المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة آل عمران - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٢

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌سورة آل عمران

‌سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

هي مدنية، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف، وأربعمائة وثمانون كلمة، وأربعة عشر ألفا، وخمسمائة، وعشرون حرفا. انتهى خازن.

هذا؛ وسميت السّورة ب (آل عمران) لورود ذكر قصّة تلك الأسرة الفاضلة (آل عمران) والد مريم أم عيسى، وما تجلّى فيها من مظاهر القدرة الإلهية بولادة مريم البتول، وابنها عيسى عليهما السلام، وقد ورد في بيان فضل هذه السورة الكريمة ما يلي:

فعن النواس بن سمعان-رضي الله عنه-قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله؛ الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة، وآل عمران» . مسلم.

وعن أبي أمامة الباهلي-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن، فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزّهراوين: البقرة، وآل عمران، فإنّهما يأتيان يوم القيامة، كأنّهما غمامتان، أو غيابتان-أو: كأنهما فرقان من طير-تحاجّان عن أصحابهما.

اقرءوا سورة (البقرة) فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة». أخرجه مسلم.

قال معاوية بن سلام: بلغني: أنّ البطلة: السّحرة.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم (1)}

انظر ما ذكرته في أول سورة البقرة ففيه الكفاية.

{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}

الشرح: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ:} إخبار بأنه سبحانه المنفرد بالألوهيّة لجميع الخلائق. {اللهُ:}

علم على الذات الواجب الوجود، المستحقّ لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل عنه؛ أعطى، وإنّما تخلّفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدّعاء به لتخلّف شروط الإجابة، الّتي أعظمها أكل الحلال. ولم يسمّ به أحد سواه. قال تعالى في سورة (مريم) رقم [15]:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل تسمّى أحد الله غير الله؟! وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين وثلاثمائة وستين موضعا، علما بأنّه لم يذكر في سورتي (الرّحمن)، و (الواقعة).

ص: 5

{الْحَيُّ} أي: الذي لا يموت أبدا. {الْقَيُّومُ} أي: بغيره. فجميع الموجودات مفتقرة إليه، وهو غنيّ عنها، ولا قوام لها بدون أمره. وهما اسمان من أسماء الله الحسنى. وأصل {الْحَيُّ:}

الحيي بياءين متحركتين. فسكنت الأولى، ثم أدغمت في الثانية، وأصل {الْقَيُّومُ:} القيووم؛ لأنه من قام بالأمر، يقوم، فاجتمعت الواو، والياء، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، قال الشّاعر:

إنّما العرش للّذي يرزق النّا

س وحيّ عليهم قيّوم

هذا؛ و {الْقَيُّومُ:} القائم بذاته، والقائم بتدبير الخلق، ومصالحهم فيما يحتاجون إليه في معاشهم، ومعادهم.

نبيه: قال المفسّرون، وأصحاب السّير: أنزلت هذه الآية في وفد نجران، وكانوا ستين راكبا، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، وهم: العاقب: واسمه: عبد المسيح، وهو أميرهم، وصاحب مشورتهم؛ الذي لا يصدرون إلا عن رأيه. والسّيد، واسمه: الأيهم، وهو عالمهم القائم بمالهم، وصاحب رحلهم، الذي يقوم بأمر طعامهم، وشرابهم. وأبو حارثة بن علقمة، وهو أسقفّهم، وحبرهم، وكان ملوك الروم يكرمونه لما بلغهم عن علمه، واجتهاده في دينه. فدخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يصلّي العصر، وعليهم ثياب الحبرات؛ جبب، وأردية، يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:

«دعوهم» . فصلّوا إلى المشرق.

فلمّا فرغوا كلّم السيد، والعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أسلما» . قالا:

أسلمنا قبلك، قال:«كذبتما يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولدا، وعبادتكما الصّليب، وأكلكما الخنزير» . قالا: إن لم يكن عيسى ولدا لله، فمن أبوه؟! وخاصموه جميعا في عيسى، عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم:«ألستم تعلمون: أنّ ربّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الموت؟!» قالوا: بلى! قال: «ألستم تعلمون: أنّ ربّنا قيّم على كلّ شيء، يحفظه، ويرزقه؟» قالوا: بلى! قال: «فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟» . قالوا: لا! قال: «ألستم تعلمون: أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السّماء؟!» . قالوا: بلى! قال: «فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما علم؟!» قالوا: لا!.

قال: «ألستم تعلمون: أن ربّنا صوّر عيسى في الرّحم كيف شاء، وربّنا لا يأكل، ولا يشرب؟!» قالوا: بلى! قال: «ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه، كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي، كما يغذّى الصّبيّ، ثمّ كان يطعم، ويشرب، ويحدث؟!» قالوا: بلى! قال: «فكيف يكون إلها، كما زعمتم؟!» . فسكتوا، فأنزل الله صدر سورة (آل عمران)

ص: 6

إلى بضع وثمانين آية منها. زاد بعضهم، فقالوا: يا محمد! ألست تزعم: أنّ عيسى كلمة الله، وروح منه؟ قال: بلى! قالوا: حسبنا، ثمّ أبوا إلا جحودا إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة المذكورة في الآية [61] الآتية.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {إِلهَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر لا محل له.

{هُوَ:} ضمير منفصل فيه ثلاثة أوجه: الأوّل: كونه بدلا من اسم ({لا}) على المحل؛ إذ محله الرّفع على الابتداء، والثاني: كونه بدلا من {لا} وما عملت فيه؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء عند سيبويه، والثالث: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى. {الْحَيُّ:} يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها أن يكون بدلا من: {هُوَ} بدل ظاهر من مضمر، الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحيّ، وحسن حذفه توالي اللفظ ب {هُوَ} مرتين، والثالث: أن يكون خبرا ثانيا لقوله: {اللهُ} أخبر عنه أولا بقوله: {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} وذلك عند من يرى تعدّد الخبر مختلفا بالإفراد، والجملة، الرابع: أن يكون صفة للضمير، وذلك عند الكسائي، فإنه يجيز وصف الضمير الغائب بصفة مدح، فهو يشترط هذين الشّرطين:

أن يكون غائبا، وأن تكون الصفة صفة مدح. {الْقَيُّومُ:} يجري فيه ما جرى في سابقه، وإن اعتبرته بدلا من:{الْحَيُّ} فلست مفندا، وهو الأقوى؛ لأنهما اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى على المعتمد. والله أعلم، وأجلّ، وأكرم. والجملة الاسمية:{اللهُ} إلخ مستأنفة لا محلّ لها. هذا، وقال مكي:{اللهُ:} مبتدأ، وخبره:{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ} و {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} ابتداء وخبر في موضع الحال من: {اللهُ} وقيل: من المضمر في: {نَزَّلَ} تقديره: الله نزل عليك الكتاب متوحدا بالربوبية، وقيل: هو بدل من موضع {لا إِلهَ،} ثمّ قال: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ:} نعتان ل {اللهُ} تبارك وتعالى. وكلّ ما قاله غير جار على سنن العربية.

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)}

الشرح: {نَزَّلَ عَلَيْكَ:} قال: {نَزَّلَ} بالنسبة للقرآن الكريم، وقال:({أَنْزَلَ}) بالنسبة للتّوراة؛ لأن الأول يفيد التكثير، مرّة بعد مرّة، وهو ما اتصف به القرآن؛ لأنه نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال على ما نرى عليه الشّعر، والخطابة، بخلاف التوراة والإنجيل، فإنّهما نزلا دفعة واحدة. ونزول القرآن مفرّقا كان ممّا يريب الكافرين، كما حكى الله سبحانه عنهم بقوله:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبيّن سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} الآية رقم [32] من سورة (الفرقان).

ص: 7

هذا؛ و {الْكِتابَ} في اللغة: الضم، والجمع، وسمّيت الجماعة من الجيش كتيبة لاجتماع أفرادها على رأي واحد، وخطّة واحدة، كما سمّي الكاتب كاتبا؛ لأنه يضمّ الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه، ويرتّبه، وفي الاصطلاح: اسم لجملة مختصة من العلم، مشتملة على أبواب وفصول، ومسائل غالبا. وقد أكثر الشّعراء في مدح الكتاب.

وبالجملة: فالكتاب هو نعم الذّخر، والشّغل، والحرفة، جليس لا يضرّك، ورفيق لا يملّك، يطيعك باللّيل طاعته بالنّهار، ويطيعك في السّفر طاعته في الحضر، إن ألفته على الأيام؛ خلّد ذكرك، وإن درسته؛ رفع بين النّاس قدرك. وإن أردت الزّيادة؛ فانظر الآية رقم [101] من سورة (البقرة).

{بِالْحَقِّ:} الحق: خلاف الباطل، وضدّه، قال الراغب-رحمه الله تعالى-: أصل الحق المطابقة، والموافقة، كمطابقة رجل الدّار في حقّه لدورانه على الاستقامة. والحقّ يقال لموجد الشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، ولذلك قيل في الله تعالى: هو الحقّ. وللموجود بحسب مقتضى الحكمة: حقّ، ولذلك يقال: فعل الله كله حقّ، نحو الموت، والحساب

إلخ.

وللاعتقاد في الشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، نحو: اعتقاد زيد في الجنة حقّ، وللفعل والقول الواقعين بحسب ما يجب، وقدر ما يجب، في الوقت الذي يجب، نحو: قولك حق، وفعلك حق، ويقال: أحققت ذا، أي: أثبته حقّا، أو حكمت بكونه حقّا. انتهى بغدادي.

{مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} يعني: لما قبله من الكتب المتقدّمة المنزلة على الأنبياء، والمرسلين، فهي تصدّقه بما أخبرت به، وبشّرت في قديم الزمان، وهو يصدّقها؛ لأنّه وافق ما أخبرت به، وبشّرت من الوعد من الله بإرسال محمّد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن الكريم.

هذا؛ وقوله: {لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} من مجاز الكلام، وذلك: أنّ (ما {بَيْنَ يَدَيْهِ}): أمامه فقيل: كلّ شيء تقدّم على الشّيء: هو بين يديه لغاية ظهوره، واشتهاره. هذا؛ والتوراة: هي الكتاب الذي أنزل على موسى، عليه الصلاة والسلام. والتوراة معناها: الضّياء، والنور، مشتقّة من: ورى الزند: إذا خرجت ناره، وأصلها: تورية على وزن تفعلة، التاء زائدة، وتحرّكت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. وقيل: التوراة مأخوذة من التّورية، وهي: التعريض بالشيء، والكتمان لغيره، فكان أكثر التّوراة معاريض، وتلويحات من غير تصريح، وإيضاح. هذا قول المؤرّج، والجمهور على القول الأوّل، لقوله تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [48]:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} هذا؛ وأنّثت التوراة نظيرة لموماة، ودوداة، ونحوها في كلام العرب. ويجمع التوراة على: توار.

والإنجيل: هو الكتاب الذي أنزل على عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، يذكّر، ويؤنّث، فمن أنّث؛ أراد الصحيفة، ومن ذكّر؛ أراد الكتاب، وهو الأكثر. ويجمع على أنا جيل، وهو مشتقّ من النّجل، وهو الأصل، كأنه أصل الدّين يرجع إليه، ويؤتمّ به، ومنه سمي الولد، والنّسل: نجلا لخروجه من والديه، كما قال الشاعر:[الطويل]

ص: 8

إلى معشر لم يورث اللّؤم جدّهم

أصاغرهم، وكلّ فحل لهم نجل

ويقال: لعن الله ناجليه، يعني: والديه؛ إذ كانا أصله. ويقال: [مجزوء الوافر]

وبئس النّجل ما نجلا

هذا وقد يسمّى القرآن: إنجيلا أيضا، كما روي في قصّة موسى-على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: أنه قال: «يا ربّ! أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم، فاجعلهم أمّتي. فقال الله-عز وجل-له: تلك أمة أحمد يا موسى!» وإنّما أراد بالأناجيل القرآن، هذا والإنجيل خال من الأحكام، والتّشريع، وكلّ ما فيه حكم، ومواعظ؛ لذا فالنّصارى عيال علينا في كثير من الأحكام، وخاصّة المواريث، وقد دخل الإنجيل التّحريف، والتزييف، كما دخلا التّوراة، وما إنجيل متّى، ومرقس

إلخ إلا من اختراعهم، وابتداعهم.

{مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل تنزيل القرآن. {هُدىً لِلنّاسِ} أي: لقوم موسى، وعيسى، أو لجميع الناس، فيكون حالا من الكتب الثلاثة: القرآن، والتوراة، والإنجيل. هذا؛ وأصل {هُدىً:}

هديا، أو هدي، بضم الهاء، وفتح الدال، وتحريك الياء منونة، فقلبت الياء ألفا لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الألف، والتنوين الذي يرسم ألفا في حالة النّصب بحسب الأصل، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار:{هُدىً} وإنّما أتوا بياء أخرى لتدل على الياء المحذوفة، بخلاف ما إذا لم يأتوا بها، وقالوا: هدا، فلا يوجد ما يدل عليها. وهذا الإعلال يجري في كل اسم مقصور مجرد من ال، والإضافة.

{وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ} يعني: الفارق بين الحقّ، والباطل. قيل: أراد به القرآن، وإنّما أعاده تعظيما لشأنه، ومدحا؛ لكونه فارقا بين الحقّ، والباطل، وقيل: إنّما أعاد ذكره؛ ليتبيّن: أنه تعالى أنزله بعد التوراة، والإنجيل، ليجعله فارقا بين ما اختلف فيه اليهود، والنصارى في أمر عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، وقيل: المراد الكتب الثلاثة؛ لأنّها كلّها هدى للناس، ومفرّقة بين الحلال، والحرام، والحق، والباطل، والغيّ، والرّشاد بما يذكره الله من الحجج البينات، والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه، ويوضحه، ويفسّره ويقرّره، ويرشد إليه، وينبه عليه.

الإعراب: {نَزَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، أو هي في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{الْحَيُّ الْقَيُّومُ} والرابط الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْكِتابَ} أي:

ملتبسا بالحقّ. {مُصَدِّقاً:} حال ثانية منه. {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب {مُصَدِّقاً} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة أيضا. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو بمحذوف

ص: 9

صفتها، التقدير: مصدقا للّذي، أو لشيء يوجد بين يديه، و {بَيْنَ:} مضاف، {يَدَيْهِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنّى صورة، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. هذا؛ وابن هشام-رحمه الله تعالى-يعتبر اللاّم-في مغنيه-زائدة، ويسمّيها:

«لام التقوية» فإذا (ما) مجرورة لفظا منصوبة محلاّ. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (البروج):

{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} وفي سورة (المعارج). {نَزّاعَةً لِلشَّوى} وفي سورة (الأنبياء): {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ} . وأورد ابن هشام قول حاتم الطائيّ، وقيل: هو لقيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه-وهو الشّاهد رقم [398] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الطويل]

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

{وَأَنْزَلَ:} فعل ماض، وفاعله تقديره: هو. {التَّوْراةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها. {وَالْإِنْجِيلَ:} معطوف على ما قبله. {مِنْ قَبْلُ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ}. وقيل: مبني على الضم في محل جر ب {مِنْ} لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى {هُدىً:} حال من: {التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ} ولم يثنّ؛ لأنه مصدر، ويجوز أن يكون حالا من الإنجيل، ودلّ على حال للتوراة محذوفة، كما يدلّ أحد الخبرين على الآخر، وهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب {هُدىً} أو بمحذوف صفة له {وَأَنْزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {الْفُرْقانَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ (4)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ} أي: جحدوا آيات القرآن، ولم يؤمنوا بها. هذا؛ (وآيات {اللهِ}) جمع: آية، وهي في الأصل: العلامة الظاهرة، وتقال للمصنوعات في هذا الكون من حيث إنّها تدل على وجود الصّانع، وعلمه، وقدرته، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [164]:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وقال في هذه السورة رقم [190]: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ..} . إلخ، كما يقال لكلّ طائفة من القرآن، كما في هذه الآية، كما تطلق على المعجزة الخارقة للعادة، مثل انشقاق القمر، ونحوه، وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . كما تطلق، ويراد بها العبرة، والاعتبار، كما في قوله تعالى:{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ..} . إلخ رقم [13] الآتية. {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ:} في الدنيا بسبب كفرهم بالسّيف، والقتل، والجلاء، وغير ذلك، وفي الآخرة بالخلود في النار وبئس القرار! {وَاللهُ عَزِيزٌ:} قويّ غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده، ووعيده. {ذُو انْتِقامٍ:} صاحب عقوبة شديدة لمن عصاه،

ص: 10

لا يقدر على مثلها أحد. والنقمة عقوبة المجرم، وقد تكون ظلما، وعدوانا، قال تعالى في سورة (الأعراف) في الآية رقم [126] حكاية عن قول السحرة لفرعون:{وَما تَنْقِمُ مِنّا إِلاّ أَنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (البروج):{وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} يقال: نقم من كذا: إذا أنكره، وانتقم منه: إذا كافأه، والفعل نقم، ينقم من باب:

ضرب. ونقم، ينقم من باب فهم، يفهم، وعلم يعلم. قال أبو جهل الخبيث في غزوة بدر، التي كانت فيها خيبته، وخزيه-وهو الشاهد رقم [63] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الرجز]

ما تنقم الحرب العوان منّي

بازل عامين حديث سنّي

لمثل هذا ولدتني أمّي

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر.

{شَدِيدٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ} ولم تقترن الجملة الاسمية بالفاء لشدّة ارتباط الكفر بالعذاب، فلا حاجة إلى رابط، هذا وجوز اعتبار الجار والمجرور متعلّقين بمحذوف خبر:{إِنَّ} و {عَذابٌ} فاعلا بمتعلقه. {وَاللهُ:} الواو: واو الاعتراض.

({اللهِ}): مبتدأ. {عَزِيزٌ:} خبر أول. {ذُو:} خبر ثان مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه من الأسماء الخمسة، وهو مضاف، و {اِنْتِقامٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام، الغرض منها التّهديد، والوعيد، فلا محلّ لها.

{إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ..} . إلخ: أي: لا يغيب عن علمه شيء، فهو العالم بما كان، وما يكون؛ فكيف يكون عيسى إلها، أو ابن إله؟!

وهل تخفى عليه هذه الأشياء. وقدّم ذكر الأرض على السماء ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، والمراد بما في الأرض، وبما في السماء من كلّيّ، وجزئيّ. وخصّهما بالذّكر؛ لأنّ الحسّ البشري لا يتجاوزهما، هذا وأصل سماء: سماو، فيقال في إعلاله، تحرّكت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ولم يعتدّ بالألف الزائدة؛ لأنّها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة. وقل مثله في إعلال «بناء» ونحوه من «صحراء، وحمراء، وزرقاء» .

هذا؛ والسّماء يذكر، ويؤنث، وهو كل ما علاك، فأظلّك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء.

والسماء يطلق على المطر، يقال: ما زلنا نطأ السّماء حتى أتيناكم. قال معاوية بن مالك: [الوافر]

ص: 11

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

أراد بالسماء المطر، ثمّ أعاد الضمير عليه في: رعيناه بمعنى النبات. وهذا يسمّى في فن البديع بالاستخدام.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَخْفى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {شَيْءٌ:} فاعل يخفى، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {شَيْءٌ} . {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي. {فِي السَّماءِ:} معطوفان على ما قبلها.

{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)}

الشرح: {هُوَ} أي: الله. {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ:} يخلقكم، فالتّصوير: جعل الشيء على صورة، والصّورة هيئة يكون عليها الشّيء بالتّأليف. والأرحام: جمع: رحم، وهو موضع الجنين في بطن المرأة، وغيرها من الحيوانات. {كَيْفَ يَشاءُ} أي: من الصّور المختلفة المتفاوتة في الخلقة، من ذكورة، وأنوثة، وبياض، وسواد، وحسن، وقبح، وقصر، وطول، وسلامة، وعاهة، إلى غير ذلك من السّعادة، والشّقاء. وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصّادق المصدوق:«إنّ أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقيّ، أو سعيد، ثمّ ينفخ فيه الرّوح، فإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة، فيدخل الجنّة، وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الجنّة، حتّى ما يكون بينه، وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النّار، فيدخل النّار» . رواه البخاريّ [3332]، هذا؛ وانظر الآية رقم [5] من سورة (الحج) والآية رقم [12] وما بعدها من سورة (المؤمنون) وانظر آية التوحيد في الآية رقم [28] و [29] من سورة (البقرة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان-رضي الله عنه: أنّ يهوديّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض، إلا نبيّ، أو رجل، أو رجلان، قال:«ينفعك إن حدّثتك؟» قال: أسمع بأذني، قال: جئت أسألك عن الولد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ماء الرّجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا منيّ الرّجل منيّ المرأة؛ أذكرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة منيّ الرّجل آنثا بإذن الله» . الحديث رقم [315][34].

هذا؛ والآية وسابقتها واردتان على النّصارى، وذلك: أنّ عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-كان يخبر بالغيب، فيقول: أكلت في دارك كذا، وصنعت كذا، وأنّه أحيا

ص: 12

الميت، وأبرأ الأكمه، والأبرص، وخلق من الطّين طيرا، فادّعت النصارى فيه الإلهية، وقالوا:

ما قدر على ذلك إلا أنّه إله. فردّ الله تعالى عليهم بذلك، وأخبر: أنّ الإله المستحقّ لهذا الاسم هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء، وأنّه المصور في الأرحام كيف يشاء، وأنّ عيسى عليه السلام صوّره الله في الرّحم، فنبه بكونه مصورا في الرّحم على أنّه عبد مخلوق كغيره، وأنّه يخفى عليه ما لا يخفى على الله، عزّ، وجلّ.

{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} أي: لا خالق، ولا مصوّر إلا الله، وذلك دليل وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصوّرا، وهو مصوّر. {الْعَزِيزُ:} القوي الغالب؛ الذي لا يغالب. {الْحَكِيمُ:} المحكم، أو ذو الحكمة. هذا؛ ولا يصلح مكان الاسمين الكريمين هنا:(الغفور الرحيم) ونحوهما.

الإعراب: {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السّكون في محل رفع خبره. {يُصَوِّرُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {فِي الْأَرْحامِ:} متعلقان بما قبلهما، {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من فاعل {يَشاءُ} بعده. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ} ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل:{يُصَوِّرُكُمْ} أو من مفعوله، هذا وذكر الجمل نقلا عن السّمين: أنّ {كَيْفَ} أداة شرط وتعليق، وذكره ابن هشام في المغني، وذكرته أنا في سورة (الغاشية)، وأرى: أنّ تعليق الجملة بحرف جرّ محذوف-التقدير: يصوركم في الأرحام بكيفية يشاؤها-هو الأولى، والأقوى. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ:} انظر الآية رقم [2] فالإعراب مثله، والجملة هنا مستأنفة لا محلّ لها.

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَاِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ:} القرآن. والخطاب لسيّد الخلق، وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم.

{مِنْهُ:} من القرآن. {آياتٌ مُحْكَماتٌ:} مبيّنات، مفصّلات، واضحات الدّلالة، أحكمت عبارتها من احتمال التأويل، والاشتباه، وحفظت من الإجمال، والاحتمال، سمّيت: محكمة من الإحكام، كأنّه تعالى أحكمها، فمنع الخلق من التّصرّف فيها؛ لظهورها، ووضوح معناها.

{هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ:} أصله؛ الذي يرجع إليه في الأحكام، ويعمل به في الحلال، والحرام، فلا يحتجن إلى تأويل. والقياس: أمهات بالجمع، فأفرد إما لأنّ المعنى: كلّ واحدة منهنّ، وإما

ص: 13

لأنّ مجموع الآيات بمنزلة أمّ واحدة، وكلام الله كلّه شيء واحد. قال الشّريف الرضي: هذه استعارة، والمراد بها: أنّ هذه الآيات جماع الكتاب، وأصله، فهي بمنزلة الأم له، وكأنّ سائر القرآن يتبعها، أو يتعلق بها، كما يتعلّق الولد بأمّه، ويفزع إليها في مهمّة. انتهى صفوة التفاسير.

{وَأُخَرُ:} جمع أخرى، ولم يصرف ({أُخَرُ}) لأنّه معدول به عن الآخر.

{مُتَشابِهاتٌ:} لا يفهم معناها، كالحروف المقطعة الموجودة في أوائل السّور، ومنه قوله تعالى في سورة (الفتح):{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ،} وقوله تعالى في سورة (طه) وغيرها: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى} (5)، ومنه وقت قيام السّاعة، وخروج يأجوج، ومأجوج، والدّجال، ونزول عيسى عليه السلام وجعله كله محكما بقوله تعالى في أول سورة هود:{كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} أي:

في النّظم، والرّصف، وأنّه حقّ من عند الله، وأنّه ليس فيه عيب قطعا، وجعله متشابها بقوله تعالى في سورة (الزّمر):{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ} بمعنى: يشبه بعضه بعضا في الحسن، والصّدق، والفصاحة، والبلاغة، والتّناسب بدون تعارض، ولا تناقض، وفي تركيب النّظم، وصحة المعنى، والدّلالة على المنافع العامّة.

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ:} ميل عن الحقّ، ومنه: زاغت الشّمس عن كبد السماء، وزاغت الأبصار. وهذه الآية تعمّ كلّ طائفة من كافر، وزنديق، وجاهل، وصاحب بدعة؛ وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: إن لم يكونوا الحرورية، وأنواع الخوارج؛ فلا أدري من هم؟ نعم منهم الزّنادقة، والقرامطة الطاعنون في القرآن، ومن على شاكلتهم من الباطنيين الذين يقولون: للقرآن ظاهر، وباطن، فيقولون: القرآن محرّف، ومبدّل. وخرّج مسلم-رحمه الله تعالى-عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ..} . إلخ، ثم قال:«إذا رأيتم الذين يتّبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الّذين سمّاهم الله؛ فاحذروهم» . وأثبت أبو أمامة-رضي الله عنه: أنّهم الخوارج.

ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفرّقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وسائرهم في النّار، ولتزيدنّ عليهم هذه الأمّة، واحدة في الجنّة، وسائرهم في النّار» .

{فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ} أي: إنما يأخذون بالمتشابه الّذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأمّا المحكم؛ فلا نصيب لهم فيه؛ لأنّه دامغ لهم، وحجّة عليهم.

{اِبْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} أي: طلب الإضلال لأتباعهم إيهاما لهم: أنّهم يحتجّون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجّة عليهم، لا لهم، كما لو احتجّ النّصارى بأنّ القرآن نطق بأن عيسى روح الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى في سورة (الزخرف):

{إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ} وبقوله تعالى في هذه السّورة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ}

ص: 14

آدَمَ

إلخ رقم [59]. {وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ} أي: تحريفه على ما يريدون، ويشتهون. {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} أي: لا يعلم تفسير المتشابه، ومعناه الحقيقي إلا الله وحده. وقيل: يجوز أن يكون للقرآن تأويل، استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، كالحروف المقطّعة

إلخ. انظره فيما سبق.

{وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي: الثابتون في العلم. وهم الذين أتقنوا علمهم؛ بحيث لا يدخل في علمهم شكّ، والرّسوخ: الثبوت في الشّيء، وكلّ ثابت راسخ، وأصله في الأجرام: أن يرسخ الجبل، والشّجر في الأرض. قال الشاعر:[الطويل]

لقد رسخت في الصّدر منّي مودّة

لليلى أبت آياتها أن تغيّرا

هذا؛ وقال ابن أبي حاتم بسنده: حدّثنا عبيد الله بن يزيد-وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنسا، وأمامة، وأبا الدرداء رضي الله عنهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّاسخين في العلم، فقال:«من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عفّ بطنه، وفرجه، فذلك من الرّاسخين في العلم» . وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد: الرّاسخون في العلم:

المتواضعون لله، المتذلّلون له في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحتقرون من دونهم. هذا؛ وفي قوله تعالى:{وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استعارة، والمراد بها: المتمكنون في العلم تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوّارة، وهذا أبلغ من قوله: والثابتون في العلم. هذا؛ والراسخ في العلم من وجد من العلم في علمه أربعة أشياء: التّقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتواضع فيما بينه وبين النّاس، والزّهد فيما بينه وبين الدّنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النّفس.

{يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سمّاهم راسخين في العلم بقولهم:

{آمَنّا بِهِ} فرسوخهم في العلم هو الإيمان به، وقال عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه: في هذه الآية انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا: {آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} يعني: المحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ، وما علمنا به، وما لم نعلم، ونحن معتقدون في المتشابه بالإيمان به، ونكل معرفته إلى الله تعالى، وفي المحكم يجب علينا الإيمان به، والعمل بمقتضاه. {وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا الْأَلْبابِ:} انظر الآية رقم [269] من سورة (البقرة).

تنبيه: فإن قيل: القرآن نزل لإرشاد العباد، فهلا كان كلّه محكما؟! والجواب: أنّه نزل بألفاظ العرب، وعلى أسلوبهم، وكلامهم على ضربين: الموجز الذي لا يخفى على سامع. هذا هو الضّرب الأول، والثاني: المجاز، والكنايات، والإرشادات، والتلويحات. وهذا هو المستحسن عندهم، فأنزل الله القرآن على الضّربين. ليتحقّق عجزهم، فكأنه قال: عارضوه بأيّ الضّربين شئتم. ولو نزل كلّه محكما؛ لقالوا: هلاّ نزل بالضّرب المستحسن عندنا.

ص: 15

وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: الحكمة في ذلك-والله أعلم-أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كلّه واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض، وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا، يجعل بعضه واضحا، وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأنّ ما هان وجوده؛ قلّ بهاؤه. انتهى.

وقال الإمام أحمد-رحمه الله-بسنده: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون، فقال:«إنّما هلك من قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنّما أنزل كتاب الله ليصدّق بعضه بعضا، فلا يكذّبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه؛ فقولوا آمنّا به، وما جهلتم؛ فكلوه إلى عالمه» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [209] من سورة (البقرة)؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {أَنْزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {آياتٌ:} مبتدأ مؤخر. {مُحْكَماتٌ:} صفة: {آياتٌ} والجملة الاسمية في محل نصب حال من: {الْكِتابَ} .

هذا؛ ويجوز اعتبار مضمون: {مِنْهُ} مبتدأ؛ لأنّه بمعنى: بعضه، و {آياتٌ} خبره، وتبقى الجملة حالا من الكتاب، والرابط الضمير فقط على الاعتبارين. {هُنَّ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {أُمُّ:} خبره، وهو مضاف، و {الْكِتابَ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل رفع صفة:{آياتٌ} . {وَأُخَرُ:} معطوف على آيات عطف مفرد على مفرد.

{مُتَشابِهاتٌ:} صفة له، والجملة الاسمية:{هُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَأَمَّا:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (أما): أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد. أمّا كونها أداة شرط؛ فلأنها قائمة مقام أداة الشرط، وفعله، بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء؛ فالذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون. وأمّا كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله. ويعلم ذلك من تتبّع مواقعها. وأمّا كونها أداة توكيد؛ فلأنها تحقّق الجواب، وتفيد: أنّه واقع لا محالة؛ لكونها علّقته على أمر متيقّن. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {فِي قُلُوبِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

{زَيْغٌ:} فاعل متعلّق الجار والمجرور؛ إذ التقدير: الذين يوجد في قلوبهم زيغ. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور متعلّقين بمحذوف خبر مقدّم، و {زَيْغٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية صلة الموصول. {فَيَتَّبِعُونَ:} الفاء: واقعة في جواب (أما). {فَيَتَّبِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنها معطوفة، ومفرّعة عما قبلها، وكذا لو اعتبرتها مستأنفة. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {تَشابَهَ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {ما} وهو العائد. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل {تَشابَهَ} المستتر،

ص: 16

و (من) بيان لما أبهم في {ما} . {اِبْتِغاءَ:} مفعول لأجله، وهو مضاف، و {الْفِتْنَةِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَما:} الواو: واو الحال. {ما:} نافية. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع. {تَأْوِيلِهِ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاَّ:} حرف حصر. {اللهُ:} فاعله. والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل: {تَشابَهَ} المستتر، والرابط الواو، والضمير. {وَالرّاسِخُونَ:} قال مجاهد وحده: معطوف على لفظ الجلالة، واحتجّ له بعض أهل اللّغة. فقال: معناه: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين: آمنا. وقال ابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وعائشة-رضي الله عنهم: مستأنف على أنه مبتدأ، والوقف التام على لفظ الجلالة. {فِي الْعِلْمِ:} متعلقان ب ({الرّاسِخُونَ}). {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال على قول مجاهد، وفي محل رفع خبر:({الرّاسِخُونَ}) على قول ابن عباس

إلخ، ومثل هذه الآية الكريمة قول الشاعر:[مجزوء الكامل]

الرّيح تبكي شجوها

والبرق يلمع في الغمامه

ف «البرق» يجوز اعتباره مبتدأ، والجملة بعده خبره، ويجوز عطفه على الريح، والجملة في محل نصب حال منه. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {كُلٌّ:} مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ} مضاف، و {رَبِّنا} مضاف إليه مجرور، و (نا): في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): نافية. {يَذَّكَّرُ:} فعل مضارع. {إِلاَّ:} حرف حصر.

{أُولُوا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولُوا} مضاف، و {الْأَلْبابِ} مضاف إليه. والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي معترضة في آخر الكلام، لا محل لها على الاعتبارين، وفيها مدح للرّاسخين في العلم بجودة الذّهن، وحسن النّظر.

{رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ (8)}

الشرح: هذه الآية من دعاء الراسخين في العلم، ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمد! ويقال: إزاغة القلب: فساد، وميل عن الحقّ، والدين. وهل كانوا يخافون-وقد هدوا-أن ينقلهم الله إلى الفساد؟ والجواب: لعلّهم سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال، فيعجزوا عنه. وقال ابن كيسان-رحمه الله تعالى-: سألوا أن لا يزيغوا، فيزيغ الله

ص: 17

قلوبهم. مثل قوله تعالى في سورة (الصف): {فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} ومعنى: {لا تُزِغْ} إلخ:

ثبتنا على هدايتك؛ إذ هديتنا، وألا نزيغ فنستحقّ أن تزيغ قلوبنا، وروى الترمذيّ من حديث شهر بن حوشب-رضي الله عنه-قال: قلت لأمّ سلمة-رضي الله عنها: يا أم المؤمنين! ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» . فقلت: يا رسول الله! ما أكثر دعاءك: يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال: «يا أمّ سلمة! إنّه ليس آدميّ إلاّ وقلبه بين إصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ» . وهذه الآية، وأمثالها حجّة على المعتزلة، ومن نحا نحوهم في قولهم: إنّ الله لا يضلّ العباد، ولو لم تكن الإزاغة من قبله؛ لمّا جاز أن يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله. وروي:

أنّ أمّ سلمة-رضي الله عنها-سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلّمها دعوة تدعو بها لنفسها، فقال: قولي:

«اللهمّ ربّ محمد النبيّ اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلاّت الفتن» .

{وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً:} امنحنا، وتكرّم علينا برحمة من عندك تفضلا، وتكرما لا عن سبب منّا، ولا عمل. {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ:} الهبة: العطية الخالية من الأعواض، والأغراض، و {الْوَهّابُ:}

صفة الله تعالى؛ الذي يعطي كلّ أحد على قدر استحقاقه، وخالية ممّا ذكره. وهو المتفضل بما ينعم على عباده، لا يجب عليه شيء. هذا؛ و (لدن) بمعنى: عند، وفيها إحدى عشرة لغة، أفصحها إثبات النون ساكنة، وهي لغة القرآن الكريم، وهي بجميع لغاتها معناها: أول غاية زمان، أو مكان، وقلّما تفارقها «من» الجارة لها، فإذا أضيفت إلى الجملة؛ تمحضت للزّمان؛ لأن ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة إلا «حيث» . ويجوز تصدير الجملة بحرف مصدري لمّا لم يتمحض (لدن) في الأصل للزّمان، وإذا أضيفت للضّمير؛ وجب إثبات النّون؛ لأنه لا يقال: لده، ولا: لدك.

فائدة: قال مكيّ بن أبي طالب القيسي-رحمه الله تعالى-: ونداء الربّ قد كثر حذف (يا) النداء منه في القرآن الكريم. وعلّة ذلك: أنّ في حذف (يا) من نداء الربّ تعالى، فيه معنى التعظيم له، والتنزيه، وذلك: أنّ النداء فيه ضرب من معنى الأمر، لأنّك إذا قلت: يا زيد! فمعناه: تعال يا زيد، أدعوك يا زيد. فحذفت (يا) من نداء الرب؛ ليزول معنى الأمر، وينقص؛ لأنّ (يا) تؤكّده، وتظهر معناه، فكان في حذف (يا) التعظيم، والإجلال، والتنزيه للربّ تعالى، فكثر حذفها في القرآن الكريم، والكلام العربيّ في نداء الربّ لذلك المعنى. انتهى.

الإعراب: {رَبَّنا:} منادى حذف منه حرف النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لا:} دعائية. {تُزِغْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} والفاعل مستتر، تقديره: أنت. {قُلُوبَنا:} مفعول به، و (نا) في محل جر بالإضافة. {بَعْدَ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {إِذْ} ظرف مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {هَدَيْتَنا:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة:{إِذْ}

ص: 18

إليها، والغالب، والكثير أن تحذف الجملة المضافة إليها:{إِذْ} ويعوّض عنها تنوين: {إِذْ} مثل قوله تعالى في سورة الواقعة: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} . {وَهَبْ:} فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ:} حرف جر. {لَدُنْكَ:} اسم مبني على السكون في محل جر ب {مِنْ} والجار والمجرور متعلقان ب ({هَبْ}) أو هما متعلقان بمحذوف حال من {رَحْمَةً} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه صار حالا، والكاف في محل جر بالإضافة. {رَحْمَةً:} مفعول به، والآية الكريمة في محل نصب مقول قول الراسخين في العلم.

{إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {أَنْتَ:} فيه ثلاثة أوجه: الأول أن يكون توكيدا لاسم (إنّ) على المحل، والثاني: أن يكون ضمير فصل لا محل لها من الإعراب، وعلى هذين الوجهين ف {الْوَهّابُ} خبر (إنّ) والثالث: أن يكون في محل رفع مبتدأ، و {الْوَهّابُ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية:{إِنَّكَ} إلخ تعليل للدعاء، وهي من جملة قول الرّاسخين أيضا.

{رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)}

الشرح: الآية الكريمة من بقية دعاء الراسخين في العلم، وذلك: أنّهم طلبوا من الله تعالى أن يثبت قلوبهم على الحقّ، وأن يمنحهم الهداية، والرّحمة، وذلك من مصالح الدين، والدنيا، ثم إنّهم أتبعوا ذلك بقولهم:{رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النّاسِ..} . إلخ، ومعناه: إنّا نوقن إنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم: أنّ وعدك حقّ، لا شكّ فيه، وأنّك لا تخلف الميعاد. فهو كقوله في سورة (النساء) رقم [87]:{اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} .

هذا؛ و (الريب): الشكّ، تقول: رابني هذا الأمر، أي: أوقعني في ريبة، أي: في شكّ، وحقيقة الريبة: قلق النفس، واضطرابها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .

أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ عن الحسن بن عليّ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، رضي الله عنه.

وقد يستعمل الرّيب في التّهمة، قال جميل بن معمر العذريّ:[الطويل] بثينة قالت يا جميل أربتني

فقلت كلانا يا بثين مريب

واستعمل أيضا في الحاجة، كما قال كعب بن مالك-رضي الله عنه:[الوافر]

قضينا من تهامة كلّ ريب

وخيبر ثمّ أجمعنا السّيوفا

هذا؛ و {الْمِيعادَ} بمعنى الموعد، والوعد، ويحتمل الزّمان، والمكان، وأصله: موعاد.

قلبت الواو ياء؛ لسكونها، وانكسار ما قبلها. ومثله: ميثاق، وميزان

إلخ.

ص: 19

الإعراب: {رَبَّنا:} إعرابه مثل ما قبله. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه.

{جامِعُ:} خبر (إنّ) وهو مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لِيَوْمٍ:} متعلّقان ب {جامِعُ} . {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» {رَيْبَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ({لا}) والجملة الاسمية في محل جرّ صفة (يوم). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}

اسمها. {لا:} نافية. {يُخْلِفُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {الْمِيعادَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والآية الكريمة بكاملها من مقول قول الرّاسخين، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النّارِ (10)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله، ورسوله. {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} إلخ. لن تنفع، ولن تدفع عنهم أموالهم، ولا أولادهم من عذاب الله شيئا، وفي معناه قوله تعالى في سورة (سبأ) رقم [37]:{وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى} . وأيضا قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [55]{فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ} وانظر الآية رقم [116].

{وَأُولئِكَ:} الإشارة إلى الذين كفروا، على اختلاف مللهم، ونحلهم. {هُمْ وَقُودُ النّارِ:}

بفتح الواو؛ أي: ما توقد به النّار، وأما بضمها فهو المصدر، وكذلك الاسم منه، وبعضهم قال: كلّ من الفتح، والضم يجري في الآلة، والمصدر، وكذا يقال في الوضوء، والسّحور، والطّهور، ونحو ذلك، ولكن المشهور الأول، والمراد في الآلة: ما توقد به، وبالمصدر الفعل، والحدث. ويقرأ بفتح الواو وضمّها.

هذا؛ والمال قال فيه ابن الأثير: المال في الأصل: كلّ ما يملك من الذّهب، والفضّة، ثمّ أطلق على كلّ ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق عند العرب على الإبل؛ لأنّها كانت أكثر أموالهم، وقال الجوهريّ: ذكر بعضهم: أنّ المال يؤنّث، وأنشد لحسّان رضي الله عنه:[البسيط]

المال تزري بأقوام ذوي حسب

وقد تسوّد غير السّيّد المال

وعن الفضل الضّبيّ: المال عند العرب: الصّامت، والناطق، فالصّامت: الذّهب، والفضّة، والجواهر، والنّاطق: البعير، والبقرة، والشّاة، فإذا قلت عن بدويّ: كثر ماله؛ فهو الناطق، وإذا قلت عن حضريّ: كثر ماله؛ فهو الصّامت. هذا؛ والنّشب يطلق على المال الثابت، كالضّياع،

ص: 20

والدّور. قال عمرو بن معدي كرب الزّبيدي-رضي الله عنه-في ذلك-وهو في فتح القريب المجيب رقم [597] وفي كتابنا: «فتح رب البرية» رقم [485] -: [البسيط]

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

هذا؛ وقد قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغنيّ لغناه؛ فقد ذهب ثلثا دينه» . وإنّما كان كذلك؛ لأنّ الإيمان متعلّق بثلاثة أشياء: المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فإذا تواضع بلسانه، وأعضائه؛ فقد ذهب الثّلثان، فإذا انضمّ إليه القلب؛ فقد ذهب الكلّ.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب اسمه. {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة {الَّذِينَ}. {لَنْ:} حرف ناصب. {تُغْنِيَ:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وقرأ الحسن: («يغني») بالياء، وسكون الياء الآخرة للتخفيف، وأنشد الفرّاء:[الرجز]

كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق

أيدي جوار يتعاطين الورق

{عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَمْوالُهُمْ:} فاعل. {تُغْنِيَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. الواو: حرف عطف.

({لا}): صلة لتأكيد النفي. {أَوْلادُهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء فيهما في محل جرّ بالإضافة. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل {تُغْنِيَ} وهما في محل نصب مفعول به. {شَيْئاً:}

مفعول مطلق، أو نائب عنه، وجوز أن يكون مفعولا به، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال منه كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا على القاعدة الّتي ذكرتها مرارا.

({أُولئِكَ}): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{هُمْ:} ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو هو مبتدأ مبني على السكون في محل رفع. {وَقُودُ:}

خبر: ({أُولئِكَ}): أو هو خبر الضّمير، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر ({أُولئِكَ}) و {وَقُودُ} مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَأُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)}

الشرح: {كَدَأْبِ} الدأب: العادة، والشّأن، والحال. وهو أيضا مصدر: دأب في عمله يدأب، دأبا، ودءوبا: إذا وجد، واستمرّ فيه. وهو من باب: قطع. وهو بمعانيه كلّها تفتح الهمزة، وتسكن، قال امرؤ القيس في معلقته رقم [6][الطويل]

كدأبك من أمّ الحويرث قبلها

وجارتها أمّ الرّباب بمأسل

ص: 21

والدائبان: الليل، والنهار، والشمس، والقمر. قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} .

والمعنى: اعتاد كفار قريش، ومن على شاكلتهم من العرب الكفر، والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون ومن معه قبلهم من الكافرين من إعنات الأنبياء. والمراد ب {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:}

قوم ثمود، وقوم نوح، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى كصنيع آل فرعون

إلخ.

{كَذَّبُوا بِآياتِنا:} يحتمل أن يكون المراد بالآيات: المعجزات، وأن يكون المراد الآيات الكونية المنصوبة للدّلالة على الوحدانية، كما قال تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ} . {فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ:} فأهلكهم الله بسبب كفرهم، وعنادهم، وشقاقهم. {وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ:} شديد الأخذ، والانتقام ممّن يخالف أوامره، ونواهيه.

هذا؛ و {آلِ:} أصله: أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار:«أأل» ثمّ أبدلت الهمزة الثانية الساكنة مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى على القاعدة: «إذا اجتمع همزتان: الأولى متحركة، والثانية ساكنة، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى» . وذلك مثل آدم، وإيمان، وأومن، فإنّ الأصل: أأدم، وإئمان، وأؤمن. وقلب الهاء همزة سائغ مستعمل لغة كما في أراق، فإنّ أصله هراق، كما تقلب الهمزة هاء، ومن قول الشاعر-وهو الشّاهد رقم [416] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

ألا يا سنا برق على قلل الحمى

لهنّك من برق عليّ كريم

«لهنّك» أصلها: لأنّك والأوّل كثير، وهو مستعمل في الشّعر العربي، وغيره، وهذا مذهب سيبويه. وقال الكسائي: أصله: (أول) كجمل من: آل يؤول، تحركت الواو. وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. وقد صغّروه على: أهيل، وهو يشهد للأول، وعلى: أويل، وهو يشهد للثاني، ولا يستعمل:«آل» إلا فيما له خطر، وشأن، بخلاف «أهل» يقال: آل النبي، وآل الملك، ولا يقال:

آل الحجّام، ولكن أهله، ولا ينتقض بآل فرعون؛ فإنّ له شرفا باعتبار الدّنيا. واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي، والنّحاس، وزعم أبو بكر الزّبيدي: أنه من لحن العوام.

والصّحيح جوازه، كما في قول عبد المطلب بن هاشم جدّ النبي صلى الله عليه وسلم:[مجزوء الكامل]

لا همّ إنّ المرء يم

نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصّلي

ب عابديه اليوم آلك

وفي الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آله» . و {آلِ فِرْعَوْنَ:} قومه، وأتباعه، وأهل دينه، وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هم على دينه، وملّته في

ص: 22

عصره، وسائر الأعصار؛ سواء كان نسيبا له، أو لم يكن، ومن لم يكن على دينه، وملّته، فليس من آله، ولا من أهله؛ وإن كان نسيبه، وقريبه، خلافا للرّافضة، حيث قالت: إن آل الرسول صلى الله عليه وسلم: فاطمة، والحسن، والحسين، وذريّتهما فقط. دليلنا الآية الكريمة، وقوله تعالى:{وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ} وقوله تعالى في سورة (غافر): {وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} أي: آل دينه، وملّته؛ إذ لم يكن له ذرّية، ولا أب، ولا عم، ولا أخ، ولا عصبة، ولأنّه لا خلاف: أنّ من ليس بمؤمن، ولا موحّد؛ فإنّه ليس من آل محمّد، وإن كان قريبا له. ولأجل هذا يقال: إنّ أبا لهب، وأبا جهل ليسا من آله، ولا من أهل ملّته، وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة. ولأجل هذا؛ فإن الله تعالى قال في ابن نوح:{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} .

وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سرّ، يقول:«ألا إنّ آل أبي-يعني: فلانا-ليسوا لي، بأولياء، إنّما وليّي الله، وصالح المؤمنين» . وانظر ما ذكرته في سورة (الأحزاب) بهذا الصدد-والله ولي التوفيق-وورد: «أنا جدّ كلّ تقيّ، ولو كان عبدا حبشيّا» أي: وإن كان ضعيفا.

هذا؛ و {فِرْعَوْنَ} قال المسعودي-رحمه الله تعالى-: ولا يعرف لفرعون تفسير في العربية.

وظاهر كلام الجوهري: أنّه مشتق من العتو، فإنّه قال: والفراعنة: العتاة، وقد تفرعن، وهو ذو فرعنة، أي: ذو دهاء، ومكر. وقال الزّمخشري في الكشاف: وفرعون علم لمن ملك العمالقة في مصر، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، ولعتو الفراعنة اشتقوا: تفرعن فلان: إذا عتا، وتجبّر. وفي ملح بعضهم:[الكامل]

قد جاءه الموسى الكلوم فزاد في

أقصى تفرعنه وفرط عرامه

هذا؛ والموسى: ما يحلف به شعر الرأس: والكلوم فعول من الكلم، وهو الجرح، والعرام: الشرّ، والخبث، وضمير «جاء» راجع إلى الصّبيّ، وهذا كناية عن الختان، وبه النموّ، والفتوّة، لا كناية عن حلق العانة، كما قيل. قال المولى سعد الدين: وهذا مع وضوحه، وشهرته فقد خفي حتّى قيل: إنه كناية عن حلق العانة. وكان فرعون موسى مصعب بن الريّان، وقيل: ابنه الوليد من بقايا قوم عاد، وفرعون يوسف-على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام- ريان ابن الوليد، وبينهما أكثر من أربعمائة سنة، وكان فرعون موسى قد عاش ستمائة وعشرين سنة، لم ير مكروها قط، ولو حصل له في تلك المدّة جوع يوم، أو وجع يوم، أو حمّى يوم؛ لمّا ادّعى الألوهية. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقّ أبي جهل الخبيث، «فرعوني أشدّ من فرعون موسى» . وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلّم، ومنه إلى الغيبة. انظر الالتفات في الآية رقم [253].

الإعراب: {كَدَأْبِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: كفرت العرب كفرا ككفر آل فرعون، فهو يعني: أنّ الجار والمجرور متعلقان بمحذوف

ص: 23

صفة لمصدر محذوف، وردّ النّحاس بقوله: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة ب {كَفَرُوا} لأن {كَفَرُوا} داخلة في الصلة. و (دأب) مضاف، و {آلِ} مضاف إليه، و {آلِ} مضاف، و {فِرْعَوْنَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جرمه الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {وَالَّذِينَ} فيه وجهان: الأول: العطف على: {آلِ فِرْعَوْنَ} فيكون مبنيّا على الفتح في محل جر، والثاني: اعتباره مبتدأ، فيكون مبنيّا على الفتح في محل رفع. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذين وجدوا من قبلهم، والهاء في محل جر بالإضافة.

{كَذَّبُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِآياتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {فِرْعَوْنَ} وما عطفت عليه، وهي على تقدير «قد» قبلها، أو هي في محل رفع خبر ({الَّذِينَ}) على اعتباره مبتدأ، والجملة الاسمية على هذا الاعتبار مستأنفة لا محل لها. {فَأَخَذَهُمُ} فعل ماض، والهاء مفعول به، {اللهُ:} فاعله. {بِذُنُوبِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {اللهُ:} مبتدأ.

{شَدِيدُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْعِقابِ} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، والجملة الاسمية هذه معترضة في آخر الكلام، وفيها تهويل للمؤاخذة، وزيادة تخويف للكفرة.

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12)}

الشرح: قال محمد بن إسحاق-رحمه الله تعالى-: لمّا أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر، وقدم المدينة؛ جمع اليهود في سوق بني قينقاع، فقال:«يا معشر اليهود! احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أنّي نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم» . فقالوا: يا محمد! لا يغرنّك، أنّك قتلت أقواما أغمارا، لا علم لهم بالحرب، فأصبت فيهم فرصة، والله لو قاتلناك؛ لعرفت أنا نحن النّاس! فأنزل الله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} . فهذه رواية عكرمة، وابن جبير عن ابن عباس، رضي الله عنهم أجمعين. وفي رواية أبي صالح عنه: أنّ اليهود لمّا فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد؛ نزلت. والأولى أصحّ.

{سَتُغْلَبُونَ} أي: في الدنيا بالقتل، والأسر، والتشريد. {وَتُحْشَرُونَ:} تساقون. والحشر:

الجمع، ومنه قوله تعالى في سورة (الكهف):{وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} وهذا كثير في القرآن الكريم بصيغة الماضي، والمضارع، والأمر، مثل قوله في سورة (الصّافات):{*احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللهِ} . {إِلى جَهَنَّمَ:} هي الدار الّتي يعذّب الله فيها الفجرة، والكفرة في الآخرة. {وَبِئْسَ الْمِهادُ:} الفراش، تقول: مهد، يمهد من باب قطع.

ومهد الفراش: بسطه. وسوّاه، وسهّله، وأصلحه، وفيه تهكم بالكافرين، والفاسدين المفسدين؛

ص: 24

حيث جعلت لهم جهنم غطاء، ووطاء، فأكرموا بذلك، كما تكرم الأمّ ولدها بالعطاء، والوطاء اللينين. وانظر الآية رقم [46] الآتية والمخاطب ب {قُلْ} سيّد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة {كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها.

{سَتُغْلَبُونَ:} السين: حرف استقبال، وتنفيس. (تغلبون): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَتُحْشَرُونَ} معطوفة عليها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {إِلى جَهَنَّمَ:}

متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{قُلْ} إلخ، مستأنفة لا محل لها.

(بئس): فعل ماض جامد لإنشاء الذم. {الْمِهادُ:} فاعله. والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: هي. وهذا المخصوص إما خبر لمبتدإ محذوف، أو هو مبتدأ مؤخر، خبره الجملة الفعلية. هذا؛ والجملة:«بئس المهاد المذمومة هي» إمّا من تمام القول، فتكون في محل نصب مقول القول، وإما مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام لتهويل جهنّم، وتفظيع حال أهلها.

{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)}

الشرح: {قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ} هذا الخطاب للمؤمنين، وفائدته تثبيت نفوسهم، وتشجيعها؛ حتى يقدموا على حرب مثليهم، وأمثالهم. ويحتمل: أن الخطاب لجميع الكفار، من يهود المدينة، ومشركي العرب، هذا؛ ولم يؤنث الفعل:{كانَ} لأحد أمرين: الأول الفصل بالجار والمجرور. والثاني: كون {آيَةٌ} مؤنثا مجازيّا، وما كان كذلك يجوز تأنيث فعله، وتذكيره.

قال تعالى في سورة المزمل: {السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ،} وقال امرؤ القيس: [المتقارب]

برهرهة رؤدة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر

هذا؛ و: {آيَةٌ:} عبرة، وعظة. {فِي فِئَتَيْنِ:} طائفتين. {فِئَةٌ:} طائفة، وجماعة من الناس، وهي اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، وفريق، ومعشر

إلخ. {اِلْتَقَتا} أي: يوم بدر. {تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ:} في طاعة الله، ومن أجل إعلاء كلمته؛ إذ لا يذكر لفظ القتال، أو الجهاد؛ إلا ويقرن بقوله:{فِي سَبِيلِ اللهِ} وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ الغاية من القتال، والجهاد غاية شريفة نبيلة، هي إعلاء كلمة الله، لا السيطرة، أو المغنم، أو الاستيلاء في الأرض، أو غير ذلك من الغايات الدنيئة.

ص: 25

{وَأُخْرى كافِرَةٌ} أي: بالله، ورسوله. {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ:} يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين، وكانوا قريبا من ألف مقاتل، أو مثلي عدد المسلمين، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وكان ذلك بعد أن قلّلهم الله في أعينهم، حتى اجترءوا عليهم، وتوجّهوا إليهم، فلمّا لاقوهم؛ كثروا في أعينهم؛ حتّى غلبوا. وكان ذلك مددا من الله تعالى للمؤمنين. أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين، قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [43]:

{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً} إلخ، وقال في الآية بعدها {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} إلخ؛ حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن كان بجانبه: أتراهم سبعين؟ قال:

أراهم مائة، قال: فلما أخذنا الأسارى؛ أخبرونا: أنهم كانوا ألفا.

{وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ} أي: كما أيّد المسلمين السابقين في غزوة بدر، وغيرها.

{إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ} أي: لعظة، وتذكيرا، واعتبارا لأصحاب العقول السليمة، والبصائر النيرة، فيستدلّون بذلك على قدرة الله تعالى، وقال تعالى في سورة (الحشر):

{فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} فيكون {الْأَبْصارِ} جمع: بصيرة، وهو غير معروف في اللغة؛ لأنّ جمع البصيرة بصائر، فالأولى اعتباره جمع: بصر بمعنى العلم.

هذا؛ والعين تطلق على الماء الجاري، أو النابع من الأرض، وجمعها في القلّة: أعين، وفي الكثرة: عيون، قال تعالى في سورة (الذاريات) وغيرها:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ} وتجمع في الكثرة أيضا على: أعيان، وهذا غير مشهور، وقليل الاستعمال. كما تطلق العين على العين الباصرة، وهو أكثر، وأشهر ما تستعمل في أولئك، كما تطلق على الجاسوس، كما في قولك: بث الأمير عيونه في المدينة، أي: بث جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء خالد عينه، وتطلق على الشّمس. وعين الشيء خياره، وتطلق على النقد من ذهب، وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط]

واستخدموا العين منّي وهي جارية

وقد سمحت بها أيّام وصلهمو

فالمراد ب «العين» نفسه، وذاته، والمراد ب «جارية» عينه الباصرة، الّتي تجري بالدّمع.

والمراد بقوله: (بها): نقد الذهب، وهذا يسمّى في فن البديع استخداما. وتطلق العين على أشياء كثيرة أيضا، وعلى المطر الهاطل من السّحاب، قال عنترة في معلقته رقم [29] وهو الشاهد رقم [359] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الكامل]

جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم، وبنو الأعيان: الأخوة من الأبوين.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ:} فعل ماض ناقص.

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {كانَ} أو هما متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} تقدّم على

ص: 26

اسمها. أو هما متعلقان بمحذوف حال من {آيَةٌ} كان نعتا له، فلمّا قدم عليه صار حالا على القاعدة التي ذكرتها مرارا. {آيَةٌ:} اسم {كانَ} . {فِي فِئَتَيْنِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} على الاعتبار الأول، والثالث في:{لَكُمْ} . أو هما متعلقان بمحذوف صفة: {آيَةٌ} على الاعتبار الثاني، وجملة:{قَدْ كانَ} إلخ مستأنفة لا محل لها، وقال الجمل: جواب قسم مقدّر، ولا أرى له وجها إلا على تقدير اللام: لقد كان

إلخ.

{اِلْتَقَتا:} فعل ماض مبني على الفتح، المقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث السّاكنة، والتي حرّكت بالفتحة أيضا لالتقائها ساكنة مع الألف التي هي في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{فِئَتَيْنِ} .

{فِئَةٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: إحداهما فئة. هذا؛ وقرئ بالجر على أنّه بدل بعض من: {فِئَتَيْنِ} كما قرئ بالنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني فئة.

وقيل: على الحال. {تُقاتِلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى فئة، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل صفة:{فِئَةٌ} . {فِي سَبِيلِ} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ:}

مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَأُخْرى} معطوف على:{فِئَةٌ} على جميع حركاتها، وهو أقوى من اعتبارها خبرا لمبتدإ محذوف. {كافِرَةٌ:} صفة ({أُخْرى}) على جميع حركاتها أيضا.

{يَرَوْنَهُمْ:} مضارع مرفوع، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ({أُخْرى}) بعد وصفها ب {كافِرَةٌ} أو هي صفة ثانية لها. {مِثْلَيْهِمْ:} حال من الضمير المنصوب، فهي حال متداخلة من وجه، فهو منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة. والهاء في محل جر بالإضافة. {رَأْيَ:} مفعول مطلق، وهو مضاف، و {الْعَيْنِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. ({اللهِ}) مبتدأ. {يُؤَيِّدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهِ}) والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {بِنَصْرِهِ:} متعلقان بما قبلهما. والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.

{يَشاءُ:} فعل مضارع والفاعل يعود إلى ({اللهِ})، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيئا يشاؤه.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَعِبْرَةً:} اللام: لام الابتداء، (عبرة): اسم {إِنَّ} مؤخر، {لِأُولِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (عبرة)، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر، وحذفت النون للإضافة، و (أولي) مضاف و {الْأَبْصارِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

ص: 27

{زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}

الشرح: {زُيِّنَ لِلنّاسِ..} . إلخ: حسّنت في أعينهم، وأشربت محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، وأعرضوا عن غيرها. والمزين في الحقيقة هو الله تعالى؛ إذ ما من شيء إلا هو فاعله، وكلّ من الشيطان، والقوة الحيوانية، وما خلقه الله فيها من الأمور البهيمية، والأشياء الشهية مزيّن بالعرض. انتهى بيضاوي.

هذا؛ وفي كثير من الآيات: {زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ} . وفي كثير منها إسناد الفاعل إلى الله، مثل قوله تعالى:{زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ} . وفي كثير {زُيِّنَ} بالبناء للمجهول، والمزيّن في الحقيقة هو الله تعالى عند أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوب العباد، وليس له قدرة أن يضل، أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط ممّن أراد الله، وقدر شقاوته سلطه عليه؛ حتى يقبل وسوسته. وهذا مبني على أنّ العبد لا يخلق أفعال نفسه، وإنما يخلقها الله تعالى، كما قال:{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} .

وأما المعتزلة؛ فيسندون الوسوسة، والتزيين إلى الشيطان حقيقة، وهذا مبنيّ على اعتقادهم:

أنّ العبد يخلق أفعال نفسه، وهو مبني على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح، والأصلح للعبد، وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة له، فمن ثم اعتبروا التزيين من الله تعالى مجازا، ومن الشيطان حقيقة، ولو عكسوا الجواب؛ لفازوا بالصواب، وإلى الله المرجع والمآب. وتزيين الله للابتلاء، وليتبيّن عبد الشهوة من عبد المولى، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه:(اللهمّ لا صبر لنا على ما زيّنت لنا، إلاّ بك).

وقوله تعالى في كثير من الآيات: {يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} دليل واضح، وصريح:

أنّ الله هو الفاعل المختار، فالمعتزلة تقول: العبد يخلق أفعال نفسه، والجبرية تقول: ليس للعبد كسب، بل هو مجبور كالريشة المعلّقة في الهواء، تقلبها الرياح كيف شاءت، فالمعتزلة فرّطوا، والجبرية أفرطوا، وتوسط أهل السّنّة، وخير الأمور أواسطها؛ حيث قالوا: ليس للعبد في أفعاله الاختيارية إلا الكسب، فليس مجبورا كما تقول الجبرية، وليس خالقا لها كما تقول المعتزلة، فخرج مذهبهم من بين فرث، ودم خالصا سائغا للشاربين. قال أحد الجبريّة موردا على أهل السنة:[البسيط]

ما حيلة العبد والأقدار جارية

عليه في كلّ حال أيّها الرّائي؟

ص: 28

ألقاه في اليمّ مكتوفا، وقال له:

إيّاك إيّاك أن تبتلّ في الماء

فأجابه بعض أهل السنة بقوله: [البسيط]

إن حفّه اللّطف لم يمسسه من بلل

ولم يبال بتكتيف وإلقاء

وإن يكن قدّر المولى بغرقته

فهو الغريق ولو ألقي بصحراء

{حُبُّ الشَّهَواتِ:} المشتهيات، سماها الله شهوات مبالغة، وإيماء إلى أنهم انهمكوا في محبتها، حتّى أحبوا شهوتها. وحركت الهاء بالفتح فرقا بين الاسم، والنعت، ومفردها: شهوة، واتباع الشهوات مرد، وطاعتها مهلكة. وأخرج مسلم-رحمه الله تعالى-عن أنس-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النّار بالشّهوات» والمعنى: أنّ الجنة لا تنال إلا بطاعة الله؛ وإن كان ثقيلة على النفس، وأنّ النار لا ينجى منها إلا بترك المحرّمات؛ التي تشتهيها النفس وعبّر الله عن المشتهيات بالشّهوات مبالغة، كأنّها نفس الشهوات، وتنبيها على خسّتها؛ لأنّ الشهوات مسترذلة عند العقلاء.

{مِنَ النِّساءِ:} بدأ الله بذكر النساء من المشتهيات؛ لأنّ الالتذاذ بهن أكثر، والاستئناس بهن أتمّ، ولأنهنّ حبائل الشيطان، وأقرب إلى الافتتان بهنّ، كما ثبت في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النّساء» . ففتنة النساء أعظم من جميع الأشياء.

ويقال: في النّساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة، فأما اللّتان في النساء؛ فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الأرحام؛ لأنّ المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات، والأخوات. والثاني بأن يبتلى بجمع المال من الحلال، والحرام بسبب مطالب الزوجة، التي لا تنتهي، ولا سيما في هذا الزمن. وانظر إعلال {النِّساءِ} في الآية رقم [61] الآتية.

{وَالْبَنِينَ:} مفرده: ابن. وإنّما ثنّى بالبنين؛ لأنهم ثمرات القلوب، وقرّة الأعين، كما قال القائل:[السريع]

وإنّما أولادنا بيننا

أكبادنا تمشي على الأرض

لو هبّت الرّيح على بعضهم

لامتنعت عيني من الغمض

وحب البنين تارة يكون للتفاخر، والتباهي، والزينة، فهو مذموم، وتارة يكون لتكثير النّسل، وتكثير أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ممّن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح، كما ثبت في الحديث:«تزوّجوا الودود الولود، فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» . رواه أبو داود، والنسائي عن معقل بن يسار، رضي الله عنه، ولهذا ثنّى بالبنين بعد النساء وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:

«الولد مبخلة مجبنة محزنة» ولأنهم فروع منهنّ، وثمرات نشأت عنهنّ. وقدّموا على الأموال لأنّهم أحبّ إلى المرء من ماله. وخصّ البنون بالذكر دون البنات؛ لأن حبّ الذكر أكثر من حبّ

ص: 29

الأنثى، ولأن والده يتكثّر به، ويعضده، ويقوم مقامه. وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر، والخيلاء، والتكبّر على الضعفاء، والتجبّر على الفقراء، فهذا مذموم. وتارة يكون للنفقة في القربات، وصلة الأرحام، والقرابات، ووجوه البرّ، والطاعات. فهذا ممدوح محمود شرعا.

{وَالْقَناطِيرِ:} جمع قنطار. هذا؛ وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال، وحاصلها: أنه المال الجزيل، كما قاله الضحّاك، وغيره. و {الْمُقَنْطَرَةِ:} المجمّع بعضها فوق بعض، وتقول العرب: قنطرت الشيء: إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة؛ لإحكامها، قال طرفة بن العبد في معلّقته رقم [22]:[الطويل]

كقنطرة الرّوميّ أقسم ربّها

لتكتنفن حتّى تشاد بقرمد

{مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:} هذان أصل التعامل مع الناس، فلذا خصّا بالذّكر، فالذهب يذكّر، ويؤنث، وهو مأخوذ من الذّهاب. والفضّة مأخوذة من انفضّ الشيء: تفرق، ومنه فضضت القوم، فانفضوا؛ أي: فرقتهم، فتفرقوا. وهذا الاشتقاق يشعر بزوالها، وعدم ثبوتها كما هو مشاهد في الوجود. ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم:[البسيط]

النّار آخر دينار نطقت به

والهمّ آخر هذا الدّرهم الجاري

والمرء بينهما إن كان ذا ورع

معذّب القلب بين الهمّ والنّار

{وَالْخَيْلِ:} ({الْخَيْلِ}): اسم جمع لا واحد لها من لفظها، وتجمع على: خيول. والخيل مؤنثة؛ لأنّ أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها؛ إذا كانت لغير الآدميين مثل: خيل، وغنم، وإبل، فالتأنيث لها لازم. وإذا قالوا: خيلان، وغنمان، وإبلان؛ فإنّما يريدون قطيعين من الخيل، والغنم، والإبل. وقال ابن كيسان: حدّثت عن أبي عبيدة: أنه قال: واحد الخيل:

خائل، مثل: طاير، وطير، وسمّي الفرس بذلك لأنه يختال في مشيه. وفي الخبر من حديث عليّ رضي الله عنه؛ قال:«إن الله خلق الفرس من الرّيح، ولذلك جعلها تطير بلا جناح» .

