الله.
فصل
ومن تلاعبه بهم: أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم. ولم تكن عبادتهم فى الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين. فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْملائِكَةِ أَهؤلاء إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أكْثَرُهُمْ بهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40-41] .
وقال تعالى: {وَيوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هؤْلاءِ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنَ دُونِكَ مِن أولياء، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكُرَ وَكانُوا قَوْماً بُورًا فَقدْ كَذَّبُوكُمْ بَما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاَ وَلا نَصْراً. وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 17- 19] .
وهذه الآيات تحتاج إلى تفسير وبيان.
فقوله سبحانه {وَيوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللهِ} [الفرقان: 17] .
عام فى كل عابد ومن عبده من دون الله.
وأما قوله {فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتمْ عِبَادِى هؤُلاءِ، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: 17] .
فقال مجاهد، فيما رواه ورقاء عن ابن أبى نجيح - عنه قال:"هذا خطاب لعيسى وعزير، والملائكة" وروى عنه ابن جريج نحوه.
وأما عكرمة والضحاك والكلبى، فقالوا: هو عام فى الأوثان وعبدتها.
ثم يأذن سبحانه لها فى الكلام، فيقول:{أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادى هؤُلاءِ} [الفرقان: 17] .
قال مقاتل: يقول سبحانه: "أأنتم أمرتموهم بعبادتكم، أم هم ضلوا السبيل؟ أى أم هم أخطأوا الطريق؟ فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم:{سُبْحَانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] .
وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزير، ومن عبدهم المشركون من أولياء الله.
ولهذا قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله [تنزيها لك يا ربنا وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون] .
{مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أن نتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] .
نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم.
وقال ابن عباس ومقاتل "نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله".
وفيها قراءتان: أشهرهما - نتخذ - بفتح النون وكسر الخاء، على البناء للفاعل وهى قراءة السبعة. والثانية - نتخذ - بضم النون وفتح الخاء، على البناء للمفعول. وهى قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع.
وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال.
فأما قراءة الجمهور، فإن الله سبحانه إنما سألهم: هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم، أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم؟ وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟ فإنه لم يسألهم: هل اتخذتم من دونى من أولياء؟ حتى يقولوا: {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] .
وإنما سألهم هل أمرتم عبادى هؤلاء بالشرك، أم هم أشركوا من قبل أنفسهم؟ فالجواب المطابق أن يقولوا: لم نأمرهم بالشرك، وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا، كما قال فى الآية الأخرى عنهم:{تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كانُوا إيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص: 13] .
فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول. وقالوا: الجواب يصح على ذلك، ويطابق. إذ المعنى: ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة، فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا، ولا يحسن منا؟.
ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر، وهو قوله:{مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] .
فإن زيادة ((من)) لا يحسن إلا مع قصد العموم، كما تقول: ما قام من رجل. وما ضربت من رجل. فأما إذا كان النفى واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة ((من فيه، وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين: أنهم أمروهم بالشرك. فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم، ولا يليق بهم أن يعبدوا، فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟ فكان الواجب على هذا: أن تقرأ: {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِكَ أو مِنْ دُونِكَ أَوْلِيَاءَ} .
فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه:
أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغى لنا أن نعبد غيرك، ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا؟ أى إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فكيف ندعو أحدا إلى أن
عبادتنا؟ أى إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فكيف ندعو أحدا إلى أن يعبدنا؟ والمعنى: أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة الله تعالى، فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم؟ وهذا جواب الفراء.
وقال الجرجانى: هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر، وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه، وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد، يدل على هذا قوله تعالى:
فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود.
ويصير المعنى كأنهم قالوا: ما كان ينبغى لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء، وأن نتخذ من دونك وليا يعبدنا. وهذا بسط لقول ابن عباس فى هذه الآية.
قال: يقولون: ما توليناهم، ولا أحببنا عبادتهم. قال: ويحتمل أن يكون قولهم: {مَا كانَ يَنْبَغِى لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان: 18] .
أن يريدوا معشر العبيد، لا أنفسهم: أى نحن وهم عبيدك، ولا ينبغى لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم. كما يقول الرجل لمن أتى منكرا: ما كان ينبغى لى أن أفعل مثل هذا: أى أنت مثلى عبد محاسب، فإذا لم يحسن من مثلى أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضاً.
قال: ولهذا الإشكال قرأ من قرأ نُتَخذَ بضم النون. وهذه القراءة أقرب فى التأويل.
لكن قال الزّجَّاج: هذه القراءة خطأ، لأنك تقول: ما اتخذت من أحد ولياً، ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولى لأن "من" إنما دخلت لأنها تنفى واحدا من معنى جميع، تقول: ما من أحد قائما، وما من رجل محبا لما يضره، ولا يجوز: ما رجل من محب لما يضره.
قال: ولا وجه عندنا لهذا البتة، ولو جاز هذا لجاز فى:{فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزَينَ} [الحاقة: 47] .
ما أحد عنه من حاجزين. فلو لم تدخل "من" لصحت هذه القراءة.
قال صاحب النظم: الِعلة فى سقوط هذه القراءة: أن "من" لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه: فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول "من" كقوله:
{مَا كانَ لله أنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ} [مريم: 35] .
فقوله "من ولد" لا مفعول دونه سواه، ولو قال: ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد، لم يحسن فيه دخول "من" لأن فعل الاتخاذ مشغول بأحد.
وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى، وأجروها على قواعد العربية.
قالوا وقد قرأ بها من لا يرتاب فى فصاحته. فقرأ بها زيد بن ثابت، وأبو الدرداء وأبو جعفر، ومجاهد، ونصر بن علقمة، ومكحول، وزيد بن على، وأبو رجاء، والحسن، وحفص بن حُميد، ومحمد بن على، على خلاف عن بعض هؤلاء ذكر ذلك أبو الفتح ابن جنى. ثم وجهها بأن يكون "من أولياء" فى موضع الحال: أى ما كان ينبغى لنا أن نتخذ من دونك أولياء. ودخلت "من" زائدة لمكان النفى. كقولك اتخذت زيدا وكيلا، فإذا نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل. وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم. وهذا فى المفعول فيه.
قلت: يعنى أن زيادتها مع الحال، كزيادتها مع المفعول.
ونظير ذلك أن تقول: ما ينبغى لى أن أخدمك متثاقلا، فإذا أكدت، قلت: من متثاقل.
فإن قيل: فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى، فأيهما أحسن؟
قلت: قراءة الجمهور أحسن وأبلغ فى المعنى المقصود والبراءة مما لا يليق بهم، فإنهم على قراءة الضم: يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء، وعلى قراءة الجمهور: يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم، ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه، بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا، فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا، فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك؟ وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر، فتأمله.
والمقصود: أنه على القراءتين: فهذا الجواب من الملائكة ومن عبد من دون الله من أوليائه. وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر.
وقد يقال: إن الله سبحانه أنطقها بذلك، تكذيبا لهم، وردا عليهم، وبراءة منهم كقوله:
{إِذْ تَبَرَّاَ الَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] .
وفى الآية الأخرى {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانَا يَعُبُدُونَ} [القصص: 63] .
ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى: بقولهم:
{وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكُرَ وَكانْوا قَوْماً بُورًا} [الفرقان: 18] .
قال ابن عباس: أطلت لهم العمر، وأفضلت عليهم ووسعت لهم فى الرزق.
وقال الفراء: ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد، حتى نسوا ذكرك، وكانوا قوما بورا: أى هلكى فاسدين، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان. والبوار: الهلاك والفساد، يقال: بارت السلعة، وبارت المرأة، إذا كسدت ولم يحصل لها من يتزوجها.
قال قتادة: والله ما نسى قوم ذكر الله عز وجل إلا باروا وفسدوا.
والمعنى: ما أضللناهم ولكنهم ضلوا.
قال الله تعالى {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بَما تَقُولْونَ} [الفرقان: 19] .
أى كذبكم المعبودون بقولكم فيهم: إنهم آلهة، وإنهم شركاء، أو بما تقولون إنهم أمروكم بعبادتهم، ودعوكم إليها.
وقيل: الخطاب للمؤمنين فى الدنيا: أى فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه، مما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الله من التوحيد والإيمان والأول أظهر، وعليه يدل السياق.
ومن قرأها - آخر الحروف - فالمعنى، فقد كذبوكم بقولهم، ثم قال:
{فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً} [الفرقان: 19] .
إخبارا عن حالهم يومئذ، وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصرها من الله.
قال ابن زيد: ينادى مناد يوم القيامة، حين يجمع الخلائق:
يقول: من عبد من دون الله، لا ينصر اليوم من عبده، والعابد لا ينصر إلهه:
{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26] .
فهذا حال عباد الشيطان يوم لقاء الرحمن، فوا سوء حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين إذا سمعوا النداء.
فصل
ومن تلاعبه وكيده: تلاعبه بالثنوية.
وهم طائفة قالوا: الصانع اثنان، ففاعل الخير نور، وفاعل الشر ظلمة، وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين، مدركين، سميعين، بصيرين، وهما مختلفان فى النفس والصورة، متضادان فى الفعل والتدبير. فالنور فاضل حسن نقى، طيب الريح حسن المنظر، ونفسه خيرة، كريمة، حكيمة، نفاعة، منها الخيرات والمسرات، والصلاح. وليس فيها شيء من الضرر، ولا من الشر.
والظلمة على ضد ذلك: من الكدر، والنقص، ونتن الريح، وقبح المنظر، ونفسها نفس شريرة، بخيلة، سفيهة. منتنة، مضرة، منها الشر والفساد.
ثم اختلفوا، فقالت منهم: إن النور لم يزل فوق الظلمة.
وقالت فرقة: بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر.
وقالت فرقة: النور لم يزل مرتفعا فى ناحية الشمال، والظلمة منحطة فى الجنوب، ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه.
وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان، وخامس هو الروح. فأبدات النور الأربعة: النار، والنور، والريح، والماء، وروحه: النسيم، ولم يزل يتحرك فى هذه الأبدان.
وأبدان الظلمة الأربعة: الحريق، والظلمة، والسموم، والضباب، وروحها: الدخان. وسموا أبدان النور ملائكة، سموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت.
وبعضهم يقول: الظلمة تتولد شياطين، والنور يتولد ملائكة، والنور لا يقدر على الشر، ولا يجئ منه، والظلمة لا تقدر على الخير، ولا يجئ منها.
ولهم مذاهب سخيفة جدا.
وفرض عليهم صوم سبع العمر، وأن لا يؤذى أحدهم ذا روح البتة.
ومن شريعتهم: أن لا يدخروا إلا قوت يوم، وتجنب الكذب، والبخل، والسحر وعبادة الأوثان، والزنا والسرقة.
واختلفوا: هل الظلمة قديمة أو حادثة؟
فقالت فرقة منهم: هى قديمة لم تزل مع النور.
وقالت فرقة: بل النور هو القديم، ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة.
فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل.
أحدهما: أن شر الموجودات وأخبثها، وأردأها: كفؤ لخير الموجودات، وضد له ومناوئ له يعارضه، ويضاده، ويناقضه دائما. ولا يستطيع دفعه.
وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام، الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى. فإنهم جعلوها مملوكة له، مربوبة مخلوقة، كما كانوا يقولون فى تلبيتهم.
لَبَّيْكَ الّلهُمَّ لَبَّيْكَ
…
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
إلاّ شَرِيكٌ هُوَ لَكَ
…
تَمْلِكهُ وَمَا مَلَكْ
والأصل الثانى: أنهم نزهوا النور أن يصدر منه شر. ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين، وربين، وخالقين. فجمعوا بين الكفر بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، ورسله، وأنبيائه، وملائكته، وشرائعه، وأشركوا به أعظم الشرك.
وحكى أرباب المقالات عنهم: أن قوما منهم يقال لهم: الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة، وكانت تحاكى جسم النور - الذى هو البارى عنهم - زمانا فتأذى بها.
فلما طال ذلك عليه قصد تنميتها عنه فتوحل فيها واختلط بها، فتركب من بينهما
هذا العالم المشتمل على النور والظلمة، فما كان من جهة الصلاح فمن النور، وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة.
قال: وهؤلاء يغتالون الناس، ويخقونهم، ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك، وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم.
وقال بعضهم: إن البارى سبحانه لما طالت وحدته استوحش، ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته، فاستحالت ظلمة. فحدث منها إبليس، فرام البارى إبعاده عن نفسه فلم يستطع، فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات، فشرع إبليس فى خلق الشر وأصل عقد مذهبهم، الذى عليه خواصهم: إثبات القدماء الخمسة: البارى، والزمان، والخلاء، والهيولى، وإبليس. فالبارى خالق الخيرات، وإبليس خالق الشرور.
وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب، لكنه لم يثبت إبليس، فجعل مكانه النفس، وقال: يقدم الخمسة، مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة، والبراهمة، فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه، وصنف كتابا فى إبطال النبوات، ورسالة فى إبطال المعاد، فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم:
وقال: أنا أقول: إن البارى، والنفس، والهيولى، والمكان، والزمان: قدماء وأن العالم محدث.
فقيل له: فما العلة فى إحداثه؟
فقال: إن النفس اشتهت أن تحبل فى هذا العالم، وحركتها الشهوة لذلك، ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه، فاضطربت وحركت الهيولى حركات مشوشة مضطربة على غير نظام، وعجزت عما أرادت، فأعانها البارى على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال. وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها، وسكن اضطرابها، وزالت شهواتها، واستراحت، فأحدثت هذا العالم بمعاونة البارى لها.
قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم، ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم.
ولولا أن الله سبحانه يحكى عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا. ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه.
وفى ذلك من قوة الإيمان، وظهور جلالته، ومعرفة قدره، وتمام نعمة الله تعالى على أهله به، ومعرفة قدر خذلانه للعبد، وإلى أى شيء يصيره الخذلان، حتى يصير ضحكة لكل عاقل. فأى ضلال، وأى خذلان، أعجب من أن يفنى عمره فى النظر والبحث. وهذا غاية علمه بالله عز وجل، وبالمبدإ والمعاد؟
فصل
والمجوس تعظم الأنوار، والنيران، والماء، والأرض. ويقرون بنبوة زرادشت. ولهم شرائع يصيرون إليها. وهم فرق شتى.
منهم: المزدكية، أصحاب مزدك الموبذ. والموبذ عندهم: العالم القدوة. وهؤلاء يرون الاشتراك فى النساء والمكاسب كما يشترك فى الهواء، والطرق، وغيرها.
ومنهم الخرمية: أصحاب بابك الخرمى. وهم شر طوائفهم، لا يقرون بصانع، ولا
معاد، ولا نبوة، ولا حلال، ولا حرام. وعلى مذهبهم: طوائف القرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، والبشكية، والدرزية، والحاكمية، وسائر العبيدية، الذين
يسمون أنفسهم الفاطمية، وهم من أكفر الكفار، كما ستأتى ترجمتهم.
فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون فى التفصيل.
فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم. وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم. وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم، ولا بشريعة من الشرائع.
ذكر تلاعبه بالصابئة
هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار.
وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا، بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم.
وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى، وَالصَّابِئِينَ، مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالحِاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] .
فذكرهم فى الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك.
وذكرهم أيضا فى الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك، كما فى قوله:
فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم، ولا ينقسمون إلى شقى وسعيد، وهما: المجوس والمشركون - فى آية الفصل، ولم يذكرهما فى آية الوعد بالجنة. وذكر الصابئين فيهما، فعلم أن فيهم الشقى والسعيد.
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل. وهم أهل دعوته. وكانوا بحران، فهى دار الصابئة.
وكانوا قسمين صابئة حنفاء، وصابئة مشركين، والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة، والبروج الاثنى عشر، ويصوّرونها فى هياكلهم.
ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة، وهى المتعبدات الكبار، كالكنائس للنصارى والبيع لليهود.
فلهم هيكل كبير للشمس، وهيكل للقمر، وهيكل للزهرة، وهيكل للمشترى، وهيكل للمريخ، وهيكل لعطادر، وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى.
ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة. ويصورونها فى تلك الهياكل. ويتخذون لها أصناما تخصها، ويقربون لها القرابين. ولها صلوات خمس فى اليوم والليلة، نحو صلوات المسلمين.
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان، ويستقبلون فى صلواتهم الكعبة، ويعظمون مكة، ويرون الحج إليها، ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير، ويحرمون من القرابات فى النكاح ما يحرمه المسلمون.
وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد، منهم هلال بن المحسن الصابئ، صاحب الديوان الإنشائى، وصاحب الرسائل المشهورة. وكان يصوم مع المسلمين، ويعيد معهم، ويزكى ويحرم المحرمات. وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين، وليس على دينهم.
وأصل دين هؤلاء - فيما زعموا - أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم، ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا، ولهذا سموا صابئة، أى خارجين. فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله، إلا ما رأوه فيه من الحق.
وكانت كفار قريش تسمى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الصابئ، وأصحابه الصبأة، يقال: صبأ الرجل، بالهمز، إذا خرج من شيء إلى شيء. وصبا يصبو إذا مال، ومنه قوله:
{وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] .
أى أمل. والمهموز والمعتل يشتركان. فالمهوز: ميل عن الشيء. والمعتل: ميل إليه، واسم الفاعل من المهموز: صابئ، بوزن قارئ، ومن المعتل: صاب، بوزن قاض وجمع الأول: صابئون، كقارئون، وجمع الثانى: صابون كقاضون، وقد قرئ بهما.
والمقصود: أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم، فالحنفاء منهم شاركوا أهل الإسلام فى الحنيفية. والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام، ورأوا أنهم على صواب.
وأكثر هذه الأمة فلاسفة. والفلاسفة يأخذون من كل دين - بزعمهم - محاسن ما دلت عليه العقول. وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم. وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه. وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك. كما سيأتى ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا.
ولهذا لم يكن هؤلاء الفلاسفة ولا الصابئة من الأمم المستقلة التى لها كتاب ونبى، وإن كانوا من أهل دعوة الرسل.
فما من أمة إلا وقد أقام الله سبحانه عليها حجته وقطع عنها حجتها.
{لئَلاّ يكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّة بَعْدَ الرَّسُلِ} [النساء: 165] .
وتكون حجته عليهم.
والمقصود: أن الصابئة فرق. صابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة.
ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف فى التفصيل، ومنهم من يقر بها جملة وتفضيلا ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلا.
وهم يقرون أن للعالم صانعا فاطرا حكيما، مقدسا عن العيوب والنقائص.
ثم قال المشركون منهم: لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط. فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه. وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية، وعن القوى الجسدانية، بل قد جبلوا على الطهارة، فنحن نتقرب إليهم، ونتقرب بهم إليه، فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة. فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى، الغضبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات، وتتصل أرواحنا بهم، فحينئذ نسأل حاجتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبوا فى جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى إلهنا وإلههم.
وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا باستمداد من جهة الروحانيات. وذلك بالتضرع والابتهال بالدعوات: من الصلوات. والزكوات، وذبح القرابين، والبخورات، والعزائم، فحينئذ يحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة الرسل، بل نأخذ من المعدن الذى أخذت منه الرسل. فيكون حكمنا وحكمهم واحدا: ونحن وإياهم بمنزلة واحدة.
قالوا: والأنبياء أمثالنا فى النوع وشركاؤنا فى المادة، وأشكالنا فى الصورة، يأكلون
مما نأكل ويشربون مما نشرب، وما هم إلا بشر مثلنا يريدون أن يتفضلوا علينا.
وزادت الاتحادية أتباع ابن عربى، وابن سبعين والعفيف التلمسانى، وأضرابهم على هؤلاء بما قاله شيخ الطائفة محمد بن عربى: أن الولى أعلى درجة من الرسول، لأنه يأخذ من المعدن الذى يأخذ منه الملك الذى يوحى إلى الرسول فهو أعلى منه بدرجتين.
فجعل هؤلاء الملاحدة أنفسهم وشيوخهم أعلى فى التلقى من الرسل بدرجتين، وإخوانهم من المشركين جعلوا أنفسهم فى ذلك التلقى بمنزلة الأنبياء، ولم يدّعوا أنهم فوقهم.
والمقصود: أن هؤلاء كفروا بالأصلين اللذين جاءت بهما جميع الرسل والأنبياء، من أولهم إلى آخرهم.
أحدهما: عبادة الله وحده لا شريك له. والكفر بما يعبد من دونه من إله.
والثانى: الإيمان برسله، وما جاءوا به من عند الله، تصديقا وإقراراً، وانقيادا، وامتثالا.
وليس هذا مختصا بمشركى الصابئة، كما غلط فيه كثير من أرباب المقالات، بل هذا مذهب المشركين من سائر الأمم. لكن شرك الصابئة كان من جهة الكواكب والعلويات ولذلك ناظرهم إمام الحنفاء صلوات الله، وسلامه عليه فى بطلان إلهيتها بما حكاه الله سبحانه فى سورة الأنعام [74 - 83] أحسن مناظرة وأبينها، ظهرت فيها حجته ودحضت حجتهم. فقال بعد أن بين بطلان إلهية الكواكب، والقمر، والشمس بأفولها، وأن الإله لا يليق به أن يغيب ويأفل، بل لا يكون إلا شاهدا غير غائب، كما لا يكون إلا غالبا قاهرا، غير مغلوب ولا مقهور. نافعا لعبادة، يملك لعابده الضر والنفع، فيسمع كلامه، ويرى مكانه، ويهديه، ويرشده، ويدفع عنه كل ما يضره ويؤذيه. وذلك ليس إلا لله وحده. فكل معبود سواه باطل.
فلما رأى إمام الحنفاء أن الشمس والقمر والكواكب ليست بهذه المثابة صعد منها إلى فاطرها وخالقها ومبدعها فقال:
{إنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلّذِى فَطَرَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً} [الأنعام: 79] .
وفى ذلك إشارة إلى أنه سبحانه خالق أمكنتها ومحالها التى هى مفترة إليها، ولا قوام لها إلا بها، فهى محتاجة إلى محل تقوم به، وفاطر يخلقها ويدبرها ويربُّها. والمحتاج المخلوق المربوب المدَّبر لا يكون إلها. فحاجَّة قومه فى الله، ومن حاجّ فى عبادة الله فحجته داحضة. فقال
إبراهيم عليه السلام: {أَتُحَاجُّونِى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] .
وهذا من أحسن الكلام، أى أتريدون أن تصرفونى عن الإقرار بربى وبتوحيده، وعن عبادته وحده، وتشككونى فيه. وقد أرشدنى وبين لى الحق، حتى استبان لى كالعيان، وبين لى بطلان الشرك وسوء عاقبته، وأن آلهتكم لا تصلح للعبادة، وأن عبادتها توجب لعابديها غاية الضرر فى الدنيا والآخرة، فكيف تريدون منى أن أنصرف عن عبادته وتوحيده إلى الشرك به؟ وقد هدانى إلى الحق، وسبيل الرشاد؟ فالمحاجة والمجادلة إنما فائدتها طلب الرجوع والانتقال من الباطل إلى الحق ومن الجهل إلى العلم، ومن العمى إلى الإبصار، ومجادلتكم إياى فى الإله الحق الذى كل معبود سواه باطل تتضمن خلاف ذلك.
فخوفوه بآلهتهم أن تصيبه بسوء، كما يخوف المشرك الموحد بإلهه الذى يأله مع الله أن يناله بسوء، فقال الخليل:
{وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80] .
فإن آلهتكم أقل وأحقر من أن تضر من كفر بها وجحد عبادتها، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله وحده، وأنه هو الذى يخاف ويرجى. فقال:{إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّى شَيْئاً} [الأنعام: 80] .
وهذا استثناء منقطع. والمعنى: لا أخاف آلهتكم، فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة، لكن إن شاء ربى شيئا نالنى وأصابنى، لا آلهتكم التى لا تشاء ولا تعلم شيئا، وربى له المشيئة النافذة، وقد وسع كل شيء علما. فمن أولى بأن يخاف ويعبد: هو سبحانه، أم هى؟ ثم قال {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] .
فتعلمون ما أنتم عليه من إشراك من لا مشيئة له ولا يعلم شيئا ممن له المشيئة التامة، والعلم التام.
ثم قال {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكُتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانآً} [الأنعام: 81] .
وهذا من أحسن قلب الحجة، وجعل حجة المبطل بعينها دالة على فساد قوله، وبطلان مذهبه. فإنهم خوفوه بآلهتهم التى لم ينزل الله عليهم سلطانا بعبادتها. وقد تبين بطلان إلهيتها ومضرة عبادتها. ومع هذا فلا تخافون شرككم بالله وعبادتكم معه آلهة أخرى؟ فأى الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف؟ فريق الموحدين، أم فريق المشركين؟
فحكم الله سبحانه بين الفريقين بالحكم العدل الذى لا حكم أصح منه. فقال:
{الّذِينَ آمَنوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ - أى بشرك - أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
ولما نزلت هذه الآية شق أمرها على الصحابة، وقالوا: يا رسول الله "وأينُّا لم يظلم نفسه؟ فقال إنما هو الشرك: ألم تسمعوا قول العبد الصالح:
{إِنَّ الشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ".
فحكم سبحانه للموحدين بالهدى والأمن، وللمشركين بضد ذلك، وهو الضلال والخوف ثم قال:
{وَتِلكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] .
قال أبو محمد بن حَزْم: وكان الذى ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجْه الدهر والغالب على الدنيا، إلى أن أحدثوا الحوادث، وبدلوا شرائعه. فبعث الله إليهم إبراهيم خليله بدين الإسلام، الذى نحن عليه اليوم، وتصحيح ما أفسدوه، وبالحنيفية السمحة التى أتانا بها محمد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عند الله تعالى. وكانوا فى ذلك الزمان وبعده يسمون الحنفاء.
قلت: هم قسمان: صابئة مشركون، وصابئة حنفاء وبينهم مناظرات. وقد حكى الشهرسْتانُّى بعض مناظراتهم فى كتابه.
فصل
فى ذكر تلاعبه بالدهرية
وهؤلاء قوم عطلوا المصنوعات عن صانعها، وقالوا ما حكاه الله عنهم.