وسمّيت خيلا؛ لأنّها موسومة بالعز، فمن ركبها اعتز بنحلة الله له، ويختال بها على أعداء الله تعالى. وسمي الواحد فرسا؛ لأنه يفترس مسافات الأرض افتراس الأسد وثبانا، وسمي عربيّا؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربيّ فصارت نحلة من الله، فسمي عربيّا. والأحاديث في مدح الخيل، ومدح من يقتنيها، وينفق عليها كثيرة.

{الْمُسَوَّمَةِ} يعني: الراعية في المروج، والمسارح. قال سعيد بن جبير-رضي الله عنه يقال: سامت الدّبة، والشاة: إذا سرحت، تسوم سوما، فهي سائمة. وقيل:({الْمُسَوَّمَةِ}) من السّمة، وهي العلامة. واختلفوا في تلك العلامة. فقيل الغرّة، والتحجيل. وقيل: هي الخيل البلق. وقيل: هي المعلمة بالكيّ. وقيل: {الْمُسَوَّمَةِ:} المضمّرة الحسان. قال النابغة: [الوافر]

ص: 30

بضمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

({وَالْأَنْعامِ}): جمع: نعم، وهي الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة (الأنعام) ولا يقال للجنس الواحد منها: نعم؛ إلا للإبل خاصّة، فإنه غلب عليها. قال حسّان-رضي الله عنه:[الوافر]

وكانت لا يزال بها أنيس

خلال مروجها نعم وشاء

هذا؛ وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي-رضي الله عنه-يرفعه؛ قال: «الإبل عزّ لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة» .

{وَالْحَرْثِ:} الأرض المعدّة للزراعة، والغراس. وفي صحيح البخاريّ عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه-وقد رأى سكة، وشيئا من آلة الحرث، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذّلّ» . قال المهلّب: المعنى-والله أعلم-: الحضّ في هذا الحديث على معالي الأمور، وطلب الرّزق من أشرف الصناعات، وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث، وتضييع ركوب الخيل في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث؛ غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها، فحضّهم على التعيش من الجهاد، لا من الإخلاد إلى عمارة الأرض، ولزوم المهنة. وفي الوقت نفسه رغّب الرسول صلى الله عليه وسلم في الزّراعة، فقال:«ما من مسلم غرس غرسا، أو زرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة؛ إلاّ كان له به صدقة» . أخرجاه في الصّحيحين عن أنس، رضي الله عنه. وقال الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-عن سويد بن هبيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خير مال امرئ، له مهرة مأمورة، أو سكّة مأبورة» . المأمورة:

الكثيرة النّسل، والسّكة: النخل المصطف، والمأبورة: الملقّحة.

قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كلّ نوع من المال يتموّل به صنف من الناس، أمّا الذهب، والفضة؛ فيتمول بها التّجار، وأمّا الخيل المسوّمة، فيتموّل بها الملوك، وأمّا الأنعام؛ فيتموّل بها أهل البوادي. وأمّا الحرث؛ فيتمول به أهل الرساتيق (القرى) فتكون فتنة كلّ صنف من النّوع الذي يتموّل به. وأما النّساء، والبنون؛ فهي فتنة للجميع.

{ذلِكَ:} الإشارة إلى جميع ما ذكر. {مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي: يتمتع به فيها، ثم يفنى، كما تفنى. وهذا منه تعالى تزهيد في الدنيا، وانظر الترغيب في الآخرة في الآية التالية، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«الدّنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصّالحة» . أخرجه مسلم، والنّسائي عن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما.

{وَاللهُ عِنْدَهُ:} عندية تشريف، وتكريم، لا عندية مكان. {حُسْنُ الْمَآبِ:} حسن المرجع والثّواب، من: آب، يؤوب إيابا: إذا رجع، قال امرؤ القيس:[الوافر]

وقد طوّفت في الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب

ص: 31

وقال عبيد بن الأبرص في معلّقته: [مخلّع البسيط]

وكلّ ذي غيبة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

وأصل مآب: مأوب، مثل: مقول، فقل في إعلالهما: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، فنقلت حركة الواو إلى الهمزة، والميم قبلها، ثمّ يقال: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.

الإعراب: {زُيِّنَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لِلنّاسِ:} متعلقان به. {حُبُّ:} نائب فاعله، وهو مضاف، و {الشَّهَواتِ} مضاف إليه. من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. التقدير:

حبّهم الشهوات. {مِنَ النِّساءِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الشَّهَواتِ} . {وَالْبَنِينَ:}

معطوف على {النِّساءِ} مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْقَناطِيرِ:} معطوف على {النِّساءِ} .

{الْمُقَنْطَرَةِ} صفة له. {مِنَ الذَّهَبِ:} متعلقان ب {الْمُقَنْطَرَةِ،} وقيل: متعلقان بمحذوف حال من ({الْقَناطِيرِ}). {وَالْخَيْلِ:} معطوف على النّساء. {الْمُسَوَّمَةِ:} صفة ({الْخَيْلِ}). {وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ:} معطوفان أيضا على {النِّساءِ} . والجملة الفعلية: {زُيِّنَ} إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مَتاعُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْحَياةِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {الدُّنْيا:} صفة {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. ({اللهُ}): مبتدأ. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، {حُسْنُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، وهذا وإن اعتبرت الظرف متعلقا بمحذوف خبر المبتدأ ف {حُسْنُ} يكون فاعلا به؛ أي: بمتعلقه، وهو وجه صحيح لا غبار عليه، التقدير: والله يوجد عنده حسن. و {حُسْنُ} مضاف، و {الْمَآبِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ} إلخ في محل نصب حال من متاع الحياة، والرابط الواو فقط، والعامل في الحال اسم الإشارة، وهو أولى من العطف على ما قبلها.

{قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)}

الشرح: {قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى:

هل تريدون أن أخبركم بما هو أفضل، وأعظم ممّا ذكر في الآية السّابقة من المشتهيات؟ هذا؛

ص: 32

و ({أُنَبِّئُكُمْ}) مضارع ماضيه «نبّأ» . هذا؛ والأفعال: نبّأ، وأنبأ، وخبّر، وأخبر، وحدّث تتعدى لاثنين: إلى الأول بنفسها، وإلى الثاني بحرف الجر، وقد يحذف الجار تخفيفا، وقد يحذف الأول للدلالة عليه. وقد جاءت الاستعمالات الثلاث في قوله تعالى من سورة (التّحريم):{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فقوله تعالى: {فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ} تعدى لاثنين، حذف أولهما، والثاني مجرور بالياء، أي: نبأت به غيرها، وقوله:{فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ} ذكرهما، وقوله:{مَنْ أَنْبَأَكَ هذا} ذكرهما، وحذف الجار، فالأول تعدى إلى مفعول صريح، وإلى الثاني بحرف الجر، والفعل الثاني مثله، والثالث تعدّى إلى مفعولين صريحين. وهذا إذا لم يدخل:(نبّأ، وأنبأ) على المبتدأ، والخبر؛ جاز أن يكتفى فيها بمفعول واحد، وبمفعولين، فإذا أدخلا على المبتدأ، والخبر؛ تعدّى كلّ واحد إلى ثلاثة مفاعيل، ولم يجز الاقتصار على الاثنين دون الثالث؛ لأن الثالث هو خبر المبتدأ في الأصل، فلا يقتصر دونه، كما لا يقتصر على المبتدأ دون الخبر. ومثال دخول أحدهما على المبتدأ، أو الخبر قولك: نبأت زيدا عمرا منطلقا، أو: أنبأت زيدا عمرا مجتهدا، ففي المثالين يجب نصب ثلاثة مفاعيل. والله وليّ التوفيق. ومن ذلك قول النابغة الذبياني-وهو الشاهد رقم [20] من كتابنا: فتح رب البريّة إعراب شواهد جمع الدروس العربية-: [الكامل]

نبّئت زرعة والسّفاهة كاسمها

يهدي إليّ غرائب الأشعار

وأيضا قوله-وهو الشاهد رقم [21] من الكتاب المذكور-: [البسيط] نبّئت أنّ أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زار من الأسد

وأيضا قول قيس بن الملوّح-وهو الشاهد رقم [118] من كتابنا فتح القريب المجيب إعراب شواهد مغني اللبيب-: [الطويل]

ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة

إليّ فهلاّ نفس ليلى شفيعها

هذا؛ والنبأ: الخبر وزنا ومعنى، ويقال: النبأ أخصّ من الخبر؛ لأنّ النبأ لا يطلق إلا على كل ما له شأن، وخطر من الأخبار. وقال الراغب: النبأ: خبر ذو فائدة، يحصل به علم، أو غلبة ظنّ، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ؛ حتى يتضمّن هذه الأشياء الثلاثة، وحقّه أن يتعرّى عن الكذب، كالمتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر الرّسول صلى الله عليه وسلم. هذا؛ وقد يجيء الفعل من نبّأ غير مضمن معنى: أعلم، فلذلك يعدى بواحد بنفسه، وللآخر بحرف الجر، كما في الآية المذكورة.

{لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد: المهاجرون، والأنصار، يعرفهم، ويشوقهم الله إلى الآخرة، قال العلماء: ويدخل في هذا الخطاب كلّ من اتّقى الشرك، فأخبرهم الله: أن ما عنده، أي: الذي ادّخره لهم خير ممّا كان في الدنيا؛ وإن كان محبوبا عندهم، فرغّبهم الله على ترك ما يحبّون لما يرجون.

ص: 33

{جَنّاتٌ:} جمع: جنة، وهي البستان من النخل، والشّجر الكثير المتكاثف؛ الّذي يجنّ؛ أي: يستر ما يكون متداخلا فيه. وسمّيت دار الثواب: جنّة؛ لما فيها من النّعيم؛ الذي لا ينفد.

وجمع الجنّة على جنّات يدلّ على جنات كثيرة مرتّبة مراتب بحسب أعمال العاملين، لكلّ طبقة منهم جنّة من تلك الجنان، وهي سبع، بل ثمان: جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، ودار الخلد، ودار المقامة، ودار السّلام، وجنة المأوى، وعليّون، وفي كل منها مراتب ودرجات متفاوتة على حسب درجات الأعمال، والعمال. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي: من تحت قصورها، وأشجارها، ولم يجر لها ذكر؛ لأن الجنّات تدلّ عليها، والأنهار لا تجري، وإنما يجري الماء فيها، فهو من تسمية الشيء باسم محله، ويسمى مجازا مرسلا، وهو كثير في كتاب الله تعالى، مثل قوله تعالى:{وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} أي أهلها، وقال الشاعر:[الكامل]

نبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت

واستبّ بعدك يا كليب المجلس

أي: أهل المجلس. هذا؛ و {الْأَنْهارُ} جمع: نهر، وهو معروف في الدّنيا، ولكن شتان ما بين أنهار الجنّة، وأنهار الدّنيا، فأنهار الجنة من أنواع الأشربة من العسل، واللبن، والخمر، والماء وغير ذلك. هذا؛ ويجمع النّهر على أنهر، ونهر، ونهور، وأنهار. وهاء النّهر تسكّن، وتفتح؛ هذا وروي: أنّ أنهار الجنّة ليست في أخاديد، إنّما تجري على سطح الجنة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها.

{خالِدِينَ فِيها:} ماكثين مقيمين فيها أبدا. وهذا من تمام السّعادة، فإنّهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناء خالد، لا يعتريه انقطاع، ولا يصيبهم مرض، ولا همّ، ولا غمّ، ولا يطرأ عليهم عجز، وشيخوخة، فقد روى مسلم عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهم-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يمتخطون» . قالوا: فما بال الطعام؟! قال: «جشاء، ورشح كرشح المسك. يلهمون التّسبيح، والتّحميد، كما تلهمون النّفس» .

{وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي: ولهم في الجنّة زوجات مطهّرات من الأقذار، والأدناس الحسّيّة، والمعنويّة. فالحسّيّة: مثل الحيض، والنفاس، والبول، والغائط، والنّخام. والمعنوية: مثل سوء الخلق، وإيذاء الأزواج، وعدم طاعتهم، والانصياع لأوامرهم. وكذلك نساء الدّنيا المؤمنات يكنّ يوم القيامة أجمل من الحور العين، كما قال تعالى في سورة (الواقعة):{إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً} ولكل مؤمن في الجنة زوجتان من نساء الدنيا، وعدد من الحور العين على حسب درجته، ومكانته عند الله تعالى. {وَرِضْوانٌ:} أي يحل عليهم رضوانه، فلا يسخط عليهم بعده أبدا، ولهذا قال تعالى في سورة (براءة):{وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} أي:

إنّ رضوان الله الذي ينزله عليهم أكبر من كلّ ما سلف ذكره من نعيم الجنّة. وخذ ما يلي:

ص: 34

فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنّة: يا أهل الجنّة! فيقولون: لبّيك ربّنا، وسعديك، والخير كلّه في يديك! فيقول:

هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربّنا؛ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا!». متفق عليه.

{وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} يعني: إن الله عالم بمن يؤثر ما عنده من النّعيم المقيم ممّن يؤثر شهوات الدنيا، فيجازي كلاّ على عمله، فيثيب، ويعاقب على قدر الأعمال.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَأُنَبِّئُكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، واستخبار، ({أُنَبِّئُكُمْ}): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والكاف مفعول به.

{بِخَيْرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ: مستأنفة لا محلّ لها. {مِنْ ذلِكُمْ:} متعلقان ب (خير) واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {اِتَّقَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالخبر المحذوف، أو هو متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، وهو بدوره عائد على:{جَنّاتٌ} و ({عِنْدَ}) مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {جَنّاتٌ} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، ويكون الوقف على:{ذلِكُمْ} جيدا. هذا وجه للإعراب.

وقيل: {لِلَّذِينَ} متعلقان ب (خير) وعليه ف {جَنّاتٌ} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي جنات.

ولا تنس: أن {جَنّاتٌ} يقرأ بالجر، وخرّج على أنه بدل من:(خير). {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بما قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {الْأَنْهارُ} وهو ضعيف و (ها) في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل تجري، والجملة الفعلية صفة:{جَنّاتٌ} . {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم. والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِدِينَ} . {وَأَزْواجٌ:} معطوف على {جَنّاتٌ} . {مُطَهَّرَةٌ:} صفة له. {وَرِضْوانٌ:} معطوف على جنات أيضا. وهذا على رفع {جَنّاتٌ} وأما على قراءة الجر ف ({أَزْواجٌ}) و ({رِضْوانٌ}): مبتدأ محذوف الخبر، التقدير: ولهم أزواج ورضوان. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب ({رِضْوانٌ}) أو بمحذوف صفة له. {وَاللهُ بَصِيرٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام، فيها وعد، ووعيد. {بِالْعِبادِ:} متعلقان ب {بَصِيرٌ} .

ص: 35

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النّارِ (16)}

الشرح: هذه الآية الكريمة، والتي بعدها تصفان المتّقين الذين أكرمهم الله بالخلود في دار النعيم. {رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا} أي: صدقنا بك، وبكتبك، وبرسلك، واليوم الآخر، وبملائكتك، وقضائك، وقدرك خيره، وشره. {فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا:} سيئاتنا، ومعاصينا. والذنب يطلق على مخالفة الله فيما أمر، وفيما نهى عنه، وهو على درجات، منها: الصغائر، ومنها: الكبائر، وتفصيلها معروف في محالّها. هذا؛ وذنوب بالمعنى المتقدّم بضم الذال، وهو بفتحها بمعنى النصيب، قال تعالى في سورة (الذّاريات) رقم [59]:{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} . وهو أيضا الدّلو العظيمة في الأصل، قال الراجز:[الرجز]

إنّا إذا شاربنا شريب

له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبى كان له القليب

{وَقِنا:} فعل دعاء من الوقاية، وهي التحرّز من المهالك في الدنيا، والآخرة، وصيغته صيغة أمر، فهو من اللّفيف المفروق:«وقى، يقي» فتحذف فاؤه من المضارع مثل كلّ فعل مثال، كوعد، يعد، ووزن، ويزن

إلخ، والأمر منه: اوقنا بهمزة وصل، حذفت منه الواو، كما حذفت من مضارعه، واستغني عن همزة الوصل لتحرك الحرف المبدوء به، وتحذف لامه مع فائه لبنائه على حذف حرف العلة مثل كلّ فعل ناقص معتلّ الآخر، مثل: اسع، وادع، وارم. فيبقى فعل الأمر فعلا واحدا (ق) ومثله: وعى، يعي، ع، ووفى، يفي، ف، وولي، يلي، ل، ووطى، يطي، ط، ووأى يئي إ. قال:«أبو يعقوب بن يوسف الدباغ الصقلي» وهو الشاهد رقم [13] من كتابنا فتح القريب المجيب: [الخفيف]

إنّ هند المليحة الحسناء

وأي من أضمرت لخلّ وفاء

«إنّ» أصله: «إينّ» بمعنى: «عدي» فحذفت الياء لالتقائها ساكنة مع النون المدغمة. «وأي» :

وعد.

وإذا لم يتصل به ضمير تلحقه هاء السكت. فتقول: قه، فه، له، عه، طه، إه، وبه يلغز، كما في قول القائل:[الرجز]

في أيّ لفظ يا نحاة الملّه

حركة قامت مقام الجمله؟

هذا؛ و {عَذابَ} اسم مصدر لا مصدر؛ لأن المصدر تعذيب؛ لأنه من: عذّب، يعذّب، بتشديد الذال فيهما، وقيل: هو مصدر على حذف الزوائد، ومثله: عطاء، وسلام، ونبات، من:

أعطى، وسلّم، وأنبت. هذا؛ والعذاب: كل ما شقّ على الإنسان احتماله، ومنعه من مراده، وهو النّكال: وزنا، ومعنى.

ص: 36

أما {النّارِ} فأصلها النّور: تحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، وهي من المؤنث المجازي، وقد تذكّر، وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنّم؛ التي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين، كما أنها تستعار للشدّة، والضيق، والبلاء. قال الشاعر:[الطويل]

وألقى على قيس من النّار جذوة

شديدا عليها حرّها والتهابها

والفعل: نار، ينور، يستعمل لازما، ومتعديا إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون.

الإعراب: {الَّذِينَ:} فيه أوجه: الإتباع على البدلية من: (الذين اتقوا) فيكون مبنيّا على الفتح في محل جر. والقطع على إضمار: أمدح، أو أعني، فيكون مبنيّا على الفتح في محل نصب. والقطع على إضمار «هم» فيكون مبنيّا على الفتح في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف.

{يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {رَبَّنا:} منادى حذف منه حرف النداء. و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنَّنا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا) في محل نصب اسمها. {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) وهنا قد وقعت (نا) ضميرا مشتركا بين الرفع، والنصب، والجر. {فَاغْفِرْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها في مثل ذلك الفاء الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدّر. (اغفر): فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ذُنُوبَنا:} مفعول به. و (نا): في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر، التقدير: وإذا كان الإيمان حاصلا منا؛ فاغفر لنا ذنوبنا. والكلام كلّه في محل نصب مقول القول. ({قِنا}): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» ونا مفعول به أول. {عَذابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه من إضافة اسم المصدر لظرفه، وفاعله محذوف. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)}

الشرح: {الصّابِرِينَ:} يعني: على أداء الواجبات، وعن المحرّمات، والمنهيّات، وفي البأساء والضراء، وحين البأس، والصّابرين على أنواع البلاء. ({الصّادِقِينَ}) يعني: في إيمانهم، قال قتادة-رحمه الله تعالى-: هم قوم صدقت نيّاتهم، واستقامت ألسنتهم، وقلوبهم في السرّ، والعلانية، والصّدق يكون في القول، والفعل، والنّيّة، فأمّا صدق القول؛ فهو مجانبة الكذب

ص: 37

فيه. وأما الصّدق في الفعل هو عدم الانصراف عنه قبل تمامه. والصّدق في النيّة: العزم على الفعل؛ حتى يبلغه. {وَالْمُنْفِقِينَ:} يعني أموالهم في طاعة الله تعالى. ويدخل فيه: نفقة الرجل على نفسه، وعلى أهله، وأقاربه، وصلة رحمه، والزّكاة، والنفقة في القربات. وانظر ما ذكرته في سورة البقرة؛ تجد ما يسرّك.

{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ:} ومثله قوله تعالى في سورة (الذاريات): {وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .

هذا؛ والأسحار جمع: سحر: آخر الليل، وهو بفتحتين، وهو بكسر السين، وسكون الحاء:

خزعبلات، وضلالات يقوم بها أفّاكون، ودجّالون. وهو بفتح السين، وسكون الحاء: منتهى قصبة الحلقوم، ومنه قول أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه بين سحري، ونحري. انتهى جمل نقلا من السّمين.

وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية الكريمة حصر لمقامات السّالك على أحسن ترتيب، فإنّ معاملته مع الله تعالى: إمّا توسل، وإمّا طلب، والتوسّل إمّا بالنفس، وهو منعها من الرّذائل، وحبسها على الفضائل، والصبر يشملها. وإمّا بالبدن، وهو إما قولي، وهو الصّدق، وإما فعلي، وهو القنوت؛ الذي هو ملازمة الطّاعة. وإمّا بالمال، وهو الإنفاق في سبيل الخير، وأمّا الطلب؛ فبالاستغفار؛ لأنّ المغفرة أعظم المطالب، بل الجامع لها. وتوسيط الواو بينها للدلالة على استقلال كلّ واحدة منها، وكمالهم فيها، أو لتغاير الموصوفين بها.

وتخصيص الأسحار بالذّكر؛ لأنّ الدّعاء فيها أقرب إلى الإجابة؛ لأنّ العبادة حينئذ أشقّ، والنّفس أصفى، والرّوع أجمع للمجتهدين. قيل: إنّهم كانوا يصلّون إلى السّحر، ثم يستغفرون بالأسحار، ويدعون انتهى بحروفه.

نعم؛ قال نافع مولى ابن عمر-رضي الله عنهما: كان ابن عمر يحيي اللّيل، ثمّ يقول: يا نافع! أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصّلاة، فإذا قلت: نعم؛ قد يستغفر، ويدعو حتّى يصلّي الصّبح. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا حين يبقى الثّلث الأخير، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟! حتى يطلع الفجر» متّفق عليه. فهذا الحديث من أحاديث الصّفات، وللعلماء فيه، وفي أمثاله مذهبان معروفان: مذهب السّلف: الإيمان به، وإجراؤه على ظاهره، ونفي الكيفية عنه. والمذهب الثاني هو مذهب من يتأوّل أحاديث الصّفات، انظر الآية رقم [7]. وبالجملة فقد وصف الله تعالى هؤلاء بما وصف، ثمّ بيّن: أنّهم مع ذلك لشدّة خوفهم، ووجلهم: أنهم يستغفرون بالأسحار، وروي: أنّ لقمان-عليه السلام-قال لابنه: يا بني! لا تكن أعجز من الدّيك، فإنه يصوّت بالأسحار؛ وأنت نائم على فراشك. وقد قال الزمخشري: وخصّ الأسحار؛ لأنّهم كانوا يقدّمون قيام الليل، فيحسن طلب الحاجة بعده، كما قال تعالى في سورة (فاطر):{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} .

ص: 38

هذا؛ وإنّ الله جلّت قدرته حثّنا على الاستغفار في جميع الأوقات، ورغّبنا فيها الرّسول صلى الله عليه وسلم في جميع الحالات، فعن عبد الله بن بسر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير!» رواه ابن ماجة، والبيهقيّ. وعن محمّد بن عبد الله ابن محمد بن جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-عن أبيه عن جدّه، قال: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وا ذنوباه! وا ذنوباه! فقال هذا القول مرّتين، أو ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل:

اللهمّ مغفرتك أوسع من ذنوبي! ورحمتك أرجى عندي من عملي!». فقالها، ثم قال:«عد» ، فعاد، ثم قال:«عد» فعاد، ثم قال:«قم فقد غفر الله لك» .

وعن بلال بن يسار بن زيد-رضي الله عنه-قال: حدثني أبي عن جدّي: أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال: أستغفر الله الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم، وأتوب إليه؛ غفر له؛ وإن كان فرّ من الزّحف» . رواه أبو داود، والترمذيّ. وانظر الآية رقم [135] الآتية.

الإعراب: {الصّابِرِينَ:} صفة: {الَّذِينَ} أو بدل منه، وذلك على اعتباره في محل نصب، أو في محل جر، وأما على اعتباره في محل رفع؛ ف {الصّابِرِينَ} يكون منصوبا بفعل محذوف، تقديره: أمدح، أو أعني، ونحو ذلك، وعلامة النصب، أو الجر فيه، وفيما بعده الياء نيابة عن الفتحة، أو الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وفي كلّ واحد منها ضمير مستتر، هو فاعله؛ لأنها كلّها أسماء الفاعلين.

{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}

الشرح: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ..} . إلخ: بيّن الله، وأعلم عباده بانفراده بالوحدانية. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة، فشهد لنفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق حين كان، ولم تكن سماء، ولا أرض، ولا بر، ولا بحر، فقال تعالى:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} .

{وَالْمَلائِكَةُ} أي: وشهد الملائكة. فمعنى شهادة الله تعالى: الإعلام، والإخبار. ومعنى شهادة الملائكة، والمؤمنين: الإقرار، والاعتراف بأنّه لا إله إلا هو. ولمّا كان كل واحد من هذين الأمرين يسمّى شهادة؛ حسن إطلاق الشهادة عليها. {وَأُولُوا الْعِلْمِ} أي: وشهد أولو العلم بأنّه لا إله إلا هو. وفيه دليل على فضل العلم، وشرف العلماء، فإنّه لو كان أحد أشرف من العلماء؛ لقرنهم الله باسمه، واسم ملائكته، كما قرن اسم العلماء؛ لذا قال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} فلو كان شيء أشرف من العلم؛ لأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه، كما أمره أن يستزيده من العلم. وخذ ما يلي:

ص: 39

فعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غدا يريد العلم يتعلّمه لله؛ فتح الله له بابا إلى الجنة، وفرشت له الملائكة أكنافها، وصلّت عليه ملائكة السّماوات، وحيتان البحر، وللعالم من الفضل على العابد كالقمر ليلة البدر على أصغر كوكب في السّماء، والعلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا، ولا درهما، ولكنّهم ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظّ وافر، وموت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسدّ، وهو نجم طمس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم» رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة.

{قائِماً بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل، ومعناه: أنه تعالى قائم بتدبير خلقه، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، يعني: أنه مدبّر له، ومتعهّد لأسبابه. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} ذكرها للتأكيد، وفائدتها:

الإعلام بأنّ هذه الكلمة أعظم الكلام، وأشرفه. ففيه حثّ للعباد على تكرارها، والاشتغال بها، فإنه من اشتغل بها؛ فقد اشتغل بأفضل العبادات، وأعظم الطّاعات. وخذ ما يلي:

فعن غالب القطّان، عن الأعمش؛ قال: حدّثني أبو وائل عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله تعالى: عبدي عهد إليّ، وأنا أحقّ من وفّى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنّة» . رواه الطّبراني في الكبير. وقال الخازن: وروى البغوي بسند الثعلبي عن غالب القطّان

إلخ، والمراد بصاحبها: الّذي يقول الآية.

وقد ورد في فضل الآية الكريمة أيضا: أنّ من قرأها عند منامه، وألحق بها قوله تعالى:

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ} ثمّ قال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، فمات من ليلته؛ مات على إيمان كامل، ويجزيه بها ربّنا ما تقدّم في الحديث الشريف. وذكر القرطبيّ-رحمه الله تعالى-حديثا عن أنس-رضي الله عنه-بشأن قراءة الآية عند النّوم فيه مجازفات كبيرة، وضعفه ظاهر للعيان. والله أعلم، وأجلّ، وأكرم.

ذكر في سبب نزول الآية الكريمة: أنّه لمّا استقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ وفد عليه حبران من أحبار الشام، فلمّا دخلا عليه؛ عرفاه بالصّفة، والنّعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: «نعم» .

قالا: وأنت أحمد؟ قال: «نعم» . قالا: نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها؛ آمنا بك، وصدّقناك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سلاني!» فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله.

فنزلت: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ..} . إلخ الآية، فأسلم الرجلان، وصدّقا برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وخذ المحاورة اللّطيفة بين العقل، والعلم، حيث يقول القائل، وقد أحسن، وأجاد:[البسيط]

علم العليم وعقل العاقل اختلفا

من ذا الّذي منهما قد أحرز الشّرفا

فالعلم قال أنا أحرزت غايته

والعقل قال أنا الرّحمن بي عرفا

فأفصح العلم إفصاحا وقال له

بأيّنا الله في فرقانه اتّصفا؟

فبان للعقل أنّ العلم سيّده

فقبّل العقل رأس العلم وانصرفا

ص: 40

الإعراب: {شَهِدَ اللهُ:} ماض، وفاعله، وقال أبو البقاء والزّمخشري: يقرأ: («شهداء لله») بالنصب على الحال من الأسماء السابقة، وبالرّفع على تقدير: هم شهداء لله، ويكون:

و {وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} معطوفين على الضمير المستتر ب (شهداء). وجاز ذلك للفصل، وهذه القراءة لا تعطي المعنى الجيد كما في القراءة الأولى، وعلى كلّ فهي قراءة شاذّة:{أَنَّهُ:}

حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} في محل رفع خبر:

(أنّ) و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، أو هو في محل نصب بنزع الخافض، التقدير: يكون لا إله إلا الله، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:

{شَهِدَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها {وَالْمَلائِكَةُ:} معطوف على لفظ الجلالة، {وَأُولُوا:}

معطوف أيضا، فهو مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و ({أُولُوا}) مضاف، و {الْعِلْمِ} مضاف إليه. {قائِماً:} حال من لفظ الجلالة، أو من الضمير المنفصل، وهي حال لازمة على الاعتبارين، والعامل في الحال معنى الجملة، و {بِالْقِسْطِ} متعلقان ب {قائِماً} لذا فهو يحمل ضمير مستترا هو فاعله. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} انظر إعراب هذه الجملة، وسابقتها في أول السّورة.

{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)}

الشرح: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ} أي: إن الدين المرضي عند الله هو الإسلام، كما قال تعالى في سورة (المائدة):{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} وقال في الآية رقم [85] الآتية: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وانظر شرح: {الدِّينَ} في سورة (البقرة) رقم [256] و {الْإِسْلامُ} هو الدخول في السّلم، وهو الاستسلام، والانقياد، والدخول في الطاعة.

و {الْإِسْلامُ} وهو الشريعة المرضية عند الله، والمبعوث به الرسل من لدن آدم إلى عهد نبينا، عليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وهو المبنيّ على التوحيد، وهو المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، ولا انحراف.

{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: من اليهود، والنصارى، أو من أرباب الكتب المتقدمة في دين الإسلام. فقال قوم: إنه حق، وقال قوم: إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقا، أو اختلفوا في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود: عزيز ابن الله، وكان هذا منهم بعد ما علموا حقيقة الأمر، وتمكّنوا من العلم بها، أي: بالحجج الدامغات، والآيات السّاطعات، والمعجزات الباهرات. {بَغْياً بَيْنَهُمْ:} أي: بغي بعضهم على

ص: 41

بعض، فاختلفوا في الحقّ بسبب تحاسدهم، وتباغضهم، وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جمع أقواله، وأفعاله؛ وإن كانت حقّا.

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ} أي: من جحد ما أنزل الله في كتابه من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم {فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} لا يحتاج إلى عدّ، ولا إلى عقد، ولا إلى إعمال فكر، كما يفعله الحسّاب، ولهذا قال تعالى في سورة (الأنبياء):{وَكَفى بِنا حاسِبِينَ} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه يوم الخندق: «اللهمّ منزل الكتاب، سريع الحساب

» إلخ. والمعنى: أن الله تعالى، لا يشغله شأن عن شأن، فكما يرزقهم في ساعة واحدة، يحاسبهم لذلك في ساعة واحدة. قال تعالى:

{ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} رقم [28] من سورة (لقمان) وقيل للإمام عليّ-رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟! قال: كما يرزقهم في يوم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إذا أخذ الله في حسابهم: لم يقل أهل الجنة إلا فيها. هذا؛ ويقيل من القيلولة وهي الاستراحة وقت الظهيرة. ومعنى الحساب وفائدته تعريف الله العباد مقادير الجزاء على أعمالهم، وتذكيره إيّاهم ما قد نسوه بدليل قوله تعالى في سورة (المجادلة):{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} .

هذا؛ وأما البغي، فهو الظلم، والاعتداء على حقّ الغير، وعواقبه ذميمة، ومآله وخيم، وعقباه أليمة؛ ولو أنّ له جنودا بعدد الحصى، والرّمل، والتّراب. ورحم الله من يقول-وهو الشاهد رقم [239] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [البسيط]

لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا

جنوده ضاق عنها السّهل والجبل

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا، ولا تبغ، ولا تعن باغيا، ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} . وقال جلّ شأنه: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} وقال جلّ ذكره: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} وقال أبو بكر الصّديق رضي الله عنه: «ثلاث من كنّ فيه؛ كنّ عليه» وتلا الآيات الثلاث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«أسرع الخير ثوابا صلة الرّحم، وأعجل الشّرّ عقابا البغي، واليمين الفاجرة» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: «لو بغى جبل على جبل؛ لدكّ الباغي» .

فأخذه بعض الشعراء، فقال:[البسيط]

يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة

فاربع فخير مقال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوما على جبل

لاندكّ منه أعاليه وأسفله

وكان المأمون يتمثّل بهذين البيتين في أخيه الأمين حين ابتدأه بالبغي عليه. قال الشّاعر الحكيم: [الكامل]

ص: 42

والبغي يصرع أهله

والظّلم مرتعه وخيم

«جاء» يستعمل متعديا إن كان بمعنى: بلغ، ولازما إن كان بمعنى: أقبل، ومثله: أتى.

{أُوتُوا:} أصله أوتيوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء والواو، فحذفت الياء، فصارت ({أُوتُوا}) ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو، فصار {أُوتُوا} .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الدِّينَ:} اسم {إِنَّ} . {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من: {الدِّينَ} والعامل فيه: {إِنَّ} لما فيها من معنى الفعل، وهو: أؤكد، و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {الْإِسْلامُ:} خبر {إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها. هذا؛ ويقرأ بفتح همزة («أنّ») فيكون المصدر المؤول منها، ومن اسمها، وخبرها بدلا من:{أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} في الآية السابقة بدل اشتمال، أو بدل كلّ من كلّ. ({مَا}): نافية.

{اِخْتَلَفَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل: {اِخْتَلَفَ} والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وهو أقوى من العطف على الجملة الاسمية قبلها.

{أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل: {اِخْتَلَفَ} . {مَا:} مصدرية. {جاءَهُمُ الْعِلْمُ:} فعل ماض، ومفعوله، وفاعله، و {مَا:} المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة بعد إليه، التقدير: من بعد مجيء العلم لهم. هذا؛ وإن اعتبرت {مَا} موصولة، أو موصوفة، فهي في محل جر بإضافة:{بَعْدِ} إليها، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: إلا من بعد الذي، أو: شيء جاءهم العلم به. {بَغْياً:}

مفعول لأجله. وقيل: حال، وهو ضعيف، {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق ب {بَغْياً} لأنه مصدر.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْفُرْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:(من). {بِآياتِ:} متعلقان بما قبلهما، و (آيات) مضاف. {اللهِ:} مضاف إليه. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.

(إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {سَرِيعُ:} خبر: (إنّ) وهو مضاف، و {الْحِسابِ} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا، التقدير: فلا يضرك كفره، فالجملة الاسمية: (إن الله

) إلخ تكون تعليلية لا محل لها، ولكن الأول أقوى معنى. هذا؛ وقد اختلف في خبر المبتدأ الذي هو (من) فابن هشام يقول: هو جملة الشرط، وقيل: هو جملة الجواب، والمرجح عند المعاصرين: أنه جملتا الشرط، والجواب، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَكْفُرْ} إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.

ص: 43

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اِتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)}

الشرح: {فَإِنْ حَاجُّوكَ:} الخطاب لسيّد الخلق، وحبيب الحقّ محمد صلى الله عليه وسلم. وواو الجماعة عائدة على اليهود، والنصارى. {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ} أي: انقدت لله بقلبي، ولساني، وجميع جوارحي، وإنّما خصّ الوجه بالذكر؛ لأنه أشرف الجوارح الظّاهرة، وأجمعها، فإذا خضع وجه الإنسان لشيء؛ فقد خضع له سائر جوارحه، قال الشاعر: وهو زيد بن عمرو بن نفيل، وهو من المتحنفين في الجاهلية:[المتقارب]

أسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا

هذا؛ ويعبّر بالوجه عن الذات، ومنه قوله تعالى في سورة (الرحمن):{وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} وفي آخر سورة (القصص): {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} ومثله في سورة (البقرة) رقم [112]، فيكون مجازا مرسلا من إطلاق الجزء، وإرادة الكلّ.

وقيل: أراد بالوجه العمل، أي: أخلصت عملي لله، وقصدت بعبادتي الله. {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي: أسلم وجهه لله، كما أسلمت. ويجمع وجه: على وجوه، ويقال: أجوه بإبدال الواو همزة.

{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ:} وهم اليهود، والنصارى، وعبّر عنهم ب {أُوتُوا الْكِتابَ} زيادة في التشنيع، والتقبيح عليهم، فإنّ كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، واختلافهم فيما بينهم مع علمهم بالتوراة، والإنجيل في غاية القبح، والشّناعة، ولكنهم في هذه الأيام اتّحدوا، واتّفقوا على معاداة العرب والمسلمين، {وَالْأُمِّيِّينَ} يعني: العرب الوثنيين، ووصف العرب بالأميين للذمّ ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم فإنّه وصف في سورة (الأعراف) بالأميّ للمدح، والتّشريف، والتّعظيم. وانظر الآية [75] الآتية.

{أَأَسْلَمْتُمْ:} لفظه: استفهام، ومعناه: أمر، أي: أسلموا، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} يعني: إلى الفوز، والفلاح، والنجاح في الدنيا، والآخرة. فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على اليهود الذين كانوا في المدينة، وعلى النصارى الذين جاءوا من نجران؛ قالوا جميعا: قد أسلمنا. فقال صلى الله عليه وسلم لليهود: «أتشهدون: أن موسى كليم الله، وعبده، ورسوله، وعزير نبيّ» .

فقالوا: معاذ الله! وقال للنصارى: «أتشهدون: أن عيسى كلمة الله، وعبده، ورسوله» . قالوا:

معاذ الله أن يكون عيسى عبدا!

{وَإِنْ تَوَلَّوْا:} أعرضوا عن الإيمان بك يا محمد، وعن شريعتك، ولم يقبلوا منك ما قلت لهم. {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} يعني: عليك تبليغ الرسالة، وليس عليك هدايتهم، كما قال تعالى

ص: 44

في سورة (الرّعد) له: {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} . هذا؛ و {الْبَلاغُ} مصدر ل: بلغ بتخفيف اللام، واسم مصدر ل: بلّغ بتشديد اللام، مثل: عذاب، وسلام

إلخ. هذا؛ واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، والمراد بها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنّه كان يحرص على إيمانهم، ويتألم لتركهم الإجابة، وذهبت طائفة إلى أنّها منسوخة بآية السيف؛ لأن المراد بها الاقتصار على التبليغ، وهذا منسوخ بآية السّيف المذكورة في سورة الحجّ، وهي قوله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} .

{وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} أي: عليم، وخبير بأحوال العباد، فيهدي من يستحقّ الهداية، ويضل من يستحقّ الإضلال، وله الحجّة البالغة، والحكمة التامّة، والقدر النّافذ، والحكم الصائب.

والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {حَاجُّوكَ:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقُلْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {أَسْلَمْتُ:} فعل، وفاعل. {وَجْهِيَ:}

مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل: {أَسْلَمْتُ} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قل

) إلخ في محل جزم جواب الشرط، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَمَنِ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع معطوف على تاء الفاعل، وجاز ذلك للفصل بينها بالمفعول به، وقيل: هو في محل نصب مفعول معه. {اِتَّبَعَنِ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({مَنِ}) وهو العائد، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به. وقد قرأ بعضهم:(«اتبعني») بإثبات الياء. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وحذف ياء المتكلم من آخر الفعل كثير، ولا سيما في رءوس الآيات، مثل قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} . هذا؛ وأجاز مكي اعتبار ({مَنِ}) مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: ومن اتبعن أسلم وجهه لله، كما أجاز عطفه على:({اللهُ}).

{وَقُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {لِلَّذِينَ:} متعلقان به. {أُوتُوا الْكِتابَ:} انظر الآية السابقة. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَالْأُمِّيِّينَ} معطوف على ({الَّذِينَ}) مجرور مثله، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {أَأَسْلَمْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام بمعنى الأمر. ({أَسْلَمْتُمْ}): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وجملة:{فَقُلْ} إلخ معطوفة على ما قبلها. فهي في محل جزم مثلها، ولا يصعب عليكم بعد هذا إعراب:{فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} .

ص: 45

{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله في محل جزم فعل الشرط، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها، كما رأيت في التي قبلها.

{فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لا تحلّ محلّ المفرد، و (إن) ومدخولها معطوف على ما قبله، لا محل له مثله، والجملة الاسمية:{وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} معترضة في آخر الكلام، فيها وعد، ووعيد.

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ:} يجحدون القرآن، وينكرونه، وهم اليهود، والنصارى. {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} إلخ: كان أكثر أنبياء بني إسرائيل يأتيهم الوحي، ولم يكن يأتيهم كتاب، مثل: يحيى، وزكريا، ويوشع، وشمويل، وحزقيل، وغيرهم؛ لأنهم كانوا ملتزمين بأحكام التوراة، فكانوا يعظون قومهم، وينصحونهم، فيقتلونهم، فيقوم رجال ممّن آمن بهم، وصدّقهم، فيذكّرونهم، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، فيقتلونهم أيضا. فهم {الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل بين الناس.

روى البغوي بسند الثعلبي عن أبي عبيدة بن الجراح-رضي الله عنه-قال: قلت:

يا رسول الله! أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: «رجل قتل نبيّا، أو رجلا أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا عبيدة! قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أوّل النّهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم الذين ذكرهم الله في كتابه، وأنزل الآية فيهم» .

{فَبَشِّرْهُمْ:} أمر من البشارة، وهي الإخبار بما يظهر أثره على البشرة-وهي ظاهر الجلد- لتغييرها بأوّل خبر يرد عليها، ثمّ الغالب أن يستعمل في السرور مقيدا بالخبر المبشّر به، وغير مقيد به أيضا، ولا يستعمل في الشر إلا مقيدا منصوصا على المبشّر به على سبيل التهكّم، كما في هذه الآية، وقال تعالى في سورة (النّحل) رقم [58]:{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} . هذا؛ وحمله بعضهم على الاستعارة، وهو: أنّ إنذار الكفار بالعذاب قام مقام

ص: 46

بشرى المحسنين بالثّواب. وفي هذه الآية توبيخ لليهود؛ الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان أسلافهم الذين قتلوا الأنبياء، ومثله كثير في القرآن، كما في قوله تعالى في (البقرة):{وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ..} . إلخ الآية رقم [61] ونحوها.

هذا؛ ودلّت الآية الكريمة على أنّ الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر كان واجبا في الأمم السابقة، وهو فائدة الرّسالة، وخلافة النّبوة، قال الحسن-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر؛ فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة رسوله، وخليفة كتابه» . وعن درّة بنت أبي لهب-رضي الله عنه-قالت: قلت: يا رسول الله! من خير النّاس؟ قال: «أتقاهم للرّبّ، وأوصلهم للرّحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر» . وعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قيل: يا رسول الله! متى نترك الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر؟ قال:«إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم» . قلنا: يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟!

قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم» . أخرجه ابن ماجة برقم [4016]. قال زيد-رحمه الله تعالى-: تفسير معنى قوله النبي صلى الله عليه وسلم: «والعلم في رذالتكم» :

إذا كان العلم في الفسّاق، وأزيد أنا: والمنافقين. ومعنى: صغاركم: الحقيرون، الذليلون.

ومعنى كباركم: العظماء في أعين الناس.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، {بِآياتِ:} متعلقان به، و (آيات) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة بعدها معطوفة عليها، {بِغَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {النَّبِيِّينَ} و (غير) مضاف، و {حَقٍّ} مضاف إليه، وكذلك جملة:{وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ} إلخ معطوفة أيضا، لا محل لها مثلها، {بِالْقِسْطِ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ النّاسِ:}

متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة في: {يَأْمُرُونَ} .

{فَبَشِّرْهُمْ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: ومن كفر؛ فبشرهم. (بشرهم): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر، والجملة الشرطية معترضة بين اسم:{إِنَّ} وخبرها، وهو الجملة الاسمية الآتية، هذا وجه للإعراب، والوجه الثاني: اعتبار الفاء زائدة في خبر {إِنَّ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول الذي هو اسم «إنّ» يشبه الشرط في العموم. قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وقد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر «إن» ، ك:«ليت» ، «ولعلّ» ولذلك قيل: الخبر: {أُولئِكَ..} . إلخ، وهو ما ذكرته أولا. هذا؛ والذي قرأته في مغني اللبيب: أنّ الخلاف حاصل في وقوع الجملة الإنشائية خبرا

ص: 47

ل «إنّ» فمنهم من يجيزه ومنهم من يمنعه، والمانعون يؤوّلون الجملة الإنشائية الواقعة خبرا ل «إن» بجملة خبرية، أو يعتبرونها مقولة لقول محذوف. انظر الشاهد رقم [1001] من كتابنا فتح القريب المجيب، وهذا نصه:[البسيط]

إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

والشاهد رقم [1002] منه، وهذا نصه:[الرجز]

إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه

واضطرب القوم اضطراب الأرشيه

هناك أوصيني ولا توصي بيه

ولم يتعرّض ابن هشام-رحمه الله تعالى-لدخول الفاء في خبر «إنّ» أو إحدى أخواتها، والذي تعرض لذلك الأشموني-رحمه الله تعالى-حيث قال: وإذا دخل شيء من نواسخ الابتداء على المبتدأ؛ الذي اقترن خبره بالفاء؛ أزال الفاء؛ إن لم يكن (إنّ، أو أنّ، أو لكنّ) بإجماع المحقّقين، فإن كان (إنّ، أو أنّ، أو لكنّ) جاز بقاء الفاء. نصّ على ذلك في «إنّ، وأنّ» سيبويه، وهو الصحيح الذي ورد القرآن المجيد به، وأورد آيات كثيرة، من جملتها الآية التي نحن بصدد شرحها، وإعرابها. فأنت ترى: أن البيضاوي-رحمه الله تعالى-قد نقل عن سيبويه عكس ما ذكره الأشموني، والمنقول عن الأخفش-رحمه الله تعالى-: أنه هو الذي منع دخول الفاء الزائدة على خبر المبتدأ المنسوخ بأيّ ناسخ كان. وقد أطلت عليك في هذه المسألة لأحيلك على هذه الآية كلّما عرض لنا شيء من هذا القبيل. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم. وانظر الآية رقم [90] الآتية.

{أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)}

الشرح: {أُولئِكَ الَّذِينَ} إلخ: أي: المتصفون بتلك الصفات القبيحة، وهم اليهود؛ الذين قتلوا الأنبياء، والذين أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر. والنصارى؛ الذين رفضوا الإسلام، ويلحق بهم الوثنيون من العرب في كلّ زمان، ومكان. {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ:} بطلت أعمالهم الصالحة، من صدقة، وحسن جوار، وصلة رحم، وغير ذلك، فلا يجدون لها أجرا، وثوابا في الدّنيا، ولا في الآخرة. بسبب كفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم. وقد بيّن الله سبحانه في سورة (النور) رقم [39] وفي سورة (الفرقان) رقم [23]: أن أعمال الكفار الصّالحة في نظرهم إنّما هي كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهي هباء منثور، لا قيمة لها عند الله، ولا تنفع أصحابها شيئا. {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} أي: مانعين يمنعونهم من عذاب الله تعالى.

ص: 48

هذا؛ وفي المصباح المنير: حبط العمل، يحبط من باب: تعب، حبطا بالسّكون، وحبوطا:

فسد، وهدر، وحبط، يحبط من باب: ضرب لغة، وقرئ بها في الشواذّ، وحبط دم فلان من باب تعب: هدر، وأحبطت العمل، والدم بالألف: أهدرته. وفي المختار: والحبط بفتحتين: أن تأكل الماشية، فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها، ولا يخرج عنها ما فيها، وقيل: هو أن ينتفخ بطنها من أكل الدرق، وهو الحندقوق. وفي الحديث:«إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا، أو يلمّ» . انتهى واسم هذا الدّاء: الحباط، والفعل: حبط لازم، ويتعدّى بالهمزة، كما في قوله تعالى في كثير من الآيات:{أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ} .

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:({إِنَّ}) في الآية السابقة، أو هي مستأنفة لا محل لها، انظر الآية السابقة.

{حَبِطَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَعْمالُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، في الدنيا: متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَعْمالُهُمْ} . {وَالْآخِرَةِ:} معطوف على: {الدُّنْيا} . {وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {ناصِرِينَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو المقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالياء التي جلبها حرف الجر الزائد. هذا؛ ويجوز اعتبار ({ما}) نافية حجازية عاملة عمل «ليس» وباقي الإعراب ظاهر، والجملة الاسمية في محل نصب من الاسم الموصول، والرابط: الواو، والضمير. وهو أقوى من العطف على الجملة الاسمية السابقة.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ} إلخ: تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من تأتّى منه الرؤية، والنّظر من حال أهل الكتاب، وسوء صنيعهم، فهو استفهام تعجيب، وتشويق إلى استماع ما بعده، وهو جار مجرى المثل في معنى التعجّب. {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ:} أعطوا حظّا، ونصيبا من التوراة.

والمراد بذلك الحظّ، والنصيب ما بيّن لهم في التوراة من العلوم، والأحكام؛ التي من أهمها ما علموه من نعوت النّبي صلى الله عليه وسلم، وحقيقة الإسلام. {يُدْعَوْنَ:} الداعي هو محمد صلى الله عليه وسلم. {إِلى كِتابِ اللهِ:} هو القرآن، أو التوراة. وذلك: أنّ اليهود دعوا إلى حكم القرآن، فأعرضوا عنه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ الله-عز وجل-جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود، والنّصارى: أنهم على غير الهدى، فأعرضوا عنه.

ص: 49

وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-أيضا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله-عز وجل-فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟! فقال: «على ملة إبراهيم» . قالا: إنّ إبراهيم كان يهوديّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلمّوا إلى التوراة فهي بيتنا، وبينكم!» فأبيا عليه، فأنزل الله هذه الآية، فعلى هذا القول يكون المراد بكتاب الله: التوراة.

وروي عنه أيضا: أنّ رجلا، وامرأة من أهل خيبر زنيا، وكان في كتابهم الرّجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن تكون عنده رخصة، فحكم عليهما بالرّجم، فقال النعمان بن أوفى، وبحريّ بن عمرو: جرت عليهما يا محمد، وليس عليهما الرّجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«بيني وبينكم التّوراة» . فقالوا: قد أنصفت، فقال:«من أعلمكم بالتوراة؟» . فقالوا: رجل أعور، يقال له: عبد الله بن صوريا، يسكن فدك، فأرسلوا إليه، فقدم المدينة، وكان جبريل عليه السلام قد وصفه للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنت ابن صوريا؟» قال: نعم، قال:«أنت أعلم اليهود بالتّوراة؟» قال: كذلك يزعمون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة، وقال له: اقرأ، فقرأ حتى أتى على آية الرّجم، وضع يده عليها، وقرأ ما بعدها، فقال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه: يا رسول الله! قد جاوزها، ثم قام، ورفع كفّه عنها، وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود، وفيها:(إنّ المحصن، والمحصنة إذا زنيا، وقامت عليهما البينة؛ رجما، وإن كانت المرأة حبلى؛ تربّص بها حتّى تضع ما في بطنها). فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين، فرجما، فغضبت اليهود لذلك، فأنزل الله الآية الكريمة.

{لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي: ليقضي بينهم. وإضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز.

{ثُمَّ يَتَوَلّى:} يعرض، وأصله: الإعراض، والإدبار عن الشيء بالجسم، ثمّ استعمل في الإعراض عن الأوامر، والأديان والمعتقدات اتّساعا، ومجازا. {فَرِيقٌ مِنْهُمْ} أي: الرّؤساء، والعلماء منهم. هذا؛ والفريق أكثر من الفرقة، وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كرهط، ومعشر، وجمعه في أدنى العدد: فرقة، وفي الكثير: فرقاء. وقال الأعلم-رحمه الله تعالى- الفريق: يقع للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، مثل: صديق، وعدو، وقعيد.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتشويق، وتعجيب. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم، {تَرَ:} فعل مضارع مجزوم بلم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {إِلَى الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وهو: بصريّ، فاكتفى بالجار والمجرور. وجملة:{أُوتُوا نَصِيباً} صلة الموصول، لا محل لها. {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان ب {نَصِيباً،} أو بمحذوف صفة له. {يُدْعَوْنَ:}

فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو

ص: 50

نائب فاعله، وهو المفعول الأوّل. {إِلى كِتابِ:} متعلقان به، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{الَّذِينَ أُوتُوا..} . إلخ، والرابط: الضمير فقط، و {كِتابِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {لِيَحْكُمَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {الْكِتابِ} أو إلى:{اللهِ} و «أن» المضمرة، والفعل:(يحكم) في تأويل مصدر في محلّ جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يُدْعَوْنَ} .

{ثُمَّ:} حرف عطف. {يَتَوَلّى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {فَرِيقٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يُدْعَوْنَ} إلخ، فهي في محل نصب حال مثلها. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {فَرِيقٌ} أو بمحذوف صفة له. {وَهُمْ:} الواو:

واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُعْرِضُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب (من)، والرابط: الواو، والضمير. وقيل: معطوفة على متعلق: {مِنْهُمْ} . وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: حال من: {فَرِيقٌ،} وإنما ساغ ذلك لتخصصه بالصّفة. والأول أقوى، وأولى بالاعتبار.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى التولّي، والإعراض المذكور في الآية السّابقة. {بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ} إلخ: قال مجاهد-رحمه الله تعالى-عن ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّ اليهود كانوا يقولون: إنّ هذه الدّنيا سبعة آلاف سنة، وإنّما نعذب في النار يوما بكل ألف سنة، وإنما هي سبعة أيام معدودة، فأنزل الله تعالى الآية رقم [80] من سورة (البقرة) ردّا عليهم. وقال العوفي عن ابن عباس أيضا. قالوا: لن تمسنا النار إلا أربعين يوما، وهي مدّة عبادة آبائهم العجل. هذا وقد جاء وصف:{أَيّاماً} في هذه الآية وفي آية الصيام بلفظ {مَعْدُوداتٍ} وجاء في الآية رقم [80] من سورة البقرة بلفظ: {مَعْدُودَةً} وهذا يدلّ على أنّه يجوز في العربية استعمال اللفظتين في وصف {أَيّاماً} .

فاليهود جازمون بدخول النار من أجل عبادة آبائهم العجل، فدخولها يطهّرهم من عبادة آبائهم، ومن ذنوبهم، وقبائحهم؛ الّتي يفعلونها. {أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} . {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ..} .

إلخ: خدعهم ظنّهم، واعتقادهم الفاسد من أنّ النار لن تصيبهم إلا أياما قلائل. أو: أن آباءهم يشفعون لهم. أو: أن يعقوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-وعده الله تعالى ألا يعذب أولاده إلا تحلّة القسم.

ص: 51

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والواو فاعله، والألف للتفريق، هذا هو الإعراب المتعارف عليه والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضمّ الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة، والجملة الفعلية مع مقولها في محل رفع خبر (أن) و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ} إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {تَمَسَّنَا:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} و (نا):

مفعول به. ({النّارُ}): فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. ({إِلاّ}): حرف حصر.

{أَيّاماً} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، أو هو منصوب بنزع الخافض. {مَعْدُوداتٍ:} صفة {أَيّاماً} منصوب مثلهن، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {وَغَرَّهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. في دينهم: متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وقيل:

الجار والمجرور متعلقان بالفعل {يَفْتَرُونَ} بعدهما، والمعنى يؤيده. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع فاعل. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه. {يَفْتَرُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانُوا} والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: غرهم الذي أو شيء كانوا يفترونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع فاعل، التقدير: غرّهم افتراؤهم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالُوا..} .

إلخ، فهي في محل رفع مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة، فلست مفندا، والرابط الواو والضمير، ويجب تقدير «قد» قبلها لتقرّبها من الحال.

{فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)}

الشرح: {فَكَيْفَ إِذا..} . إلخ: قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: استعظام لما يحيق بهم في الآخرة، وتكذيب لقولهم:{لَنْ تَمَسَّنَا..} . إلخ والمعنى: فكيف يكون حالهم؟! أو فكيف يصنعون؟! {لِيَوْمٍ:} في يوم. قاله الكوفيون، وقال البصريون: التقدير: جمعناهم لحساب يوم لا ريب فيه؛ أي لا شكّ فيه: أنه واقع، وكائن، وهو يوم القيامة، وفيه تهديد، ووعيد لهم، واستعظام لما أعدّ لهم في ذلك اليوم، وأنهم يقعون فيه لا محالة، ولا حيلة لهم فيه، وأنّ ما حدّثوا به أنفسهم، وسهّلوه عليها تعلّل بباطل، وطمع فيما لا يكون، ولا يحصل لهم. قيل: إنّ

ص: 52

أول راية ترفع لأهل الموقف يوم القيامة من رايات الكفار راية اليهود، تفضحهم على رءوس الأشهاد، ثمّ يؤمر بهم إلى النار؛ لأنهم افتروا المفتريات. {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} أي:

جوزيت كل نفس بما عملت من خير، أو شرّ، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي: بنقص حسنة؛ إن كانت لهم حسنات، أو زيادة سيئة، والكفر أعظم السيئات، وأعظم الجرائم. وواو الجماعة عائدة إلى:{كُلُّ نَفْسٍ} على المعنى؛ لأنه في معنى كل إنسان. هذا؛ والتعبير بالماضي عن المستقبل؛ لتحقّق وقوعه.

هذا؛ و {جَمَعْناهُمْ} أي: لليهود، وللناس أجمعين. وهذا في الأعيان، ويقال: أجمع الأمر إذا عزم عليه، والأمر مجمع. ويقال أيضا: اجمع أمرك، ولا تدعه منتشرا. قال تعالى حكاية عن قوم فرعون، وأشياعه في سورة (طه) رقم [64]:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} ولا يقال: أجمع أعوانه وشركاءه، وإنّما يقال: جمع أعوانه، وأصدقاءه. وهذا مبنيّ على قاعدة:«يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان» . هذا هو الأكثر، والمستعمل، وقد يستعمل كلّ واحد مكان الآخر، قال تعالى في سورة (طه):{فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى} .

هذا؛ والمراد ب (يوم) في هذه الآية يوم القيامة وما فيه من الحساب، والعذاب، والأهوال.

وقد ذكرا الله طوله في سورة (الحج) بقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ} رقم [47]. هذا؛ واليوم في الدنيا: هو الوقت من طلوع الشّمس إلى غروبها، وهذا في العرف، وأما اليوم الشّرعي، فهو من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس. كما يطلق اليوم على اللّيل والنّهار معا، وقد يراد به الوقت مطلقا، تقول: ذخرتك لهذا اليوم، أي: لهذا الوقت، والجمع: أيّام، أصله أيوام، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء. وجمع الجمع: أياويم. وأيام العرب:

وقائعها، وحروبها، وأيام الله: نعمه، ونقمه. قال تعالى في سورة (يونس) رقم [102]:{فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّ مِثْلَ أَيّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} . وقال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيّامِ اللهِ} ويقال: فلان ابن الأيام، أي: العارف بأحوالها، ويقال: أنا ابن اليوم؛ أي: اعتبر حالي فيما أنا فيه. وخذ قوله تعالى في الآية رقم [140] الآتية: {وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ} وانظر شرح الليل، والنهار في الآية رقم [274] من سورة (البقرة).

الإعراب: {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: كيف حالهم. أو هو في محل نصب حال، عامله محذوف، التقدير: كيف يصنعون، والجملة سواء أكانت اسمية، أم فعلية مستأنفة لا محلّ لها.

{إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل المقدر، أو هو متعلق بنفس المبتدأ الذي قدرناه. {جَمَعْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها. {لِيَوْمٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. هذا، ومثل هذه الآية في إعرابها الآية

ص: 53

رقم [41] من سورة (النساء) ومثل الآيتين قول الفرزدق-وهو الشاهد رقم [225] من كتابنا فتح رب البرية، والشاهد رقم [528] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

فكيف إذا مررت بدار قوم

وجيران لنا كانوا كرام؟

{لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» ({رَيْبَ}): اسم ({لا}) مبني على الفتح في محل نصب.

{فِيهِ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {لا} والجملة الاسمية في محل جر صفة: (يوم).

({وُفِّيَتْ}): فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح، والتاء للتأنيث. {كُلُّ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأوليين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيئا كسبته. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: وفّيت كلّ نفس كسبها. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{كُلُّ نَفْسٍ} والرابط: الواو، والضمير.

{قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}

الشرح: {قُلِ:} خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم؛ أي: يا محمد قل معظما لربّك، وشاكرا له، ومفوضا إليه أمرك، ومتوكلا عليه في جميع شئونك. {اللهُمَّ} أصله: يا الله، قاله الخليل، وسيبويه، فحذفت «يا» وعوض عنها الميم المشدّدة في الآخر، وهذا الحذف، والتعويض من خصائص الاسم الكريم، كدخول «يا» عليه مع لام التعريف، وقطع همزته، ودخول تاء القسم عليه، ولا يجمع بين العوض، والمعوض إلا في ضرورة الشعر، كقول الشاعر:[الرجز]

وما عليك أن تقولي كلّما

سبّحت أو هلّلت يا اللهمّا

اردد علينا شيخنا مسلّما

فإنّنا من خيره لن نعدما

وأيضا قول أمية بن أبي الصّلت-وهو الشاهد رقم [446] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الرجز]

إنّ تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا؟

إنّي إذا ما حدث ألمّا

أقول يا اللهمّ يا اللهمّا

ص: 54

هذا؛ وقال الكوفيّون: فإنّ الأصل في: {اللهُمَّ} يا الله آمنّا بخير. والأول هو المعتمد.

{مالِكَ الْمُلْكِ:} يتصرّف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاّك فيما يملكون. {تُؤْتِي الْمُلْكَ:}

تعطي، وتمنح من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك. {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ:} تسلب، وتسترد الملك ممّن تشاء أن تنزعه منه. {وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ:} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوّة، والرّسالة، وكلّ مؤمن بالإيمان، {وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} إذلاله بالكفر، كاليهود، والنّصارى بأخذ الجزية منهم، ونزع النبوة عنهم. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ:} يعني: النّصر، والغنيمة. هذا؛ وقد ذكر الله سبحانه الخير، والشرّ من قدرته أيضا، اكتفاء بالمقابل، وإنّما خصّ الخير بالذكر؛ لأنه المرغوب فيه، أو لأنه المقضيّ بالذّات، والشرّ مقضيّ بالعرض؛ إذ لا يوجد شرّ جزئيّ ما لم يتضمن خيرا كلّيّا. {إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ:} قادر مقتدر؛ يعني: من إيتاء الملك من تشاء، وإعزاز من تشاء، وإذلال من تشاء.

هذا؛ وفي الآية الكريمة من المحسّنات البديعيّة الطباق بين: (تؤتي، وتنزع) وبين: (تعزّ، وتذلّ)، والإيجاز بالحذف، حيث حذف مفعول الأفعال الأربعة، كما تراه في الإعراب، وكذلك الاقتصار على ذكر الخير، دون ذكر الشرّ، فإن فيه تعليم الأدب لنا مع الله، فالشرّ لا ينسب إليه تعالى أدبا، وإن كان منه خلقا، وتقديرا، كما قال تعالى في (سورة النّساء) رقم [78]:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} ومع ذلك قال تعالى في الآية بعدها: {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} .

تنبيه: ذكر البيضاوي-رحمه الله تعالى-: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعد أصحابه ملك كسرى، وقيصر، وهم في أشدّ المحن، وذلك في غزوة الخندق المسماة بغزوة الأحزاب أيضا، فقال المنافقون:

هيهات! هيهات! ما يعدنا محمد إلا غرورا، يعدنا ملك كسرى، وقيصر، وأحدنا لا يجرؤ على البراز خارجا، فنزلت الآية الكريمة. وانظر سورة (الأحزاب).

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: لمّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ وعد أمّته ملك فارس، والروم، فقال المنافقون، واليهود: هيهات! هيهات! من أين لمحمد ملك فارس، والروم، وهم أعزّ، وأمنع من ذلك؟! ألم يكف محمدا مكة، والمدينة حتى طمع في ملك فارس، والروم؟! فأنزل الله هذه الآية. وهذا ضعيف، ويضعّفه: أنّ اليهود قد قضي عليهم قبل فتح مكة.

هذا؛ وفي بعض كتب الله المنزلة: أنا الله ملك الملوك، ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني؛ جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني؛ جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم. هذا؛ و (يشاء) ماضيه:

شاء، وأصله شيء على فعل بكسر العين، بدليل قولك: شئت شيئا، وقد قلبت الياء ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها. ومفعوله محذوف يقدر في هذه الآية على حسب المعنى، ويكثر حذف مفعوله، ومفعول: أراد حتى كاد لا ينطق به إلا في الشيء المستغرب، مثل قوله تعالى

ص: 55

في سورة (الأنبياء) رقم [17]: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} وقال الشاعر الخزيمي: [الطويل]

فلو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصّبر أوسع

وينبغي أن تعلم: أنه يكثر حذف مفعول هذين الفعلين بعد «لو» كما رأيت.

و «شيء» في اللّغة: عبارة عن كل موجود. إمّا حسّا كالأجسام، وإما حكما كالأقوال، نحو قلت شيئا. وجمع الشيء: أشياء، غير منصرف، واختلف في علّته اختلافا كثيرا، والأقرب ما حكي عن الخليل-رحمه الله تعالى-: إن وزنه شياء وزان حمراء، فاستثقل وجود همزتين في تقدير الاجتماع، فنقلت الأولى إلى أول الكلمة، فبقيت وزن لفعاء، كما قلبوا أدؤرا، فقالوا:

أدر وشبهه، وجمع الأشياء: أشايا.