{وَقَالُوا مَا هِى حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] .
وهؤلاء فرقتان. فرقة قالت: إن الخالق سبحانه لما خلق الأفلاك متحركة أعظم حركة دارت عليه فأحرقته، ولم يقدر على ضبطها وإمساك حركاتها.
..
وفرقة قالت: إن الأشياء ليس لها أول البتة، وإنما تخرج من القوة إلى الفعل. فإذا خرج ما كان بالقوة إلى الفعل، تكونت الأشياء: مركباتها، وبسائطها، من ذاتها لا من شيء آخر.
وقالوا: إن العالم دائم لم يزل ولا يزال، لا يتغير، ولا يضمحل، ولا يجوز أن يكون المبدع يفعل فعلا يبطل ويضمحل إلا وهو يبطل ويضمحل مع فعله، وهذا العالم هو الممسك لهذه الأجزاء التى فيه.
وهؤلاء هم المعطلة حقا، وهم فحول المعطلة، وقد سَرى هذا التعطيل إلى سائر فرق المعطلة، على اختلاف آرائهم وتباينهم فى التعطيل، كما سرى داء الشرك تأصيلا وتفصيلا فى سائر فرق المشركين على اختلاف مذاهبهم فيه، وكما سرى جحد النبوات تأصيلا وتفصيلا فى سائر من جحد النبوة أو صفة من صفاتها، أو أقر بها جملة وجحد مقصودها وزبدتها أو بعضه.
فهذه الفرق الثلاثة سرى داؤها وبلاؤها فى الناس، ولم ينج منه إلا أتباع الرسول، العارفون بحقيقة ما جاء به، المتمسكون به دون ما سواه، ظاهرا وباطنا.
فداء التعطيل، وداء الإشراك، وداء مخالفة الرسول وجحد ما جاء به، أو شيء منه: هو أصل بلاء العالم، ومنبع كل شر، وأساس كل باطل. فليست فرقة من فرق أهل الإلحاد والباطل والبدع إلا وقولها مشتق من هذه الأصول الثلاثة، أو من بعضها.
فإِنْ تَنْجُ مَنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِى عَظِيَمَةٍ
…
وَإِلاّ فَإِنِّى لَا أظُنُّكَ نَاجِياً
فصل
فسرت هذه البلايا الثلاثة فى كثير من طوائف الفلاسفة، لا فى جميعهم. فإن الفلسفة من حيث هى لا تعطى ذلك. فإن معناها محبة الحكمة، والفيلسوف أصله "فِيْلاسوفا" أى محب الحكمة "ففيلا" هى المحب "وسُوفا" هى الحكمة. والحكمة نوعان: قولية وفعلية. فالقولية: قول الحق، والفعلية. فعل الصواب، وكل طائفة من الطوائف لهم حكمة يتقيدون بها.
وأصح الطوائف حكمة: من كانت حكمتهم أقرب إلى حكمة الرسل التى جاءوا بها عن الله
تعالى. قال تعالى عن نبيه داود عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] .
وقال عن المسيح عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] .
وقال عن يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيا} [مريم: 12] .
والحكم: هو الحكمة، وقال لرسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم:{وَأَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكُمَةَ} [النساء: 113] وقال {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] .
وقال لأهل بيت رسوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 33] .
فالحكمة التى جاءت بها الرسل: هى الحكمة الحق المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح للهدى ودين الحق، لإصابة الحق اعتقادا وقولا وعملا. وهذه الحكمة فرقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله، وجمعها لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، كما جمع له من المحاسن ما فرقه فى الأنبياء قبله، وجمع فى كتابه من العلوم والأعمال ما فرقه فى الكتب قبله. فلو جمعت كل حكمة صحيحة فى العالم من كل طائفة لكانت فى الحكمة التى أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزاء يسيرا جدا لا يدرك البشر نسبته.
والمقصود: أن الفلاسفة اسم جنس لمن يحب الحكمة ويؤثرها.
وقد صار هذا الاسم فى عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء، ولم يذهب إلا إلى ما يقتضيه العقل فى زعمه.
وأخص من ذلك: أنه فى عرف المتأخرين اسم لأتباع إرسْطو، وهم المشاؤون خاصة. وهم الذين هذب ابن سيْنا طريقتهم وبسطها، وقررها، وهى التى يعرفها، بل لا يعرف سواها، المتأخرون من المتكلمين.
وهؤلاء فرقة شاذة من فرق الفلاسفة، ومقالتهم واحدة من مقالات القوم، حتى قيل: إنه ليس فيهم من يقول بقدم الأفلاك غير إرَسْطو وشيعته، فهو أول من عرف أنه قال بقدم هذا العالم. والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه، وإثبات الصانع، ومباينته للعالم، وأنه فوق
العالم وفوق السماوات بذاته كما حكاه عنهم أعلم الناس فى زمانه بمقالاتهم: أبو الوليد بن رشد فى كتابه "مناهج الأدلة".
فقال فيه:
"القول فى الجهة"
وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية، كأبى المعالى ومن اقتدى بقوله - إلى أن قال -: والشرائع كلها مبنية على أن الله فى السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحى إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرَة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة فى السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.
ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول، وبين بطلان الشبهة التى لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم، إلى أن قال:
فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنه الذى جاء به الشرع وانبنى عليه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع.
فقد حكى لك هذا المطلع على مقالات القوم، الذى هو أعرف بالفلسفة من ابن سينا وأضرابه: إجماع الحكماء على أن الله سبحانه فى السماء، فوق العالم.
والمتطفلون فى حكايات مقالات الناس لا يحكون ذلك، إما جهلا، وإما عمدا، وأكثر من رأيناه يحكى مذاهبهم ومقالات الناس يتطفل.
وكذلك الأساطين منهم متفقون على إثبات الصفات والأفعال، وحدوث العالم، وقيام الأفعال الاختيارية بذاته سبحانه، كما ذكره فيلسوف الإسلام فى وقته أبو البركات البغدادى، وقرره غاية التقرير.
وقال: لا يستقيم كون الرب سبحانه رب العالمين إلا بذلك، وأن نفى هذه المسألة ينفى ربوبيته.
قال: والإجلال من هذا الإجلال، والتنزيه من هذا التنزيه أولى.
فصل
وكذلك كان أساطينهم ومتقدموهم، العارفون فيهم، معظمين للرسل والشرائع، موجبين لاتباعهم، خاضعين لأقوالهم، معترفين بأن ما جاءوا به آخر وراء طور العقل، وأن عقول الرسل وحكمتهم فوق عقول العالمين وحكمتهم.
وكانوا لا يتكلمون فى الإلهيات، ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هى الرياضيات والطبيعيات وتوابعها. وكانوا يقرون بحدوث العالم.
وقد حكى أرباب المقالات أن أول من عرف عنه القول بقدم هذا العالم إرسطو. وكان مشركا يعبد الأصنام. وله فى الإلهيات كلام كله خطأ من أوله إلى آخره، فقد تعقبه بالرد عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام أنكروه عليه، وجاء فيه بما يسخر منه العقلاء.
وأنكر أن يكون الله سبحانه يعلم شيئا من الموجوادت، وقرر ذلك بأنه لو علم شيئا لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملا فى نفسه، وبأنه كان يلحقه التعب والكلال من تصور المعلومات.
فهذا غاية عقل هذا المعلم والأستاذ.
وقد حكى ذلك أبو البركات، وبالغ فى إبطال هذه الحجج وردها.
فحقيقة ما كان عليه هذا المعلم لأتباعه: الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، ودرج على أثره أتباعه من الملاحدة، ممن يتستر باتباع الرسل، وهو منحل من كل ما جاءوا به.
وأتباعه يعظمونه فوق ما يعظم به الأنبياء، ويرون عرض ما جاءت به الأنبياء على كلامه فما وافقه منها قلبوه، وما خالفه لم يعبأوا به شيئا.
ويسمونه المعلم الأول، لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشعر.
وزعم إرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعانى، كما أن العروض ميزان الشعر.
وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان. وصنفوا فى رده وتهافته كثيرا.
وآخر من صنف فى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألف فى رده وإبطاله كتابين، كبيرا، وصغيرا، بين فيه تناقضه وتهافته وفساد كثير من أوضاعه.
ورأيت فيه تصنيفا لأبى سعيد السيرافى.
والمقصود: أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم الأول، حتى انتهت نوبتهم إلى معلمهم الثانى: أبى نصر الفارابى. فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية، ثم وسع الفارابى الكلام فى صناعة المنطلق، وبسطها وشرح فلسفة إرسطو وهذبها، وبالغ فى ذلك. وكان على طريقة سلفه: من الكفر بالله تعالى، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر.
فكل فيلسوف لا يكون عند هؤلاء كذلك فليس بفيلسوف فى الحقيقة. وإذا رأوه مؤمنا بالله وملائكته، وكتبه ورسله، ولقائه، متقيدا بشريعة الإسلام، نسبوه إلى الجهل والغباوة. فإن كان ممن لا يشكون فى فضيلته ومعرفته، نسبوه إلى التلبيس والتنميس بناموس الدين استمالة لقلوب العوام.
فالزندقة والإلحاد عند هؤلاء جزء من مسمى الفضيلة، أو شرط.
ولعل الجاهل يقول: إنا تحاملنا عليهم فى نسبة الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله إليهم. وليس هذا من جهلة بمقالات القوم، وجهلة بحقائق الإسلام ببعيد.
فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى عما يقولون عندهم كما قرره أفضل متأخريهم، ولسانهم، وقدوتهم الذى يقدمونه على الرسل: أبو على بن سينا: هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. وليس له عندهم صفة ثبوتية تقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره البتة ولا يعلم شيئا من الموجوادت أصلا، لا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات. ولا له كلام يقوم به، ولا صفة.
ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر فى الذهن، لا حقيقة له، وإنما غايته أن يفرضه الذهن
ويقدره، كما يفرض الأشياء المقدرة، وليس هذا هو الرب الذى دعت إليه الرسل وعرفته الأمم، بل بين هذا الرب الذى دعت إليه الملاحدة وجردته عن الماهية، وعن كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختيارى، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصل به، ولا مباين له ولا فوقه ولا تحته، ولا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه ولا عن شماله - وبين رب العالمين، وإله المرسلين، ومن الفرق ما بين الوجود والعدم، والنفى والإثبات.
فأى موجود فرض كان أكمل من هذا الإله، الذى دعت إليه الملاحدة، ونحتته أفكارهم، بل منحوت الأيدى من الأصنام له وجود، وهذا الرب ليس له وجود، ويستحيل وجوده إلا فى الذهن.
هذا، وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم الأول إرسطو. فإن هؤلاء أثبتوا وجودا واجباً ممكنا، هو معلول له وصادر عنه صدور المعلول عن العلة، وأما إرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يعقل شيئا، ولا يفعل باختياره.
وأما هذا الذى يوجد فى كتب المتأخرين من حكاية مذهبه، فإنما هو من وضع ابن سينا. فإنه قرب مذهب سلفه الملاحدة من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قربه من أقوال الجهمية الغالين فى التجهم، فهم فى غلوهم فى تعطيلهم ونفيهم أشد مذهبا وأصح قولا من هؤلاء.
فهذا ما عند هؤلاء من خبر الإيمان بالله عز وجل.
وأما الإيمان بالملائكة فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم. وإنما الملائكة عندهم ما يتصوره النبى بزعمهم فى نفسه من أشكال نورانية، هى العقول عندهم، وهى مجردات ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا هى أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل، ولا تدبر شيئا، ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العبد، ولا لها إحساس ولا حركة البتة، ولا تنتقل من مكان إلى مكان، ولا تَصُفُّ عند ربها، ولا تصلى، ولا لها تصرف فى أمر العالم البتة، فلا تقبض نفس العبد، ولا تكتب رزقه وأجله وعمله، ولا عن اليمين وعن الشمال قعيد، كل هذا لا حقيقة له عندهم البتة.
وربما تقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هى القوى الخيَّرة الفاضلة التى فى العبد. والشياطين هى القوى الشريرة الرديئة، هذا إذا تقربوا إلى الإسلام وإلى الرسل.
وأما الكتب، فليس لله عندهم كلام أنزله إلى الأرض بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئا، ولا يقول، ولا يجوز عليه الكلام. ومن تقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية، فتصورت تلك المعانى، وتشكلت فى نفسه بحيث توهمها أصواتا تخاطبه، وربما قوى الوهم حتى يراها أشكالا نورانية تخاطبه، وربما قوى ذلك حتى يخيلها لبعض الحاضرين فيرونها ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك فى الخارج.
وأما الرسل والأنبياء. فللنبوة عندهم ثلاث خصائص، من استكملها فهو نبى:
أحدها: قوة الحدس، بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.
الثانية: قوة التخيل والتخييل، بحيث يتخيل فى نفسه أشكالا نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويخيلها إلى غيره.
الثالثة: قوة التأثير بالتصرف فى هيولى العالم. وهذا يكون عندهم بتجرد النفس عن العلائق، واتصالها بالمفارقات، من العقول والنفوس المجردة.
وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب. ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهما. والنبوة عند هؤلاء صنعة من الصنائع، بل من أشرف الصنائع، كالسياسة، بل هى سياسة العامة، وكثير منهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة: نبوة الخاصة. والنبوة: فلسفة العامة.
وأما الإيمان باليوم الآخر. فهم لا يقرون بانفطار السماوات، وانتثار الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد عدمه.
فلا مبدأ عندهم، ولا معاد، ولا صانع، ولا نبوة، ولا كتب نزلت من السماء، تكلم الله بها، ولا ملائكة تنزلت بالوحى من الله تعالى.
فدين اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خير وأهون من دين هؤلاء.
وحسبك جهلا بالله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، من يقول: إنه سبحانه لو علم الموجودات لحقه الكلال والتعب، واستكمل بغيره. وحسبك خذلانا وضلالا وعمى: السير خلف هؤلاء، وإحسان الظن بهم، وأنهم أولو العقول.
وحسبك عجبا من جهلهم، وضلالهم: ما قالوه فى سلسلة الموجودات، وصدور العالم عن العقول والنفوس، إلى أن أنهوا صدور ذلك إلى واحد من كل جهة، لا علم له بما صدر عنه ولا قدرة له عليه، ولا إرادة، وأنه لم يصدر عنه إلا واحد. فذلك الصادر إن كان فيه كثرة بوجه ما فقد بطل ما أصَّلوه، وإن لم يكن فيه كثرة البتة لزم أن لا يصدر عنه إلا واحد مثله، وتكثر الموجودات وتعددها يكذب هذا الرأى الذى هو ضحكة للعقلاء وسخرية لأولى الألباب، مع أن هذا كله من تخليط ابن سينا، وإرادته تقريب هذا المذهب من الشرائع، وهيهات. وإلا فالمعلم الأول لم يثبت صانعا للعالم البتة.
والرجل معطل مشرك، جاحد للنبوات والمعاد، لا مبدأ عنده ولا معاد، ولا رسول ولا كتاب والرازى وفروخه لا يعرفون مذهب الفلاسفة غير طريقه.
ومذاهبهم وآراؤهم كثيرة جدا، قد حكاها أصحاب المقالات، كالأشعرى فى مقالاته الكبيرة، وأبى عيسى الوراق، والحسن بن موسى النوبختى.
وأبو الوليد بن رشد يحكى مذهب إرسطو غير ما حكاه ابن سينا، ويغلطه فى كثير من المواضع. وكذلك أبو البركات البغدادى يحكى نفس كلامه على غير ما يحكيه ابن سينا.
فصل
والفلاسفة لا تختص بأمة من الأمم، بل هم موجودون فى سائر الأمم، وإن كان المعروف عند الناس الذين اعتنوا بحكاية مقالاتهم: هم فلاسفة اليونان. فهم طائفة من طوائف الفلاسفة، وهؤلاء أمة من الأمم، لهم مملكة وملوك، وعلماؤهم فلاسفتهم، ومن ملوكهم الإسكندر المقدونى. وهو ابن فيلبس. وليس هو بالإسكندر ذى القرنين الذى قص الله
تعالى نبأه فى القرآن، بل بينهما قرون كثيرة، وبينهما فى الدين أعظم تباين. فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى، يؤمن بالله تعالى وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وكان يغزو عُبَّاد الأصنام، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدونى فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف سنة وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له. وكان إرسطاطاليس وزيره وكان مشركا يعبد الأصنام. وهو الذى غزا دارا بن دارا ملك الفرس فى عقر داره فثل عرشه، ومزق ملكه، وفرق جمعه، ثم دخل إلى الصين، والهند، وبلاد الترك، فقتل وسبى.
وكان لليونانيين فى دولته عز وسطوة بسبب وزيره إرسطو، فإنه كان مشيره ووزيره ومدبر مملكته.
وكان بعده لليونان عدة ملوك يعرفون بالبطالسة، وأحدهم بطليموس، كما إن كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم.
ثم غلبهم الروم واستولوا على ممالكهم، فصاروا رعية لهم، وانقرض ملكهم، فصارت المملكة للروم، وصارت المملكة واحدة. وهم على شركهم من عبادة الأصنام وهو دينهم الظاهر، ودين آبائهم، فنشأ فيهم سقراط أحد تلامذة فيثاغورس، وكان من عبادهم، ومتألهيهم، وجاهرهم بمخالفتهم فى عبادة الأصنام، وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها، فثار عليه العامة، واضطروا الملك إلى قتله، فأودعه السجن ليكفهم عنه، ثم لم يرض المشركون إلا بقتله، فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. ومذهبه فى الصفات قريبا من مذهب أهل الإثبات، فقال: إنه إله كل شيء وخالقه،
ومقدره. وهو عزيز، أى منيع، ممتنع أن يضام وحكيم، أى محكم أفعاله على النظام.
وقال: إن علمه، وقدرته، ووجوده، وحكمته، بلا نهاية، لا يبلغ العقل أن يصفها.
وقال: إن تناهى المخلوقات بحسب احتمال القوابل، لا بحسب الحكمة والقدرة، فلما كانت المادة لا تحتمل صورا بلا نهاية تناهت الصور، لا من جهة بخل فى الواهب، بل لقصور فى المادة.
قال: وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة وحيزا ومكانا. إلا أنها لا تتناهى زمانا فى آخرها، لا من نحو أولها، فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص باستبقاء الأنواع، وذلك بتجدد أمثالها، ليحفظ الأشخاص ببقاء الأنواع، ويستبقى الأنواع بتجدد الأشخاص. فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية، ولا الحكمة تقف على غاية.
ومن مذهبه: أن أخص ما يوصف به الرب سبحانه، هو كونه حيا قيوما، لأن العلم، والقدرة، والجود، والحكمة، تندرج تحت كونه حيا قيوما، فهما صفتان جامعتان للكل.
وكان يقول: هو حى ناطق من جوهره، أى من ذاته وحياته، ونطقنا وحياتنا لا من جوهرنا، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد، ولا يتطرق ذلك إلى حياته ونطقه.
وكلامه فى المعاد والصفات والمبدأ أقرب إلى كلام الأنبياء من كلام غيره.
وبالجملة، فهو أقرب القوم إلى تصديق الرسل، ولهذا قتله قومه.
وكان يقول: إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.
وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: ينبغى أن يُغْتَم بالحياة ويفرح بالموت، لأن الإنسان يحيا ليموت، ثم يموت ليحيا.
وقال: قلوب المغرمين بالمعرفة بالحقائق منابر الملائكة. وقلوب المؤثرين للشهوات مقاعد للشياطين.
وقال: للحياة حدان: أحدهما: الأمل، والآخر: الأجل. فبالأول بقاؤها، وبالآخر فناؤها.
وكذلك أفلاطون. كان معروفا بالتوحيد، وإنكار عبادة الأصنام، وإثبات حدوث العالم وكان تلميذ سقراط، ولما هلك سقراط قام مقامه، وجلس على كرسيه.
وكان يقول إن للعالم صانعا محدثا، مبدعا أزليا، واجبا بذاته عالما بجميع المعلومات.
قال: وليس فى الوجود رسم ولا طلل إلا ومثاله عند البارى تعالى.
يشير إلى وجود صور المعلومات فى علمه.
فهو مثبت للصفات، وحدوث العالم. ومنكر لعبادة الأصنام، ولكن لم يواجه قومه بالرد عليهم، وعيب آلهتهم فسكتوا عنه. وكانوا يعرفون له فضله وعمله.
وصرح أفلاطون بحدوث العالم. كما كان عليه الأساطين. وحكى ذلك عنه تلميذه إرسطو. وخالفه فيه، فزعم أنه قديم، وتبعه على ذلك ملاحدة الفلاسفة، من المنتسبين إلى الملل وغيرهم، حتى انتهت النوبة إلى أبى على بن سينا، فرام بجهده تقريب هذا الرأى من قول أهل الملل، وهيهات اتفاق النقيضين، واجتماع الضدين.
فرسل الله تعالى وكتبه وأتباع الرسل فى طرف. وهؤلاء القوم فى طرف.
وكان ابن سينا، كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبى من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية، الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى.
وكان هؤلاء الزنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا، وكانوا
يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا. وفى زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا.
ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك، والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النصير الطوسى وزير هولاكو، شفا نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والطبائعيين، والسحرة. ونقل أوقاف المدارس والمساجد، والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر فى كتبه قدم العالم، وبطلان المعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله: من عمله، وقدرته، وحياته، وسمعه، وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد البتة.
واتخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن فلم يقدر على ذلك. فقال: هى قرآن الخواص. وذاك قرآن العوام. ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين، فلم يتم له الأمر. وتعلم السحر فى آخر الأمر. فكان ساحرا يعبد الأصنام.
وصارع محمد الشهرستانى ابن سينا فى كتاب سماه "المصارعة" أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد، ونفى علم الرب تعالى وقدرته، وخلقه العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سماه "مصارعة المصارعة" ووقفنا على الكتابين - نصر فيه: أن الله تعالى لم يخلق السماوات والأرض فى ستة أيام. وأنه لا يعلم شيئا، وأنه لا يفعل شيئا بقدرته واختياره، ولا يبعث من فى القبور.
وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر.
والفلسفة التى يقرؤها أتباع هؤلاء اليوم هى مأخوذة عنه وعن إمامه ابن سينا، وبعضها عن أبى نصر الفارابى، وشيء يسير منها من كلام إرسطو. وهو - مع قلته وغثاتته وركاكة ألفاظه - كثير التطويل، لا فائدة فيه. وخيار ما عند هؤلاء، فالذى عند مشركى العرب من كفار قريش وغيرهم خير منهم فإنهم يدأبون حتى يثبتوا واجب الوجود، ومع إثباتهم له فهو عندهم وجود مطلق، لا صفة له ولا نعت، ولا فعل يقوم به، لم يخلق السماوات والأرض بعد عدمهما، ولا له قدرة على فعل، ولا يعلم شيئا. وعباد الأصنام كانوا يثبتون ربا خالقا مبدعا عالما، قادرا حيا، ويشركون به فى العبادة فنهاية أمر هؤلاء الوصول إلى شيء برَّز عليهم فيه عباد الأصنام وهم فرق شتى لا يحصيهم إلا الله عز وجل.
وأحصى المعتنون بمقالات الناس منهم اثنتى عشرة فرقة، كل فرقة منها مختلفة اختلافا كثيرا عن الأخرى.
فمنهم أصحاب الرواق، وأصحاب الظلة، والمشاؤون، وهم شيعة إرسطو. وفلسفتهم هى الدائرة اليوم بين الناس، وهى التى يحكيها ابن سينا والفارابى، وابن خطيب الرى وغيرهم.
ومنهم الفيثاغورية، والأفلاطونية، ولا تكاد تجد منهم اثنين متفقين على رأى واحد، بل قد تلاعب بهم الشيطان كتلاعب الصبيان بالكرة. ومقالاتهم أكثر من أن نذكرها على التفصيل.
وبالجملة: فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض. فإنهم عطلوا الشرائع، وعطلوا المصنوع عن الصانع، وعطلوا الصانع عن صفات كماله، وعطلوا العالم عن الحق الذى خلق له ربه، فعطلوه عن مبدئه ومعاده، وعن فاعله وغايته.
ثم سرى هذا الداء منهم فى الأمم، وفى فرق المعطلة.
فكان منهم إمام المعطلين فرعون، فإنه أخرج التعطيل إلى العمل، وصرح به، وأذن به بين قومه، ودعا إليه، وأنكر أن يكون لقومه إله غيره. وأنكر أن يكون الله تعالى
فوق سماواته على عرشه، وأن يكون كلم عبده موسى تكليما، وكذب موسى فى ذلك، وطلب من وزيره هامان أن يبنى له صرحا ليطلع - بزعمه - إلى إله موسى عليه السلام وكذبه فى ذلك، فاقتدى به كل جهمى. فكذب أن يكون الله مكلما متكلما، أو أن يكون فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه، على العرش استوى، ودرج قومه وأصحابه على ذلك، حتى أهلكهم الله تعالى بالغرق، وجعلهم عبرة لعباده المؤمنين، ونكالا لأعدائه المعطلين.
ثم استمر الأمر على عهد نبوة موسى كليم الرحمن، على التوحيد وإثبات الصفات، وتكليم الله لعبده موسى تكليما، إلى أن توفى موسى عليه السلام، ودخل الداخل على بنى إسرائيل، ورفع التعطيل رأسه بينهم، وأقبلوا على عموم المعطلة، أعداء موسى عليه السلام، وقدموها على نصوص التوراة، فسلط الله تعالى عليهم من أزال ملكهم وشردهم من أوطانهم، وسبى ذراريهم، كما هى عادته سبحانه وسنته فى عباده إذا أعرضوا عن الوحى، وتعوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم، كما سلط النصارى على بلاد العرب لما ظهرت فيها الفلسفة والمنطق، واشتغلوا بها، فاستولت النصارى على أكثر بلادهم، وأصاروهم رعية لهم، وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق، سلط عليهم عساكر التتار، فأبادوا أكثر البلاد الشرقية، واستولوا عليها. وكذلك فى أواخر المائة الثالثة، وأول الرابعة، لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط عليهم القرامطة الباطنية، فكسروا عسكر الخليفة عده مرات واستولوا على الحاج، واستعرضوهم قتلا وأسرا، واشتدت شوكتهم، واتهم بموافقتهم فى الباطن كثير من الأعيان، من الوزراء والكتاب، والأدباء وغيرهم، واستولى أهل دعوتهم على بلاد المعرب، واستقرت دار مملكتهم بمصر، وبنيت فى أيامهم القاهرة، واستولوا
على الشام والحجاز واليمن والمغرب، وخطب لهم على منبر بغداد.
والمقصود أن هذا الداء لما دخل فى بنى إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال مملكتهم، ثم بعث الله سبحانه عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فجدد لهم الدين وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، والتبرى من تلك الأحداث، والآراء الباطلة، فعادوه وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله، فطهره الله تعالى منهم، ورفعة إليه، فلم يصلوا إليه بسوء. وأقام الله تعالى للمسيح أنصارا دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاثمائة سنة.
ثم أخذ دين المسيح فى التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيدى النصارى منه شيء، بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوهم فى النصرانية، فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى عبادة الصور التى لا ظل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس.
هذا ومعهم بقايا من دين المسيح، كالختان، والاغتسال من الجنابة، وتعظيم السبت وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، إلا ما أحل لهم بنصها.
ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت، وعوضوا منه يوم الأحد وتركوا الختان، والاغتسال من الجنابة، وكان المسيح يصلى إلى بيت المقدس، فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبا قط، فعظموا هم الصليب وعبدوه، ولم يصم المسيح عليه السلام صومهم هذا أبدا، ولا شرعه، ولا أمر به البتة بل هم وضعوه على هذا العدد، ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية، وتعبدوا بالنجاسات، وكان المسيح عليه السلام فى غاية الطهارة والطيب والنظافة، وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود، ومراغمتهم، فغيروا دين المسيح، وتقربوا إلى الفلاسفة وعباد الأصنام، بأن وافقوهم فى بعض الأمر ليرضوهم به، وليستنصروا بذلك على اليهود.
ولما أخذ دين المسيح عليه السلام فى التغيير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد
على ثمانين مجمعا، ثم يتفرقون على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا، حتى قال فيهم بعض العقلاء:
"لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون فى حقيقة ما هم عليه لتفرقَّوا عن أحد عشر مذهبا".
حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك، من الجزائر والبلاد، وسائر الأقطار. فجمع كل بترك وأسقف وعالم فكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر.
فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية، وأكابر النصارى فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفها لعنتموه، وحرمتموه، فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا، واتفقوا على وضع الأمانة التى بأيديهم اليوم، وكان ذلك بمدينة نيقية، سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين.
وكان أحد أسباب ذلك أن بطْريق الإسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه، فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه، ومعه أسقُفان فشكوه إليه، وطلبوا مناظرته بين يدى الملك، فاستحضره الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك. فقال أريوس: أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم أحدث الابن، فكان كلمة له، إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة. فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال فى إنجيله، إذ يقول "وهب لى سلطانا على السماء والأرض" فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك. ثم إن تلك الكلمة بعد تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس. فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح الآن معنيان: كلمة، وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.
فقال بطريق الإسكندرية: أخبرنا: أيما أوجب علينا عندك؟ عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟.
فقال أريوس: بل عبادة من خلقنا.
فقال: [فإن كان الابن خالقنا كما وصفت. وكان الابن مخلوقا] فعبادة الابن الذى خلقنا - وهو مخلوق - أوجب من عبادة الأب الذى ليس بمخلوق، بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا. وعبادة الابن المخلوق إيمانا [وذلك من أقبح الأقوال] .
فاستحسن الملك والحاضرون مقالته، وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس وكل من يقول مقالته.
فلما انتصر البطريق قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة، حتى يكون لنا مجمع ونصنع قصة نشرح فيها الدين ونوضحه للناس، فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا. وكانوا مختلفى الآراء متباينين فى أديانهم. فلما اجتمعوا كثر اللغط بينهم، وارتفعت الأصوات، وعظم الاختلاف فتعجب الملك من شدة اختلافهم. فأجرى عليهم الأنزال وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم
الدين الصحيح مع من منهم. فطالت المناظرة بينهم. فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأى واحد. فناظروا بقية الأساقفة، فظهروا عليهم. فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة والثمانية عشر مجلسا خاصا وجلس فى وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه، فدفعها إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم على المملكة. فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم. فباركوا عليه وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذب عنه. ودفعوا إليه الأمانة التى اتفقوا على وضعها. فلا يكون عندهم نصرانى من لم يقرَّ بها. ولا يتم لهم قربان إلا بها، وهى هذه:
"نؤمن بالله الواحد الأب، مالك كل شئ، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، الذى ولد من أبيه قبل العوالم كلها. وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذى بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء الذى من أجلنا - معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وأُلِمَ، وشج، وقتل، وصلب، ودفن، وقام فى اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الذى يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية، وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين".
فهذا العقد الذى أجمع عليه الملكية والنسطورية، واليعقوبية.
وهذه الأمانة التى ألفها أولئك البتاركة، والأساقفة، والعلماء، وجعلوها شعار النصرانية.
وكان رؤساء هذا المجمع بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس.
فافترقوا عليها، وعلى لعن ما خالفها ومن خالفها، والتبرى منه، وتكفيره.
ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته، وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر. فجمع جمعا عظيما، وصاروا إلى بيت المقدس، وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع.
فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تعدوا على، وظلمونى، ولم ينصفونى فى الحجاج، وحرمونى ظلما وعدوانا. ووافقه كثير من الذين معه. وقالوا: صدق. فوثبوا عليه فضربوه، حتى كاد أن يقتل لولا ابن أخت الملك خلصه. وافترقوا على هذه الحال.
ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول. اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة: أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده. فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفا. وكان مقدموهم بترك الإسكندرية، وبترك أنطاكية، وبترك بيت المقدس. فنظروا فى مقالة أريوس.
وكان من مقالته: أن روح القدس مخلوق مصنوع، ليس بإله.
فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله تعالى وليس روح الله تعالى شيئا غير حياته. فإذا قلنا: إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. فقد جعلناه غير حى. ومن جعله غير حى فقد كفر. ومن كفر وجب عليه اللعن.
فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياعه وأتباعه، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق، وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد، وطبيعة واحدة
وزادوا فى الأمانة التى وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا "ونؤمن بروح القدس الرب المحيى المميت، المنبثق من الأب، الذى مع الابن والأب، وهو مسجود وممجد".
وكان فى الأمانة الأولى "وبروح القدس فقط".
وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاث وجوه، وثلاثة خواص، وحدة فى تثليث وتثليث فى وحدة، وزادوا ونقصوا فى الشريعة.
وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم وكانوا على مذهب مانى، لا يرون أكل ذوات الأرواح.
فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفتهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة.
ثم كان لهم مجمع رابع بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس.
وكان مذهبه "أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان: إله الذى هو موجود من الأب، والآخر إنسان الذى هو موجود من مريم. وأن هذا الإنسان الذى نقول إنه المسيح بالمحبة متوحد مع ابن الإله وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة. لكن على سبيل الموهبة والكرامة، واتفاق الاسمين".
فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات. واتفقوا على تخطئته. واجتمع منهم مائتا أسقف فى مدينة أفسيس، وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة. فامتنع ثلاث مرات. فأوجبوا عليه الكفر، فلعنوه، ونفوه وحرموه، وثبتوا "أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد فى الأقنوم".
فلما لعنوا نسطورس غضب له يوحنا بترك أنطاكية. فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، فتقاتلوا. ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم. فلم يزل الملك [تذوس] حتى أصلح بينهم. فكتب أولئك صحيفة "أن مريم القدسية ولدت إلها، وهو ربنا يسوع المسيح، الذى هو مع أبيه فى الطبيعة، ومع الناس فى الناسوت" وأنفذوا لعن نسطورس.
فلما نفى نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بإخميم سبع سنين، ودفن بها، ودرست مقالته، إلى أن أحياها ابن صرما، مطران نصيبين، وبثها فى بلاد المشرق فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية.
وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس، ومن قال بقوله.
وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال، وتفترق على اللعن. فلا ينفض المجمع إلا وهم ما بين لاعن وملعون.
ثم كان لهم مجمع خامس. وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيوس يقول. إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا فى الطبيعة، وأن المسيح قبل التجسد طبيعتان، وبعد التجسد طبيعة واحدة.
وهذه مقالة اليعقوبية.
فرحل إليه أسقف دولته، فناظره فقطعه، ودحض حجته.
ثم سار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه. فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعا عظيما، وسأله عن قوله. فقال: إن قلنا: إن للمسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس. ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين، كانتا قبل التجسد فلما تجسد زالت عنه الاثنينية، وصار طبيعة واحدة، وأقنوما واحدا.
فقال له بترك القسطنطينية: إن كان المسيح طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هى الطبيعة المحدثة. وإن كان القديم هو المحدث فالذى لم يزل هو الذى لم يكن. ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه، فاستعدى عليهم الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة:
فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس، فثبّت بطريق الإسكندرية مقالة أوطيوس، وقطع بتاركة القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة. وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة البتاركة والأساقفة، فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقلبوا مقالة أوطيوس.
ففسدت الأمانة، صارت المقالة مقالة أوطيوس، وخاصة بمصر، والإسكندرية وهو مذهب اليعقوبية.
فافترق هذا المجمع الخامس وهم ما بين لاعن وملعون، وضال ومضل، وقائل يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائل يقول: الحق مع الملاعنين.
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس فى دولة مرقيون فإنه اجمتع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر الأساقفة والبطارقة إلى حضرته. فاجتمع عنده ستمائة وثلاثون أسقفا، فنظروا فى مقالة أوطيوس وبترك الإسكندرية، التى قطعا بها جميع البتاركة. فأفسدوا مقالتهما ولعنوهما. وأثبتوا "أن المسيح إله وإنسان، وهو مع الله فى اللاهوت ومعنا فى الناسوت، له طبيعتان تامتان. فهو تام باللاهوت، تام بالناسوت، وهو مسيح واحد" وثبتوا قول الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم "بأن الابن مع الله فى المكان، وأنه إله حق من إله حق" ولعنوا أريوس وقالوا: "إن روح القدس إله، وقالوا: إن الأب وروح القدس واحد بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة".
وثبتوا قول أهل المجمع الثالث، وقالوا "إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذى هو مع الله فى الطبيعة، ومعنا فى الناسوت".
وقالوا: إن للمسيح طبيعتان وأقنوم واحد، ولعنوا نسطورس، وبترك الإسكندرية.
فانفض هذا المجمع وهم ما بين لاعن وملعون.
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع فى أيام أنسطاس الملك.
وذلك أن سورس القسطنطين جاء إلى الملك، فقال "إن أصحاب ذلك المجمع الستمائة والثلاثين قد أخطأوا، والصواب ما قاله أوطيوس وبترك الإسكندرية، فلا تقبل ممن سواهما، واكتب إلى جميع بلادك أن العنوا الستمائة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة، وأقنوم واحد" فأجابه الملك إلى ذلك.
فلما بلغ بترك بيت المقدس جمع الرهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث، فنفى البترك إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس: لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين.
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان وقالوا: إياك أن تقبل عن سورس، ولكن اقبل عن الستمائة والثلاثين ونحن معك. ففعل، وخالف الملك.
فلما بلغه أرسل قائداً وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك، فإن لم يفعل أنزله عن الكرسى ونفاه. فقدم القائد وطرح يوحنا فى الحبس، فصار إليه الرهبان فى الحبس وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك. فإذا حضر فليقر بلعنة كل من لعنه الرهبان.
فاجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطسوس، ونسطورس، وسورس، ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين.
ففزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك فهمّ بنفى يوحنا. فاجتمع الرهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك: أنهم لا يقبلون مقالة سورس، ولو أريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم.
وكتب بترك رومية إلى الملك بقبح فعله وبلعنه، فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضاً.
وكان لسورس تلميذ، يقال له يعقوب البراذعى، لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب، يرقع بعضها ببعض. وإليه ينسب اليعاقبة. فأفسد أمانة القوم.
ثم هلك أنسطاس الملك، وولى بعده قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه. وكتب إلى بيت المقدس بأمانته.
فاجتمع الرهبان وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الستمائة والثلاثين أسقفا وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس، وكان ملكانيا. فولى الملك إسطفانوس. فأرسل قائدا ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة فى ثياب البتركة، وتقدم وقدس، فرموه بالحجارة، حتى كادوا يقتلونه. فانصرف وتوارى عنهم. ثم أظهر لهم بعد ثلاثة أيام أنه أتاه كتاب من الملك. وأمر الحرس أن يجمعوا الناس لسماعه. فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماعه. وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيف فى الناس. فصعد المنبر، وقال: يا معشر أهل الإسكندرية، إن رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم. فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه. فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على من بالكنيسة. فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، حتى خاض الجند فى الدماء. وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية.
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن.
وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثمة قيامة، ولا بعث. وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة، وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة. فحشرهم الملك إلى قسطنطينية. فقال لهم بتركها: إن: كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا، وقوله خيالا، وكل جسد نعاينه لأحد من الناس، أو فعل أو قول، فهو كذلك.
وقال له: إن المسيح قد قام من الموتى، وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين.
واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله "إن كل من فى القبور إذا سمعوا قول الله سبحانه يحْيَون" فأوجب عليهم اللعن.
وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد.
فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وثبتوا "أن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وأنه إله تام، وإنسان تام معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنوم واحد، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتى
بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات، كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر الأوائل" فتفرقوا على ذلك.
ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، تلاعنوا فيه.
وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان، فجاء إلى قَسطا الوالى فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين كذلك، وضرب الآخر بالسياط، ونفاه. فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الشبهة، ومن كان ابتدأ بها، ويعلم من يستحق اللعن.
فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاثمائة شماس، فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة. وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية، فلعنوا من تقدم من القديسين والبتاركة واحدا واحدا، فلما لعنوهم جلسوا، فلخصوا الأمانة، وزادوا فيها ونقصوا فقالوا "نؤمن بأن الواحد من الناسوت الابن الوحيد، الذى هو الكلمة الأزلية الدائم المستوى مع الأب، الإله فى الجوهر، الذى هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين، فى أقنوم واحد، ووجه واحد، تاما بلاهوته، تاما بناسوته، وشهدت أن الإله الابن فى آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القدِّسية جسدا، إنسانا بنفس ناطفة عقلية. وذلك برحمة الله تعالى محب البشر. ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة، ولا فصل ولكن هو واحد، يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله فى طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله فى طبيعته الذى هو الابن الوحيد، والكلمة الأزلية المتجسدة التى صارت فى الحقيقة لحما، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن ينتقل من مجده الأزلى، وليست بمتغيرة، لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين إلهى وإنسى، الذى بهما يكمل قول الحق. وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها مشيئتين، غير متضادتين، ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء".
هذه أمانة هذا المجمع. فوضعوها ولعنوا من لعنوه، وبين المجمع الخامس الذى اجتمع فيه الستمائة والثلاثون، وبين هذا المجمع مائة سنة.
ثم كان لهم مجمع عاشر:
وذلك لما مات الملك وولى ابنه بعده. فاجتمع أهل المجمع السادس. وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل. فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا. فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعن وملعون.
فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان. كلهم ما بين لاعن وملعون.
فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح، ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى، وهم حيارى تائهون، ضالون مضلون. لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول فى إلههم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبرى ممن اتبع سواه. قد تفرقت بهم فى نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى:
{قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] .
فلو سألت أهل البيت الواحد عن دينهم ومعتقدهم فى ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب. فما ظنك بمن فى عصرنا هذا، وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، ونفاية المتحيرين؟ وقد طال عليهم الأمد وبعد عهدهم بالمسيح ودينه.
وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل - من الفلاسفة والملاحدة - أن يتمسكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذى جاء به المسيح على هذا الوجه، ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل. فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالرسل والكتب. ورأوا أن ما هم عليه من الآراء أقرب إلى المعقول من هذا الدين. وقال لهم هؤلاء الحيارى النصارى الضلال: إن هذا هو الحق الذى جاء به المسيح. فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه.
ولهذا قال بعض ملوك الهند - وقد ذكرت له الملل الثلاث - فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعى، فإنى أرى ذلك بحكم عقلى وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا. ولكن أستثنى هؤلاء القوم من بين جميع العوالم،
لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة. وحلوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذى انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدى البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرق، والرشيد سفيها، والمحسن مسيئا. لأن من كان أصل عقيدته التى جرى نشوءه عليها: لإساءة إلى الخالق، والنيل منه، ووصفه بضد صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل، وضعف العقل، وقلة الحياء، وخساسة الهمة.
فهذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة.
وقال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سقراط، إذ ذاك أقدم من هذا:"لما ظهر محمد بتهامة، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد اصطمر البابلى لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه. فلما اجتمعنا على الخروج من مصر، رأينا أن نصبر إلى قراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه. فلما دخلنا عليه، ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا، فغشى عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء، فتصبرنا جهدنا هدأ وفتح عينيه، وقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه، وأحذركم منه، إنكم قوم غيرتم فغير بكم. أطعتم جهالا من ملوككم، فخلطوا عليكم فى الأدعية فقصدتم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم فى ذلك كمن أعطى القلم مدحة الكاتب. وإنما حركة القلم بالكاتب".
ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة.
أحدهما: الغلو فى المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه، وإلها آخر معه، وأنفوا أن يكون عبدا له.
والثانى: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا - نزل من العرش عن كرسى عظمته، ودخل فى فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعا صغيرا يمص الثدى، ولف فى القمط، وأودع السرير، يبكى ويجوع، ويعطش،
ويبول، ويتغوط، ويحمل على الأيدى والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا فى وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرا بين لصين، وألبسوه إكليلا من الشوك،. وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق الذى بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له.
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم، ولا بعدهم، كما قال تعالى، فيما يحكى عنه رسوله الذى نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذى.
{تَكَادُ السَّموَاتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضِ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدا} [مريم: 90] .
فقال: "شتمنى ابن آدم، وما ينبغى له ذلك. وكذبنى ابن آدم وما ينبغى له ذلك. أما شتمه إيَّاى، فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد الذى لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لى كفوا أحد، وأما تكذيبه إياى. فقوله: لن يعيدنى كما بدأنى. وليس أول الخلق بأهون على من إعادته".
وقال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فى هذه الأمة: أهينوهم، ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
ولعمر الله، إن عباد الأصنام، مع أنهم أعداء الله عز وجل على الحقيقة، وأعداء رسله عليهم السلام، وأشد الكفار كفرا يأنفون أن يصفوا آلهتهم التى يعبدونها من دون الله تعالى - وهى من الحجارة والحديد، والخشب - بمثل ما وصفت به هذه الأمة رب العالمين، إله السماوات والأرضين. وكان الله تعالى فى قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك، أو بما يقاربه. وإنما شرك القوم: أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة، وزعموا أنها تقربهم إليه، لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له، ولا نظيرا ولا ولدا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة.
عذرهم فى ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم: أن أرواح الأنبياء عليهم السلام كانت فى الجحيم فى سجن إبليس، من عهد آدم إلى زمن المسيح، وكان إبراهيم وموسى ونوح
وصالح وهود معذبين مسجونين فى النار بسبب خطيئة آدم عليه السلام، وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بنى آدم أخذه إبليس وسجنه فى النار بذنب أبيه. ثم إن الله سبحانه وتعالى لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب، تحيل على إبليس بحيلة، فنزل عن كرسى عظمته، والتحم ببطن مريم، حتى ولد وكبر وصار رجلا. فمكن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه، وتوجوه بالشوك على رأسه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهرق دمه فى مرضاة جميع ولد آدم. إذ كان ذنبه باقيا فى أعناق جميعهم، فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه، وتسميره وصفعه، إلا من أنكر صلبه أو شك فيه، أو قال: بأن الإله يجل عن ذلك، فهو فى سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك. وأن إلهه صلب وصفع وسمر.
فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس وأقلهم أن يفعله بمملوكه وعبده وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن ينسب إليه أوثانهم، وكذبوا الله عز وجل فى كونه تاب على آدم عليه السلام وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه فى الجحيم، بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية السفه، حيث خلصهم من العذاب بتمكينه أعداءه من نفسه، حتى قتلوه: وصلبوه وأراقوا دمه، ونسبوه إلى غاية العجز حيث عجزوه أن يخلصهم بقدرته من غير هذه الحلية، ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه ففعلوا به ما فعلوا.
وبالجملة، فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبت به هذه الأمة كما قال عمر رضى الله عنه "إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليبيا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيع أن أملأ عينى ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب.
ولهذا قال عقلاء الملوك: إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا، فإنهم عار، على بنى آدم، مفسدون للعقول والشرائع.
وأما شريعتهم ودينهم فليسوا متمسكين بشيء من شريعة المسيح، ولا دينه البتة.
فأول ذلك أمرُ الِقبْلة.
فإنهم ابتدعوا الصلاة إلى مطلع الشمس مع علمهم أن المسيح عليه السلام لم يُصَل إلى المشرق أصلا. بل قد نقل مؤرخوهم أن ذلك حدث بعد المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وإلا فالمسيح إنما كان يصلى إلى قبلة بيت المقدس، وهى قبلة الأنبياء قبله، وإليها كان يصلى النبى صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بمكة، وبعد هجرته ثمانية عشر شهرا، ثم نقله الله تعالى إلى قِبْلة أبيه إبراهيم عليه السلام.
ومن ذلك: أن طوائف منهم - وهم الروم وغيرهم - لا يرون الاستنجاء بالماء، فيبول أحدهم ويتغوط، ويقوم بأثر البول والغائط إلى صلاته بتلك الرائحة الكريهة، فيستقبل المشرق ويصلب على وجهه، ويحدث من يليه بأنواع الحديث، كذباً كان أو فجوراً، أو غيبة، أو سباً وشتماً، ويخبره بسعر الخمر ولحم الخنزير، وما شاكل ذلك ولا يضر ذلك فى الصلاة ولا يبطلها. وإن دعته الحاجة إلى البول فى الصلاة بال وهو يصلى ولا يضر صلاته.
وكل عاقل يعلم أن مواجهة إله العالمين بهذه العبادة قبيح جدا، وصاحبها إلى استحقاق غضبه وعقابه أقرب منه إلى الرضا والثواب.
ومن العجيب إنهم يقرءون فى نص التوراة "ملعون من تعلق بالصليب" وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يلعنون عليه. ولو كان لهم أدنى عقل لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب، حيث وجدوه، ويكسروه ويُضمِّخُوه بالنجاسة. فإنه صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه، وفضح، وخزى.
فيا للعجب، بأى وجه - بعد هذا - يستحقُّ الصليب التعظيم، لولا أن القوم أضل من الأنعام.
وتعظيمهم للصليب مما ابتدعوه فى دين المسيح بعده بزمان. ولا ذكر له فى الإنجيل البتة. وإنما ذكر فى التوراة باللعْنِ لمن تعلق به. فاتخذته هذه الأمة معبودا يسجدون له،
وإذا اجتهد أحدهم فى اليمين، بحيث لا يحنث ولا يكذب، حلف بالصليب، ويكذب إذا حلف بالله، ولا يكذب إذا حلف بالصليب، ولو كان لهذه الأمة أدنى مسكة من عقل لكان ينبغى لهم أن يلعنوا الصليب من أجل معبودهم، وإلههم حين صلب عليه، كما قالوا: إن الأرض لعنت من أجل آدم حين أخطأ، وكما لعنت الأرض حين قتل قابيل أخاه، وكما فى الإنجيل: إن اللعنة تنزل على الأرض إذا كان أمراؤها الصبيان.
فلو عقلوا لكان ينبغى لهم أن لا يحملوا صليبا، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكرونه بألسنتهم. وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره.
ولقد صدق القائل: "عدو عاقل خير من صديق أحمق" لأنهم بحمقهم قصدوا تعظيم المسيح فاجتهدوا فى ذمه وتنقصه والإزراء به، والطعن عليه. وكان مقصودهم بذلك التشنيع على اليهود، وتنفير الناس عنهم وإغراءهم بهم، فنفروا الأمم عن النصرانية وعن المسيح ودينه أعظم تنفير، وعلموا أن الدين لا يقوم بذلك. فوضع لهم رهبانهم وأساقفتهم من الحيل والمخاريق وأنواع الشعبذة ما استمالوا به الجهال، وربطوهم به، وهم يستجيزون ذلك ويستحسنونه، ويقولون: يشذ دين النصرانية.
وكأنهم إنما عظموا الصليب لما رأوه قد ثبت لصلب إلههم، ولم ينشق ولم يتطاير، ولم يتكسر من هيبته لما حُمل عليه. وقد ذكروا أن الشمس اسودت وتغير حال السماء والأرض، فلما لم يتغير الصليب ولم يتطاير، استحق عندهم التعظيم وأن يعبد.
ولقد قال بعض عقلائهم: إن تعظيمنا للصليب جار مجرى تعظيم قبور الأنبياء، فإنه كان قبر المسيح وهو عليه، ثم لما دفن صار قبره فى الأرض، وليس وراء هذا الحمق والجهل حُمق، فإن السجود لقبور الأنبياء وعبادتها شرك، بل من أعظم الشرك، وقد لعن إمام الحنفاء وخاتم الأنبياء صلى الله تعالى عليه وسلم اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وأصل الشرك وعبادة الأوثان من العكوف على القبور، واتخاذها مساجد.
ثم يقال: فأنتم تعظمون كل صليب، لا تخصون التعظيم بذلك الصليب بعينه.
فإن قلتم: الصليب من حيث هو يذكر بالصليب الذى صلب عليه إلهنا.
قلنا: وكذلك الحفر تذكر بحفرته. فعظموا كل حفرة، واسجدوا لها لأنها كحفرته أيضا بل أولى، لأن خشبة الصلب لم يستقر عليها استقراره فى الحفرة.
ثم يقال: اليد التى مسته أولى أن تعظم من الصليب، فعظموا أيدى اليهود لمسهم إياه وإمساكهم له. ثم انقلوا ذلك التعظيم إلى سائر الأيدى.