وأما اليد؛ فإنها تطلق في الأصل على اليد الجارحة، وقد تطلق على النفس، والذات، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [195]:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقد تطلق على القدرة، والقوة، وهو كثير مثل قوله تعالى في سورة (ص) رقم [17]:{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} وخذ قول عروة بن حزام العذري، وهو الشاهد رقم [116] من كتابنا فتح رب البرية:[الطويل]

وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها

ومالي بزفرات العشيّ يدان

كما تطلق اليد على النعمة، والمعروف، يقال: لفلان يد عندي؛ أي: نعمة، ومعروف، وإحسان. كما تطلق على الحيلة، والتدبير، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر، أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير. ويد الله في هذه الآية، وشبهها فيها مذهبان: مذهب الخلف التأويل بمعنى: القدرة، والقوة. ومذهب السّلف: التفويض، يقولون: الله أعلم بمراده. وبعضهم يقول: لله يد تليق به.

الإعراب: {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت. {اللهُمَّ:} منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب بيا المحذوفة، والمعوض عنها الميم المشددة في الآخر. (ملك:) فيه أوجه: أحدها: أنه بدل من: {اللهُمَّ} . والثاني: أنه عطف بيان. الثالث: أنه منادى ثان، حذف منه حرف النداء، أي: يا مالك الملك. الرابع: أنّه نعت ل {اللهُمَّ} على الموضع، فلذلك نصب، وهذا ليس مذهب سيبويه، فإنه لا يجيز نعت هذه اللفظة لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائرها من الأسماء، وأجاز المبرد من ذلك، واختاره الزجّاج. قالا: لأن الميم بدل من (يا)، والمنادى مع (يا) لا يمتنع وصفه، فكذا ما هو عوض منها، وأيضا فإن الاسم الكريم لم يتغيّر عن حكمه، ألا ترى إلى بقائه مبنيّا على الضم، كما كان مبنيّا مع (يا).

انتهى جمل نقلا عن السمين، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الروم):{قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ..} .

إلخ. وقولهما: المنادى مع (يا) لا يمتنع وصفه، أي: كما في قول جرير في مدح عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [16] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

ص: 56

فما كعب بن مامة وابن سعدى

بأجود منك يا عمر الجوادا

و {مالِكَ} مضاف، و {الْمُلْكِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره: أنت. {تُؤْتِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل تقديره: أنت. {الْمُلْكِ} مفعول به أول. {مَنْ} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {تَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف، التقدير: تشاء إتيانه الملك، والجملة الفعلية: قال أبو البقاء -رحمه الله تعالى-: هي وما بعدها من المعطوفات خبر لمبتدإ محذوف؛ أي: أنت تؤتي

إلخ، وقيل: مستأنفة لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، وانتصاب الحال من المنادى مختلف فيه، وتقدير الجملة الثانية:{وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ} أن تنزعه منه. أقول: مجيء الحال من المنادى مستعمل من غير خلاف، كقول الشّاعر:[البسيط]

يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته

وقال مكيّ: في موضع الحال من المضمر في: (ملك). وقوله: مستأنف الأولى أن يقال:

جملة ابتدائية؛ لأنه يكثر وقوع الجمل الفعلية بعد النداء، واعتبارها ابتدائية أولى؛ لأنه لا يقع نداء إلا وبعده جملة فعلية، ويكثر أن تكون إنشائية، وهي بمنزلة الجواب عن النداء، وأما الوجه الأول؛ الذي ذكره؛ فلا مسوّغ له، والجملة الباقية معطوفة على جملة:{تُؤْتِي} إلخ، ولا خفاء في إعرابها، وتقدير الجملتين:{وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ} إعزازه. {وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} إذلاله.

{بِيَدِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْخَيْرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، وقيل فيها ما قيل بالجمل قبلها. {إِنَّكَ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمها. على كلّ: متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر (إنّ) والجملة الاسمية مفيدة للتعليل.

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)}

الشرح: لمّا ذكر الله تعالى: أنه مالك الملك؛ أردفه بذكر قدرته الباهرة في حال الليل، والنهار، وفي المعاقبة بينهما. وحال إخراج الحي من الميت، ثمّ عطف عليه: أنه يرزق من يشاء بغير حساب، وفي ذلك دلالة على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيّرة لذوي الأفهام، والعقول؛ فهو قادر على أن ينزع النبوة من اليهود، والنصارى، وأن ينزع الملك من فارس، والروم، واليهود، ويذلهم جميعا، ويؤتيه العرب، ويعزّهم.

ص: 57

{تُولِجُ:} تدخل، والماضي: أولج، فهو رباعي، ومصدره: الإيلاج، وأما الثلاثي فهو:

ولج، يلج، ومصدره: الولوج. والمراد بإيلاج الليل في النّهار، وبالعكس بأن يزيد كلّ منهما بما نقص من الآخر، وهو ظاهر في طول الليل، وقصره تبعا لفصول السنة. هذا؛ وفي الجملتين ردّ العجز على الصّدر، وفيها استعارة عجيبة، فإنّ الإيلاج عبارة عن إدخال هذا على هذا، أو إدخال هذا في هذا، وذلك؛ لأنّ ما ينقصه من الليل يزيده في النهار، والعكس، ولفظ الإيلاج أبلغ؛ لأنّه يفيد إدخال كلّ واحد منهما في الآخر بلطيف الممازجة، وشديد الملابسة. وبين {اللَّيْلَ} و {النَّهارِ} وبين {الْحَيَّ} و {الْمَيِّتِ} طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ:} {الْحَيَّ} كالإنسان، والطائر، و {الْمَيِّتِ:} النّطفة تخرج من الإنسان، والبيضة تخرج من الطائر. {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ:} الإنسان، والطائر من النطفة، والبيضة.

{وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ:} النطفة، والبيضة من الإنسان، والطائر. ويقال أيضا في جميع البذور، وما يخرج منها من النباتات. وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-معناه: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وروي نحوه عن سلمان الفارسي-رضي الله عنه. وروى معمر بن الزّهري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة، قال:«من هذه؟» قلن: إحدى خالاتك قال: لو من هي؟ «قلن: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال صلى الله عليه وسلم: «سبحان الّذي يخرج الحيّ من الميّت» . وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا. خذ قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [122]:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ} . انظر شرحها هناك.

{وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} أي: بغير تقدير، فيوسع في الدنيا استدراجا تارة، وابتلاء أخرى. وأما رزقه في الآخرة للمؤمنين؛ فيكون تكريما واسعا، لا يضبطه عدّ، ولا كيل، ولا وزن بخلاف رزق الدّنيا؛ فإنه مضبوط محصور، ورزق الآخرة لا ينتهي عدده، ولا ينقطع مدده، صاف عن كدّ الاكتساب، وخوف الحساب، ولا منّة فيه، ولا عذاب.

هذا و (ميت) أصله: ميوت، فقل في إعلاله: اجتمعت الواو، والياء، وسبقت إحداهما بالسّكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء، في الياء. هذا؛ وتخفف الياء بالسّكون، فيقال:

ميت، بفتح الميم وسكون الياء، وهو من فارقت روحه جسده، وجمعه: أموات، وأما المشدّد؛ فهو الحي الذي سيموت، وعليه قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وجمعه: موتى، قال بعض الأدباء في الفرق بينهما:[الطويل]

أيا سائلي تفسير ميت وميّت

فدونك قد فسّرت ما عنه تسأل

فمن كان ذا روح فذلك ميّت

وما الميت إلاّ من إلى القبر يحمل

ص: 58

هذا هو الغالب في الاستعمال، وقد يتعاوضان، كما في قول عديّ بن الرّعلاء-وهما الشاهد رقم [834] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الخفيف]

ليس من مات، فاستراح بميت

إنما الميت ميّت ميّت الأحياء

إنما الميت من يعيش كئيبا

كاسفا باله قليل الرّجاء

ومنه الآية التي نحن بصدد شرحها، والآية رقم [95] من سورة (الأنعام) حيث استعمل المشدّد فيها لفاقد الحياة والرّوح، كما هو واضح فيها.

الإعراب: {تُولِجُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {اللَّيْلَ:} مفعول به. {فِي النَّهارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرت حكمها حكم ما قبلها؛ فلست مفنّدا، والجملة بعدها معطوفة عليها، وإعرابها لإخفاء فيه. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أول، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: ترزق الذي، أو شخصا تشاؤه رزقا واسعا بغير حساب. {بِغَيْرِ:} متعلقان بواسعا الذي قدرته لك، وقال أبو البقاء: متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، أو من الفاعل، أو بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، وكل هذه الأقوال لا طائل تحتها؛ لأنّ الفعل:({تَرْزُقُ}) ينصب مفعولين، لأنه بمعنى:

تعطي، وتمنح، وقد نصبهما. والثاني فيهما:«رزقا» الذي قدرته.

{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (28)}

الشرح: نهى الله المؤمنين في هذه الآية عن موالاة الكافرين لقرابة، أو صداقة، ونحوهما؛ حتى لا يكون حبّهم، وبغضهم إلا لله، كما نهى عن الاستعانة بهم في الغزو، وسائر الأمور الدّينيّة، والدّنيوية، وإنّما يجب الحب للمؤمنين خاصّة، والمعاونة، والمساعدة لهم، وبهم، ومثل هذه قوله تعالى في سورة (المائدة) رقم [51]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (النساء) رقم [144]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ..} . إلخ، وفي أوّل سورة (الممتحنة):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي..} . إلخ. انظر شرح الآيات في محالها.

هذا؛ ويروي التاريخ: أنه لمّا وقع الخلاف بين معاوية، وعليّ بن أبي طالب عرض قيصر الروم مساعدته لمعاوية، فردّ عليه معاوية بقوله: أنا أستعين بكافر على مسلم، والله لو قطّعت إربا إربا ما استعنت بكافر على مسلم، وانظر الآية رقم [118] الآتية.

ص: 59

{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} أي: ومن يوال الكفار، ويستعين بهم على المؤمنين، أو ينقل إليهم أخبار المؤمنين، أو يطلع الكافرين على عورات المؤمنين، فليس من دين الله في شيء، وليس من ولايته في شيء. وهذا أمر مقول من أنّ ولاية المولى معاداة أعدائه، وموالاة الله، وموالاة الكفار صنوان لا يجتمعان. كما قال الشاعر:[الطويل]

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني

صديقك ليس النّوك عنك بعازب

فليس أخي من ودّني رأي عينه

ولكن أخي من ودّني في المغايب

{إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} المعنى: إن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار، ومداهنتهم، إلا أن يكون الكفار غالبين ظاهرين، أو يكون المؤمن في قوم كافرين، فيداريهم؛ وقلبه مطمئنّ بالإيمان، دفعا عن نفسه من غير أن يستحل حراما، أو مالا حراما، أو يظهر الكفار على عورات المسلمين. والتقية لا تجوز إلا مع خوف القتل مع سلامة النية. قال الله تعالى في سورة (النّحل) رقم [106]{إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ} انظر شرحها هناك، فإنه جيد. والحمد لله! ثم هذه التقية رخصة، فلو صبر على إظهار إيمانه حتى قتل؛ كان له بذلك أجر عظيم، وأنكر قوم التقيّة.

فقال معاذ بن جبل، ومجاهد-رضي الله عنهم: كانت التقية في جدّة الإسلام قبل قوّة المسلمين، فأمّا اليوم-أي: في زمننا-فقد أعزّ الله الإسلام أن يتّقوا من عدوّهم. وقال الحسن البصريّ-رحمه الله تعالى-: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة. أقول: وفي هذه الأيام واقعة، ولا بدّ منها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنّ المسلم مضايق في دينه، وإقامة شعائره. هذا؛ وإن الشّيعة يقولون: إن عليّا-رضي الله عنه-سكت عن المطالبة بالخلافة تقية، فهم يصمونه بالجبن، وهم لا يعلمون، وحاشاه من الجبن، هذا وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ليس التّقيّة بالعمل، إنما التقيّة باللّسان. ورضي الله عن أبي الدّرداء؛ إذ قال: إنا لنبشّ في وجه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم.

{وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} أي: نقمته، وسطوته، وعذابه في مخالفة أمره، وموالاة أعدائه.

{وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ:} المرجع، والمنقلب، والمآب، فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. وفي هذه الآية تهديد عظيم، ووعيد شديد. و {تُقاةً} أصله:(وقية) على وزن فعلة، ويجمع على: تقى، كرطبة، ورطب، فأبدلت الواو تاء، والياء ألفا لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها.

وانظر مثلها في الآية رقم [102] مع اختلاف المعنى هنا، وهناك، فالإعلال واحد.

الإعراب: {لا:} ناهية جازمة. {يَتَّخِذِ:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} . {الْمُؤْمِنُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم. {الْكافِرِينَ:} مفعول به أوّل منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون فيه وفي سابقه عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {أَوْلِياءَ:} مفعول به ثان. {مِنْ دُونِ:} متعلقان ب {أَوْلِياءَ} لأنه جمع: ولي، أو هما متعلقان بمحذوف صفة له. وقال الجمل: متعلقان بمحذوف حال من

ص: 60

الفاعل، وأوّله تأويلا فيه تكلّف. و {دُونِ} مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الفعلية:{لا يَتَّخِذِ} إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَفْعَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، وفاعله مستتر يعود إلى:(من). {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ لها.

{فَلَيْسَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ليس): فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى (من).

{مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {شَيْءٍ} كان صفة له، فلمّا قدم عليه، صار حالا، على القاعدة:(نعت النكرة إذا تقدّم عليها صار حالا). {فِي شَيْءٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: (ليس).

والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت، في الآية رقم [19] والجملة الاسمية: (من

) إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِلاّ:} حرف حصر.

{أَنْ تَتَّقُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور بدل من معلّل محذوف، وفي السمين: وهذا استثناء مفرغ من المفعول لأجله، والعامل فيه:{لا يَتَّخِذِ} أي: لا يتخذ المؤمن الكافر وليّا لشيء من الأشياء، ولا لغرض من الأغراض، إلا للتقية ظاهرا؛ بحيث يكون مواليه في الظاهر، ومعاديه في الباطن، وعليه فقوله:

{وَمَنْ يَفْعَلْ..} . معترض بين العلة، ومعلولها. انتهى جمل. {تُقاةً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: تتقوا تقاة. أو عامله المذكور، وهو أولى، أو هو مفعول به، على تأويل تتقوا المذكور ب «تخافوا تقاة» .

{وَيُحَذِّرُكُمُ:} الواو: حرف استئناف. ({يُحَذِّرُكُمُ}): فعل مضارع، والكاف مفعول به أول.

{اللهِ:} فاعله. {نَفْسَهُ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَإِلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها.

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}

الشرح: يخبر الله تعالى عباده: أنه يعلم السرائر، والضمائر، والظواهر، وأنّه لا تخفى عليه منهم خافية، بل علمه محيط بهم في جميع الأحوال، والأزمان، واللحظات، والأوقات، وجميع

ص: 61

ما في السموات والأرض، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض، والبحار، والجبال، والأنهار والمراد-والله أعلم-: أنه تعالى يعلم ما تكنّه الصدور من ولاية الكفار، وحبّهم، وموالاتهم. وبين ({تُخْفُوا}) و (تبدوا) طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

هذا؛ وذكر الله الصدور؛ لأنّها وعاء القلوب. {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: فيقدر على عقوبتكم، وعلى الانتقام منكم؛ إن لم تنتهوا عن موالاة الكفار؛ لأنه تعالى يتّصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات، وقدرة ذاتيّة تعمّ المقدورات بأسرها، فلا تجسروا على عصيانه؛ إذ ما من معصية؛ إلا وهو مطلع عليها، قادر على العقاب بها. وينبغي أن تعلم: أنّ الحبّ في الله، والبغض في الله عظيم في الإيمان. وخذ ما يلي:

فعن معاذ بن أنس-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطى لله، ومنع لله، وأحبّ لله، وأبغض لله، وأنكح لله؛ فقد استكمل إيمانه» . أخرجه الإمام أحمد، والترمذي.

هذا؛ والفعل: ({يَعْلَمُ}) في هذه الآية من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أن المعرفة تكتفي بمفعول واحد. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

لعلم عرفان وظنّ تهمه

تعدية لواحد ملتزمه

بخلافه من العلم اليقيني، فإنّه ينصب مفعولين، أصلهما: مبتدأ، وخبر. وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأن متعلّقها الذوات دون النّسب، بخلاف العلم؛ فإنّ متعلقه المعاني، والنّسب. وتفصيل ذلك: أنك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى أنّك عرفت ذاته، ولم يتجاوز مفعولا؛ لأن العلم والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك. وإذا قلت: علمت زيدا فقيها، لم يكن المقصود: أنّ العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنّما المعنى: أنّ العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصّفة. هذا؛ ولا يعزب عن بالك: أنّ في {ما} بألفاظها الثلاثة تغليبا لغير العقلاء على العقلاء.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{تُخْفُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي صُدُورِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: الذي يوجد في صدوركم. والكاف في محل جر بالإضافة. {أَوْ:} حرف عطف. {تُبْدُوهُ:} فعل مضارع معطوف على ما قبله مجزوم مثله، والواو فاعله، والهاء مفعول به. {يَعْلَمْهُ:} فعل مضارع جواب الشرط، والهاء مفعول به.

{اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة.

ص: 62

{وَيَعْلَمُ:} الواو: حرف استئناف. ({يَعْلَمُ}): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} .

{ما:} مفعول به. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة: {ما} . {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه، ومحله مثله، والجملة الفعلية:{وَيَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، ولم أطلع على قراءة بنصب الفعل، أو جزمه، وهو جائز عربيّة، كما رأيت شرح ذلك في الآية رقم [284] من سورة (البقرة). {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. ({اللهُ}): مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها، لا محل لها مثلها.

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)}

الشرح: {يَوْمَ تَجِدُ..} . إلخ: يعني: يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير، أو شرّ، كما قال تعالى في سورة الكهف:{وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً} وقال جلّ ذكره في سورة (القيامة):

{يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ} فما رأى من أعماله حسنا؛ سرّه، وأفرحه، وما رآه من قبيح؛ ساءه، وأغصّه، وودّ لو أنّه تبرّأ منه، وأن يكون بينهما أمد بعيد، كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدّنيا، وأضلّه، وأغواه، وجرّأه على فعل السّوء، كما حكى الله ذلك عنه بقوله:{يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} وبين: {مُحْضَراً} و {بَعِيداً} طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

هذا؛ و {تَجِدُ} أصله: توجد، حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما الفتحة، والكسرة، ويقال: بين الياء، والكسرة في مضارع الغائب:(يجد) قياسا على مضارع الحاضر. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ:} يخوّفكم عقابه، وبطشه، وانتقامه، وذكرت لك مرارا: أنّه يعبّر عن الذّات بالنفس. {وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ:} فيه إشارة إلى أنّه سبحانه إنّما نهاهم عن معصيته، وحذّرهم عقابه رأفة بهم، ومراعاة لمصالحهم، فإنّه سبحانه ذو مغفرة ترجى رحمته، وذو عقاب يخشى عذابه. هذا؛ والأمد:

الغاية، وجمعه: آماد، ويقال: استولى على الأمد، أي: غلب سابقا، قال النابغة في استعطاف النّعمان بن المنذر في معلّقته البيت رقم [25][البسيط]

إلاّ لمثلك أو من أنت سابقه

سبق الجواد إذا استولى على الأمد

هذا؛ والرأفة: شدّة الرحمة، والعطف، والحنان. والله منزّه عمّا يكون في القلب، و {رَؤُفٌ} صيغة مبالغة، ومن رأفته جلّ ذكره بعباده أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل المتقطع في الدنيا، ومن رأفته: أنه يقبل توبة عبده المذنب، ومن رأفته: أنّ نفس العباد، وأموالهم ملكه، ثم إن يشتري ملكه بملكه فضلا منه، ورحمة، وإحسانا. وفي الصحيح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السّبي في غزوة حنين قد فرّق بينها، وبين ولدها، فجعلت كلما

ص: 63

رأت صبيّا من السّبي أخذته، فألصقته بصدرها، وهي تدور على ولدها، فلمّا وجدته؛ ضمّته إليها، وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أترون هذه طارحة ولدها في النّار؛ وهي تقدر على أن لا تطرحه؟» . قالوا: لا يا رسول الله! قال: «فو الله لله أرحم بعباده من هذه بولدها» .

الإعراب: {يَوْمَ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اذكر يوم. وذهب الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي إلى جواز اعتباره منصوبا ب {تَوَدُّ،} وقدّروا تقديرات فيها تكلّف. وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-متعلق بقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ} إلخ. وقيل: هو متصل بقوله: {وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . انتهى. والمعتمد الأول، ومثله قوله تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ..} . إلخ. {تَجِدُ:}

فعل مضارع. {كُلُّ:} فاعله، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أول. {عَمِلَتْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى نفس، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير:

الذي، أو: شيئا عملته. {مِنْ خَيْرٍ} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما). {مُحْضَراً:} مفعول ثان ل {تَجِدُ} أو هو حال من الضمير المحذوف. {وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه، وتقديره.

{تَوَدُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{كُلُّ نَفْسٍ} والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل: {عَمِلَتْ} المستتر، والرابط الضمير فقط. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّ} حرف مشبه بالفعل. {بَيْنَها:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدّم على اسمها. {وَبَيْنَهُ:} معطوف عليه، والهاء فيهما في محل جر بالإضافة. {أَمَداً} اسم {أَنَّ} مؤخر. {بَعِيداً:} صفته، والمصدر المؤول من {أَنَّ} واسمها، وخبرها في محل رفع مبتدأ عند سيبويه، وخبره محذوف، التقدير: ولو أمد بعيد موجود، وقال المبرد: المصدر المؤول في محل رفع فاعل لفعل محذوف. التقدير: ولو ثبت وجود أمد بعيد بينها وبين ما عملته. وقول المبرد هو المرجح؛ لأنّ «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدّر، والفعل المقدر، وفاعله جملة فعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب:{لَوْ} محذوف، التقدير: لسرت بذلك، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مفعول به ل {تَوَدُّ} هذا؛ وبعضهم يعتبر:{لَوْ} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر مفعول به ل {تَوَدُّ} وهذا غير مسلّم له؛ لأن الحرف المصدري لا يدخل على مثله. تأمل!

هذا؛ ويظهر لي جواز اعتبار ({ما}) الثانية مبتدأ، وجملة:{تَوَدُّ..} . إلخ في محل رفع خبره، والرابط الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والمعنى يؤيد هذا الوجه، وتكون الجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} فعل مضارع، وفاعله، ومفعولاه، والجملة الفعلية

ص: 64

مستأنفة لا محل لها. ({اللهُ}) مبتدأ. {رَؤُفٌ} خبره. {بِالْعِبادِ:} متعلقان به، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من لفظ الجلالة؛ فلست مفندا.

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}

الشرح: {قُلْ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحقّ محمد صلى الله عليه وسلم. {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ:}

المحبة: ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقربها إليه، والعبد إذا علم: أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، عز وجل، وأنّ كل ما يراه كمالا من نفسه، أو من غيره؛ فهو من الله، وبالله، وإلى الله؛ لم يكن حبه إلا لله، وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته، والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة، وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والحرص على مطاوعته. انتهى بيضاوي.

لذا فهذه الآية حاكمة على كل من ادعى المحبّة لله؛ وليس هو على الطريقة المستقيمة؛ التي أمر الله بها، وحثّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله، وفعله، فهو كاذب في دعواه، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا؛ فهو ردّ» . ورحم الله من يقول: [الكامل]

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقني حبّك، وحبّ من أحبّك، وحبّ ما يقربني إلى حبّك، واجعل حبّك أحبّ إليّ من الماء البارد» . لذا فدليل حبّ الله امتثال أمره، واجتناب نهيه. ودليل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الاقتداء به، والأخذ بتعاليمه، والسير على سنته، وطريقته. {يُحْبِبْكُمُ اللهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم لله، وهو محبّته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء، والحكماء: ليس الشأن أن تحبّ. ومعنى محبة الله للعبد: رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه. ومعنى بغضه للعبد: طرده من رحمته، وإبعاده من جنته. وأظهر لفظ الجلالة في مقام الإضمار في الثاني لزيادة التفخيم، والتعظيم. وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله إذا أحبّ عبدا؛ دعا جبريل، فقال: إنّي أحبّ فلانا، فأحبّه. قال: فيحبّه جبريل، ثمّ ينادي في السّماء: إنّ الله يحبّ فلانا، فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض عبدا؛ دعا جبريل، عليه السلام، فيقول: إنّي أبغض فلانا، فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في

ص: 65

أهل السماء: إن الله يبغض فلانا، فأبغضوه. قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض». أخرجه مسلم، رحمه الله.

{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ:} وهذا من ثمرات محبّة الله أيضا، وعبّر سبحانه عن رضاه عن عبده المحبّ له على طريق الاستعارة، أو المقابلة، المعبّر عنها في البلاغة بالمشاكلة؛ لأن المحبة من فعل القلوب، والله لا قلب له مثلنا. {وَاللهُ غَفُورٌ} لأوليائه. {رَحِيمٌ:} بهم. وهما صيغتا مبالغة.

يروى: أنّ الآية الكريمة نزلت لمّا قالت اليهود: {نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} فعرضها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبلوها. وقيل: نزلت في وفد نجران، ولمّا قالوا: إنّما نعبد المسيح حبّا لله.

وقيل: نزلت في أقوام زعموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم يحبّون الله، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقا من العمل. والله أعلم بمراده.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه.

{تُحِبُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كُنْتُمْ} والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَاتَّبِعُونِي:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، (اتبعوني): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد. و {إِنْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها.

{يُحْبِبْكُمُ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، والكاف مفعول به. {اللهَ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها لوقوعها جوابا للطلب. {وَيَغْفِرْ:} معطوف على ما قبله مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} والجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ذُنُوبَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَاللهُ:}

مبتدأ. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام مقرّرة لما قبلها.

{قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)}

الشرح: {قُلْ أَطِيعُوا..} . إلخ، يروى: أنّه لمّا نزلت الآية السابقة؛ قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين لأصحابه: إنّ محمدا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبّه كما أحبّت النّصارى عيسى ابن مريم، فأنزل الله هذه الآية.

ص: 66

هذا؛ وطاعة الله: امتثال أمره، واجتناب نهيه، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم: الأخذ بتعاليمه، والتمسّك بسنّته، قال تعالى في سورة (الحشر):{وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقد قرن الله طاعته بطاعة رسوله في هذه الآية، وفي الآية رقم [59] من سورة (النساء):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ..} . إلخ، وفي كثير من الآيات:{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} .

هذا؛ وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى في غير هذا الموضع-: وفي حديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من فرّق بين ثلاث؛ فرق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال: أطيع الله، ولا أطيع الرّسول، والله يقول: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ومن قال: أقيم الصّلاة، ولا أوتي الزكاة، والله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} ومن فرّق بين شكر الله، وشكر والديه، والله عز وجل يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» }.

هذا؛ وقال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ} ولم يقل: فإنّه. ويكثر مثله في القرآن الكريم إذا أعظمت الشيء أعدت ذكره، وأنشد سيبويه قول عدي بن زيد العبادي-وهو الشاهد رقم [887] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الخفيف]

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نقص الموت ذا الغنى والفقيرا

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت. {أَطِيعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف هي الفارقة بين واو العلّة، وواو الضمير. هذا هو الإعراب المتعارف عليه بين الناس، والأصل أن يقال في مثل ذلك:

فعل أمر مبني على سكون مقدّر على آخره، منع من ظهوره إرادة التخلّص من التقاء الساكنين، وحرّك بالضمة لمناسبة واو الجماعة. وما أجدرك أن تلاحظ هذا في كلّ فعل أمر مسند إلى واو الجماعة، أو إلى ألف الاثنين، مثل: أطيعا، وقد حرّك بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين، أو إلى ياء المؤنثة المخاطبة: أطيعي، وقد حرك بالكسرة لمناسبة ياء المخاطبة.

{اللهَ:} منصوب على التعظيم. {وَالرَّسُولَ:} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ:} مستأنفة لا محل لها.

{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، أصله: تتولوا، فحذفت تاء المضارعة. أو هو ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة في محل جزم فعل الشرط، واعتباره مضارعا أقوى ليبقى الكلام على نسق واحد، وهو الخطاب. {فَإِنْ:} الفاء:

واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} و {الْكافِرِينَ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية

ص: 67

في محل رفع خبر: (إنّ) والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط. هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا، تقديره: فلا تحزن، ونحوه؛ فتكون الجملة الاسمية مفيدة للتعليل. وهو كلام لا غبار عليه، والشرط، ومدخوله مستأنف، ومفرّع عمّا قبله، لا محلّ له أيضا.

{إِنَّ اللهَ اِصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ اصْطَفى} اختار، واختصّ بالرّسالة، والخصائص الرّوحانية، والجسمانيّة، ولذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم. ({آلَ إِبْراهِيمَ}): إسماعيل، وإسحاق، وأولادهم، ونبينا صلى الله عليه وسلم من نسل إسماعيل. ({آلَ عِمْرانَ}): موسى، وهارون، أو عيسى؛ لأنّ أمّه ابنة عمران، وهو المعتمد بدليل الآيات التالية، وكان بين العمرانيين ألف وثمانمائة سنة. وانظر شرح ({آلَ}) في الآية رقم [11]. وفي البخاريّ عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: آل إبراهيم، وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم، وآل عمران، وآل ياسين، وآل محمد، يقول الله تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} .

وقيل: المراد من آل إبراهيم نفسه، وكذا آل عمران، ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [248]:{وَبَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ} .

هذا؛ وانظر شرح خلق آدم في سورة (البقرة) مفصلا، وقد عمّر عليه السلام تسعمائة وستين سنة أما نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فاسمه السّكن، وقيل: عبد الغفار، وسمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه، وهو ابن لمك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس النبي، وكان نوح نجارا، واختلفوا في سبب نوحه، فقيل: لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل: لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان، وقيل: لأنه مرّ بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح! فأوحى الله إليه:

أعبتني، أم عبت الكلب، وقيل: أنطقه الله، فقال: أتسخر من الخالق، أم من المخلوق؟ ونوح أول رسول بشريعة، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف.

وهو أول من عذّبته أمّته لردّهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، وكان أطول الأنبياء عمرا، عمّر ألفا وخمسين سنة، وقيل: عمر ألفا وستّا وخمسين سنة، ولم تنقص قوّته، ولم يشب، ولم تسقط له سنّ، وصبر على إيذاء قومه طول عمره، وكان أبواه مؤمنين بدليل دعوته لهما بالمغفرة في الآية الأخيرة من السورة باسمه. ويروى: أنّ جبريل-عليه السلام-قال له: يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر.

وبشريعته غيّرت بعض أحكام شريعة آدم، ولا سيما تحريم زواج الأخوات. ونوح من أولي العزم الخمسة، ويقال له: شيخ المرسلين.

ص: 68

وأمّا إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فقد عاش مائة وخمسا وسبعين سنة، وبينه وبين نوح ألف سنة وستمائة وأربعون سنة، وبنوه: إسماعيل، وأمه هاجر، ولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة، وعاش مائة وسبعا وثلاثين سنة، وكانت سنه يوم مات أبوه تسعا وثمانين سنة، وإسحاق، وأمّه سارة، وعاش مائة وثمانين سنة، ثم لمّا توفيت سارة؛ تزوج إبراهيم-عليه السلام-قطورا ابنة يقطن الكنعانية، فولدت له: مدين، ومديان، ويقشان، وزوان، ويشباق، وشوما، فهم ستة مع الاختلاف في تسميتهم بحسب الروايات، فيكون جملة أولاده من صلبه ثمانية. وإبراهيم من أولي العزم الخمسة.

{وَآلَ عِمْرانَ} اختلف في هذا، فإن كان عمران أبا موسى، وهارون، فإنّما اختارهما الله على العالمين حيث أنزل على قومهما المنّ، والسلوى، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم، وإن كان أبا مريم فإنّه اصطفى له مريم بولادة عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد في العالم. وهو ما رجّحته سابقا، والمراد ب {الْعالَمِينَ} عالمو زمانهم؛ لأنّ سيدنا، وحبيبنا أفضل الرّسل جميعا، وأمته أفضل الأمم بفضل الله وإنعامه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. هذا؛ وعمران والد موسى وهارون هو ابن يصهر، بن فاهث، بن لاوي بن يعقوب، وعمران، والد مريم هو ابن أشيم بن أمون، وقيل: ابن ماثان، وهو من ولد سليمان بن داود، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.

تنبيه بل فائدة: يقول بعض الناس: إنّ المراد ب (عمران) أبو طالب والد عليّ-رضي الله عنه-فهم يزعمون: أن اسم أبي طالب عمران، يريدون من ذلك ما يريدون من التّحريف، والتبديل، والتزييف، واسم أبي طالب الحقيقي عبد مناف.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {اِصْطَفى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى الله والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {آدَمَ:}

مفعول به، وما بعده معطوف عليه، و ({آلَ}): مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، و (آل) مضاف، و {عِمْرانَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون. {عَلَى الْعالَمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {اِصْطَفى..} . وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها من الإعراب على الاعتبارين.

{ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}

الشرح: {ذُرِّيَّةً:} هي النسل من بني آدم، وهي تطلق على الجمع، كما في قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [9]:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً} . وتطلق على الواحد،

ص: 69

كما في قوله تعالى في الآية رقم [38] الآتية حكاية عن قول زكريا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . قيل: هي مشتقة من الذّرا بفتح الذال، وهو كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظلّ فلان، وفي ذراه؛ أي: في كنفه، وستره، وتحت حمايته. وهي بضم الذال أعلى الشيء. وقيل: هي مشتقة من الذّرء، وهو الخلق. قال تعالى:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} رقم [24] من سورة (الملك) وقال تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} رقم [11] من سورة (الشورى) فأبدلت همزة الذرء ياء، ثم شدّدت الياء، وتبعتها الراء في التّشديد.

{بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ} يعني: إن الآلين ذرية واحدة متشعبة بعضها من بعض، تناصرت على الحق، وقيل: متسلسلة في الاجتباء، والاصطفاء، والنبوة. {وَاللهُ سَمِيعٌ:} لأقوال الناس.

{عَلِيمٌ:} بأفعالهم، فيصطفى، ويختار من كان مستقيم القول، والعمل، أو هو سميع بقول امرأة عمران، عليم بنيتها.

الإعراب: {ذُرِّيَّةً:} بدل من (نوح) وما بعده. وقيل: بدل من الآلين فقط، أو هو حال من:

(آدم) وما عطف عليه. قاله الأخفش، ومكي: والعامل فيه: {اِصْطَفى} . {بَعْضُها:} مبتدأ، وها في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْضٍ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب صفة:{ذُرِّيَّةً} ({اللهُ}) مبتدأ، {سَمِيعٌ عَلِيمٌ:} خبران ل ({اللهُ}). والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام، فهي مؤكدة لمعنى الكلام السابق.

{إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}

الشرح: {إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ:} اسمها حنة بنت فاقوذ بن قنبل أم مريم جدّة عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. و {عِمْرانَ} أبو مريم لم يكن نبيّا، وكذا أبو موسى لم يكن نبيّا أيضا. {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} قيل: إن سبب نذرها هذا: أنّها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وأنّها كانت تحت شجرة، فبصرت بطائر يزقّ فرخا له، فتحرّكت نفسها لذلك، ودعت ربّها أن يهب لها ولدا، ونذرت: إن ولدت؛ أن تجعل ولدها محرّرا، أي: حقيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة، حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى.

وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم، فكان المحرّر عندهم إذا حرّر جعل في الكنيسة يخدمها، ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم، ثم يخيّر، فإن اختار الإقامة فيها؛ لا يجوز له بعد ذلك الخروج منها، وإن أبى؛ ذهب حيث شاء، ولم يكن أحد من أنبياء بني إسرائيل، وعلمائهم إلا ومن أولاده من هو محرّر لخدمة بيت المقدس، ولم يكن يحرّر إلا الذكور، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس، لما يصيبها من الحيض، والأذى، فحرّرت

ص: 70

امرأة عمران ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وسألت ربّها أن يقبل منها ما حرّرت، ووقفت، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى؛ فلا تصلح لذلك. فوقعا في همّ شديد من أجل ذلك، ثمّ توفي زوجها، وهي حامل بمريم، عليها السلام.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. أو هو مفعول به لهذا المقدر، وهو قول محمد بن يزيد، وقال أبو عبيد:{إِذْ} زائدة، وعلّقه الزّجاج بالفعل:{اِصْطَفى} وعلقه مكي ب {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} والأول هو المعتمد. {قالَتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {اِمْرَأَتُ:} فاعله، وهو مضاف، و {عِمْرانَ:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. {رَبِّ} انظر الآية رقم [259] من سورة (البقرة) ففيها الكفاية. {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها.

{نَذَرْتُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به: {فِي بَطْنِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة الموصول، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مُحَرَّراً:} حال من: {ما} ليس غير، ووقعت {ما} لغير العاقل للإبهام.

{فَتَقَبَّلْ:} الفاء: هي الفصيحة. (تقبل): فعل دعاء، وفاعله تقديره: أنت، ومفعوله محذوف، التقدير: تقبل مني ما نذرته. {مِنِّي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا مني؛ فتقبله مني، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول. {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [8] وهي مفيدة للتعليل، لا محل لها من الإعراب.

{فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)}

الشرح: {فَلَمّا وَضَعَتْها:} التأنيث لما نذرته، وإنّما أنث؛ لأنه كان أنثى. {قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى} . قالت ذلك تحسرا، وتحزّنا إلى ربّها؛ لأنّها كانت ترجو أن تلد ذكرا. والسبب ما ذكرته في الآية السابقة. وقد خرجت الجملة الفعلية من معنى الإخبار إلى معنى التحسّر، والتحزّن.

{وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ} أي: عالم بما ولدت، وهو إخبار من الله تعالى. وقرئ بضم التاء على أنها فاعل، فيكون من كلام أمّ مريم على تقدير: أنها لمّا قالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى} خافت أن تكون أخبرت الله بذلك، فأزالت هذه الشبهة بقولها:(والله أعلم بما وضعت).

ص: 71

{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى:} يعني في خدمته الكنيسة، والعبّاد الذين فيها، والأصل: وليس الأنثى كالذكر، فحصل في الكلام قلب، والمراد منه تفضيل الذكر على الأنثى؛ لأنّ الذكر يصلح للخدمة، ولا تصلح الأنثى لضعفها، وما يحصل لها من الحيض، ولأنّها عورة، ولا يجوز لها الحضور مع الرّجال، وكانت مريم من أجمل النّساء، وأفضلهنّ في وقتها، كما ستعرفه فيما بعد.

{وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ} يعني: العابدة، والمطيعة بلغتهم، فأرادت بذلك التقرّب، والطلب إليه أن يعصمها؛ حتّى يكون فعلها مطابقا لاسمها، وأن يصدق ظنّها بها، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها، ولولدها من الشّيطان الرّجيم، ومعنى {أُعِيذُها} أجيرها، وأحصّنها، وأحفظها بكفالتك لها. {مِنَ الشَّيْطانِ:} انظر الآية رقم [268] من سورة (البقرة) لشرحه، ومعناه.

هذا؛ و {الرَّجِيمِ} فعيل بمعنى مفعول، أي: إنه مرجوم باللّعن، والطّرد عن الخير، وعن رحمة الله تعالى. قيل: هو فعيل بمعنى فاعل، أي: إنّه يرجم غيره بالإغواء، والوسوسة.

وأصل الرّجم: الرمي بالحجارة. والرّجم: القتل، واللّعن، والطّرد، والشّتم. وقد قيل: هذا كله في قوله تعالى حكاية عن قول قوم نوح له: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} رقم [116] من سورة (الشّعراء). والرّجم: القول بالظن، كما في قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} رقم [22] من سورة (الكهف)، وقال زهير في معلّقته رقم [29]:[الطويل]

وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم

وما هو عنها بالحديث المرجّم

بعد هذا: ففي صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود يولد إلاّ نخسه الشّيطان، فيستهلّ صارخا من نخسة الشّيطان، إلاّ ابن مريم، وأمّه» . ثمّ قال أبو هريرة-رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُها..} . إلخ.

قال العلماء: أفاد هذا الحديث: أنّ الله تعالى استجاب دعاء أمّ مريم، فإنّ الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتّى الأنبياء، والأولياء إلا مريم، وابنها، ولا يلزم من نخس الشّيطان إضلال المنخوس، وإغواؤه، فكم تعرّض الشيطان للأنبياء، والأولياء بأنواع الإفساد، والإغواء، ومع ذلك عصمهم الله ممّا يرومه الشّيطان منهم. كما قال تعالى في سورة (الإسراء):{إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} مع أنّ كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشّياطين، كما بينته فيما سبق. فمريم، وابنها وإن عصما من نخسه؛ فلم يعصما من ملازمته لهما، وقال ابن الرّومي في صراخ المولود:[الطويل]

لما تؤذن الدّنيا به من صروفها

يكون بكاء الطّفل ساعة يولد

وإلاّ فما يبكيه منها وإنّه

لأفسح ممّا كان فيه وأرغد

إذا أبصر الدّنيا استهل كأنّه

بما سوف يلقى من أذاها يهدّد

ص: 72

يقول: إنّما يكون بكاء الطفل ساعة الولادة؛ لما يعلم: أنّ الدنيا موضع الفتن، ومكان المحن، وإلا فما يبكيه منها؛ والحال: أنه نجا من ضيق الرّحم، وانفصل منه إلى موضع هو أفسح، وأرغد منه؟!

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند ابن السّراج، والفارسي، وابن جنّي، وجماعة. تتطلّب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. وصوّب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {وَضَعَتْها:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اِمْرَأَتُ عِمْرانَ} والتاء للتأنيث. و (ها) مفعول به، والجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {اِمْرَأَتُ عِمْرانَ} أيضا. {رَبِّ} منادى حذف منه حرف النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، وانظر الآية رقم [126] من سورة (البقرة) إن أردت الزيادة، والجملة الندائية، وما بعدها في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَتْ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {وَضَعَتْها:} ماض، وفاعله، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {أُنْثى:} حال مؤكدة، وهي على تأويله ب «مؤنثا» ، وقيل: بدل من الهاء. {وَاللهُ أَعْلَمُ:} مبتدأ وخبر. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {أَعْلَمُ} وضعت: فعل ماض، والتاء للتأنيث والفاعل يعود إلى:{اِمْرَأَتُ عِمْرانَ} والجملة الفعلية صلة:

(ما) والعائد محذوف، التقدير: بالذي وضعته، واعتبار (ما) موصوفة، ومصدرية ضعيف معنى، والجملة الاسمية معترضة لا محلّ لها. {وَلَيْسَ:} الواو: حرف عطف. ({لَيْسَ}): فعل ماض ناقص. {الذَّكَرُ:} اسمها. {كَالْأُنْثى:} متعلّقان بمحذوف خبر: ({لَيْسَ}) هذا؛ ويجوز اعتبار الكاف اسما بمعنى: مثل، فتكون مبنية على الفتح في محل نصب خبرها، وهي مضاف، و (الأنثى) مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذّر، وجملة:

({لَيْسَ..}.) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَإِنِّي:} الواو: حرف عطف. ({إِنِّي}): حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلّم اسمها.

{سَمَّيْتُها:} ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {مَرْيَمَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر:(إنّ) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{وَإِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، والياء اسمها. {أُعِيذُها:} فعل مضارع، والفاعل تقديره: أنا، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {بِكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَذُرِّيَّتَها:} معطوف على الهاء الواقعة

ص: 73

مفعولا به. وها في محلّ جرّ بالإضافة. {مِنَ الشَّيْطانِ:} متعلقان بالفعل: {أُعِيذُها} .

{الرَّجِيمِ:} صفة: {الشَّيْطانِ} .

{فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)}

الشرح: {فَتَقَبَّلَها رَبُّها} أي: فقبل الله سبحانه مريم؛ الّتي نذرتها أمّها، كما تقدّم. وقيل:

معنى التقبّل: التكفل في التربية، والقيام بشأنها. {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أي: قبلها الله قبولا حسنا. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سلك بها طريق السّعداء. {وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً} أي: سوّى خلقها من غير زيادة، ولا نقصان، فكانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام واحد. هذا؛ والقبول، والنبات اسما مصدر، والمصدر: تقبّلا، وإنباتا؛ لأن فعلهما تقبّل، وأنبت، وهما مثل: عطاء، وسلام، وعذاب

إلخ، قال القطامي-وهو الشاهد رقم [530] من كتاب:«فتح رب البريّة» -: [الوافر]

أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المئة الرّتاعا

أراد بعد إعطائك، لكن لمّا قال: أنبتها؛ دلّ على نبت، كما قال امرؤ القيس قائد الشّعراء إلى النّار. [الطويل]

فصرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أيّما إذلال

وإنّما مصدر ذلّت: ذلّ، ولكنّه ردّه إلى معنى: أذللت، وكذلك كلّ ما يرد عليك في هذا الباب. فمعنى: تقبل، وقبل واحد، وأيضا قول القطامي:[الوافر]

وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس بأن تتبعه اتّباعا

لأن تتبعت، وأتبعت بمعنى واحد، والأصل في القوم ضم القاف؛ لأنه مصدر مثل الدّخول، والخروج، والفتح جاء في حروف قليلة، مثل الولوع، والوزوع، هذه الثلاثة لا غير، قاله أبو عمرو، والكسائي، والأئمة.

{وَكَفَّلَها زَكَرِيّا:} ضمها إليه؛ أي: ألزم الله زكريا كفالتها، وقدّر ذلك، ويسّره له، وكانت أمّها لمّا ولدتها لفّتها بخرقة، وأتت بها الأحبار سدنة بيت المقدس، وقالت: دونكم هذه النّذيرة، فتنافسوا فيها؛ لأنها بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، فقال زكريا-عليه السلام: أنا أحقّ بها؛ لأن خالتها عندي؛ لأن زكريا، وعمران تزوجا أختين، وكانت إيشاع بنت فاقوذ، وهي أمّ يحيى بن زكريا، وكانت حنّة بنت فاقوذ أخت إيشاع عند عمران، فقال الرّهبان،

ص: 74

والأحبار: لا! حتّى نقترع، فانطلقوا، وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن، وألقوا أقلامهم على أنّ من ثبت قلمه في الماء، وصعد؛ فهو أولى بها، فثبت قلم زكريا، فأخذها، وبنى لها غرفة في المسجد بسلّم، لا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بأكلها، وشربها، ودهنها، فيجد عندها فاكهة الصّيف في الشّتاء، وفاكهة الشّتاء في الصيف.

هذا؛ والمحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، والمراد به الغرفة التي بناها لها زكريا في المسجد، سمّيت بذلك؛ لأنها محلّ محاربة الشّيطان؛ لأنّ المتعبد فيها يحاربه، ولذلك يقال لكلّ محلّ من محال العبادة: محراب. قال وضاح اليمن: [السريع]

ربّة محراب إذا جئتها

لم ألقها أو أرتقي سلّما

أي: ربة غرفة. {أَنّى لَكِ هذا} أي: من أين لك هذا؟ قاله أبو عبيدة، والنحاس. وهذا فيه تساهل؛ لأنّ أين سؤال عن الموضع، وأنّى سؤال عن المذهب، والجهات، والمعنى: من أي المذاهب، ومن أي الجهات لك هذا؟ وقد فرّق الكميت بينهما؛ حيث قال:[المنسرح]

أنّى ومن أين آبك الطّرب

من حيث لا صبوة ولا ريب

{قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: هو من الجنّة يرزقني الله إياه. {إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ:} يحتمل أن يكون من كلام مريم، وأن يكون مستأنفا من الله تعالى، وانظر الآية رقم [27]. وفي هذا دليل على جواز كرامات الأولياء على أيديهم، وظهور خوارق العادات.

تنبيه: روى: أن فاطمة الزهراء-رضي الله عنها-أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على طبق رغيفين، وبضعة لحم، فرجع بها إليها؛ أي: أرسلها إليها، أو أخذها، ورجع بها مغطاة، وقال:

هلمّي يا بنية! فكشفت عن الطّبق، فإذا هو مملوء خبزا، ولحما، فقال لها: أنّى لك هذا؟ قالت:

هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال: الحمد الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل! ثمّ جمع عليّا، والحسن، والحسين، وجميع أهل بيته، فأكلوا، وشبعوا، وبقي الطعام كما هو، فأوسعت على جيرانها! انتهى جمل نقلا من أبي السعود.

الإعراب: {فَتَقَبَّلَها:} الفاء: حرف عطف. (تقبلها): فعل ماض. و (ها) مفعول به. {رَبُّها:}

فاعله، و (ها) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالَتْ} في الآية السابقة. هذا؛ ويقرأ الفعل بلفظ الدّعاء، و ({رَبُّها}) بالنصب؛ أي: يا ربها، وكذا الفعلان. ({أَنْبَتَها}) و ({كَفَّلَها}) قال أبو البقاء، والزّمخشري: فيكون الفاعل مستترا تقديره: أنت، وتكون الجملة من مقول {اِمْرَأَتُ عِمْرانَ} ولكن على تقدير الفاء الفصيحة؛ أي: وإذا كان ذلك حاصلا مني؛ فتقبلها. {بِقَبُولٍ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول مطلق. {حَسَنٍ:} صفة (قبول)، وجملة:{وَأَنْبَتَها} معطوفة على ما قبلها على

ص: 75

القراءتين. {نَباتاً:} مفعول مطلق. {حَسَناً:} صفة له. ({كَفَّلَها}): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبُّها} و (ها) مفعول به أول. {زَكَرِيّا:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، ويقرأ الفعل بتخفيف الفاء، فيكون:{زَكَرِيّا} فاعلا به.

{كُلَّما} . (كل): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين، مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه. (ما): مصدرية توقيتية. {دَخَلَ:} فعل ماض. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {زَكَرِيّا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذر. {الْمِحْرابَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل: {دَخَلَ} عند بعض النّحاة، وفي مقدّمتهم سيبويه، والمحقّقون-وعلى رأسهم الأخفش-ينصبونه على التوسّع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السّعة بإجراء اللازم مجرى المتعدّي، ومثل ذلك قل في: دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشّام، وأيضا قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [61]:{اِهْبِطُوا مِصْراً} وهذا إن كان الفعل ثلاثيّا، وأمّا إذا كان رباعيّا بأن دخلت عليه همزة التعدية، ونصب مفعولين، فالمفعول الثاني يقال فيه ما ذكر في مفعول الثلاثي، والمفعول الأوّل يكون صريحا، مثل: أدخلت خالدا البيت، و (ما) والفعل:{دَخَلَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كلّ) إليه، التقدير: كلّ وقت دخول عليها المحراب، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل (كل) وقيل:(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى: وقت أيضا، والمدرّسون في هذا الزمن يقولون:{كُلَّما} أداة شرط غير جازمة، ولا يعرفون هذا الإعراب، والتفصيل. {وَجَدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {زَكَرِيّا}. {عِنْدَها:} ظرف مكان متعلق ب {وَجَدَ} أو هو متعلق بمحذوف حال من:

{رِزْقاً} كان صفة له

إلخ. {رِزْقاً:} مفعول به، والجملة الفعلية جواب:{كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{زَكَرِيّا،} (يا): أداة نداء، تنوب مناب «أدعو» .

({مَرْيَمُ}): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب (يا). {أَنّى:} اسم مبني على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {لَكِ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه. {هذا:}

اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والهاء حرف تنبيه لا محل له، والجملة الاسمية، والجملة الندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. وقد أغرب الجمل كلّ الغرابة حيث قال: إنّ {قالَ} هي العامل في {كُلَّما} وهو يعني: أنها الجواب، ثم ناقص نفسه، فقال: استئناف مبني على سؤال، كأنه قيل: فماذا قال زكريا عند مشاهدة هذه الآية؟ فقل: {قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى..} . إلخ، وعلى قوله الأول فجملة:{وَجَدَ}

ص: 76

{عِنْدَها رِزْقاً} في محل نصب حال من زكريا، والمعنى لا يؤيده. كما أغرب أبو البقاء، فقال:

ويجوز أن يكون التقدير: فقال، فحذف الفاء. وهو تكلّف لا داعي له أيضا.

{قالَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى {مَرْيَمُ} هو: ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف خبره، و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَتْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {يَرْزُقُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} . {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به أوّل، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يرزق الذي، أو: شيئا يشاؤه رزقا واسعا. {بِغَيْرِ حِسابٍ:} {بِغَيْرِ:} متعلقان ب «واسعا» الذي قدرته لك. وقال أبو البقاء: متعلقان بمحذوف حال من المفعول؛ لأن الفعل {يَرْزُقُ} ينصب مفعولين؛ لأنه بمعنى: يعطي، ويمنح، وقد نصبهما، والثاني منهما:{رِزْقاً} الذي قدرته، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول؛ إن كانت من كلام مريم عليها السلام، ومستأنفة؛ إن كانت من كلام الله تعالى.

{هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38)}

الشرح: {هُنالِكَ:} في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم، أو في ذلك الوقت. فقد يستعار: هنا، وحيث، وثمّ للزّمان، وإن كان الأصل فيهنّ للمكان. ومثله قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ} وقال في سورة (الكهف): {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ} ومثلها في سورة (الأعراف)، و (الفرقان)، و (الأحزاب) وسورة (ص) و (غافر). ولمّا رأى زكريا، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام إتيان الرزق لمريم في غير أوانه، وعلم: أنّ القادر على ذلك قادر على الإتيان بالولد على الكبر، وكان أهل بيته قد انقرضوا؛ سأل الله الولد، وكان ذلك في جوف اللّيل لمّا دخل محرابه للصّلاة، والعبادة.

{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي: نسلا صالحا، مباركا، تقيّا، رضيّا. وإنما قال:{طَيِّبَةً} لتأنيث لفظ الذرية، كقول الشاعر:[الوافر]

أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

فأنّث «ولدته» لتأنيث لفظ الخليفة، وروي من حديث أنس-رضي الله عنه-قال، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أيّ رجل مات، وترك ذريّة طيّبة؛ أجرى الله له مثل أجر عملهم، ولم ينقص من أجورهم شيئا» . {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ:} سامعه، ومجيبه.

ص: 77

وإذا ثبت هذا؛ فالواجب على الإنسان أن يتضرّع إلى الله في هداية ولده، وزوجه بالتوفيق لهما، والهداية، والصّلاح، والعفاف، والرعاية، وأن يكونا معينين له على دينه، ودنياه، حتّى تعظم منفعته بهما في أولاه، وأخراه، ألا ترى قول زكريا في سورة (مريم):{وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} وقال هنا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} .

هذا؛ ودلّت الآية الكريمة على طلب الولد الصّالح، وهي سنّة المرسلين والصّدّيقين، قال الله تعالى في الآية رقم [38] من سورة (الرعد):{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً} . وقال تعالى في سورة (الفرقان) في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} . ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنس، ولغيره من الصحابة بكثرة الولد.

وأخرج أبو داود عن معقل بن يسار-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تزوّجوا الودود الولود فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» .

الإعراب: {هُنالِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب على الظّرفية المكانية، أو الزمانية متعلّق بالفعل بعده، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{دَعا:} فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر. {زَكَرِيّا:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {رَبَّهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{زَكَرِيّا} . {رَبِّ:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة

إلخ. {هَبْ:} فعل دعاء، والفاعل تقديره: أنت. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ لَدُنْكَ:} متعلقان بالفعل {هَبْ} أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{ذُرِّيَّةً} كان صفة له: فلما قدم عليه صار حالا، و (لدن): مبني على السكون في محل جر ب (من) والكاف في محل جر بالإضافة. {ذُرِّيَّةً} مفعول به. {طَيِّبَةً:} صفة له، وجملة:{هَبْ لِي..} . إلخ في محلّ نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ مفسرة للدعاء، لا محل لها مثلها. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.

{سَمِيعُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الدُّعاءِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل لا محل لها، وهي في محل نصب مقول القول.

{فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ (39)}

الشرح: {فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ:} ناداه جبريل وحده، وجمع، كما في قولهم: فلان يركب الخيل، ويلبس الثياب، وماله غير فرس، وثوب. أو على أنه أريد بالعام الخاصّ تعظيما له. انتهى جمل.

ص: 78

ومثله نداؤه لمريم الآتي. وأنث الفعل؛ لأن لفظ: {الْمَلائِكَةُ} جمع تكسير، وما كان مثله، يجوز تذكير الفعل، وتأنيثه، تقول: جاء الرّجال، وجاءت الرجال، وذكّر في سورة (الرعد) في قوله تعالى:{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ} لذا. لا يستدل بهذه الآية على تأنيث الملائكة. {وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ:} من المعلوم: أنّ كيفية الصلاة تختلف في الديانات السّابقة عن كيفية صلاتنا. والمحراب موضع الصلاة، كما رأيته فيما سبق. {أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى:} سمّاه الله بذلك؛ لأنه أحياه بالإيمان، والعلم، والنبوّة. وقال بعضهم: سمي بذلك؛ لأن الله تعالى أحيا به النّاس بالهدى. وقيل: لأنّه أحيا به رحم أمّه. وقيل: هو أعجميّ لا اشتقاق له.

{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ:} المراد به عيسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. وسمّي (كلمة) لأن الله تعالى. قال له: كن، فكان من غير أب، وكان يحيى أول من آمن بعيسى، وصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين، ويقال بستة أشهر، وكانا ابني خالة، كما قدّمت لك، فلمّا سمع زكريا شهادته؛ قام إلى عيسى فضمّه إليه، وهو في خرقة.

{وَسَيِّداً:} يسود قومه، ويفوقهم في العلم، والتقوى، والصلاح. روي: أنه ما همّ بمعصية قطّ، وقال الزّجاج: السّيد: الذي يفوق أقرانه في كلّ شيء من الخير، وقال الكسائيّ-رحمه الله تعالى-السيد من المعز: المسنّ. وفي الحديث: «ثنيّ من الضّأن خير من السّيّد من المعز» . قال الشاعر في ممدوحه: [الطويل]

سواء عليه شاة عام دنت له

ليذبحها للضّيف أم شاة سيّد

{وَحَصُوراً:} أصله من الحصر، وهو الحبس. يقال: حصرني، وأحصرني: إذا حبسني. قال ابن ميادة: [الطويل]

وما هجر ليلى أن تكون تباعدت

عليك ولا أن أحصرتك شغول

والحصور: الذي لا يأتي النّساء، كأنّه محجم عنهنّ، ف (يحيى) عليه السلام حصور، فعول بمعنى فاعل: لا يأتي النساء، ولا يقربهنّ مع القدرة على الجماع حصرا لنفسه عن الشّهوات، ولعلّ هذا كان شرعه، فأما شرعنا؛ فالنكاح مفضّل على العزوبة. والحصور: البخيل، قال الأخطل:[البسيط]

وشارب مربح بالكأس نادمني

لا بالحصور ولا فيها بسوّار

والحصور: الملك؛ لأنّه كالمحبوس من وراء حجاب. قال لسيد-رضي الله عنه: [الكامل]

وقماقم غلب الرّجال كأنّهم

جنّ لدى باب الحصور قيام

{وَنَبِيًّا مِنَ الصّالِحِينَ:} هذا؛ والصّلاح درجة عالية، ومكانة رفيعة، ولذلك سألها يوسف الصدّيق في الآية رقم [101] من السورة المسماة باسمه. وسألها إبراهيم في الآية رقم [83] من

ص: 79

سورة (الشعراء) وسألها سليمان في الآية رقم [19] من سورة (النمل) وقال تعالى في حقّ إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل-على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة وألف سلام-:

{وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصّالِحِينَ} .

هذا؛ و {قائِمٌ} أصله: قاوم، اسم فاعل من: قام، فقلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ولم يعتدّ بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية منهما همزة، ومثله قل في اليائي: بائع، فإن أصله: بايع.

و (سيّد) أصله: سيود، فاجتمعت الياء والواو، والأول منهما ساكن، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، فصار سيد.

أمّا (كلمة) ففيها ثلاث لغات: الأولى: كلمة، على وزن: نبقة، وهي الفصحى، ولغة أهل الحجاز، وبها نطق القرآن الكريم في آيات كثيرة، وجمعها: كلم، كنبق. والثانية: كلمة، على وزن سدرة. والثالثة: كلمة، على وزن نمرة، وهما لغتا تميم، وجمع الأولى كلم كسدر، والثانية كلم كتمر، وكذلك كل ما كان على وزن فعل، نحو كبد، وكتف، فإنه يجوز فيه اللغات الثلاث، فإن كان الوسط حرف حلق، جاز فيه لغة رابعة، وهي إتباع الأول للثاني في الكسر، نحو: فخذ، وشهد.

وهي في الأصل: قول مفرد، مثل: محمد، وقام، وقعد، وفي، ولن، وقد تطلق على الجمل المفيدة، كما في قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها} إشارة إلى قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: [الطويل]

ألا كلّ شيء-ما خلا الله-باطل»

المراد ب «كلمة» : الشطر الأول بكامله. وتقول: قال فلان: كلمة، والمراد به كلام كثير، وهو شائع، ومستعمل عربيّة في القديم، والحديث. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

كلامنا لفظ مفيد كاستقم

واسم وفعل ثمّ حرف الكلم

واحده كلمة والقول عم

وكلمة بها كلام قد يؤم

الإعراب: {فَنادَتْهُ:} الفاء: حرف عطف. (نادته): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة، والهاء مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:

{وَهُوَ قائِمٌ} في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به. {يُصَلِّي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى زكريا، والجملة الفعلية تحتمل أن تكون في محل رفع خبر ثان للمبتدإ:(هو) وأن تكون في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، فيكون من تعدّد الحال، وهو جملة، وأن تكون في محل نصب حال من الضمير المستتر ب {قائِمٌ} فتكون من تداخل الحال، وعلى كلّ الوجوه؛ فالرابط الضمير، وهو الفاعل المستتر. {فِي الْمِحْرابِ:} متعلقان ب {قائِمٌ} أو بالفعل: {يُصَلِّي} على التنازع.

ص: 80

{أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُبَشِّرُكَ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

{اللهَ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{أَنَّ} و {أَنَّ} واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بكون الله، والجار والمجرور متعلقان بالفعل نادى. هذا؛ ويقرأ بكسر همزة («إن»). وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب مفعول به لنادى، وهو بمعنى: قال، وهو أولى من تقدير قول محذوف، {بِيَحْيى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {مُصَدِّقاً:} حال من:

(يحيى). {بِكَلِمَةٍ:} متعلقان ب {مُصَدِّقاً} لأنه اسم فاعل، لذا فيه ضمير مستتر هو فاعله. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: (كلمة). {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا:} هذه الأسماء معطوفة على {مُصَدِّقاً} . {مِنَ الصّالِحِينَ:} متعلقان بمحذوف صفة: (نبيّا).

{قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَاِمْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40)}

الشرح: {قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ:} هذا استفهام عن كيفية حدوث الغلام، ووجوده، واستبعاد من حيث العادة، أو استعظام لشأن خلقه، أو هو تعجب من قدرة الله، لا استبعاد، وإنكار، فلا يرد: كيف قال زكريا ذلك؟ ولم يكن شاكّا في قدرة الله تعالى عليه. انتهى جمل بتصرّف.

وأيضا في معنى الاستفهام وجهان: أحدهما: أنه سأل: هل يكون له الولد؛ وهو، وامرأته على حاليهما، أو يردّان إلى حال من يلد؟ الثاني: سأل: هل يرزق الولد من امرأته العاقر، أو من غيرها؟ هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأنبياء):{وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ} بمعنى أصلح رحمها، وهيأه للحمل، وجعلها ولودا بقدرته، وإرادته.

{وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ:} قال ابن عباس، والضّحاك-رضي الله عنه: كان يوم بشّر ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، وكان عمر إبراهيم، وزوجه سارة يوم بشّرا بإسحاق مثل عمر زكريا، وزوجه، كما ذكرته في الآية رقم [72] من سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وشفيعنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.

{قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} أي: من العجائب، وخوارق العادات مثل ذلك الفعل، وهو إنشاء الولد من شيخ فان، وعجوز عاقر. هذا؛ وقد قال في حقّ زكريا:{يَفْعَلُ} وفي حق مريم: {يَخْلُقُ} مع اشتراكهما في بشارتهما بولد؛ لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمر خارق، بل نادر، وبعيد، فحسن التعبير بيفعل، واستبعاد مريم كان لأمر خارق، أي: لأغربيّته؛ لأنه اختراع بلا مادة، أي: من غير إحالة على سبب ظاهر، فكان ذكر الخلق أنسب. انتهى جمل.

ص: 81

هذا، و {عاقِرٌ:} لا تلد؛ لأنه مشتق من العقر، وهو القطع؛ لقطعه النسل. ولم يؤنّث؛ لأن العقر من أوصاف النّساء، كما في حائض، وطالق، ونحو ذلك. وقيل: عاقر، يراد به ذات عقر على النّسب، ولو كان على الفعل؛ لقال: عقرت، فهي عقيرة؛ كأنّ بها عقرا، أي: كبرا من السنّ يمنعها من الولد. أما {غُلامٌ} فإنه يطلق على الصبي دون البلوغ مشتق من الغلمة، وهو شدة طلب النكاح، واغتلم الفحل غلمة: هاج من شهوة الضّراب. قالت ليلى الأخيليّة في مدح الحجّاج: [الطويل]

إذا هبط الحجّاج أرضا مريضة

تتبّع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الدّاء العضال الّذي بها

غلام إذا هزّ القناة سقاها

ويجمع غلام على: غلمان، وغلمة، وأغلمة. كما يطلق على العبد، والأجير؛ وإن كانا كبيرين. هذا؛ وقد يقال للأنثى غلامة. خذ قول الشاعر:[الطويل]

فلم أر عاما أكثر الدهر هالكا

ووجه غلام يشترى وغلامه

وقال أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا: [الوافر]

ومركضة صريحي أبوها

تهان لها الغلامة والغلام

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{زَكَرِيّا} . {رَبِّ:} منادى مثل سابقه.

{أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون بمعنى: كيف في محل نصب على الحال من {غُلامٌ} والعامل: {يَكُونُ} . وإن اعتبرته بمعنى: من أين؟ فيكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر: {يَكُونُ} على نقصانه، ومتعلق به على تمامه. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {يَكُونُ} تقدم على اسمها، وذلك على الوجه الأول في:{أَنّى} أو هما متعلقان بمحذوف حال من: {غُلامٌ} وذلك على الوجه الثاني في: {أَنّى} وأيضا على اعتبار {يَكُونُ} تامّا. {غُلامٌ:} اسم {يَكُونُ،} أو فاعل به، وجملة:{أَنّى يَكُونُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَقَدْ:} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. ({بَلَغَنِيَ}): فعل ماض، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به. {الْكِبَرُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الواو، والضمير. {وَامْرَأَتِي:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {عاقِرٌ:} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{قالَ:} فعل ماض، وفاعله مستتر تقديره: هو، يعود إلى:(الله). {كَذلِكَ:} الكاف:

حرف تشبيه وجر، و (ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد،

ص: 82

والكاف حرف خطاب لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله الفعل الذي بعده، التقدير: الله يفعل ما يشاء فعلا كائنا مثل ذلك الفعل. هذا؛ وقيل: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الأمر كذلك، كما قيل: متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، و {اللهُ:} مبتدأ مؤخر. والأول هو المعتمد. {اللهُ:} مبتدأ على الوجهين الأولين في: {كَذلِكَ} . {يَفْعَلُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى {اللهُ} .

{ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والجملة الفعلية صلة: {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يفعل الذي أو شيئا يشاؤه، وجملة:{يَفْعَلُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو لفظ الجلالة، وأما على الوجه الثالث في لفظ الجلالة؛ فالجملة الفعلية في محل نصب حال منه، والكلام:{كَذلِكَ اللهُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَاُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41)}

الشرح: {قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً:} علامة أعرف بها حمل امرأتي بالغلام؛ لأستقبله بالفرح، والسرور، والشّكر للربّ الغفور. {قالَ آيَتُكَ} أي: علامتك على الذي طلبت معرفة علمه: {أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ} أي: لا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام؛ أي: مدّة ثلاثة أيام بلياليها. والقائل جبريل بأمر الله تعالى له. {إِلاّ رَمْزاً} يعني: إشارة، وهي قد تكون باليد، وبالعين وبالإيماء بالرأس، وكانت إشارته بالإصبع المسبّحة. وقد يكون الرمز باللّسان من غير تبيين كلام، وهو الصوت الخفي شبه الهمس. ومن الإشارة بالعين قول عمر ابن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

قال جمهور المفسرين: عقد لسانه عن تكليم الناس ثلاثة أيام مع بقائه على قدرة التسبيح والذّكر، ولذلك قال في الآية:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ} يعني: في أيام منعك من الكلام. وهذه من الآيات الباهرة، والمعجزات الظاهرة؛ لأنّ قدرته على التسبيح، والذكر مع عجزه على تكليم الناس بأمور الدنيا، وذلك مع صحة الجسم، وسلامة الجوارح من أعظم المعجزات. وإنما منع من الكلام مع الناس ليخلص في الأيام الثلاثة لعبادة الله تعالى، وذكره، ولا

ص: 83

يشغل لسانه بشيء آخر. توفيرا منه على قضاء حق هذه النعمة الجسيمة، وشكرا لله على إجابته فيما طلب الآية من أجله، وأن يكون ذلك دليلا على وجود الحمل؛ ليتمّ سروره بذلك. هذا؛ وقال قتادة، وغيره: إنّما أمسك لسانه عن الكلام عقوبة لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إيّاه ببشارة الولد. وقالوا: وكذلك إن لم يكن من مرض: خرس، أو نحوه؛ ففيه على كل حال عقاب له.

هذا؛ و {رَمْزاً} بفتح الراء، وسكون الميم، ويقرأ بضمهما، وقرئ بفتحهما، على أنه جمع:

رامز كخادم، وخدم، وهو حال من:{زَكَرِيّا} ومن {النّاسَ} أي: من الفاعل، والمفعول.

ومثله قول عنترة-وهو الشاهد رقم [152] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الوافر]

متى ما تلقني فردين ترجف

روانف أليتيك وتستطارا

فقوله: فردين: حال من الفاعل المستتر، وياء المتكلّم المفعول به. وأيضا قول الآخر:[الكامل]

فلئن لقيتك خاليين لتعلمن

أيّي وأيّك فارس الأحزاب؟

فقوله: خاليين حال من تاء المتكلم، وكاف الخطاب.

هذا؛ و (العشي) ومثله: عشية، وجمعها: عشيات، ويراد بهما: الوقت من صلاة المغرب إلى العتمة، وهو قول الجوهري، وقال: قلت: قال الأزهري: العشيّ ما بين زوال الشّمس وغروبها. انتهى. وهذا هو المعتمد. و ({الْإِبْكارِ}) هو من طلوع الشمس إلى الضّحوة الكبرى.

ومثله: بكرة (بضم الباء وسكون الكاف) قال زهير في معلقته: [الطويل]

بكرن بكورا واستحرن بسحرة

فهنّ ووادي الرّسّ كاليد في الفم

قال: بكر، وبكّر، وابتكر، وأبكر، وباكر كلّه بمعنى واحد. هذا؛ وبين (العشي) و (الإبكار) طباق، وهو نوع من المقابلة، كما يقال العشي بالغدو، كما في قوله تعالى في سورة (غافر) في حق فرعون، وأشياعه:{النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} كما يقابل العشي بالغداة، قال تعالى في سورة (الكهف):{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} كما يقابل الغدو بالآصال، وهو جمع أصيل، قال تعالى في سورة (النور):{يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ..} . إلخ، ومثله في آخر سورة (الأعراف).

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{زَكَرِيّا} . {رَبِّ:} تقدم إعرابها.

{اِجْعَلْ:} فعل دعاء: والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {آيَةً:} مفعول به، والجملة الفعلية، والندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى جبريل.

{آيَتُكَ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. (أن): حرف مصدري، ونصب. (لا):

نافية. {تُكَلِّمَ:} فعل مضارع منصوب ب (أن) والفاعل مستتر، تقديره: أنت، و (أن) والفعل

ص: 84

المضارع في تأويل مصدر في محل رفع خبر المبتدأ، التقدير: آيتك عدم تكليمك الناس، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{النّاسَ:} مفعول به. {ثَلاثَةَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، و {ثَلاثَةَ:} مضاف، و {أَيّامٍ} مضاف إليه. {أَلاّ:} أداة استثناء. {رَمْزاً:} مستثنى ب {أَلاّ} وانظر الشرح.

{وَاذْكُرْ} الواو: حرف عطف. ({اُذْكُرْ}): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فاشكر، واذكر، والفاء هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا حصل منك عدم القدرة على الكلام؛ فاشكر، واذكر. وهذا الكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {رَبَّكَ:}

مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{كَثِيراً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: اذكر ربك ذكرا كثيرا. وبعضهم يعربه: نائب مفعول مطلق. {وَسَبِّحْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت، ومفعوله محذوف، التقدير: سبح ربك، والجملة معطوفة على ما قبلها. {بِالْعَشِيِّ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْإِبْكارِ:} معطوف على ما قبله.

خاتمة: ولد يحيى، عليه السلام، وتولاّه ربّه بعنايته، ورعاه برعايته، وحفظه من المعاصي، والسّيئات، وكمّله، وجمّله بأحسن الصفات، وكريم الأخلاق والعادات، وقد فاق قومه في عبادة، وطاعة ربّ الأرض، والسموات، وقد برع في الشريعة الموسوية، وصار مرجعا مهمّا لكل من يستفتي في أحكامها، وكان أحد حكام البلاد الشّامية في عهده. يقال له:

هيرودس، وكانت له بنت أخ، يقال لها: هيروديا بارعة الجمال، أراد عمّها أن يتزوّجها، وكانت البنت، وأمّها تريدان ذلك، غير أنّ يحيى عليه السلام لم يرض عن هذا الزواج، ولم يوافق عليه؛ لأنّه محرّم في التوراة، فانتهزت أمّ الفتاة إخراج بنتها إلى عمّها في زينتها، فرقصت أمامه، فسرّ منها، وطلب إليها أن تقول ما تتمنّاه؛ ليعمله لها، وكانت أمّها قد لقّنتها أن تطلب رأس يحيى بن زكريا في هذا الطّبق إذا سألها عمّها أن تقول ما تتمنّاه، فقال: ويحك سليني غير هذا.

قالت: لا أسألك غيره، فلمّا أبت عليه؛ بعث إليه، فأتي برأسه في الطبق، والرأس يتكلّم؛ حتى وضع بين يديه، وهو يقول: لا تحلّ لك، فلمّا أصبح إذا دمه يغلي، ويفور، فأمر بتراب، فألقي عليه، فارتفع الدّم فوقه، فلم يزل يغلي، ويفور؛ حتى جاء بختنصر، كما عرفته.

فلمّا سمع زكريا عليه السلام أن ابنه يحيى قد قتل؛ انطلق هاربا في الأرض؛ حتّى دخل بستانا عند بيت المقدس فيه الأشجار، فنادته شجرة: يا نبي الله! إلى هنا، فلمّا أتاها؛ انفتقت له الشّجرة، ودخل في وسطها، فانضمّت عليه، فأخذ إبليس-أخزاه الله-بطرف ردائه، فأخرجه من شقّها، وأخذ الملك، وأعوانه يبحثون عن زكريا، عليه السلام؛ حتّى أتوا البستان، فدلّهم إبليس

ص: 85

-أخزاه الله-على الشّجرة. التي دخلها زكريا، وأراهم طرف ردائه، فأخذوا المناشير، ونشروا الشّجرة نصفين، فسلّط الله عليهم أخبث أهل الأرض علجا مجوسيّا، كما رأيت في الآية رقم [259] من سورة (البقرة) وذكرتها أيضا في الآية رقم [5] من سورة (الإسراء) فانتقم الله منهم بدم يحيى، وزكريا، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم ألف ألف صلاة، وألف ألف سلام، فقتل عظماءهم، وسبى منهم مائة وسبعين ألفا. انتهى بتصرف كبير من قصص الأنبياء للنجّار، وللثّعالبي. وهكذا كان خبث بني إسرائيل، وخروجهم عن طاعة الله تعالى، وقتلهم الأنبياء بغير حقّ.

وينبغي أن تعلم: أنّ قتل هذين النّبيّين كان في حياة عيسى، وأنّهم كانوا جميعا في زمن واحد، ولم يذكر أحد عمر يحيى عليه السلام، غير أنّ عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-قال: ولما بلغ المسيح أنّ يحيى قد قتل؛ جهر بدعوته، وقام في الناس واعظا. انتهى. وإذا علمت: أن يحيى، وعيسى متقاربان في زمن ولادتهما، وأن عيسى قد رفع، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة تبيّن لك أن يحيى لم يعش ثلاثين عاما. تأمل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ وأكرم، وصلّى الله على حبيبنا وشفيعنا محمد، وعلى عيسى، ويحيى، وزكريا، وجميع الأنبياء والمرسلين، وسلم.

{وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اِصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42)}

الشرح: {وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ:} قال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: كلّموها شفاها كرامة لها. ومن أنكر الكرامة زعم: أن ذلك كان معجزة لزكريا، عليه السلام، وإرهاصا لنبوة عيسى، عليه السلام، فإن الإجماع على أنّ الله تعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى في سورة (الأنبياء):

{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً} . وقيل: ألهموها. وصحّح القرطبي نبوتها.

والمعتمد الأوّل للآية القرآنية. والاصطفاء الأول: تقبلها من أمها، ولم تقبل قبلها أنثى، وتفريغها للعبادة، وإغناؤها برزق الجنّة عن الكسب، وتطهيرها عمّا يستقذر من النساء. والثاني:

هدايتها، وإرسال الملائكة إليها، وتخصيصها بالكرامات السّنية، كالولد من غير أب، وتبرئتها ممّا قذفها اليهود به بإنطاق الطفل، وجعلها، وابنها آية للعالمين. والمراد ب ({الْمَلائِكَةُ}): جبريل وحده، كما في ندائه لزكريا، عليه السلام. هذا؛ وقيل المراد ب {نِساءِ الْعالَمِينَ:} نساء زمانها، والمعتمد: أنّ المراد نساء العالمين أجمع إلى يوم الصّور. وقد نظم بعضهم الأفضلية بينها، وبين غيرها، فقال:[البسيط]

فضلى النّسا بنت عمران ففاطمة

خديجه ثمّ من قد برّأ الله

والمراد ب «من قد برأ الله» : عائشة-رضي الله عنها. وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرّجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلاّ مريم بنت

ص: 86

عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد. وفضل عائشة على النّساء كفضل الثّريد على سائر الطّعام». متّفق عليه. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون» . أخرجه الترمذي.

قال القرطبي: وروي من طرق صحيحة: أنّه عليه الصلاة، والسّلام قال فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه:«خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد» . ومن حديث ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» . وروى موسى بن عقبة بن كريب عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيدة نساء العالمين مريم، ثمّ فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية» ثم ذكر رحمه الله تعالى أمورا اختصّ الله بها مريم، واستدل بها على نبوّتها. والجواب ما ذكرته سابقا من أنّ الله لم ينبّئ امرأة بدليل الآية من سورة (الأنبياء). والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.

هذا؛ وإن الله تعالى سيزوّج نبينا صلى الله عليه وسلم في الجنّة مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وكلثوم أخت موسى بن عمران. فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة-رضي الله عنها، وهي في الموت، فقال لها:«يا خديجة! إذا لقيت ضرّاتك؛ فأقرءيهنّ مني السّلام» .

فقالت: يا رسول الله! وهل تزوجت قبلي؟! قال: «لا، ولكنّ الله زوّجني مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وكلثوم أخت موسى» . فقالت له: يا رسول الله بالرّفاه، والبنين!

وذكر الحافظ ابن عساكر عن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: جاء جبريل-عليه السلام-إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرّت خديجة-رضي الله عنها-فقال جبريل: «إنّ الله يقرئها السّلام، ويبشّرها ببيت في الجنة من قصب، بعيد من اللهب لا صخب فيه، ولا نصب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران، وبيت آسية بنت مزاحم» . انتهى. والمحفوظ: أنّها قالت حينما أعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك:

هو السّلام، ومنه السّلام، وإليه يعود السّلام. فلم تقل: وعليه السّلام؛ لأنّه لا يجوز للعبد أن يقول: وعلى الله السّلام، وهذا من كمال عقلها، وفهمها، وذكائها-رضي الله عنها، وأرضاها.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف. ({إِذْ}): معطوف على مثله في الآية رقم [35]، {قالَتِ:}

فعل ماض، والتاء للتأنيث. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها.

({يا}): أداة نداء تنوب مناب «أدعو» . ({مَرْيَمُ}): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب ({يا}). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {اِصْطَفاكِ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملتان بعدها معطوفتان عليها فهما في محل رفع مثلها. {عَلى نِساءِ:}

ص: 87

متعلقان بما قبلهما، و {نِساءِ:} مضاف، و {الْعالَمِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والآية كلّها في محل نصب مقول القول.

{يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاُسْجُدِي وَاِرْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ (43)}

الشرح: {يا مَرْيَمُ اقْنُتِي..} . إلخ: القنوت: الطاعة، والانقياد، والخضوع. وقال تعالى عنها في آخر سورة التحريم:{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: أي: أطيلي القيام في الصّلاة. وقال الأوزاعي: -رحمه الله تعالى-لما قالت لها الملائكة ذلك؛ قامت في الصّلاة حتى ورمت قدماها، وسالتا دما، وقيحا، عليها السلام. والقنوت: أن تذكر الله قائما، والقنوت: طول القيام. قاله ابن عمر-رضي الله عنهما-وقرأ قوله تعالى في سورة (الزّمر):

{أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» . أخرجه مسلم، وغيره، وقال الشاعر:[الرمل]

قانتا لله يدعو ربّه

وعلى عمد من النّاس اعتزل

{وَاسْجُدِي وَارْكَعِي:} إنما قدّم السجود على الرّكوع؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، إنّما هي لمطلق الجمع، كأنه قيل لها: افعلي الركوع، والسجود. وقيل: إنّما قدم السجود على الركوع؛ لأنه كان كذلك في شريعتهم. وقال ابن الأنباري: أمرها أمرا عامّا، وحضّها على فعل الخير، فكأنه قال: استعملي السّجود في حال، والركوع في حال، ولم يرد تقديم السجود على الركوع، بل أراد العموم بالأمر على اختلاف الحالين، وإنما قال:{وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ} ولم يقل: مع الراكعات؛ لأن لفظ الراكعين أعمّ، فيدخل فيه الرجال، والنساء، والصّلاة مع الرجال أفضل، وأتم، وعلى كلّ ففيه تغليب الرّجال على النّساء، كما في قوله تعالى:{وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ} .

وانظر شرح الركوع في الآية رقم [43] من سورة (البقرة) فإنّه جيد.

هذا؛ و (مريم) بالعبرية بمعنى الخادم، ثم سمّي به كثير من النّساء، و (مريم) في لسان العرب هي التي تكون مخالطة، ولم تذكر امرأة باسمها صريحا في القرآن الكريم إلا مريم، وقد ذكرت في ثلاثين موضعا. هذا؛ وفي القاموس المحيط: المريم: هي التي تحبّ مخالطة الرجال، ولا تفجر. وهذا يناقض ما قبله. قال الشاعر:[الطويل]

وزائرة ليلا كما لاح بارق

تضوّع منها للكساء عبير

فقلت لها أهلا وسهلا أمريم؟

فقالت: نعم من أنت قلت لها: زير

ص: 88

الإعراب: {يا مَرْيَمُ:} منادى مثل ما قبله. {اُقْنُتِي:} فعل أمر مبني على حذف النون؛ لأن مضارعه من الأفعال الخمسة، وياء المؤنثة المخاطبة ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية، وما عطف عليها، والجملة الندائية كلّ ذلك في محل نصب مقول قول الملائكة.

{مَعَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {الرّاكِعِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ.

{ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}

الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما ذكر من أمر زكريا، ويحيى، ومريم، على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. {مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ:} من أخبار الغيب. والغيب: كلّ ما غاب عنّا. ولم تدركه حواسنا، قال الشاعر:[الطويل]

وبالغيب آمنّا، وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمّد

ورحم الله من يقول: [الطويل]

إذا ما خلوت الدّهر يوما فلا تقل

خلوت ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما يخفى عليه يغيب

{نُوحِيهِ إِلَيْكَ:} نخبرك به بواسطة جبريل الأمين، عليه السلام. وأصل الوحي: الإشارة السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرّسول المرسل لقومه، مثل موسى، وعيسى، ومحمّد، صلّى الله عليهم أجمعين. والوحي أيضا: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك، وتسخير الطّير لما خلق له إلهام، والوحي إلى النّحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام. واختلف في الوحي إلى أمّ موسى، فقيل: كان في المنام. وقيل: كان إلهاما. وقيل:

كان يكلّمها جبريل، عليه السلام. قال تعالى في سورة (طه) حكاية عمّا أجاب به موسى فرعون:

{قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} . وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: إن الحارث بن هشام-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال:

«أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فينفصم عنّي؛ وقد وعيت ما قال. وأحيانا يأتيني الملك رجلا، فيكلّمني، فأعي ما يقول» . قالت عائشة-رضي الله عنها: فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه؛ وإن جبينه ليتفصّد عرقا. أخرجه البخاريّ ومسلم، وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:

يا رسول الله! هل تحس بالوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل، ثمّ أسكت عند ذلك، فما من مرّة يوحى إليّ؛ إلاّ ظننت أنّ نفسي تقبض» . أخرجه الإمام أحمد، رحمه الله تعالى.

ص: 89

{وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} وما كنت موجودا عندهم. {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} في النّهر حين اختصموا، وتنافسوا على كفالة مريم، كلّ يريد أن تكون في كنفه، ورعايته، حتّى فصلت بينهم القرعة، وكانت من نصيب زكريا، كما رأيت في الآية [37]. هذا؛ و {يُلْقُونَ} بمعنى: ألقوا، و {يَخْتَصِمُونَ} بمعنى: اختصموا، أو هما حكاية حال ماضية.

هذا؛ و {لَدَيْهِمْ} ظرف مكان بمعنى: عند، وهي معربة مثلها، وقد تستعملان في الزّمان، وإذا أضيف «لدى» إلى مضمر، -كما هنا-قلبت ألفه ياء عند جميع العرب، إلا بني الحارث بن كعب، وبني خناعة، فلا يقلبونها تسوية بين الظاهر، والمضمر، كما لا يقلبون ألف «على» و «إلى» ونحوهما، وعلى لغتهم جاء قول الشاعر:[الوافر]

إلاكم يا خناعة لا إلانا

عزا النّاس الضّراعة والهوانا

فلو برأت عقولكمو بصرتم

بأنّ دواء دائكمو لدانا

وذلكمو إذا واثقتمونا

على قصر اعتمادكمو علانا

ثمّ اعلم: أنّ «عند» أمكن من: «لدى» من وجهين: أحدهما: أنها تكون ظرفا للأعيان، والمعاني، تقول: هذا القول عندي صواب، وعند فلان علم به. ويمتنع ذلك في لدى، ذكره ابن الشّجري في أماليه، ومبرمان في حواشيه. والثاني: أنّك تقول: عندي مال؛ وإن كان غائبا، ولا تقول: لديّ مال إلا إذا كان حاضرا، قاله جماعة، منهم الحريري، وأبو هلال العسكري، وابن الشّجري. وزعم المعري: أنه لا فرق بينهما، وقول غيره أصحّ. انتهى. فتح القريب المجيب.

تنبيه: الآية الكريمة تذكّر النبي صلى الله عليه وسلم بما أنعم الله عليه من نعم. ومثلها كثير في القرآن، وفيه منّ على الرّسول العظيم لا يخفى، وهذا المنّ من الله على نبيّه مقبول؛ لأنّ الله عز وجل يمنّ بما يملك حقيقة، فهو المنعم، والمتفضل، بخلاف منّ العبد على العبد، فهو مذموم؛ لأنّ العبد يمنّ على العبد بما رزقه الله تعالى، وأنعم به عليه، فلا ملك له في الحقيقة. تأمّل، وتدبّر.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {مِنْ أَنْباءِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {أَنْباءِ:}

مضاف، و {الْغَيْبِ} مضاف إليه. {نُوحِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والهاء مفعول به. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {نُوحِيهِ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، إن عاد الضمير على الإشارة، أو في محل نصب حال من الغيب إن عاد الضمير إليه، هذا وقال الجمل: جملة: {نُوحِيهِ} مستأنفة، وقال أبو البقاء:{مِنْ أَنْباءِ} متعلقان بالفعل بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب. ولا أؤيد ما قالا.

ص: 90

{وَما:} الواو: واو الحال، (ما): نافية. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السّكون، والتاء اسمه. {لَدَيْهِمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: (كان) فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء، لاتصاله بالهاء التي هي ضمير متّصل في محل جرّ بالإضافة.

{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل نصب متعلق بالخبر المحذوف، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الواو، والضمير. {يُلْقُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. {أَقْلامَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة.

{أَيُّهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَكْفُلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

{أَيُّهُمْ} . {مَرْيَمَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع جر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ليعلموا أيهم

إلخ، ومعلوم: أن هذا المحذوف يتحصّل منه جار ومجرور بالتأويل، وهما متعلقان بالفعل:{يُلْقُونَ} وقدّر السّمين المحذوف:

ينظرون أيهم

إلخ، وبه قال مكيّ، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، وقدّر الجلال: يقترعون ليظهر لهم أيهم

إلخ، فاعتبره فاعلا لفعل محذوف، ولا وجه له؛ لأنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، إلا إذا اعتبر:(أيكم) اسما موصولا، وجملة:{وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ..} . إلخ مثل سابقتها إعرابا، ومحلاّ بسبب العطف.

{إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)}

الشرح: {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ:} انظر الآية رقم [42]. {إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} سمي هذا الولد: كلمة؛ لأنه وجد بكلمة: «كن» فهو من باب إطلاق السبب على المسبّب، والمراد: أنّه وجد من غير واسطة أب؛ لأنّ غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب، وقوله تعالى:{عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} إيحاء إليها بأنها تلده من غير أب، فلذا ينسب إليها. وعادة الرّجال نسبتهم إلى آبائهم. {وَجِيهاً فِي الدُّنْيا:} ذا وجاهة عالية، ومكانة في الدنيا والآخرة، وجاهته في الدنيا بالنبوة، وكثرة الأتباع بالحقّ، لا الذين حرفوا، وغيروا، وزيّفوا شريعته، وتعاليمه، وفي الآخرة بالشّفاعة لهم، والتنصّل ممّن بدلوا دينه، وهديه، واتخذوه إلها. انظر آخر سورة المائدة، تجده مفصّلا. {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: عند الله يوم القيامة.

هذا؛ و {الْمَسِيحُ} لقب عيسى، عليه السلام، وهو من الألقاب المشرفة، كالصدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر-رضي الله عنه. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: سمي عيسى مسيحا؛ لأنه ما مسح ذا عاهة؛ إلا برأ منها. وقيل: لأنه مسح بالبركة، كما حكى القرآن قوله

ص: 91

في سورة (مريم): {وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ} . وقيل: لأنه مسح من الأقذار، وطهّر من الذنوب. وقيل: سمّي مسيحا؛ لأنّه كان مسيح القدمين، لا أخمص له. ولا أرتضيه؛ لأنه عيب في الرّجال، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان خمصان الأخمصين. وأصله بالعبرانية المشيح بالشّين، فيعرّب، كما عرّب موسى، وأصله موشى، كما ذكرته لك مرارا. هذا وسمّي الدّجال مسيحا؛ لأنه ممسوح العينين، وقد يكون المسيح بمعنى الكذّاب، وهو بالدّجال ألصق، وعليه تكون الكلمة من الأضداد، وبعضهم يقول في الدّجال: المسيح بالخاء، قال الشاعر:[الرجز]

إنّ المسيح يقتل المسيحا

وأطلق على الدّجال المسيح بالحاء؛ لأنه يسيح في الأرض؛ أي: يطوفها، ويدخل جميع بلدانها إلا مكّة، والمدينة، وبيت المقدس، فالدّجال يمسح الأرض محنة، وابن مريم يمسحها منحة. وفي حديث أبي بكر بن أبي شيبة عن سمرة بن جندب-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:

وأنه سيظهر على الأرض كلها إلا الحرم، وبيت المقدس، وأنّه يحصر المؤمنين في بيت المقدس

وذكر الحديث. وفي صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فبينما هو كذلك؛ إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعا كفّيه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه؛ قطر، وإذا رفعه؛ تحدّر منه جمان، كاللؤلؤ، فلا يحلّ لكافر يجد ريح نفسه إلا مات. ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه؛ حتى يدركه بباب لدّ، فيقتله

» إلخ الحديث بطوله.

قوله: مهرودتين، أي: في شقّتين، أو حلّتين. وقيل: الثوب المهرود الّذي يصبغ بالورس، ثمّ بالزعفران. والجمان-بضم الجيم-: حبات من الفضة، تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار، ولدّ بضم اللام، وتشديد الدال: بلدة في فلسطين.

تنبيه: يحكى: أنّ طبيبا نصرانيّا حاذقا جاء مجلس هارون الرشيد، فناظر عليّ بن الحسين الواقدي، رحمه الله تعالى، فقال النّصرانيّ: إنّ في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله تعالى، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (النّساء) رقم [170]:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فقرأ الواقدي رحمه الله له قوله تعالى في سورة (الأحقاف) رقم [13]: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} وقال له: إذا يلزم أن تكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه.

فانقطع النصرانيّ، وأسلم، وفرح الرّشيد بذلك فرحا شديدا، وأعطى الواقديّ هدية فاخرة.

الإعراب: {إِذْ:} بدل من مثلها في الآية رقم [42] وقال القرطبيّ: متعلقة ب {يَخْتَصِمُونَ} ويجوز أن تكون متعلّقة بقوله: {وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ} وقال مكي مثله. والمعنى لا يؤيد قوله قطعا، وعلى الأول فالكلام كلّه معترض بين البدل، والمبدل منه. {قالَتِ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {الْمَلائِكَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. ({يا}): أداة

ص: 92

نداء. ({مَرْيَمُ}): منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب ب ({يا}). {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُبَشِّرُكِ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والآية كلّها في محل نصب مقول القول.

{بِكَلِمَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْهُ:} جار، ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:(كلمة).

{اِسْمُهُ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {الْمَسِيحُ:} خبره. {عِيسَى:} بدل من المسيح، أو عطف بيان عليه، والجملة الاسمية:{اِسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى} في محل جر صفة ثانية ل (كلمة) أو في محل نصب حال من (كلمة) بعد وصفها بما تقدم، والرابط: الضمير. وذكّر؛ لأنّ المراد ب (كلمة) الولد، وذكّر لهذا المعنى. {اِبْنُ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو، و {اِبْنُ} مضاف، و {مَرْيَمُ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية والتأنيث المعنوي، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من:{عِيسَى} أو من (كلمة).

وقال ابن المنير-رحمه الله تعالى-بعد كلام كثير: وأما {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} فخبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو عيسى، وعلى قوله يكون (ابن) صفة عيسى، وتكون: الجملة: هو عيسى

إلخ في محل نصب حال من المسيح، والرابط المبتدأ المحذوف. {وَجِيهاً:} حال من: {عِيسَى} .

{فِي الدُّنْيا:} متعلقان ب {وَجِيهاً} . {وَالْآخِرَةِ:} معطوف على: {الدُّنْيا} . {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ:}

متعلقان بمحذوف حال أيضا معطوفة على: {وَجِيهاً} أي: وكائنا من المقرّبين. هذا؛ واعتبر الجمل {الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} أخبارا للمبتدإ الأول. والمعتمد ما ذكرته أولا.

{وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصّالِحِينَ (46)}

الشرح: {وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ:} المهد هو في الأصل: ما يمهّد للصبي، ويوطّأ؛ لينام فيه في رضاعه. قال تعالى في الآية رقم [12]:{وَبِئْسَ الْمِهادُ} . والكلام على حذف مضاف، أي: في زمان المهد، ومدته، والذي تكلّم به في المهد هو ما حكاه القرآن عنه في سورة (مريم):{قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ..} . إلخ، وبعد ما تكلم بهذا الكلام سكت، فلم يتكلّم حتى بلغ أوان النّطق عادة. انتهى جمل. {وَكَهْلاً:} زمن الكهولة هو ما بين الثلاثين والأربعين سنة، وفائدة البشارة بكلامه كهلا؛ والناس في ذلك سواء: البشارة بحياته إلى سن الكهولة، وعدم التفاوت بين كلامه طفلا، وكلامه كهلا. انتهى جمل. وقال المهدوي: وفائدة الآية: أنه أعلمهم، أن عيسى عليه السلام يكلمهم في المهد، ويعيش إلى أن يكلمهم كهلا؛ إذ كانت العادة: أنّ من تكلّم في المهد لم يعش. انتهى قرطبي. وهذا يردّه ما أذكره قريبا.

وقال: {وَيُكَلِّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ} آية، ويكلمهم كهلا بالوحي، والرّسالة، وقال أبو العباس -رحمه الله تعالى-: كلمهم في المهد حين برّأ أمه، فقال:{إِنِّي عَبْدُ اللهِ} . وأما كلامه؛ وهو

ص: 93

كهل. فإذا أنزله الله من السماء؛ أنزله على صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة-وهو الكهل-فيقول لهم: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} كما قال في المهد. فهاتان آيتان، وحجّتان. انتهى. قرطبي.

{وَمِنَ الصّالِحِينَ} أي: من العباد الصّالحين، مثل إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وموسى، وهارون، وغيرهم من الأنبياء، وفي وصف عيسى-عليه السلام-بهذه الصفات المتغايرة إشارة إلى أنّه بمعزل عن الألوهيّة. ففيه رد على النّصارى، وقوله:({مِنَ الصّالِحِينَ}) أي: الكاملين في الصلاح، فإنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا؛ لأنه لا يكون لذلك إلا إذا كان في جميع الأفعال، والمتروك مواظبا على المنهج الأصلح، وذلك من تناول جميع المقامات في الدين، والدنيا، في أفعال القلوب، والجوارح، ولهذا قال سليمان-عليه الصلاة والسلام-بعد النبوة:

B» وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ». وقال يوسف الصديق بعد النبوة أيضا: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} .

بعد هذا أقول: مشايخ هذا الزمن يحبّون أن تقبّل أيديهم، وأرجلهم، ويقولون: يستحب تقبيل يد الرّجل الصالح! فهلا يأتون بالرجل الصالح بعد ما قدمته في وصف الصالحين؟! وخذ ما يلي:

قال أبو هريرة-رضي الله عنه: دخلت السّوق مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان:

«زن، وأرجح» . فوثب الوزان إلى يد الرسول صلى الله عليه وسلم ليقبلها، فجذب يده، وقال:«هذا تفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك، وإنّما أنا رجل منكم» . ثمّ أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال:

«صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله» . فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يرض أن تقبل يده، وجذب يده من يد الوزّان. وقال ما قال، وهم يمدّون أيديهم على طولها؛ ليتبارك بها من يقبلها من الناس.

بعد هذا؛ فقد قال صاحب السيرة الحلبية-رحمه الله تعالى-: وقد تكلّم جماعة في المهد، نظمهم الجلال السّيوطي-رحمه الله تعالى-في قوله:[الطويل]

تكلّم في المهد النّبيّ محمّد

ويحيى وعيسى والخليل ومريم

ومبري جريج ثمّ شاهد يوسف

وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم

وطفل عليه مرّ بالأمة الّتي

يقال لها تزني ولا تتكلّم

وما شطة في عهد فرعون طفلها

وفي زمن الهادي المبارك يختم

وقال بعضهم: لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم حصر من تكلّم في المهد في ثلاثة، ولم يذكر نفسه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لم يتكلّم في المهد إلاّ ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وابن المرأة الّتي مرّ عليها بامرأة، يقال لها: زنت» .

وقد يقال: هذا الحصر إضافي، أي: ثلاثة من بني إسرائيل، أو إنّ ذلك كان قبل أن يعلم بما زاد، ثمّ بعد هذا أعلمه الله تعالى بما شاء من ذلك، فأخبره به، والله أعلم.

ص: 94

الإعراب: {وَيُكَلِّمُ:} الواو: حرف عطف. ({يُكَلِّمُ}): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى المسيح عيسى. {النّاسَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على:{وَجِيهاً} فهي في محل نصب حال مثله. {فِي الْمَهْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعله المستتر. {وَكَهْلاً:} معطوف على: {وَجِيهاً} أيضا. {وَمِنَ الصّالِحِينَ:} متعلقان بمحذوف معطوف على وجيها أيضا، التقدير: وكائنا من الصالحين.

{قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)}

الشرح: {قالَتْ:} قالت تخاطب جبريل الأمين. {رَبِّ:} يا رب! أي: يا سيدي، ومثله في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:«اذكرني عند ربّك، فأنساه الشّيطان ذكر ربّه» لأنه لمّا تمثل لها؛ قال لها: {قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا} فلمّا سمعت ذلك منه ذلك؛ استفهمت عن طريق الولد، فقالت:{أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي: بنكاح: {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} فروي: أن جبريل-عليه السلام-حين قال لها: {كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ} وفي سورتها قال لها: {قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} نفخ في جيب درعها، وكمّها. قاله ابن جريج. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أخذ جبريل ردن قميصها بإصبعه.

فنفخ فيه، فحملت من ساعتها بعيسى. وقيل: غير ذلك. انظر ما ذكرته في سورتها. {وَإِذا قَضى أَمْراً} أي: إذا أراد إحكامه، وإتقانه، كما سبق في علمه. {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي:

احدث، فيحدث، وليس المراد حقيقة أمر، بل هو تمثيل لما تعلقت به إرادته تعالى. بلا مهلة بطاعة المأمور، والمطيع بلا توقف. انتهى بيضاوي. قال الشاعر:[الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنّما

يقول له كن قولة فيكون

هذا؛ و {بَشَرٌ} يطلق على الإنسان ذكرا، أو أنثى، مفردا، أو جمعا، مثل كلمة:«الفلك» تطلق على المفرد، والجمع. وسمي بنو آدم بشرا؛ لبدوّ بشرتهم، وهي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات فإنّها مكسوة بالشّعر، أو بالصوف، أو بالرّيش. هذا؛ و {بَشَرٌ} يطلق على المفرد، كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} الآية رقم [17] من سورة (مريم) ولذا ثنّي في قوله تعالى: {فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا} الآية رقم [47] من سورة (المؤمنون). ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى: {فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} رقم [36] من سورة (مريم).

تنبيه: قال الشيخ أبو منصور-رحمه الله تعالى-: القضاء يحتمل الحكم، كقوله تعالى:

{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} أي: ليحكم ما قد علم: أنه يكون كائنا، أو ليتمّ أمرا كان قد أراده، وما أراد كونه؛ فهو مفعول لا محالة. انتهى. هذا؛ والماضي: قضى.

ص: 95

والمصدر: قضاء (بالمدّ) لأن لام الفعل ياء؛ إذ أصل ماضيه: ({قَضى}) بفتح الياء، فقلبت ألفا؛ لتحركها، وانفتاح ما قبلها. ومصدره:(قضيا) فأبدلت الثانية همزة، فصار قضاء ممدودا.

وجمع القضاء أقضية كعطاء، وأعطية، وهو في الأصل: إحكام الشيء، وإمضاؤه، والفراغ منه، كما في قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [179] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الخفيف]

وجهك البدر لا بل الشّمس لو لم

يقض للشّمس كسفة أو أفول

وقال الشّماخ في عمر-رضي الله عنه-يرثيه: [الطويل]

قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها

بوائق في أكمامها لم تفتّق

ويكون بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً،} وبمعنى العلم. تقول: قضيت بكذا، أي: أعلمتك به. وبمعنى الإتمام. قال تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} . وبمعنى الفعل، قال تعالى، حكاية عن قول السحرة لفرعون:{فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ} .

وبمعنى الكتابة، قال تعالى:{وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} أي: مكتوبا في اللوح المحفوظ.

وبمعنى الفصل، قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ،} وبمعنى الخلق، كقوله تعالى:

{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . وبمعنى بلوغ الأرب، والمراد، قال تعالى:{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} وبمعنى وفاء الدين، تقول: قضى فلان ما عليه: إذا أوفى ذمته، وأبرأها ممّا عليه من ديون. انتهى قسطلاني. شرح البخاري بتصرف. وأضيف: أنه يكون بمعنى:

أوحينا، كقوله تعالى:{وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ..} . إلخ.

قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-فإذا كان القضاء بهذه المعاني؛ فلا يجوز إطلاق القول بأنّ المعاصي بقضاء الله تعالى؛ لأنّه إن أريد به الأمر، فلا خلاف: أنه لا يجوز ذلك؛ لأنّ الله لا يأمر بها، فإنه لا يأمر الفحشاء. وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال:

إنّه طلق امرأته ثلاثا، فقال: قد عصيت ربك، وبانت منك، فقال الرجل: قضى الله عليّ، فقال الحسن، وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك! أي: ما أمر به. وقرأ قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} .

هذا ({وَالْأَمْرُ}) واحد الأمور، وليس بمصدر: أمر، يأمر. قال العلماء: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجها: الأول: الدّين، قال تعالى:{حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ} أي: دين الإسلام. الثاني: القول، ومنه قوله تعالى:{فَإِذا جاءَ أَمْرُنا} يعني: قولنا. وقوله تعالى: {فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ} يعني: قولهم. الثالث: العذاب، ومنه قوله تعالى:{لَمّا قُضِيَ الْأَمْرُ} يعني لما وجب العذاب بأهل النار. الرابع: عيسى، عليه السلام. قال تعالى في هذه الآية:{إِذا قَضى أَمْراً} يعني: عيسى، وكان في علمه تعالى أن يكون من غير أب. الخامس: القتل ببدر، قال

ص: 96

تعالى: {فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ} يعني: القتل ببدر، وقوله تعالى:{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} يعني: قتل أهل مكّة.

السادس: فتح مكة، قال تعالى:{فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} يعني: فتح مكة. السّابع:

قتل قريظة، وجلاء النّضير، قال تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} .

الثامن: القيامة، قال تعالى:{أَتى أَمْرُ اللهِ} التاسع: القضاء، قال تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يعني: القضاء. العاشر: الوحي، قال تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} يقول: ينزل الوحي من السماء إلى الأرض، وقوله تعالى:{يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} يعني: الوحي. الحادي عشر:

أمر الخلق، قال تعالى:{أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} يعني: أمور الخلائق. الثاني عشر: النصر، قال تعالى:{يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} يعنون: النّصر. الثالث عشر: الذنب، قال تعالى:{فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها} أي: جزاء ذنبها. الرابع عشر: الشأن، والفعل، قال تعالى:{وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: فعله وشأنه، وقال جل شأنه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن فعله، وقوله. انتهى قرطبي.

الإعراب: {قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ:} انظر الإعراب في الآية رقم [40] ففيها الكفاية.

{وَلَمْ:} الواو: واو الحال، ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم، {يَمْسَسْنِي:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، {بَشَرٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الواو، والضمير. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى جبريل المبلّغ عن الله-قال:{كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ} انظر الآية رقم [40] وما فيها من اعتبارات، والمرجح فيها، والمرجح هنا الوجه الثاني من الاعتبارات، والكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزّمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، يعني: على السكون في محل نصب. {قَضى:} فعل ماض مبني على الفتح مقدّر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} تقديره: هو. {أَمْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب: {إِذا} .

(إنما): كافة ومكفوفة. {يَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {كُنْ:} فعل أمر تام، وفاعله مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (إنما يقول

): جواب: {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف هنا، لا محلّ له.

تنبيه: {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، وفيه معنى الشرط، واختلف في ناصبها، فقيل: الجواب، واعترض بأن الجواب قد يقترن بالفاء، وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها.

ص: 97

وقيل: بالشرط. واعترض أيضا بأنّها مضافة للشرط، والمضاف إليه، لا يعمل في المضاف، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنّ القائلين: إنّ الناصب هو الشرط، لا يقولون بإضافة:{إِذا} إليه، فلذا كان الثاني أرجح، وإن كان الأول أشهر، فقول بعض المعربين، خافض لشرطه، منصوب بجوابه جري على غير الراجح، ولذا كانت عبارة سيبويه-رحمه الله تعالى- (خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك) محتملة لما في ذلك من احتمالات.

{فَيَكُونُ:} الفاء: حرف عطف. (يكون): فعل مضارع تام. وفاعله مستتر تقديره: هو يعود إلى: {أَمْراً} والجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يكون، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. وهذا القول يعزى لسيبويه. وقيل: إنّ {يَكُونُ} معطوف على:

{يَقُولُ لَهُ} وهذا يعزى للزّجاج، والطّبري. وقيل: معطوف على: {كُنْ} من حيث المعنى، وهو قول الفارسي. انتهى سليمان الجمل. هذا؛ وقرأ ابن عامر بالفعل:(«يكون») بالنّصب على أنه منصوب ب: «أن» مضمرة بعد الفاء على اعتبارها للسببية، وضعّفه أبو البقاء. وأقول: لا يمكن سبك مصدر من أن المضمرة، والفعل، وعطفه على مصدر متصيّد من الفعل السّبق؛ إذ لا يقال:

ليكن حدوث، فحدوث.

{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}

الشرح: {وَيُعَلِّمُهُ:} الضمير المنصوب يعود إلى: (عيسى) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والفاعل يعود إلى:(الله) ويقرأ الفعل بالياء، والنون. {الْكِتابَ} أي: الخط، والكتابة، فكان-عليه الصلاة، والسّلام-أحسن الناس خطّا. وقيل: المراد جنس الكتب الإلهية، وأفرد الكتابين: الإنجيل، والتوراة بالذّكر لزيادة فضلهما، وشرفهما. وانظر الآية رقم [3]. أما (الحكمة) فهي المعرفة بالدّين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو منحة، ونور من الله تعالى. قاله مالك، رحمه الله تعالى. وقال أبو بكر بن دريد-رحمه الله تعالى-كلّ كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة، وقال أبو العالية-رحمه الله تعالى-: الحكمة: خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة. وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود-رضي الله عنه-مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم:«رأس الحكمة مخافة الله» . وهو حديث لا أصل له في كتب السّنة إلاّ أنّ المعنى صحيح.

خاتمة بل فائدة: قال الصّلاح الصّفدي-رحمه الله تعالى-: رأيت بخط ابن خلّكان: أنّ مسلما ناظر نصرانيّا، فقال النّصرانيّ في خلال كلامه، مختفيا في خطابه بقبيح آثامه: يا مسلم! كيف كان وجه عائشة زوج نبيكم في تخلّفها عن الرّكب عن نبيكم، معتذرة بضياع عقدها؟! فقال

ص: 98

له المسلم: يا نصراني! كان وجهها كوجه بنت عمران لما أتت بعيسى تحمله من غير زوج! فمهما اعتقدت في دينك من براءة مريم؛ اعتقدنا مثله في ديننا من براءة عائشة زوج نبينا! فانقطع النّصرانيّ، ولم يحر جوابا.

الإعراب: {وَيُعَلِّمُهُ:} الواو: حرف عطف. ({يُعَلِّمُهُ}): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

(الله) والهاء مفعول به أول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والأسماء بعده معطوفة عليه، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل، ذكرت تطييبا لقلبها، وإزاحة لما همّها من خوف العتاب، واللوم لمّا علمت أنّها تلد من غير زوج. وقيل: معطوفة على: {وَجِيهاً} أي: فهي في محل نصب حال مثله، وارتضاه مكيّ، وعلى هذين الاعتبارين؛ فالآية السابقة معترضة بين المتعاطفين.

{وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)}

الشرح: {وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ} أي: ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف بن يعقوب، وآخرهم عيسى، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام.

وتخصيص بني إسرائيل بالذّكر لبيان: أنه أرسل إليهم خاصة، ولم تكن رسالته، كما في رسالة نبينا، وعظيمنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها كانت للإنس، والجنّ، والأبيض، والأسود، والعرب، والعجم.

{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: بعلامة على صدقي. والمراد: المعجزات التي أيده الله بها. {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} أي: أصور لكم؛ أي: لأجل هدايتكم، وتصديقكم بي. {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الهيئة: الصورة المهيّأة. من قولهم: هيأت الشيء: إذا قدّرته، وأصلحته. {فَأَنْفُخُ فِيهِ} أي: في الطين المصور. والضمير للكاف؛ أي: في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.

{فَيَكُونُ طَيْراً:} فيصير طيرا كسائر الطيور، وانظر شرح الطير في سورة (البقرة) رقم [260].

{بِإِذْنِ اللهِ} معناه: بتكوين الله، وتخليقه. والمعنى: أني أعمل هذا التصوير أنا، فأما خلق الحياة؛ فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزة على يد عيسى، عليه السلام، مثل نفخ جبريل، عليه السلام، في كمّ مريم، والصانع هو الله تعالى، قال وهب-رحمه الله تعالى-: كان الطائر الذي يصنعه يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم؛ سقط ميتا؛ ليتميّز فعل الخلق من فعل الله تعالى. وقيل: لم يخلق غير الخفاش؛ هذا الذي يطير في الليل. إنما خص الخفاش؛ لأنه من أكمل الطير خلقا؛ لأنه يطير بلا ريش، وله أسنان. ويقال: إنّ الأنثى منه لها ثدي، وتحيض، ولا تبيض، كما تبيض سائر الطيور، وإنما يلد كما يلد الحيوان.

ص: 99

{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} وهو الذي يولد أعمى. {وَالْأَبْرَصَ} البرص: داء معروف، وهو بياض يظهر على جلد الإنسان ينفر منه الناس، فهو داء قبيح. ولم يقل في هذين:{بِإِذْنِ اللهِ} لأنهما ليس فيهما كبير غرابة بالنسبة لغيرهما من المعجزات، فتوهّم الألوهيّة فيهما بعيد، فلا يحتاج للتنبيه على نفيه.

{وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: قد أحيا أربعة أنفس: العاذر، وكان صديقا له، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح. فأما عاذر؛ فإنه كان توفي قبل ذلك بأيام، فدعا الله، فقام بإذن الله، فعاش، وولد له. وأما ابن العجوز، فإنه مرّ به يحمل على سريره، فدعا الله، فقام، ولبس ثيابه، وحمل السّرير على عنقه، ورجع إلى أهله، وولد له. وأما ابنه العاشر؛ فكان أبوها يأخذ العشور من الناس، فكان أتى عليها ليلة، فدعا الله فعاشت، وولد لها، فلمّا رأوا ذلك؛ قالوا: إنّك تحيي من كان موته قريبا، فلعلّهم لم يموتوا، فأصابتهم سكتة، فأحي لنا سام بن نوح.

فقال لهم: دلّوني على قبره، فخرج، وخرج معه القوم؛ حتى انتهى إلى قبره، فدعا الله:

فخرج من قبره، وقد شاب رأسه، فقال له عيسى-عليه السلام: كيف شاب رأسك؛ ولم يكن في زمانكم شيب؟ فقال: يا روح الله! إنك دعوتني، فسمعت صوتا يقول: أجب روح الله!

فظننت: أنّ القيامة قد قامت، فمن هول ذلك شاب رأسي، فسأله عن النّزع، فقال: يا روح الله، إن مرارة النزع لم تذهب من حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، فقال للقوم: صدّقوه، فإنّه نبي! فآمن به بعضهم، وكذّبه بعضهم، وقالوا: هذا سحر.

{وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} هذه معجزة أخرى؛ حيث كان يتكلّم بشيء من الغائب، فقد كان عليه الصلاة والسلام يخبر الرّجل بما أكل البارحة، وبما يأكله اليوم، وبما يدّخر للعشاء. وقال سعيد بن جبير، وغيره: كان يخبر الصبيان في الكتّاب بما يدّخر آباؤهم؛ حتى منعوهم من الجلوس معه. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: في الذي ذكر من المعجزات. {لَآيَةً لَكُمْ} أي: لعلامة، ودلالة على صدق أنّي رسول من الله إليكم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} مصدقين بذلك.

تنبيه: قال السّمين-رحمه الله تعالى-: قال تعالى في سورة (المائدة) رقم [110]: {بِإِذْنِي} أربع مرات عقيب أربع جمل، وفي (آل عمران):{بِإِذْنِ اللهِ} مرّتين؛ لأن هناك أي: في آيات المائدة إخبار، فناسب الإيجاز، وهنا أي: في آيات (آل عمران) مقام تذكير بالنعمة، والامتنان، فناسب الإسهاب. انتهى بتصرف.

خاتمة: قال كثير من العلماء: بعث الله كلّ نبيّ من الأنبياء، وأيّده بمعجزة من جنس ما برع به قومه، فقد كان الغالب على زمان موسى عليه السلام السّحر، وتعظيم السّحرة، فأيده الله بقلب العصا حيّة؛ حيث بهرت الأبصار، وحيّرت كل سحّار، فلما استيقن السّحرة: أنها من صنع

ص: 100

العظيم الجبار؛ انقادوا للإيمان، وصاروا من عباد الله الأبرار، وأما قوم عيسى؛ فقد برعوا في الطبّ، فجاءهم بما ذكر في هذه الآية من المعجزات. بما لا سبيل لأحد إليه؛ إلا أن يكون مؤيدا من ربّ الأرض، والسّماء، وأمّا قوم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد برعوا في الفصاحة، والبلاغة، ونظم الشعر، والسّجع، فأتاهم بكتاب من عند الله أخرسهم، وأسكتهم، وتحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور، بل بسورة من مثله، فعجزوا، وأنّى يستطيعون، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا؟! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَرَسُولاً:} معطوف على وجيها متضمنا معنى النّطق، فكأنّه قال: وناطقا بأنّي

إلخ، أو هو مفعول به ثان لفعل محذوف، التقدير: ويجعله رسولا، وتكون الجملة معطوفة على جملة:({يُعَلِّمُهُ..}.) إلخ. {إِلى بَنِي:} جار ومجرور متعلقان ب ({رَسُولاً}) أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {بَنِي:} مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة. {أَنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء التكلم اسمه. {قَدْ:}

حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {جِئْتُكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(أنّ). {بِآيَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل، التقدير: جئتكم ملتبسا بآية. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: (آية)، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف عند الخليل، التقدير: بكوني

إلخ، والجار والمجرور متعلّقان ب ({رَسُولاً}) أو بمحذوف صفة له. وسيبويه يعتبره في محل نصب بنزع الخافض، وجوز أبو البقاء اعتباره في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو أني، ووجوها أخر غير جديرة بالاعتبار، والمصدر المؤول من:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنه في محل جر بدلا من (آية). والثاني: أنه في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

هي أني. والثالث: أنه بدل من {أَنِّي} الأولى. وهذا هو الأقوى. هذا؛ ويقرأ بكسر الهمزة، فتكون الجملة اسمية، وهي مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها. {كَهَيْئَةِ:} الكاف: اسم بمعنى:

مثل، مبني على الفتح في محل نصب مفعول به للفعل {أَخْلُقُ} والكاف مضاف، و (هيئة) مضاف إليه. هذا؛ ووقوع الكاف اسما بمعنى: مثل كثير في القرآن الكريم ذكرته في محاله، وهو وارد في الشعر العربي بكثرة، خذ قول العجّاج-وهو الشاهد رقم [326] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [461] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الرجز]

بيض ثلاث كنعاج جمّ

يضحكن عن كالبرد المنهمّ

{فَأَنْفُخُ:} الفاء: حرف عطف. (أنفخ): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا.

{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَخْلُقُ..} .

ص: 101

إلخ، فهي في محل رفع مثلها، والضمير المجرور عائد على الكاف. وقال أبو البقاء: يعود على الهيئة؛ لأنها بمعنى المهيأ، أو يعود على {الطَّيْرِ} والمعتمد الأول. وجملة:(يكون {طَيْراً}) معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {بِإِذْنِ:} متعلقان بالفعل يكون، أو بمحذوف صفة طيرا، وجملة:{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {وَأُحْيِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: أنا. {الْمَوْتى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{بِإِذْنِ:} متعلقان بما قبلهما، و (إذن): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا.

{وَأُنَبِّئُكُمْ:} الواو: حرف عطف. ({أُنَبِّئُكُمْ}): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والكاف مفعول به أول. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تَأْكُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: أنبئكم بالذي، أو: بشيء تأكلونه {وَما تَدَّخِرُونَ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في المحل، والتقدير. {فِي بُيُوتِكُمْ:} متعلقان بالفعل تدّخرون، وحذف مثلها من {تَأْكُلُونَ} اكتفاء، بها، فهو من حذف الأول لدلالة الثاني عليه، وإن علّقتها بالفعل:{تَأْكُلُونَ} فيكون الحذف من الثاني لدلالة الأول عليه، والكاف في محل جر بالإضافة.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدّم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {لَآيَةً:} اللام: لام الابتداء، (آية): اسم {إِنَّ} المؤخر. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (آية)، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو مستأنفة. {إِنَّ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه، والجملة الفعلية لا محلّ لها لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه.

{وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (50)}

الشرح: {وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ:} لما تقدّم قبلي من شريعة موسى، عليه السلام، وذلك؛ لأنّ الأنبياء-عليهم جميعا السّلام-يصدّق بعضهم بعضا، فكلّ واحد يصدّق الذي قبله، ويصدّق

ص: 102

بما أنزل الله من الكتب، والشرائع، والأحكام. وانظر ما عطف عليه في سورة (الصفّ) فإنّه جيد، {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ..}. إلخ: أحلّ لهم ما حرّم عليهم في شريعة موسى كالشّحوم، والثّروب، والسّمك، ولحوم الإبل، والعمل في يوم السبت. وهو يدلّ على أن شرع عيسى ناسخا لشرع موسى، عليهما السلام؛ أي لبعض الأحكام، فإنّ قوله تعالى:{وَمُصَدِّقاً..} . إلخ يدلّ على أنه جاء مؤيدا لما في التوراة، يستثنى من ذلك ما أحلّه الله لهم في شريعة عيسى، وأيضا ما رفعه عنهم من الأغلال، والآصار. هذا؛ وبين (أحلّ) و (حرّم) طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ:} وإنّما وحّد، وهي آيات كما رأيت في الآية السابقة؛ لأنها جنس واحد في الدّلالة على رسالته. {فَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه، واعملوا ما يأمركم به. {وَأَطِيعُونِ:}

فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، فإنّ طاعتي من طاعة الله. هذا؛ والبعض الذي أحلّه عيسى لهم، وكان محرّما عليهم في شريعة موسى-عليه السلام-مثل تحليل لحوم الإبل، وأشياء من الشّحوم، كما ذكر الله في سورة الأنعام رقم [146] انظر شرحها هناك. وقد يوضع (البعض) بمعنى (الكلّ) إذا انضمّت إليه قرينة تدل عليه، كما في قول طرفة بن العبد، خاطب به عمرو بن هند الملك لما أراد قتله:[الطويل]

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض

الإعراب: {وَمُصَدِّقاً:} حال معطوف على متعلق ب (آية) في الآية السابقة. وقال البيضاوي، وغيره: عطف على ({رَسُولاً}). ولا وجه له لاختلاف العامل، وفاعله. ثمّ قال: أو هو منصوب بإضمار فعل دل عليه {قَدْ جِئْتُكُمْ} أي: وجئتكم مصدقا. وهو جيد، ومؤيّد للأوّل؛ الذي ذكرته. {لِما:} انظر الآية رقم [3] ففيها الكفاية. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة:

(ما) أو بمحذوف صلتها، التقدير: مصدقا للذي، أو: لشيء يوجد {بَيْنَ يَدَيَّ:} و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيَّ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، وياء المتكلم ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنَ التَّوْراةِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في متعلق الظرف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما).

{وَلِأُحِلَّ} الواو: حرف عطف. ({لِأُحِلَّ}): مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره: أنا، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وجئتكم؛ لأحل، وقال البيضاوي- رحمه الله تعالى-: أو هو مردود على قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} أو هو معطوف على معنى:

({مُصَدِّقاً}) كقولهم: قد جئتك معتذرا، ولأطيّب قلبك. {بَعْضَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {حُرِّمَ} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد، والجملة صلته. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان به.

ص: 103

{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ:} إعرابها مثل إعراب سابقتها، وهي معطوفة على ما قبلها المقدّرة، وهي: وجئتكم لأحل لكم

إلخ، وكررت الجملة للتوكيد. {فَاتَّقُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (اتقوا {اللهَ}): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فاتقوا الله. {وَأَطِيعُونِ:} الواو:

حرف عطف. ({أَطِيعُونِ}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بالكسرة مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)}

الشرح: {اللهَ:} انظر الآية رقم [2]. {رَبِّي:} مالكي، وسيدي، ومولاي.

{وَرَبُّكُمْ:} مالككم، وسيدكم، ومتولّي أموركم. هذا؛ والربّ يطلق، ويراد به المالك، والسيد، ومنه قوله تعالى، حكاية عن قول يوسف الصديق-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{اِرْجِعْ إِلى رَبِّكَ} وقوله تعالى: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} وقوله تعالى: {أَمّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} . وقال الأعشى: [الكامل]

ربّي كريم لا يكدّر نعمة

وإذا تنوشد في المهارق أنشدا

كما يقال: رب الدار، ورب الأسرة؛ أي: مالكها، ومتولّي شئونها، كما يراد المربّي، والمصلح. يقال: ربّ فلان الضيعة، يربّها: إذا أصلحها. والله ربّ العالمين: مالكهم، ومربيهم، وموصلهم إلى كمالهم شيئا فشيئا، يجعل النطفة علقة، ثم يجعل العلقة مضغة، ثم يجعل المضغة عظاما، ثم يكسو العظام لحما، ثم يصوره، ويجعل فيه الروح، ثم يخرجه خلقا، وهو صغير ضعيف، فلا يزال ينمّيه، وينشّيه؛ حتى يجعله رجلا، أو امرأة كاملين. هذا؛ ولا يطلق لفظ الرب على غير الله تعالى إلا مقيدا بالإضافة، مثل قولك: ربّ الدار، ورب الناقة، ونحو ذلك، وقد قالوه في الجاهلية للملك. قال الحارث بن حلّزة في معلقته رقم [38]:[الخفيف]

وهو الرّبّ والشّهيد على يو

م الحيارين والبلاء بلاء

والربّ: المعبود بحق، وهو المراد به عند الإطلاق، ومنه قول راشد بن عبد ربّه السلمي الصّحابي-رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [157] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

أربّ يبول الثّعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثّعالب

ولا يجمع إذا كان بهذا المعنى، ويجمع إذا كان معبودا بالباطل، قال تعالى حكاية عن قول يوسف-عليه السلام-لصاحبي السّجن:{أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} . كما يجمع إذا كان بأحد المعاني السابقة، قال الشاعر:[الطويل]

ص: 104

هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللآكلين التّمر خمس مخمّسا

وهو اسم فاعل بجميع معانيه السابقة، أصله: رابب، ثم خفّف بحذف الألف، وإدخال أحد المثلين في الآخر.

{فَاعْبُدُوهُ:} العبادة: غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السّجود لغير الله تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. أما {صِراطٌ} فهو في لغة العرب بمعنى طريق واضح لا اعوجاج فيه، قال جرير في مدح عبد الملك بن مروان:[الوافر]

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم

وقال عامر بن الطفيل: [الوافر]

شحنّا أرضهم بالخيل حتّى

تركناهم أذلّ من الصّراط

ثمّ إن العرب تستعير الصراط في كل فعل، وعمل وصف باستقامة، أو اعوجاج، والمراد به هنا: امتثال أمر الله في فيما أمر، وفيما نهى، والأخذ بقول الرسول صلى الله عليه وسلم. و {مُسْتَقِيمٌ:} لا اعوجاج فيه، وأصله:(مستقوم) لأنه من: استقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله: اجتمع معناه حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب سكونها، فصار:(مستقوم) ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة.

بعد ما تقدّم: في الآية حجة بالغة على نصارى وفد نجران، ومن قال بقولهم من سائر النصارى إلى يوم القيامة بإخبار الله-عز وجل-عن عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-: أنه كان بريئا مما نسبه إليه النّصارى، وأنه كان عبد الله، وخصّه بنبوته، ورسالته.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {رَبِّي:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها. {وَرَبُّكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{فَاعْبُدُوهُ:} الفاء: هي الفصيحة. (اعبدوه): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم. التقدير:

وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا؛ فاعبدوه. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {صِراطٌ:} خبره. {مُسْتَقِيمٌ:} صفة {صِراطٌ} والجملة الاسمية هذه مستأنفة، أو تعليلية، لا محلّ لها على الاعتبارين.

ص: 105

{فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنّا بِاللهِ وَاِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (52)}

الشرح: {فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ} أي: عرف من اليهود {الْكُفْرَ} والخبث، واللؤم.

والإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس، وهو الذوق، والشم، واللمس، والسمع، والبصر. وفيه استعارة؛ إذ الكفر ليس بمحسوس، وإنّما يعلم، ويفطن به، فإطلاق الحسن عليه من نوع الاستعارة. {قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ} أي: مع الله، والظاهر: أنه أراد: من أنصاري في الدّعوة إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج:«من يؤويني؛ حتّى أبلّغ رسالة ربّي؟ فإنّ قريشا منعوني أن أبلّغ كلام ربّي» . وهذه سنّة الله في أنبيائه، وأوليائه، وقد حكى الله عن لوط قوله في سورة (هود):{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} .

{قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ..} . إلخ: جمع: حواري، وهم أصفياء عيسى، عليه السلام، وكانوا اثني عشر رجلا، واختلف في تسميتهم بذلك، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: سمّوا بذلك لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين. وقيل: كانوا قصارين. وقيل: كانوا ملوكا يلبسون الثياب البيض. والحواري: الناصر، فعن جابر-رضي الله عنه-قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير-رضي الله عنه، ثم ندبهم: فانتدب الزبير، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنّ لكلّ نبيّ حواريّا وحواريي الزّبير» . متفق عليه، والحواريات: النساء الحضريات لخلوص ألوانهن، وبياضهن، ونظافتهن. قال الشاعر:[الطويل]

فقل للحواريّات يبكين غيرنا

ولا تبكنا إلاّ الكلاب النّوابح

فهو يعني: أنه ليس من عرف بالحضر، والتنعم بالحياة، بل هو من أهل البدو، والمحاربة، ولا يبكى عليه إلا الكلاب؛ اللاتي تساق معه في البدو، والصيد. {وَاشْهَدْ:} الخطاب لعيسى عليه السلام؛ أي: اشهد لنا عند ربك يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم، أو عليهم.

{مُسْلِمُونَ:} منقادون، طائعون. والإسلام: الاستسلام، والانقياد لأوامر الله. {أَنْصارُ اللهِ:}

أنصار دينه. هذا؛ والآية الكريمة تبيّن: أن الإسلام، والإيمان شيء واحد، ولكن قد يختلفان، كما في آخر سورة (الحجرات).

هذا؛ وقال عبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-: {الْحَوارِيُّونَ} هم أصحاب المسيح عيسى بن مريم-صلوات الله، وسلامه عليه-وخاصته؛ الذين اختارهم؛ ليكونوا تلاميذه، وبادروا إلى الإيمان به، وتتلمذوا له، وتعلّموا منه، وكانوا اثني عشر رجلا. وهذا اللفظ لم أعرفه عبرانيّا، وأما عربيّا فقد قال صاحب القاموس، وقد جاء إطلاق حواري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم

ص: 106

على الزّبير بن العوام، رضي الله عنه، ويظهر: أن لفظ الأنصار في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة الحواريين في جانب المسيح عليه السلام. والأناجيل تعبّر عنهم بلفظ التلاميذ.

وإذا جاز لي هذا اللفظ، فإنّي أقول: إنّ معناه: الإخوان في طلب العلم، من لفظ: حور العبري، وهو التلميذ، وجمعه: حوريم، نطق به في العربية حواري، وحواريين. هذا؛ وذكرت أسماء الحواريين في إنجيل متّى في الإصحاح العاشر، وقد ذكر برنابا أسماء التلاميذ في الفصل الرابع عشر من إنجيله، وهذه أسماء التلاميذ الاثني عشر من إنجيل متّى:

1 -

سمعان الذي يقال له: بطرس

2 -

أندراوس أخو سمعان: بطرس

3 -

يعقوب بن زيدي

4 -

فيلبس

5 -

برثولماوس

6 -

يوحنّا أخو يعقوب

7 -

توما

8 -

متّى العشّار

9 -

يعقوب بن حلفي

10 -

لباوس الملقّب تداوس

11 -

سمعان القانوني

12 -

يهوذا الإسخريوطي

وهذه أسماء التلاميذ الاثني عشر عند برنابا

1 -

أندراوس

2 -

بطرس

3 -

برنابا

4 -

متّى العشّار

5 -

يوحنا بن زيدي

6 -

يعقوب بن زيدي

7 -

تداوس

ص: 107

8 -

يهوذا

9 -

برثولماوس

10 -

فيلبس

11 -

يعقوب بن حلفي

12 -

يهوذا الإسخريوطي

ومن ذلك نرى: أنّ برنابا نقص من الحواريين عند متّى اثنين، وهما: سمعان الغيور المعروف بالقانوني، وتوما، ووضع مكانهما اسمه، واسم تداوس، فهل الصواب معه؟ ولكن الكنيسة لما رأت إنجيله يخالف ما تهوى حذفت اسمه، واسم سمعان من بين التلاميذ؛ لأنهما كانا متطابقين في الرأي، قد يكون ذلك، وأنّهم اكتفوا في عقابه بهذا مع بقاء اسمه بين الرسل؛ الذين حملوا قسطا عظيما في نشر الدعوة، والتبشير باقتراب ملكوت السموات، وهؤلاء الحواريون الذين استجابوا لعيسى، عليه السلام، وهم الذين بثهم في القرى اليهودية؛ ليدعوا الكفار بدعوة المسيح، ومن غلا في شأنه، أو كذّبه، وردّ دعوته. وقد قص شأن الحواريين في هذه السورة، وفي آخر سورة (المائدة) وفي سورة (الصف). انتهى بتصرف.

وهذا يدل على أنّ رسالة عيسى-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أعم من رسالة جميع المرسلين قبله، وذكرت أكثر من هذا في سورة (الصف).

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [36]{أَحَسَّ:} فعل ماض. {عِيسى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:(لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا، ولا محلّ لها على اعتبار (لمّا) حرفا.

{مِنْهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكفر.

{الْكُفْرَ:} مفعول به. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{عِيسى} . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَنْصارِي:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. من إضافة المصدر، أو هو من إضافة جمع اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلَى اللهِ:} متعلقان ب {أَنْصارِي} أو بمحذوف حال منه، التقدير: ملتجأ، أو ذاهبا، ونحوه، والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالَ..} . إلخ جواب (لمّا) لا محل لها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، أو هو معطوف على محذوف التقدير: فكذبوه فلمّا

إلخ.

{قالَ:} فعل ماض. {الْحَوارِيُّونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {نَحْنُ:} ضمير منفصل مبني على

ص: 108

الضم في محل رفع مبتدأ. {أَنْصارُ:} خبره، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وإضافته لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِاللهِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{أَنْصارُ اللهِ} وهي على تقدير «قد» قبلها، أو هي في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو هي في محل نصب مقول القول، أو هي مستأنفة، لا محل لها. فهذه احتمالات أربعة. وعلى الاستئناف فالوقف على لفظ الجلالة جيد. والجملة الاسمية:{نَحْنُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ الْحَوارِيُّونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَاشْهَدْ:} الواو: حرف عطف. ({اِشْهَدْ}): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره: أنت.