فإن قلتم: منع من ذلك مانع العداوة، فعندكم أنه هو الذى رضى بذلك واختاره. ولو لم يرض به لم يصلوا إليه منه، فعلى هذا فينبغى لكم أن تشكروهم وتحمدوهم، إذ فعلوا مرضاته واختياره الذى كان سبب خلاص جميع الأنبياء والمؤمنين والقديسين من الجحيم ومن سجن إبليس، فما أعظم منة اليهود عليكم وعلى آبائكم، وعلى سائر النبيين من لدن آدم عليه السلام إلى زمن المسيح.
والمقصود: أن هذه الأمة جمعت بين الشرك وعيب الإله وتنقصه، وتنقص نبيهم وعيبه ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح، لا فى صلاتهم ولا فى صيامهم ولا فى أعيادهم. بل هم فى ذلك أتباع كل ناعق، مستجيبون لكل ممخرق ومبطل. أدخلوا فى الشريعة ما ليس منها، وتركوا ما أتت به.
وإذا شئت أن ترى التغيير فى دينهم فانظر إلى صيامهم الذى وضعوه لملوكهم وعظمائهم فلهم صيام للحواريين، وصيام لمار مريم، وصيام لمار جرجس، وصيام للميلاد. وتركهم أكل اللحم فى صيامهم مما أدخلوه فى دين المسيح. وإلا فهم يعلمون أن المسيح عليه السلام كان يأكل اللحم، ولم يمنعهم منه لا فى صوم، ولا فطر.
وأصل ذلك: أن المانوية كانوا لا يأكلون ذا روح، فلما دخلوا فى النصرانية خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيقتلوا، فشرعوا لأنفسهم صياما، فصاموا للميلاد والحواريين، ومار مريم، وتركوا فى هذا الصوم أكل اللحم محافظة على ما اعتادوه من مذهب مانى. فلما طال الزمان تبعهم على ذلك النسطورية واليعقوبية. فصارت سنة متعارفة بينهم، ثم تبعهم على ذلك الملكانية.
فصل
ثم إنك إذا كشفت عن حالهم وجدت أئمة دينهم ورهبانهم قد نصبوا حبائل الحيل ليقتنصوا بها عقول العوام، ويتوصلوا بالتمويه والتلبيس إلى استمالتهم وانقيادهم لهم، واستدرار أموالهم. وذلك أشهر وأكثر من أن يذكر.
فمن ذلك: ما يعتمدونه فى العيد الذى يسمونه عيد النور، ومحله بيت المقدس فيجتمعون من سائر النواحى فى ذلك اليوم، ويأتون إلى بيت فيه قنديل معلق لا نار فيه فيتلو أحبارهم الإنجيل، ويرفعون أصواتهم ويبتهلون فى الدعاء، فبينا هم كذلك وإذا نار قد نزلت من سقف البيت فتقع على ذبالة القنديل فيشرق ويضيء ويشتعل، فيضجون ضجة واحدة، ويصلبون على وجوههم، ويأخذون فى البكاء والشهيق.
قال أبو بكر الطرطوشى: كنت ببيت المقدس، وكان واليها إذ ذاك رجلا يقال له سقمان. فلما نما خبر هذا العيد إليه أنفذ إلى بتاركتهم، وقال: أنا نازل إليكم فى يوم هذا العيد لأكشف عن حقيقة ما تقولون، فإن كان حقا ولم يتضح لى وجه الحيلة فيه أقررتكم عليه وعظمته معكم بعلم. وإن كان مخرقة على عوامكم أوقعت بكم ما تكرهونه. فصعب ذلك عليهم جداً، وسألوه أن لا يفعل فأبى ولج، فحملوا له مالا عظيما فأخذه وأعرض عنهم.
قال الطرطوشى: ثم اجتمعت بأبى محمد بن الأقدم بالإسكندرية. فحدثنى أنهم يأخذون خيطا دقيقا من نحاس وهو الشريط، ويجعلونه فى وسط قبة البيت إلى رأس الفتيلة التى فى القنديل، ويدهنونه بدهن اللبان. والبيت مظلم، بحيث لا يدرك الناظرون الخيط النحاس، وقد عظموا ذلك البيت، فلا يمكنون كل أحد من دخوله. وفى رأس القبة رجل، فإذا قدسوا ودعوا ألقى على ذلك الخيط شيئا من نار النفط، فتجرى النار مع دهن اللبان إلى آخر الخيط النحاس، فتلقى فيتعلق بها.
فلو نصح أحد منهم نفسه وفتش على نجاته لتتبع هذا القدر، وطلب الخيط النحاس وفتش رأس القبة ليرى الرجل والنفط، ويرى أن منبع ذلك النور من ذلك الممخرق الملبس، وأنه لو نزل من السماء لظهر من فوق ولم يكن ظهوره من الفتيلة.
ومن حيلهم أيضاً: أنه قد كان بأرض الروم فى زمن المتوكل كنيسة، إذا كان يوم عيدها يحج الناس إليها، ويجتمعون عند صنم فيها، فيشاهدون ثدى ذلك الصنم فى ذلك اليوم يخرج منه اللبن. وكان يجتمع للسادن فى ذلك اليوم مال عظيم. فبحث الملك عنها. فانكشف له أمرها فوجد القيم قد ثقب من وراء الحائط ثقبا إلى ثدى الصنم، وجعل فيها أنبوبة من رصاص، وأصلحها بالجبس ليخفى أمرها، فإذا كان يوم العيد فتحها وصب فيها اللبن، فيجرى إلى الثدى فيقطر منه، فيعتقد الجهال أن هذا سر فى الصنم، وأنه علامة من الله تعالى لقبول قربانهم، وتعظيمهم له. فلما انكشف له ذلك أمر بضرب عنق السادن، ومحو الصور من الكنائس. وقال: إن هذه الصور مقام الأصنام. فمن سجد للصورة فهو كمن سجد للأصنام.
ولقد كان من الواجب على ملوك الإسلام أن يمنعوا هؤلاء من هذا وأمثاله، لما فيه من الإعانة على الكفر، وتعظيم شعائره. فالمساعد على ذلك، والمعين عليه شريك للفاعل. لكن لما هان عليهم دين الإسلام، وكان السحت الذى يأخذونه منهم أحب إليهم من الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام أقروهم على ذلك ومكنوهم منه.
فصل
والمقصود: أن دين الأمة الصليبية، بعد أن بعث الله عز وجل محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم، بل قبله بنحو ثلاثمائة سنة، مبنى على معاندة العقول والشرائع، وتنقص إله العالمين ورميه بالعظائم، فكل نصرانى لا يأخذ بحظه من هذه فليس بنصرانى على الحقيقة.
أفليس هو الدين الذى أسسه أصحاب المجامع المتلاعنين على أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد؟.
فيا عجبا، كيف رضى العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه؟.
أترى لم يكن فى هذه الأمة من يرجع إلى عقله وفطرته، ويعلم أن هذا عين المحال، وإن ضربوا له الأمثال، واستخرجوا له الأشباه. فلا يذكرون مثالاً. ولا شبها إلا وفيه بيان خطئهم وضلالهم.
كتشبيه بعضهم اتحاد اللاهوت بالناسوت، وامتزاجه به باتحاد النار والحديد، وتمثيل غيرهم ذلك باختلاط الماء باللبن، وتشبيه آخرين ذلك بامتزاج الغذاء، واختلاطه بأعضاء البدن، إلى غير ذلك من الأمثال والمقاييس التى تتضمن امتزاج حقيقتين واختلاطهما، حتى صارا حقيقة أخرى، تعالى الله عز وجل عن إفكهم وكذبهم.
ولم يقنعهم هذا القول فى رب السماوات والأرض، حتى اتفقوا بأسرهم على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلا مقهورا، وهو يحمل خشبته التى صلبوه عليها، واليهود يبصقون فى وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوبا حتى التصق شعره بجلده، لما يبس دمه بحرارة الشمس، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام بلاهوتيته من قبره.
هذا قول جميعهم، ليس فيهم من ينكر منه شيئا.
فيا للعقول، كيف كان حال هذا العالم الأعلى والأسفل فى هذه الأيام الثلاثة؟ ومن كان يدبر أمر السماوات والأرض؟ ومن الذى خلف الرب سبحانه وتعالى فى هذه المدة؟ ومن الذى كان يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو مدفون فى قبره؟.
ويا عجبا، هل دفنت الكلمة معه، بعد أن قتلت وصلبت؟ أم فارقته وخذلته أحوج ما كان إلى نصرها له، كما خذله أبوه وقومه؟ فإن كانت قد فارقته وتجرد منها، فليس هو حينئذ المسيح. وإنما هو كغيره من آحاد الناس. وكيف يصح مفارقتها له بعد أن اتحدت به، ومازجت لحمه ودمه؟ وأين ذهب الاتحاد والامتزاج؟ وإن كانت لم تفارقه وقتلت وصلبت، ودفنت معه. فكيف وصل المخلوق إلى قتل الإله، وصلبه ودفنه؟.
ويا عجبا، أى قبر يسع إله السماوات والأرض؟ هذا وهو الملك القُدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون.
الحمد لله، ثم الحمد لله تعالى، الذى هدانا للإسلام وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام أسألك أن لا تنزعه عنا، حتى
تتوفانا على الإسلام.
أَعُبَّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ
…
نُرِيدُ جَوَابَهُ مَّمِنْ وَعَاهُ
إذا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ
…
أمَاتُوهُ فَما هذَا الإِلهُ؟
وَهَلْ أرضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ؟
…
فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ
وَإِنْ سَخِطَ الّذِى فَعَلُوهُ فيه
…
فَقُوَّتُهُمْ إِذًا أوْهَتْ قُوَاهُ
وَهَلْ بَقِى الوُجُودُ بِلَا إِلهٍ
…
سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لَمِنْ دَعَاهُ؟
وَهَلْ خَلَتِ الطِّبَاقُ السَّبْعُ لَمّا
…
ثَوَى تَحتَ التُّرَابِ، وَقَدْ عَلَاهُ
وَهَلْ خَلَتِ الْعَوَالُمِ مِن إِلهٍ
…
يُدَبِّرهَا، وَقَدْ سُمِرَتْ يَدَاهُ؟
وَكَيْفَ تَخَلْتِ الأَمْلَاكُ عَنْهُ
…
بِنَصْرِهِمُ، وَقَدْ سَمِعُوا بُكاهُ؟
وكيف أطاقت الخشبات حمل ال
…
إله الحق مشدودا قفاه؟
وَكيْفَ دَنَا الحَدِيدُ إِلَيْهِ حَتَّى
…
يُخَالِطَهُ، وَيَلْحَقَهُ أذَاهُ؟
وَكيْفَ تَمكْنَتْ أَيْدِى عِدَاهُ
…
وَطَالتْ حَيْثُ قَدْ صَفَعُوا قَفَاهُ؟
وَهَلْ عَادَ المَسِيحُ إِلَى حَيَاةٍ
…
أَمَ المُحْيى لَهُ رَب سِوَاهُ؟
وَيَا عَجَباً لِقَبْرٍ ضَمَّ رَبا
…
وَأَعْجَبُ مِنْهُ بَطْنٌ قَدْ حَوَاهُ
أَقَامَ هُنَاكَ تِسْعاً مِنْ شُهُورٍ
…
لَدَى الظُّلُمَاتِ مِنْ حَيْضٍ غِذَاهُ
وَشَقَّ الْفَرْجَ مَوْلُودًا صَغِيراً
…
ضَعِيفاً، فَاتِحاً لِلثَّدْى فَاهُ
وَيَأْكُلُ، ثمَّ يَشْرَبُ، ثمَّ يَأْتِى
…
بِلَازِمِ ذَاكَ، هَلْ هذَا إِلهُ؟
تَعَالَى اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَارَى
…
سَيُسأَلُ كُلَّهُمْ عَمَّا افْترَاهُ
أَعُبَّادَ الصَّلِيبِ، لأَى مَعْنِّى
…
يُعَظمُ أوْ يُقَبَّحُ مَنْ رَمَاهُ؟
وَهَلْ تَقْضِى العقولُ بِغَيْرِ كَسْرٍ
…
وَإحْرَاقٍ لَهُ، وَلَمِنْ بَغَاهُ؟
إِذَا رَكِبَ الإِلهُ عَلَيْهِ كُرْهاً
…
وَقَدْ شُدَّتْ لِتَسْمِيرٍ يَدَاهُ
فَذَاكَ المَرْكَبُ المَلْعُونُ حَقا
…
فَدُسْهُ، لا تَبُسْهُ إِذْ تَرَاهُ
يُهَانُ عَلَيْهِ رَبُّ الْخَلقِ طُرا
…
وتَعْبُدُهُ؟ فَإِنّكَ مِنْ عِدَاهُ
فإِنْ عَظِّمْتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ قَدْ
…
حَوَى رَبَّ العِبَادِ، وَقَدْ عَلَاهُ
وَقَدْ فُقِدَ الصَّلِيبُ، فإِنْ رَأَيْنَا
…
لَهُ شَكْلاً تَذَكَّرْنَا سَنَاهُ
فَهَلاّ للقبورِ سَجَدْتَ طُرا
…
لَضِّم القبرِ رَبّكَ فى حَشَاهُ؟
فَيَا عَبْدَ المِسيحِ أَفِقْ، فَهَذَا
…
بِدَايَتُهُ، وَهذَا مُنْتَهاهُ
فصل
فقد بان لكل ذى عقل أن الشيطان تلاعب بهذه الأمة الضالة كل التلاعب، ودعاهم فأجابوه، واستخفهم فأطاعوه.
فتلاعب بهم فى شأن المعبود سبحانه وتعالى.
وتلاعب بهم فى أمر المسيح.
وتلاعب بهم فى شأن الصليب وعبادته.
وتلاعب بهم فى تصوير الصور فى الكنائس وعبادتها. فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح، وجرجس، وبطرس، وغيرهم من القديسين عندهم، والشهداء وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى.
حتى لقد كتب بطريق الإسكندرية إلى ملك الروم كتابا يحتج فيه للسجود للصور: بأن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يصور فى قُبَّة الزمان صورة الساروس، وبأن سليمان بن داود لما عمل الهيكل عمل صورة الساروس من ذهب، ونصبها داخل الهيكل.
ثم قال فى كتابه: وإنما هذا مثال الملك يكتب إلى بعض عماله كتابا، فيأخذه العامل ويقبله ويضعه على عينيه، ويقوم له، لا تعظيما للقرطاس والمداد، بل تعظيما للملك، كذلك السجود للصور تعظيم لاسم ذلك المصور، لا للأصباغ والألوان.
وبهذا المثال بعينه عبدت الأصنام.
وما ذكره هذا المشرك عن موسى وسليمان عليهما السلام لو صح لم يكن فيه دليل على السجود للصور. وغايته: أن يكون بمثابة ما يذكر عن داود: أنه نقش خطيئته فى كفه كيلا ينساها. فأين هذا مما يفعله هؤلاء المشركون: من التذلل، والخضوع والسجود بين يدى تلك الصور؟.
وإنما المثال المطابق لما يفعله هؤلاء المشركون مثال خادم من خدام الملك دخل على رجل. فوثب الرجل من مجلسه، وسجد له، وعبده، وفعل به ما لا يصلح أن يفعل إلا مع الملك.
فكل عاقل يستجهله ويستحمقه فى فعله، إذ قد فعل مع عبد الملك ما كان ينبغى له أن يخص به الملك دون عبيده: من الإكرام، والخضوع، والتذلل.
ومعلوم أن هذا إلى مقت الملك له، وسقوطه من عينه، أقرب منه إلى إكرام له ورفع منزلته.
كذلك حال من سجد لمخلوق، أو لصورة مخلوق، لأنه عمد إلى السجود الذى هو غاية ما يتوصل به العبد إلى رضى الرب، ولا يصلح إلا له، ففعله لصورة عبد من عبيده، وسوى بين الله وبين عبده فى ذلك. وليس وراء هذا فى القبح والظلم شيء ولهذا قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 33] .
وقد فطر الله سبحانه عباده على استقباح معاملة عبيد الملك وخدمه بالتعظيم والإجلال والخضوع، والذل الذى يعامل به الملك. فكيف حال من فعل ذلك بأعداء الملك؟ فإن الشيطان عدو الله والمشرك إنما يشرك به، لا بولى الله ورسوله، بل رسول الله وأولياؤه بريئون ممن أشرك بهم، معادون لهم، أشد الناس مقتاً لهم. فهم فى نفس الأمر إنما أشركوا بأعداء الله، وسووا بينهم وبين الله فى العبادة والتعظيم، والسجود، والذل، ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلوما بالفطرة السليمة، والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح.
والمقصود: ذكر تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى أصول دينهم، وفروعه.
كتلاعبه بهم فى صيامهم. فإن أكثر صومهم لا أصل له فى شرع المسيح، بل هو مختلق مبتدع.
فمن ذلك: أنهم زادوا جمعة فى بدء الصوم الكبير، يصومونها لهرقل مخلص بيت المقدس.
وذلك أن الفرس لما ملكوا بيت المقدس، وقتلوا النصارى، وهدموا الكنائس أعانهم اليهود على ذلك، وكانوا أكثر قتلا وفتكا فى النصارى من الفرس.
فلما سار هرقل إليه استقبله اليهود بالهدايا، وسألوه أن يكتب لهم عهدا. ففعل فلما دخل بيت المقدس، شكا إليه من فيه من النصارى ما كان اليهود صنعوه بهم.
فقال لهم هرقل: وما تريدون منى؟ قالوا: تقتلهم.
قال: كيف أقتلهم، وقد كتبت لهم عهدا بالأمان، وأنتم تعلمون ما يجب على ناقض العهد؟.
فقالوا له: إنك حين أعطيتهم الأمان لم تدر ما فعلوا من قتل النصارى، وهدم الكنائس. وقتلهم قربان إلى الله تعالى. ونحن نتحمل عنك هذا الذنب ونكفره عنك ونسأل المسيح أن لا يؤاخذك به، ونجعل لك جمعة كاملة فى بدء الصوم، نصومها لك، ونترك فيها أكل اللحم، مادامت النصرانية، ونكتب به إلى جميع الأفاق، غفران لما سألناك.
فأجابهم. وقتل من اليهود حول بيت المقدس وجبل الخليل ما لا يحصى كثرة.
فصيروا أول جمعة من الصوم الذى يترك فيه الملكية أكل اللحم، يصومونها لهرقل الملك، غفرانا لنقضه العهد، وقتل اليهود، وكتبوا بذلك إلى الآفاق.
وأهل بيت المقدس، وأهل مصر يصومونها، وبقية أهل الشام والروم يتركون أكل اللحم فيها، ويصومون الأربعاء والجمعة.
وكذلك لما أرادوا نقل الصوم إلى فصل الربيع المعتدل، وتغيير شريعة المسيح، زادوا فيه عشرة أيام، عوضا وكفارة، لنقلهم له.
ومن ذلك: تلاعبه بهم فى أعيادهم: فكلها موضوعة مختلقة، محدثة بآرائهم واستحسانهم.
فمن ذلك: عيد ميكائيل.
وسببه: أنه كان بالإسكندرية صنم، وكان جميع من بمصر والإسكندرية يعيدون له عيدا عظيما، ويذبحون له الذبائح. فولى بتركه الإسكندرية واحدا منهم فأراد أن يكسره،
ويبطل الذبائح، فامتنعوا عليه، فاحتال عليهم، وقال: إن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر فلو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله تعالى وجعلتم هذه الذبائح له كان يشفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم. فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم، وصيره صلبانا، وسمى الكنيسة كنيسة ميكائيل. وسماها قيسارية، ثم احترقت الكنيسة وخربت، وصيروا العيد والذبائح لميكائيل.
فنقلهم من كفر إلى كفر، ومن شرك إلى شرك.
فكانوا فى ذلك كمجوسى أسلم، فصار رافضيا. فدخل الناس عليه يهنئونه، فدخل عليه رجل وقال: إنك إنما انتقلت من زاوية من النار إلى زاوية أخرى.
ومن ذلك عيد الصليب. وهو مما اختلقوه وابتدعوه. فإن ظهور الصليب إنما كان بعد المسيح بزمن كثير.
وكان الذى أظهره - زورا وكذبا - أخبرهم به بعض اليهود أن هذا هو الصليب الذى صلب عليه إلههم وربهم. فانظر إلى هذا السند، وهذا الخبر، فاتخذوا ذلك الوقت الذى ظهر فيه عيدا، وسموه عيد الصليب، ولو أنهم فعلوا كما فعل أشباههم من الرافضة، حيث اتخذوا وقت قتل الحسين رضى الله عنه مأتما وحزنا لكان أقرب إلى العقول.
وكان من حديث الصليب: أنه لما صلب المسيح - على زعمهم الكاذب - وقتل ودفن رفع من القبر إلى السماء وكان التلاميذ كل يوم يصيرون إلى القبر إلى موضع الصلب ويصلون. فقالت اليهود: إن هذا الموضع لا يخفى، وسيكون له نبأ. وإذا رأى الناس القبر خاليا آمنوا به، فطرحوا عليه التراب والزبل، حتى صار مزبلة عظيمة. فلما كان فى أيام قسطنطين الملك، جاءت زوجته إلى بيت المقدس، تطلب الصليب، فجمعت من اليهود والسكان ببيت المقدس وجبل الخليل مائة رجل، واختارت منهم عشرة، واختارت من العشرة ثلاثة، اسم أحدهما يهوذا، فسألتهم أن يدلوها على الموضع، فامتنعوا وقالوا: لا علم لنا بالموضع،
فطرحتهم فى الحبس فى جب لا ماء فيه. فأقاموا سبعة أيام لا يطعمون، ولا يسقون. فقال يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذى تطلب. فصاح الاثنان، فأخرجوهما. فخبراها بما قال يهوذا. فأمرت بضربه بالسياط، فأقر، وخرج إلى الموضع الذى فيه المقبرة. وكان مزبلة عظيمة. فصلى، وقال: اللهم إن كان فى هذا الموضع، فاجعله أن يتزلزل ويخرج منه دخان فتزلزل الموضع، وخرج منه دخان، فأمرت الملكة بكنس الموضع من التراب، فظهرت المقبرة وأصابوا ثلاثة صلبان. فقالت الملكة: كيف لنا أن نعلم صليب سيدنا المسيح؟. وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد أيس منه، فوضع الصليب الأول عليه، ثم الثانى، ثم الثالث. فقام عند الثالث، واستراح من علته. فعلمت أنه صليب المسيح، فجعلته فى غلاف من ذهب، وحملته إلى قسطنطين.
وكان من ميلاد المسيح إلى ظهور هذا الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة.
هذا كله نقله سعيد بن بطريق النصرانى فى تاريخه.
والمقصود: أنهم ابتدعوا هذا العيد بنقل علمائهم بعد المسيح بهذه المدة.
وبعد، فسند هذه الحكاية من بين يهودى ونصرانى، مع انقطاعها، وظهور الكذب فيها لمن له عقل من وجوه كثيرة.
ويكفى فى كذبها وبيان اختلاقها: أن ذلك الصليب الذى شفى العليل كان أولى أن لا يميت الإله الرب المحيى المميت.
ومنها: أنه إذا بقى تحت التراب خشب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة، فإنه ينخر ويبلى لدون هذه المدة.
فإن قال عباد الصليب: إنه لما مس جسم المسيح حصل له الثبات والقوة والبقاء.
قيل لهم: فما بال الصليبين الباقيين لم يتفتتا واشتبها به؟
فلعلهم يقولون: لما مست صليبه مسها البقاء والثبات.
وجهل القوم وحمقهم أعظم من ذلك، والرب سبحانه لما تجلى للجبل تدكدك الجبل، وساخ فى الأرض، ولم يثبت لتجليه، فكيف تثبت الخشبة لركوبه عليها فى تلك الحال؟
ولقد صدق القائل: إن هذه الأمة لعار على بنى آدم أن يكونوا منهم.
فإن كانت هذه الحكاية صحيحة، فما أقربها من حيل اليهود التى تخلصوا بها من
الحبس والهلاك، وحيل بنى آدم تصل إلى أكثر من ذلك بكثير. ولا سيما لما علم اليهود أن ملكة دين النصرانية قاصدة إلى بيت المقدس، وأنها تعاقبهم حتى يدلوها على موضع القتل والصلب، وعلموا أنهم إن لم يفعلوا لم يتخلصوا من عقوبتها.
ومنها: أن عبُّاد الصليب يقولون: إن المسيح لما قتل غار دمه. ولو وقع منه قطرة على الأرض ليبست ولم تنبت، فيا عجبا، كيف يحيى الميت، ويبرأ العليل بالخشبة التى شُهر عليها وصلب؟ أهذا كله من بركتها وفرحها به، وهو مشدود عليها يبكى ويستغيث؟.
ولقد كان الأليق أن يتفتت الصليب ويضمحل لهيبة من صلب عليه وعظمته. ولخسفت الأرض بالحاضرين عند صلبه، والمتمائلين عليه. بل تتفطر السماوات وتنشق الأرض، وتخر الجبال هَدَّا.
ثم يقال لعُبُّاد الصليب: لا يخلوا أن يكون المصلوب الناسوت وحده، أو مع اللاهوت؟ فإن كان المصلوب هو الناسوت وحده، فقد فارقته الكلمة، وبطل اتحادها به. وكان المصلوب جسدا من الأجساد، ليس بإله. ولا فيه شيء من الإلهية والربوبية البتة.
وإن قلتم: إن الصلب وقع على اللاهوت والناسوت معا. فقد أقررتم بصلب الإله وقتله وموته، وقدرة الخلق على أذاه. وهذا أبطل الباطل، وأمحل المحال. فبطل تعلقكم بالصليب من كل وجه عقلا وشرعا.
وأما تلاعبه بهم فى صلاتهم فمن وجوه أحدها: صلاة كثير منهم بالنجاسة والجنابة. والمسيح بريء من هذه الصلاة، وسبحانه الله أن يتقرب إليه بمثل هذه الصلاة، فقدره أعلى، وشأنه أجل من ذلك.
ومنها: صلاتهم إلى مشرق الشمس، وهم يعلمون أن المسيح لم يصل إلى المشرق أصلا. وإنما كان يصلى إلى قبلة بيت المقدس.