{بِأَنّا:} الباء: حرف جر. (أنّا): حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {مُسْلِمُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، و (أنّا) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{آمَنّا} وجملة: ({اِشْهَدْ..}.) إلخ معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فاسمع، واشهد

إلخ والفاء هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدّر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا منا؛ فاشهد

إلخ، والشرط المقدّر، ومدخوله في محل نصب مقول القول.

{رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَاِتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ (53)}

الشرح: {رَبَّنا آمَنّا:} توجه الحواريّون بالخطاب إلى الله تعالى. {بِما أَنْزَلْتَ} أي: على عيسى، عليه السلام، والمراد به: الإنجيل؛ الذي أنزله الله، لا إنجيل متّى، ولا مرقس

إلخ. {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} أي: عيسى. {فَاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ:} لك بالوحدانية، ولرسولك بالصّدق، والبلاغ، فأثبت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم، ومعهم فيما تكرمهم به.

والمراد: مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم. وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين الذين سأل الحواريون أن يكونوا معهم مزيد فضل عليهم، وهم الأنبياء، كما قدمت؛ لأن كل نبي شاهد على أمته، كما قال تعالى في سورة (النساء) رقم [41]:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} . وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد: محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته؛ لأنهم المخصوصون بتلك الفضيلة، فإنهم يشهدون للرّسل بالبلاغ، كما قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [143]:{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ..} . إلخ.

الإعراب: {رَبَّنا:} منادى، حذفت منه أداة النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {آمَنّا:} فعل، وفاعل. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أَنْزَلْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: آمنا بالذي، أو: بشيء أنزلته،

ص: 109

والكلام من مقول الحواريين. {وَاتَّبَعْنَا:} فعل، وفاعل. {الرَّسُولَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {فَاكْتُبْنا:} الفاء في مثل ذلك يعتبرها من يجيز عطف الإنشاء على الخبر عاطفة، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منا؛ فاكتبنا. (اكتبنا): فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» ، ونا: مفعول به. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {مَعَ} مضاف، {الشّاهِدِينَ:}

مضاف إليه مجرور

إلخ.

{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)}

الشرح: {وَمَكَرُوا} يعني: كفار بني إسرائيل؛ الذين أحسّ عيسى منهم الكفر؛ حيث دبّروا قتل عيسى، عليه السلام. وأصل المكر: صرف الغير عمّا يقصده بضرب من الحيلة، وهذا شأن اليهود في غابر الأزمان، وحاضرها، فقد قتلوا يحيى، وزكريا، وغيرهما من الأنبياء، وقد نوّه القرآن الكريم بذلك كثيرا. {وَمَكَرَ اللهُ:} جازاهم الله على مكرهم، حيث رفع عيسى إلى السّماء، وألقى بشبهه على من أراد قتله؛ حتى قتل. هذا؛ والمكر معناه: الخبث، والخداع، والاحتيال، وهو مستحيل في حقّ الله تعالى، وإنّما ذكر ذلك من باب المقابلة، وهذا ما يسمّى عند البلغاء بالمشاكلة؛ أي: ذكر الله سبحانه جزاءهم من جنس صنيعهم، ومنه قوله سبحانه:

{نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ،} {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وانظر الآية رقم [15] من سورة (البقرة) إن أردت الزيادة.

قال صاحب البحر المحيط-رحمه الله تعالى-: سأل رجل الجنيد-رحمه الله تعالى-فقال:

كيف رضي الله-سبحانه-لنفسه المكر، وقد عاب به غيره. فقال: لا أدري، ولكن أنشدني فلان الظّهراني:[الوافر]

ويقبح من سواك الفعل عندي

فتفعله فيحسن منك ذاكا

ثمّ قال له: قد أجبتك؛ إن كنت تعقل. {وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ} أي: هو أفضل المجازين بالسيئة العقوبة. ومكر الله في هذه الآية خاصة إلقاء الشبه على صاحبه؛ الّذي دلّهم على عيسى حين أرادوا قتله حتّى قتل، ورفع عيسى إليه. وذلك: أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى-عليه السلام-دخل البيت هاربا منهم، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث، هو: يهوذا، وكان أحد الحواريين لكنّه نافق، ادخل عليه، فاقتله، أو أخرجه، فدخل البيت، فلم يجد عيسى فيه، وألقى الله عليه شبه عيسى، فلمّا خرج رأوه على شبه عيسى، عليه السلام، فأخذوه، وقتلوه، وصلبوه، وهو يقول لهم: أنا صاحبكم، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا، فإن كان هذا صاحبنا؛ فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى؛ فأين صاحبنا؟ فوقع بينهم قتال، فقتل بعضهم بعضا. قال تعالى في

ص: 110

سورة (النّساء) رقم [157]: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك.

ومنع الله عيسى منهم، ورفعه إليه، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم، والمشرب، وطار مع الملائكة، فهو معهم حول العرش، وصار إنسيّا ملكيّا أرضيّا سماويّا؛ حتّى ينزل آخر الزمان.

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما، عدلا، مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال؛ حتّى لا يقبله أحد» . زاد في رواية: «حتى تكون السّجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» . ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} متفق عليه.

الإعراب: {وَمَكَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال.

{اللهُ:} مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْماكِرِينَ:} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية في في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، ولفظ الجلالة، الذي أعيد للتفخيم، والتعظيم.

{إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)}

الشرح: {إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ:} اختلف المفسّرون في هذه الوفاة، فقال جماعة، منهم: قتادة، والضحاك، والفرّاء: هذا من المقدّم، والمؤخّر. تقديره: إني رافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء في آخر الزمان، كقوله تعالى في سورة (طه):{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى} إذ التقدير: ولولا كلمة سبقت من ربّك، وأجل مسمّى؛ لكان لزاما. ومثل ذلك قول الأحوص-وهو الشاهد رقم [667] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ورحمة الله السّلام

وأيضا قول حسّان-رضي الله عنه-يهجو أبا سفيان وزوجه هندا بعد موقعة أحد: [الكامل]

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

وقال الحسن، وابن جريج: معنى {مُتَوَفِّيكَ:} قابضك، ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل: توفّيت مالي من فلان، أي: قبضته. وقال وهب بن منبه: توفّاه الله ثلاث ساعات

ص: 111

من أوّل النهار، ثم رفعه إلى السّماء، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا: النّوم، كقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [60]:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ} وقوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [42]: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما-معنى متوفيك: مميتك. وهذا أضعف الأقوال، ولعل النسبة إليه ليست صحيحة. والحقّ: أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة، ولا نوم، كما قال الحسن، وابن زيد، وهو اختيار الطّبري، وهو الصّحيح عن ابن عباس، فترجع الوفاة إلى معنى القبض، وهو فحوى ما حكى الله في قوله في آخر سورة (المائدة):{فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} .

وهناك قول بأن المعنى: موفيك أجرك غير منقوص.

{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: من سوء أعمالهم. وخبث صحبتهم. بمعنى: مخرجك من بينهم، ومنجّيك من كيدهم. {وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} أي:

يغلبونهم بالحجّة، أو السيف في غالب الأمر، والّذين اتبعوا عيسى هم النصارى؛ الذين لم يغيّروا، ولم يبدّلوا، ويعتقدون: أنّه رسول الله، لا ابنه، ولكنّهم صاروا بعد ذلك شيعا، وفرقا ثلاثة، ثم صاروا اثنتين وسبعين فرقة. انظر ما ذكرته في الآية رقم [30] من سورة (التوبة) فإنّه جيد. والحمد لله!.

هذا؛ وإن الذين اتبعوا عيسى بالتوحيد، وعدم الشرك هم المسلمون، فهم أحقّ بعيسى-عليه السلام-في الدّنيا، والآخرة، وإنّه إذا نزل في آخر الزّمان يكون واحدا من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم كما أنّ المسلمين أحقّ بموسى-عليه السلام-بدليل قول نبينا صلى الله عليه وسلم لليهود حينما هاجر من مكّة المكرمة إلى المدينة، ورآهم يصومون يوم عاشوراء، فسألهم عن سبب صومه، فقالوا: هذا يوم صالح نجّى الله فيه بني إسرائيل، فصامه موسى شكرا لله، فنحن نصومه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:«أنا أحق منكم بموسى» . فصامه، وأمر بصيامه، ولذا عزّ المسلمون لتمسّكهم بالتوحيد الذي هو دين محمّد، ودين جميع الأنبياء، والمرسلين، وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وتحقّق لهم وعد الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، وهو تحقيق وعد الله لهم في الآية رقم [55] من سورة (النور):{وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ..} . إلخ، فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بعيسى حقّا سلبوا النّصارى بلاد مصر، والشام

إلخ.

قال البيضاوي: -رحمه الله تعالى-: وإلى الآن لم يسمع غلبة اليهود على أتباع عيسى، ولم يتّفق لهم ملك، ودولة. انتهى. أقول: ولكن في هذه الآية قد قام لهم ملك، ودولة بمساعدة النّصارى أنفسهم، وبسبب تخاذل المسلمين، وتفرّقهم، وهجرهم تعاليم دينهم، وسنّة نبيهم، وما قام لهم في هذه الأيام إنما هو دليل قاطع على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بأنه سيقوم لهم ملك

ص: 112

ودولة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «تقاتلكم يهود، فتنصرون عليهم، حتى يقول الحجر والشّجر:

يا مسلم! هذا يهوديّ اختبأ ورائي تعال فاقتله». ومقاتلتهم المسلمين لا تكون إلا عن ملك، ودولة، كما هو الحال في هذه الأيام. متى يكون هذا النّصر؟ ذلك في علم الله، وأغلب الظن أنه لا يكون إلا بعد نزول عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

وأخرج مسلم-رحمه الله تعالى-من حديث النواس بن سمعان-رضي الله عنه-قال: فبينما هما كذلك؛ إذ بعث الله المسيح ابن مريم، عليه السلام، فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ليس بيني، وبين عيسى نبيّ، وأنّه نازل، فإذا رأيتموه، فاعرفوه، فإنّه رجل مربوع إلى الحمرة، والبياض، ينزل بين ممصّرتين، كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلل، فيقاتل الناس على الإسلام، فيدقّ الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويهلك الله الملل في زمانه كلّها إلا الإسلام، ويهلك المسيح الدجال، ثم يمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفّى، ويصلّي عليه المسلمون» . أخرجه أبو داود.

وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: أن عيسى-عليه السلام-هو الذي يقتل الدّجال الذي ينتظره اليهود، ويكونون جندا له. كما روي: أن عيسى يتزوّج، ويولد له ولدان، يسمّي أحدهما موسى، والآخر أحمد. ونقل بعضهم: أنّ عيسى عليه السلام يدفن في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فيقوم أبو بكر وعمر-رضي الله عنهما-يوم القيامة بين نبيين: محمد، وعيسى، عليهما السلام، والمعتمد: أنّ عيسى يمكث في الأرض سبع سنوات، ومكث ثلاثا وثلاثين قبل رفعه، فتكون مدة حياته في الأرض أربعين سنة. وهذا هو المعتمد إن شاء الله تعالى.

وفي حديث عند أبي داود: أربعين سنة، فيحتمل: أن المراد لبثه في الأرض قبل الرفع، وبعده. وروي: أن الله أرسل سحابة إلى عيسى، فرفعته، فتعلّقت به أمّه، وبكت، فقال لها: إنّ القيامة تجمعنا، وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس. والله أعلم.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: ({مَكَرُوا})، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف. تقديره: اذكر، أو هو ظرف متعلق بهذا المقدّر. {قالَ اللهُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: «أدعو» . ({عِيسى}): منادى مفرد علم مبني على الضم المقدّر على الألف في محل نصب ب (يا). {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {مُتَوَفِّيكَ:} خبر (إن) مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَرافِعُكَ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ:} معطوف على ما قبله،

ص: 113

وهو مثله في إعرابه، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية:

{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{وَجاعِلُ:} معطوف على ما قبله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اِتَّبَعُوكَ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فَوْقَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. و {فَوْقَ} مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا إِلى يَوْمِ:} صلة الموصول، لا محل لها، و {يَوْمِ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَرْجِعُكُمْ:} مبتدأ مؤخر، والكاف في محل جر بالإضافة. من: إضافة المصدر الميمي لفاعله، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{فَأَحْكُمُ:} فعل مضارع والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (أحكم)، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تَخْتَلِفُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان) وجملة: {كُنْتُمْ..} . إلخ صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ ب (في).

{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)}

الشرح: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا:} يعني: جحدوا نبوّة عيسى، وخالفوا ملّته، وقالوا فيه ما قالوا من الباطل، ووصفوه بما لا ينبغي، وهم من سائر اليهود، والنصارى. {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا} يعني: بالقتل، والسبي، والذلّة، وأخذ الجزية منهم. {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:} مانعين يمنعونهم من عذابنا في الدنيا، والآخرة.

هذا؛ وفي هذه الآية التفات من الخطاب في الآية السابقة إلى التكلّم في هذه الآية، ثم التفات من المتكلّم في هذه الآية إلى الغيبة في الآية التي تليها. وللالتفات فوائد كثيرة، منها:

تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر، والملال؛ لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فوائده العامة، ويختص كل موضع بنكت، ولطائف كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حثّ السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عنايته، وخصصه بالمواجهة.

ص: 114

هذا؛ والمراد بالآخرة: الحياة الثانية؛ التي تكون بعد الموت، ثمّ بعد البعث، ثم بعد الحساب، والجزاء، ودخول الجنة، والخلود فيها، أو دخول النار، والخلود فيها. والأولى لمن آمن، وعمل صالحا، والثانية لمن كفر، وعمل سيئا. ورحم الله من يقول:[البسيط]

الموت باب وكلّ النّاس داخله

فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟!

ورحم الله من أجابه بقوله: [البسيط]

الدار جنّة عدن إن عملت بما

يرضي الإله وإن خالفت فالنّار

هما محلاّن ما للنّاس غيرهما

فانظر لنفسك ماذا أنت مختار

أما الكفر: فهو ضدّ الإيمان، وهو المراد في الآية، وقد يكون بمعنى جحود النعمة، والإحسان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في النّساء في حديث الكسوف: وأريت النّار، فلم أر منظرا كاليوم قطّ أفظع، ورأيت أكثر أهلها النّساء. قيل: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهنّ» . قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهر كلّه، ثمّ رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ» . أخرجه البخاريّ برقم (1052) وغيره، ويروى بأطول من هذا من رواية أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه، وأصل الكفر في كلام العرب. السّتر، والتغطية. قال لبيد-رضي الله عنه-في معلقته رقم [42] في وصف بقرة وحشية:[الكامل]

يعلو طريقة متنها متواتر

في ليلة كفر النّجوم غمامها

وسمّي الزارع كافرا؛ لأنه يلقي البذر في الأرض، ويغطيه، ويستره بالتراب. قال تعالى في تشبيه حال الدنيا في سورة (الحديد) رقم [20]:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} . ويسمى الليل كافرا؛ لأنه يستر كل شيء بظلمته، قال لبيد في معلقته رقم [65]:[الكامل]

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

كما يطلق لفظ الكافر على النّهر، قال المتلمّس حين ألقى الصّحيفة في النّهر:[الطويل]

وألقيتها بالثّني من جنب كافر

كذلك ألقي كلّ رأي مضلّل

رضيت لها بالماء لمّا رأيتها

يجول بها التّيار في كلّ جدول

هذا؛ وكفر فلان النعمة، يكفرها، كفرا، أو كفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وسترها، وأخفاها. قال تعالى في سورة (إبراهيم) -على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} وقال القطامي: -وهو الشاهد رقم [531] من كتابنا: «فتح رب البريّة» -: [الوافر]

أكفرا بعد ردّ الموت عنّي

وبعد عطائك المئة الرّتاعا

ص: 115

الإعراب: {فَأَمَّا:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (أما): أداة شرط، وتفصيل، وتوكيد. أمّا كونها أداة شرط؛ فلأنها قائمة مقام أداة الشرط، وفعله بدليل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء؛ فالذين كفروا

إلخ، فأنيبت (أمّا) مناب «مهما يك من شيء» فصار:(أما {الَّذِينَ كَفَرُوا}). وأما كونها أداة تفصيل؛ فلأنها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله.

ويعلم ذلك من تتبع مواقعها. وأمّا كونها أداة توكيد؛ فلأنها تحقق الجواب، وتفيد: أنّه واقع لا محالة؛ لكونها علقته على أمر متيقن. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، لا محل لها. {فَأُعَذِّبُهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب: (أما).

(أعذبهم): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. هذا؛ وأجيز اعتبار الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فأنا أعذبهم، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ:{الَّذِينَ} . {عَذاباً:} مفعول مطلق، وهو اسم مصدر؛ لأن المصدر:

تعذيب. {شَدِيداً:} صفته. {فِي الدُّنْيا:} جار، ومجرور، متعلقان بالفعل:(أعذب) أو هما متعلقان بمحذوف صفة ثانيا ل {عَذاباً} أو هما متعلقان بمحذوف حال منه، بعد وصفه بما تقدّم.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{مِنْ:} حرف جر صلة. {ناصِرِينَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو المقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالياء، التي جلبها حرف الجر الزائد، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وإن اعتبرت:(ما) نافية حجازية؛ فالأمر واضح، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير.

{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ (57)}

الشرح: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} الأعمال الصالحات على تفاوتها، واختلاف درجاتها. وعطف العمل الصالح على الإيمان يسمّى احتراسا. انظر الآية رقم [277] من سورة (البقرة). {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ:} يعطيهم ثواب أعمالهم الصالحة كاملا غير منقوص في الدنيا بالنّصر، والظفر، وفي الآخرة في الجنات العالية، والنعيم المقيم. {وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ} أي: يسخط، ولا يرحم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وارتكاب المعاصي، والمنكرات، هذا وعدم محبّة الله كناية عن البغض، والسخط، والغضب، والطرد من رحمته ورضوانه. ومحبته للعبد رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه.

تنبيه: لمّا ذكر الله في الآية السابقة الكافرين، وما أعدّ لهم من العذاب الشديد، والعقاب الأليم؛ ذكر في هذه الآية المؤمنين الصادقين، وما أعدّ لهم من النعيم المقيم في جنات النعيم.

ص: 116

وتلك سنة الله في كتابه الكريم، حيث اقتضت حكمته تعالى، ورحمته، فلا يذكر التصديق من المؤمنين؛ إلا ويذكر التكذيب من الكافرين، ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنّة؛ إلا ويذكر النار، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسّخط؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، راجيا خائفا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا:} انظر الآية السابقة. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {فَيُوَفِّيهِمْ:} الفاء:

واقعة في جواب ({أَمَّا}). (يوفيهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) تقديره: هو، والهاء مفعول به أول. {أُجُورَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{الَّذِينَ} أو هي في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يوفيهم، والجملة الاسمية في محل رفع خبره، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:({اللهُ}).

{الظّالِمِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الفاعل المستتر بالفعل (يوفيهم) على تأويلها بظرف؛ ويكون المعنى: فيوفيهم أجورهم وقت كون الله لا يحبّ الظالمين، والرابط: الواو فقط، ومثل هذه الآية قول امرئ القيس-وهو الشاهد رقم [845] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -وهاكه: [الطويل]

وقد أغتدي والطّير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

والآية الكريمة، والبيت مثل قوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّا إِذاً لَخاسِرُونَ} .

{ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)}

الشرح: {ذلِكَ..} . إلخ: الإشارة إلى ما ذكر من خبر عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ:} نقرؤه، ونقصّه. والخطاب لسيد الخلق محمّد صلى الله عليه وسلم. {مِنَ الْآياتِ} أي: آيات القرآن. وقيل: المراد بالآيات: المعجزات، والعلامات الدّالة على صدقك، ونبوّتك يا محمد! لأنها أخبار، لا يعلمها إلا من يقرأ، أو يكتب، أو نبيّ يوحى إليه، وأنت أميّ لا تقرأ، ولا تكتب، فثبت: أنّ ذلك من الوحي السّماويّ؛ الذي أنزل عليك. انتهى خازن.

{وَالذِّكْرِ:} القرآن. {الْحَكِيمِ:} المحكم؛ أي: لا خلل فيه، ولا تناقض. وقيل: ذو الحكمة.

وقيل: الحاكم. أو: وصفه الله بالحكيم؛ لاشتماله على الحكم، أو: لأنه كلام حكيم، أو:

ص: 117

محكمة آياته، لم ينسخ منها شيء. وقيل:{الْحَكِيمِ} بمعنى المحكوم فيه؛ أي: حكم الله فيه بالعدل، والإحسان، وبالنّهي عن الفحشاء، والمنكر، وبالجنّة لمن أطاعه، وبالنّار لمن عصاه.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {نَتْلُوهُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر وجوبا، تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر المبتدأ. {مِنَ الْآياتِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، والعامل الفعل، كما يجوز أن يكونا متعلّقين بخبر ثان للمبتدإ محذوف، كما جوز اعتبار ذلك خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: الأمر ذلك. وفيه ضعف ظاهر، وعلى جميع الاعتبارات؛ فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَالذِّكْرِ:} معطوف على: {الْآياتِ} . {الْحَكِيمِ:} صفته.

{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)}

الشرح: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى..} . إلخ أي: شأن عيسى الغريب، وحاله العجيب كشأن آدم، وحاله، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب، والعجيب بالأعجب؛ ليكون أوقع في النفس، وأقطع للخصم، وأفحم له، وإن كان بين آدم، وعيسى-على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام- فرق كبير. بعد أن يجتمعا في وصف واحد، فإنّ آدم خلق من تراب، ولم يخلق عيسى من تراب، فكان بينهما فرق من هذه الجهة، ولكن شبه ما بينهما: أنّهما خلقا من غير أب. {خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ:} صوّر جسمه من طين لازب مأخوذ من التراب. هذا؛ وقال تعالى في سورة (مريم):

{ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} ثم قال له: كن فيكون: أي: أحدث، فيحدث، فهو حكاية حال ماضية، أي: فكان بشرا سويّا، قال الشاعر:[الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنّما

يقول له كن قولة فيكون

هذا؛ و {آدَمَ} أصله: أأدم بهمزتين، انظر:(آل) في الآية رقم [11] فهو مثله في إعلاله.

تنبيه: ذكرت لك في أوّل هذه السورة: أنّ وفد نجران، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: ما شأنك تذكر صاحبنا، وتسبّه؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى! تزعم: أنه عبد الله، قال: أجل! إنّه عبد الله! فقالوا: هل رأيت له مثلا خلق من غير أب؟! ومن لا أب له؛ فهو ابن الله. ثمّ خرجوا من عنده، فجاءه جبريل، عليه السلام، فقال له: قل لهم إذا أتوك: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ..} . إلخ. والمعنى: أنّ من لم يقرّ بأنّ الله تعالى خلق عيسى من غير أب، مع اعترافه بخلق آدم من غير أب خارج عن طور العقلاء. انتهى خازن، وغيره.

ص: 118

روي: أنّ بعض العلماء أسر عند الروم، فقال لهم: لم تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له، فقال لهم: آدم أولى؛ لا أب له، ولا أم، فقالوا: كان عيسى يحيي الموتى، فقال: حزقيل أولى؛ لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر، وحزقيل أحيا ثمانية آلاف، فقالوا: إنه كان يبرئ الأكمه، والأبرص، فقال: جرجيس أولى؛ لأنه طبخ، وأحرق، ثمّ خرج سالما. انتهى نقلا من السّمين.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {مَثَلَ:} اسمها. و {عِيسى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف في محلّ رفع خبر أول، وهو ممهّد للثّاني، ولا تتمّ الفائدة به. و {عِنْدَ} مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه، {كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ثان ل {إِنَّ} وهو الذي تمت به الفائدة، و (مثل): مضاف، و {آدَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. والجملة الاسمية:{إِنَّ مَثَلَ:} مستأنفة لا محل لها.

{خَلَقَهُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{آدَمَ} والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها. وقيل:

مفسرة ل (مثل آدم) وقيل: مستأنفة لا محل لها. {قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [47] والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها صناعة؛ لأنّ {ثُمَّ} هنا لترتيب الخبر، لا لترتيب المخبر عنه؛ لأنّ قوله:{كُنْ} لم يتأخر عن خلقه، وإنما هو في المعنى تفسير لمعنى الخلق، وقد جاءت:{ثُمَّ} غير مفيدة بترتيب المخبر عنه. انتهى عكبري باختصار.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)}

الشرح: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: ما ذكر في عيسى هو القول الحق؛ الذي لا محيد عنه، ولا مقبول سواه، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! لا ما يدعيه النّصارى من أنّ عيسى-عليه السلام-ابن الله، أو هو الإله، كما يقول بعضهم:{فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ:}

الشّاكّين في الذي أنت عليه، وهذا على سبيل الفرض، والتقدير؛ لأنّه من المحال أن يشكّ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه من ربّه. هذا؛ وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمّته؛ لأن النهي المذكور محال في حقّه صلى الله عليه وسلم. وحاصل الجواب: أنّ متعلّق الامتراء هو علم أهل الكتاب بحقيّة القرآن، وهو أحد الأجوبة في الكشاف. والثاني: أنّه من باب التهيّج، والتّحريض لزيادة الثبات على ما ورد في شأن عيسى، عليه السلام، والوقوف عنده، وهو لكلّ سامع من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم بأنّ عيسى عبد الله، ورسوله، لا ابنه، كما زعمت النّصارى. بعد هذا؛ فالامتراء: الشّكّ، ومنه المراء، والتّماري، والمماراة؛ لأنّ كلّ واحد من المتخاصمين يشكّ في قول صاحبه، وما ذكر يكون بمعنى الجدال، كما في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة (الكهف):{فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاّ مِراءً}

ص: 119

ظاهِراً

إلخ. بعد هذا فالآية مذكورة في سورة (البقرة) برقم [147] وهناك ذكرت بشأن مماراة اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم في استقبال بيت المقدس في الصّلاة.

الإعراب: {الْحَقُّ:} مبتدأ. {مِنْ رَبِّكَ:} متعلقان بمحذوف في محل رفع خبره، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وقيل:{الْحَقُّ} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الحق، فيكون الجار، والمجرور متعلقين بمحذوف حال من:

{الْحَقُّ} أو بمحذوف خبر ثان للمبتدإ المقدّر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {فَلا:}

الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم، واسمه مستتر فيه، تقديره: أنت. {مِنَ الْمُمْتَرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدّر، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وحاصلا؛ فلا تكن

إلخ، والجملة الشرطية مستأنفة لا محلّ لها.

{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)}

الشرح: {فَمَنْ حَاجَّكَ:} جادلك، وخاصمك. والمحاجّة: المجادلة. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.

{فِيهِ:} في شأن عيسى، عليه السلام. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من البينات الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبد الله، ورسوله. {فَقُلْ تَعالَوْا:} هلموا، وأقبلوا. والمراد: المجيء بالعزم، والرأي. {نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ:} فيه دليل على أن أبناء البنات يسمّون: أبناء، كيف لا؟! وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«كلّ نبيّ أبناؤه من صلبه، وأبنائي من صلب عليّ» . {ثُمَّ نَبْتَهِلْ:} ندعو، ونتضرّع.

والابتهال: التضرّع، والدعاء، مأخوذ من «البهلة» بفتح الباء، وضمها، وهي: اللعنة. هذا أصله، ثم استعمل في كلّ دعاء مجتهد فيه؛ وإن لم يكن التعانا. قال لبيد-رضي الله عنه:[الرمل]

في كهول سادة من قومه

نظر الدّهر إليهم فابتهل

أي: اجتهد الدّهر في هلاكهم. {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ} أي: نقول: اللهم العن الكاذب في شأن عيسى. روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا دعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتّى ننظر في أمرنا، فلمّا تخالفوا؛ قالوا للعاقب-وكان صاحب رأيهم-: ماذا ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم نبوّة محمد! ولقد جاءكم بالفصل في أمر عيسى، والله ما باهل قوم نبيّا قطّ إلا هلكوا! فإن أبيتم إلا إلف دينكم؛ فوادعوا الرّجل، وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غدا محتضنا للحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ-رضي الله عنه-يمشي خلفها، وهو يقول:«إذا أنا دعوت؛ فأمّنوا» . فقال أسقفهم: يا معشر النّصارى! إني لأرى وجوها. لو سألوا

ص: 120

الله أن يزيل جبلا من مكانه؛ لأزاله، فلا تباهلوا؛ فتهلكوا! فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا الجزية ألفي حلة حمراء، وثلاثين درعا من حديد كلّ عام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والّذي نفسي بيده لو باهلوا؛ لمسخوا قردة، وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران، وأهله؛ حتّى الطّير على الشّجر!» وهو دليل على نبوّته، وفضل من أتى بهم من أهل بيته. انتهى بيضاوي، وغيره. وفي الآية رقم [95] من سورة (البقرة) ما يشبه هذا مع اليهود.

روي: أنهم قالوا للنّبي صلى الله عليه وسلم: ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ائتوني العشيّة؛ أبعث معكم القويّ الأمين» . فكان عمر-رضي الله عنه-يقول: ما أحببت الإمارة قطّ حبّي إيّاها يومئذ؛ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجّرا، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر؛ سلم، ثم نظر عن يمينه، وشماله. فجعلت أتطاول له؛ ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره؛ حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه، فقال:«اخرج معهم، فاقض بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه» . قال عمر:

فذهب بها أبو عبيدة-رضي الله عنه.

تنبيه: وإنما خص الله الأبناء، والنساء بالذّكر؛ لأنهم أعزّ الأهل، وإنما قدمهم في الذكر على النفس لينبه بذلك على لطف مكانهم، وقرب منزلتهم، ولأنّ الرّجل يخاطر بنفسه في سبيلهم، ويحارب دونهم. وينبغي أن تعلم: أن وفودهم على النبي صلى الله عليه وسلم كان سنة تسع من الهجرة؛ لأنّ الزّهري قال: كان أهل نجران أول من أدّى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآية الجزية الموجودة في سورة (التوبة) رقم [30] إنما نزلت بعد الفتح.

هذا؛ و (نساء) اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ لأنّ مفرده: امرأة، وجمعها في القلّة:

نسوة، وفي الكثرة: نساء، وتجمع أيضا على: نسوان، ونسون، ونسنين. وهذه الجموع كلها مأخوذة من النسيان؛ الذي شرحته مرارا، فهي مطبوعة عليه، إما إهمالا، وإما كذبا، ويقال لكل هذه الجموع: اسم جمع لا واحد له من لفظه، أمّا المرأة؛ فهي مأخوذة من المرء، وهو الرجل، فلذا سميت بذلك، والأم حواء-عليها ألف صلاة، وألف سلام-سميت بذلك؛ لأنها مأخوذة من: حي، وهو: آدم، عليه السلام.

هذا؛ و (أبناء) أصله: أبناو، وهو جمع: ابن، وأصله: بنو. و (نساء) أصله: نساي.

وأيضا: آباء أصله: أباو؛ لأنه جمع: أب، وأصله: أبو، فقل في الثلاثة: تحركت الواو والياء، وانفتح ما قبلهما، فقلبتا ألفا، ولم يعتدّ بالألف الزائدة؛ لأنها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان، الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة.

هذا؛ ولقد سئلت عمّا يلي: همزة المصدر: استغفار، ونحوه همزة وصل، فإذا جمعت:

استغفارات، ونحوه تبقى الهمزة همزة وصل، وهمزة ابن همزة وصل أيضا، فلما جمع أبناء صارت الهمزة همزة قطع، فما الفرق بينهما؟ والجواب: أنّ همزة المصدر أصلية، وأما همزة

ص: 121

ابن؛ فليست أصلية، إذ أصله: بنو، كما رأيت، فالهمزة فيه بدل من حرف علة أصلي، فلما جمع؛ جمع على: أبناء، فهذه الهمزة همزة أفعال، وليست همزة ابن كما قد يتوهم.

هذا؛ وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجعل اللعنة على الكاذبين، ولقد كرر الله لعن الكافرين في الآية رقم [159] من سورة (البقرة) كما لعن الظالمين، والفاسقين، والناقضين للعهد في آيات متفرقة، وهو دليل قاطع على أن من مات على كفره؛ فقد استحق اللعن من الله، والملائكة، والناس أجمعين، وأما الأحياء من الكفار؛ فقد قال بعض العلماء: لا يجوز لعن كافر معين؛ لأن حاله لا يعلم عند الوفاة، فلعله يؤمن، ويموت على الإيمان، وقد قيّد الله في الآية رقم [161] من سورة (البقرة) إطلاق اللعنة على من مات على الكفر. ويجوز لعن الكفار جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها، وباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معين من الكفار، بدليل قتاله، وهو الصّحيح، كيف لا؟! وقد لعن حسّان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان، وزوجه هندا في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم. خذ قوله:[الكامل]

لعن الإله وزوجها معها

هند الهنود طويلة البظر

وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي، وغيرهم؛ الذين قدموا المدينة المنورة بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك! فشقّ ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق، فقال له الفاروق: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال:«إنّي أعطيتهم الأمان» فقال الفاروق: اخرجوا في لعنة الله، وغضبه. ولم ينكر عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك. كيف لا؛ وآية (النور) رقم [7] تأمر المسلم أن يلعن نفسه إن كان من الكاذبين؟! وأمّا العصاة من المسلمين فلا يجوز لعن واحد منهم على التّعيين قطعا، وأما على الإطلاق؛ فيجوز كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات، والفاسدين، والفاسدات، والخبيثين، والخبيثات

إلخ؛ لما روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لعن الله السارق يسرق البيضة، والحبل، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الواشمة، والمستوشمة، وآكل الرّبا، ولعن من غيّر منار الأرض، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها، وغير ذلك» . وكل ذلك في الصّحيح من الأحاديث، وخذ ما يلي:

عن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبد إذا لعن شيئا؛ صعدت اللعنة إلى السّماء، فتغلق أبواب السّماء دونها، ثمّ تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثمّ تأخذ يمينا، وشمالا، فإن لم تجد مساغا؛ رجعت إلى الّذي لعن، فإن كان أهلا، وإلاّ؛ رجعت إلى قائلها» . رواه أبو داود.

ص: 122

هذا، وأما (النّفس) فإنها تجمع في القلة: أنفس، وفي الكثرة: نفوس. والنفس تؤنث باعتبار الروح، وتذكّر باعتبار الشّخص؛ أي: فإنها تطلق على الذات أيضا-كما في هذه الآية- سواء أكان ذكرا، أم أنثى؟ فعلى الأول قيل: هي جسم لطيف مشتبك بالجسم اشتباك الماء بالعود الأخضر الرطب، فتكون سارية في جميع البدن، قال الجنيد-رحمه الله تعالى-: الروح شيء استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز البحث عنه بأكثر من أنه موجود. قال تعالى في سورة (الإسراء):{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي..} . إلخ.

وقال بعضهم: إنّ هناك لطيفة ربانية، لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تنكّرها تسمى عقلا، ومن حيث حياة الجسد بها تسمّى روحا، ومن حيث شهوتها تسمى نفسا. فالثلاثة متّحدة بالذّات، مختلفة بالاعتبار. وهذا ما تدل عليه الآثار الصّحاح. هذا؛ ومن الدليل على أن النّفس هي الروح قوله تعالى في سورة (الزّمر) رقم [42]:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} يريد الأرواح، وذلك بيّن في قول بلال-رضي الله عنه-للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب:«أخذ بنفسي يا رسول الله الّذي أخذ بنفسك» . وهذا كان في الوادي الذي ناموا فيه عن صلاة الصبح؛ حتى طلعت الشمس، وهم قافلون من غزو تبوك. والنفس أيضا: الدم، يقال: سالت نفسه. قال الشاعر: [الطويل]

تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا

وليست على غير الظّبات تسيل

وقال إبراهيم النّخعي-رحمه الله تعالى، وهو المقرر في الفقه-:«ما ليس له نفس سائلة؛ فإنّه لا ينجس الماء إذا مات فيه» . والنفس أيضا، الجسد، قال الشاعر:[الكامل]

نبّئت أنّ بني سحيم أدخلوا

أبياتهم تامور نفس المنذر

والتامور أيضا: الدم. هذا؛ وقد ذكر القرآن الكريم: أنّ للنفس خمس مراتب: الأمّارة بالسوء، واللّوامة، والمطمئنة، والراضية، والمرضية. ويزاد: الملهمة، والكاملة. فالأمّارة: هي التي تأمر صاحبها بالسوء، ولا تأمر بالخير إلا نادرا، وهي مقهورة، ومحكومة للشّهوات. وإن سكنت لأداء الواجبات الإلهية، وأذعنت لاتباع الحق، لكن بقي فيها للشهوات سميت: لوامة. وإن زال عنها هذا الميل، وقدرت على معارضة الشهوات، وزاد ميلها إلى عالم القدس، وتلقّت الإلهامات؛ سميت:

ملهمة. فإن سكن اضطرابها، ولم يبق للنفس الشّهوانية حكم أصلا؛ سميت مطمئنة، فإن ترقّت من هذا، وأسقطت المقامات من عينها، وفنيت من جميع مراداتها؛ سميت راضية. فإن زاد هذا الحال عليها؛ صارت مرضيّة عند الحق، وعند الخلق. فإن أمرت بالرجوع إلى العباد لإرشادهم، وتكميلهم؛ سمّيت: كاملة. فالنفس لها سبع طبقات، ولها سبع درجات، كما ذكرت، وقدّمت.

وأخيرا خذ ما ذكره القرطبي-رحمه الله تعالى-: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أكرمتموه، وأطعتموه، وكسوتموه؛ أفضى بكم إلى شرّ غاية. وإن

ص: 123

أهنتموه، وأعريتموه، وأجعتموه؛ أفضى بكم إلى خير غاية؟» قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب، قال:«فو الّذي نفسي بيده، إنّها لنفوسكم الّتي بين جنوبكم» . انتهى.

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من) اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {حَاجَّكَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من)، والكاف مفعول به. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، و {بَعْدِ} مضاف. و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {جاءَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ما} وهو العائد، أو الرابط، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها. {مِنَ الْعِلْمِ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر العائد على: {ما} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، هذا ويجوز على مذهب الأخفش اعتبار:{ما} مصدرية. فيكون فاعل (جاء){الْعِلْمِ} و {مِنْ} مزيدة على مذهبه، وبعد سبك المصدر من:{ما} والفعل: (جاء) يكون التقدير: من بعد مجيء العلم لك.

{فَقُلْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قل): فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» {تَعالَوْا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نَدْعُ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والجملتان في محل نصب مقول القول، وجملة: (قل

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لا تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه. فقيل: جملة الشرط.

وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين، والجملة الاسمية {فَمَنْ..}. إلخ مستأنفة لا محل لها. {أَبْناءَنا:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه، و (نا) والكاف في محل جر بالإضافة.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {نَبْتَهِلْ:} فعل مضارع معطوف على: {نَدْعُ} مجزوم مثله.

{فَنَجْعَلْ:} معطوف عليه أيضا، وفاعلهما مستتر وجوبا تقديره: نحن. {لَعْنَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَى الْكاذِبِينَ:} متعلقان بالفعل (نجعل) وهما في محل نصب مفعوله الثاني، وهو قول أبي البقاء، وأرى: أنّه لا بأس بتعليقهما ب {لَعْنَتَ} .

{إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)}

الشرح: {إِنَّ هذا..} . إلخ؛ أي: ما قصّ الله علينا من خبر عيسى، ومريم هو الحقّ، دون ما يذكره النّصارى من أنّه الله، أو ابن الله. تعالى الله عمّا يقولون، ويكذّبون علوّا كبيرا! هذا؛

ص: 124

و {الْقَصَصُ} مصدر: قصّ فلان الحديث، يقصّه قصّا، وقصصا، وأصله: تتبع الأثر. فلان خرج يقصّ أثر فلان؛ أي: يتتبّعه؛ ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى في سورة (القصص):{وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره. {وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ:} فيه إثبات الإلهيّة لله وحده. وفيه ردّ على النصارى، وعلى المشركين؛ الذين يزعمون إلهية غير الله. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ:} القوي، الغالب، المنتقم ممن عصاه، وخالف أمره، وادّعى معه إلها آخر. {الْحَكِيمُ} في قضائه، وتدبيره، يضع الأمور مواضعها.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسمها، والهاء حرف تنبيه، لا محل له. {لَهُوَ:} اللام: هي المزحلقة. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْقَصَصُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ} أو هو ضمير فصل لا محل له، و {الْقَصَصُ} خبر:{إِنَّ} ودخلت اللام على ضمير الفصل؛ لأنه إذا جاز أن تدخل على الخبر، فدخولها على ضمير الفصل أولى؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر، وأصلها أن تدخل على المبتدأ. {الْحَقُّ:} صفة: {الْقَصَصُ} والجملة الاسمية: {إِنَّ هذا..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): نافية. {مِنْ:} حرف جر صلة. {إِلهٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاَّ:} حرف حصر. {اللهُ:} خبر المبتدأ. وقيل: خبر المبتدأ محذوف، التقدير: وما إله لنا، و {اللهُ} بدل من محل:{إِلهٍ} وفيه ضعف، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، أو هي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)}

الشرح: {فَإِنْ تَوَلَّوْا:} أعرضوا عن الإيمان، واتباع ما جئت به يا محمد. وانظر الآية رقم [23]. {فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} أي: الذين يعبدون غير الله، ويدعون الناس إلى عبادة غيره. ففيه تهديد، ووعيد لهم. ووضع المظهر:{بِالْمُفْسِدِينَ} موضع المضمر: «بهم» ليدل على أن التولّي عن الحجج، والإعراض عن التوحيد إفساد للدين، والاعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس، بل إلى فساد العالم. انتهى بيضاوي.

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها

ص: 125

ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن):

حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلِيمٌ:} خبرها. {بِالْمُفْسِدِينَ:} متعلقان ب {عَلِيمٌ} والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، و (إنّ) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ (64)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق محمد صلى الله عليه وسلم. {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} المراد بهذا النداء: اليهود، والنصارى، فقد قال المفسرون: لمّا قدم وفد نجران المدينة؛ اجتمعوا مع اليهود عند النبي صلى الله عليه وسلم واختصموا في إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فزعمت النّصارى: أنه كان نصرانيّا، وهم على دينه، وهم أولى النّاس به. وزعمت اليهود: إنه كان يهوديّا، وهم على دينه، وأولى الناس به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من إبراهيم، ودينه، بل كان حنيفا مسلما؛ وأنا على دينه، فاتّبعوا دينه الإسلام. فقالت اليهود: ما تريد إلا أن نتّخذك ربّا، كما اتخذت النّصارى عيسى ربّا. وقالت النصارى: ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله عز وجل: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا..} . إلخ.

{إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ} أي: فيها عدل، وإنصاف، لا ميل فيها، ولا انحراف. قال زهير:[الوافر]

أروني خطّة لا ضيم فيها

يسوّى بيننا فيها السّواء

وقال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [58]: {وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ..} . إلخ. هذا؛ ووصفت: {كَلِمَةٍ} ب {سَواءٍ} لأنه يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث.

هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى وسط بسكون السين، تقول: جلس بين القوم، كما تقول:

جلس وسط القوم، ولا يضاف إلا لمتعدد، سواء أكان تعدده بسبب التثنية، أو الجمع، أم كان تعدده بسبب العطف، فمثال الأول: جلست بين الزيدين، وجلست بين الأدباء، وفي الآية أضيف إلى الضميرين، وهما بمعنى الجمع، كما ترى. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد. وهو أيضا: الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض. وقرئ قوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [94]:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} بفتح النون، وضمها، وفسر بالمعنيين: الفراق، والوصل. ومن استعماله بمعنى الفراق، والبعاد قول كعب بن زهير رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [809] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

ص: 126

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول

{أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ:} نوحده بالعبادة، ونخصه فيها. {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} أي: لا نجعل له شريكا في العبادة، ولا نرى شيئا في الوجود أهلا لأن يعبد. {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} وذلك: أنّ النّصارى عبدوا غير الله، وهو المسيح، وأشركوا به، وهو قولهم: أب، وابن، وروح القدس، فجعلوا الواحد ثلاثة، واتّخذوا أحبارهم، ورهبانهم أربابا من دون الله، وذلك:

أنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الشّرك. {فَإِنْ تَوَلَّوْا:} أعرضوا عمّا دعوتهم إليه، وأمرتهم به. {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ} أي: مخلصون التوحيد لله وحده. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه.

وخذ ما يلي: فقد روى الترمذيّ، وأحمد عن عديّ بن حاتم-رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: «يا عديّ! اطرح عنك هذا الوثن» فطرحته، وسمعته يقرأ في سورة (براءة):{اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} حتى فرغ، فقلت: يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم، فقال:«أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله، فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله، فتستحلّونه؟» قلت: بلى. قال: «فتلك عبادتهم» قال عبد الله بن المبارك-رحمه الله تعالى-: [الوافر]

وهل بدّل الدّين إلاّ الملو

ك وأحبار سوء ورهبانها؟

لذا فإن كل إنسان يتّبع إنسانا آخر في كلّ زمان، ومكان في تحليل، أو تحريم ما لم يأذن به الله كمن اتخذه ربّا. هذا؛ ولا تنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الملوك في السنة السادسة بعد الهجرة بعد غزوة الحديبية، ودعاهم إلى الإسلام، وفي كتابه إلى هرقل ما يلي:«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم؛ تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين، وإنّ تولّيت؛ فإنّ عليك إثم الأريسيّين» . {يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ..} . إلخ. وخذ ما يلي:

قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في قطر الندى: وأمّا: «هات» و «تعال» فعدّهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصّواب: أنهما فعلا أمر، بدليل: أنّهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، فتقول: هاتي، وتعالي. واعلم: أنّ آخر «هات» مكسور أبدا، إلا إذا كان لجماعة المذكرين؛ فإنه يضم، فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتيا يا زيدان، وهاتيا يا هندان، وهاتين يا هندات، كلّ ذلك بكسر التاء، وتقول: هاتوا يا قوم بضمّها. قال تعالى في كثير من الآيات: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} . وأنّ آخر «تعال» مفتوح في جميع أحواله من غير استثناء، تقول: تعال يا زيد، وتعالي يا هند، وتعاليا يا زيدان، وتعاليا يا هندان، وتعالوا يا زيدون، وتعالين يا هندات، كل ذلك بالفتح. قال تعالى في سورة

ص: 127

(الأنعام): {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ..} . إلخ، وقال الله جلّ ذكره في سورة (الأحزاب):{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} . ومن ثمّ لحّنوا أبا فراس الحمداني في قوله: [الطويل]

أيا جارتا ما أنصف الدّهر بيننا

تعالي أقاسمك الهموم تعالي

وأقول: إنّ الفعلين (هات، وتعال) ملازمان للأمرية، فلا يأتي منهما مضارع ولا ماض، وهما بمعنى:(أحضروا، أو: احضروا) فالأول متعد، وهو من الرّباعي، والثاني لازم، وهو من الثلاثي، وأما تعالى، يتعالى، فهما بمعنى: تعاظم، يتعاظم، أو بمعنى: يتنزه. وقل في إعلال تعالوا: أصله: تعالووا، ثم تعاليوا، فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وبقيت الواو؛ لأنها ضمير، وبقيت الفتحة على اللام لتدلّ على الألف المحذوفة.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. (يا): أداة نداء، تنوب مناب أدعو. (أهل): منادى، وهو مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {تَعالَوْا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلى كَلِمَةٍ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، ولم يذكر مثلهما في الآية رقم [61] لأنّ المقصود هناك مجرد الإقبال، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه، تقديره: تعالوا إلى المباهلة. انتهى جمل نقلا عن السّمين.

{سَواءٍ:} صفة {كَلِمَةٍ} . {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلّق بسواء، و (نا) في محل جر بالإضافة.

({بَيْنَكُمْ}): ظرف معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة.

{أَلاّ:} (أن): حرف مصدري، ونصب. (لا): نافية. {نَعْبُدَ:} فعل مضارع منصوب ب (أن)، والفاعل تقديره: نحن. {أَلاّ:} حرف حصر. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والمصدر المؤول من:{أَلاّ نَعْبُدَ} تفسر ل {كَلِمَةٍ} أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

هي عدم عبادتنا لغير الله. هذا؛ وأجاز مكي اعتبار (أن) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والجملة الفعلية بعدها خبرها، ويقال في المصدر المؤول منها، واسمها، وخبرها ما قيل في المصدر السابق. {نُشْرِكَ} و {يَتَّخِذَ} معطوفان على:{نَعْبُدَ} وهما شريكان له في النصب، والتأويل. {بَعْضُنا:} فاعل {يَتَّخِذَ} . {بَعْضاً} مفعول به أول. {أَرْباباً:} مفعول به ثان. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل: {يَتَّخِذَ} أو هما متعلقان ب {أَرْباباً} أو بمحذوف صفة له.

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا} انظر الآية السابقة. {اِشْهَدُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِأَنّا:} الباء: حرف جر. (أنّا): حرف مشبه. و (نا) اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {مُسْلِمُونَ:} خبر: (أنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:

{اِشْهَدُوا} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قولوا

) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها

إلخ. {فَإِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له، ورجّحه ابن هشام في المغني.

ص: 128

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65)}

الشرح: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ:} انظر الآية السابقة. {وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ..} . إلخ: قال الزجاج رحمه الله تعالى: هذا الآية: أبين حجة على اليهود، والنصارى:

إذا التوراة، والإنجيل أنزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كلّ كتاب؛ فكيف يكون يهوديّا، أو نصرانيّا، واليهودية، والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم بزمن طويل؟! {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أفلا تفهمون بطلان قولكم، ودحوض حجتكم يا معشر اليهود، والنصارى؛ حتى لا تجادلوا هذا الجدال المحال.

هذا؛ و ({أَهْلَ}): اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط. والأهل: العشيرة وذو القربى، ويطلق على الزوجة، والأتباع، والجمع: أهلون، وأهال، وآهال، وأهلات، وأهلات. وبالأوّلين قرئ قوله تعالى في سورة (التّحريم):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} .

{لِمَ:} كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف: اللام الجارة، والاسم:({ما}) الاستفهامية. وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كلّ جار، نحو قوله تعالى:{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها،} {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ،} {*عَمَّ يَتَساءَلُونَ،} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ،} وذلك للفرق بين الموصولة، والاستفهامية، ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار. ومن شواهدها الشعرية قول الكميت وهو الشاهد رقم [554] من كتابنا فتح القريب المجيب:[الطويل]

فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم

فحتّام حتّام العناء المطوّل؟

وأيضا عمر بن معد يكرب-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [250] من كتابنا المذكور: [الطويل]

علام تقول الرّمح يثقل عاتقي

إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت

وقد ثبتت ألفها مع دخول الجار عليها في ضرورة الشّعر، ومنه قول حسان بن ثابت-رضي الله عنه-يهجو رجلا من بني مخزوم، وهو الشاهد رقم [556] من الكتاب المذكور:[الوافر]

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في دمان

الإعراب: {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} انظر الآية السابقة، والجملة الندائية مستأنفة لا محل لها.

{لِمَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، وعلامة الجر الكسرة المقدرة على الألف المحذوفة للفرق بين الخبر، والاستخبار. {تُحَاجُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون،

ص: 129

والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها، كالجملة الندائية قبلها. {فِي إِبْراهِيمَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة.

{وَما:} الواو: واو الحال، ({ما}): نافية. {أُنْزِلَتِ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث.

{التَّوْراةُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{إِبْراهِيمَ} والرابط: الواو، والضمير المجرور محلاّ بالإضافة الآتي. {وَالْإِنْجِيلُ:} معطوف على ما قبله. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بالفعل: {أُنْزِلَتِ} والهاء في محل جر بالإضافة. {أَفَلا:} الهمزة:

حرف استفهام، وتقريع، وتأنيب، والفاء: حرف استئناف، أو حرف عطف. {تَعْقِلُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة مقدرة، التقدير: اطبع على قلوبكم، فلا تعقلون؟! والكلام كله معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين.

{ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)}

الشرح: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ:} المراد بهم أهل الكتابين. يعني: يا معشر اليهود، والنصارى! {حاجَجْتُمْ:} جادلتم، وخاصمتم. {فِيما لَكُمْ بِهِ} يعني: فيما وجدتم في كتبكم، وأنزل الله عليكم بيانه في أمر عيسى، وموسى، عليهما السلام، وادعيتم: أنكم على دينهما، وقد أنزل الله عليهما التوراة، والإنجيل؛ لتعملوا فيهما. {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ..}. إلخ؛ أي: فلم تجادلون، وتخاصمون في شيء لا علم لكم به، وهو دعواكم: أنّ إبراهيم كان يهوديّا، أو نصرانيّا؛ لأنه لا ذكر لذلك في التوراة، والإنجيل. {وَاللهُ يَعْلَمُ:} ما كان عليه إبراهيم-عليه السلام-من الدين، والشريعة. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ:} شيئا من شأن إبراهيم، وما كان عليه من الدين والشريعة.

الإعراب: (ها): حرف تنبيه لا محل له. (أنتم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {هؤُلاءِ:} الهاء: حرف تنبيه أيضا. (أولاء): اسم إشارة، مبني على الكسر في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها. {حاجَجْتُمْ} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، مقرّرة لما قبلها. هذا؛ ويعتبر الكوفيون:{هؤُلاءِ} اسما موصولا خبر المبتدأ، والجملة الفعلية صلة له، لا محلّ لها. ولم يجزه البصريّون؛ لأن:{هؤُلاءِ} اسم إشارة، ولا يكون بمعنى «الذين» . هذا وجه للإعراب.

الوجه الثاني: اعتبار الضمير مبتدأ، والجملة الفعلية خبره، و {هؤُلاءِ} منادى بأداة نداء محذوفة، والجملة الندائية معترضة بين المبتدأ، والخبر. وهذا عند الكوفيين، واستدلوا بقول ذي الرّمّة-وهو الشاهد رقم [1094] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

إذا هملت عيني لها قال صاحبي

بمثلك-هذا-لوعة وغرام

ص: 130

فإنه أراد: (يا هذا). والبصريّون يعتبرون حذف حرف النداء من اسمي الجنس، والإشارة شاذّا، وابن هشام يقول بقولهم، أمّا ابن مالك، فلم يعتبره شاذّا؛ لوروده في الشعر العربي، وخذ قوله:[الرجز]

وغير مندوب ومضمر وما

جا مستغاثا قد يعرّى فاعلما

وذاك في اسم الجنس والمشار له

قلّ ومن يمنعه فانصر عاذله

الوجه الثالث: اعتبار: {هؤُلاءِ} مفعولا به لفعل محذوف، التقدير: أعني هؤلاء، والجملة الفعلية معترضة بين المبتدأ، والخبر. الوجه الرابع:{ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ:} مبتدأ، وخبر على تقدير مضاف محذوف، التقدير: ها أنتم مثل هؤلاء، كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، فعلى هذا جملة:

{حاجَجْتُمْ} في محل نصب حال من {هؤُلاءِ،} والعامل في الحال معنى التشبيه.

الوجه الخامس: اعتبار {هؤُلاءِ} مبتدأ ثانيا، والجملة الفعلية خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول، وهو الضمير.

{فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {بِهِ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {عِلْمٌ} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا على القاعدة المعروفة: «نعت النكرة

إلخ». وهذا قول أبي البقاء، وسليمان الجمل، وهذا ضعيف؛ لأنّ كثيرا من النّحاة لا يجيزون مجيء الحال من المبتدأ، والأولى تعليقهما بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {عِلْمٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية:{لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ:} صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء. {فَلِمَ تُحَاجُّونَ:} انظر الآية السابقة. فهي مثلها في إعرابها، والفاء تحتمل أن تكون حرف استئناف، وان تكون حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأعتبرها في مثل ذلك الفصيحة. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس تقدم على اسمها. {بِهِ:} جار ومجرور، قل فيهما ما ذكرته فيما قبلهما. {عِلْمٌ:} اسم ليس مؤخر، والجملة الفعلية (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالباء.

{وَاللهُ:} الواو: واو الحال. ({اللهُ}): مبتدأ. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والمفعول محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالباء، والرابط الواو فقط، وهي مؤولة بظرف كما رأيت في الآية رقم [57]. {وَأَنْتُمْ:} الواو: حرف عطف. (أنتم): مبتدأ. {لا:} نافية.

ص: 131

{تَعْلَمُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.

{ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)}

الشرح: هذه الآية ردّ لما ادعى اليهود، والنصارى في شأن إبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً:} مائلا عن الأديان الباطلة كلها إلى دين التوحيد.

والحنيف: هو الذي يوحد، ويحجّ، ويضحّي، ويختتن، ويستقبل القبلة في صلاته، وهو أحسن الأديان، وأسهلها، وأحبّها إلى الله عز وجل، قال الشاعر المسلم:[الوافر]

ولكنّا خلقنا إذ خلقنا

حنيفا ديننا عن كلّ دين

ورجل حنيف: هو الذي تميل قدماه كلّ واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف بن قيس-رضي الله عنه: [الرجز]

والله لولا حنف برجله

ما كان في فتيانكم من مثله

وقال قوم: الحنف: الاستقامة، فسمّي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته، وسمّي معوجّ الرجلين: أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للّديغ: سليم، وللمهلكة: مفازة. {مُسْلِماً:}

موحدا، وليس المراد: أنه كان على ملة الإسلام، التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ولو قلنا بذلك لردّ علينا بما رددنا به على اليهود، والنصارى من أنّ ملة الإسلام الحادثة حدثت بعد إبراهيم بزمن طويل، فكيف يكون إبراهيم عليها؟! وقل مثل ذلك في إسلام نوح، وغيره من الأنبياء من أنّ المراد بإسلامهم التوحيد. {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} هذا تعريض بأنّ اليهود، والنصارى مشركون، لقولهم: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله. وفيه أيضا ردّ على مشركي قريش في ادّعائهم: أنهم على ملة إبراهيم، وتعريض بشركتهم لعبادتهم الحجارة؛ التي لا تنفع، ولا تضرّ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه!

الإعراب: {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {إِبْراهِيمُ:} اسمها. {يَهُودِيًّا:} خبرها، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي.

{نَصْرانِيًّا:} معطوف على: {يَهُودِيًّا} . {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{إِبْراهِيمُ} . {حَنِيفاً:}

خبرها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {مُسْلِماً:} صفة: {حَنِيفاً:}

صفة مؤكدة. {وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه

ص: 132

يعود إلى: {إِبْراهِيمُ} أيضا. {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}

الشرح: {إِنَّ أَوْلَى..} . إلخ؛ أي: أحقّ الناس بالانتساب إلى إبراهيم أتباعه؛ الذين سلكوا طريقه، ومنهاجه في عصره، وبعده. {وَهذَا النَّبِيُّ} أي: محمد صلى الله عليه وسلم حثّ أمّته على الاقتداء به في سيرته. وأفرد ذكره تعظيما له صلى الله عليه وسلم. وقد كان نبينا موافقا لإبراهيم في التوحيد، وفي أكثر فروع الشريعة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي: من أمة محمد، فهم أحق أيضا بإبراهيم. {وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} أي: متولي أمورهم، وناصرهم، وحافظهم من شرّ أعدائهم.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: قال رؤساء اليهود: لقد علمت يا محمد! أنّا أولى الناس بإبراهيم منك، ومن غيرك، فإنّه كان يهوديّا، وما بك إلا الحسد لنا! فأنزل الله هذه الآية.

هذا؛ وقد ذكر الخازن: أنّ سبب نزول الآية ما حدث لجعفر بن ابي طالب عند النّجاشي حين حاولت قريش ردّهم إليها. ولم يذكر ذلك غيره. والله أعلم، وأجلّ، وأكرم.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَوْلَى:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و {أَوْلَى} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه. {بِإِبْراهِيمَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَوْلَى} وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية والعجمة. {لَلَّذِينَ:} اللام هي المزحلقة. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها. {وَهذَا:} الواو: حرف عطف. الهاء: حرف تنبيه لا محل لها. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع معطوف على الموصول. {النَّبِيُّ:} بدل، أو عطف بيان من اسم الإشارة. {وَالَّذِينَ آمَنُوا:}

معطوف على: (الذين {اِتَّبَعُوهُ}) وأجيز النعت. {وَاللهُ وَلِيُّ:} مبتدأ، وخبر. والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، واعتبارها حالا، على اعتبارها مؤوّلة بظرف كما في الآية رقم [57] سديد.

{وَلِيُّ:} مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)}

الشرح: {وَدَّتْ:} تمنّت، وأحبّت، وأرادت. {طائِفَةٌ:} جماعة من الناس، ولا واحد لها من لفظها مثل: فريق، ورهط، ونفر. وجمعها: طوائف. {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ:} المراد بهم:

ص: 133

اليهود. {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ:} يخرجونكم عن الإيمان، والإسلام. {وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ} لأن إثم إضلالهم يعود عليهم، والمؤمنون لا يطيعونهم فيه، فيبوءون بإثم ما تمنوا به إضلال المؤمنين.

{وَما يَشْعُرُونَ:} الشعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، ويخفى، مشتقّ من الشّعر لدقته، وسمي الشاعر شاعرا؛ لفطنته، ودقة معرفته. {وَما يَشْعُرُونَ} أنّ وبال تمنيهم راجع على أنفسهم، وأنهم سيحاسبون حسابا عسيرا، وسيعاقبون عقابا شديدا.

تنبيه: نزلت الآية الكريمة في معاذ بن جبل. وحذيفة بن اليمان، وعمّار بن ياسر-رضي الله عنهم أجمعين-حين دعاهم اليهود من بني النضير، وبني قريظة وبني قينقاع إلى دينهم. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [109]:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} .

الإعراب: {وَدَّتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {طائِفَةٌ:} فاعله. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان بمحذوف صلة: {طائِفَةٌ} . و {أَهْلِ:} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {لَوْ:} حرف مصدري. {يُضِلُّونَكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، و {لَوْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ودت طائفة

إضلالكم. وإن اعتبرت: {لَوْ} حرف امتناع لامتناع؛ يكون جوابها محذوفا، ويكون مفعول:{وَدَّتْ} محذوفا، ويكون التقدير: ودت طائفة إضلالكم، وكفركم، لو يضلونكم؛ لسرّوا بذلك، وفرحوا. انتهى جمل نقلا من السّمين.

والأول أسهل، وأولى بالاعتبار؛ لأنه لا حذف فيه، ولا تقدير.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {يُضِلُّونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {إِلاّ:}

حرف حصر. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فلا بأس، والرابط: الواو، والضمير، وجملة:{وَما يَشْعُرُونَ} معطوفة عليها على الاعتبارين.

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}

الشرح: {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} الخطاب لليهود اللّؤماء. {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ} يعني:

القرآن. أو المراد: الآيات الواردة في التوراة، والإنجيل من نعت محمّد صلى الله عليه وسلم وصفته.

وتحريفهم، وتبديلهم ما فيها من البشارة بنبوته، والأمر باتباعه، والاهتداء بهديه. {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ:} أن نعته، وصفته مذكور في التوراة، والإنجيل، وذلك: أن أحبار اليهود، كانوا يكتمون الناس نعته، وصفته فإذا خلا بعضهم ببعض؛ أظهروا ذلك فيما بينهم، وشهدوا: أنه حقّ. ولا تنس: أن الاستفهام للتوبيخ، والتأنيب.

ص: 134

الإعراب: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [65].

{بِآياتِ:} متعلقان بما قبلهما، و (آيات) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَشْهَدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}

الشرح: {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} الخطاب لليهود الخبثاء. {لِمَ} الاستفهام للتوبيخ، والتأنيب.

{تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ:} اللبس: الخلط، يقال: لبست عليه الأمر، ألبسه: إذا مزجت بيّنه بمشكله، وحقّه بباطله، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [9]:{وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ} ومن هذا المعنى قول عليّ-رضي الله عنه-للحارث بن حوط: يا حارث! إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرّجال، اعرف الحق؛ تعرف أهله. وقالت الخنساء-رضي الله عنه:[البسيط]

ترى الجليس يقول الحقّ تحسبه

رشدا، وهيهات، فانظر ما به التبسا

صدّق مقالته، واحذر عداوته

والبس عليه أمورا مثل ما لبسا

وروى سعيد بن جبير عن قتادة يقول: لا تلبسوا اليهودية، والنصرانية بالإسلام؛ وقد علمتم:

أنّ دين الله الذي لا يقبل غيره، ولا يجزي به الإسلام، وأنّ اليهودية، والنصرانية بدعة، وليست من الله. وعن ابن عباس، وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحقّ في الكتاب بالباطل، وهو التغيير، والتبديل؛ الذي فعلوه في التوراة. وقال أبو العالية: قالت اليهود: محمد مبعوث، ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حقّ، وجحدهم: أنه بعث إليهم باطل. {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ} أي: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته الموجودين في التوراة، والإنجيل. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أن نبوّته حق. وانظر الآية السابقة، والآية مذكورة بحروفها ومعناها في سورة (البقرة)[42].

هذا؛ و ({تَكْتُمُونَ}) ماضيه: كتم، من باب: نصر، وربما عدّي إلى مفعولين، فيقال: كتمت زيدا الحديث. وقال تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} والأكثر: أن يتعدى للثاني بحرف الجر، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [159]:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} وتزاد «من» جوازا في المفعول الأول، فيقال: كتمت من زيد الحديث، وقد تعدّى في الآية الكريمة إلى مفعول واحد. وكتم الشيء: بالغ في كتمانه، أي: في إخفائه. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» . قال صاحب القاموس: والكتم-محركة-والكتمان-بالضم-:

نبت يخلط بالحناء، ويخضب به الشّعر، ويصنع منه مداد الكتابة. انتهى. ورحم الله البوصيري إذ يقول:[البسيط]

ص: 135

فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت

من جهلها بنذير الشّيب والهرم

ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم

لو كنت أعلم أني ما أوقّره

كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم

أمّا (الباطل) فهو ضدّ الحق، و (الباطل) بمعنى الفاسد، والبطلان عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته، ونفعه. هذا؛ وبطل من باب: دخل، والبطل-بفتحتين-: الشجاع، والبطل-بضم فسكون-: الباطل، والكذب، والزور، والبهتان، والبطالة: التعطّل، والتفرّغ من العمل، ويجمع باطل على: أباطيل شذوذا، كما شذ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع، في جمع حديث، وعريض، وفظيع. هذا؛ ومبطل اسم فاعل من: أبطل الرّباعي. هذا؛ والباطل في قوله تعالى في سورة (فصلت): {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} . قال السّدّيّ، وقتادة:

الباطل: الشيطان: لا يستطيع أن يغير في القرآن شيئا، ولا يزيد، ولا ينقص منه، وقوله تعالى في سورة (الشورى):{وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ} الباطل: الشرك، والبطلة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا تستطيعها البطلة» أي: لا تستطيع قراءة سورة (البقرة)، و (آل عمران) السّحرة.

الإعراب: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [65]{الْحَقَّ:} مفعول به. {بِالْباطِلِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:({تَكْتُمُونَ الْحَقَّ}) معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. وانظر مثلها في الآية السابقة.

{وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصّيف، وكانا من أحبار اليهود، فإنما قالا لأصحابهما لما حوّلت القبلة إلى الكعبة المعظّمة: آمنوا بما أنزل على المسلمين من تحويل القبلة، وصلّوا معهم إلى جهة الكعبة أول النهار، ثم صلّوا إلى صخرة بيت المقدس آخره، لعلهم يقولون: هم أعلم منا؛ وقد رجعوا، فيرجعون. وقيل: إن اثني عشر من أحبار اليهود تقاولوا فيما بينهم بأن يدخلوا في الإسلام أول النهار، ويقولوا في آخره: نظرنا في كتابنا، وشاورنا علماءنا، فلم نجد محمدا بالنّعت الذي ورد في التوراة. لعلّ أصحابه يشكّون فيه، فيرجعوا عن دينهم، ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم أعلم منّا، فيرجعون إلى قبلتنا.

فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خبثهم، وما بيتوه من مكرهم، وأنزل الله هذه الآية؛ التي كشفت سوء صنيعهم، فلم يتم لهم ما دبّروا، ومكروا، ولم يحصل لمكيدتهم في قلوب المسلمين أيّ أثر،

ص: 136

ولولا هذا الإعلام من الله تعالى لرسوله؛ لكان ربما أثّر ذلك في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف. انتهى. بيضاوي وخازن بتصرف كبير. ووجه النهار: أوله، وسمي وجها؛ لأنّه أحسنه، وأوّل ما يواجه منه، قال لبيد-رضي الله عنه:[الكامل]

وتضيء في وجه النّهار منيرة

كجمانة البحريّ سلّ نظامها

وفي معلّقته: «في وجه الكلام» وقال آخر: [الكامل]

من كان مسرورا بمقتل مالك

فليأت نسوتنا بوجه نهار

الإعراب: {وَقالَتْ:} الواو: حرف استئناف. ({قالَتْ}): فعل ماض، والتاء للتأنيث.

{طائِفَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان بمحذوف صفة:

{طائِفَةٌ} و {أَهْلِ:} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {آمِنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{بِالَّذِي:} جار ومجرور، متعلقان بما قبلهما. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:(الذي) وهو العائد، والجملة الفعلية صلته، لا محل لها. {عَلَى الَّذِينَ:}

متعلقان بما قبلهما. {آمِنُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول. {وَجْهَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {النَّهارِ} مضاف إليه. {وَاكْفُرُوا:} فعل أمر، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{آمِنُوا..} . إلخ، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {آخِرَهُ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {يَرْجِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها.

{وَلا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73)}

الشرح: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ:} هذا متصل بما قبله، وهو من قول اليهود، يقول بعضهم لبعض: ولا تصدقوا إلا من تبع ملّتكم، وهي اليهودية. أو: لا تقرّوا، وتعترفوا بما نقول لكم إلا لأتباعكم في الدين. {قُلْ} هذا خطاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. {إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ} أي:

إنّ الدين دين الله، والبيان بيانه، هو الذي يهدي من يريد سعادته في الدنيا، والآخرة، بما يقيم له من الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحجج الواضحات، وإن أقمتم أيها اليهود المكايد، والحيل لتضليل المسلمين؛ فإنّ الهداية بيد الله.

ص: 137

{أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ} فهذا متصل بكلامهم السّابق؛ أي: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم، والحكمة، والكتاب، والآيات من فلق البحر، وإنزال المنّ، والسلوى عليكم.

{أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} أي: ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم؛ لأنّكم أصح دينا منهم. وقيل: ({أَوْ}) بمعنى: «حتى» كما قرئ: («إن») بكسر الهمزة، فيكون المعنى: ما أعطى الله أحدا من النعم مثل ما أعطيتم يا أمة محمّد من الدّين، والحجّة، والبرهان؛ حتى يحاجّوكم عند ربكم، فيكون من كلام الله، وليس حكاية عن قول اليهود، وهو في محل نصب مقول القول، أو هو مستأنف.

هذا؛ وقرأ ابن كثير: («آن») بالمدّ على الاستفهام، والتوبيخ، فيكون المعنى، والتقدير: ألأن يعطى أحد مثل ما أعطيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة، فتحسّونه، ولا تؤمنون به، فيكون كلّه من كلام الله تعالى، ثبّت به قلوب المؤمنين؛ لئلا يشكوا بسبب تلبيس اليهود، وتزويرهم في دينهم، فتكون الآية كلّها خطابا للمؤمنين عند تلبيس اليهود؛ لئلا يرتابوا، ولا يشكّوا.

{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} أي: الأمور كلّها تحت تصرّفه، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء بالإيمان، والعلم، والتصرّف التام، ويضلّ من يشاء، فيعمي بصره، وبصيرته، ويختم على قلبه، وسمعه، ويجعل على بصره غشاوة. وله الحجّة، والحكمة البالغة.

{وَاللهُ واسِعٌ:} يسع خلقه كلهم بالكفاية، والرزق، والجود، والعطاء، وهو واسع الفضل، والرحمة. وقيل: واسع القدرة، والعلم، والرزق. وقيل: هو الغني الّذي وسع جميع مخلوقاته غناه. {عَلِيمٌ} بأفعال عباده، ما يغيب عنه منها شيء، قال تعالى:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .

الإعراب: ({لا}): ناهية جازمة. {تُؤْمِنُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلاّ:} حرف حصر. {لِمَنْ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: اللام زائدة، و (من): مفعول به فهو مجرور لفظا منصوب محلاّ. وقيل: (من) منصوبة على الاستثناء على معنى: ولا تؤمنوا لأحد إلا من، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تَبِعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:(من) وهو العائد، أو الرابط، والجملة صلته، أو صفته. {دِينَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلا تُؤْمِنُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {آمِنُوا} في الآية السابقة فهي محل نصب مقول القول مثلها.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره أنت. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْهُدى:}

اسمها. {هُدَى:} خبرها، وعلامة النصب في الأول وعلامة الرفع في الثاني مقدرتان على الألف للتعذر، و {هُدَى} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ معترضة، أو مستأنفة حسب ما رأيت في الشرح. {إِنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {يُؤْتى:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {إِنَّ} وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {أَحَدٌ:} نائب فاعله، وهو المفعول

ص: 138

الأول. {مِثْلَ:} مفعول به ثان، و {مِثْلَ:} مضاف، و {ما:} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أُوتِيتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، والتاء نائب فاعل، وهو المفعول الأول، والجملة الفعلية صلة:({ما}) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، وهو المفعول الثاني، التقدير: مثل الذي، أو: شيء أوتيتموه، والمصدر المؤوّل من:{أَنْ يُؤْتى} مفعول به لفعل محذوف، والفعل المحذوف، ومفعوله معطوف على ما قبله، وعليه فالجملة الاسمية:{إِنَّ الْهُدى..} . إلخ معترضة. هذا وجه للإعراب، كما أجيز اعتبار المصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن يؤتى، وهذا عند الخليل. أو المصدر في محل نصب بنزع الخافض عند سيبويه، وهناك وجه آخر، وهو: أن المصدر في محل نصب مفعول لأجله على حذف مضاف، التقدير: مخافة إتيان، وهذا عند البصريين. وعند الكوفيين، التقدير: لئلا يؤتى، وعلى جميع التقديرات؛ فتبقى الجملة الاسمية معترضة.

هذا؛ وعلى قراءة: («إن») بكسر الهمزة، فالجملة منفية، وهي في محل نصب مقول القول، وعلى قراءة:(«آن») بمد الهمزة، فالمصدر المؤول في محل رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، تصدقون، أو تقرون؛ أي: إيتاء موجود مصدّق، أو مقرّ به، كما جوز أن يكون المصدر في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أتقرون أن يؤتى، أو: تذكرون ذلك، ونحوه، وعلى هذه القراءة؛ فالكلام مرتبط بما قبله، والجملة الاسمية معترضة، كما أجيز اعتبار المصدر في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو: إتيان. قال الواحدي-رحمه الله تعالى-:

وهذه الآية من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيرا، وإعرابا، ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير، والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولا يطرد فيها من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى، وصحة النظم.

{أَوْ:} حرف عطف. {يُحاجُّوكُمْ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به. وقيل: إنّ النصب بأن مضمرة بعد: {أَوْ} لأنها هنا بمعنى: «حتّى» أو «إلا أن» فالأول كقول امرئ القيس: [الطويل]

فقلت له لا تبك عينك إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

والثاني كقول زياد الأعجم-وهو الشاهد رقم [146] من كتابنا فتح رب البرية، والشاهد رقم [104] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

{عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّكُمْ:} مضاف إليه. والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْفَضْلَ:} اسمها. {بِيَدِ:} متعلقان بمحذوف خبرها، و (يد) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول

ص: 139

القول، وجملة:{قُلْ:} إلخ مستأنفة، لا محل لها. {يُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل يعود إلى ({اللهِ}) والهاء مفعول به أول. {مَنْ} مفعول به ثان، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} والجملة الفعلية صلة: {مَنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يؤتيه الذي، أو:

شخصا يشاؤه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ثان ل:{إِنَّ} وقيل: هي مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} معترضة في آخر الكلام متضمنة للتهديد، والوعيد.

{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}

الشرح: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ:} بنبوته، وتوفيقه، وهدايته. {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} يعني:

أن كلّ خير يناله عباده في دينهم، ودنياهم فإنّه من الله تعالى تفضلا عليهم، ومنّة من غير استحقاق منهم لذلك، بل له المنة، والفضل على عباده. هذا؛ وذكرت في سورة (البقرة) نقلا عن الجمل: أنّ الفعل: {يَخْتَصُّ} يستعمل متعديا، ولازما، فعلى التعدي فاعله مستتر فيه، والموصول بصلته في محل نصب على المفعولية، والمعنى: والله يختص

إلخ وعلى اللزوم الفاعل هو الموصول بصلته، والمعنى: والله يتميّز برحمته من يشاء الله تمييزه. انتهى. ولم أجده لغيره، كما لم أجده في كتب اللغة. وهذه الآية مذكورة بحروفها في سورة (البقرة) برقم [105] وفي الآية الكريمة ردّ، وإبطال لما زعموه بالحجّة الواضحة.

الإعراب: {يَخْتَصُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهِ}). {بِرَحْمَتِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَنْ يَشاءُ:} انظر مثله في الآية السابقة، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {ذُو} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:} مضاف، و {الْفَضْلِ:} مضاف إليه.

{الْعَظِيمِ:} صفة ({الْفَضْلِ}) والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من فاعل:{يَخْتَصُّ} المستتر؛ فلست منفدا، ويكون الرابط الواو، وإعادة لفظ الجلالة.

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة في اليهود، فأخبر الله تعالى: أن فيهم أمانة، وخيانة. وقسمهم قسمين. والقنطار: عبارة عن المال الكثير، كما رأيت في الآية رقم [14]. والدّينار: عبارة عن

ص: 140

المال القليل. وهو أربعة وعشرون قيراطا، والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعيرات، مجموعه اثنتان وسبعون حبّة. هذا؛ والدينار أصله: دنّار، فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للخفة لكثرة استعماله، يدل عليه أنه يجمع: دنانير، ويصغّر: دنينير، ورحم الله من يقول فيه:[البسيط]

النّار آخر دينار نطقت به

والهمّ أخر هذا الدّرهم الجاري

والمرء بينهما إن كان ذا ورع

معذّب القلب بين الهمّ والنّار

هذا؛ والأول من أهل الكتاب هو عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-كان حبرا من أحبار اليهود؛ الذين هداهم للإيمان، استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأداه إليه لمّا طلبه بدون تأخير. والثاني هو فنحاص بن عازوراء استودعه قرشي آخر دينارا، فجحده. وقيل:

هو كعب بن الأشرف. {إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً} إلا في مدة دوامك قائما على رأسه مبالغا في مطالبته، بالتقاضي، والترافع، وإقامة البينة لردّ الحق، والأمانة منه، هذا وذكر الله تعالى قسمين: من يؤدّي، ومن لا يؤدّي إلا بالملازمة له، وقد يكون من الناس من لا يؤدي، وإن دمت عليه قائما، وما أكثرهم في هذا الزّمن! هذا؛ و {دُمْتَ} بضم الدال من باب فعل، يفعل، مثل: قال، يقول، ودام يدوم، وقرئ بكسر الدال فعل يفعل، مثل خاف يخاف، على دام يدام، وكذلك:(متّ) فيمن كسر الميم أو ضمها.

{ذلِكَ:} الإشارة إلى ما يفعلونه من خيانة الأموال. والإشارة بالبعيد للإيذان بكمال غلوّهم في الشرّ، والفساد. {بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ..}. إلخ؛ أي: ليس علينا حرج، ومؤاخذة في أكل أموال من ليس على ديننا من العرب؛ لمخالفتهم لنا في الدّين. وادّعوا: أنّ ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله عز وجل، بقوله:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ:} أنهم كاذبون في دعواهم.

هذا؛ و {الْأُمِّيِّينَ} جمع: أمّيّ، وهو من لا يحسن القراءة، والكتابة، وهي صفة ذمّ إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنّها له صفة مدح؛ لأنه أتى بعلوم الأوّلين، والآخرين، كما رأيته في الآية رقم [157] من سورة (الأعراف) وأميّ منسوب إلى الأم؛ التي ولدته، أو إلى الأمة، وهي القامة، والخلقة، كأن الذي لا يقرأ، ولا يكتب قائم على الفطرة، والجبلّة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّا أمّة أمّيّة، لا نكتب، ولا نحسب، الشّهر هكذا، وهكذا، وهكذا

» الحديث، أو هو منسوب إلى الأمة؛ لأنّها ساذجة قبل أن تعرف المعارف. هذا؛ و (السّبيل) الطريق يذكّر، ويؤنث بلفظ واحد، فمن التذكير قوله تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} .

ومن التأنيث قوله تعالى: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ} والجمع على التأنيث: سبول، وعلى التذكير: سبل-بضمتين-وسبل، بضمّ، وسكون.

ص: 141

هذا؛ والأمانة عظيمة القدر في الدّين، ومن عظم قدرها: أنها تقوم هي، والرّحم على جنبتي الصراط-كما في صحيح مسلم-فلا يمكّن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة-رضي الله عنه-قال: حدّثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال: «ينام الرجل النّومة، فتقبض الأمانة من قلبه

إلخ» وهو مذكور بطوله في كتاب التّرغيب والترهيب. وانظر ما ذكرته في آخر سورة (الأحزاب) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، وخذ هنا ما يلي:

عن عمران بن حصين-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير القرون قرني، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يكون بعدهم قوم يشهدون، ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون، ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن» . رواه البخاري، ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» رواه البخاريّ، ومسلم، ورواه أبو يعلى من حديث أنس-رضي الله عنه-قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ثلاث من كنّ فيه فهو منافق، وإن صام، وصلّى، وحجّ، واعتمر، وقال: إنّي مسلم» .

وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه؛ كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ؛ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . رواه البخاريّ، ومسلم.

عن صعصعة بن يزيد: أن رجلا سأل ابن عباس-رضي الله عنهما. فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة الدّجاجة، والشاة. قال ابن عباس: فتقولان ماذا؟ قال، نقول: ليس علينا بذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} . إنّهم إذا أدّوا الجزية؛ لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.

الإعراب: {وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنْ أَهْلِ}): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، و {أَهْلِ:} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذا الكلام، ولا أعتمده، وإنّما أعتمد ما أذكره في الآية رقم [110] الآتية. {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{تَأْمَنْهُ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت، والهاء مفعول به.

{بِدِينارٍ:} متعلقان بما قبلهما، والباء الجارة بمعنى: على، ومثله قول راشد بن عبد ربه السّلمي رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [157]: من كتابنا فتح القريب المجيب، والشاهد رقم [474] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الطويل]

أربّ يبول الثّعلبان برأسه؟

لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب

والجملة الفعلية: {تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {يُؤَدِّهِ:} جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء،

ص: 142

والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى:{مِنْ} والهاء مفعول به. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها صلة:{مِنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط المفعول في الجملة الأولى، والفاعل في الجملة الثانية؛ لأنّ كليهما عائد على:{مَنْ} والجملة الاسمية:

{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} هذا الكلام مثل سابقه محلاّ، وإعرابا. {إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} ظرفية مصدرية. {دُمْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.

{قائِماً:} خبر «دام» و {ما} والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب على الظرفية الزمانية، متعلق بالفعل:{لا يُؤَدِّهِ} وهو في الأصل مستثنى من الظرف العام؛ إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع الأزمان إلا في مدّة دوامك قائما عليه. وقيل: متعلق بحال محذوفة. ولا وجه له.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه.

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} تقدّم على اسمها. {فِي الْأُمِّيِّينَ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر فيه، ويقال: متعلقان بمحذوف حال من: {سَبِيلٌ} بعدهما، والتقدير: في أموال الأميين. {سَبِيلٌ:} اسم ليس مؤخر، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا} إلخ في محل رفع خبر (أنّ) و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف عطف. ({يَقُولُونَ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكَذِبَ:} مفعول به؛ لأنّ الفعل بمعنى:

يفترون، ولو كان القول على حقيقته؛ لما نصبه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{قالُوا} فهي في محل رفع مثلها، أو هي في محل نصب حال، ولكن يجب تقدير مبتدأ قبلها، فتكون في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، وتقدير الكلام: وهم يقولون. {وَهُمْ يَعْلَمُونَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [71].

{بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاِتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)}

الشرح: {بَلى:} ردّ لما ادعاه اليهود في الآية السابقة من: أنّه ليس عليهم إثم، ومؤاخذة في أكل أموال العرب الأميين؛ أي: بلى عليهم السّخط، والعذاب، والغضب بكذبهم، واستحلال أموال الناس بغير حقّ. {مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى:} هذه الجملة مقررة للجملة الّتي سدّت: {بَلى}

ص: 143

مسدها، والمعنى من أدى حقوق الناس، ووفى بعهوده، ووعوده، واتقى الله، وخافه في جميع تصرفاته؛ فإنّ الله يحبه، ويرحمه، ويدخله جنته. هذا؛ والمراد ب {مَنْ} الجماعة، والناس، وقد وضع الظاهر؛ أي:{الْمُتَّقِينَ} موضع المضمر، فإن الأصل: يحبهم، وذلك لإظهار شرف الموفين بعهد الله، والخائفين منه. هذا؛ وقيل: نزلت الآية في عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-وليس ذلك ببعيد، ومع ذلك فهي تعمّ كلّ من يفعل ذلك إلى يوم القيامة؛ لأن خصوص السبب لا يمنع التعميم.

هذا؛ و «بلى» حرف جواب، ك (نعم)، وجير، وأجل، وإي، إلا أنّ «بلى» حرف جواب لنفي متقدّم؛ أي: وإبطال، ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام، أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد، فتقول: بلى، أي: قام. وقوله: أليس زيد قائما؟ فتقول:

بلى. أي: هو قائم، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [172]:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم؛ لكفروا.

هذا؛ وعهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود؛ الأول: العهد الذي أخذه على جميع ذرية آدم-عليه السلام-بأن يقرّوا بربوبيته، وهو قوله تعالى في سورة (الأعراف):{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} . والعهد الثاني: خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة، ويقيموا الدّين، وهو قوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [7]:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ..} . إلخ. والعهد الثالث: خصّ به العلماء من كلّ أمة، وهو قوله في هذه السورة رقم [187]:{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} .

الإعراب: {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول؛ إذ التقدير: قل: يا محمد: بلى.

{مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَوْفى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {بِعَهْدِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَاتَّقى:} الواو: حرف عطف. ({اِتَّقى}): معطوف على ما قبله، فهو مثله في محل جزم، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} أيضا. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إن): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

{اللهَ} . {الْمُتَّقِينَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن). والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، كما رأيت فيما سبق، هذا وإن اعتبرت ({مَنْ}) اسما موصولا؛ فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} .

إلخ في محل رفع خبرها، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية {مَنْ أَوْفى..} . إلخ على الوجهين مستأنفة، لا محل لها. وقيل: جواب الشرط أو الخبر محذوف: تقديره: يحبه الله. ودل على حذفه قوله: {فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} انتهى جمل نقلا من السّمين. وهو قول ابن هشام في المغني، وعليه؛ فالجملة الاسمية هذه تعليلية، لا محل لها.

ص: 144

{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ (77) ?????? U}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ:} يستبدلون. ففيه استعارة تبعية، فالاشتراء مستعار للاستبدال، فعبر عنه بالاشتراء؛ لأن الشراء إنما يكون فيما يحبّه مشتريه. {بِعَهْدِ اللهِ:} بما عهد إليهم في التوراة من الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم، ومن الوفاء بالأمانات؛ التي عهد عليهم فيها.

{وَأَيْمانِهِمْ:} بما حلفوا به من قولهم: لنؤمننّ به، ولننصرنّه. {ثَمَناً قَلِيلاً:} عرض الدنيا؛ إذ كل ما فيها قليل، لا قيمة له بجانب الآخرة. {أُولئِكَ} الموصوفون بما ذكر. {لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ:} لا نصيب لهم في الآخرة، ونعيمها الدائم، وسعادتها الأبدية. {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ} أي: تكليم رضا، ورحمة، وإنّما يكلّمهم تكليم سخط، وغضب، مثل قوله تعالى:{اِخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} . {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: نظر رحمة، ورضا، وإنّما ينظر إليهم نظر سخط. ومقت، وكلّ إنسان، وكلّ مخلوق في هذا الكون لا يعزب عن علم الله أبدا. وقيل:

المراد به هنا: الإعراض؛ لأن من سخط على غيره، واستهان به؛ أعرض عنه، وعن التكلّم معه، والالتفات إليه، والمرضي عنه بالعكس. و {يَوْمَ الْقِيامَةِ:} هو اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم للحساب والجزاء. وأصل القيامة: القوامة، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها.

{وَلا يُزَكِّيهِمْ:} لا يطهّرهم من دنس الذنوب بالعذاب المنقطع، إلى النعيم الدائم، بل يخلدهم في النار. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:} مؤلم.

بعد هذا قال عكرمة-رحمه الله تعالى-: نزلت هذه الآية في أحبار اليهود، ورؤسائهم: أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب؛ الّذين كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فبدلوه، وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا: أنه من عند الله، لئلا تفوتهم الرّشا، والمآكل؛ التي كانوا يأخذونها من أتباعهم، وسفلتهم.

وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: روى الأئمة عن الأشعث بن قيس-رضي الله عنه.

قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل لك بينة؟» قلت: لا، قال لليهودي: احلف، قلت: إذا يحلف. فيذهب بمالي. فأنزل الله تعالى الآية. بعد هذا أقول: الآية تعمّ كل واحد يفعل شيئا من ذلك إلى يوم القيامة؛ لأن خصوص السبب، لا يمنع التعميم. وخذ ما يلي:

فعن أبي أمامة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه؛ فقد حرّم الله عليه الجنّة، وأوجب له النّار» . فقالوا: يا رسول الله! وإن كان شيئا يسيرا؟! «قال:

وإن كان قضيبا من أراك». أخرجه مسلم. وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على مال امرئ مسلم، بغير حقّه؛ لقي الله؛ وهو عليه غضبان» .

ص: 145

قال ابن مسعود: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله-عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ..} . إلخ. متفق عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة.

تنبيه: دلّت الآية الكريمة، والأحاديث الصّحيحة: أنّ حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر؛ إذا علم المحكوم له بطلانه. وقد روى الأئمّة عن أم سلمة-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّكم تختصمون إليّ، وإنّما أنا بشر مثلكم، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض، وإنّما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئا؛ فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من النّار، يأتي بها يوم القيامة» .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {يَشْتَرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِعَهْدِ:} متعلقان بما قبلهما، و (عهد): مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَأَيْمانِهِمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.

{ثَمَناً:} مفعول به. {قَلِيلاً:} صفة له. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لا:} نافية للجنس، تعمل عمل:«إنّ» {خَلاقَ:}

اسم. {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:

{لا،} {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية:

{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محل لها.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يُكَلِّمُهُمُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به.

{اللهِ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محل لها مثلها، والجملتان بعدها معطوفتان عليها. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({لَهُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا.

{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)}

الشرح: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً} أي: من المحرّفين للتوراة، ككعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وغيرهم جماعة. {يَلْوُونَ:} يميلون عن قراء التوراة الصحيحة إلى

ص: 146

قراءة ما حرّفوه، وزيّفوه منها. ومنه قوله تعالى في سورة (النّساء) رقم [46]:{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} . انظر شرح (الكتاب) في الآية [3]. {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ:} يحرفون الكلم عن مواضعه؛ لتظنّوه من التوراة، وما هو منها. {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: ما فعلوه من التحريف، والتزييف. {وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ:} ليس من عند الله قطعا. وباقي الكلام ظاهر معناه.

{أَلْسِنَتَهُمْ} جمع: لسان، وهو على هذا مذكر، كحمار، وأحمرة، ويجمع أيضا على:

لسن، بضم اللاّم، وضمّ السّين، وتسكينها أيضا. ويجمع أيضا على: ألسن، وهو على هذا مؤنث كذراع، وأذرع، وتصغيره على التذكير: لسين، وعلى التأنيث: لسينة، وقد يجعل اللسان كناية عن كلمة السّوء، كما في قول الشاعر-وهو الشّاهد رقم [330] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

لسان السّوء تهديها إلينا

وحنت وما حسبتك أن تحينا

فيؤنّث لا غير، كما يجعل كناية عن الرّسالة، أو القصيدة من الشّعر، كقول الآخر:[البسيط]

إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها

من علو لا عجب منها ولا سخر

قال الجوهري: يروى: «من علو» بضم الواو، وفتحها، وكسرها. وفي سورة (النحل) رقم [103] حيث قال جلّ ذكره:{وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} . كما أطلقه على الثناء الجميل، والذكر الحسن في قوله جلّ ذكره في سورة (مريم)، على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} .

الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف عطف. ({إِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: ({إِنَّ}) تقدّم على اسمها. {لَفَرِيقاً:} اللام: لام الابتداء.

(فريقا): اسم ({إِنَّ}) مؤخر.

{يَلْوُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {أَلْسِنَتَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:(فريقا) والجملة الاسمية: {وَإِنَّ..} . إلخ معطوفة على الآية رقم [75]: لا محل لها أيضا. {بِالْكِتابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، {لِتَحْسَبُوهُ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول. {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محلّ نصب مفعوله الثاني، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: فعلوا ذلك؛ لتحسبوه.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية مهملة، أو حجازية. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، أو في محل رفع اسم ({ما}). {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان

ص: 147

بمحذوف خبر المبتدأ، أو بمحذوف خبر ({ما}) والجملة على الوجهين اسمية، وهي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير. وقيل: الجملة حال من:

{الْكِتابِ} والأول أقوى. {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف عطف. ({يَقُولُونَ}): فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يَلْوُونَ..} . إلخ. {هُوَ:} مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ:}

متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول القول، و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه {وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ:} إعرابها مثل إعراب سابقتها، وهي في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، والرابط: الواو، والضمير أيضا. {وَيَقُولُونَ..} .

إلخ: معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب صفة مثلها.

{ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}

الشرح: {ما كانَ لِبَشَرٍ:} ما صحّ، وما ينبغي. والتعبير بهذين اللفظين، ونحوهما معناه:

الحظر، والمنع، فيجئ لحظر الشيء، والحكم بأنّه لا يجوز، كما في هذه الآية، وفي الآية رقم [36] من سورة (الأحزاب) وربما كان امتناع ذلك الشيء عقلا، كقوله تعالى في سورة (النّحل):

{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} . وربما كان العلم بامتناعه شرعا، كما في هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (الشورى):{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} . وربما كان في المندوبات، كما تقول على سبيل التوبيخ: ما كان لك يا فلان أن تترك صلاة الصبح، والعشاء في الجماعة. ونحو ذلك. {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ:} أن يعطيه، وأن يمنحه. {الْكِتابَ:}

الإنجيل، أو القرآن، والمراد ب (بشر) عيسى، أو محمد صلى الله عليه وسلم. (الحكم) مثل: الحكمة المذكورة في الآية رقم [48]. (النبوة): هي ما يمنحه الله للأنبياء، والمرسلين من العلوم، والمعارف، والفيوضات الإلهية، مأخوذة من: النبأ، وهو الخبر، أو: من النّبأة، وهي الارتفاع، والظهور؛ لأنّ مرتبة النبي فوق كلّ المراتب، وأعلى كلّ المناصب. {ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي} أي:

يدّعي ذلك الرسول، أو النبي الإلهية، ويدعو الناس إلى عبادته، وتأليهه. هذا؛ و (عباد) جمع:

عبد، وهو الإنسان حرّا، كان، أو رقيقا. ويقال للملوك: عبد قن، وله جموع كثيرة، أشهرها:

عبيد، وعباد، وعبدان، وعبدة. والإضافة في نحو قوله تعالى:{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ إضافة تشريف، وتكريم. وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه، وأعظم؛ لسمّاه به حينما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقال جلّ ذكره:

{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ..} . إلخ. وفي معناه أنشدوا: [السريع]

ص: 148

يا قوم قلبي عند زهراء

يعرفه السّامع والرّائي

لا تدعني إلاّ بيا عبدها

فإنّه أشرف أسمائي

{وَلكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ} جمع: رباني، وفيه قولان: أحدهما: أنه منسوب إلى الربّ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة. والثاني: أنه منسوب إلى ربّان، والرّبان: هو المعلم للخير، ومن يسوس الناس، ويعرّفهم أمر دينهم، فالألف، والنون دالان على زيادة في الوصف، كهي في: عطشان، ونحوه. والثاني هو قول المبرد. واختلفوا في معنى الرّباني، فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: كونوا فقهاء، علماء. وعنه: كونوا فقهاء معلّمين.

وقيل: الرّباني: الذي يربّي الناس بصغار العلم، وكباره. وقيل: الرّبانيّ: العالم الذي يعمل بعمله. وقيل: الرّباني: العالم بالحلال، والحرام، والأمر، والنهي. وقيل: الرّبانيّ: الذي جمع بين علم البصيرة، والعلم بسياسة الناس. ولما مات ابن عباس-رضي الله عنهما-قال ابن الحنفية-رضي الله عنهما: اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة. وانظر شرح: {رِبِّيُّونَ:} في الآية رقم [146]: ومعنى الآية على ما تقدّم: لا أدعوكم إلى أن تكونوا عبادا لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا، وعلماء، ومعلمين الناس الخير، ومواظبين على طاعة الله، وعبادته. وقال أبو عبيدة-رحمه الله تعالى-: أحسب: أنّ هذه الكلمة ليست عربيّة، إنما هي عبرانيّة، أو سريانية، وسواء أكانت عربية، أو عبرانية؟ فهي تدل على الذي علم، وعمل بما علم، وعلّم الناس طريق الخير. {بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ..}. إلخ: أي: كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين، ومعلمين، وبسبب دراستكم الكتاب. فنزلت الآية على: أن العلم، والتعليم، والدراسة توجب أن يكون العبد ربانيّا، فمن اشتغل بالعلم، والتعليم لا لهذا المقصود؛ ضاع علمه، وخاب سعيه.

تنبيه: في الآية الكريمة تكذيب، وردّ على النصارى؛ حيث زعموا: أن عيسى-عليه الصلاة والسلام-أمرهم بعبادته. وقيل: إنّ أبا رافع القرظي، والسّيد النّجراني، قالا للرّسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أتريد أن نعبدك، ونتخذك ربّا؟! فقال: معاذ الله أن يعبد غير الله، وأن نأمر بعبادة غير الله، فما بذلك بعثني الله، ولا بذلك أمرت، فنزلت الآية. وقيل: قال رجل: يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيّكم، واعرفوا الحقّ لأهله. وفي حديث آخر:«لو كان ينبغي لبشر أن يسجد لبشر؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها كلّما دخل عليها؛ لما فضّله الله عليها» .

بعد هذا؛ ف (الناس) اسم جمع، لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط

إلخ:

واحده: إنسان، وإنسانة من غير لفظه، وتصغيره: نويس. وناس، وإنسان، وأناسيّ، وإنس من مادة واحدة، وهو يطلق على الإنس، والجن، لكن غلب استعماله في الإنس. قال تعالى:{مِنْ}

ص: 149

شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ وأصله:

الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، فلا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف في سورة (الإسراء) رقم [71]:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [60]{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} .

هذا؛ وقيل: الناس مأخوذ من النّوس، وهو الحركة، يقال: ناس، ينوس: إذا تحرك.

وقيل: أصله من: نسي، فأصل ناس: نسي، قلب، فصار: نيس، تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام، فقيل: الناس، قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

نسي آدم عهد الله، فسمي إنسانا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«نسي آدم، فنسيت ذرّيّته» . وقال تعالى في سورة (طه): {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر:[الكامل]

لا تنسين تلك العهود فإنّما

سمّيت إنسانا لأنّك ناس

وقال آخر: [البسيط]

فإن نسيت عهودا منك سالفة

فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس

وقيل: سمي إنسانا؛ لأنسه بحواء، عليها السلام. وقيل: لأنسه بربه. قال الشاعر: [الطويل]

وما سمّي الإنسان إلاّ لأنسه

ولا القلب إلاّ أنّه يتقلّب

الإعراب: {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لِبَشَرٍ:} متعلقان بمحذوف خبر:

{كانَ} تقدّم على اسمها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يُؤْتِيَهُ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، وما بعده معطوف عليه، والمصدر المؤوّل من:{أَنْ يُؤْتِيَهُ} في محل رفع اسم: {كانَ} مؤخر، التقدير: ما كان إتيان الله الكتاب

إلخ واقعا، أو حاصلا لبشر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {يَقُولَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، ويقرأ بالرفع على الاستئناف، وهذا يعني: تقدير مبتدأ، التقدير: ثمّ هو يقول، والفاعل يعود إلى:(بشر).

والجملة الفعلية في محل رفع خبر للضمير المقدر، والجمة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{لِلنّاسِ:} متعلقان بما قبلهما. {كُونُوا:} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{عِباداً:} خبر: {كُونُوا} . {لِي:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {عِباداً} .

{مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف صفة ثانية ل {عِباداً} أو بمحذوف حال منه بعد وصفه بما تقدم، وجملة:{كُونُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

ص: 150

{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له، وجملة:{كُونُوا رَبّانِيِّينَ} في محل نصب مقول القول لفعل محذوف، التقدير: ولكن يقول: {كُونُوا رَبّانِيِّينَ:}

والكلام معطوف على ما قبله. {بِما} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُعَلِّمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله.

{الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر {كانَ،} و (ما) المصدرية و {كُنْتُمْ} في تأويل مصدر في محل جرّ بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل:{كُونُوا} التقدير: بسبب كونكم معلّمين، وبسبب كونكم دارسين، وجوز تعليقهما ب {رَبّانِيِّينَ}. {وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ:} إعرابه مثل إعراب سابقه. هذا؛ ويجوز اعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة في الموضعين، وذلك على قراءة تشديد اللام، والسين، ويكون العائد، أو الرابط محذوفا، وهو مفعول الفعلين، تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم.

{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}

الشرح: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا..} . إلخ؛ أي: لا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبيّ مرسل، ولا ملك مقرّب. ويقرأ الفعل بالنصب عطفا على:{أَنْ يُؤْتِيَهُ} ويقويه ما ذكرته عن اليهود في الآية السابقة، فيكون الفاعل عائدا على (بشر). ويقرأ بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام السابق، فيكون الفاعل عائدا إلى:(الله). {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ..} . إلخ: الاستفهام للتعجب، والإنكار. المعنى: لا يقول هذا، ولا يفعله! فالجهلة من الأحبار، والرّهبان، ومشايخ الضلال من المسلمين يدخلون في هذا الذّم، والتوبيخ، بخلاف الرّسل، وأتباعهم من العلماء العاملين. والخطاب للمسلمين، وللناس أجمعين.

هذا؛ وقد اتخذت بعض القبائل العربية، والصابئون الملائكة أربابا من دون الله. وقد ألزم الله الخلق حرمة الملائكة، والأنبياء، وتقديسهم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا يقولنّ أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي. ولا يقل أحدكم: ربّي، وليقل سيّدي» . وانظر ما ذكرته في سورة (يوسف) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

هذا؛ و (الملائكة): أجسام نورانية لطيفة، قادرة على التشكّل، والتمثّل بأيّة صورة أرادوا، لا يأكلون، ولا يشربون، لا يبولون، ولا يتغوطون، لا ينامون، ولا يموتون، ولا يهرمون، ولا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. لا يتناكحون، ولا يتناسلون. يلهمون الحمد، والتسبيح لله، كما نلهم النّفس. لا يوصفون بذكورة، ولا أنوثة، فمن وصفهم بذكورة؛ فسق، ومن وصفهم بأنوثة: كفر، ولهم قدرة خارقة للعادة، ولا تحكم عليهم الصّورة. ومعناه: أن

ص: 151

الملك إذا تصور بصورة ما، وسدّد إنسان سهما نحوه، أو جني عليه بجناية؛ فلا يناله شيء من الأذى، بخلاف الجنّي؛ إذا تصور بصورة ما؛ فيجري عليه حكم الصّورة بلحوق الأذى إليه.

وانظر ما ذكرته في سورة (الجنّ) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

وهم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، قال تعالى في سورة (المدثر):{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} يقومون بأعمال مختلفة، كلّ فيما وكل إليه من أعمال. ورؤساؤهم عشرة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر، ونكير، ورضوان خازن الجنة، ومالك خازن النار. ويتشكّلون بأشكال حسنة، بخلاف الجنّ؛ الذين يتشكلون بأشكال قبيحة.

الإعراب: {وَلا يَأْمُرَكُمْ:} انظر الشرح لإعراب هذه الجملة. {أَنْ تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَتَّخِذُوا:} في محل نصب مفعول به ثان عند سيبويه، وفي محل جر بحرف جر محذوف عند الخليل، التقدير: باتخاذكم، والجار، والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمَلائِكَةَ:} مفعول به أول. {وَالنَّبِيِّينَ:} معطوف على ما قبله. {أَرْباباً:} مفعول به ثان. {أَيَأْمُرُكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكار، وتعجيب. ({يَأْمُرَكُمْ}): فعل مضارع، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى (بشر) أو إلى:(الله) والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، {بِالْكُفْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل المفعول الثاني. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. و {بَعْدَ} مضاف، و {إِذْ} ظرف مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُسْلِمُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ (81)}

الشرح: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ..} . إلخ: ذكروا في معنى أخذ الميثاق وجهين: أحدهما: أنه مأخوذ من الأنبياء، والثاني أنه مأخوذ لهم من غيرهم، فلهذا السبب اختلفوا في المعنيّ بهذه الآية، فذهب قوم إلى: أن الله تعالى أخذ ميثاقا من النّبيّين خاصّة قبل أن يبلّغوا كتاب الله، ورسالاته إلى عباده أن يصدّق بعضهم بعضا، وأخذ العهد على كل نبيّ أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء، وينصره-إن أدركه، وإن لم يدركه-أن يأمر قومه بنصرته؛ إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. هذا قول سعيد بن جبير، والحسن، وطاوس. وقيل: إنّما أخذ الميثاق من النبيين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم خاصّة، وهو قول عليّ، وابن عبّاس، وقتادة، والسّدّيّ. فعلى هذا القول اختلفوا، فقيل: إنّما أخذ الميثاق على أهل

ص: 152

الكتاب الذين أرسل إليهم النّبيّين، ويدلّ عليه قوله:{ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} وإنّما كان محمّد صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى أهل الكتاب دون النبيين، وإنما أطلق هذا اللفظ عليهم؛ لأنّهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمّد؛ لأنا أهل كتاب، والنّبيّون منا.

وقيل: أخذ الله الميثاق على النبيّين، وأممهم جميعا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأنّ العهد مع المتبوع عهد مع التابع. وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما. قال عليّ كرّم الله وجهه: ما بعث الله نبيّا؛ آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم، وأخذ هو العهد على قومه ليؤمننّ به، ولئن بعث؛ وهم أحياء؛ لينصرنّه. انتهى خازن. وقال كثير من المفسّرين: إنّ الأنبياء كانوا يأخذون العهد، والميثاق على أممهم بأنّه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به، وينصروه.

ومعنى {مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ:} أنّ الله تعالى وصفه في كتب الأنبياء المتقدّمة، وشرح فيها أحواله، فإذا جاءت صفاته، وأحواله مطابقة لما في كتبهم المنزلة؛ فقد صار مصدّقا لها، فيجب الإيمان به، والانقياد له. ومعنى {لِما مَعَكُمْ} أي: من الشرائع، والكتاب، والحكمة.

هذا؛ وأصل الفعل: (تؤمنون) فلمّا اتّصلت به نون التوكيد؛ صار لتؤمنوننّ، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فالتقى ساكنان: واو الجماعة، والنون الأولى من المشدّدة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على النّون قبلها؛ لتدل عليها. وإعلال ما بعده مثله.

{قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي:} قال البغويّ-رحمه الله تعالى-: قال الله-عز وجل -للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم-والأنبياء فيهم كالمصابيح-وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمّد صلى الله عليه وسلم: أأقررتم؟. وقال الفخر الرازي: يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرّر في عقولهم من الدلائل الدّالة على أنّ الانقياد لأمر الله واجب، فإذا جاء رسول، وظهرت المعجزات الدّالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك: أنّ الله أمر الخلق بالإيمان به؛ عرفوا عند ذلك وجوبه بتقرير هذا الدليل في عقولهم. فهذا هو المراد من الميثاق. وهذا إن فسرنا: أن أخذ الميثاق كان من النبيّين، وكان معناه: قال الله تعالى للنبيين: أأقررتم بالإيمان به، والنصر له؟! وإن فسّرنا بأنّ أخذ الميثاق كان على الأمم؛ كان معناه: قال كل نبي لأمته: أأقررتم؟. وذلك؛ لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه. وإن كان النبيون أخذوه على الأمم؛ فذلك طلب هذا الإقرار، وأضافه إلى نفسه؛ وإن وقع من الأنبياء. هذا؛ والأصر-بفتح الهمزة، وكسرها لغتان-هو العهد، وهو المراد هنا، وهو في اللغة: الثّقل، وسمي العهد إصرا؛ لأنه منع، وتشديد. وانظر الآية الأخيرة من سورة (البقرة).

{قالُوا أَقْرَرْنا} أي: قال النبيّون: أقررنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك؛ الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا. {قالَ فَاشْهَدُوا} أي: قال الله-عز وجل-للنبيّين: فاشهدوا على أنفسكم، أو

ص: 153

على أممكم، وأتباعكم الذين أخذتم عليهم الميثاق. وقيل: قال الله: للملائكة: فاشهدوا.

وقيل: معناه: فاعلموا، وبيّنوا؛ لأن أصل الشهادة العلم، والبيان. {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ} أي: عليكم، وعلى أتباعكم.

الإعراب: ({إِذْ}): ظرف مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب، متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت، أو هو مفعول به لهذا المحذوف. {أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها، و {مِيثاقَ:} مضاف، و {النَّبِيِّينَ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، أو لمفعوله. {لَما:} هذا اللفظ يقرأ بكسر اللام، وفتحها، فالكسر أمره هيّن. فاللام لام التعليل، و (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعده بمصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَخَذَ} . هذا قول البيضاوي. وقال القرطبيّ: متعلقان بمحذوف، التقدير: وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمنّ الناس لما جاءكم من كتاب، وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا. وقال ابن هشام في المغني:

متعلقان بقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ} الواقع جوابا لأخذ الميثاق على الاتساع في الظرف، والتقدير:

لإيتائي، لأجل إيتائي. وجوز اعتبار (ما) موصولة، وموصوفة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: للذي، أو: لشيء آتيتكموه. وأما الفتح ففيه الأقوال الكثيرة، وها أنا ذا ألخصها لك مبتدئا بالمعتمد منها.

الأول: اللام لام الابتداء. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{آتَيْتُكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما) والعائد محذوف، التقدير: للّذي آتيتكموه. {مِنْ كُتُبٍ} متعلقان بمحذوف حال من المفعول الثاني المحذوف، العائد على (ما)، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر (ما) و {مِنْ} لبيان الجنس. {وَحِكْمَةٍ:} معطوف على:

{كِتابٍ} . {ثُمَّ} حرف عطف.

{جاءَكُمْ} فعل ماض، والكاف مفعول به. {رَسُولٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، والعائد في الأولى عائد فيها؛ لأن الجملتين المتعاطفتين كالجملة الواحدة، أو العائد محذوف، التقدير: ثم جاءكم به. {مُصَدِّقٌ:} صفة: {رَسُولٌ} . {لَما:} جار ومجرور متعلقان بمصدّق، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [3]. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو بمحذوف صفتها على اعتبارها موصوفة، والكاف في محل جر بالإضافة، وخبر المبتدأ الذي هو (ما) محذوف؛ إذ التقدير: للذي آتيتكموه

هو الحق، والجملة الاسمية هذه مؤكدة لمعنى القسم، أي: فكأنها قسم ثان. {لَتُؤْمِنُنَّ:} اللام: واقعة في جواب أخذ الميثاق المتضمّن معنى القسم. (تؤمنن): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه حذف النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعله، ونون التوكيد حرف لا محل له،

ص: 154

والجملة الفعلية جواب أخذ الميثاق المتضمن معنى القسم، لا محل لها، والجملة:{وَلَتَنْصُرُنَّهُ} معطوفة عليها، وإعرابها مثلها، والجملة الاسمية:{لَما آتَيْتُكُمْ..} . إلخ معترضة بين القسم، وجوابه مؤكدة لمعنى القسم، كما رأيت.

القول الثاني: اللام واقعة في جواب أخذ الميثاق المتضمّن معنى القسم، وجملة:{لَتُؤْمِنُنَّ} جواب قسم محذوف، والقسم المحذوف وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو:(ما) الموصولة، والجملة الاسمية:{لَما آتَيْتُكُمْ..} . إلخ جواب أخذ الميثاق المتضمّن معنى القسم.

القول الثالث: وهو للزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنّسفي كعادتهما، وبه قال القرطبيّ، وهو قول المبرد، والكسائي، والزجاج: أن اللام هي الموطئة للقسم، و (ما) تحتمل الشرطية، والموصولة، فعلى الأول؛ فهي في محل نصب مفعول به مقدّم، وعلى الثاني؛ فهي مبتدأ، وجملة:{آتَيْتُكُمْ} فعل الشرط على الأول، وصلة الموصول على الثاني، والعائد محذوف، كما رأيت تقديره فيما سبق. و {مِنْ كُتُبٍ} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من الضمير المقدّر. كما سبق، وجملة:{لَتُؤْمِنُنَّ} جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة، وحذف جواب الشرط على القاعدة:«إذا اجتمع شرط، وقسم فالجواب للسابق منهما» . وهذا ضعيف، لا اعتبار له؛ لأنه لا يبقى لأخذ الميثاق جواب، وكذلك إن اعتبرت (ما) موصولة، وخبرها محذوفا، وجملة:{لَتُؤْمِنُنَّ} جواب القسم المدلول عليه باللام، ولذا قال ابن هشام في المغني: وعلى هذا؛ فالأحسن ألا تكون اللام موطئة، و (ما) شرطية، بل للابتداء، و (ما) موصولة؛ لأنه حمل على الأكثر.

هذا؛ ويقرأ: («لمّا») بفتح اللام وتشديد الميم، وفيها وجهان: أحدهما: أنّها الزّمانية، أي:

أخذنا ميثاقهم لمّا آتيناهم شيئا من كتاب وحكمة، ورجع من الخطاب إلى الغيبة على المألوف من طريقتهم في الالتفات، والثاني: أنه أراد (لمن ما) ثم أبدل من النون ميما لمشابهتها إيّاها، فتوالت ثلاث ميمات، فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا، وحصول التكرير بها. ذكر هذا المعنى ابن جني في المحتسب. انتهى أبو البقاء.

{قالَ:} فعل ماض، وانظر الفاعل في الشرح. {أَأَقْرَرْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام.

({أَقْرَرْتُمْ}): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَأَخَذْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَلى ذلِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {إِصْرِي:} مفعول به، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة.

وجملة: {قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالُوا:} ماض، وفاعله. {أَقْرَرْنا:} فعل وفاعل، والمتعلق محذوف، التقدير: أقررنا بذلك، والجملة الفعلية في محل نصب مقول

ص: 155

القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:

{اللهُ} . {فَاشْهَدُوا:} الفاء: صلة. (اشهدوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. هذا؛ ويجوز اعتبار الفاء فصيحة، أفصحت عن شرط مقدّر، التقدير: قال: إذا كان ذلك حاصلا منكم؛ فاشهدوا. وهذا الكلام في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَأَنَا:}

الواو: واو الحال. ({أَنَا}) ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع خبر المبتدأ. {مَعَكُمْ:}

ظرف مكان متعلّق بما بعده، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنَ الشّاهِدِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وجوز اعتبارها مستأنفة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [85] بشأن آل عمران، وتعليق الجار، والمجرور يقال مثله في الظرف:{مَعَكُمْ} .

{فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)}

الشرح: {فَمَنْ تَوَلّى:} أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونصرته. {بَعْدَ ذلِكَ} الإقرار الذي تقدّم. {فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ} أي: الخارجون عن الإيمان والطاعة. هذا؛ وأعاد الضمير في {تَوَلّى} على لفظ (من) وجمع: (أولئك

) إلخ حملا على معناها، كما في الآية رقم [84] الآتية.

هذا، و {الْفاسِقُونَ} جمع: فاسق، وهو الخارج عن حدّ الاستقامة، وأصل الفسق: الخروج عن القصد، والفاسق في الشرع: الخارج عن أوامر الله بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات:

الأولى: التغابي، وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إيّاها. والثانية: الانهماك، وهو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها، والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إيّاها. فإذا شارف هذا المقام، وتخطى خطّه؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ولا بس الكفر، لكن ما دام في درجة التغابي، والانهماك؛ فلا يسلب عنه اسم المؤمن، لاتصافه بالتّصديق، الذي هو مسمّى الإيمان.

انتهى بيضاوي.

الإعراب: {فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جزم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَوَلّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره هو. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {هُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ ثان. {الْفاسِقُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع

ص: 156

خبر (أولئك) هذا؛ وإن اعتبرت الضمير فصلا ف: {الْفاسِقُونَ} خبر (أولئك) وعلى الوجهين فالجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [61] والجملة الاسمية:{فَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)}

الشرح: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ:} قال الكلبي-رحمه الله تعالى-: إن كعب بن الأشرف، وأصحابه اختصموا مع النّصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أينا أحقّ بدين إبراهيم؟ فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من دينه» . فقالوا: لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك.

فنزلت الآية الكريمة. والمراد بالاستفهام الإنكار، والتوبيخ. المعنى: أفبعد أخذ الميثاق عليهم، ووضوح الدلائل لهم: إنّ دين إبراهيم هو دين الله الإسلام؛ أي: أفغير دين الله تطلبون يا معشر اليهود، والنّصارى؟!.

{وَلَهُ أَسْلَمَ} أي: استسلم، وانقاد، وخضع، وذلّ، وكلّ مخلوق فهو منقاد، ومستسلم لله؛ لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: أسلم المؤمن طوعا. والكافر عند موته كرها، ولا ينفعه ذلك لقوله تعالى في آخر سورة (غافر):{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} . {مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} فيه تغليب العاقل على غيره، كما غلب غير العاقل على العاقل في غير ما موضع، مثل قوله تعالى:{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} .

{طَوْعاً وَكَرْهاً:} الطّوع: الانقياد، والاتّباع بسهولة، والكره: ما كان بمشقّة، وإباء من النفس. وأحسن ما قيل في تفسيرها: إنّه لا سبيل لأحد من الخلق إلى الامتناع على الله في مراده، فأما المسلم؛ فينقاد لله فيما أمره، أو نهاه عنه طوعا، وأما الكافر، والفاجر؛ فينقاد لله كرها في جميع ما يقضي عليه، ولا يمكنه دفع قضائه، وقدره، وخذ قوله تعالى في سورة (الرّعد):{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} . {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي: يرجع الخلق كلهم إلى الله يوم القيامة. ففيه وعيد عظيم، وتهديد شديد لمن خرج عن طاعته، وخالف أمره في الدنيا. هذا؛ وتقرأ الأفعال بالتاء، والياء. هذا؛ وبين {طَوْعاً} و ({كَرْهاً}) طباق، وهو من المحسّنات البديعيّة.

(غير): اسم شديد الإبهام ك «مثل» لا يتعرّف بالإضافة لمعرفة، وغيرها، ولا تدخل عليه (ال) وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها؛ إن فهم المعنى، أو تقدّمت عليها كلمة

ص: 157

(ليس)، يقال: قبضت عشرة ليس غير. وهو مبني على الضّمّ، أو على الفتح، خلاف. وإن أردت الزيادة، فانظر مبحثنا في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .

فائدة: روى مجاهد عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: إذا استصعبت دابة أحدكم، أو كانت شموسا؛ فليقرأ في أذنها هذه الآية:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ..} . إلخ.

الإعراب: {أَفَغَيْرَ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. غير: مفعول به مقدم، وهو مضاف، و {دِينِ} مضاف إليه، و {دِينِ} مضاف {اللهِ} مضاف إليه. {يَبْغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة مقدّرة قبلها، التقدير: أيتولون عن الإيمان الحقيقي فغير دين الله يبغون. ويكون الكلام كله مستأنفا. {وَلَهُ:} الواو: واو الحال. ({لَهُ}): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {أَسْلَمَ:} فعل ماض. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الوصول. {وَالْأَرْضِ:}

معطوف على ما قبله. {طَوْعاً وَكَرْهاً:} مصدران في موضع الحال من {مَنْ} أي: طائعين، ومكرهين. ({إِلَيْهِ}): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، هذا؛ وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأن المضاف كجزء منه، قال ابن مالك -رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

ولا تجز حالا من المضاف له

إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله

أو كان جزء ماله أضيفا

أو مثل جزئه فلا تحيفا

{قُلْ آمَنّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)}

الشرح: {قُلْ آمَنّا بِاللهِ:} لمّا ذكر الله عز وجل في الآية المتقدمة أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرّسول؛ الذي يأتي مصدقا لما معهم؛ فقال تعالى: {قُلْ آمَنّا بِاللهِ} وإنما وحّد الضمير في قوله: {قُلْ} وجمع في قوله: {آمَنّا بِاللهِ} لأنّه إنما خاطبه بلفظ الوحدان، ليدل هذا الكلام على أنّه لا يبلغ هذا التكليف عن الله تعالى إلى الخلق إلا هو. ثم قال:

{آمَنّا بِاللهِ} تنبيها على أنّه حين قال هذا القول وافقه أصحابه، فحسن الجمع في قوله:

ص: 158

{آمَنّا} . وقال مكيّ-رحمه الله تعالى-: التقدير: قل: قولوا: آمنا، فالضمير في:{آمَنّا} للمأمورين، والآمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز: أنّ الأمر له صلى الله عليه وسلم. يراد به أمّته.

{وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا:} المراد به القرآن الكريم، وإنّما ذكره؛ لأنه أشرف الكتب، وأنّه لم يحرّف، ولم يبدّل، وغيره حرّف، وبدّل. {وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ..}. إلخ: المراد به الصّحف التي أنزلت عليه، وقد عمل بها أولاده، وأحفاده. {وَالْأَسْباطِ} هم أولاد يعقوب الاثنا عشر، ثم صاروا قبائل، يطلق عليها الأسباط، فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل. وقدّم إسماعيل على إسحاق في الذّكر لسببين: أولهما: أنه أسبق في الولادة بأربع عشرة سنة، وثانيهما: أنّه جدّ نبينا صلى الله عليه وسلم، فاستحق التقديم لذلك. وإنّما خص الله هؤلاء الأنبياء بالذكر؛ لأنّ أهل الكتاب يعترفون بوجودهم، ولم يختلفوا في نبوّتهم. {وَما أُوتِيَ مُوسى} أي:

التوراة. {وَعِيسى} أي: الإنجيل.

{وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ:} كما فعل اليهود، والنصارى من الإيمان ببعض الرّسل، والكفر ببعضهم، كما قال الله فيهم:{وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ..} . إلخ رقم [150]: من سورة (النساء). {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي:

منقادون مخلصون له في العبادة، مقرّون له بالألوهية، والربوبية، لا نشرك معه أحدا أبدا، فالمؤمنون-كما في هذه الآية-يؤمنون بكل نبيّ أرسل، وبكلّ كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك. والحمد لله! هذا والآية مذكورة في سورة (البقرة) برقم [136]: مع الاختلاف في بعض الألفاظ، والمعنى واحد مع ملاحظة ما يلي:

عدّي الفعل: {أُنْزِلَ} هنا بحرف الاستعلاء (على) وفي سورة (البقرة) بحرف الانتهاء (إلى) لوجود المعنيين؛ إذ الوحي ينزل من فوق، وينتهي إلى الرّسول، فجاء تارة بأحد المعنيين، وتارة أخرى بالمعنى الآخر.

بعد هذا: ف: ({النَّبِيُّونَ}) جمع: نبي، يقرأ بالهمز، وبدونه، وهو مأخوذ من النبأ، وهو الخبر؛ لأن النبي يخبر عن ربّه. وقيل: بل هو مأخوذ من النّبوة، وهي الارتفاع؛ لأن رتبة النبي ارتفعت عن رتب الخلق. هذا؛ والنبي غير الرسول بدليل عطفه عليه في قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [52]:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} . وقيل: هو أعمّ منه؛ لأنّ كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، أمّا تعريفهما؛ فالرّسول: ذكر حرّ من بني أدم سليم عن منفّر طبعا، أوحي إليه بشرع يعمل به، ويؤمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بالتبليغ؛ فهو نبيّ، وليس رسولا، فنبينا صلى الله عليه وسلم صار نبيّا بنزول سورة اقرأ عليه، وبعد ستة أشهر من نزولها صار رسولا بنزول سورة (المدثر).

هذا؛ ويروى: أن أبا ذر-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء، فقال:«مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال: كم عدد الرّسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، أولهم آدم،

ص: 159

وآخرهم نبيّكم». أخرجه الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه اختلاف بسيط. هذا؛ وأربعة منهم من العرب: هم: هود، وصالح، وشعيب، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وإسماعيل بن إبراهيم مستعرب، سكن مكة مع قبيلة جرهم، وتزوّج منهم بامرأتين. والمذكور من الرّسل في القرآن الكريم بأسمائهم خمسة وعشرون، ومعرفتهم بأسمائهم واجبة على كلّ مسلم، ومسلمة من المكلّفين. وأعني بمعرفتهم:

أنه لو أعرض اسم رسول منهم على مسلم، فيحب أن يعرف: أهو من المرسلين، أم لا؟ هذا؛ وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة (النساء):{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وقال في سورة (غافر): {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} . هذا؛ وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كلّ الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا، وشعيبا، وهودا، وصالحا، ولوطا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمدا، صلّى الله عليهم جميعا، وسلم تسليما كثيرا.

هذا؛ وقد ذكر الله في آيات (الأنعام) رقم [83]: وما بعدها ثمانية عشر رسولا بأسمائهم من غير ترتيب لا بحسب الزّمان، ولا بحسب الفضل؛ لأن الواو العاطفة لا تقتضي الترتيب، وبقي سبعة منهم، لم يذكروا في سورة (الأنعام)، وقد ذكروا في غيرها، وهم: إدريس، وشعيب، وصالح، وذو الكفل، وآدم، ومحمد، صلّى الله عليهم جميعا، وسلم تسليما كثيرا. فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولا الذين يحب الإيمان بهم، ومعرفتهم تفصيلا، وقد نظموا في قول بعضهم:[البسيط]

حتم على كلّ ذي التكليف معرفة

بأنبياء على التّفصيل قد علموا

في ({تِلْكَ حُجَّتُنا

) منهم ثمانية}

من بعد عشر ويبقى سبعة وهمو

إدريس هود ولوط صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

ويعني في قوله: ({تِلْكَ حُجَّتُنا}) آيات الأنعام المذكورة. وينبغي أن تعلم أن هؤلاء الرسل ليسوا بدرجة واحدة من الفضل، بل أرفعهم درجة، وأعلاهم منزلة، أولو العزم منهم، وهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسيد الجميع، وأفضل الخلق قاطبة محمد صلّى الله عليهم جميعا، وسلم تسليما.

والرسل والأنبياء-صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين-تجوز عليهم الأعراض البشرية، فهم يأكلون، ويشربون، ويصحّون، ويمرضون، وينكحون النساء، ويمشون في الأسواق.

تعتريهم الأعراض البشرية من ضعف، وشيخوخة إلا أنهم يمتازون بخصائص كريمة عالية، ويتّصفون بصفات عظيمة جليلة، هي بالنسبة لهم من ألزم اللّوازم، وهي ما يلي: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة، والعصمة من المعاصي قبل النبوّة، وبعدها، والسلامة من العيوب المنفّرة، ويستحيل عليهم ضدّها.

ص: 160

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {آمَنّا:} فعل، وفاعل.

والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على (الله). {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى ({ما}) وهو العائد، والجملة الفعلية صلتها. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَما أُنْزِلَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {عَلى إِبْراهِيمَ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، والأسماء بعده معطوفة عليه. {وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): معطوفة على ما قبلها. {أُوتِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {مُوسى:} نائب فاعل، وهو المفعول الأول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجملة الفعلية صلة (ما) والعائد محذوف، التقدير: والذي أوتيه موسى، وعيسى. {وَالنَّبِيُّونَ:} معطوف على ما قبله، فهو من عطف العام على الخاص. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل: {أُوتِيَ} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وأجيز تعليق الجار والمجرور بمحذوف حال من الضمير المحذوف الواقع مفعولا ثانيا، و {مِنْ} بيان لما أبهم في ({ما}).

{لا:} نافية. {نُفَرِّقُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل نصب حال من (نا) والرابط الضمير فقط. {بَيْنَ} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَحَدٍ} مضاف إليه. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (أحد)، {وَنَحْنُ:} الواو: واو الحال. (نحن): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ.

{لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُسْلِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من (نا) أيضا، وهي مؤكدة للإيمان. والرابط: الواو والضمير.

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)}

الشرح: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً} يعني: إن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وإنّ كلّ دين سواه غير مقبول عنده؛ لأن الدّين الصحيح ما يأمر الله به، ويرضى عن فاعله، ويثيبه عليه. {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} يعني: الذين وقعوا في الخسار، وهو: حرمان الثّواب، وحصول العقاب.

هذا؛ وقيل في تفسير «الخسران» : إنّه جعل لكلّ واحد من بني آدم منزل في الجنة، ومنزل في النّار، فإذا كان يوم القيامة؛ جعل الله للمؤمنين منازل الكفار التي في الجنّة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النّار. فذلك هو الخسران! وأيّ خسران أعظم من هذا الخسران؟! وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلاّ

ص: 161

له منزلان: منزل في الجنّة ومنزل في النّار، فإذا مات، فدخل النّار؛ ورث أهل الجنّة منزله».

فذلك قوله تعالى في سورة (المؤمنون): {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ} . والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَبْتَغِ} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره: هو. {غَيْرَ:} مفعول به. {دِيناً:} تمييز، هذا وجه، ووجه ثان:{غَيْرَ} حال من {دِيناً} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا. {دِيناً:} مفعول به. ووجه ثالث. {غَيْرَ} مفعول به. و {دِيناً} بدل منه، و {غَيْرَ} مضاف، و {الْإِسْلامِ} مضاف إليه. {فَلَنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يُقْبَلَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب (لن) ونائب الفاعل يعود إلى: {غَيْرَ الْإِسْلامِ} . {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ؛ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت فيما تقدّم.

{وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): مبتدأ. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان باسم فاعل محذوف، التقدير: وإنه خاسر في الآخرة. وقيل: متعلقان بمصدر محذوف، التقدير: خسرانه في الآخرة.

وهذا؛ لأن (ال) بمعنى الموصول، والجار والمجرور من صلة الموصول، ولا تتقدم الصلة على الموصول. وقول ثالث: إنّ {الْخاسِرِينَ} ليس بمعنى: الذين خسروا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال: الرجل، والغلام؛ أي: فالألف للتعريف، لا بمعنى «الذي» . وهو أولى، وأسهل في الإعراب، فيكون الجار والمجرور:{فِي الْآخِرَةِ} متعلقين به. {مِنَ الْخاسِرِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ ب:

(من) والرابط: الواو، والضمير، والاستئناف ممكن.

{كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (86)}

الشرح: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ..} . إلخ: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: نزلت الآية الكريمة في اثني عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام، وذهبوا إلى مكّة كفارا، منهم: الحارث بن سويد الأنصاري، وطعمة بن أبيرق، وحجوج بن الأسلت. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في اليهود، والنصارى، وذلك: أنّ اليهود كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يستفتحون به على الكفار، ويقرّون به، ويقولون: قد أظلّ زمان نبي مبعوث، نقتلكم معه قتل عاد، وإرم، انظر الآية رقم [49]: من سورة (البقرة) -فلمّا بعث محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به بغيا، وحسدا. ومعنى الآية: كيف يرشد

ص: 162

الله للصواب، ويوفق للإيمان قوما جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد تصديقهم إيّاه، وإقرارهم بما جاء به من عند ربّه.

{وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} أي: الحجج، والبراهين، والمعجزات الدّالة على نبوّته؛ التي بمثلها ثبتت النبوة. {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ} أي: لا يوفقهم إلى الحقّ، والصّواب؛ لما سبق في علمه تعالى: أنهم ظالمون، وأنّهم لا يهتدون.

هذا؛ والمراد ب {الظّالِمِينَ} في هذه الآية: الكفار، كما عبّر الله عنهم في آيات كثيرة ({الْمُجْرِمِينَ}) و ({الْفاسِقِينَ}) و ({الْكاذِبِينَ}) وغير ذلك، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتّصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم التهديد، والوعيد، كما يوجه إلى الكفار؟ الحقّ أقول: نعم، يوجّه إليهم ذلك، ولا سيّما من قرأ منهم القرآن الكريم، واطّلع على أخبار الأمم السابقة، والقرون السالفة؛ كيف نكّل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين؟! وإنّما سمّي الكافر ظالما؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، وكلّ من يدّعي الإسلام، ولا يعمل بتعاليمه؛ فهو ظالم لنفسه، ويستحقّ ما يستحقّ الكافر من العذاب في الدّنيا، والآخرة.

الإعراب: {كَيْفَ:} اسم استفهام، واستبعاد مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله ما بعده. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل.

{اللهُ:} فاعله. {قَوْماً:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {كَفَرُوا:}

فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {قَوْماً}. {بَعْدَ:}

ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {إِيمانِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. ({شَهِدُوا}): ماض، وفاعله. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الرَّسُولَ:} اسمها.

{حَقٌّ:} خبرها، والمصدر المؤوّل منها، ومن اسمها، وخبرها في محل نصب مفعول به عند سيبويه، وفي محل نصب بنزع الخافض عند الخليل. والجملة الفعلية فيها ثلاثة أوجه: أحدها:

أنها في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها. والثاني: أنّها معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها؛ أي: كيف يهديكم الله بعد اجتماع الأمرين. والثالث: أن يكون التقدير: وأن شهدوا؛ أي: بعد أن آمنوا، وأن شهدوا، فيكون معطوفا على:{إِيمانِهِمْ} على هذا التأويل. انتهى عكبري. وأقواها الوجه الأول.

{وَجاءَهُمُ:} الواو: حرف عطف. ({جاءَهُمُ}): فعل ماض، والهاء مفعول به. {الْبَيِّناتُ:}

فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الأوجه الثلاثة فيها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {لا:} نافية. {يَهْدِي:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.

{الْقَوْمَ:} مفعول به، {الظّالِمِينَ:} صفة: {الْقَوْمَ} منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء

إلخ.