ومنها: تصليبهم على وجوههم عند الدخول فى الصلاة، والمسيح بريء من ذلك، فصلاة مفتاحها النجاسة، وتحريمها التصليب على الوجه، وقبلتها الشرق، وشعارها الشرك، كيف يخفى على العاقل أنها لا تأتى بها شريعة من الشرائع البتة؟.
ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة: أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة، شدوه بالحيل والصور فى الحيطان، بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول البصائر، وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة، والغلظة والمكر والكذب والبهت، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم، والفواحش، والفجور، والبدعة، والغلو فى المخلوق، حتى يتخذه إلها من دون الله، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم، فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه، ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور، والشرك، والفواحش.
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا. وقالوا: ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.
ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظمهم الجهال: من البدع والظلم، والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به. فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به.
فالله طليب قطاع طريق الله، وحسيبهم.
فهذه إشارة يسيرة جدا إلى تلاعب الشيطان بعبَّاد الصليب، تدل على ما بعدها. والله الهادى الموفق.
فصل: فى ذكر تلاعبه بالأمة الغضبية وهم اليهود
قال الله تعالى فى حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بَمَا أَنْزَلَ
الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِه عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءوا بِغَضَبٍ عَلَى غضَبٍ} [البقرة: 90] .
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنُفُسُهُم أَنْ سخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80] .
وقد أمرنا الله سبحانه أن نسأله فى صلواتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون".
فأول تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى حياة نبيها، وقرب العهد بإنجائهم من فرعون وإغراقه وإغراق قومه، فلما جاوزوا البحر رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم فقالوا:{يَا مُوسَى اجْعَلْ لنا إِلهاً كمَا لَهُمْ آلَهِةٌ} [الأعراف: 138] .
فقال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هؤلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ، وَبَاطِلٌ مَا كانُوا يعْمَلُونَ} [الأعراف: 138] .
فأى جهل فوق هذا؟ والعهد قريب، وإهلاك المشركين أمامهم، بمرأى من عيونهم. فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلها. فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلها مخلوقا وكيف يكون الإله مجعولا؟ فإن الإله هو الجاعل لكل ما سواه. والمجعول مربوب مصنوع، فيستحيل أن يكون إلها.
وما أكثر الخلف لهؤلاء فى اتخاذ إله مجعول، فكل من اتخذ إلها غير الله فقد اتخذ إلها مجعولا.
وقد ثبت عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "أنه كان فى بعض غزواته، فمروا بشجرة يعلق عليها المشركون أسلحتهم وشاراتهم وثيابهم، يسمونها ذات أنواط. فقال بعضهم: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، ثم قال: لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة".
فصل
ومن تلاعبه بهم: عبادتهم العجل من دون الله تعالى، وقد شاهدوا ما حل بالمشركين من العقوبة، والأخذة الرابية، ونبيهم حى لم يمت.
هذا، وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه، ويصليه النار، ويدقه بالمطرقة، ويسطو عليه بالمبرد، ويقلبه بيديه ظهرا لبطن.
ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم، حتى جعلوه إله موسى. فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى، بل عبادة أبلد الحيوانات، وأقلها دفعا على نفسه، بحيث يضرب به المثل فى البلادة والذل. فجعلوه إله كليم الرحمن.
ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا، فقالوا {فنسى} [طه: 88] .
قال ابن عباس "أى ضل وأخطأ الطريق".
وفى رواية عنه "أى إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه".
وعنه أيضا "نسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم".
وقال السدى "أى ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه".
وقال قتادة "أى إن موسى إنما يطلب هذا، ولكنه نسيه وخالفه فى طريق آخر".
هذا هو القول المشهور: أن قوله "فنسى" من كلام السامرى وعباد العجل معه.
وعن ابن عباس رواية أخرى "أن هذا من إخبار الله تعالى عن السامرى: أنه نسى، أى ترك ما كان عليه من الإيمان".
والصحيح القول الأول. والسياق يدل عليه، ولم يذكر البخارى فى التفسير غيره، فقال يقولونه:"أخطأ الرب".
فإنه لما جعله إله موسى استحضر سؤالا من بنى إسرائيل يوردونه عليه، فيقولون له: إذا كان هذا إله موسى، فلأى شيء ذهب عنه لموعد إلهه؟ فأجاب عن هذا السؤال قبل إيراده عليه بقوله "فنسى".
وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم.
فانظر إلى هؤلاء، كيف اتخذوا إلها مصنوعا من جوهر أرضى، إنما يكون تحت التراب، محتاجا إلى سبك بالنار، وتصفية وتخليص لخبثه منه، مدقوقا بمطارق الحديد، مقلبا فى النار مرة بعد مرة، قد نحت بالمبارد، وأحدث الصانع صورته وشكله على صورة الحيوان المعروف بالبلادة والذل والضيم. وجعلوه إله موسى، ونسبوه إلى الضلال، حيث ذهب يطلب إلها غيره.
قال محمد بن جرير: وكان سبب اتخاذهم العجل ما حدثنى به عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنى إبراهيم بن بشار الرمادى حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: "لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه، وكان فرعون على فرس أدهم [ذنوب] فلما هجم فرعون على البحر هاب الحصان أن يقتحم فى البحر، فمثل له جبريل على فرس أنثى [وَدِيق] فلما رآها الحصان تقحم خلفها، قال: وعرف السامرى
جبريل [لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته فى غار وأطبقت عليه. وكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه، فيجد فى بعض أصابعه لبنا، وفى الأخرى عسلا، وفى الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ، فلما عاينه فى البحر عرفه] . فقبض قبضة من أثر فرسه. قال: أخذ قبضة من تحت الحافر.
قال سفيان: وكان ابن مسعود يقرؤها: "فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول".
قال أبو سعيد: قال عكرمة عن ابن عباس "وألقى فى روع السامرى: إنك لا تلقيها على شيء، فتقول: كن كذا وكذا إلا كان، فلم تزل القبضة معه فى يده، حتى جاوز البحر، فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر، وأغرق الله آل فرعون. قال موسى لأخيه هارون: اخلفنى فى قومى وأصلح، ومضى موسى لموعد ربه. قال: وكان مع بنى إسرائيل حلى من حلى آل فرعون قد استعاروه، فكأنهم تأثموا منه، فأخرجوه لتنزل النار فتأكله. فلما جمعوه قال السامرى بالقبضة التى كانت فى يده هكذا. [وأومأ ابن إسحاق بيده هكذا]، فقذفها فيه وقال: كن عجلا جسدا له خوار، فصار عجلا جسدا له خوار، فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه، يسمع له صوت.
{فَقَالَ هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى} [طه: 88] .
فعكفوا على العجل يعبدونه. فقال هارون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى قَالُوا لنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى} [طه: 89 - 90] .
وقال السدى "لما أمر الله موسى أن يخرج ببنى إسرائيل من أرض مصر أمر موسى بنى إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلى من القبط. فلما نجى الله موسى ومن معه من بنى إسرائيل من البحر، وأغرق آل فرعون أتى جبريل إلى موسى ليذهب به إلى الله، فأقبل على فرس، فرآه السامرى، فأنكره. ويقال: إنه فرس الحياة. فقال حين رآه: إن لهذا لشأنا، فأخذ من تربة حافر الفرس. فانطلق موسى عليه السلام واستخلف هارون على بنى إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، فأتمها الله تعالى بعشر. فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل، إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حلى القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعا
واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذ تموها [وإلا كان شيئا لم تأكلوه] فجمعوا ذلك الحلى فى تلك الحفرة، وجاء السامرى بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلى عجلا جسدا له خوار [وعدت بنو إسرائيل موعد موسى فعدوا الليلة يوما واليوم يوما. فلما كان تمام العشرين أخرج لهم العجل] فلما رأوه قال لهم السامرى- هذا إلهكم وإله موسى فنسى- يقول: ترك موسى إلهه هاهنا، وذهب يطلبه. فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشى، فقال لهم هارون: يا بنى إسرائيل، إنما فتنتم به، يقول إنما ابتليتم بالعجل:
{وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ} [طه: 90] ، فأقام هارون ومن معه من بنى إسرائيل، لا يقاتلونهم. وانطلق موسى إلى الله يكلمه، فلما كلمه قال له:{مَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى} [طه: 83-85] .
فأخبره خبرهم. قال موسى: "يا رب هذا السامرى أمرهم أن يتخذوا العجل.
فالروح من نفخها فيه؟ قال الرب تعالى: أنا، قال: يا رب أنت إذاً أضللتهم".
وقال ابن إسحق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "كان السامرى [من أهل باجِرما] من قوم يعبدون البقر، فكان يحب عبادة البقر فى نفسه، وكان قد أظهر الإسلام فى بنى إسرائيل. فلما ذهب موسى إلى ربه قال لهم هارون: أنتم قد حملتم أوزارا من زينة القوم آل فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها، فإنها نجس، وأوقد لهم نارا. فقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما كان معهم من تلك الأمتعة والحلى، فيقذفون به فيها، حتى إذا انكسر الحلى فيها، ورأى السامرى أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر فرس جبريل، فأخذ ترابا من أثر حافره، ثم أقبل إلى النار، فقال لهارون: يا نبى الله، ألقى ما فى يدى؟ ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلى والأمتعة. فقذفه فيها، فقال: كن عجلا جسدا له خوار، فكان البلاء والفتنة. فقال هذا إلهكم وإله موسى، فعكفوا عليه، وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا مثله قط. يقول الله عز وجل: فنسى أى ترك ما كان عليه من الإسلام، يعنى السامرى.
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنْ لَا يَرْجِع إِلَيْهِمْ قوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرا وَلا نُفْعاً} [طه: 89] .
[وكان اسم السامرى موسى بن ظفر وقع فى أرض مصر فدخل فى بنى إسرائيل] .
فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى. قَالُوا لنْ نبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَي} [طه:90] .
فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل وتخوف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى:
{فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إسْرَائِيلَ وَلَمْ تّرْقُبْ قَوْلِى} [طه: 94] .
وكان له هائبا مطيعا.
فقال تعالى مذكرا لبنى إسرائيل بهذه القصة التى جرت لأسلافهم مع نبيهم
{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ ليْلَةً ثُمُ اتخذتم الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِه} [البقرة: 51] .
يعنى من بعد ذهابه إلى ربه، وليس المراد من بعد موته.
{وَأَنْتُمْ ظَالُمِونَ} [البقرة: 51] .
أى بعبادة غير الله تعالى، لأن الشرك أظلم الظلم، لأن المشرك وضع العبادة فى غير موضعها.
فلما قدم موسى عليه السلام ورأى ما أصاب قومه من الفتنة اشتد غضبه، وألقى الألواح عن رأسه، وفيها كلام الله الذى كتبه له، وأخذ برأس أخيه ولحيته، ولم يعتب الله عليه فى ذلك، لأنه حمله عليه الغضب لله. وكان الله عز وجل قد أعلمه بفتنة قومه، ولكن لما رأى الحال مشاهدة حدث له غضب آخر، فإنه ليس الخبر كالمعاينة.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة فى حياة نبيهم أيضا:
ما قصه الله تعالى فى كتابه حيث يقول: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَة} [البقرة: 55][أى عيانا] .
قال ابن جرير: ذكرهم الله سبحانه بذلك اختلاف آبائهم، وسوء استقامة أسلافهم لأنبيائهم، مع كثرة معاينتهم من آيات الله ما يثلج بأقلها الصدور، وتطمئن بالتصديق معها النفوس. وذلك مع تتابع الحجج عليهم، وسبوغ النعم من الله تعالى لديهم. وهم مع ذلك مرة يسألون نبيهم أن يجعل لهم إلها غير الله، ومرة يعبدون العجل من دون الله، ومرة يقولون: لا نصدقك حتى نرى الله جهرة، وأخرى يقولون له إذا دعوا إلى القتال.
{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدْونَ} [المائدة: 24] ومرة يقال لهم {قُولوا حطّةٌ
وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُم} [البقرة: 58] .
فيقولون "حبة فى شعيرة" ويدخلون من قِبَل أستاههم. ومرة يعرض عليهم العمل بالتوراة، فيمتنعون من ذلك، حتى نتق الله تعالى عليهم الجبل كأنه ظلة، إلى غير ذلك من أفعالهم، التى آذوا بها نبيهم، التى يكثر إحصاؤها. فأعلم ربنا تبارك وتعالى الذين خاطبهم بهذه الآيات من يهود بنى إسرائيل، الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لن يعدوا أن يكونوا فى تكذيبهم محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم وجحودهم نبوته، وتركهم الإقرار به وبما جاء به، مع علمهم به ومعرفتهم بحقيقة أمره كأسلافهم، وآبائهم الذين قص الله علينا قصصهم.
وقال محمد بن إسحق: لما رجع موسى إلى قومه، فرأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامرى ما قال، وحرق العجل وذراه فى اليمْ، اختار موسى منهم سبعين رجلا، الخيِّر فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إلى الله مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قوكم، فصوموا وتطهروا، وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه، فقال له السبعون - فيما ذكر لى - حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء الله: يا موسى اطلب لنا إلى ربك أن نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام، حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فأدخل فيه وقال للقوم: ادنوا وكان موسى عليه السلام إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بنى آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم، حتى إذا دخلوا فى الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه تعالى وهو يكلم نبيه موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ الله من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى عليه السلام:
{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة: 55] .
فماتوا جميعا. وقام موسى عليه السلام يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاى، أَتُهْلِكُنَا بَما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] .
فإن قيل: فما مقصود موسى بقوله: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبلُ} [الأعراف: 155] .
فقد ذكر فيه وجوه:
فقال السدى: لما ماتوا قام موسى يبكى، ويقول: يا رب، ماذا أقول لبنى إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟.
وقال محمد بن إسحق: اخترت منهم سبعين رجلا، الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معى منهم رجل واحد؟ فما الذى يصدقونى به، أو يأمنونى عليه بعد هذا؟.
وعلى هذا، فالمعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا. فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهموننى.
وقال الزجاج: المعنى: لو شئت أهلكتهم من قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة.
قلت: وهؤلاء كلهم حاموا حول المقصود. والذى يظهر- والله أعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم. يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضى هلاكهم. ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل.
وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم: لو شئت واخذتنى من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعنى عفوك أولا، فليسعنى اليوم.
ثم قال نبى الله {أَتهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155] .
فقال ابن الأنبارى وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أى لست تفعل ذلك.
والسفهاء هنا: عبدة العجل.
قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: {أَتُهْلِكُنَا بمَا فَعَلَ
السُّفَهَاء مِنَّا} [الأعراف: 155] .
وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ثم قال {إِنّ هِى إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] .
وهذا من تمام الاستعطاف، أى ما هى إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك. فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم: أنهم قيل لهم، وهم مع نبيهم، والوحى ينزل عليه من الله تعالى:{ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] .
قال قتادة، وابن زيد، والسدى، وابن جرير وغيرهم: هى قرية بيت المقدس:
{فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} [البقرة: 58]، أى: هنيئاً واسعاً، {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} [البقرة: 58] .
قال السدى: هو باب من أبواب بيت المقدس. وكذلك قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما، قال: والسجود بمعنى الركوع. وأصل السجود: الانحناء لمن تعظمه. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد، قاله ابن جرير وغيره.
قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقيين عند السلام، أحدهما لصاحبه من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ثم قيل لهم {قُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] .
أى حط عنا خطايانا. هذا قول الحسن، وقتادة، وعطاء.
وقال عكرمة وغيره: أى قولوا: "لا إله إلا الله" وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التى تحط بها الخطايا، وهى كلمة التوحيد.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس "أمروا بالاستغفار".
وعلى القولين: فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم. فتلاعب الشيطان بهم، فبدلوا قولا غير الذى قيل لهم، وفعلا غير الذى أمروا به.
فروى البخارى فى صحيحه ومسلم أيضاً، من حديث همام بن منبه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "قِيلَ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا: حَبَّةٌ فى شَعْرَةٍ. فبَدَّلُوا القولَ وَالفِعْلَ معاً. فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ".
قال أبو العالية: هو الغضب. وقال ابن زيد: هو الطاعون.
وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم كانوا فى البريَّة قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيش الثوم والبصل، والعدس، والبقل، والقثاء. فسألوه موسى عليه السلام.
وهذا من سوء اختيارهم لأنفسهم، وقلة بصرهم بالأغذية النافعة الملائمة، واستبدال الأغذية الضارة القليلة التغذية منها، ولهذا قال لهم موسى عليه السلام:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ؟ اهْبِطُوا مِصْراً -أى مصرا من الأمصار- فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] .
فكانوا فى أفسح الأمكنة وأوسعها، وأطيبها هواء، وأبعدها عن الأذى، ومجاورة الأنتان والأقذار، سقفهم الذى يظلهم من الشمس: الغمام، وطعامهم: السلوى، وشرابهم: المن.
قال ابن زيد: كان طعام بنى إسرائيل فى التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل من السماء، يقال له: المن. وطعامهم طير، يقال له: السلوى يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكن لهم خبز ولا غيره.
ومعلوم فضل هذا الغذاء والشراب على غيرهما من الأغذية والأشربة.
وكانوا مع ذلك يتفجر لهم من الحجر اثنا عشر عينا من الماء. فطلبوا الاستبدال بما هو دون ذلك بكثير. فذموا على ذلك فكيف بمن استبدل الضلال بالهدى، والغى بالرشاد، والشرك بالتوحيد، والسنة بالبدعة، وخدمة الخالق بخدمة المخلوق، والعيش الطيب فى المساكن الطيبة فى جوار الله تعالى بحظه من العيش النكد الفانى فى هذه الدار؟
فصل
ومن تلاعبه بهم: أنهم لما عرضت عليهم التوراة لم يقبلوها، وقد شاهدوا من الآيات ما شاهدوه، حتى أمر الله سبحانه جبريل، فقلع جبلا من أصله على قدرهم. ثم رفعه فوق رؤوسهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوها ألقيناه عليكم، فقبلوها كرها. قال الله تعالى:
قال عبد الله بن وهب قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح، قال لبنى إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، وأمره الذى أمركم به، ونهيه الذى نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذ بقولك أنت؟ لا والله، حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا، فيقول: هذا كتابى فخذوه. فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابى فخذوه؟ فجاءت غضبة من الله تعالى. فجاءتهم صاعقة فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله تعالى بعد موتهم. فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أى شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا. فقال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. قال: فبعث الله ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، الطور. قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق.
وقال السدى: لما قال الله تعالى لهم: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] .
فأبوا أن يسجدوا، فأمر الله الجبل أن يرتفع فوق رؤوسهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر فكشفه عنهم، ثم تولوا من بعد هذه الآيات وأعرضوا،
ولم يعملوا بما فى كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم. فقال تعالى مذكرا لهؤلاء بما جرى من أسلافهم.
فصل
ومن تلاعبهم بهم: أن الله سبحانه أنجاهم من فرعون وسلطانه وظلمه، وفرق بهم البحر، وأراهم الآيات والعجائب، ونصرهم وآواهم وأعزهم، وآتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين.
ثم أمرهم أن يدخلوا القرية التى كتب الله لهم وفى ضمن هذا بشارتهم بأنهم منصورون ومفتوح لهم. وأن تلك القرية لهم. فأبوا طاعته وامتثال أمره، وقابلوا هذا الأمر والبشارة، بقولهم:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قاعِدُونَ} [المائدة: 24] .
وتأمل: تلطف نبى الله تعالى موسى عليه السلام بهم، وحسن خطابه لهم، وتذكيرهم بنعم الله عليهم، وبشارتهم بوعد الله لهم: بأن القرية مكتوبة لهم، ونهيهم عن معصيته بارتدادهم على أدبارهم، وأنهم إن عصوا أمره، ولم يمتثلوا انقلبوا خاسرين.
فجمع لهم بين الأمر والنهى، والبشارة والنذارة، والترغيب والترهيب، والتذكير بالنعم السالفة. فقابلوه أقبح المقابلة. فعارضوا أمر الله تعالى بقولهم:{يَا مُوسَى إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] .
فلم يوقروا رسول الله وكليمه، حتى نادوه باسمه، ولم يقولوا: يا نبى الله. وقالوا: "إن فيها قوما جبارين" ونسوا قدرة جبار السماوات والأرض الذى يذل الجبابرة لأهل طاعته. وكان خوفهم من أولئك الجبارين - الذين نواصيهم بيد الله- أعظم من خوفهم من الجبار الأعلى سبحانه وكانوا أشد رهبة فى صدورهم منه.
ثم صرحوا بالمعصية والامتناع من الطاعة. فقالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مٍنْهَا} [المائدة: 22] .
فأكدوا معصيتهم بأنواع من التأكيد.
أحدها: تمهيد عذر العصيان بقولهم: {إنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] .
والثانى: تصريحهم بأنهم غير مطيعين، وصدروا الجملة بحرق تأكيد، وهو "إن" ثم حققوا النفى بأداة "لن" الدالة على نفى المستقبل: أى لا ندخلها الآن، ولا فى المستقبل.
ثم علقوا دخولها بشرط خروج الجبارين منها فقال لهم: {رَجُلَانِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23] .
بطاعته والانقياد إلى أمره، من الذين يخافون الله. هذا قول الأكثرين، وهو الصحيح. وقيل: من الذين يخافونهم من الجبارين، أسلما واتبعا موسى عليه السلام:
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] .
أى باب القرية، فاهجموا عليهم، فإنهم قد ملئوا منكم رعبا:{فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23] .
ثم أرشدهم إلى ما يحقق النصر والغلبة لهم وهو التوكل.
فكان جواب القوم أن {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبّداً مَا دَامُوا فِيهَا، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا ههُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] .
فسبحان من عظم حلمه حيث يقابل أمره بمثل هذه المقابلة، ويواجه رسوله بمثل هذا الخطاب، وهو يحلم عنهم، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل وسعهم حلمه وكرمه، وكان أقصى ما عاقبهم به: أن رددهم فى برية التيه أربعين عاما يظل عليهم الغمام من الحر، وينزل عليهم المن والسلوى.
وفى الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: "لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به، أتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك ومن خلفك. فرأيت رسول الله صلى الله تعالى وسلم أشرق وجهه لذلك وسر به".
فما قابلوا نبى الله بهذه المقابلة.
فصل
ومن تلاعبه بهم فى حياة نبيهم أيضا: ما قصه الله سبحانه وتعالى [البقرة: 67 - 74] فى كتابه من قصة القتيل الذى قتلوه وتدافعوا فيه، حتى أمروا بذبح بقرة وضربه ببعضها.
وفى القصة أنواع من العبر:
منها: أن الإخبار بها من أعلام نبوه رسول الله تعالى عليه وآله وسلم.
ومنها: الدلالة على نبوة موسى، وأنه رسول رب العالمين.
ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم: من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم.
ومنها: إثبات الفاعل المختار، وأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، عدل لا يجوز عليه الظلم والجور، حكيم لا يجوز عليه العبث.
ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات، زيادة فى هداية المهتدين، وإعذار وإنذارا للضال.
ومنها: أنه لا ينبغى مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت، وكثرة الأسئلة، بل يبادر إلى الامتثال، فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أى بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعتق رقبة، وأطعم مسكينا، وصم يوما، ونحو ذلك، ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، فإن الآية غنية عن البيان المنفصل، مبينة بنفسها، ولكن لما تعنتوا وشدودا شدد عليهم.
قال أبو جعفر بن جرير عن الربيع عن أبى العالية "لو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها. ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم".
ومنها: أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذى لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار. وذلك نوع من الكفر. فإن القوم لما قال لهم نبيهم: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةَ} [البقرة: 67] .
قابلوا هذا الأمر بقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] .
فلما لم يعلموا وجه الحكمة فى ارتباط هذا الأمر بما سألوه عنه، قالوا:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] .
وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله. فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به. ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك. فلما قال لهم:{أَعُوذَ بِاللهِ أَنْ أكُونَ مِنَ الْجَاهِلينَ} [البقرة: 67] .
وتيقنوا أن الله سبحانه أمره بذلك، أخذوا فى التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها. فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة عن عينها. فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال، توقفوا فى الامتثال، ولم يكادوا يفعلون.
ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 71] .
فإن أرادوا بذلك: إنك لم تأت بالحق قبل ذلك فى أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر. وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التام فى تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله:
{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ كُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] .
فإنه لا إجمال فى الأمر، ولا فى الفعل، ولا فى المذبوح، فقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق من أول مرة.
قال محمد بن جرير: وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى "الآن جئت بالحق" وزعم أن ذلك نفى منهم أن يكون موسى عليه السلام أتاهم بالحق فى أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم، قال: وليس الأمر كما قال عندنا، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذى قالوا لموسى جهلا منهم، وهفوة من هفواتهم.
فصل
ومنها: الإخبار عن قساوة قلوب الأمة وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها.
قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول "إن القوم بعد أن أحيى الله تعالى الميت فأخبرهم بقاتله، أنكروا قتله. وقالوا: والله ما قتلناه، بعد أن رأوا الآيات والحق" قال الله تعالى:
{ثمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِى كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] .
ومنها: مقابلة الظالم الباغى بنقيض قصده شرعا وقدرا. فإن القاتل قصده ميراث المقتول، ودفع القتل عن نفسه، ففضحه الله تعالى وهتكه وحرمه ميراث المقتول.
ومنها: أن بنى إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من بين سائر الدواب. ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة. والبقر من أبلد الحيوان، حتى ليضرب به المثل.
والظاهر: أن هذه القصة كانت بعد قصة العجل. ففى الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذى لا يمتنع من الذبح والحرث والسقى، لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله تعالى، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقى والعمل.
فصل
ومن تلاعبه بهذه الأمة أيضا: ما قصه الله تعالى علينا [البقرة: 65 - 66] من قصة أصحاب السبت، حتى مسخهم قردة لما تحيلوا على استحلال محارم الله تعالى.