ص: 163

{أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}

الشرح: {أُولئِكَ} أي: المرتدّون عن الإسلام؛ الّذين مرّ ذكرهم فيما سبق. {جَزاؤُهُمْ} أي:

الذي يستحقونه فيما سبق من كفرهم، وانظر شرح باقي الكلمات فيما تقدّم قريبا من هذه السورة.

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {جَزاؤُهُمْ:} مبتدأ ثان. {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {أَنَّ} تقدّم على اسمها. {لَعْنَةَ:} اسمها المؤخر، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع خبر:{جَزاؤُهُمْ} والجملة الاسمية في محل رفع خبر: {أُولئِكَ} والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، هذا وأجيز اعتبار:{جَزاؤُهُمْ} بدلا من: {أُولئِكَ} بدل الاشتمال، فيكون المصدر خبرا عنه. وفيه ضعف ظاهر وانظر الآية رقم [136] الآتية.

{وَالْمَلائِكَةِ وَالنّاسِ:} معطوفان على لفظ الجلالة. {أَجْمَعِينَ:} تأكيد ل ({النّاسِ}) على لفظه.

{خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}

الشرح: {خالِدِينَ فِيها:} الخلود: الدّوام، والمراد عدم الخروج أبدا. {فِيها} أي: في اللّعنة المذكورة، أو النار المدلول عليها باللّعنة. والإضمار قبل الذّكر تفخيما لشأنها، وتهويلا لعظمهما، أو اكتفاء بدلالة اللّعنة عليها، وكثيرا ما وقع في القرآن:{خالِدِينَ فِيها} وهو عائد على النار. {يُنْظَرُونَ:} يمهلون، أو: لا ينظر إليهم نظر رحمة. قال تعالى في سورة (الزخرف):

{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .

هذا؛ وقال الإمام الفخر الرازي-رحمه الله تعالى-: قال قوم: إنّ عذاب الله للكافرين منقطع، وله نهاية، واستدلّوا بقوله تعالى:{لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} وبأنّ معصية الظالم متناهية، فالعقاب بما لا يتناهى ظلم. والجواب: أن قوله: {أَحْقاباً} لا يقتضي بأنّ له نهاية؛ لأنّ العرب يعبّرون به، وبنحوه عن الدّوام. ولا ظلم في ذلك؛ لأنّ الكافر كان عازما على الكفر ما دام حيّا، فعوقب دائما، ولم يعاقب بالدّائم إلا على دائم، فلم يكن عذابه إلا جزاء وفاقا.

الإعراب: {خالِدِينَ:} حال مقدّرة من الضمير المجرور في الآية السّابقة، وهو عائد على واو الجماعة، منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لا:} نافية. {يُخَفَّفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول.

{عَنْهُمُ:} متعلقان بما قبلهما. {الْعَذابُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال أخرى من الضمير المجرور، وهي حال مؤكدة للحال المقدرة، والرابط: الضمير فقط. وقال أبو

ص: 164

البقاء: حال من الضمير المستتر في: {خالِدِينَ} فتكون حالا متداخلة، أو هي مستأنفة، لا محل لها. أفاده مكيّ، رحمه الله. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {هُمْ:} مبتدأ.

{يُنْظَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَلا هُمْ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا.

هذا؛ وذكرت لك: أنّ {خالِدِينَ} حال مقدرة؛ إذ الحال بالنسبة للزّمان على ثلاثة أقسام:

حال مقارنة، وهي الغالبة، نحو قوله تعالى حكاية عن قول امرأة إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} . وحال مقدرة، وهي المستقبلة، نحو قوله تعالى:{فَادْخُلُوها خالِدِينَ} . ومنها الحال في هذه الآية، كما رأيت، وحال محكية، وهي الحال الماضية، نحو: جاء زيد أمس راكبا. وهناك الحال الموطئة، وهي التي تذكر توطئة للصفة بعدها؛ بمعنى: أن المقصود الصّفة، وهذا كثير في القرآن الكريم، خذ قوله تعالى:

{وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ} ف: {آياتٍ} حال من الضمير المنصوب، وليست مقصودة.

هذا؛ والحال أيضا على نوعين: مؤسّسة، ومؤكّدة، فالأولى هي التي لا يستفاد معناها بدونها، نحو جاء زيد ضاحكا، ونحوه، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع مبينة هيئة فاعل، أو مفعول. والمؤكدة هي التي يستفاد معناها بدونها، وإنما يؤتى بها للتوكيد، وهذه ثلاثة أنواع:

الأولى: ما يؤتى بها لتوكيد عاملها، وهي الّتي توافقه معنى فقط، أو معنى، ولفظا، فالأول: كقوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها،} وقوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} . والثاني: نحو قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} .

النوع الثاني: ما يؤتى بها لتوكيد صاحبها، نحو قوله تعالى:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} .

النوع الثالث: ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين، نحو قوله تعالى:{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ} وقول سالم بن دارة اليربوعي-وهو الشاهد رقم [385] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [البسيط]

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للنّاس من عار؟

وهناك الحال اللازمة في قراءة من قرأ قوله تعالى في سورة (ص) رقم [29]: {كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ} بالنّصب؛ لأن البركة لا تفارق الكتاب، وهو القرآن. وأيضا قوله تعالى في الآية رقم [191] الآتية:{رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً} .

وأخيرا خذ الحال السببية، ولم يذكرها أحد من المفسرين، ولا المعربين، ومثالها قوله تعالى في سورة (الأنبياء):{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ،} وقوله تعالى في سورة (المعارج) وفي سورة (ن):

ص: 165

{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} فلاهية، و {خاشِعَةً} حال ممّا من قبلهما في الإعراب، وعند التأويل يتبين لك: أنهما حالان مما بعدهما، وهذا كما في النّعت السببي في قولك: مررت برجال كريم آباؤهم، وبنسوة كريم آباؤهنّ، ف:«كريم» صفة لما قبله في الإعراب، وهو في الحقيقة صفة لما بعده. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}

الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا} أي: رجعوا إلى الإيمان، وتابوا توبة نصوحا. {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: من بعد ارتدادهم عن الإسلام. وذلك: أن الحارث بن سويد الأنصاري لمّا لحق بالكفار؛ ندم على ذلك، فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لي من توبة؟! ففعلوا، فأنزل الله الآية، فبعث بها إليه أخوه الجلاس مع رجل من قومه، فأقبل إلى المدينة تائبا، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته، وحسن إسلامه. {وَأَصْلَحُوا} أي: ضمّوا إلى التوبة الأعمال الصالحات. وهذا دليل على أنّ التوبة إذا لم تتبع بالعمل الصالح؛ فلا قيمة لها. قال تعالى في سورة (طه): {وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى} .

قال سليمان الجمل-رحمه الله تعالى-: وهذا مشروع بيان تقسيم الكفار إلى ثلاثة أقسام:

قسم تاب توبة صحيحة، فنفعته توبته، كما هنا. وقسم تاب توبة فاسدة، فلم تنفعه، كما في الآية التالية. وقسم لم يتب أصلا، كما يأتي في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ..} . إلخ.

الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من واو الجماعة في الآية السابقة. {تابُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْ بَعْدِ} متعلقان بما قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له، وجملة:{وَأَصْلَحُوا} مع المفعول المحذوف معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (إنّ): حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {غَفُورٌ رَحِيمٌ} خبران ل (إنّ) والجملة الاسمية مفرّعة عمّا قبلها، لا محلّ لها أيضا، وهذا الإعراب يجعل هذه الجملة لا ارتباط لها بما قبلها. والأولى اعتبار الموصول مبتدأ، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ..} . إلخ في محل رفع خبره، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. ومضمون الجملة الاسمية:{إِلاَّ الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب مستثنى من مضمون الكلام السابق. والاستثناء متصل، أو منقطع حسبما رأيت في الشرح، ومثل هذه الآية في الإعراب الآية رقم [160] من سورة (البقرة) والآية [60] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها، وعلى ولدها ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 166

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ (90)}

الشرح: ذكر الله في هذه الآية القسم الثاني من الناس، وهم الذين تابوا توبة فاسدة، وهم اليهود، فإنّهم كفروا بعيسى، وبالإنجيل بعد الإيمان بموسى، وبالتوراة، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. أو: هم اليهود، والنصارى جميعا، وذلك أنّهم كفروا بمحمّد صلى الله عليه وسلم لمّا رأوه بعد إيمانهم به قبل مبعثه؛ لما ثبت عندهم من نعته، وصفته في كتبهم، ثمّ ازدادوا كفرا بتبديلهم، وتحريفهم التوراة، والإنجيل. ومثل هذه الآية ما ذكره الله بشأن المنافقين في قوله تعالى في سورة (النساء):{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً..} . إلخ.

{لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ:} لقد اختلف المفسّرون في معنى هذه الجملة، فقال الحسن البصري، وعطاء، وقتادة، والسدي: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو وقت الحشرجة؛ لأنّ الله تعالى قال في سورة (النساء):{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} . وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إنّهم الذين ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم. وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال الشّرك، ولم يتوبوا من الشّرك، فإن توبتهم في حال الشرك غير مقبولة.

وقيل غير ذلك. والأول أولى بالاعتبار. وانظر آية (النساء) رقم [17 و 18]. {وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ} أي: الخارجون عن منهج الحقّ إلى طريق الغيّ.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها. {كَفَرُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {إِيمانِهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِزْدادُوا:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{كُفْراً:} تمييز. وقيل: مفعول به، ولا وجه له. {لَنْ:} حرف ناصب. {تُقْبَلَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {لَنْ} . {تَوْبَتُهُمْ:} نائب فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة لا محل لها. {وَأُولئِكَ هُمُ الضّالُّونَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [82] والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وهي مؤكدة لمضمونها.

تنبيه: لم تدخل الفاء في خبر: {إِنَّ} هنا. ودخلت في الآية التالية؛ لأنّ الكلام فيها مبني على الشرط، والجزاء، وأنّ سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر بخلافه هنا؛ لأن الكلام مبتدأ، وخبر، ولا دليل فيه على التسبب، كما تقول: الذي جاءني له درهم. لم تجعل

ص: 167

المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم. انتهى كشاف بتصرف كبير.

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21].

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ اِفْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)}

الشرح: هذه الآية تعمّ جميع من مات على الكفر من اليهود، والنّصارى، والوثنيين بأنّ مأواهم جهنم، وبئس المصير، ولا يقبل من أحدهم فداء يفتدي به من عذاب الله، ولو كان بملء الأرض من ذهب. وهذا مبالغة في التيئيس، والتقنيط من رحمة الله، وعفوه. وذكر الذهب؛ لأنه أعز الأشياء، وأغلاها، وهو على سبيل الفرض والتقدير؛ لأنّ الملك يوم القيامة لله وحده، ولا يملك عبد يومئذ مثقال ذرة من تراب، ولا يقبل من الكافر شفاعة، ولا يؤخذ منه عدل، قال تعالى في سورة (المائدة):{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} . وقيل: معنى الآية: لو أن الكافر أنفق في الدنيا ملء الأرض ذهبا، ثم مات على كفره؛ لم ينفعه ذلك؛ لأنّ الطاعة مع الكفر غير مقبولة. {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:} مانعين يمنعونهم من عذاب الله.

فعن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله-عز وجل-لأهون أهل النّار عذابا يوم القيامة: «لو أنّ لك ما في الأرض من شيء؛ أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم! فيقول الله:

أردت منك أهون من ذلك، وأخذت عليك في ظهر أبيك آدم ألاّ تشرك بي شيئا، فأبيت إلاّ الشّرك». أخرجه البخاريّ، ومسلم. وهذا يتعارض ظاهره مع قوله تعالى في سورة (الأعراف):

{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} .

ويجاب بأن آية (الأعراف) معناها الخضوع، والتذلل، وما في الحديث معناه: الانقياد والطاعة. بعد هذا؛ فالموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته، وموت القلب:

قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنصائح.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسمها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، والتي بعدها معطوفة عليها. {وَهُمْ كُفّارٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {فَلَنْ:} الفاء: صلة للتأكيد. (لن): حرف ناصب. {يُقْبَلَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب (لن). {مِنْ أَحَدِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِلْءُ:} نائب فاعل، وهو مضاف، و {الْأَرْضِ:} مضاف إليه. {ذَهَباً:} تمييز، وقال الكسائي: منصوب بنزع الخافض،

ص: 168

أي: من ذهب، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها بمنزلة البدل من الآية السابقة.

{وَلَوِ:} الواو: واو الحال. ({لَوِ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {اِفْتَدى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذّر، والفاعل يعود على {أَحَدِهِمْ}. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب ({لَوِ}) محذوف؛ إذ التقدير: لو افتدى به لا يقبل منه. و ({لَوِ}) ومدخولها كلام معترض في آخر الكلام، واعتبار ({لَوِ}) وصلية، والجملة الفعلية في محل نصب حال ضعيف. هذا؛ وقيل: الواو متممة. ولا وجه له بعد التقدير؛ الذي رأيته.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا، وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر:{أُولئِكَ} و {عَذابٌ} فاعلا به؛ فهو كلام لا غبار عليه، والتقدير: أولئك ثابت لهم عذاب. وعلى كلّ فالجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [56] وهي معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ باللام. والرابط: الواو، والضمير.

{لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}

الشرح: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ:} فسّر البرّ بالجنّة، والمعنى: لن تدخلوا الجنة، وتعطوها حتى تنفقوا ممّا تحبّون. وقيل: البرّ: الطاعة، والعمل الصالح، وقد يستعمل في البرّ حسن الصّدق، وحسن الخلق؛ لأنّهما من الخير المتوسّع فيه. فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصّدق! فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرّى الصّدق؛ حتّى يكتب عند الله صدّيقا. وإيّاكم والكذب! فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب، ويتحرّى الكذب؛ حتّى يكتب عند الله كذّابا» . رواه الشّيخان، وغيرهما.

{حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ} أي: من جيد أموالكم، وأنفسها عندكم. وقد نهى الله عن التصدّق بالرديء، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [267]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ..} . إلخ. هذا؛ والمراد: الصدقات في

ص: 169

وجوه الخيرات كلها. {وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} يعني: من أيّ شيء كان، من طيب تحبّونه، أو من خبيث تكرهونه، فإنّ الله يعلمه.

بعد هذا، فخذ ما يلي: عن أنس-رضي الله عنه-قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحبّ أموال إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها عذب. قال أنس-رضي الله عنه: فلمّا نزل قوله تعالى:

{لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة، وقال: يا رسول الله! إنّ الله تعالى يقول في كتابه: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ..} . إلخ، وإنّ أحبّ أموالي إلي «بيرحاء» وإنّها صدقة لله، عزّ، وجل.

أرجو برّها، وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«بخ بخ، ذلك مال رابح» . فهذه كلمة تقال عند المدح، والرضا، وتكريرها للمبالغة، وهي مبنية على السكون، فإذا وصلت جرّت، ونوّنت: فقلت: بخ بخ.

هذا، وقد تبرّع كثير من الصحابة في سبيل الله ممّا يحبّون، منهم: عمر بن الخطاب، وزيد ابن حارثة، وأبو ذر الغفاري-رضي الله عنهم-وروي: أنّ عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه كان يشتري أعدالا من سكر، ويتصدّق بها، فقيل له: هلاّ تصدّقت بقيمتها؟ فقال: لأنّ السكر أحبّ إليّ، فأردت أن أنفق ممّا أحبّ.

الإعراب: {لَنْ تَنالُوا:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْبِرَّ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {تُنْفِقُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل:{تُنْفِقُوا} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل:

{تَنالُوا} . {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صفة مفعول به محذوف، التقدير:

حتى تنفقوا شيئا كائنا من الذي تحبونه؛ فلا بأس به.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم. {تُنْفِقُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ شَيْءٍ:} متعلقان بمحذوف حال من ({ما})، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها.

{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {عَلِيمٌ:} خبر: (إنّ). والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط

إلخ، والجملة الشرطية مستأنفة، لا محلّ لها.

ص: 170

{كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93)}

الشرح: سبب نزول هذه الآية، والتي بعدها: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّك تزعم: أنك على ملّة إبراهيم، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل، وألبانها، وأنت تأكل ذلك كلّه، فلست على ملّته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كان ذلك حلالا لإبراهيم» . قالوا: كلّ ما تحرمه التوراة اليوم كان ذلك حراما على نوح، وإبراهيم حتّى انتهى إلينا. فأنزل الله عز وجل:{كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ} .

المعنى: ليس الأمر على ما تدّعيه اليهود من تحريم لحوم الإبل على إبراهيم، بل كان ذلك حلالا على إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وإنّما حرمه يعقوب-عليه السلام-بسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحرمة في أولاده. فأنكر اليهود ذلك، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراة، وطلب منهم أن يستخرجوا منها: أن ذلك كان حراما على إبراهيم عليه السلام، فعجزوا عن ذلك، وافتضحوا وبان كذبهم فيما ادعوا من حرمة هذه الأشياء على إبراهيم، وفي هذا دليل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أميّا لم يقرأ الكتب، ولم يعرف ما في التوراة، فلمّا أخبر:

أن ذلك ليس في التوراة؛ علم: أنّ الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى. وفيه دليل على جواز نسخ الأحكام، وتغييرها؛ لأنّ اليهود كانوا ينكرونه.

{كُلُّ الطَّعامِ} أي: كل أنواع الطعام، أو سائر المطعومات. {حِلاًّ:} مصدر أخبر به عن جمع، فهو يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث. {إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ:} فقد روى الطّبريّ بسنده عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنّ عصابة من اليهود حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم! أيّ الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدكم بالله الّذي أنزل التّوراة على موسى، هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض مرضا شديدا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرا: لئن عافاه الله من سقمه؛ ليحرّمنّ أحبّ الطّعام، والشّراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لحم الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهمّ نعم! وكان سبب ذلك: أنه اشتكى عرق النّسا» وهو عرق يخرج من الورك، فيستبطن الفخذين، ثم يمرّ بالعرقوب؛ حتى يبلغ الحافر.

{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها} فلم يأتوا بالتوراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فثبت كذبهم، وافتراؤهم، فبهتوا، ولعنوا بما قالوا. ونزلت الآيات رقم [160]: وما بعدها من سورة (النساء) تبيّن: أن هذا التّحريم كان عقوبة لليهود بسبب ظلمهم، ومخالفتهم لأوامر ربّهم، وكان ذلك في زمن موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 171

بعد هذا، فقد أخرج ابن ماجة في سننه ما يلي: عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «شفاء عرق النّسا ألية شاة أعرابية تذاب، ثم تجزّأ ثلاثة أجزاء، ثمّ يشرب على الرّيق في كلّ يوم جزء» . قال أنس-رضي الله عنه: فوصفته لأكثر من مائة، فبرأ بإذن الله تعالى، وقال شعبة: حدّثني شيخ في زمن الحجّاج بن يوسف في عرق النّسا: (أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنته؛ لأكوينّك بنار، ولأحلقنّك بموسى!)، ويمسح على ذلك الموضع.

هذا؛ و (بني) أصله: بنين، حذفت النون للإضافة، وهو جمع: ابن مأخوذ من البناء؛ لأن الابن مبنى أبيه، ولذلك ينسب المصنوع إلى الصّانع، وأصله بني. وقيل: بنو، وتصغيرها على الأول بنيّ، وعلى الثاني بنيو، ثم يقال فيه: قلبت الواو ياء، ثم أدغمت في الياء. فصار بنيّ.

{إِسْرائِيلَ} هو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، على نبيّنا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام، ومعناه في العربية: صفوة الله، أو عبد الله، ف (إسرا) هو: العبد، أو:

الصفوة، و (إيل) هو: الله، وفيه سبع لغات. قرئ بها كلّها، وتميم يقولون: إسرائين. قال الشاعر، انظر الشاهد [332] من كتابنا:«فتح رب البرية» وما يتعلّق به: [الرجز]

قالت وكنت رجلا قطينا

هذا لعمر الله إسرائينا

الإعراب: {كُلُّ:} مبتدأ وهو مضاف، و {الطَّعامِ} مضاف إليه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{كُلُّ} . {حِلاًّ:} خبره، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {لِبَنِي:} جار ومجرور متعلقان ب {حِلاًّ} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني): مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء من اسم:{كانَ} وجوّز أبو البقاء اعتباره مستثنى من الضمير المستتر في: {حِلاًّ} . {حَرَّمَ:} فعل ماض.

{إِسْرائِيلَ:} فاعله. {عَلى نَفْسِهِ:} متعلّقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: إلا الذي، أو: شيئا حرّمه إسرائيل. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان ب {حَرَّمَ} وقيل: متعلقان ب {كانَ حِلاًّ} . {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تُنَزَّلَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {أَنْ} . {التَّوْراةُ:} نائب فاعله، والمصدر المؤول من:{أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ} في محل جر بإضافة: {قَبْلِ} إليه، التقدير:

من قبل تنزيل التوراة.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {فَأْتُوا:} الفاء: صلة. (ائتوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِالتَّوْراةِ:} متعلقان بما قبلهما،

ص: 172

والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. هذا؛ وإن اعتبرت الفاء الفصيحة تفصح عن شرط مقدر، التقدير: قل: إذا كان ما تدّعونه صحيحا؛ فأتوا بالتوراة؛ فالكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَاتْلُوها} معطوفة على ما قبلها. {أَنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:}

فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:}

خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الشرطية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ (94)}

الشرح: {فَمَنِ افْتَرى..} . إلخ: الافتراء: اختلاق الكذب، والفجور، والإفساد في الأرض. مأخوذ من: فرى الأديم: إذا قطعه. {مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} أي: من بعد ظهور الحجّة بأنّ التحريم إنّما كان من جهة يعقوب، ولم يكن محرّما من قبله. {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ:}

المعتدون، المتجاوزون الحقّ إلى الباطل، المستحقّون للعذاب الأليم، والعقاب الشديد؛ لأنّ كفرهم ظلم منهم لأنفسهم، ولمن أضلّوه عن الدّين من بعدهم.

بعد هذا فالآية الكريمة تشنّع على اليهود كذبهم، وافتراءهم، وقبائح أعمالهم، فتصفهم بأنّهم كاذبون، والكذب ديدنهم، وصفة لازمة لهم في ماضيهم، وحاضرهم. والكذب من أفحش الذنوب الكبار، ومن أخبث ما يتصف به إنسان، وأبرز صفات المنافقين. هذا؛ فقد حذّر القرآن الكريم منه، والرّسول صلى الله عليه وسلم حذّر منه؛ ولو في المزاح، والضّحك، ومهما دعت الحاجة إليه؛ لأنّ فيه الهلاك، وفي الصّدق النّجاة. وخذ ما يلي:

فعن منصور بن المعتمر-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحرّوا الصّدق-وإن رأيتم: أنّ الهلكة فيه-فإنّ فيه النّجاة» . رواه ابن أبي الدنيا. وقال الشاعر: [السريع]

عليك بالصّدق، ولو أنّه

أحرقك الصّدق بنار الوعيد

واعتبر الرّسول صلى الله عليه وسلم الكذب من أبرز صفات المنافقين مع الخيانة، والفجور، وخلف الوعد، ولا يكذب إلا حقير مهين، لا كرامة له بين الناس، قال الشاعر:[البسيط]

لا يكذب المرء إلاّ من مهانته

أو فعله السّوء أو من قلّة الأدب

لبعض جيفة كلب خير رائحة

من كذبة المرء في جدّ وفي لعب

وعن صفوان بن سليم-رضي الله عنه-قال: قيل: يا رسول الله! أيكون المؤمن جبانا؟ قال: «نعم» قيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: «نعم» . قيل له: أيكون المؤمن كذّابا؟ قال:

«لا!» . وهذا الحديث ضعيف، رواه مالك هكذا مرسلا.

ص: 173

هذا؛ وقال تعالى في سورة (النّحل) رقم [105]{إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ} ورحم الله من قال: [البسيط]

عوّد لسانك قول الصّدق تحظ به

إنّ اللّسان لما عوّدت معتاد

الإعراب: {فَمَنِ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِفْتَرى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف في محلّ جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) على الله: متعلقان بما قبلهما. {الْكَذِبَ:} مفعول به. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكذب، و {بَعْدِ} مضاف، و {ذلِكَ} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ:} انظر مثلها في الآية رقم [82]: والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، والجملة الفعلية بعده صلته، والجملة الاسمية: (أولئك

): خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم. والجملة اسمية على الاعتبارين، وهي تحتمل الاستئناف، فلا محل لها، وتحتمل العطف على جملة:{فَأْتُوا..} . إلخ في الآية السابقة، فتكون من جملة مقول القول.

{قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {صَدَقَ اللهُ} فيما أخبر: أن لحوم الإبل، وألبانها كانت محلّلة لإبراهيم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وإنّما حرّمها يعقوب-عليه السلام-على نفسه، وعلى ذرّيته للسّبب الذي ذكر في الآية السابقة، وكما ذكر الله في سورة (النساء) أنّ الله حرّم على اليهود أشياء كثيرة بفسادهم، وخروجهم عن طاعة ربّهم، {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} أي: اتبعوا ما يدعوكم إليه محمّد صلى الله عليه وسلم من ملّة إبراهيم، وهي الدّين الصّحيح، وهو الإسلام. هذا؛ و (الملّة): الطريقة، والشريعة، والدّين. وهي بفتح الميم:

الرّماد الحار. {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أي: لم يدع مع الله إلها آخر، ولا عبد سواه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {صَدَقَ اللهُ} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَاتَّبِعُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (اتبعوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِلَّةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة. {حَنِيفاً:} حال من:

{إِبْراهِيمَ} . وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأنّ المضاف كجزء منه. انظر ما ذكرته في

ص: 174

الآية رقم [83]. {وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{إِبْراهِيمَ} . {مِنَ الْمُشْرِكِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} والجملة الفعلية في محل نصب حال من: {إِبْراهِيمَ} والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متعدّدة، ومؤكّدة لما قبلها.

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)}

الشرح: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ..} . إلخ سبب نزول الآية: أن اليهود قالوا للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة، وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء، وقبلتهم، وأرض المحشر. فقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله الآية. {وُضِعَ لِلنّاسِ} أي: جعله الله موضعا للطّاعات، والعبادات، وقبلة للصلاة، وموضعا للحجّ، وللطواف، تزداد فيه الخيرات، وثواب الطاعات، والنّاس فيه سواء، كما قال تعالى في سورة (الحجّ):{جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ} .

وقوله {لَلَّذِي} أي: للبيت الّذي ببكة، وفي حذف الموصوف من التفخيم، والتعظيم ما لا يخفى.

{بِبَكَّةَ} قيل: هي مكة نفسها، والعرب تعاقب بين الباء، والميم، مثل: ضربة لازب، ولازم. وقيل:(بكة) اسم لموضع البيت، و (مكة) اسم للبلد، وقال: محمد بن شهاب: (بكة):

المسجد، ومكة: الحرم كلّه تدخل فيه البيوت. هذا، وقد ذكروا لمكّة أسماء كثيرة: مكّة، وبكّة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، وأمّ القرى، والنّاءوس؛ لأنّها تطهّر من الذنوب، والمقدّسة، والحاطمة، والرأس، والبلدة، والبنيّة، والكعبة. هذا؛ وقيل:(بكّة) مشتقة من البك، وهو الازدحام، وسمّيت (بكة) لازدحام الناس في موضع طوافهم. وقيل: سميت بذلك؛ لأنّها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. والبكّ: دق العنق. قال عبد الله ابن الزّبير-رضي الله عنه: لم يقصدها جبّار بسوء؛ إلا وقصمه الله، عزّ، وجل. وأمّا مكّة؛ فقيل: إنها سميت بذلك؛ لأنّها تمكّ المخّ من العظم ممّا ينال قاصدها من المشقة.

واختلف العلماء في كون البيت أوّل بيت وضع الناس على قولين: أحدهما: أنّه أوّل في الوضع، والبناء. قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين. وهذا قول ابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والسّدي. وعن عليّ بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم: أنّ الله تعالى وضع تحت العرش بيتا، وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثمّ أمر الملائكة الذين في الأرض أن يبنوا بيتا في الأرض على مثاله، وقدره، فبنوا هذا البيت، واسمه الضراح، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. انظر شرح (البيت المعمور) في سورة (الطور). وروي: أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجّونه، فلمّا حجّه آدم؛ قالت الملائكة: برّ حجّك يا آدم! لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. هذا؛ و (البيت) اسم غالب للكعبة، كالنّجم للثريّا.

ص: 175

القول الثاني: أنّ المراد من الأوليّة كون هذا البيت أوّل بيت، وضع للنّاس مباركا. ويدلّ عليه سياق الآية. وسئل عليّ-رضي الله عنه: أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت كثيرة، ولكنّه أول بيت وضع للناس مباركا، وهدى، وفيه مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا.

عن أبي ذرّ-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! أيّ مسجد وضع أوّل؟ قال:

«المسجد الحرام» . قلت ثم: أيّ؟ قال: «المسجد الأقصى» . قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة» . قلت: ثمّ أيّ؟ قال: «حيث أدركتك الصّلاة فصلّ، فكلّها مسجد» . رواه الإمام أحمد، وأخرجه الشيخان بنحوه، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام» . متفق عليه.

وعن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصّلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصّلاة بمسجدي هذا بألف صلاة، والصّلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» . الطّبراني.

هذا؛ و (الأول) هو الفرد السّابق المتقدّم على ما سواه. وقيل: هو اسم للشيء الذي يوجد ابتداء، سواء حصل عقبه شيء آخر، أو لم يحصل، وفيه مسائل: الأولى: أنّ أصله: أوأل بوزن أفعل، قلبت الثانية واوا، ثم أدغمت بما قبلها، فصار: أوّل، بدليل قولهم في الجمع:

أوائل. وقيل: أصله: ووّل بوزن فوعل، قلبت الأولى همزة، وإنّما لم يجمع على وأوائل لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع.

الثانية: الصحيح: أنّ أوّل لا يستلزم ثانيا، وإنّما معناه: ابتداء الشيء، ثم قد يكون له ثان، وقد لا يكون، تقول: هذا أوّل مال اكتسبته، وقد تكتسب بعده شيئا، وقد لا تكتسب. وقيل: إنّه يستلزم ثانيا، كما أنّ الآخر يقتضي أوّلا، فلو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا؛ فأنت طالق، فولدت ذكرا، ولم تلد غيره وقع الطّلاق على الأول، دون الثاني.

الثالثة: ل (أول) استعمالان: أحدهما: أنه يكون صفة؛ أي: أفعل تفضيل بمعنى: الأسبق، فيعطى هذا حكم أفعل التفضيل، من منع الصرف، وعدم تأنيثه بالتاء، ودخول من عليه، نحو هذا أول هذين، ولقيته عاما أوّل. والثاني: أنه يكون اسما مصروفا، نحو لقيته عاما أوّلا، ومنه قولهم: ماله أوّل، ولا آخر.

قال أبو حيان-رحمه الله تعالى-: في محفوظي: أنّ (أوّل) يؤنث بالتاء، ويصرف أيضا، فيقال: أولة، وآخرة بالتنوين. انتهى همع الهوامع شرح جمع الجوامع للسّيوطي، رحمه الله تعالى.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَوَّلَ:} اسمها، وهو مضاف، و {بَيْتٍ} مضاف إليه.

ص: 176

{وُضِعَ:} فعل ماض مبني للمجهول، والفاعل يعود إلى بيت، والجملة الفعلية في محل جر صفة {بَيْتٍ}. {لِلنّاسِ:} متعلقان بما قبلهما. {لَلَّذِي:} اللام: هي المزحلقة. (الّذي): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.

{بِبَكَّةَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث. {مُبارَكاً:} حال من: (الّذي) أو من الضمير المستتر في متعلق الظرف. وقيل: من نائب فاعل {وُضِعَ} أفاده مكيّ، وهو ضعيف. {وَهُدىً:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لِلْعالَمِينَ:} متعلقان بهدى، أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد.

{فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)}

الشرح: {فِيهِ:} في البيت المذكور في الآية السابقة. {آياتٌ بَيِّناتٌ:} دلائل واضحات على حرمته، ومزيد فضله، ومن تلك الآيات:{مَقامُ إِبْراهِيمَ} أي: الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت، فأثّرت قدماه فيه، وغاصتا إلى القدمين، وبقي إلى الآن مع تطاول الزّمان، وتداول الأيدي عليه. ومنها: تضعيف الحسنات للأعمال الصّالحات، ومنها: انحراف الطّيور عن موازاتها، فلا تعلوه على مدى الأعصار، ومنها: أنّ كلّ جبّار قصده بسوء قصمه الله، كما فعل الله بأصحاب الفيل. ومنها: أنّ الوحوش لا تؤذي بعضها في الحرم؛ حتّى الكلاب لا تهيج الظّباء، ولا تصطادها. ومنها: أنّ الطير إذا مرض منه شيء استشفى بالكعبة، ومنها: تعجيل العقوبة لمن انتهك حرمة هذا البيت. ومنها: أنّ الغيث إذا كان ناحية الرّكن اليماني كان الخصب في اليمن، وإذا كان بناحية الشّام كان الخصب بالشّام، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومن الآيات التي فيه: الحجر الأسود، والملتزم، وزمزم، والحطيم، ومشاعر الحج؛ التي فيه؛ كلّها من الآيات. ومنها: أنّ الآمر ببناء هذا البيت هو الجليل، والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنائه هو إسماعيل. فهذه فضيلة عظيمة لهذا البيت، وخذ قول أبي طالب:[الطويل]

وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

هذا؛ و {مَقامُ إِبْراهِيمَ} هو الحجر الّذي وقف عليه عند بناء الكعبة المعظّمة، كما رأيت، وأصله من الجنّة كالحجر الأسود. وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال:

ص: 177

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الرّكن، والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة، طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما؛ لأضاءتا ما بين المشرق، والمغرب» . أخرجه الترمذيّ. وقال: هذا يروى عن ابن عمر موقوفا.

وأصل مقام: مقوم، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصّحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب سكونها. ثمّ قل: تحركت الواو بحسب الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا.

{وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} على نفسه، وماله، ودمه من أن يهاج فيه، وكان العرب يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض، وكان من دخل الحرم؛ أمن من القتل، والغارة. وهو المراد من حكم الآية على قول أكثر المفسرين. قال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [67]:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟} وقيل: هو خبر بمعنى الأمر: أي: ومن دخله فأمّنوه. وهو قول ابن عبّاس، رضي الله عنهما، فيكون خاصّا بالمسجد الحرام، حتى ذهب أبو حنيفة-رحمه الله-إلى أنّ من وجب عليه القتل قصاصا كان، أو حدّا، فالتجأ إلى الحرم؛ فإنه لا يستوفى منه القصاص، أو الحد فيه، لكنّه لا يطعم، ولا يبايع، ولا يشارى، ويكلّم، ويضيّق عليه؛ حتى يخرج منه، فيقام عليه الحدّ خارج المسجد. انتهى خازن، وقرطبي. وفنّد رأيه القرطبي.

وقال الشافعي-رحمه الله تعالى-: إذا وجب عليه القصاص خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم؛ استوفي منه في الحرم. وأجمعوا على: أنّه لو قتل في الحرم، أو سرق، أو زنى؛ فإنه يستوفى منه الحدّ عقوبة له. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة. ولا تنس: أن إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-قد دعا الله أن يجعل هذا البلد آمنا في سورة (البقرة):{رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً} .

وفي بيان هذا الأمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا يصاد صيده، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها، ولا يختلى خلاه» . فقال العبّاس-رضي الله عنه: يا رسول الله! إلا الإذخر، فإنّه لقينهم، ولبيوتهم. فقال:«إلاّ الإذخر» . أخرجه الشّيخان عن ابن عباس-رضي الله عنهما. والقين: الحداد. ويختلى خلاه: يقطع النبات؛ الّذي ينبت بنفسه، أمّا ما يزرعه الآدميّون؛ فلا يمنع من قطعه، وخلعه.

تنبيه: -ذكر الله سبحانه آيتين من الآيات الكثيرة في الآية الكريمة، وطوى غيرهما، فلم يذكره؛ ليدلّ على تكاثر هذه الآيات. ونحوه في الطيّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«حبّب إليّ من دنياكم ثلاث، الطّيب، والنّساء، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» ف «قرة عيني» ليس من الثلاث، بل هو ابتداء كلام؛

ص: 178

لأنّها ليست من الدّنيا، والثالث مطويّ، وكأنّه صلى الله عليه وسلم ترك ذكر الثالث تنبيها على أنّه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئا من الدّنيا، فذكر شيئا من الدّين. ونحوه في طيّ الذكر قول جرير:[البسيط]

كانت حنيفة أثلاثا فثلثهمو

من العبيد، وثلث من مواليها

فلم يذكر الثّلث الثالث.

{وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ..} . إلخ أي: يجب على النّاس أن يحج البيت منهم المستطيع.

وقد فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بوجود الزّاد، والرّاحلة. فقد روى الترمذيّ-رحمه الله تعالى-عن الحارث، عن عليّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ملك زادا، أو راحلة تبلّغه إلى بيت الله، ولم يحجّ؛ فلا عليه أن يموت يهوديّا، أو نصرانيّا» . وذلك: أنّ الله يقول في كتابه: {وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . وروي نحوه عن أبي أمامة، وعمر، رضي الله عنهما.

هذا؛ ويشترط لوجوب الحج أن يكون الطريق آمنا، فإن كان فيه خوف من عدوّ مسلم، أو كافر، أو رصديّ يطلب الخفارة؛ لا يلزمه، وكذا إن احتاج لدفع رشوة، كما في هذه الأيّام.

وعن عبد الله بن جبير-رضي الله عنهما-عن عليّ-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته:«يا أيّها النّاس إنّ الله فرض الحجّ على من استطاع إليه سبيلا، ومن لم يفعل؛ فليمت على أيّ حال شاء، إن شاء يهوديّا، أو نصرانيّا، أو مجوسيّا، إلاّ أن يكون به عذر من مرض، أو سلطان جائر، لا نصيب له في شفاعتي، ولا ورود حوضي» . وقد كان الحجّ عند العرب معلما عندهم؛ مع كونهم كانوا يعبدون الحجارة، والأوثان، وكان لهم في أيام الحجّ أسواق معلومة، ينتفعون فيها.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيّها النّاس! قد فرض الله عليكم الحجّ، فحجّوا» . فقال رجل: كلّ عام يا رسول الله؟! فسكت؛ حتى قالها الرّجل ثلاثا، فقال صلى الله عليه وسلم:«لو قلت: نعم؛ لوجبت، ولما استطعتم» . ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر؛ فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عنه؛ فدعوه» . متّفق عليه.

بعد هذا في الاستطاعة وجهان: أن يكون مستطيعا ببدنه، واجدا من ماله ما يبلغه الحج.

والثاني: أن يكون معضوبا في بدنه، لا يثبت على مركبه، وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة، أو بغير أجرة بعد هذا: فالحج على التّراخي ما لم يضيق الوقت، وضيق الوقت هو: أن يناهز القادر على مئونة الحجّ الستّين من عمره؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أعمار أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين، وقلّ من يتجاوزها» . فكأنّه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«معترك أمتي من الستّين إلى السّبعين، وقلّ من يتجاوز ذلك» .

ص: 179

وإذا اعترض عليه الحجّ، والزّواج لنفسه، أو لولده؛ بمعنى: لا يقدر على تنفيذ الأمرين معا في عام واحد، فليقدّم الزواج لنفسه، أو لولده غضّا للبصر، وتحصينا للفرج، ولا اعتبار لمن يتحجّج بقوله: الحجاز قبل الزّواج.

وخذ ما يلي: عن أنس-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رزقه الله امرأة صالحة؛ فقد أعانه على شطر دينه، فليتّق الله في الشّطر الباقي» . رواه الطبرانيّ، والحاكم. وفي رواية للبيهقي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا تزوّج العبد؛ فقد استكمل نصف الدّين، فليتّق الله في النّصف الباقي» .

والعبد يشمل الذّكر، والأنثى، والزّوجة، والزّوج أصبح كلّ منهما لصاحبه-في هذا الزمن الفاسد أهله-الدين كلّه، كيف لا؟! وربّنا يقول:{هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} .

{وَمَنْ كَفَرَ..} . إلخ. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: ومن جحد فريضة الحجّ؛ فقد كفر، والله غنيّ عنه، ويدخل في ذلك اليهود، وغيرهم من الملل الضالّة؛ الّتي تدّعي الإسلام، ولا تؤدي فريضة الحجّ، ولقد وضعت الجملة موضع:«ومن لم يحج» تأكيدا لوجوبه، وتشديدا على تاركه، وتغليظا عليه. وخذ ما يلي:

عن ابن عباس-رضي الله عنهما، قال: كان الفضل بن عباس رديف النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاءته امرأة خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشّقّ الآخر، قالت: يا رسول الله! إنّ فريضة الله على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحجّ عنه؟ قال:«نعم» وذلك في حجة الوداع.

أخرجاه في الصّحيحين.

فقه هذا الحديث: إن كان المتوفّى قبل أن يحجّ قادرا على الحج ماديّا؛ فيجب على ورثته أن يخرجوا حجّته من رأس ماله وجوبا، وإن كان فقيرا، فإن فعل الوارث ذلك؛ فهو من باب التبرّع، وله أجره إن شاء الله تعالى. وخذا ما يلي في التّرغيب في الحجّ.

عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العمرة إلى العمرة كفّارة لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة» . متّفق عليه. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تابعوا بين الحجّ، والعمرة، فإنّهما ينفيان الذّنوب، والفقر، كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب، والفضّة. وليس لحجة مبرورة ثواب إلاّ الجنّة. وما من مؤمن يظلّ يومه محرما إلاّ غابت الشّمس بذنوبه» . أخرجه الترمذيّ. وله عن سهل بن سعد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يلبّي إلاّ لبّى ما عن يمينه، وشماله من حجر، أو شجر، أو مدر، حتّى تنقطع الأرض من هاهنا، وهاهنا» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «من مات في أحد الحرمين؛ بعث يوم القيامة آمنا» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحجون، والبقيع يؤخذ بأطرافهما، وينثران في الجنّة» . وهما مقبرتا مكّة، والمدينة. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: وقف رسول الله

ص: 180

صلّى الله عليه وسلّم على ثنيّة الحجون، وليس فيها يومئذ مقبرة، فقال:«يبعث الله يوم القيامة من هذه البقعة، ومن هذا الحرم كلّه سبعين ألفا، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يدخلون الجنّة بغير حساب، يشفع كلّ واحد منهم في سبعين ألفا، وجوههم كالقمر ليلة البدر» . انتهى كشاف.

الإعراب: {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {آياتٌ:} مبتدأ مؤخّر.

{بَيِّناتٌ:} صفة له، والجملة الاسمية مفسّرة للهدى، والبركة، أو هي في محل نصب حال أخرى، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{مُبارَكاً} وهو العامل فيها، كما جوز فيها الاستئناف. {مَقامُ} مبتدأ، والخبر محذوف؛ إذ التقدير: منها مقام. قاله الأخفش، وقال المبرد: بدل من {آياتٌ} بدل بعض من كل. وقيل: خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي مقام، وتبقى الجملة فيها معنى التفسير ل {آياتٌ} . وقول الأخفش معروف في كلام العرب، كما قال زهير:[البسيط]

لها متاع وأعوان غدرن به

قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا

وأجاز الزمخشري اعتبار: {مَقامُ} عطف بيان من {آياتٌ} . ولا وجه له.

و {مَقامُ} مضاف، و {إِبْراهِيمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {دَخَلَهُ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) والهاء مفعول به. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط، واسمه يعود إلى (من). {آمِناً:} خبرها، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، وإن اعتبرت (من) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ، وجملة:

{دَخَلَهُ:} صلته، وجملة:{كانَ آمِناً:} خبره، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة من حيث اللفظ، ومعطوفة على سابقتها من حيث المعنى؛ إذ التقدير: ومنها أمن من دخله.

وأغرب مكيّ-رحمه الله تعالى-حيث قال: (من) معطوفة على: {مَقامُ} على وجوهه.

{وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. ({لِلّهِ}): جار ومجرور متعلقان بخبر مقدّم، التقدير: واجب لله على الناس؛ أي: متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {حِجُّ:} مبتدأ مؤخّر، وهو مضاف، و {الْبَيْتِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعل المصدر مستتر فيه، وتقدير الكلام: وواجب لله على الناس أن يحجوا البيت. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدل من فاعل المصدر، أو في محل جر بدل من الناس، وقال الكسائيّ: في محل رفع فاعل بالمصدر، فيفسد المعنى عليه؛ إذ يصير المعنى: واجب لله على الناس أن يحج البيت كلّ من استطاع، سواء أكان

ص: 181

حاجّا، أم لم يحجّ؟ وهذا غير مراد، كما رأيت في الشرح. {اِسْتَطاعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} والجملة الفعلية صلتها. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان به. وأجيز اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من: {سَبِيلاً} كان صفة له

إلخ. {سَبِيلاً:} مفعول به. انتهى.

وقال الكسائي: {مَنْ:} شرط في موضع رفع بالابتداء، و {اِسْتَطاعَ} فعل شرطه، والجواب محذوف، التقدير: فعليه الحج. وهو تكلّف لا داعي له. والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَمَنْ كَفَرَ..} . إلخ: إعرابها مثل إعراب سابقتها بلا فارق، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، وعلى اعتبار:{مَنْ} موصولة فالجملة الاسمية: {فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ في محل رفع خبر الموصول، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، هذا؛ وعلى اعتبار {مَنْ} شرطية أجيز اعتبار الجواب محذوفا قياسا على قوله تعالى في سورة (لقمان) رقم [23]:{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} وعليه؛ فالجملة: {فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محلّ لها بخلافها في سورة (لقمان) فإنّها في محل جزم جواب الشرط.

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98)}

الشرح: الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الآية من التعنيف، والتوبيخ للكفرة من اليهود، وغيرهم ما لا يخفى، وذلك لعنادهم للحقّ، وكفرهم بآيات الله، وصدّهم الناس عن دين الله؛ مع علمهم بأنّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حقّ من الله، وقد توعّدهم الله على ذلك، وأخبر بأنّه مطلع على صنيعهم بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء، ومعاملتهم الرّسول المبشّر به بالتكذيب، والجحود، والعناد.

والمراد ب (آيات الله) السّمعية، والعقلية الدّالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما يدّعيه من وجوب الحج، وغيره. وتخصيص أهل الكتاب بالنّداء، دليل على أنّ كفرهم أقبح؛ لأن معرفتهم بالآيات أقوى، وأنّهم وإن زعموا: أنّهم مؤمنون بالتوراة، والإنجيل؛ فهم كافرون بهما لعدم عملهم بتعاليمهما.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره: أنت. ({يا}): أداة نداء تنوب مناب:

أدعو. ({أَهْلَ}): منادى، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه {لِمَ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، و ({ما}): اسم استفهام مبني على السكون على الألف المحذوفة للفرق بين الخبر، والاستخبار في محل جرّ باللام. {تَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِآياتِ:}

متعلقان به، و (آيات): مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملتان: الندائية، والفعلية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

ص: 182

{وَاللهُ:} الواو: واو الحال. (الله شهيدا): مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من: واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. أو من: لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم بلفظه للتفخيم، والتعظيم. {عَلى ما:} جار ومجرور متعلقان ب {شَهِيدٌ} و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب {عَلى} والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

شهيد على الذي، أو: شيء تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب {عَلى} التقدير: شهيد على عملكم. {تَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله.

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99)}

الشرح: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أي: تصرفون، وتمنعون الناس عن دين الإسلام من آمن بالله ورسوله. والفعل بضمّ الصّاد. وقرأ الحسن:(«تصدّون») بضم التاء، وكسر الصاد. وهما لغتان: صدّ، وأصد، مثل: صد اللحم، وأصد: إذا أنتن، وضمّ، وأضم أيضا: إذا تغيّر، وهو من صدّ صدودا: إذا تنكّب. وليس فصيحا؛ لأن في «صدّ» مندوحة عن تكلّف التعدية بالهمزة. هذا؛ ويأتي الفعل بمعنى: يعرضون، ويميلون، كما في قوله تعالى:{رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} . ويأتي بمعنى: يضجّون فرحا، ولكنه بكسر الصاد، كما في قوله تعالى في سورة (الزخرف):{*وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ومصدر الأولين صدّ، وصدود، ومصدر الأخير: صديد. والصّدد: القرب، يقال: داري صدد داره، أي: قبالتها، وقربها.

والصّدد: القصد، تقول: رجعنا إلى ما نحن بصدده؛ أي: بقصده. وهو أيضا: الميل، والناحية.

{تَبْغُونَها عِوَجاً:} تطلبون لها اعوجاجا، وميلا عن القصد، والاستقامة، وذلك بمنعكم الناس عن الدّخول في الإسلام، وأنّث الضمير على اعتبار (السبيل) مؤنثة. والعوج بكسر العين وفتحها، وقد فرّق العرب بينهما، فخصّوا المكسور في المعاني، والمفتوح في الأعيان. تقول في دينه، وقوله، وعمله: عوج. وتقول في الجدار، وكلّ شيء قائم: عوج (بالفتح) ومعنى قوله تعالى في سورة (طه): {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ} أي: لا معدل لهم عن دعائه، فلا يزيغون، ولا ينحرفون. وعاج بالمكان، وعوّج: أقام، ووقف. والعائج: الواقف. قال الفرزدق من قصيدة مدح بها هشام بن عبد الملك: [الوافر]

ألستم عائجين بنا لعنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام

ص: 183

«لعنّا» لغة في لعلّ. والرّجل الأعوج: السّيّئ الخلق، وفاسد العمل. والعوج من الخيل هي الكريمة، التي في أرجلها تحنيب، ويقال: فرس محنّب: إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فج.

والخيل الأعوجيّة تنسب إلى فرس كان في الجاهلية.

{وَأَنْتُمْ شُهَداءُ} جمع: شاهد، أو شهيد بمعنى حاضر، وعالم، فيكون المعنى: وأنتم عالمون: أنّ في التوراة مكتوبا: أنّ دين الله؛ الّذي لا يقبل غيره هو الإسلام؛ الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ} تكرّر ورود هذه الجملة في مواطن من القرآن. قال أبو حيّان-رحمه الله تعالى-: ولا تأتي هذه الجملة إلا عقب ارتكاب معصية، فتجيء متضمنة وعيدا، ومعلمة: أن الله لا يترك أمر الفاسدين سدى. انتهى. وبالجملة فيها تهديد، ووعيد شديدان، والمعنى: أن الله عالم، ومحيط بأعمالهم صغيرها، وكبيرها، ويجزيهم بها. علما بأنّ اليهود، والنصارى جمعوا بين الوصفين: الضلال، والإضلال. كما أشارت الآيتان الكريمتان، فقد كفروا بالإسلام، ثم صدّوا الناس عن الدخول فيه بإلقاء الشّبه، والشّكوك في قلوب الضّعفة من أتباعهم.

الإعراب: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السابقة. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به ل {تَصُدُّونَ} . {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} وهو العائد، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلتها. {تَبْغُونَها:} فعل مضارع، وفاعل، ومفعوله الأول، والضمير كان مجرورا بحرف الجر، فلمّا حذف الجار؛ اتصل بالفعل، وانتصب به على حدّ قوله في سورة (المطففين):{وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} ومثل ذلك قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [101] من كتابنا فتح رب البريّة، والشّاهد رقم [76] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا

ولقد نهيتك عن بنات الأوبر

{عِوَجاً:} مفعول به ثان على التوسّع. وقيل: إنّ الضمير مفعول به صراحة، و {عِوَجاً} حال من الضمير بمعنى معوجّة، ولا بأس به، وجملة:{تَبْغُونَها عِوَجاً} في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من {سَبِيلِ اللهِ} لاشتمالها على ضميرين راجعين إليهما، والجملة الاسمية:

{وَأَنْتُمْ شُهَداءُ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {وَمَا:}

الواو: واو الحال. (ما): حجازية تعمل عمل: «ليس» . {اللهِ:} اسمها. {بِغافِلٍ:} الباء:

حرف جر صلة. (غافل): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفاعله مستتر فيه. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان ب (غافل) و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط

ص: 184

محذوف، التقدير: بغافل عن الّذي، أو: عن شيء تعملونه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل جر ب (عن) التقدير: وما الله بغافل عن عملكم. والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، فتكون الحال قد تعدّدت، وهي جملة، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100)}

الشرح: سبب نزول الآية الكريمة، والتي بعدها ما ذكر: أنّه مرّ «شاس بن قيس اليهودي» -لعنه الله تعالى! -على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدّثون، فغاظه تحدّثهم، وتآلفهم، فأمر شابّا من اليهود أن يذكّرهم «يوم بعاث» لعلّهم يغضبون-وكان يوما اقتتلت فيه الأوس، والخزرج قبل الإسلام، وكان الظّفر فيه للأوس-ففعل، فتنازع القوم عند ذلك، وقالوا: السلاح السلاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، والأنصار، فقال:«أدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام، وألّف بين قلوبكم؟!» . فعرف القوم: أنها نزعة من الشّيطان، وكيد من عدّوهم، فألقوا السّلاح. وبكوا، وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع الرّسول صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ونزلت الآيتان. قال جابر بن عبد الله-رضي الله عنه: ما رأيت يوما أقبح أوّل، وأحسن آخرا من ذلك اليوم! هذا؛ وإنما خاطبهم الله عز وجل بنفسه بعد أن أمر رسوله بأن يخاطب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم، وإشعارا بأنّهم هم الأحقّاء بأن يخاطبهم الله، ويكلمهم. والله أعلم، وأجلّ، وأكرم.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. ({أَيُّهَا}): منادى نكرة مقصودة مبنيّة على الضمّ في محل نصب ب (يا) و (ها): حرف تنبيه لا محل له من الإعراب، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من: (أي). وانظر الآية رقم [1] من سورة (النساء). {آمَنُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، والمتعلق محذوف. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تُطِيعُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَرِيقاً:} مفعول به.

{مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان ب {فَرِيقاً} أو بمحذوف صفة له. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {يَرُدُّوكُمْ:} جواب الشرط مجزوم مثل سابقه، وعلامة

ص: 185

جزمه حذف النون، والواو فاعله، والكاف مفعوله الأول. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، ويجوز تعليقه ب {كافِرِينَ}. و {بَعْدَ:} مضاف، و {إِيمانِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {كافِرِينَ} مفعول به ثان، أو هو حال من الكاف؛ إن اكتفى:(يردّ) بمفعول واحد، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكّر سالم

إلخ، وجملة:

{يَرُدُّوكُمْ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشّرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والجملة الشرطية:{إِنْ تُطِيعُوا..} . إلخ لا محلّ لها كالجملة الندائية قبلها.

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}

الشرح: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ:} الخطاب للأوس، والخزرج، والاستفهام للإنكار، والتعجّب لكفرهم بنعم الله في وقت اجتمعت لهم الأسباب الدّاعية إلى الإيمان الصارفة عن الكفر، والتعجّب إنّما يليق بمن لا يعلم السّبب، وذلك على الله محال، فالمراد منه: المنع، والتغليظ، وذلك؛ لأنّ تلاوة آيات الله-وهي القرآن-حالا بعد حال، وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم يرشدكم إلى مصالحكم، وذلك يمنع من وقوع الكفر، فكان وقوع الكفر منهم بعيدا على هذا الوجه.

قال قتادة-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية علمان بينان: كتاب الله تعالى، ونبي الله صلى الله عليه وسلم، أما نبي الله؛ فقد مضى، وأما كتاب الله تعالى؛ فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه، ونعمة، فيه حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته. وخذ ما يلي:

عن زيد بن أرقم-رضي الله عنه-قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بما يدعى: خمّا بين مكّة، والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكّر، ثمّ قال:«أمّا بعد ألا أيّها النّاس إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي، فأجيب، وتارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى، والنّور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي! أذكّركم الله في أهل بيتي!» . أخرجه مسلم. وعن ابن عباس: رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجّة الوداع، فقال:«إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك ممّا تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا. إنّي تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا، كتاب الله، وسنّة نبيّه» . رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

{وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ} أي: يمتنع بالله، ويستمسك بدينه، وطاعته. يقال: أعصم به، واعتصم، وتمسّك به، واستمسك: إذا امتنع به من غيره، وكلّ متمسّك بشيء معصم، ومعتصم، وكل مانع شيئا؛ فهو عاصم. قال الفرزدق:[الوافر]

أنا ابن العاصمين بني تميم

إذا ما أعظم الحدثان نابا

ص: 186

وقال النّابغة الذبياني في معلّقته رقم [46][البسيط]

يظلّ من خوفه الملاّح معتصما

بالخيزرانة بعد الأين والنّجد

وقال أوس بن حجر: [الطويل]

فأشرط فيها نفسه، وهو معصم

وألقى بأسباب له وتوكّلا

وعصمه الطعام: منعه من الجوع. قال أحمد بن يحيى: العرب تسمّي الخبز: عاصما، وجابرا، وأنشد:[الرجز]

فلا تلوميني ولومي جابرا

فجابر كلّفني الهواجرا

ويسمّونه: عامرا. ويسمّون: الجوع: أبا مالك، قال الشاعر:[الطويل]

أبو مالك يعتادني بالظّهائر

يجيء فيلقي رحله عند عامر

{فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: إلى طريق واضح، وهو طريق الحقّ المؤدّي إلى الجنّة، ومن يجعل ربه ملجأ، ومفزعا، ومستغاثا؛ يسدّد خطاه على طريق الحقّ، والصواب، ويلهمه رشده في جميع أموره، وحركاته، وسكناته، والله ولي التوفيق.

الإعراب: {وَكَيْفَ:} الواو: حرف عطف. ({كَيْفَ}): اسم استفهام، وإنكار، وتعجب، مبني على الفتح في محل نصب حال من واو الجماعة، والعامل في الحال الفعل بعده. {تَكْفُرُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الشرطية قبلها، أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال.

({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {آياتُ:} نائب فاعل: {تُتْلى،} و {آياتُ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَنْتُمْ تُتْلى..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. ({فِيكُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {رَسُولُهُ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. فهي في محل نصب حال مثلها.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْتَصِمْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {بِاللهِ:} متعلقان به.

{فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال.

{هُدِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {إِلى صِراطٍ} متعلقان به.

{مُسْتَقِيمٍ:} صفة صراط، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي

ص: 187

يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحل محلّ المفرد. هذا وإن اعتبرت الجواب محذوفا، تقديره: فهو آمن، أو: فلا يحزن؛ فالجملة الفعلية تكون تعليلا للجواب المحذوف، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، كما قد ذكرته لك مرارا، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَعْتَصِمْ:} مستأنفة لا محل لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في معنى هذه الآية: هو أن يطاع، فلا يعصى، ويشكر، فلا يكفر، ويذكر، فلا ينسى. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-: هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط؛ ولو على أنفسكم، وآبائكم، وأبنائكم. وعن أنس-رضي الله عنه-قال: لا يتّقي الله عبد حقّ تقاته حتى يخزن لسانه.

واختلف العلماء في هذا القدر من هذه الآية، هل هو منسوخ، أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ، وذلك: أنّه لمّا نزلت هذه الآية؛ شقّ ذلك على الصحابة الكرام، وقالوا: يا رسول الله! ومن يقوى على هذا؟! فأنزل الله النّاسخ، وهو قوله تعالى في سورة (التّغابن):{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن زيد، والسّدّي. والقول الثاني: أنها محكمة غير منسوخة. وهو رواية عن ابن عباس أيضا، وبه قال طاوس.

وموجب هذا الاختلاف يرجع إلى معنى الآية، فمن قال: إنّها منسوخة، قال:{حَقَّ تُقاتِهِ:} هو أن يأتي العبد بكل ما يجب عليه، ويستحقّه. فهذا يعجز العبد عن الوفاء به، فتحصيله ممتنع. ومن قال: إنّها محكمة؛ قال: {حَقَّ تُقاتِهِ:} أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} مفسرا لحقّ تقاته، لا ناسخا، ولا مخصّصا، فمن اتقى الله ما استطاع؛ فقد اتّقاه حقّ تقواه. وقيل: معنى {حَقَّ تُقاتِهِ:} كما يجب أن يتقى، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه. وقيل في معنى قول ابن عباس: هو أن يطاع فلا يعصى: صحيح، والذي يصدر من العبد على سبيل الخطأ، والسهو، والنسيان غير قادح فيه؛ لأنّ التكليف في تلك الحالات مرفوع عنه، وكذلك قوله: وأن يشكر فلا يكفر؛ فواجب على العبد حضور ما أنعم الله به عليه بالبال، وأمّا عند السّهو، والخطأ؛ فلا يجب عليه. وكذلك قوله: وأن يذكر فلا ينسى، فإنّ هذا إنّما يجب عند الدّعاء، والعبادة، لا عند السّهو، والنسيان. انتهى خازن.

{وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي: الزموا الإسلام، ودوموا عليه، ولا تفارقوه؛ حتّى تموتوا.

فالنهي في اللّفظ عن الموت على غير الإسلام، وهو في المعنى على غير ذلك؛ إذ المعنى: لا تفارقوا الإسلام؛ حتى تموتوا، كما في قولك: لا تصلّ؛ إلا وأنت خاشع. والمعنى صلّ الصلاة مقترنة بالخشوع. وقيل: المعنى: لا تموتن إلا وأنتم مخلصون، مفوضون إلى الله أموركم، تحسنون الظنّ بالله، عز وجل.

ص: 188

عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، ثمّ قال:«لو أنّ قطرة من الزّقوم، قطرت في الدّنيا؛ لأفسدت على أهل الدّنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!» رواه الترمذي، والنسائي وابن ماجة. وانظر إعلال:{تُقاتِهِ} في الآية رقم [28] مع اختلاف المعنى هنا، وهناك.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [100]. {اِتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مبتدأة كالجملة الندائية قبلها، لا محلّ لها مثلها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {حَقَّ:} نائب مفعول مطلق، وهو مضاف، و {تُقاتِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية. {تَمُوتُنَّ:}

فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، ونون التوكيد حرف لا محلّ له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِلاّ:} حرف حصر. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال.

({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {مُسْلِمُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال مستثنى من واو الجماعة مستثنى من عموم الأحوال، والرابط: الواو، والضمير. وهذه الجملة مذكورة بحروفها في سورة (البقرة)[132].

{وَاِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}

الشرح: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً:} الحبل: لفظ مشترك بين معان كثيرة، وأصله في اللغة: السبب الذي يتوصّل به إلى البغية، والحاجة، وهو: حبل العاتق بين العنق، والمنكب.

والحبل: المستطيل من الرّمل، ومنه الحديث: والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه؛ فهل لي من حجّ، والحبل: رسن الدّابة، والحبل: العهد، قال الأعشى:[الكامل]

وإذا تجوّزها حبال قبيلة

أخذت من الأخرى إليك حبالها

يريد الأمان، والحبل: الدّاهية، قال كثيّر عزّة:[الطويل]

فلا تعجلي يا عزّ أن تتفهّمي

بنصح أتى الواشون أم بحبول

وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: حبل الله: القرآن، وعن عليّ-رضي الله عنه-مرفوعا:

القرآن حبل الله المتين، وصراطه المستقيم. وروى ابن مردويه عن ابن مسعود-رضي الله عنه-

ص: 189

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النّور المبين، وهو الشّفاء النّافع، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن اتّبعه» . وروي عن ابن مسعود أيضا قال: حبل الله الجماعة. والمعنى متقارب متداخل في كلّ ما ذكر، فإنّ الله تعالى يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، فإنّ الفرقة هلكة، والجماعة نجاة. ورحم الله ابن المبارك؛ حيث قال:[البسيط]

إنّ الجماعة حبل الله فاعتصموا

منه بعروته الوثقى لمن دانا

وعلى كلّ ففيه استعارة، حيث شبّه القرآن بالحبل، واستعير المشبّه به-وهو الحبل-للمشبّه -وهو القرآن-على سبيل الاستعارة التّصريحية، والجامع بينهما النّجاة في كلّ.

{وَلا تَفَرَّقُوا:} ولا تختلفوا في الدّين، كما اختلف من قبلكم من اليهود، والنّصارى. فعن معاوية؛ قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فقال:«ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة، وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النّار وواحدة في الجنّة، وهي الجماعة» . رواه أحمد، وأبو داود برقم [4597]. وزاد في رواية:«وإنّه سيخرج من أمّتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق، ولا مفصل إلاّ دخله» . هذا؛ وفي رواية عن ابن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنّ بني إسرائيل تفرّقت اثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلّهم في النّار إلاّ ملّة واحدة» . قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: «ما أنا عليه، وأصحابي» .

بعد هذا: أصول الفرق ستّ: الحروريّة، والقدريّة، والجهميّة، والمرجئة، والرافضة والجبريّة.

هذه أصول الفرق الضّالّة، وقد انقسمت كلّ فرقة إلى اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.

انتهى قرطبي. وقد فصّل-رحمه الله تعالى-هذه الفرق تفصيلا واسعا، وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يرضى لكم ثلاثا، ويكره لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم. ويكره لكم ثلاثا: قيل، وقال، وكثرة السّؤال، وإضاعة المال» . أخرجه مسلم.

فأوجب الله علينا التمسّك بكتابه، وسنّة نبيه، والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع، والمحبّة، والتآلف، وعدم المنازعات في الأشياء الباطلة، التي لا تمتّ إلى الدّين بصلة، وليس فيه دليل على الاختلاف في فروع الشّريعة، فإن ذلك ليس اختلافا؛ إذ الاختلاف ما يتعذّر من الائتلاف، والجمع. وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإنّ الاختلاف فيها بسبب بيان الأحكام، واستخراج معاني العبادة، فليس اختلافا، وما زالت الصحابة والتابعون لهم بإحسان يختلفون في أحكام الحوادث: وهم مع ذلك متآلفون متحابّون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أمّتي رحمة» . انتهى قرطبي بتصرف.

ص: 190

{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ..} . إلخ: أمر تعالى بتذكر نعمه، وأعظمها الإسلام، واتّباع محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّ به زالت العداوة، والفرقة، وحلّت محلّها المحبّة، والألفة. والمخاطب بذلك الأنصار من الأوس، والخزرج، كما تقدّم. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم:[62 و 63]{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ..} . إلخ، وقد امتنّ عليهم، وذكّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك يوم قسم غنائم حنين، وعتب عليه من عتب منهم، بما فضّل عليهم في القسمة بما أراده الله، فخطبهم، فقال:«يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلاّلا، فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرّقين، فألّفكم الله بي؟ وكنتم عالة، فأغناكم الله بي؟» فكلما قال شيئا؛ قالوا: الله ورسوله أمنّ. و (أصبحتم) بمعنى: صرتم، فليس على بابه من التوقيت في الصّباح.

هذا؛ و {أَعْداءً} أصله: أعدوا؛ لأنّ مفرده: عدو، ويجمع أيضا على أعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع. وفي القاموس المحيط: والعدا بالضم والكسر اسم الجمع، وسمي العدوّ عدوّا لعدوه عليك عند أوّل فرصة تسنح له للإيقاع بك، والقضاء عليك. كما سمّي الصديق صديقا لصدقه فيما يدّعيه لك من الألفة، والمودة، والمحبّة.