ومعلوم أنهم كانوا يعصون الله تعالى بأكل الحرام، واستباحة الفروج والحرام،
والدم الحرام. وذلك أعظم إثما من مجرد العمل يوم السبت. ولكن لما استحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل، وتلاعبوا بدينه، وخادعوه مخادعة الصبيان، ومسخوا دينه بالاحتيال، مسخهم الله تعالى قردة. وكان الله تعالى قد أباح لهم الصيد فى كل أيام الأسبوع إلا يوما واحدا، فلم يدعهم حرصهم وجشعهم حتى تعدوا إلى الصيد فيه، وساعد القدر بأن عوقبوا بإمساك الحيتان عنهم فى غير يوم السبت، وإرسالها عليهم يوم السبت، وهكذا يفعل الله سبحانه بمن تعرض لمحارمه. فإنه يرسلها عليه بالقدر تزدلف إليه بأيها يبدأ.
فانظر ما فعل الحرص، وما أوجب من الحرمان بالكلية. ومن هاهنا قيل: من طلبه كله فاته كله.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم أيضا: أنهم لما حرمت عليهم الشحوم أذابوها، ثم باعوها، وأكلوا أثمانها، وهذا من عدم فقههم وفهمهم عن الله تعالى دينه. فإن ثمنها بدل منها. فتحريمها تحريم لبدلها والمعاوضة عنها. كما أن تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخترير يتناول تحريم أعيانها وأبدالها.
ومن تلاعبه بهم أيضا: اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، وقد لعنهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك، ولعنته تتناول من فعل فعلهم.
ومن تلاعبه بهم أيضا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم. ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى، يحرمون عليهم ويحلون لهم. فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم. ولا يلتفتون: هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا؟.
قال عدى بن حاتم: "أتيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فسألته عن قوله. {اتّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31] . فقلت: يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال: حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فأطاعوهم. فكانت تلك عبادتهم إياهم" رواه الترمذى وغيره.
وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه، ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه، ويحلل له.
ومن تلاعبه بهم: ما كان منهم فى شأن زكريا ويحيى عليهما السلام، وقتلهم لهما، حتى سلط الله عليهم بختنصر، وسنحاريب وجنودهما، فنالوا منهم ما نالوه.
ثم كان منهم فى شأن المسيح ورميه وأمه بالعظائم، وهم يعلمون أنه رسول الله تعالى إليهم فكفروا به بغيا وعنادا، وراموا قتله وصلبه، فصانه الله تعالى من ذلك، ورفعه إليه، وطهره منهم. فأوقعوا القتل والصلب على شبهه، وهم يظنون أنه رسول الله عيسى صلى الله تعالى عليه وسلم. فانتقم الله تعالى منهم، ودمر عليهم أعظم تدمير، وألزمهم كلهم حكم الكفر بتكذيبهم بالمسيح كما ألزم النصارى معهم حكم الكفر بتكذيبهم بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.
ولم يزل أمر اليهود بعد تكذيبهم بالمسيح وكفرهم به فى سفال ونقص إلى أن قطعهم الله تعالى فى الأرض أمما، ومزقهم كل ممزق، وسلبهم عزهم وملكهم، فلم يقم لهم بعد ذلك مُلك إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فكفروا به وكذبوه، فأتم عليهم غضبه، ودمرهم غاية التدمير، وألزمهم ذلا وصغارا لا يرفع عنهم إلى أن ينزل أخوه المسيح من السماء، فيستأصل شأفتهم، ويطهر الأرض منهم، ومن عباد الصليب.
قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ الله بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِه عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة: 90] .
فالغضب الأول: بسبب كفرهم بالمسيح، والغضب الثانى: بسبب كفرهم بمحمد، صلوات الله وسلامه عليهما.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أن ألقى إليهم أن الرب تعالى محجور عليه فى نسخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء
ويحكم ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترساً لهم فى جحد نبوة رسول الله محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء وهو على الله تعالى محال.
وقد أكذبهم الله سبحانه فى نص التوراة، كما أكذبهم فى القرآن. قال الله تعالى:
فتضمنت هذه الآيات بيان كذبهم صريحا فى إبطال النسخ، فإنه سبحانه وتعالى أخبر أن الطعام كله كان حلالا لبنى إسرائيل، قبل نزول التوراة، سوى ما حرم إسرائيل على نفسه منه.
ومعلوم أن بنى إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذى كان لهم حلالا إنما هو بإحلال الله تعالى له على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم، التى كانت حلالا لبنى إسرائيل، وهذا محض النسخ.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] متعلق بقوله: كان حلاً لبنى إسرائيل.
أى كان حلالا لهم قبل نزول التوراة، وهم يعلمون ذلك.
ثم قال تعالى: {قُلْ فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] .
هل تجدون فيها أن إسرائيل حرم على نفسه ما حرمته التوراة عليكم؟ أم تجدون فيها تحريم ما خصه بالتحريم؟ وهى لحوم الإبل وألبانها خاصة. وإذا كان إنما حرم هذا وحده، وكان ما سواه حلالا له ولبنيه، وقد حرمت التوراة كثيرا منه، ظهر كذبكم وافتراؤكم فى إنكار نسخ الشرائع، والحجر على الله تعالى فى نسخها.
فتأمل هذا الموضع الشريف الذى حام حوله أكثر المفسرين، وما وردوه.
وهذا أولى من احتجاج كثير من أهل الكلام عليهم بأن التوراة حرمت أشياء كثيرة
من المناكح، والذبائح، والأفعال، والأقوال. وذلك نسخ لحكم البراءة الأصلية فإن هذه المناظرة ضعيفة جدا. فإن القوم لم ينكروا رفع البراءة الأصلية بالتحريم والإيجاب، إذ هذا شأن كل الشرائع، وإنما أنكروا تحريم ما أباحه الله تعالى، فيجعله حراما، أو تحليل ما كان حرمه فيجعله مباحا. وأما رفع البراءة والاستصحاب فلم ينكره أحد من أهل الملل.
ثم يقال لهذه الأمة الغضبية: هل تقرون أنه كان قبل التوراة شريعة أم لا؟ فهم لا ينكرون أن يكون قبل التوراة شريعة.
فيقال لهم: فهل رفعت التوراة شيئا من أحكام تلك الشرائع المتقدمة أم لا؟
فإن قالوا: لم ترفع شيئا من أحكام تلك الشرائع، فقد جاهروا بالكذب والبهت وإن قالوا: قد رفعت بعض الشرائع المتقدمة، فقد أقروا بالنسخ قطعاً.
وأيضا، فيقال للأمة الغضبية: هل أنتم اليوم على ما كان عليه موسى عليه السلام؟ فإن قالوا: نعم قلنا أليس فى التوراة أن من مس عظم ميت، أو وطئ قبرا، أو حضر ميتا عند موته، فإنه يصير من النجاسة بحال لا مخرج له منها إلا برماد البقرة التى كان الإمام الهارونى يحرقها؟ فلا يمكنهم إنكار ذلك.
فيقال لهم: فهل أنتم اليوم على ذلك؟.
فإن قالوا: لا نقدر عليه، فيقال لهم: لم جعلتم أن من مس العظم والقبر والميت طاهرا يصلح للصلاة، والذى فى كتابكم خلافه؟.
فإن قالوا: لأنا عدمنا أسباب الطهارة، وهى رماد البقرة، وعدمنا الإمام المطهر ليستغفر.
فيقال لهم: فهل أغناكم عدمه عن فعله، أو لم يغنكم؟
فإن قالوا: أغنانا عدمه عن فعله.
قيل لهم: قد تبدل الحكم الشرعى من الوجوب إلى إسقاطه لمصلحة التعذر.
فيقال: وكذلك يتبدل الحكم الشرعى بنسخه لمصلحة النسخ، فإنكم إن بنيتم على اعتبار المصالح والمفاسد فى الأحكام، فلا ريب أن الشيء يكون مصلحة فى وقت دون وقت، وفى شريعة دون أخرى، كما كان تزويج الأخ بالأخت مصلحة فى شريعة آدم عليه السلام، ثم صار مفسدة فى سائر الشرائع، وكذلك إباحة العمل يوم السبت كان مصلحة فى شريعة إبراهيم عليه السلام ومن قبله وفى سائر الشرائع، ثم صار مفسدة فى شريعة موسى عليه السلام، وأمثال ذلك كثيرة.
وإن منعتم مراعاة المصالح فى الأحكام، ومنعتم تعليلها بها، فالأمر حينئذ أظهر، فإنه سبحانه يحلل ما يشاء، ويحرم ما يشاء، والتحليل والتحريم تبع لمجرد مشيئته، لا يسأل عما يفعل.
وإن قلتم: لا نستغنى فى الطهارة عن ذلك الطهور الذى كان عليه أسلافنا، فقد أقررتم بأنكم الأنجاس أبدا، ولا سبيل لكم إلى حصول الطهارة.
فإن قالوا: نعم، الأمر كذلك.
قيل لهم: فإذا كنتم أنجاساً على مقتضى أصولكم، فما بالكم تعتزلون الحائض بعد انقطاع الحيض وارتفاعه سبعة أيام، اعتزالا تخرجون فيه إلى حد لو أن أحدكم لمس ثوبه ثوب المرأة نجستموه مع ثوبه.
فإن قلتم: ذلك من أحكام التوراة.
قيل لكم: ليس فى التوراة أن ذلك يراد به الطهارة، فإذا كانت الطهارة قد تعذرت عندكم، والنجاسة التى أنتم عليها لا ترتفع بالغسل، فهى إذاً أشد من نجاسة الحيض.
ثم إنكم ترون أن الحائض طاهر إذا كانت من غير ملتكم، ولا تنجسون من لمسها، ولا الثوب الذى تلمسه، فتخصيص هذا الأمر بطائفتكم ليس فى التوراة.
فصل
قالت الأمة الغضبية:
التوراة قد حظرت أمورا، كانت مباحة من قبل، ولم تأت بإباحة محظور، والنسخ الذى ننكره ونمنع منه: هو ما أوجب إباحة محظور، لأن تحريم الشيء إنما هو لأجل ما فيه من المفسدة، فإذا جاءت شريعة بتحريمه كان ذلك من مؤكداتها ومقرراتها فإذا جاء من أباحه علمنا بإباحة المفسدة: أنه غير نبى، بخلاف تحريم ما كان مباحا، فإنا نكون متعبدين بتحريمه.
قالوا: وشريعتكم جاءت بإباحة كثير مما حرمته التوراة، مع أنه إنما حرم لما فيه من المفسدة.
فهذه النكتة هى التى تعتمد عليها الأمة الغضبية، ويتلقاها خالف منهم عن سالف والمتكلمون لم يشفوهم فى جوابها. وإنما أطالوا معهم الكلام فى رفع البراءة الأصلية بالشرائع، وفى نسخ الإباحة بالتحريم.
ولعمر الله إنه لمما يبطل شبهتهم، لأن رفع البراءة الأصلية، ورفع الإباحة بالتحريم هو تغيير لما كان عليه الحكم الاستصحابى أو الشرعى، بحكم آخر لمصلحة اقتضت تغييره، ولا فرق فى اقتضاء المصلحة بين تغيير الإباحة بالتحريم، أو تغيير التحريم بالإباحة.
والشبهة التى عرضت لهم فى أحد الموضعين هى بعينها فى الموضع الآخر، فإن إباحة الشى فى الشريعة تابع لعدم مفسدته، إذا لو كانت فيه مفسدة راجحة لم تأت الشريعة بإباحته. فإذا حرمته الشريعة الأخرى وجب قطعا أن يكون تحريمه فيها هو المصلحة، كما كان إباحته فى الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة فى الشريعة الأولى هو المصلحة، فإن تضمن إباحة الشحوم المحرمة فى الشريعة الأولى إباحة المفاسد- وحاشا لله- تضمن تحريم المباح فى الشريعة الأولى تحريم المصالح. وكلاهما باطل قطعا.
فإذا جاز أن تأتى شريعة التوراة بتحريم ما كان إبراهيم ومن تقدمه يستبيحه، فجائز أن تأتى شريعة أخرى بتحليل بعض ما كان فى التوراة محظورا.
وهذه الشبهة الباطلة الداحضة هى التى ردت بها الأمة الغضبية نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، هى بعينها التى رد بها أسلافهم نبوة المسيح، وتوارثوها كافرا عن كافر. وقالوا لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كما قال أسلافهم للمسيح: لا نقر بنبوة من غير شريعة التوراة.
فيقال لهم: فكيف أقررتم لموسى بالنبوة، وقد جاء بتغيير بعض شرائع من تقدمه فإن قدح ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام قدح فى موسى فلا تقدحون، فى نبوتهما بقادح
إلا ومثله فى نبوة موسى سواء، كما أنكم لا تثبتون نبوءة موسى ببرهان إلا وأضعافه شاهد على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فمن أبين المحال أن يكون موسى رسولا صادقا ومحمد ليس برسول، أو يكون المسيح رسولا ومحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ليس برسول.
ويقال للأمة الغضبية أيضا: لا يخلو المحرم، إما أن يكون تحريمه لعينه وذاته، بحيث تمنع إباحته فى زمان من الأزمنة، وإما أن يكون تحريمه لما تضمنه من المفسدة فى زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحال دون حال.
فإن كان الأول، لزم أن يكون ما حرمته التوراة محرما على جميع الأنبياء فى كل زمان ومكان، من عهد نوح إلى خاتم الأنبياء عليهم السلام.
وإن كان الثانى، ثبت أن التحريم والإباحة تابعان للمصالح، وإنما يختلفان باختلاف الزمان والمكان والحال، فيكون الشيء الواحد حراما فى ملة دون ملة، وفى وقت دون وقت، وفى مكان دون مكان، وفى حال دون حال. وهذا معلوم بالاضطرار من الشرائع، ولا يليق بحكمة أحكم الحاكمين غير ذلك.
ألا ترى أن تحريم السبت لو كان لعينه لكان حراما على إبراهيم ونوح وسائر النبيين؟.
وكذلك ما حرمته التوراة من المطاعم والمناكح وغيرها لو كان حراما لعينه وذاته لوجب تحريمه على كل نبى وفى كل شريعة.
وإذا كان الرب تعالى لا حجر عليه، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويبتلى عباده لما يشاء، ويحكم ولا يحكم عليه. فما الذى يحيل عليه ويمنعه أن يأمر أمة بأمر من أوامر الشريعة، ثم ينهى أمة أخرى عنه أو يحرم محرما على أمة ويبيحه لأمة أخرى؟.
بل أى شيء يمنعه سبحانه أن يفعل ذلك فى الشريعة الواحدة فى وقتين مختلفين، بحسب المصلحة، وقد بين ذلك سبحانه وتعالى بقوله:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِير * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْك السَّموَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 106- 107] .
فأخبر سبحانه أن عموم قدرته وملكه وتصرفه فى مملكته وخلقه لا يمنعه أن ينسخ ما يشاء، ويثبت
ما يشاء كما أنه يمحو من أحكامه القدرية الكونية ما يشاء، ويثبت فهكذا أحكامه الدينية الأمرية، ينسخ منها ما يشاء، ويثبت منها ما يشاء.
فمن أكفر الكفر وأظلم الظلم: أن يعارَض الرسول الذى جاء بالبينات والهدى وتدفع نبوته، وتجحد رسالته: بكونه أتى بإباحة بعض ما كان محرما على من قبله، أو تحريم بعض ما كان مباحا لهم. وبالله التوفيق، يضل من يشاء ويهدى من يشاء.
ومن العجب أن هذه الأمة الغضبية تحجر على الله تعالى أن ينسخ ما يشاء من شرائعه، وقد تركوا شريعة موسى عليه السلام فى أكثر ما هم عليه، وتمسكوا بما شرعه لهم أحبارهم وعلماؤهم.
فمن ذلك: أنهم يقولون فى صلاتهم ما ترجمته هكذا "اللهم اضرب ببوق عظيم لفيفنا واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك يا جامع شتات قوم إسرائيل".
ويقولون كل يوم ما ترجمته هكذا "أردد حكامنا كالأولين، ومسراتنا كالابتداء وابْنِ أورشليم قرية قدسك فى أيامنا، وأعزنا بابتنائها، سبحانك يا بانى يورشليم".
فهذا قولهم فى صلاتهم، مع علمهم بأن موسى وهارون عليهما السلام لم يقولا شيئا من ذلك. ولكنها فصول لفقوها بعد زوال دولتهم.
وكذلك صيامهم، كصوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا التى جعلوها فرضا لم يصمها موسى، ولا يوشع بن نون. وكذلك صوم صَلْبِ هامان، ليس شيء من ذلك فى التوراة، وإنما وضعوها لأسباب اقتضت وضعها عندهم.
هذا. مع أنه فى التوراة ما ترجمته "لا تزيدوا على الأمر الذى أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا".
وقد تضمنت التوراة أوامر كثيرة جدا، هم مجمعون على تعطليها وإلغائها فإما أن تكون منسوخة بنصوص أخرى من التوراة أو بنقل صحيح عن موسى عليه السلام، أو باجتهاد
علمائهم. وعلى التقادير الثلاث. فقد بطلت شبهتهم فى إنكار النسخ.
ثم من العجب أن أكبر تلك الأوامر التى هم مجمعون على عدم القول والعمل بها إنما يستندون فيها إلى أقوال علمائهم وأمرائهم. وقد اتفقوا على تعطيل الرجم للزانى، وهو نص التوراة. وتعطيل أحكام كثيرة منصوصة فى التوراة.
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يزعمون أن الفقهاء إذا أحلوا لهم الشيء صار حلالا، وإذا حرموه صار حراما وإن كان نص التوراة بخلافه.
وهذا تجويز منهم لنسخهم ما شاءوا من شريعة التوراة. فحجروا على الرب تعالى وتقدس أن ينسخ ما يريد من شريعته، وجوزوا ذلك لأحبارهم وعلمائهم.
كما تكبر إبليس أن يسجد لآدم، ورأى أن ذلك يغض منه. ثم رضى أن يكون قوادا لكل عاص وفاسق.
وكما أبى عباد الأصنام أن يكون النبى المرسل إليهم بشرا، ثم رضوا أن يكون إلههم ومعبودهم حجراً.
وكما نزهت النصارى بتاركتهم عن الولد والصاحبة، ولم يتحاشوا من نسبة ذلك إلى الله سبحانه تعالى.
وكما نزهت الفرعونية من الجهمية الرب سبحانه أن يكون مستويا على عرشه، لئلا يلزم الحصر، ثم جعلوه سبحانه فى الآبار والحانات، وأجواف الحيوانات.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: ما شددوه على أنفسهم فى باب الذبائح وغيرها، مما ليس له أصل عن موسى عليه السلام، ولا هو فى التوراة، وإنما هو من أوضاع الحاخاميم وآرائهم، وهم فقهاءهم.
ولقد كان لهذه الأمة فى قديم الزمان بالشام والعراق والمدائن مدراس وفقهاء كثيرون، وذلك فى زمن دولة البابليين والفرس، ودولة اليونان والروم، حتى فقهاؤهم فى بعض تلك الدول على تأليف المشنا والتلمود.
فأما المشنا فهو الكتاب الأصغر، ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة.
وأما التلمود فهو الكتاب الأكبر. ومبلغه نحو نصف حمل بغل لكبره.
ولم يكن الفقهاء الذين ألفوه فى عصر واحد. وإنما ألفوه جيلا بعد جيل. فلما نظر المتأخرون منهم إلى هذا التأليف، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وأن فى الزيادات المتأخرة ما يناقض أوائل هذا التأليف، علموا أنهم إن لم يقطعوا ذلك ويمنعوا من الزيادة فيه أدى إلى الخلل الذى لا يمكن سده، قطعوا الزيادة فيه، ومنعوا منها. وحظروا على الفقهاء الزيادة فيه، وإضافة شيء آخر إليه، وحرموا من يضيف إليه شيئا آخر فوقف على ذلك المقدار.
وكانت أئمتهم قد حرموا عليهم فى هذين الكتابين مؤاكلة الأجانب، وهم من كان على غير ملتهم. فحرموا عليهم الأكل من ذبيحة من لم يكن على دينهم، لأن علماءهم علموا أن دينهم لا يبقى فى هذه الخلوة مع كونهم تحت الذل والعبودية، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من هو على غير ملتهم. فحرموا عليهم الأكل من ذبائحهم، ومناكحتهم. ولم يمكن تقرير ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون بها على الله تعالى. لأن التوراة إنما حرمت
عليهم مناكحة غيرهم من الأمم، لئلا يوافقوا الأزواج فى عبادة الأصنام والشرك. وحرم عليهم فى التوراة أكل ذبائح الأمم التى يذبحونها قرباناً إلى الأصنام. لأنه قد سمى عليها اسم غير الله تعالى. فأما الذبائح التى لم تذبح قربانا للأصنام فلم تنطق التوراة بتحريمها. وإنما نطقت بإباحة الأكل من أيدى غيرهم من الأمم وموسى عليه السلام إنما نهاهم عن مناكحة عباد الأصنام، وأكل ما يذبحونها على اسمها.
فما بال هؤلاء لا يأكلون من ذبائح المسلمين وهم لا يذبحون للأصنام، ولا يذكرون اسمها عليها؟
فلما نظر أئمتهم إلى أن التوراة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وأن التوراة قد صرحت بأن تحريم مؤاكلتهم ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة وأن مناكحتهم إنما منع منها خوف استتباعها إلى الانتقال إلى أديانهم وعبادة أوثانهم، ووجدوا جميع هذا واضحا فى التوراة. اختلقوا كتابا فى علم الذباحة، ووضعوا فيه من التشديد والآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والمشقة.
وذلك أنهم أمروهم أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملوها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حرموها. وإن كان بعض أطراف الرئة لاصقا ببعض لم يأكلوه.
وأمروا الذى يتفقد الذبيحة أن يدخل يده فى بطن الذبيحة، ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر، أو أحد الجانبين، ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة، حرموه، ولم يأكلوه. وسموه طريفا. يعنون بذلك أنه تنجس وأكله حرام.
وهذه التسمية هى أصل بلائهم.
وذلك أن التوراة حرمت عليهم أكل الطريفا. والطريفا: هى الفريسة التى يفترسها الأسد أو الذئب، أو غيرهما من السباع. وهو الذى عبر عنه القرآن بقوله تعالى:
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] .
والدليل على ذلك: أنه قال فى التوراة "ولحما فى الصحراء فريسة لا تأكلوه، وللكلب ألقوه".
وأصل لفظ "طريفا" طوارف. وقد جاءت هذه اللفظة فى التوراة فى قصة يوسف عليه السلام، لما جاء إخوته على قميصه بدم كذب، وزعموا أن الذئب افترسه.
وقال فى التوراة "ولحما فى الصحراء فريسة لا تأكلوا" والفريسة إنما توجد غالبا فى الصحراء.
وكان سبب نزول هذا عليهم: أنهم كانوا ذوى أخبية يسكنون البر والتيه، لأنهم مكثوا يترددون فى التيه أربعين سنة، كانوا لا يجدون طعاما إلا المن والسلوى. وهو طائر صغير يشبه السمان. وفيه من الخاصية أن أكل لحمه يلين القلب ويذهب بالخروب والقساوة، فإن هذا الطائر يموت إذا سمع صوت الرعد، كما أن الخطاف يقتله البرد فألهمه الله سبحانه وتعالى أن يسكن جزائر البحر التى لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر، وينتشر فى الأرض.
فجلب الله تعالى إليهم هذا الطائر لينتفعوا به، ويكون اغتذاؤهم به كالدواء لغلظ قلوبهم وقسوتها.
والمقصود: أن مشايخهم تعدوا فى تفسير الطريفا عن موضوعها وما أريد بها.
وكذلك فقهاؤهم اختلقوا من أنفسهم هذيانات وخرافات تتعلق بالرئة والقلب، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من تلك الشروط فهو "دحيا". ومعنى هذه الفظة أنه طاهر. وما كان خارجا عن هذه الشروط فهو "طريفا" وتفسيرها أنه حرام.
قالوا: ومعنى نص التوراة "ولحما فريسة فى الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه" أى إنكم إذا ذبحتم ذبيحة ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل تبيعونها على من ليس من أهل ملتكم.
وفسروا قوله "للكلب ألقوه" أى لمن ليس من أهل ملتكم فأطعموه وبيعوه. وهم أحق بهذا اللقب وأشبه الناس بالكلاب.
ثم إن هذه الأمة الغضبية فرقتان:
إحداهما: عرفوا أن أولئك السلف الذين ألفوا المشنا والتلمود، هم فقهاء اليهود، وهم قوم كذابون على الله وعلى موسى النبى. وهم أصحاب حماقات وتنطع، ودعاوى كاذبة، يزعمون أنهم كانوا إذا اختلفوا فى شيء من تلك المسائل يوحى الله تعالى إليهم بصوت يسمعه جمهورهم، يقول: الحق فى هذه المسألة مع الفقيه فلان، ويسمون هذا الصوت "بث قول".
فلما نظرت اليهود القراءون، وهم أصحاب "عانان وبنيامين" إلى هذه المحالات الشنيعة، وهذا الافتراء الفاحش، والكذب البارد. انفصلوا بأنفسهم عن الفقهاء وعن كل من يقول بمقالاتهم، وكذبوهم فى كل ما افتروا به على الله وزعموا أنه لا يجوز قبول شيء من أقوالهم، حيث ادعوا النبوة، وأن الله تعالى كان يوحى إليهم، كما يوحى إلى الأنبياء.
وأما تلك الترهات التى ألفها الحاخاميم، وهم فقهاؤهم، ونسبوها إلى التوراة وإلى موسى فإن القرائين اطرحوها كلها، وألقوها ولم يحرموا شيئا من الذبائح التى يتولون ذباحتها البتة، ولم يحرموا سوى لحم الجدى بلبن أمه فقط، مراعاة لنص التوراة:
"لا تنضج الجدى بلبن أمه" وليسوا بأصحاب قياس، بل أصحاب ظاهر فقط.
وأما الفرقة الثانية: فهم الربانون، وهم أصحاب القياس، وهم أكثر عددا من القرائين، وفيهم الحاخاميم المفترون على الله تعالى الكذب، الذين زعموا أن الله تعالى كان يخاطب جميعهم فى كل مسألة بالصوت، الذى يسمونه "بث قول".
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، لأن حاخاميمهم أوهموهم أن المأكولات إنما تحل للناس إن استعملوا فيها هذا العلم، الذى نسبوه إلى موسى عليه السلام وإلى الله تعالى، وأن سائر الأمم لا يعرفون هذا، وأنهم إنما شرفهم الله تعالى بهذا وأمثال ذلك من الترهات، فصار أحدهم ينظر من ليس على مذهبه وملته كما ينظر إلى الحيوان البهيم، وينظر مآكل الأمم وذبائحهم، كما ينظر إلى العذرة.
وهذا من كيد الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإن الحاخاميم قصدا بذلك المبالغة فى مخالفتهم الأمم، والإزراء عليهم، ونسبتهم إلى قلة العلم، وأنهم اختصوا دون الأمم بهذه الآصار والأغلال، والتشديدات.
وكلما كان الحاخاميم فيهم أكثر تكلفا وأشد إصرا، وأكثر تحريما، قالوا: هذا هو العالم الربانى.
ومما دعاهم إلى التضييق والتشديد: أنهم مبددون فى شرق الأرض وغربها، فما من جماعة منهم فى بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة، يظهر لهم الخشونة فى دينهم والمبالغة فى الاحتياط، فإن كان من المتفقهة فهو يسرع فى إنكار أشياء عليهم، ويوهمهم التنزه عما هم عليهم، وينسبهم إلى قلة الدين، وينسب ما ينكره عليهم إلى مشايخه، وإلى أهل بلده،
ويكون فى أكثر تلك الأشياء كاذبا، وقصده بذلك إما الرياسة عليهم، وإما تحصيل بعض مآربه منهم، ولا سيما إن أراد المقام عندهم.
فتراه أول ما ينزل بهم لا يأكل من أطعمتهم ولا من ذبائحهم، ويتأمل سكين ذابحهم، وينكر عليهم بعض أمره، ويقول: أنا لا آكل إلا من ذبيحة يدى، فتراهم معه فى عذاب، لا يزال ينكر عليهم المباح، ويوهمهم تحريمه بأشياء يخترعها، حتى لا يشكون فى ذلك.
فإن قدم عليهم قادم آخر، فخاف المقيم أن ينقض عليه القادم، تلقاه وأكرمه، وسعى فى موافقته وتصديقه، فيستحسن ما فعله الأول، ويقول لهم: لقد عظم الله تعالى ثواب فلان، إذ قوى ناموس الدين فى قلوب هذه الجماعة، وشد سياج الشرع عندهم، وإذا لقيه يظهر من مدحه وشكره والدعاء له ما يؤكد أمره.
وإن كان القادم الثانى منكرا لما جاء به الأول من التشديد والتضييق لم يقع عندهم بموقع، وينسبونه إما إلى الجهل، وإما إلى رقة الدين، لأنهم يعتقدون أن تضييق المعيشة، وتحريم الحلال، هو المبالغة فى الدين.
وهم أبدا يعتقدون الصواب والحق مع من يشدد ويضيق عليهم.
هذا إن كان القادم من فقهائهم.
فأما إن كانوا من عبادهم وأحبارهم فهناك ترى العجب العجاب من الناموس الذى يعتمد، والسنن التى يحدثها ويلحقها بالفرائض. فتراهم مسلمين له منقادين، وهو يحتلب درهم، ويجتلب درهمهم، حتى إذا بلغه أن يهوديا جلس على قارعة الطريق يوم السبت، أو اشترى لبنا من مسلم، تلبسه وسبه فى مجمع اليهود، وأباح عرضه ونسبه إلى قلة الدين.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم إذا رأوا الأمر أو النهى مما أمروا به أو نهوا عنه شاقا عليهم، طلبوا التخلص منه بوجوه الحيل. فإن أعيتهم الحيل قالوا: هذا كان علينا لما كان لنا الملك والرياسة.
فمن ذلك: أنهم إذا أقام أخوان فى موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تخرج امرأة الميت إلى رجل أجنبى، بل ولد حميها ينكحها. وأول ولد ممن ينكحها ينسب إلى أخيه الدارج. فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية منه إلى مشيخة قومه، تقول: قد أبى ابن حمى أن يستبقى اسما لأخيه فى إسرائيل. ولم يرد نكاحى، فيحضره الحاكم هناك، ويكلفه أن يقف ويقول: ما أردت نكاحها. فتتناول المرأة نعله فيخرجه من رجله، وتمسكها بيدها وتبصق فى وجهه، وتنادى عليه: كذا فليصنع بالرجل الذى لا يبنى بيت أخيه، ويدعى فيما بعد بالمخلوع النعل وينبز بنوه ببنى مخلوع النعل.
هذا كله مفترض عليهم فيما يزعمون فى التوراة.
وفيه حكمة ملجئة للرجل إلى نكاح زوجة أخيه الدارج. فإنه إذا علم أن ذلك يناله إن لم ينكحها آثر نكاحها عليه. فإن كان مبغضا لها زاهداً فى نكاحها، أو كانت هى زاهدة فى نكاحه مبغضه له، استخرج له الفقهاء حيلة يتخلص بها منها وتتخلص منه، فيلزمونها الحضور عند الحاكم بمحضر من مشايخهم، ويلقنونها أن تقول: أبى ابن حمى أن يقيم لأخيه اسما فى إسرائيل، لم يرد نكاحى: فيلزمونها بالكذب عليه، لأنه أراد نكاحها وكرهته، وإذا لقنوها هذه الألفاظ قالتها، فيأمرونه بالكذب، وأن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها. ولعل ذلك سؤله وأمنيته، فيأمرونه بأن يكذب، ولم يكفهم أن كذبوا عليه، وألزموه أن يكذب، حتى سلطوها على الإخراق به والبصاق فى وجهه. ويسمون هذه مسألة "البياما والجالوس".
وقد تقدم من التنبيه على حيلهم فى استباحتهم محارم الله تعالى بعض ما فيه كفاية.
فالقوم بيت الحيل والمكر، والخبث.
وقد كانوا يتنوعون فى عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنواع الحيل والكيد والمكر عليه وعلى أصحابه، ويرد الله سبحانه وتعالى ذلك كله عليهم.
فتحيلوا عليه وأرادوا قتله مرارا والله تعالى ينجيه من كيدهم.
فتحيلوا عليه وصعدوا فوق سطح وأخذوا رحا أرادوا طرحها عليه، وهو جالس فى ظل حائط، فأتاه الوحى، فقام منصرفاً، وأخذ فى حربهم وإجلائهم.
ومكروا به وظاهروا عليه أعداءه من المشركين، فظفره الله تعالى بهم.
ومكروا به وأخذوا فى جمع العدو له فظفره الله تعالى برئيسهم، فقتله.
ومكروا به وأرادوا قتله بالسم، فأعلمه الله تعالى به، ونجاه منه.
ومكروا فسحروه، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء، ولم يفعله. فشفاه الله تعالى وخلصه.
ومكروا به فى قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِى أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] .
يريدون بذلك تشكيك المسلمين فى نبوته، فإنهم إذا أسلموا أول النهار اطمأن المسلمون إليهم، وقالوا: قد اتبعوا الحق، وظهرت لهم أدلته، فيكفرون آخر النهار، ويجحدون نبوته، ويقولون: لم نقصد إلا الحق واتباعه، فلما تبين لنا أنه ليس به رجعنا عن الإيمان به.
وهذا من أعظم خبثهم ومكرهم.
ولم يزالوا مُوضعِين مجتهدين فى المكر والخبث إلى أن أخزاهم الله بيد رسوله وأتباعه - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ورضى عنهم - أعظم الخزى، ومزقهم كل ممزق وشتت شملهم كل مشتت.
وكانوا يعاهدونه عليه الصلاة والسلام، ويصالحونه. فإذا خرج لحرب عدوه نقضوا عهده.
ولما سلب الله تعالى هذه الأمة ملكها وعزها، وأذلها، وقطعهم فى الأرض، انتقلوا من التدبير بالقدرة والسلطان، إلى التدبير بالمكر والدهاء، والخيانة والخداع. وكذلك كل عاجز جبان سلطانه فى مكره وخداعه، وبهته وكذبه، ولذلك كان النساء بيت المكر والخداع والكذب والخيانة، كما قال الله تعالى عن شاهد يوسف عليه السلام أن قال:
{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكن إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] .
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة: أنهم يمثلون أنفسهم بعناقيد الكرم، وسائر الأمم بالشوك المحيط بأعالى حيطان الكرم.
وهذا من غاية جهلهم وسفههم. فإن المعتنين بمصالح الكرم إنما يجعلون على أعالى حيطانه الشوك، حفظا له، وحياطة وصيانة. ولسنا نرى لليهود من سائر الأمم إلا الضرر والذل والصغار. كما يفعل الناس بالشوك.
ومن تلاعبه بهم أنهم ينتظرون قائما من ولد داود النبى، إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذى وعدوا به.
وهم فى الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال. فهم أكثر أتباعه. وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم عليه السلام يقتلهم، ولا يبقى منهم أحدا.
والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج فى آخر الزمان، فإنهم وعدوا به فى كل ملة. والمسلمون ينتظرون نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء، لكسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود، وعباده من النصارى، وينتظرون خروج المهدى من أهل بيت النبوة، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة الغضبية: أنهم فى العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة يقولون فى صلاتهم "لم تقول الأمم: أين إلههم؟ انتبه. كم تنام يارب؟ استيقظ من رقدتك".
وهؤلاء إنما أقدموا على هذه الكفريات من شدة ضجرهم من الذل والعبودية، وانتظار فرج لا يزداد منهم إلا بعدا. فأوقعهم ذلك فى الكفر والتزندق الذى لا يستحسنه إلا أمثالهم. وتجرءوا على الله سبحانه وتعالى بهذه المناجاة القبيحة، كأنهم ينخونه بذلك لينتخى لهم ويحمى لنفسه فكأنهم يخبرونه سبحانه وتعالى بأنه قد اختار الخمول لنفسه ولأحبابه، ولأبناء أنبيائه. فينخونه للنباهة، واشتهار الصيت.
فترى أحدهم إذا تلا هذه الكلمات فى الصلاة يقشعر جلده، ولا يشك أن هذه المناجاة تقع عند الله تعالى بموقع عظيم. وأنها تؤثر فيه، وتحركه، وتهزه وتنخيه.
ومن ذلك: أنهم ينسبون إلى الله سبحانه وتعالى الندم على الفعل.
فمن ذلك: قولهم فى التوراة التى بأيديهم "وندم الله سبحانه وتعالى على خلق البشر الذين فى الأرض، وشق عليه، وعاد فى رأيه".
وذلك عندهم فى قصة قوم نوح.
وزعموا أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لما رأى فساد قوم نوح، وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر.
وكثير منهم يقول: إنه بكى على الطوفان، حتى رمد، وعادته الملائكة. وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها.
وقالوا أيضا: إن الله تعالى ندم على تمليكه شاؤول على بنى إسرائيل. وأنه قال ذلك لشمويل.
وعندهم أيضا: أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة بدأ ببناء مذبح لله تعالى، وقرب عليه قرابين، وأن الله تعالى استنشق رائحة القتار فقال الله تعالى فى ذاته "لن أعاود لعنة الأرض بسبب الناس، لأن خاطر البشر مطبوع على الرداءة، ولن أهلك جميع الحيوان كما صنعت".
وقد واجهوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضى الله تعالى عنهم بأمثال هذه الكفريات.
فقال قائل منهم للنبى صلى الله عليه وسلم: "إن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، ثم استراح. فشق ذلك على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم:
وتأمل قوله تعالى عقيب ذلك: {فَاصْبرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] .
فإن أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام نسبوه إلى ما لا يليق به، وقالوا فيه ما هو منزه عنه. فأمره الله سبحانه وتعالى أن يصبر على قولهم، ويكون له أسوة بربه سبحانه وتعالى، حيث قال أعداؤه فيه ما لا يليق.
وكذلك قال فنحاص لأبى بكر رضى الله عنه: إن الله فقير ونحن أغنياء. لهذا استقرضنا من أموالنا. فأنزل الله سبحانه وتعالى:
وقالوا أيضاً: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أيديهم، وَلُعِنُوا بَمِا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يشَاءُ} [المائدة: 64] .
ويقولون فى العشر الأول من الشهر الأول من كل سنة: "يا إلهنا وإله آبائنا، أملك على جميع أهل الأرض، ليقول كل ذى نسمة: الله إله إسرائيل قد ملك، ومملكته فى الكل متسلطة".
ويقولون فى هذه الصلاة أيضا: "وسيكون لله تعالى الملك. وفى ذلك اليوم يكون الله تعالى واحدا، واسمه واحدا".
ويعنون بذلك: أنه لا يظهر الملك لله تعالى إلا إذا صارت الدولة لليهود الذين هم صفوته
وأمته. فأما ما دامت الدولة لغير اليهود فإنه سبحانه، وتعالى خامل الذكر عند الأمم، مطعون فى ملكه، مشكوك فى قدرته.
فصل
ومن تلاعب الشيطان بهم: أنهم يقولون بالقدح فى الأنبياء، وأذيتهم.
وقد آذوا موسى عليه السلام فى حياته، ونسبوه إلى ما برأه الله تعالى منه. ونهى الله سبحانه هذه الأمة عن الاقتداء بهم فى ذلك حيث يقول:{يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأه اللهُ مَّمِا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهاً} [الأحزاب: 69] .
وثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال "كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالت بنو إسرائيل: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب موسى يغتسل. فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه. قال: فجمع موسى بأثره، يقول: ثوبى حجر، ثوبى حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوأة موسى. وقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر، حتى نظر إليه بنو إسرائيل، وأخذ ثوبه، وطفق بالحجر ضربا" قال أبو هريرة "والله إن بالحجر لندبا، ستة أو سبعة. من أثر ضرب موسى الحجر" وأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مَّمِا قَالُوا} [الأحزاب: 69] الآية.
وقال ابن جرير، حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن سعيد "قالت بنو إسرائيل: إن موسى آدر. وقالت طائفة: هو أبرص، من شدة تستره".
وقال ابن سيرين عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم "كان موسى رجلا حييا ستيرا، لا يكاد يرى من جلده شيء، استحياء منه. فآذاه من آذاه من بنى إسرائيل وقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة. وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا" وذكر الحديث.
وقال سفيان بن حسين عن الحكم عن ابن جبير عن الحكم بن جبير عن ابن عباس عن على بن أبى طالب فى قوله تعالى: {لا تَكُونُوا كالّذِينَ آذَوْا مُوسَى} [الأحزاب: 69] .
قال "صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون. فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشد حبا لنا منك وألين لنا منك، وآذوه بذلك. فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى مروا به على بنى إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله تعالى من ذلك، فانطلقوا به فدفنوه فلم يطلع على قبره أحد من خلق الله تعالى إلا الَّرخم، فجعله الله تعالى أصم أبكم".
وقال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُنَنِى؟ وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] .
فإنها جملة فى موضع الحال: أى أتؤذوننى وأنتم تعلمون أنى رسول الله إليكم.
وتأمل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّى رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ} [الصف: 5] .
وذلك أبلغ فى العناد.
وكذلك المسيح قال: {يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ إنِّى رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لَمِا بَيْنَ يَدَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِى مِنْ بعْدى اسْمُهُ أحْمَد فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] .
فهذا قليل من كثير من أذاهم لأنبيائهم.
وأما أذاهم لهم بالقتل والبغى فأشهر من أن يذكر.
ولقد بالغوا فى أذى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجهدهم بالقول والفعل، حتى ردهم الله تعالى خاسئين.
ومن قدحهم فى الأنبياء: ما نسبوه إلى نص التوراة.
أنه لما أهلك الله أمة لوط لفسادها، ونجى لوطا بابنتيه فقط، ظن ابنتاه أن الأرض قد
خلت ممن يستبقين منه نسلا. فقالت الصغرى للكبرى: إن أبانا شيخ ولم يبق فى الأرض إنسان يأتينا كسبيل البشر، فهلمى نسقى أبانا خمرا ونضاجعه لنستبقى من أبينا نسلا ففعلتا ذلك بزعمهم.
فنسبوا لوطا النبى عليه السلام إلى أنه سكر، حتى لم يعرف ابنتيه، ثم وطئهما وأحبلهما وهو لا يعرفهما. فولدت إحداهما ولدا أسمته "مواب" يعنى أنه من الأب.
والثانية سمت ولدها "بنى عمو" يعنى أنه من قبيلتها.
وقد أجاب بعضهم عن هذا: بأنه كان قبل نزول التوراة، فلم يكن نكاح الأقارب حراما والتوراة تكذبهم.
فإن فيها "أن إبراهيم الخليل خاف فى ذلك العصر أن يقتله المصريون، حسدا له على زوجته سارة، فأخفى نكاحها، وقال: هى أختى، علما منه بأنه إذا قال ذلك لم يبق للظنون إليهما سبيل".
وهذا أظهر دليل على أن تحريم نكاح الأخت كان ثابتا فى ذلك الزمان. فما ظنك بنكاح البنت الذى لم يشرع ولا فى زمن آدم عليه السلام؟.
وعندهم أيضا فى التوراة التى بأيديهم قصة أعجب من هذه.
وهى أن يهوذا بن يعقوب النبى زوج ولده الأكبر من امرأة يقال لها "تامار" فكان يأتها مستدبرا، فغضب الله تعالى من فعله. فأماته، فزوجها يهوذا من ولده الآخر. فكان إذا دخل بها أنزل على الأرض، علما منه بأنه إن أولدها كان أول الأولاد مدعوا باسم أخيه، ومنسوبا إلى أخيه. فكره الله تعالى ذلك من فعله، فأماته أيضا. فأمرها يهوذا باللحاق ببيت أبيها إلى أن يكبر ولده شبلا، ويتم عقله، حذرًا من أن يصيبه ما أصاب أخويه. فأقامت فى بيت أبيها. ثم ماتت من بعد زوجة يهوذا، وصعد إلى منزل [يقال له مناث] ليحرس غنمه، فلما أخبرت المرأة "تامار" بإصعاد حموها إلى المنزل، لبست زى الزوانى، وجلست فى مستشرف على طريقه لعلمها بشبقه فلما مر بها خالها زانية، فراودها، فطالبته بالأجرة، فوعدها بجدى، ورهن عندها عصاه وخاتمه، ودخل بها، فعلقت منه. فلما أخبر يهوذا أن كنته علقت من الزنا أذن
بإحراقها، فبعث إليه بخاتمه وعصاه. فقالت: من رب هذين أنا حامل. فقال صدقت، ومنى ذلك. واعتذر بأنه لم يعرفها. ولم يستحل معاودتها. ولا تسليمها إلى ولده، وعلقت من هذا الزنا بفارص. قالوا: ومن ولدها داود النبى.
ففى ذلك من نسبتهم الزنا والكفر إلى بيت النبوة ما يقارب ما نسبوه إلى لوط عليه السلام وهذا كله عندهم وفى نص كتابهم. وهم يجعلون هذا نسبا لداود وسليمان عليهما السلام ولمسيحهم المنتظر.
ومن العجب: أنهم يجعلون المسلمين أولاد زنا، ويسمونهم "ممزيريم" واحدها "ممزير" وهو اسم لولد الزنا. لأن فى شرعهم أن الزوج إذا راجع زوجته بعد أن نكحت زوجا غيره فأولادهما أولاد زنا.
وزعموا أن ما جاءت به شريعة الإسلام من ذلك هو من موضوعات عبد الله بن سلام قصد به أن يجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" بزعمهم.
قالوا: وكان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قد رأى أحلاما تدل على أنه صاحب دولة، فسافر إلى الشام فى تجارة لخديجة. واجتمع بأحبار اليهود، وقص عليهم أحلامه، فعلموا أنه صاحب دولة، فأصحبوه عبد الله بن سلام. فقرأ عليه علوم التوراة وفقهها مدة، ونسبوا الفصاحة والإعجاز اللذين فى القرآن إلى عبد الله بن سلام، وأن من جملة ما قرره عبد الله بن سلام: أن الزوجة لا تحل للمطلق ثلاثا إلا بعد أن ينكحها رجل آخر ليجعل أولاد المسلمين "ممزيريم" أولاد زنا.
ولا ريب أن مثل هذا البهت يروج على كثير من حميرهم.
وقد خلق الله تعالى لكل باطل وبهت حملة، كما للحق حملة وليس وراء هذا البهت بهت.
وليس بمستنكر من أمة قدحت فى معبودها وإلهها، ونسبته إلى مالا يليق بعظمته وجلاله، ونسبت أنبياءه إلى ما لا يليق بهم، ورمتهم بالعظائم، أن ينسبوا محمدا صلى الله تعالى وآله
وسلم وبجل وكرم وعظم - إلى ذلك. وعدواته لهم، وملاحمه فيهم، وإجلاؤه لهم من ديارهم وأموالهم، وسبى ذراريهم ونسائهم معلوم، غير مجهول.
وقد نسبت هذه الأمة الغضبية عيسى ابن مريم إلى أنه ساحر، ولد بغية. ونسبت أمه إلى الفجور.
ونسبت لوطا إلى أنه وطئ ابنتيه وأولدهما وهو سكران من الخمر.
ونسبوا سليمان عليه السلام إلى أنه كان ملكا ساحرا. وكان أبوه عندهم ملكا مسيحا.
ونسبوا يوسف عليه السلام إلى أنه حل تكة سراويله وتكة سراويل سيدته، وأنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته، وأن الحائط انشق له فرأى أباه يعقوب عليه السلام عاضا على أنامله، فلم يقم حتى نزل جبريل عليه السلام فقال "يا يوسف تكون من الزناة، وأنت معدود عند الله تعالى من الأنبياء؟ " فقام حينئذ.
ومعلوم أن ترك الفاحشة عن هذا لا مدح فيه، فإن أفسق الناس لو رأى هذا لولى هاربا وترك الفاحشة.
ومنهم من يزعم أن المسيح كان من العلماء، وأنه كان يداوى المرضى بالأدوية، ويوهمهم أن الانتفاع إنما حصل لهم بدعائه، وأنه داوى جماعة من المرضى فى يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود ذلك، فقال لهم:"أخبرونى عن الشاة من الغنم إن وقعت فى بئر، أما تنزلون إليها وتحلون السبت لتخليصها؟ قالوا: بلى. قال: فلم أحللتم السبت لتخليص الغنم ولا تحلونه لتخليص الإنسان الذى هو أكبر حرمة من الغنم؟ " فأفحموا.
ويحكون أيضا عنه. أنه مشى مع قوم من تلاميذه فى جبل، ولم يحضرهم الطعام، فأذن لهم فى تناول الحشيش يوم السبت، فأنكرت عليه اليهود قطع الحشيش فى يوم السبت، فقال لهم: أرأيتم لو أن أحدكم كان وحيدا مع قوم على غير ملته، وأمروه بقطع النبات وإلقائه لدوابهم لا يقصدون بذلك إبطال السبت، ألستم تجيزون له قطع النبات؟ قالوا: بلى. قال: فإن هؤلاء القوم أمرتهم بقطع النبات ليأكلوه، وليتغذوا به، لا لقطع السبت.
ومن العجب: أن عندهم فى التوراة التى بأيديهم: "لا يزول الملك من آل يهودا والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتى المسيح" وهم لا يقدرون أن يجحدوا ذلك. فيقال لهم: إنكم كنتم أصحاب دولة حتى ظهر المسيح، ثم انقضى ملككم، ولم يبق لكم اليوم ملك. وهذا برهان على أن المسيح قد أرسل.
ومن حين بعث المسيح وكفروا به وطلبوا قتله، استولت ملوك الروم على اليهود وبيت المقدس، وانقضت دولتهم وتفرق شملهم.
فيقال لهم: ما تقولون فى عيسى ابن مريم؟.
فيقولون: إنه ولد يوسف النجار لِغَيَّة لا لِرَشْدَة وقد كان عرف اسم الله الأعظم سحر به كثيرا من الأشياء.
وعند هذه الأمة الغضبية أيضا: أن الله تعالى كان قد أطلع موسى عليه السلام على الاسم المركب من اثنين وأربعين حرفا، وبه شق البحر، وعمل المعجزات.
فيقال لهم فإذا كان موسى قد عمل المعجزات باسم الله، فلم صدقتم نبوته، وأقررتم بها وجحدتم نبوة عيسى، وقد عمل المعجزات بالاسم الأعظم؟
فأجاب بعضهم عن الإلزام: بأن الله سبحانه وتعالى علم موسى ذلك الاسم، فعلمه بالوحى، وعيسى إنما تعلم من حيطان بيت المقدس.
وهذا هو اللائق ببهتهم وكذبهم على الله تعالى وأنبيائه. وهو يسد عليهم العلم بنبوة موسى. لأن كلا الرسولين اشتركا فى المعجزات والآيات الظاهرة، التى لا يقدر أحد أن يأتى بمثلها. فإن كان أحدهما قد تعلمها بحيله أو بعلم. فالآخر يمكن ذلك فى حقه.
وقد أخبرا جميعا أن الله سبحانه وتعالى هو الذى أجرى ذلك على أيديهما، وأنه ليس من صنعهما. فتكذيب أحدهما وتصديق الآخر تفريق بين المتماثلين.
وأيضا، فإنه لا دليل لهم على أن موسى تلقى تلك المعجزات عن الله تعالى إلا وهو يدل على أن عيسى عليه السلام تلقاها أيضا عن الله تعالى. فإن أمكن القدح فى معجزات عيسى أمكن القدح فى معجزات موسى عليه السلام. وإن كان ذلك باطلا فهذا أيضا باطل.
وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين - مع بعد العهد، وتشتت شمل أمتيهما فى الأرض، وانقطاع معجزاتهما - فما الظن بنبوة من معجزاته وآياته تزيد على الألف؟ والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم، ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن. وأعظهما معجزة كتاب باق غض طرى لم يتغير ولم يتبدل منه شيء، بل كأنه منزل الآن، وهو القرآن العظيم، وما أخبر به يقع كل وقت على الوجه الذى أخبر به كأنه كان يشاهده عيانا؟.
فصل
ولا يمكن البتة أن يؤمن يهودى بنبوة موسى عليه السلام إن لم يؤمن بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا أن يقر بنبوة المسيح إلا بعد إقراره بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وبيان ذلك أن يقال لهاتين الأمتين:
أنتم لم تشاهدوا هذين الرسولين، ولا شاهدتم آياتهما وبراهين نبوتهما. فكيف يسع العاقل أن يكذب نبيا ذا دعوة سابقة، وكلمة قائمة، وآيات باهرة، وتصديق من ليس مثله ولا قريبا منه فى ذلك؟ لأنه لم ير أحد النبيين، ولا شاهد معجزاته. فإذا كذب بنبوة أحدهما لزمه التكذيب بنبوتهما. وإن صدق بأحدهما لزمه التصديق بنبوتهما فمن كفر بنبى واحد فقد كفر بالأنبياء كلهم، ولم ينفعه إيمانه به.
قال الله تعالى: {إِنَّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِه وَيُرِيدُونَ أَنْ يفُرِّقوا بْينَ اللهِ ورُسُلِه وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ ببِعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِ وَيُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلَا أُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، حَقا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً * وَالّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غفُوراً رَحِيماً} [النساء: 150 - 152]، وقال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمنُونَ كُل آمَنَ بِاللهَ مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} [البقرة: 285] .
فنقول للمغضوب عليه: هل رأيت موسى وعاينت معجزاته؟ فبالضرورة يقول: لا.
فنقول له: بأى شيء عرفت نبوته وصدقه؟ فله جوابان.
أحدهما: أن يقول: أبى عرفنى ذلك، وأخبرنى به.
والثانى: أن يقول: التواتر وشهادات الأمم حقق ذلك عندى، كما حققت شهادتهم وجود البلاد النائية، والبحار، والأنهار المعروفة وإن لم أشاهدها.
فإن اختار الجواب الأول، وقال: إن شهادة أبى وإخباره إياى بنبوة موسى هى سبب تصديقى بنبوته.
قلنا له: ولم كان أبوك عندك صادقا فى ذلك، معصوماً عن الكذب؟ وأنت ترى الكفار يعلمهم آباؤهم ما هو كفر عندك. فإذا كنت ترى الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة، قد أخذها أربابها عن آبائهم كأخذك مذهبك عن أبيك، وأنت تعلم أن الذى هم عليه ضلال. فلزمك أن تبحث ما أخذته عن أبيك، خوفا أن تكون هذه حاله.
فإن قال: إن الذى أخذته عن أبى أصح من الذى أخذه الناس عن آبائهم، كفاه معارضة غيره له بمثل قوله.
فإن قال: أبى أصدق من آبائهم وأعرف وأفضل، عارضه سائر الناس فى آبائهم بنظير ذلك.
فإن قال: أنا أعرف حال أبى، ولا أعرف حال غيره.
قيل له: فما يؤمنك أن يكون غير أبيك أصدق من أبيك، وأصدق وأعرف؟.
وبكل حال. فإن كان تقليد أبيه حجة صحيحة، كان تقليد غيره لأبيه كذلك. وإن كان ذلك باطلا، كان تقليده لأبيه باطلا.
فإن رجع عن هذا الجواب واختار الجواب الثانى، وقال: إنما علمت نبوة موسى بالتواتر قرنا بعد قرن. فإنهم أخبروا بظهوره وبمعجزاته وآياته وبراهين نبوته التى تضطرنى إلى تصديقه.
فيقال له: لا ينفعك هذا الجواب. لأنك قد أبطلت ما شهد به التواتر من نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
فإن قلت: تواتر ظهور موسى ومعجزاته وآياته، ولم يتواتر ذلك فى المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قيل لك: هذا هو اللائق ببهت الأمة الغضبية. فإن الأمم جميعهم قد عرفوا أنهم قوم بهت. وإلا فمن المعلوم أن الناقلين لمعجزات المسيح ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم أضعاف أضعافكم بكثير. والمعجزات التى شاهدها أوائلهم لا تنقص عن المعجزات التى أتى بها موسى عليه السلام، وقد نقلها عنهم أهل التواتر جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. وأنت لا تقبل
خبر التواتر فى ذلك وترده، فيلزمك أن لا تقبله فى أمر موسى عليه السلام.
ومن المعلوم بالضرورة: أن من أثبت شيئا ونفى نظيره فقد تناقض.
وإذا اشتهر النبى فى عصر وصحت نبوته فى ذلك العصر بالآيات التى ظهرت عليه لأهل عصره، ووصل خبره إلى أهل عصر آخر، وجب عليهم تصديقه والإيمان به. وموسى ومحمد والمسيح فى هذا سواء ولعل تواتر الشهادات بنبوة موسى أضعف من تواتر الشهادات بنبوة عيسى ومحمد، لأن الأمة الغضبية قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وقطعها فى الأرض، وسلبها ملكها وعزها، فلا عيش لها إلا تحت قهر سواهم من الأمم لها، بخلاف أمة عيسى عليه السلام، فإنها قد انتشرت فى الأرض، وفيهم الملوك، ولهم الممالك.
وأما الحنفاء، فممالكهم قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وملأوا الدنيا سهلا وجبلا فكيف يكون نقلهم لما نقلوه كذبا، ونقل الأمة الغضبية الخاملة القليلة الزائلة صدقا؟.
فثبت أنه لا يمكن يهوديا على وجه الأرض أن يصدق بنبوة موسى عليه السلام إلا بتصديقه وإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولا يمكن نصرانيا البتة الإيمان بالمسيح عليه السلام إلا بعد الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولا ينفع هاتين الأمتين شهادة المسلمين بنبوة موسى والمسيح. لأنهم آمنوا بهما على يد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان إيمانهم بهما من الإيمان بمحمد، وبما جاء له. فلولاه ما عرفنا نبوتهما، ولا أمنا بهما.
ولا سيما فإن أمة الغضب والضلال ليس بأيديهم عن أنبيائهم ما يوجب الإيمان بهم فلولا القرآن ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما عرفنا شيئا من آيات الأنبياء المتقدمين.
فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكتابه هو الذى قرر نبوة موسى ونبوة المسيح، لا اليهود ولا النصارى.
بل كان نفس ظهوره ومجيئه تصديقا لنبوتهما. فإنهما أخبرا بظهوره، وبشرا به قبل ظهوره. فلما بعث كان بعثه تصديقا لهما.
وهذا أحد المعنيين فى قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلَهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جَاءَ بَالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} [الصافات: 36- 37] .
أى مجيئه تصديق لهم من جهتين. من
جهة إخبارهم بمجيئه ومبعثه، ومن جهة إخباره بمثل ما أخبروا به، ومطابقة ما جاءوا به لما جاءوا به. فإن الرسول الأول إذا أتى بأمر لا يعلم إلا بالوحى، ثم جاء نبى آخر لم يقارنه فى الزمان ولا فى المكان، ولا تلقى عنه ما جاء به، وأخبر بمثل ما أخبر به سواء، دل ذلك على صدق الرسولين الأول والآخر. وكان ذلك بمنزلة رجلين أخبر أحدهما بخبر عن عيان، ثم جاء آخر من غير بلده وناحيته، بحيث يعلم أنه لم يجتمع به، ولا تلقى عنه، ولا عمن تلقى عنه فأخبر بمثل ما أخبر به الأول سواء. فإنه يضطر السامع إلى تصديق الأول والثانى.
والمعنى الثانى: أنه لم يأت مكذبا لمن قبله من الأنبياء، مزريا عليهم، كما يفعل الملوك المتغلبون على الناس بمن تقدمهم من الملوك بل جاء مصدقا لهم، شاهدا بنبوتهم. ولو كان كاذبا متقولا منشئا من عنده سياسة، لم يصدق من قبله، بل كان يزرى بهم، ويطعن عليهم، كما يفعل أعداء الأنبياء.
فصل
وقد اختلف أقوال الناس فى التوراة التى بأيديهم: هل هى مبدلة، أم التبديل والتحريف وقع فى التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال طرفين، ووسط.
فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة. ليست التوراة التى أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام، وتعرض هؤلاء لتناقضها وتكذيب بعضها لبعض:
وغلا بعضهم. فجوز الاستجمار بها من البول.
وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام، فقالوا: بل التبديل وقع فى التأويل، لا فى التنزيل.
وهذا مذهب أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى.
قال فى صحيحه: "يحرفون: يزيلون. وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى ولكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله".
وهذا اختيار الرازى فى تفسيره.
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع فى هذه المسألة بين بعض الفضلاء. فاختار هذا المذهب ووهن غيره، فأنكر عليه، فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به.
ومن حجة هؤلاء: أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، وانتشرت جنوبا وشمالا. ولا يعلم عدد نسخها إلا الله تعالى. ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير فى جميع تلك النسخ. بحيث لا يبقى فى الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة. والتغيير على منهاج واحد. وهذا مما يحيله العقل، ويشهد ببطلان.
قالوا: وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم محتجا على اليهود بها: {قُلْ فَائْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] .
قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة، ولهذا لما قرؤوها على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وضع القارئ يده على آية الرجم. فقال له عبد الله بن سلام:
"ارْفَعْ يَدَكَ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ".
فرفعها فإذا هى تلوح تحتها. فلو كانوا قد بدلوا ألفاظ التوراة لكان هذا من أهم ما يبدلونه.
قالوا: وكذلك صفات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومخرجه هو فى التوراة بين جدا. ولم
يمكنهم إزالته وتغييره. وإنما ذمهم الله تعالى بكتمانهم. وكانوا إذا احتج عليهم بما فى التوراة من نعته وصفته يقولون: ليس هو، ونحن ننتظره.
قالوا: وقد روى أبو داود فى سننه عن ابن عمر رضى الله عنه، قال:
"أَتَى نَفُر مِنَ الْيَهُود. فَدَعَوْا رَسولَ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلَم إلى القُفِّ فأتاهم فى بَيْتِ المِدْرَاسِ، فقَالُوا يا أبا القاسم، إِنَّ رَجُلاً مِنَّا زَنَى بامْرَأةٍ، فَاحْكُمْ، فَوَضَعُوا لِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليهِ وَسلَم وِسَادَةً، فَجِلَسَ عَليهَا ثمَّ قَالَ ائْتُونِى بالتَّوْرَاةِ فأُتِى بها فَنَزَعَ الْوِسَادَهَ مِنْ تحْتِهِ، ووَضَعَ التَّوْرَاةَ عَليهَا ثمَّ قالَ آمَنْتُ بِكِ وَبمَنْ أَنْزَلَكِ قالَ ائْتُونَى بأَعْلَمِكُمْ فأُتِى بِفَتى ثم ذكر قِصَّةَ الرَّجْم".
قالوا: فلو كانت مبدلة مغيرة لم يضعها على الوسادة، ولم يقل:"آمَنْتُ بِكِ وبَمنَ أَنْزَلَكِ".
قالوا وقد قال تعالى: {وَتَّمتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيم} [الأنعام: 115] والتوراة من كلماته.
قالوا: والآثار التى فى كتمان اليهود صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فى التوراة ومنعهم أولادهم وعوامهم الاطلاع عليها مشهورة، ومن اطلع عليها منهم، قالوا له ليس به.
فهذا بعض ما احتجت به هذه الفرقة.
وتوسطت طائفة ثالثة. وقالوا: قد زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه. والتبديل فى يسير منها جدا.
وممن اختار هذا القول شيخنا فى كتابه "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح".
قال: وهذا كما فى التوراة عندهم: أن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام:
"اذبح ولدك بكرك، ووحيدك إسحاق" زيادة منهم فى لفظ التوراة.
قلت: وهى باطلة قطعا من عشرة أوجه.
أحدها: أن بكره ووحيده هو إسماعيل باتفاق الملل الثلاث. فالجمع بين كونه مأمور بذبح بكره وتعيينه بإسحاق جمع بين النقيضين.
الثانى: أن الله سبحانه وتعالى أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها إسماعيل عن سارة، ويسكنها فى برية مكة، لئلا تغير سارة. فأمر بإبعاد السرية وولدها عنها، حفظا لقلبها، ودفعا لأذى الغيرة عنها. فكيف يأمر سبحانه وتعالى بعد هذا بذبح ابن سارة وإبقاء ابن السرية؟ فهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعا، ولهذا جعل الله تعالى ذبح الهدايا والقرابين بمكة، تذكيرا للأمة بما كان من قصة أبيهم إبراهيم مع ولده.
الرابع: أن الله سبحانه بشر سارة أم إسحاق: {بِإِسْحقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] . فبشرها بهما جمعيا، فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق، وقد بشر أبويه بولد ولده؟.
الخامس: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة الذبيح وتسليمه نفسه لله تعالى، وإقدام إبراهيم على ذبحه، وفرغ من قصته، قال بعدها:
{وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحقَ نَبِيا مِنَ الصَّالحِينَ} [الصافات: 112] .
فشكر الله تعالى له استسلامه لأمره، وبذل ولده له، وجعل من إثابته على ذلك: أن آتاه إسحق. فنجى إسماعيل من الذبح، وزاده عليه إسحق.
السادس: أن إبراهيم - صلوات الله تعالى وسلامه عليه - سأل ربه الولد. فأجاب الله دعاءه، وبشره، فلما بلغ معه السعى أمره بذبحه. قال تعالى:
{وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالحِينَ فَبَشّرْ نَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 99- 101] .
فهذا دليل على أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولدا، وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعا بنص القرآن.
وأما إسحق فإنما بشر به من غير دعوة منه، بل على كبر السن، وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولهذا تعجبت من حصول الولد منها ومنه.
فتأمل سياق هذه البشارة وتلك، تجدهما بشارتين، متفاوتتين، مخرج إحداهما غير مخرج الأخرى.
والبشارة الأولى كانت له. والثانية كانت لها.
والبشارة الأولى هى التى أمر بذبح من بشر به فيها، دون الثانية.
السابع: أن إبراهيم عليه السلام لم يقدم بإسحاق إلى مكة البتة، ولم يفرق بينه وبين أمه. وكيف يأمره الله تعالى أن يذهب بابن امرأته، فيذبحه بموضع ضرتها فى بلدها، ويدع ابن ضرتها؟.
الثامن: أن الله تعالى لما اتخذ إبراهيم خليلا. والخلة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقا بربه، ليس فيه شعبة لغيره. فلما سأله الولد، وهبه إسماعيل. فتعلق به شعبة من قلبه. فأراد خليله سبحانه أن تكون تلك الشعبة له، ليست لغيره من الخلق. فامتحنه بذبح ولده. فلما أقدم على الامتثال. خلصت له تلك الخلة، وتمحضت لله وحده. فنسخ الأمر بالذبح، لحصول المقصود وهو العزم، وتوطين النفس على الامتثال.
ومن المعلوم: أن هذا إنما يكون فى أول الأولاد، لا فى آخرها. فلما حصل هذا المقصود من الولد الأول لم يحتج فى الولد الآخر إلى مثله. فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه. كما أمر بذبح الأول. فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره فى الأول
على مزاحمة الخلة به مدة طويلة. ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك. وهذا خلاف مقتضى الحكمة فتأمله.
التاسع: أن إبراهيم عليه السلام إنما رزق إسحاق عليه السلام على الكبر، وإسماعيل عليه السلام رزقه فى عنفوانه وقوته. والعادة أن القلب أعلق بأول الأولاد، وهو إليه أميل وله أحب، بخلاف من يرزقه على الكبر. ومحل الولد بعد الكبر كمحل الشهوة للمرأة.
العاشر: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يفتخر بقوله:
"أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ".
يعنى أباه عبد الله، وجده إسماعيل.
والمقصود: أن هذه اللفظة مما زادوها فى التوراة.
ونحن نذكر السبب الموجب لتغيير ما غير منها، والحق أحق ما اتبع، فلا تغلوا غلو المستهينين لها، المتمسخرين بها، بل معاذ الله من ذلك.
ولا نقول: إنها باقية كما أنزلت من كل وجه، كالقرآن.
فنقول، وبالله التوفيق:
علماء اليهود وأحبارهم يعتقدون أن هذه التوراة التى بأيديهم ليست هى التى أنزلها الله تعالى على موسى بن عمران بعينها. لأن موسى عليه السلام صان التوراة عن بنى إسرائيل، خوفا من اختلافهم من بعده فى تأويلها، المؤدى إلى تفرقهم أحزابا. وإنما سلمها إلى عشيرته أولاد لاوى.
ودليل ذلك قوله فى التوراة: "وكتب موسى هذه التوراة ودفعها إلى بنى إسرائيل إلى الأئمة من بنى لاوى".
وكان بنو هارون قضاة اليهود وحكامهم، لأن الإمامة وخدمة القرابين وبيت المقدس كانت موقوفة عليهم. ولم يبذل موسى عليه السلام من التوراة لبنى إسرائيل إلا نصف سورة، وهى التى قال فيها:"وكتب موسى هذه السورة وعلمها بنى إسرائيل".
هذا نص التوراة عندهم، قال:"وتكون لى هذه السورة شاهدة على بنى إسرائيل".
وفيها: قال الله تعالى: "إن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم".
يعنى أن هذه السورة مشتملة على ذم طبائعهم، وأنهم سيخالفون شرائع التوراة، وأن السخط يأتيهم بعد ذلك، وتخرب ديارهم، ويسبون فى البلاد. فهذه السورة تكون متداولة فى أفواههم. كالشاهد عليهم. الموقف لهم على صحة ما قيل لهم.
فما نصت التوراة أن هذه السورة لا تنسى من أفواه أولادهم، دل ذلك على أن غيرها من السور ليس كذلك، وأنه يجوز أن ينسى من أفواههم.
وهذا يدل على أن موسى عليه السلام لم يعط بنى إسرائيل من التوراة إلا هذه السورة فأما بقيتها فدفعها إلى أولاد هارون، وجعلها فيهم، وصانها عمن سواهم.
وهؤلاء الأئمة الهارونيون - الذين كانوا يعرفون التوراة، ويحفظون أكثرها - قتلهم بختنصر على دم واحد، يوم فتح بيت المقدس، ولم يكن حفظ التوراة فرضا عليهم ولا سنة. بل كان كل واحد من الهارونيين يحفظ فصلا من التوراة.
فلما رأى عزرا أن القوم قد أحرق هيكلهم، وزالت دولتهم، وتفرق جمعهم، ورفع كتابهم جمع من محفوظاته، ومن الفصول التى يحفظها الكهنة ما اجتمعت منه هذه التوراة التى بأيديهم ولذلك بالغوا فى تعظيم عزرا هذا غاية المبالغة.
فزعموا أن النور الآن يظهر على قبره، وهو عند بطائح العراق. لأنه جمع لهم ما يحفظ دينهم.
وغلا بعضهم فيه حتى قال: هو ابن الله. ولذلك نسب الله تعالى ذلك إلى اليهود، إلى جنسهم، لا إلى كل واحد منهم.
فهذه التوراة التى بأيديهم فى الحقيقة كتاب عزرا. وفيها كثير من التوراة التى أنزلها الله تعالى على موسى عليه الصلاة والسلام. ثم تداولتها أمة قد مزقها الله تعالى كل ممزق، وشتت شملها فلحقها ثلاثة أمور.
أحدها: بعض الزيادة والنقصان.
الثانى: اختلاف الترجمة.
الثالث: اختلاف التأويل والتفسير.
ونحن نذكر من ذلك أمثلة تبين حقيقة الحال.
المثال الأول:
نص ما تقدم من قوله "ولحم فريسة فى الصحراء لا تأكلوه، وللكلب ألقوه".
وتقدم بيان تحريفهم هذا النص وحمله على غير محمله.
المثال الثاني:
قوله فى التوراة "نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك، به فليؤمنوا".
فحرفوا تأويله، إذ لم يمكنهم أن يبدلوا تنزيله، وقالوا: هذه بشارة بنبى من بنى إسرائيل. وهذا باطل من وجوه.
أحدها: أنه لو أراد ذلك لقال "من أنفسهم" كما قال فى حق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكَمْ} [التوبة: 128] ولم يقل من إخوتكم.
الثانى: أن المعهود فى التوراة: أن إخوتهم غير بنى إسرائيل.
ففى الجزء الأول من السفر الخامس قوله "أنتم عابرون فى تخوم إخوتكم بنى العيص المقدس فى سيعير، إياكم أن تطمعوا فى شيء من أرضهم".
فإذا كان بنو العيص إخوة لبنى إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا إسحاق. والروم هم بنو العيص، واليهود بنو إسرائيل، وهم إخوتهم. فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم.
الثالث: أن هذه البشارة لو كانت بشمويل أو غيره من بنى إسرائيل، لم يصح أن يقال: بنو إسرائيل إخوة بنى إسرائيل. وإنما المفهوم من هذا: أن بنى إسماعيل أو بنى العيص هم إخوة بنى إسرائيل.
الرابع: أنه قال: "سأقيم لهم نبيا مثلك" وفى موضع آخر "أنزل عليه التوراة مثل توراة موسى".
ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بنى إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى، لا سيما وفى التوراة "لا يقوم فى بنى إسرائيل مثل موسى".
وأيضا فليس فى بنى إسرائيل من أنزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام. والمسيح كان من أنفس بنى إسرائيل، لا من إخوتهم، بخلاف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فإنه من إخوتهم بنى إسماعيل.
وأيضا. فإن فى بعض ألفاظ هذا النص "كلكم له تسمعون" وشمويل لم يأت بزيادة ولا بنسخ، لأنه إنما أرسل ليقوى أيديهم على أهل فلسطين، وليردهم إلى شرع التوراة. فلم يأت بشريعة جديدة، ولا كتاب جديد. وإنما حكمه حكم سائر الأنبياء من بنى إسرائيل. فإنهم كانوا يسوسهم الأنبياء. كلما هلك نبى قام فيهم نبى.
فإن كانت هذه البشارة لشمويل، فهى بشارة بسائر الأنبياء الذين بعثوا فيهم. ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام، وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام.
المثال الثالث:
قوله فى التوراة "جاء الله تعالى من طور سيناء، وأشرق نوره من سيعير، واستعلن من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين".
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السراة، الذى يسكنه بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى. ويعلمون أن فى هذا الجبل كان مقام المسيح. ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور.
وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشام. وهذا من بهتهم، وتحريف التأويل.
فإن جبال فاران هى جبال مكة و"فاران" اسم من أسماء مكة. وقد دل على هذا نص التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن برية فاران، وهى جبال مكة. ولفظ التوراة "أن إسماعيل أقام فى برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر".
فثبت بنص التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال فاران، لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها.
ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من ولد إسماعيل عليه السلام.
وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى.
فصل
ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم، وفساد رأيهم وعقولهم كما فى التوراة "أنهم شعب عادم الرأى. فليس فيهم فطانة": أنهم سمعوا فى التوراة "يكون ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك، ولا ينضج الجدى بلبن أمه".
والمراد بذلك: أنهم أمروا عقيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم: أن يستصحبوا معهم إذا حجوا أبكار أغنامهم، وأبكار مستغلات أرضهم، لأنه كان فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة الغنم والبقر وراء أمها سبعة أيام، وفى اليوم الثامن فصاعدا يصلح أن تكون قربانا. فأشار فى هذا النص بقوله "لا ينضج الجدى بلبن أمه" إلى أنهم لا يبالغون فى إطالة مكث باكور أولاد البقر والغنم وراء أمها، بل يستصحبون أبكارهم اللاتى قد عبرت سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس، ليتخذوا منها القرابين.
فتوهم المشايخ البله أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ فى القدر، وأنهم نهوا أن يطبخوا لحم الجدى باللبن.
ولم يكفهم هذا الغلط فى تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن فألغوا لفظ "الجدى" وألغوا لفظ "أمه" وحملوا النص ما لا يحتمله، وإذا أرادوا أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلا منهما على حدة. والأمر فى هذا ونحوه قريب.
فصل
ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال، واتفاقهم على أنواع الضلال.
فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذها، انطمست معالم دينها واندرست آثارها.
فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافات، وإخراب البلاد وإحراقها، لا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علمها جهلا، وعزها ذلا، وكثرتها قلة.
وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذل والصغار، كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر.
وهذه الأمة أوفر الأمم حظا من هذا الأمر، لأنها من أقدم الأمم، ولكثرة الأمم التى استولت عليها: من الكلدانيين، والبانليين، والفرس، واليونان، والنصارى وآخر ذلك المسلمون.
وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم، وبالغ فى إحراق بلادهم وكتبهم، وقطع آثارهم إلا المسلمين، فإنهم أعدل الأمم فيهم، وفى غيرهم، حفظا لوصية الله تعالى بهم حيث قال:
{يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بَما تَعْملُونَ خَبِيراً} [النساء: 135] ويقول: {يَأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] .
وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذمة الفرس، وذمة النصارى، بحيث لم يبق لهم مدينه ولا جيش.
وأعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة وما جاورها.
فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكانوا يقاتلون المشركين من العرب، فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قبل ظهوره، ويعدونهم بأنه سيخرج نبى نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله تعالى وآله وسلم سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب، فحملهم الحسد والبغى على الكفر به وتكذيبه.
وأشد ما على هذه الأمة الغضبية من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرهم من ملوك، الإسرائيلين الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا فى تطلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنتها ليعلموا رسومها فى العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها وتركوا أحكام التوراة أعصارا متصلة.
فإذا كان هذا تواتر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم ومن قبل أنفسهم، فما الظن بالآفات التى نالتهم من غير ملوكهم، وقتلهم أئمتهم، وإحراقهم كتبهم، ومنعهم من القيام بدينهم؟.
فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان. وكثيرا ما منعوهم من الصلاة، لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار، وعلى العالم بالخراب [سوى بلادهم التى
هى أرض كنعان] .
فلما رأت هذه الأمة الجِدَّ من الفرس فى منعهم من الصلاة، اخترعوا أدعية [زعموا أنها فصول من صلاتهم] سموها الحزانة، وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون فى أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها. وسموا القائم بها الحزان.
والفرق بينها وبين الصلاة: أن الصلاة بغير لحن، والمصلى يتلو الصلاة وحده، ولا يجهر معه غيره. والحزَّان يشاركه غيره فى الجهر بالحزانة، ويعاونونه فى الألحان.
فكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم، قالت اليهود: إنا ننعى أحيانا، وننوح على أنفسنا. فيتركونهم وذلك.
فلما قام الإسلام وأقرهم على صلاتهم استصحبوا تلك الحزانة، ولم يعطلوها.
فهذه فصول مختصرة فى كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة، يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله تعالى عز وجل عليه، وما من به عليه من نعمة العلم والإيمان، ويهتدى بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبى الحق من هذه الأمة.
ومن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق. والحمد لله رب العالمين.