وعدو: ضدّ الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل: صبور، وشكور. وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع؛ إلا لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا: هذه عدوة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} رقم [6] من سورة (فاطر) فقد عبّر به عن مفرد، وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} رقم [77] من سورة (الشعراء) فقد عبّر به عن جمع، ومثله: صديق؛ أي: في إتيانه بلفظ واحد للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، قال الشاعر-وهو الشّاهد رقم [38] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني

طلاقك لم أبخل وأنت صديق

وقال آخر: [الرجز]

هنّ صديق للّذي لم يشب

{وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ..} . إلخ: على طرف حفرة، وشفا كل شيء: طرفه، وحرفه، وكذلك شفيره، مثل: شفا البئر، ومنه قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [109]:{أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ} . وقال الراجز: [الرجز]

نحن حفرنا للحجيج سجله

نابتة فوق شفاها بقله

وأشفى على الشيء: أشرف عليه، ومنه: أشفى المريض على الموت، وما بقي منه إلا شفا؛ أي: قليل: قال ابن السّكيت-رحمه الله تعالى-: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند امّحاقه، وللشّمس عند غروبها: ما بقي منه إلا شفا؛ أي قليل. قال العجاج: [الرجز]

ص: 191

ومربا عال لمن تشرّفا

أشرفته بلا شفى أو بشفى

قوله: بلا شفى: أي: غابت الشمس، أو بشفى، أي بقيت منها بقيّة. هذا؛ فقد شبّه الله حالهم التي كانوا عليها في الجاهلية بحال من كان مشرفا على حفرة عميقة، وهوّة سحيقة. ففيه استعارة تمثيلية.

وأصله: شفو فقل في إعلاله: تحرّكت الواو وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. وقيل: أصله:

شفي. والمعتمد الأول. {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها:} يحتمل عود الضمير إلى الحفرة، أو إلى النار، أو للشفا، وإنّما أنّث للإضافة للمفردة، فاكتسب التأنيث منها على حدّ قول الأعشى-وهو الشاهد رقم [904] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

وتشرق بالقول الّذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدّم

{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ..} . إلخ أي: كما بيّن الله لكم: أنّه ألف بين قلوبكم، وصرتم إخوانا متآلفين متحابين، كذلك يبيّن سائر أحكام دينه على لسان عبده، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إلى طريق الحقّ والصّواب، والترجي في هذه الآية، وأمثالها، إنّما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يقع منه ترجّ لعباده، وأعمالهم. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا!.

الإعراب: {وَاعْتَصِمُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية، والتي بعدها معطوفة على ما قبلها. {بِحَبْلِ:} متعلقان بما قبلهما، و (حبل) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة. ({لا تَفَرَّقُوا}): فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق.

({اُذْكُرُوا}): أمر، وفاعله

إلخ. {نِعْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {نِعْمَتَ} . {إِذْ:} ظرف زمان بمعنى وقت مبني على السكون في محل نصب متعلّق ب {نِعْمَتَ} أيضا، أو بالفعل اذكروا.

{كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السّكون، والتاء اسمه. {أَعْداءً:} خبره. {فَأَلَّفَ:} فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ:} مضاف، و {قُلُوبِكُمْ:}

مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة.

(أصبحتم): فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِنِعْمَتِهِ:} متعلقان بمحذوف خبر: (أصبح) أي: متلبسين، أو مشمولين بنعمته. والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {إِخْواناً:} خبر ثان ل (أصبح) أو هو حال من تاء الفاعل، أو من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو هو خبر واحد ل (أصبح)، وعليه يكون:{بِنِعْمَتِهِ:} متعلقين بمحذوف حال من تاء الفاعل، أو بمحذوف حال من:{إِخْواناً:} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا، ومثله قول الأخطل التّغلبي-وهو الشاهد رقم [132] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

ص: 192

كانت منازل ألاّف عهدتهم

إذ نحن إذ ذاك دون النّاس إخوانا

هذا؛ وإن اعتبرت الفعل تاما؛ فالإعراب لا يتغيّر. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص، والتاء اسمه. {عَلى شَفا} متعلقان بمحذوف خبره، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر، و {شَفا} مضاف، و {حُفْرَةٍ} مضاف إليه. {مِنَ النّارِ:} متعلقان بمحذوف صفة {حُفْرَةٍ} .

(أنقذكم): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها من جمل، فهي في محل جرّ أيضا.

{كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا) اسم إشارة مبني على السكون في محلّ جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: يبين الله لكم أحكام دينه تبيينا مثل تبيينه لكم: أنه ألف بين قلوبكم

إلخ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {يُبَيِّنُ:} فعل مضارع، {اللهِ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَهْتَدُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ) والجملة الاسمية في محل نصب حال من ضمير الخطاب، والرابط الضمير فقط، وبعضهم يعتبرها للتّعليل، لا محلّ لها.

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}

الشرح: لمّا حذر الله من مكايد أهل الكتاب، وأمر بالاعتصام بحبل الله المتين، والتمسّك بشرعه القويم؛ دعا المؤمنين إلى القيام بواجب الدّعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأمر بالائتلاف، وعدم الاختلاف، ثمّ ذكر ما حلّ باليهود من الذلّ، والصّغار بسبب البغي، والعدوان.

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ..} . إلخ: اللام لام الأمر، و (من) للتبيين، وذلك؛ لأنّ الله-عز وجل أوجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على كلّ الأمة في قوله تعالى في الآية رقم [110] الآتية، فيجب على كل مكلف الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بيده، أو بلسانه، أو بقلبه، كما في قول النبيّ المعظّم صلى الله عليه وسلم:«من رأى منكم منكرا؛ فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . رواه مسلم، وغيره عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.

فعلى هذا يكون معنى الآية: كونوا دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر. ومن قال بهذا القول يقول: إنّ الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض؛ سقط

ص: 193

الإثم عن الباقين. وقيل: إنّ معنى (من) للتبعيض، وذلك؛ لأنّ في الأمّة من لا يقدر على الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر لعجز، أو ضعف. وقيل: إنّ ذلك يختصّ بالعلماء، وولاة الأمور، فعلى هذا يكون المعنى: ليكن بعضكم آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، وخذ ما يلي:

فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان، أو أمير جائر» . رواه أبو داود، والترمذيّ. وعن جابر-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

«سيّد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره، ونهاه، فقتله» . أخرجه الترمذيّ، والحاكم. وعن جرير بن عبد الله-رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه، فلا يغيروا؛ إلاّ أصابهم الله منه بعقاب من قبل أن يموتوا» . رواه أبو داود، وابن ماجة. وعن ابن عباس-رضي الله عنهم-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقّر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر» . رواه أحمد، والترمذيّ، وابن حبّان، والأحاديث في ذلك كثيرة.

بعد هذا: ولكن يجب على من يأمر، وينهى أن يكون مؤتمرا منتهيا بنفسه، وإلا كان أمره، ونهيه وبالا عليه. وخذا ما يلي: عن أسامة بن زيد-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالرّجل يوم القيامة، فيلقى في النّار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرّحى، فيجتمع إليه أهل النّار، فيقولون: يا فلان! مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف، ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه» . رواه البخاري، ومسلم. وعن أبي برزة-رضي الله عنه-قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مثل الّذي يعلّم النّاس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للنّاس، وتحرق نفسها» . والأحاديث في ذلك كثيرة، ورحم الله أبا الأسود الدؤلي؛ إذ يقول-وهو الشاهد رقم [674] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [142] من كتابنا:«فتح رب البرية» -: [الكامل]

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

ويروى من قول سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم:«كيف بكم إذا طغى نساؤكم، وفجر شبابكم، وتركتم جهادكم؟!» . قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟! قال: «نعم والّذي نفسي بيده، وأشدّ منه سيكون! كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر؟!» قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟! قال: «نعم والّذي نفسي بيده، وأشدّ منه سيكون! كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟!» . قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟! قال: «نعم والّذي نفسي بيده، وأشدّ منه سيكون! كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف؟!» قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟! قال: «والذي نفسي بيده، وأشدّ منه سيكون! يقول الحقّ عز وجل: بي حلفت لأفتننّهم فتنة تدع الحليم حيران» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21] والآية رقم [78] من سورة (المائدة).

ص: 194

بعد هذا انظر شرح الخير في الآية رقم [271] من سورة (البقرة). و {أُمَّةٌ} . المراد بها هنا:

جماعة، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به، كقوله تعالى في حق إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً..} . إلخ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل:«يبعث أمّة وحده» ؛ لأنه لم يشرك في دينه غيره. والأمّة:

الطريقة، والملّة، والدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ:}

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} . وكلّ جنس من الحيوان أمّة، كقوله تعالى في سورة (الأنعام):{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} . ويستدل بهذه الآية من يقول بتناسخ الأرواح. والأمّة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت وحين، والأمة: الشجّة التي تبلغ الدّماغ. يقال: رجل مأموم. والأمة: أيضا القامة، يقال:

فلان حسن الأمة؛ أي: حسن القامة. قال الشاعر: [المتقارب]

وإنّ معاوية الأكرمي

ن حسان الوجوه طوال الأمم

هذا؛ والمعروف: ما استحسنه الشرع، والعقل، والفطرة السليمة. والمنكر: ما استقبحه الشرع، والعقل، والفطرة السّليمة. (أولئك): الإشارة إلى الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وهو جمع:«ذلك» وقد يجمع على: ألالك، وأنشد ابن السكيت:[الطويل]

ألالك قومي لم يكونوا أشابة

وهل يعظ الضّلّيل إلاّ ألالكا؟

وأولئك: لجماعة العقلاء، وربما جاء لغير العقلاء، ومنه قوله تعالى في سورة (الإسراء) رقم [36]:{وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً} وقال جرير من قصيدة يهجو بها الفرزدق-وهو الشاهد رقم [80] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الكامل]

ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأقوام

{الْمُفْلِحُونَ:} الفائزون برضا الله، الناجون من غضبه، وعقابه، فهو جمع اسم فاعل من أفلح الرجل: فاز ببغيته، ومراده، وأصله: مؤفلح، فاستثقلت الفتحة على الهمزة فحذفت، فصار: موفلح، ثم حذفت الواو لالتقائها ساكنة مع الفاء الساكنة، فصار: مفلح. هذا؛ والفلح، والفلاح مشتقان في اللغة من الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرضين، أي: شقها للحرث، ولذلك سمي الزّراع فلاّحا، ويقال للذي شقت شفته السفلى، أو العليا: أفلح، والفلاح: البقاء، والدوام، قال الأضبط بن قريع السّعدي في الجاهلية:[المنسرح]

لكلّ همّ من الهموم سعه

والمسي والصّبح لا فلاح معه

يقول: ليس مع كرّ الليل، والنّهار بقاء. وقال آخر:[الطويل]

نحلّ بلادا كلّها حلّ قبلنا

ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

ص: 195

ولا تنسى أنّ بين الجملتين: ({يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}) و ({يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}) مقابلة، وهي من المحسّنات البديعية.

الإعراب: {وَلْتَكُنْ:} الواو: حرف عطف. اللام: لام الأمر. (تكن): فعل مضارع ناقص مجزوم بلام الأمر. {مِنْكُمْ} جار ومجرور متعلقان بالفعل الناقص، أو بمحذوف حال من:

{أُمَّةٌ} كان نعتا له، انظر الآية السابقة. {أُمَّةٌ} اسم:(تكن). {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله، ومفعول ما بعده محذوف للعلم به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(تكن). هذا؛ وإن اعتبرت الفعل تامّا، ف {أُمَّةٌ} فاعله، وجملة:{يَدْعُونَ} في محل صفة له، وقد جمع الضمير مع كونه راجعا إلى:

{أُمَّةٌ} وذلك باعتبار عدد أفراد الأمة. {إِلَى الْخَيْرِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملتان:

{وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} معطوفتان على الجملة السابقة على الوجهين المعتبرين فيها.

{وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [82]

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105)}

الشرح: ينهى الله عز وجل عباده المؤمنين عن التفرّق، والاختلاف كما اختلف اليهود، والنصارى في أمر دينهم. وانظر ما ذكرته فيما مضى. قيل: تفرقوا بسبب العداوة، واتباع الهوى، واختلفوا في دين الله، فصاروا فرقا مختلفين. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف، والفرقة، وأخبرهم إنّما هلك من كان قبلهم بالمراء، والخصومات في الدّين. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ} أي: الحجج الواضحات، فعلموها، ثم خالفوها. وذكّر الفعل؛ لأنّ البينات ليست مؤنثا حقيقيّا وفي كثير من الآيات:{جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ} . {وَأُولئِكَ لَهُمْ..} . إلخ أي: لهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا عذاب عظيم في الآخرة، وفيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرّق، والاختلاف، وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلاّ من أبى» قالوا: ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني؛ دخل الجنّة، ومن عصاني؛ فقد أبى» . أخرجه البخاري. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يجمع أمّتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار» . أخرجه الترمذيّ.

وعن أبي ذرّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» . أخرجه أبو داود. أراد ب «ربقة الإسلام» : عقد الإسلام. وأصله: أنّ

ص: 196

الرّبق حبل في عدّة عرا، يشدّ بها الغنم، الواحدة من العري: ربقة. وروى البغوي عن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سرّه أن يسكن بحبوحة الجنّة؛ فعليه بالجماعة، فإنّ الشيطان مع الفذّ، وهو مع الاثنين أبعد» . وقد ذكرت لك فيما مضى: أنّ النّهي مخصوص بالتفرّق في أصول الدّين دون فروع الشّريعة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق:{كَالَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُونُوا} وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى: «مثل» فهي الخبر، وهي مضاف و (الذين) مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {تَفَرَّقُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة صلة الموصول، لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بأحد الفعلين على التنازع. {ما:} مصدرية.

{جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ:} فعل ماض، ومفعوله، وفاعله، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جرّ بإضافة:{بَعْدِ} إليه، والجملة الفعلية:{وَلا تَكُونُوا} إلخ معطوفة على جملة: (اعتصموا

) إلخ لا محل لها مثلها. {وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [91] وهي في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. بعد هذا: وقوع الكاف اسما كثير في اللغة انظر ما ذكرته في الشاهد رقم [326] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وهذا نصّه، وقائله العجّاج:[الرجز]

بيض ثلاث كنعاج جمّ

يضحكن عن كالبرد المنهمّ

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)}

الشرح: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ:} يكون هذا يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم، تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة. قال تعالى في سورة (طه):{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} والمجرمون على اختلاف مللهم من كافرين، وظالمين، ومنافقين

إلخ، وفي بياض الوجوه، وسوادها قولان:

أحدهما: أن البياض كناية عن الفرح، والسرور. والسّواد كناية عن الغمّ، والحزن. وهذا مجاز مستعمل، يقال لمن نال بغيته، وظفر بمطلوبه: ابيضّ وجهه، يعني: من السرور، والفرح، ولمن ناله مكروه: اسودّ وجهه، واربدّ لونه؛ يعني: من الحزن، والغمّ. قال تعالى في سورة (النحل):{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} يعني: من الحزن.

ص: 197

والقول الثاني: أنّ بياض الوجوه، وسوادها حقيقة فيهما، والحكمة في بياض الوجوه وسوادها: أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن؛ عرفوا أنه من أهل السّعادة، وإذا رأوا سواد وجه الكافر، والمنافق؛ عرفوا: أنه من أهل الشقاوة، وبين كلمتي، {تَبْيَضُّ،} و ({تَسْوَدُّ}) طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ..} . إلخ. اختلف العلماء في هؤلاء، فروي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه: أنه قال: أراد به الإيمان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم في عالم الذّرّ:

{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} فآمن الجميع في ذلك الحين، فكلّ من كفر بعد بلوغه؛ فقد كفر بعد الإيمان. وقال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: هم المنافقون، وذلك أنهم تكلّموا بالإيمان بألسنتهم، وأنكروه بقلوبهم، وقال عكرمة-رحمه الله تعالى-: هم أهل الكتاب، وذلك: أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلمّا بعث؛ أنكروه، وكفروا به. وقيل: هم الذين ارتدّوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم الخوارج، والملل، والنحل الّتي شذّت، وزيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم، فيكون في الكلام إخبار بما سيقع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وخذ ما يلي:

فعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت إليهم لأنالهم؛ اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّ! أصحابي! فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . متّفق عليه. وعن زيد بن وهب-رضي الله عنه:

أنّه كان في الجيش الذين كانوا مع عليّ كرم الله وجهه لمّا سار إلى الخوارج، فقال عليّ-رضي الله عنه: أيها الناس! إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمّتي، يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن، وهم يحسبون: أنّه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّميّة» . متفق عليه، ويزاد في رواية أخرى:«فأينما لقيتموهم، فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» . والأحاديث في ذلك كثيرة.

{فَذُوقُوا الْعَذابَ..} . إلخ: هذا الأمر للإهانة؛ أي: يقال لهم: ذوقوا جزاء كفركم. هذا؛ والذوق يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء، والاختبار، تقول: اركب هذا الفرس، فذقه. وانظر فلانا؛ فذق ما عنده. قال الشمّاخ يصف قوسا:[الطويل]

فذاق فأعطته من اللّين جانبا

كفى ولها أن يفرق السّهم حاجز

وقد يعبّر بالذّوق عمّا يطرأ على النفس، وإن لم يكن مطعونا لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]

فذق هجرها إن كنت تزعم أنّها

فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم

ص: 198

وتقول: ذقت ما عند فلان؛ أي: اختبرته. وذقت القوس: إذا جذبت، وترها لتنظر ما شدّتها؟ وأذاقه الله وبال أمره؛ أي: عقوبة كفره، ومعاصيه. قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل]

فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر

من الغيظ في أكبادنا والتّحوب

وتذوّقته؛ أي: شيئا، فشيئا. وأمر مستذاق، أي: مجرب معلوم. قال الشاعر: [الوافر]

وعهد الغانيات كعهد قين

دنت عند الجعائل مستذاق

وأصل الذوق بالفم، وذوقوا في كثير من الآيات للإهانة، وفيه استعارة تبعيّة تخيليّة. وذكر العذاب في كثير من الآيات استعارة مكنية، حيث شبّه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبّه الذوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذوق تخيلا.

الإعراب: {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب {عَظِيمٌ} في الآية السّابقة، أو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكروا اليوم. وقيل: متعلق بالخبر المحذوف الذي تعلق به: {لَهُمْ} .

{تَبْيَضُّ وُجُوهٌ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {يَوْمَ} إليها، وجملة:

{وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} معطوفة عليها، فهي في محل جر مثلها. {فَأَمَّا:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (أمّا): انظر الآية رقم [56]. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {اِسْوَدَّتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {وُجُوهُهُمْ:} فاعله، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَكَفَرْتُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وإنكار، وتوبيخ، ({كَفَرْتُمْ}): فعل، وفاعل. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلّق بما قبله، وهو مضاف، و {إِيمانِكُمْ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: فيقال لهم: أكفرتم

إلخ، والفاء واقعة في جواب (أمّا)، والجملة الفعلية في محل رفع المبتدأ، وهي في الوقت نفسه جواب (أمّا) وهي ومدخولها كلام مفرع عما قبله لا محلّ له. {فَذُوقُوا..}. إلخ: الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر. (ذوقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْعَذابَ:} مفعول به. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة:{تَكْفُرُونَ} في محل نصب خبر (كان)، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل:(ذوقوا) أو بمحذوف حال من: {الْعَذابَ:} واعتبار (ما) موصولة فيه ضعف ظاهر، وجملة: (ذوقوا

) إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط محذوف، التقدير: إذا كان ما ذكر من كفركم حاصلا؛ فذوقوا. والجملة الشرطية هذه معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول.

ص: 199

{وَأَمَّا الَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)}

الشرح: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ..} . إلخ انظر الآية السابقة. {فَفِي رَحْمَتِ اللهِ:} جنته، وثوابه؛ الذي لا ينقطع. والجنّة: هي رحمة الله الخالدة. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «احتجّت الجنّة والنّار، فقالت النّار: فيّ الجبّارون، والمتكبّرون. وقالت الجنّة:

فيّ ضعفاء المسلمين، ومساكينهم، فقضى الله بينهما: إنّك الجنّة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنّك النّار عذابي أعذّب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها». رواه مسلم.

هذا؛ وإن الله-عز وجل-ذكر في الآية السّابقة: أن سواد وجوه الكافرين في الآخرة، وإذاقتهم العذاب الأليم إنّما هو بسبب كفرهم، وذكر في هذه الآية: أن بياض وجوه المؤمنين، وإدخالهم جنّات النعيم إنّما هو برحمة الله، ومحض كرمه، تنبيها على أنّ المؤمن-وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى-لا يدخل الجنة إلا برحمته، وفضله. وإليك ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدا عمله الجنّة» .

قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني الله بفضله، ورحمته! فسدّدوا، وقاربوا» . أخرجه البخاريّ. بعد هذا انظر المقابلة في الآية رقم [57] هذا؛ وكان من حقّ الترتيب أن يقدّم ذكر المؤمنين، ولكن قصد أن يكون مطلع الكلام، وانتهاؤه حلية المؤمنين، وثوابهم، وهو ما يعبّر عنه في البلاغة بحسن المطلع، وحسن الانتهاء، كما يعبّر عنه باللّف، والترتيب، والنشر المشوّش، وكرّر الله كلمة (في) لأن في كلّ واحدة منهما معنى غير الأخرى، المعنى: أنهم في رحمة الله، وأنّهم في الرّحمة خالدون.

الإعراب: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ:} الإعراب مثل الآية السابقة بلا فارق. {فَفِي:}

الفاء: واقعة في جواب (أمّا). (في رحمة): متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ، التقدير: فهم في رحمة، و {رَحْمَتِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر المبتدأ، وهي جواب (أمّا) و (أمّا) ومدخولها معطوف على ما قبله في الآية السابقة، لا محلّ له مثله. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ.

{فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مفيدة للتوكيد، كأنّه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقال: {هُمْ فِيها خالِدُونَ،} ولا يلتفت لمن يقول:

(في رحمة) متعلقان ب: {خالِدُونَ} .

{تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)}

الشرح: {تِلْكَ..} . إلخ؛ أي: الواردة في وعده، ووعيده، المبيّنة لنعيم الأبرار، وتعذيب الكفار. {نَتْلُوها:} نقرؤها. {عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} الواضح؛ الذي لا ارتياب فيه، ولا شكّ. {وَمَا اللهُ}

ص: 200

يُرِيدُ

إلخ؛ أي: ليس بظالم لهم، بل هو الحاكم العدل؛ الّذي لا يجور؛ لأنّ القادر على كلّ شيء، العالم بكلّ شيء، لا يعجزه شيء، لذا فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه.

والالتفات ظاهر من التكلّم إلى الغيبة. انظر الالتفات في الآية رقم [56].

هذا و (العالمين) جمع: عالم بفتح اللام، وجمع؛ لاختلاف أنواعه، وهو جواب عمّا يقال:

إنّه اسم جنس يصدق على ما سوى الله، والجمع لا بدّ أن يكون له أفراد ثلاثة، فأكثر. وجمع بالياء والنون، كما يجمع بالواو والنون تغليبا للعقلاء على غيرهم، وهو يقال لكلّ ما سوى الله، ويدلّ له قوله تعالى حكاية عن قول «موسى» -على نبينا، وعليه أفضل الصلاة، وأتم التّسليم-لمّا قال له فرعون:{قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . هذا والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام، وهي منتشرة في هذا الكون المترامي الأطراف في البرّ والبحر؛ إذ كلّ جنس من المخلوقات يقال له: عالم، قال تعالى:{وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} ولا واحد له من لفظه مثل: معشر، ورهط، وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: العالمون ثمانون ألف عالم، أربعون ألف عالم في البرّ، وأربعون ألف عالم في البحر. انتهى. وجمع جمع المذكّر السالم، وذلك بتغليب من يعقل على ما لا يعقل. والعالم مشتق من العلامة؛ لأنه دالّ على وجود خالقه، وصانعه، وعلى وحدانيته، جلّ، وعلا، كما قال أبو العتاهية:[المتقارب]

فيا عجبا كيف يعصى الإل

هـ أم كيف يجحده الجاحد؟

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {آياتُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{نَتْلُوها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الواو للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، و (ها) مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{آياتُ اللهِ} والعامل في الحال اسم الإشارة على حدّ قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} . {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {بِالْحَقِّ:} متعلّقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول، وهذا يعني: أنّها حال متداخلة.

{وَمَا:} الواو: حرف استئناف. ({مَا}): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» . {اللهِ:} اسمها.

{يُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهِ} . {ظُلْماً:} مفعول به. {لِلْعالَمِينَ:} متعلقان ب {ظُلْماً} أو بمحذوف صفة له. هذا؛ ونقل الجمل عن السّمين اعتبار اللام زائدة، لا تعلّق لها بشيء، زيدت في مفعول المصدر تقوية له، وأنّ فاعل المصدر محذوف، التقدير: وما الله يريد أن يظلم العالمين، فزيدت اللام تقوية للعامل؛ لكونه فرعا في العمل، كقوله تعالى:{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} . انتهى بحروفه. هذا؛ والجملة الفعلية في محل نصب خبر ({مَا}) أو في محل رفع خبر

ص: 201

المبتدأ؛ إن اعتبرتها مهملة، والجملة الاسمية على الوجهين معطوفة على ما قبلهما، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.

{وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}

الشرح: قال المهدويّ-رحمه الله تعالى-: وجه اتصال هذا بما قبله: أنه لمّا ذكر أحوال المؤمنين، والكافرين، وأنّه لا يريد ظلما للعالمين؛ وصله بذكر اتّساع قدرته، وغناه عن الظلم بكون ما في السّماوات، وما في الأرض له؛ حتّى يسألوه، ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره. انتهى قرطبي. والمراد: كلّ ما فيهما ملك لله تعالى ملكا، وخلقا، وعبيدا. وفي:{ما} تغليب غير العاقل على العاقل؛ لأنّهم أكثر. {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: أمور الخلق كلّهم يوم القيامة، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. هذا؛ والفعل يقرأ بالبناء للمجهول، فيكون من المتعدّي، ويقرأ بالبناء للمعلوم فيكون من اللّازم؛ لأن هذا الفعل يكون متعدّيا، ولازما، فمن المتعدي صراحة قوله تعالى في سورة (التوبة):{فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ} . ومن اللازم قوله تعالى في كثير من الآيات: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .

الإعراب: {وَلِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {وَإِلَى اللهِ:} متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُ:} فعل مضارع يقرأ بالبناء للمعلوم، وبالبناء للمجهول. {الْأُمُورُ:} فاعله، أو نائب فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)}

الشرح: ذكر الخازن-رحمه الله تعالى-: أن سبب نزول الآية مثل ما ذكرته في الآية رقم [100] ولا وجه له، بل هو كلام مستأنف. ومعنى:{كُنْتُمْ خَيْرَ..} . إلخ؛ أي: في علم الله تعالى، أو في اللّوح المحفوظ، أو فيما بين الأمم المتقدّمين. و {خَيْرَ} أفعل تفضيل، أصله:

أخير، نقلت حركة الياء للخاء قبلها؛ لأن الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، ثم حذفت الهمزة استغناء عنها بحركة الخاء. ومثله قل في حبّ، وشرّ، اسمي تفضيل؛ إذ أصلها أحبب وأشرر، فنقلت حركة الباء الأولى والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان

ص: 202

المتماثلان في بعضهما، ثمّ حذفت الهمزة من أولهما، استغناء عنها بحركة الخاء والشين، وقد يستعمل «خير» و «شر» على الأصل، كقراءة بعضهم قوله تعالى في سورة (القمر):(«سيعلمون غدا من الكذّاب الأشر») بفتح الشين، ونحو قول رؤبة بن العجّاج:[الرجز]

يا قاسم الخيرات وابن الأخير

ما ساسنا مثلك من مؤمّر

و: خير، وشر، وحب، يستعملن بصيغة واحدة للمذكّر، والمؤنث، والمفرد، والمثنّى، والجمع؛ لأنهنّ بمعنى أفعل، كما رأيت. {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ:} انظر الآية رقم [104] وخذ هنا ما يلي:

عن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والّذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله لأن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم» . أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجة. وعن درّة بنت أبي لهب-رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! من خير النّاس؟ قال: «أتقاهم للرّبّ، وأوصلهم للرّحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر» . رواه البيهقيّ، وغيره. وقال الإمام أحمد: قام رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ وهو على المنبر، فقال: يا رسول الله! أيّ النّاس خير؟

إلخ الحديث، وذكر ما روته درّة.

{وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ:} الإيمان بالله يتضمن كلّ ما أمر أن يؤمن به. وإنّما أخّره، وحقّه أن يقدّم؛ لأنّه قصد بذكره الدّلالة على أنّهم أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر إيمانا بالله، وتصديقا به، وإظهارا لدينه. وأيضا: فالإيمان يشترك فيه جميع الأمم المؤمنة، وإنّما فضّلت هذه الأمّة الإسلاميّة على غيرها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فكان ذلك سببا في تأخير الإيمان بالذّكر.

{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ} أي: اليهود، والنّصارى بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وبالدّين الذي جاء به.

{لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: لكان الإيمان خيرا لهم ممّا هم فيه من الرّئاسة، ومن حطام الدّنيا؛ الذي اغترّوا فيه، ولو أنّهم آمنوا؛ لحصل لهم عزّ الدنيا، وسعادة الآخرة. {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} كعبد الله بن سلام، وأصحابه؛ الّذين أسلموا من اليهود، والنّجاشي، وأصحابه؛ الّذين أسلموا من النصارى. {وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} أي: المتمرّدون في الكفر، والطّغيان، والفساد. بعد هذا فخد ما يلي بشأن هذه الأمة.

ففي مسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه؛ قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمّة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» . وإنّما حازت هذه الأمّة قصب السبق إلى الخيرات بنبيّها صلى الله عليه وسلم فإنّه أشرف خلق الله، وأكرم الرّسل على الله، وبعثه الله بشرع كامل عظيم، لم يعطه نبيّ، ولا رسول قبله، فالعمل على منهاجه، وسبيله يقوم القليل منه مالا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه. ومن قوله صلى الله عليه وسلم من الأمور التي خصّه الله بها:«وجعلت أمّتي خير الأمم» . رواه الإمام أحمد من حديث عليّ، كرّم الله وجهه.

ص: 203

وعن ابن مسعود-رضي الله عنه، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أمّتي بالمواسم، فراثت (تأخرت) عليّ أمّتي، ثمّ رأيتهم، فأعجبتني كثرتهم، وهيئتهم، قد ملئوا السّهل، والجبل.

فقال: أرضيت يا محمد؟ فقلت: نعم، قال: فإنّ مع هؤلاء سبعين ألفا، يدخلون الجنّة بغير حساب، وهم الّذين لا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون». فقام عكّاشة بن محصن الأسدي، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:«أنت منهم» . فقام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عكّاشة» .

وعنه-رضي الله عنه-قال: قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة» فكبّرنا.

ثمّ قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟» فكبّرنا. ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة؟» . أخرجه الشّيخان. فهذه الأحاديث في معنى الآية الكريمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ..} .

إلخ، فمن اتصف من هذه الأمّة بهذه الصّفات؛ دخل معهم في هذا المدح، كما قال قتادة- رحمه الله تعالى-: بلغنا: أنّ عمر-رضي الله عنه-في حجّة حجّها رأى من الناس كثرة، فقرأ هذه الآية:{كُنْتُمْ خَيْرَ..} . إلخ، ثمّ قال:(من سرّه أن يكون من هذه الأمّة؛ فليؤدّ شرط الله فيها). رواه ابن جرير.

ومن لم يتّصف بذلك أشبه أهل الكتاب؛ الذين ذمّهم الله بقوله: {كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} . ولهذا مدح الله هذه الأمة على هذه الصّفات. هذا؛ وقال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السّنن: عن محمد بن زياد، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وعدني ربّي أن يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفا، مع كلّ ألف سبعون ألفا، لا حساب عليهم، ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربّي، عز وجل» . وأكتفي بهذا القدر بشأن هذه الأمّة.

الإعراب: {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمها. {خَيْرَ:} خبرها، وهو مضاف، و {أُمَّةٍ:} مضاف إليه، وقال القرطبيّ، وغيره:(كان) التّامة، والمعنى: خلقتم، ووجدتم خير أمّة، و {خَيْرَ} حال من تاء الفاعل.

وقيل: (كان) زائدة، والمعنى أنتم خير أمّة. وليسا بشيء؛ لأنّ كان من أفعال الاستمرار تصلح لكلّ زمان، مثل قوله تعالى:{وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} وزيادة «كان» لا تقع إلا بين شيئين متلازمين، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]

وقد تزاد كان في حشو ك: ما

كان أصحّ علم من تقدّما

{أُخْرِجَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{أُمَّةٍ} والتاء للتأنيث.

{لِلنّاسِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محل جرّ صفة:{أُمَّةٍ} . {تَأْمُرُونَ:} فعل مضارع

ص: 204

مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للعلم به، وكذا مفعول ما بعده. {بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محلّ نصب خبر ثان ل (كان): أو هي في محل نصب حال من تاء الفاعل. قاله الراغب، وابن عطية. والثالث: أنها في محل نصب صفة ل {خَيْرَ أُمَّةٍ} قاله الحوفي. والرابع: أنها مستأنفة. وهذا أغرب الأوجه. انتهى نقلا عن السّمين. والجملتان بعدها معطوفتان عليها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وجملة:{كُنْتُمْ..} .

إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {آمَنَ أَهْلُ:}

ماض، وفاعله، و {أَهْلُ:} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وحذف المتعلق للعمل به بداهة، انظر الشرح. {لَكانَ:} اللام: واقعة في جواب ({لَوْ}). (كان): فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله، التقدير: لكان الإيمان خيرا لهم. والجملة الفعلية جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.

{مِنْهُمُ:} مضمون الجار والمجرور مبتدأ؛ لأنهما بمعنى: بعضهم، ويؤيده عطف ({أَكْثَرُهُمُ}) عليه، ومقابلته به، ولا يصح المعنى إلا على هذا الاعتبار، وهو خير ما يؤيّد ما ذهبت إليه فيما مضى. {الْمُؤْمِنُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، واعتبارها في محل نصب حال من:{أَهْلُ الْكِتابِ} لا بأس به، ويكون الرابط الضمير فقط، والتي بعدها معطوفة عليها على الاعتبارين.

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)}

الشرح: سبب نزول هذه الآية: أن رؤساء اليهود عمدوا إلى من آمن منهم، كعبد الله بن سلام، وأصحابه-رضوان الله عليهم-يؤذونهم لإسلامهم. والمعنى: لن يضرّوكم أيّها المؤمنون إلا أذى، يعني: باللّسان، من طعنهم في دينكم، أو تهديد، أو إلقاء شبهة، وتشكيك في القلوب، وكلّ ذلك يسبب الأذى، والغمّ. {وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ} أي: منهزمين مخذولين. {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ:} لا يكون لهم النصر عليكم، بل تنصرون عليهم. فأخبر الله سبحانه: أن الدائرة على اليهود؛ إن قاتلوا، وأنّ عاقبتهم العجز، والخذلان. وهذه الآية من الإخبار بالمغيبات؛ الّتي وافقها الواقع؛ إذ كان كذلك حال قريظة، والنّضير، وبني قينقاع، ويهود خيبر، كلّهم أذلّهم الله، وكذلك النّصارى في الشّام هزمهم الصّحابة في غير ما موطن، وسلبوهم ملك الشام. والتاريخ شاهد صدق على ذلك، وانظر إعلال مثل:{أَذىً:} في الآية رقم [3].

ص: 205

هذا؛ و {الْأَدْبارَ} جمع دبر بضم الباء، وسكونها، وهو الظّهر. ودبر كل شيء: آخره، وعقبه، فعن كعب بن عجرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«معقّبات لا يخيب قائلهنّ، أو فاعلهنّ دبر كلّ صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة» . رواه مسلم، والترمذي، والنّسائي.

الإعراب: {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَضُرُّوكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَذىً:} مستثنى من المصدر العام، كأنه قيل: لن يضروكم ضررا البتّة إلا ضرر أذى لا يبالى به. وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: إلا بأذى يسير، ولا بأس به، وعليه: فالجار، والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب على الاستثناء. {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {يُقاتِلُوكُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.

ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُوَلُّوكُمُ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم مثل فعل شرطه، والواو فاعله، والكاف مفعوله الأول. {الْأَدْبارَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {ثُمَّ:} حرف عطف في الإعراب، وفي المعنى حرف استئناف. ({لا}): نافية. {يُنْصَرُونَ} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، ولهذا ثبتت فيها النون، وللزمخشري كلام جيد ملخصه: وعدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنّه قيل:

ثمّ أخبركم: أنهم مخذولون منتف عنهم النصر، ولو جزم؛ لكان نفي النّصر مقيدا بقتالهم، بينما النّصر وعد مطلق بقتال، أو بدونه، فهم مخذولون على كلّ حال. وهو جيد، وألف جيد.

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112)}

الشرح: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} أي: لزمهم الذلّ، والهوان. {أَيْنَ ما ثُقِفُوا} أي: أحاط بهم كما يحيط البيت المضروب بصاحبه، ففيه استعارة بالكناية، حيث شبّه الذلّ بالخباء المضروب على أصحابه. قال الشاعر في مدح ابن الحشرج أمير خراسان:[الكامل]

إنّ السّماحة والمروءة والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج

ص: 206

وقال الفرزدق في هجاء جرير، ووعيده، وتهديده له:[الكامل]

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل

{أَيْنَ ما ثُقِفُوا:} أينما وجدوا. قال تعالى في سورة (البقرة): {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . هذا؛ والثّقف في الأصل: الحذق في إدراك الشيء علما كان، أو عملا، فهو يتضمّن معنى الغلبة، يقال: ثقف، يثقف ثقفا، ويقال: رجل ثقف لقف، أي: خفيف حاذق: إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. قال الشاعر: [الوافر]

فإمّا تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

{إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ} أي: إلا بعهد من الله، وهو أن يسلموا، فتزول عنهم الذلّة. {وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} بعهد من الناس أي: المؤمنين ببذل الجزيرة، والمعنى: ضربت عليهم الذلّة في عامّة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل من النّاس، وهو ذمّة الله، وعهده، وذمّة المسلمين، وعهدهم، لا عزّ لهم إلا بهذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من بذل الجزية، ولذا قدّر القرطبي: إلا أن يعتصموا بحبل، وإنّما سمي العهد حبلا؛ لأنه يوصل إلى الأمن، وزوال الخوف. وانظر الاستعارة في الآية رقم [103].

{وَباؤُ بِغَضَبٍ} أي: انقلبوا، ورجعوا بغضب من الله؛ أي: لزمهم ذلك. وصاروا أحقاء به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستغفار:«أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» أي: أعترف بنعمتك عليّ، وأرجع بذنبي إليك؛ لتغفره لي. وقال تعالى في سورة (المائدة) حكاية عن قول هابيل لأخيه قابيل:{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} وأصله في اللغة: الرجوع، ومثله: آب بتقديم الهمزة على الباء، قال عمرو بن كلثوم التغلبي في معلّقته رقم [77][الوافر]

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

أي: رجعوا، ورجعنا. {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} هذا؛ والذلّة: الذلّ والصّغار، والمسكنة:

الفقر، فلا يوجد يهوديّ، وإن كان غنيّا خاليا من زيّ الفقر، وخضوعه، ومهانته، ولقد أذلّهم الله كلّ حياتهم، وفي جميع عصورهم، ف (بختنصر) المجوسي أذلّهم، وامتهنهم، كما رأيت في أوّل سورة الإسراء، ثمّ النصارى ساموهم سوء العذاب، ولمّا جاء الإسلام؛ طردهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة المنوّرة، ثمّ طهّر الفاروق بلاد الحجاز من رجسهم، ثمّ لما فتح بيت المقدس في عهده ضرب عليهم الجزية، ولكن في هذه الأيام صار لهم صولة، ودولة بسبب تفرّق المسلمين، وإهمالهم لتعاليم دينهم، وتركهم لسنّة نبيّهم، وتركهم الجهاد في سبيل الله، وإقبالهم على الدّنيا، وكأنّ الله نزع الذلّة، والمسكنة من رقاب اليهود، وألبسهما أعناق المسلمين بسبب ذلك. وخذ ما يلي:

عن ثوبان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فقال قائل: من قلّة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثيرون،

ص: 207

ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن». قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: «حبّ الدّنيا، وكراهية الموت» . أخرجه أبو داود، وأحمد، وغيرهما.

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاّ، لا ينزعه عنكم حتّى ترجعوا إلى دينكم» . أخرجه أبو داود. ومن قول ابن مسعود-رضي الله عنه: نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، إذا طلبنا العزّة بغيره؛ أذلّنا الله.

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ} أي: بسبب كفرهم بآيات الله؛ أي: التوراة، أو بالمعجزات؛ الّتي أجراها الله على يد موسى تأييدا لدعوته، وتقوية لحجّته. {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ} مثل: يحيى، وزكريا، وشعيا، وغيرهم، فعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال:«كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثمّ يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار» بمعنى: لا يهمهم ذلك، ولا يكترثون به، ولا يحسبون له حسابا. رواه أبو داود الطيالسي. وكلمة:«في اليوم» لا تعني كلّ يوم، ولكن في بعض الأيام، وعن ابن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبيّ، أو قتل نبيّا، وإمام ضلالة، وممثّل من الممثّلين» . أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حين طعن أبيّ بن خلف في غزوة أحد، وكان ذلك سببا في موته.

{بِغَيْرِ حَقٍّ:} معلوم: أنّه لا يقتل نبيّ بحقّ، ولكن يقتل بالدّفاع عن الحقّ، فصرح بقوله ذلك للتّشنيع عليهم، فلم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله. فإن قيل: كيف جاز أن يخلّى بين الكافرين وقتل الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم، وزيادة في علوّ مقاماتهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك خذلانا لهم. قال ابن عبّاس، والحسن-رضي الله عنهم-لم يقتل نبيّ قطّ من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكلّ من أمر بقتال؛ نصر. انتهى، ومعلوم: أن نبينا صلى الله عليه وسلم أمر بقتال، فنصر. والحمد لله!

{ذلِكَ بِما عَصَوْا:} الإشارة إلى ما تقدّم من ضرب الذلّة، والمسكنة عليهم، والعصيان:

خلاف الطاعة. {وَكانُوا يَعْتَدُونَ:} يتجاوزون حدود الله، فينتهكونها، ويؤخذ من هذا: أنّ صغار الذنوب يجرّ إلى كبارها، وأنّ صغار الطّاعات يجرّ إلى كبارها أيضا، فاليهود جرّهم ارتكاب معصية الله إلى عظائم الأمور؛ حيث قتلوا الأنبياء، واستحلّوا المحرّمات، وجرّهم ذلك أيضا إلى الكفر بمحمّد صلى الله عليه وسلم، وتحريف التّوراة، وغير ذلك ممّا ذكره القرآن الكريم عنهم.

الإعراب: {ضُرِبَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محلّ له. {عَلَيْهِمُ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الذِّلَّةُ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها.

ص: 208

{أَيْنَ ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون، ويقال: مبني على الفتح و ({ما}) زائدة في محل نصب على الظرفية المكانية متعلّق بالفعل بعده. {ثُقِفُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، وإن اعتبرت الشرط متعلقا بجوابه؛ فالجملة الفعلية في محل جر بإضافة {أَيْنَ ما} إليها، وجواب الشرط محذوف، التقدير: عذّبوا، وذلّوا. وقيل: دلّ عليه ما قبله. هذا؛ وإن اعتبرت: {أَيْنَ ما} ظرفا مجردا عن الشرطية؛ فلا يحتاج إلى جواب، ويكون متعلقا بالفعل:

{ضُرِبَتْ} والمعنى لا يأباه. {إِلاّ:} حرف حصر. {بِحَبْلٍ:} متعلقان بمحذوف في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، والمعنى: ضربت عليهم الذلّة في عامّة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة ({حَبْلٍ}). {وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. ({باؤُ}): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِغَضَبٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وقال أبو البقاء: متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة؛ أي: رجعوا مغضوبا عليهم، وهو جيّد. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: (غضب) أو هما متعلقان به؛ لأنه مصدر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ:} هذه الجملة معطوفة على سابقتها، وهي مثلها في إعرابها بلا فارق.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {بِأَنَّهُمْ:} الباء: حرف جر. (أنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {يَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِآياتِ:} متعلقان بما قبلهما، و (آيات) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كانُوا} . وهذه الجملة في محل رفع خبر (أنّ) و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل جرّ بالباء، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مثلها. {بِغَيْرِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: مبطلين بغير.

و (غير) مضاف، و {حَقٍّ} مضاف إليه.

{ذلِكَ:} مبتدأ مثل سابقه. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية. {عَصَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار ولمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، التقدير: ذلك بسبب عصيانهم. والجملة الاسمية هذه مستأنفة لا محل لها، وهي مؤكّدة لسابقتها. {وَكانُوا يَعْتَدُونَ:} إعرابها مثل إعراب: {كانُوا يَكْفُرُونَ} وهي

ص: 209

معطوفة على ما قبلها، وتؤوّل مثلها بمصدر بسبب العطف، التقدير: ذلك بسبب عصيانهم، وبسبب اعتدائهم.

{لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)}

الشرح: قال ابن عباس رضي الله عنه: لمّا أسلم عبد الله بن سلام، وأصحابه من اليهود؛ قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شرارنا، ولولا ذلك ما تركوا دين آبائهم. فأنزل الله الآية الكريمة. وفي قوله تعالى:{لَيْسُوا سَواءً} قولان: أحدهما: أنه كلام تامّ يوقف عليه.

والمعنى عليه: أن أهل الكتاب الّذين سبق ذكرهم: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} ليسوا سواء. وقيل: لا يستوي اليهود، وأمّة محمد صلى الله عليه وسلم القائمة بأمر الله، الثابتة على الحقّ.

والأوّل هو الأقوى. والقول الثاني: أنّ قوله: {لَيْسُوا سَواءً} متعلّق بما بعده، ولا يوقف عليه.

{مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ:} فيه اختصار، وإضمار، والتقدير: ليسوا سواء من أهل الكتاب.

{لَيْسُوا:} الضمير يعود إلى أهل الكتاب. {سَواءً:} انظر الآية رقم [2/ 6]{أَهْلِ الْكِتابِ:}

انظر الآية رقم [64]{أُمَّةٌ:} انظر الآية رقم [2/ 128]. {قائِمَةٌ:} انظر إعلال مثله في الآية رقم [18] ومعناه: المستقيمة العادة الثابتة، وهم الذين أسلموا منهم ك «عبد الله بن سلام» وأصحابه، وجماعة من نصارى نجران أسلموا. {يَتْلُونَ آياتِ اللهِ:} يقرءون القرآن. وقيل:

المراد: يصلون في الليل، فيقرءون القرآن، وانظر الآية رقم [2/ 39] {اللهِ:} انظر الاستعاذة.

{آناءَ:} ساعات، واحدها إنى بفتح الهمزة والنون، أو: إنى بكسر الهمزة وفتح النون، أو أني بالفتح والسكون، و: إنّي بالكسر والسكون، أو: إنو بالكسر والسكون وبالواو، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان. وانظر مفرد آلاء في الآية رقم [7/ 68] فهو قريب منه. {اللَّيْلِ:} انظر الآية رقم [2/ 51]{يَسْجُدُونَ:} يصلون. هذا وقد جمع الضمير فيه وفي يتلون، وكذلك فيما يأتي مع كونه راجعا إلى أمة، وذلك باعتبار عدد أفرادها.

الإعراب: {لَيْسُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضمّ، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{سَواءً:} خبرها، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {مِنْ أَهْلِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، و {أَهْلِ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {أُمَّةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وهي مفيدة للتفصيل المتضمّن نفي التسوية بين المستقيمين من أهل الكتاب، وبين المنحرفين منهم. {قائِمَةٌ:} صفة {أُمَّةٌ} . هذا؛ وأجاز الفرّاء رفع {أُمَّةٌ} ب {سَواءً} وليس بشيء يعتدّ به. وقال أبو عبيدة-رحمه الله تعالى-: {أُمَّةٌ} اسم (ليس) و {سَواءً} خبرها، وأتى الضمير في (ليس) على لغة من قال: أكلوني البراغيث. وهذا بعيد جدّا.

ص: 210

{يَتْلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محلّ رفع صفة ثانية ل {أُمَّةٌ} أو في محل نصب حال من الضمير المستتر ب {قائِمَةٌ}. {آناءَ:}

ظرف زمان متعلّق بالفعل: {يَتْلُونَ} وهو مضاف، و {اللَّيْلِ} مضاف إليه. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة بعده في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة. والرابط: الواو، والضمير.

وأجيز اعتبارها معطوفة على جملة: {يَتْلُونَ} فتكون حالا من الضمير المستتر ب {قائِمَةٌ} مثلها.

{يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ (114)}

الشرح: {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ:} يقرّون بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيّا، وشفيعا، ورسولا. {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} يعتقدون بوجوده، وبوقوعه لا محالة، وذلك؛ لأن إيمان أهل الكتاب فيه شرك، ويصفون اليوم الآخر بغير ما يصفه المؤمنون من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه، وأهل الكتاب ليسوا كذلك، والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من جميع المعاصي، وأهل الكتاب لا يحترزون منها، فلم يحصل الإيمان الخالص بالله واليوم الآخر. {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ..}. إلخ: يعني غير مداهنين، كما يداهن أهل الكتاب بعضهم بعضا، ويأمرون بتوحيد الله وبمحمّد صلى الله عليه وسلم وينهون عن الشرك، وعن كتم صفة محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} أي: يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابها، ومبادرتهم بالعمل الصّالح قبل الموت. قال تعالى في وصف الأنبياء في سورة (الأنبياء):

{إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ..} . إلخ. {وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ:} أي: مع الصالحين في الجنة، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى، واستحقّوا رضاه، وإحسانه، وثناءه. والإشارة بالبعيد لبيان علوّ درجتهم، ومنزلتهم في الفضل. هذا؛ والصّلاح:

ضد الفساد، فإذا حصل الصّلاح للعبد؛ فقد حصل له أعلى الدّرجات، وأكمل المقامات، كيف لا؛ والصّدّيق يوسف-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-حكى القرآن دعاءه:{تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} وحكى دعاء سليمان-على حبيبنا، وعليه ألف تحيّة-:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ} ولكن بعض مشايخ المسلمين يمدّ يده لتقبّل، ويقول: يسنّ تقبيل يد الرجل الصّالح، والرّسول صلى الله عليه وسلم رفض تقبيل يده، وخذ ما يلي:

قال أبو هريرة-رضي الله عنه: دخلت السّوق مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان:

(زن وأرجح) فوثب الوزّان إلى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقبّلها، فجذب يده، وقال: «هذا تفعله الأعاجم

ص: 211

بملوكها، ولست بملك، وإنّما أنا رجل منكم» ثمّ أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال:

«صاحب الشّيء أحقّ بشيئه أن يحمله» ولكنّ المشايخ في هذه الأيام يمدّون أيديهم للتّقبيل.

هذا؛ وقد تكرّر الحثّ على الأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر في هذه السّورة الكريمة.

وخذ ما يلي ملخصا من القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البرّ- رحمه الله تعالى-: أنّ المنكر واجب تغييره على كلّ من قدر عليه، وأنّه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللّوم؛ الذي لا يتعدى إلى الأذى؛ فإنّ ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر، فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك، وإذا أنكر بقلبه، فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال:

والأحاديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كثيرة جدّا، ولكنّها مقيّدة بالاستطاعة، قال الحسن البصريّ-رحمه الله تعالى-: إنّما يكلّم مؤمن يرجى، أو جاهل يعلم، فأمّا من وضع سيفه، أو سوطه، فقال: اتّقني! اتّقني! فما لك، وماله. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: بحسب المرء إذا رأى منكرا، لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه: أنه له كاره.

وروى ابن لهيعة عن الأعرج، عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ لمؤمن أن يذلّ نفسه» . قالوا: يا رسول الله! وما إذلال نفسه؟ قال: «يتعرّض من البلاء لما لا يقوم له» . وروي عن بعض الصّحابة: أنه قال: إنّ الرّجل إذا رأى منكرا، لا يستطيع النكير عليه؛ فليقل ثلاث مرات: اللهم إنّ هذا منكر. فإذا قال ذلك؛ فقد فعل ما عليه. وزعم ابن العربيّ: أنّ من رجا زواله، وخاف على نفسه من تغييره الضّرب، أو القتل؛ جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله؛ فأيّ فائدة عنده؟ قال: والذي عندي: أنّ النية إذا خلصت؛ فليقتحم، كيف ما كان، ولا يبالي.

الإعراب: {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.

{بِاللهِ:} متعلقان به. {وَالْيَوْمِ:} معطوف على ما قبله. {الْآخِرِ:} صفة: ({الْيَوْمِ}) والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل {أُمَّةٌ} أو في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط:

الضمير فقط، أو من الضمير في:{قائِمَةٌ} أو هي مستأنفة لا محل لها بالإعراض عمّا قبلها.

وما بعدها مثلها في محلّها، وإعرابها. {وَأُولئِكَ:} الواو: حرف استئناف، ({أُولئِكَ}): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، وعطفها على ما قبلها لا يجيزه من لا يجيز عطف الاسمية على الفعلية.

{وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)}

الشرح: {وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ..} . إلخ: قرئ الفعلان بالياء؛ لأنّ الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب، وذلك: أنّ اليهود قالوا لعبد الله بن سلام، وأصحابه: إنّكم خسرتم

ص: 212

بسبب هذا الدّين؛ الذي دخلتم فيه ما عملتم من الصّالحات. فأخبر الله-عزّ، وجلّ-: أنهم فازوا بالدّرجات العلى، وما فعلوه من خير يجازيهم به الله. ولا يمنع خصوص السبب عموم الحكم، فيدخل فيه كلّ فاعل للخير، وقرئ الفعلان بالتاء على أنّه ابتداء كلام، وهو خطاب لجميع المؤمنين، فيدخل فيه مؤمنو أهل الكتاب أيضا. ومعنى:(فلن تكفروه): فلن تعدموا ثوابه، أو تمنعوه، بل يشكره الله لكم، ويجازيكم به. هذا وسمّى الله ذلك كفرانا، كما سمّى توفية الثواب شكرا. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} بمعنى: إنّ الله عليم بعمل المتقين، فيجازيهم على عملهم أحسن الجزاء. ففيه بشارة لهم، وإشعار بأنّ التّقوى مبدأ الخير، وحسن العمل، وأنّ الفائز عند الله هم المتّقون، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

و (المتقين) جمع: متق، فهو مأخوذ من التّقوى، وهي حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأن أصل المادة من «الوقاية» وهي: الحفظ، والتحرّز من المهالك دنيا، وأخرى. وفيه تغليب الرجال على النّساء؛ إذ ما من شكّ أنّ في النساء متّقيات، وصالحات. هذا؛ وأصل (المتقين): الموتقين، فيقال في إعلاله: قلبت الواو تاء، وأدغمت في التاء، وحذفت الكسرة عن الياء الأولى، ثمّ حذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار:

(المتقين).

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم. {يَفْعَلُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ خَيْرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من ({ما}). و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، والجملة الفعلية ابتدائية، لا محلّ لها من الإعراب. {فَلَنْ:} الفاء واقعة في جواب الشرط. (لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال.

{يُكْفَرُوهُ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب (لن) وعلامة نصبه حذف النون، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأوّل، والهاء مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ عَلِيمٌ}): مبتدأ، وخبر {بِالْمُتَّقِينَ:} متعلقان ب {عَلِيمٌ} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة؛ فلست مفنّدا، وتكون الحال بمعنى الظرف كما رأيت في الآية رقم [57]. هذا؛ وتعدّى:{يُكْفَرُوهُ} إلى مفعولين؛ وإن كان: (شكر)، و (كفر) لا يتعدّيان إلا إلى واحد، تقول: شكر النّعمة، وكفرها؛ لتضمّنه معنى الحرمان، فكأنه قيل: فلن تحرموه؛ أي: فلن تحرموا جزاءه، وأجره.

ص: 213

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراد بهذه الآية بنو قريظة، وبنو النضير، وذلك: أنّ رؤساء اليهود مالوا إلى تحصيل الأموال في معاداة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنّما كان مقصودهم بمعاداته تحصيل الرئاسة، والأموال، فقال الله-عز وجل:{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ} . وقيل: نزلت في مشركي قريش، فإن أبا جهل الخبيث كان كثير الافتخار بالأموال، وأنفق أبو سفيان مالا كثيرا في يومي بدر وأحد على المشركين. وقيل: إنّ الآية عامّة في جميع الكفار؛ لأن اللفظ عام، ولا دليل يوجب التخصيص، فوجب إجراء اللّفظ على عمومه. وإنّما خصّ الأموال، والأولاد بالذّكر؛ لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بالفداء بالمال، وتارة بالاستعانة بالأولاد، فأعلم الله عز وجل: أن الكافر لا ينفعه شيء من ذلك في الآخرة، ولا مخلص من عذاب الله. وهو فحوى الجملة التالية. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [10] فإنّه جيد، والحمد لله! {وَأُولئِكَ..}. إلخ: انظر سورة (البقرة) رقم [257].

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم: {إِنَّ} وجملة: {كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَنْ تُغْنِيَ:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} .

{عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {أَمْوالُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي. {أَوْلادُهُمْ:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محل لها.

{مِنَ اللهِ:} متعلقان بالفعل: {تُغْنِيَ} وهما في محل نصب مفعول به. {شَيْئاً:} مفعول مطلق، أو نائب عنه، وجوّز أن يكون مفعولا به، وعليه فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدّم عليه؛ صار حالا.

{وَأُولئِكَ:} الواو: حرف استئناف. ({أُولئِكَ}): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {أَصْحابُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {النّارِ:}

مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها، لا محل لها على الاعتبارين. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {خالِدُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{أَصْحابُ النّارِ} والعامل في الحال اسم الإشارة لما فيه من معنى التشبيه، والرابط الضمير فقط، وفيها معنى التأكيد للكلام السابق، وجوّز اعتبارها خبرا ثانيا ل ({أُولئِكَ}). والأول أقوى.

ص: 214

{مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)}

الشرح: في الآية الكريمة تشبيه، وتمثيل لنفقات الكافرين في معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاربة الإسلام. ويشمل أيضا نفقات المرائين، كما رأيت في الآية رقم [263] من سورة (البقرة) والتي بعدها. كما يشمل أيضا نفقات المنّانين، وانظر شرح ({مَثَلُ}) في الآية رقم [264]: منها أيضا، وشرح (أصاب) فيها أيضا، ولقد وصف الله الحياة الّتي نحياها ب ({الدُّنْيا}) لحقارتها، ومهانتها، وأنّها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ورحم الله من يقول:[الكامل]

يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها

شرك الرّدى وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

وما أحسن قول الشّافعي-رضي الله عنه-في ذمّها: [الطويل]

وما هي إلاّ جيفة مستحيلة

عليها كلاب همّهنّ اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها

وإن تجتذبها نازعتك كلابها

وانظر شرح {الرِّياحِ} في الآية رقم [164]: من سورة (البقرة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{فِيها:} في الريح. {صِرٌّ:} فيه وجهان: أحدهما وهو قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة: أنّ الصّر: البرد الشديد. قاله ابن عباس، وقتادة، والسّدّي، وابن زيد-رضي الله عنهم. والوجه الثاني: أنّ الصّر: هو السموم الحارّة؛ التي تقتل. وهو رواية عن ابن عباس-رضي الله عنهما-وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة. وعلى الوجهين فالتشبيه صحيح، والمقصود منه حاصل؛ لأنّها سواء كان فيها برد، فهي مهلكة، أو حرّ، فهي مهلكة أيضا، وعليه، فهو من الأضداد واللغة العربية غنيّة بالكلمات التي تعني الضدّين، ومنه:«الغارين» في كثير من الآيات، فهو يحتمل أن يكون بمعنى الماضين، وبمعنى الباقين. قال أبو ذؤيب الهذليّ من قصيدته في رثاء أولاده:[الكامل]

فغبرت بعدهم بعيش ناصب

وإخال أنّي لاحق مستتبع

ومنها لفظ: «جلل» للعظيم، والحقير، فمن الأول قول الحارث بن وعلة بن ذهل بن شيبان الذّهلي-وهو الشاهد رقم [192]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [السّريع]

فلئن عفوت لأعفون جللا

ولئن سطوت لأوهنن عظمي

ومن الثاني قول امرئ القيس لمّا قتل أبوه، وهو الشاهد رقم [193] من كتابنا المذكور:[المتقارب]

بقتل بني أسد ربّهم

ألا كلّ شيء سواه جلل

ص: 215

أي: هيّن حقير، لا قيمة له. ومنها «الجون» للأبيض، والأسود، و «البين» للقرب، والبعد و «الصّريم» للّيل، والنهار، وبهما فسّر قوله تعالى في سورة (ن):{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} و «النّاصع» للأبيض، والأسود، و «النّاهل» للريّان، والعطشان، و «السّليم» للّديغ، والصحيح، و «وراء» بمعنى خلف، وقدام، و: شعبت الشيء: أصلحته، وشققته، و «الصّارخ» للمغيث، والمستغيث، و «الهاجد» للمصلّي في الليل، والنائم، و «الوهدة» للانحدار، والارتفاع، و «التعزير» للإكرام، والإهانة، و «التقريظ» للمدح، والذم، و «ترب» للغنيّ، والفقير، و «الإهماد» للسرعة في السّير والإقامة، و «عسعس» إذا أقبل، وإذا أدبر، قال تعالى في سورة (التكوير):{وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ} و «القرء» للحيض، والطّهر.

ومنه قيل في قوله تعالى في الآية رقم [62]: من سورة (طه) وفي الآية رقم [3]: من سورة (الأنبياء): {وَأَسَرُّوا النَّجْوى} وفي الآية رقم [54]: من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ} . إنّ أسروا: يحتمل أن يكون بمعنى:

أظهروا، أو أن يكون بمعنى: أخفوا، فهو من الأضداد، كما قيل به في قول امرئ القيس-وهو الشاهد رقم [472]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

تجاوزت أحراسا عليها ومعشرا

عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

{أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} أي: أصابت الرّيح التي فيها صرّ زرع قوم. {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ:} بالكفر، والمعاصي، ومنع حق الله فيه. {فَأَهْلَكَتْهُ} أي: أهلكت الريح الزّرع، وفحوى الآية: أنّ مثل نفقات الكفار، والمنافقين، والمرائين في ذهابها وقت الحاجة إليها، كمثل زرع أصابته ريح باردة، فأهلكته، أو نار، فأحرقته، فلم ينتفع به أصحابه. وفي الآية التشبيه المركّب، وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين، وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين. فعلى هذا زال الإشكال. ومن التشبيه ما حصلت فيه المشابهة بين المقصودين من الجملتين، وبين أجزاء كلّ واحدة منهما، فإن جعلنا هذا المثل من هذا القسم؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أن يكون التقدير: مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون، كمثل الريح المهلكة للحرث.

الوجه الثاني: مثل ما ينفقون كمثل مهلك الرّيح، هو الحرث. والمقصود من ضرب هذا المثل هو تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكليّة، ولا يبقى منه شيء. ويطلق على هذا التشبيه اسم:

التشبيه التمثيلي أيضا.

{وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ} أي: بعدم قبول نفقاتهم. {وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي: ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي، فاستحقّوا عقابه، وحرموا الأجر، والثواب. حيث لم يجعلوها محلاّ للقبول، ومنارة للوصول. وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [61].

الإعراب: {مَثَلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {ما:} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع،

ص: 216

وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: مثل الذي، أو: شيء ينفقونه، وعلى اعتبار:{ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: مثل إنفاقهم المال. {فِي هذِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. أو هما متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، التقدير: كائنا في هذه. {الْحَياةِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، وبعضهم يعتبره نعتا.

{الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذّر.

{كَمَثَلِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {صِرٌّ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية:{فِيها صِرٌّ:} في محل جر صفة: {رِيحٍ} . هذا؛ ويجوز على مذهب الأخفش تعليق الجار والمجرور بمحذوف صفة: {رِيحٍ} واعتبار: {صِرٌّ} فاعلا بمتعلق الجار والمجرور.

{أَصابَتْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{رِيحٍ} والتاء للتأنيث، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل {رِيحٍ} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم. {حَرْثَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {قَوْمٍ:} مضاف إليه. {ظَلَمُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جرّ صفة:{قَوْمٍ} . {فَأَهْلَكَتْهُ:} الفاء: حرف عطف. {فَأَهْلَكَتْهُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث والفاعل يعود إلى:{رِيحٍ} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{أَصابَتْ..} . إلخ على الوجهين: المعتبرين فيها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية.

{ظَلَمَهُمُ اللهُ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، واعتبارها حالا من واو الجماعة في:{ظَلَمَهُمُ} لا يأباه المعنى، ويكون الرّابط الواو، والضمير.

{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل لا عمل له. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به مقدّم، والهاء في محل جر بالإضافة. {يَظْلِمُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في سبب نزول هذه الآية: كان رجال من المسلمين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة، والصّداقة، والحلف، والجوار، والرّضاع، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، ونهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم. ويدلّ على صحّة هذا القول: أنّ الآيات المتقدّمة فيها ذكر اليهود، فتكون هذه الآية كذلك. وقيل: كان قوم من

ص: 217

المؤمنين يصافون المنافقين، ويفشون إليهم الأسرار، ويطلعونهم على الأحوال الخفيّة، فنهاهم الله عن ذلك. وحجّة هذا القول الآية التالية، فإنّها من صفات المنافقين. انتهى خازن.

هذا؛ و (البطانة) مصدر يطلق على الواحد، والجمع. وبطانة الرجل: خاصته؛ الذين يعرفون أسراره ثقة بهم، شبّهوا ببطانة الثوب، كما شبهوا في الشّعار في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الأنصار شعار، والناس دثار» ومثل (البطانة): {وَلِيجَةً:} المذكورة في سورة (التوبة) رقم [16].

قال الشاعر: [الطويل]

أولئك خلصائي نعم وبطانتي

وهم عيبتي من دون كلّ قريب

فقد نهى الله عز وجل المؤمنين في هذه الآية أن يتخذوا من الكفّار، والمنافقين دخلاء، وولجاء، يفاوضونهم في الآراء؛ لأن الإنسان يلوث بهم، وينسب إليهم، قال طرفة بن العبد في معلّقته:[الطويل]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدي

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم

ولا تصحب الأردى فتردى مع الرّدي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] فإنّه جيد. والحمد لله! وقد انقلبت الأحوال في هذه الأيّام، فاتّخذ المسلمون أحبابا، وأعوانا، وأنصارا من الكافرين، والمنافقين. وخذ ما يلي: فقد روى البخاريّ، والنّسائي عن أبي سعيد الخدريّ-رضي الله عنه:

أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله من نبيّ، ولا استخلف من خليفة، إلاّ كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشّرّ، وتحثّه عليه، والمعصوم من عصمه الله» . وقيل لعمر-رضي الله عنه: إنّ هاهنا غلاما من أهل الحيرة، حافظ كاتب، فلو اتّخذته كاتبا، فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين. ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على: أنّ الكافرين لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين، واطّلاع على دواخل أمورهم؛ التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب. ومعنى {مِنْ دُونِكُمْ:} من سواكم، من غيركم.

قال الفرّاء في قوله تعالى: {لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ} أي: سوى ذلك.

{لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً:} لا يقصّرون فيما فيه الفساد عليكم، ولا يتوانون في إيصال الضّرر إليكم. هذا؛ ويقال: لا آلو جهدا؛ أي: لا أقصّر، قال امرؤ القيس، أمير الشعراء، وحامل لوائهم إلى النار:[الطويل]

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه

بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

ص: 218

هذا؛ والخبال، والخبل: الفساد، وقد يكون ذلك في الأفعال، والأبدان، والعقول، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«من أصيب بدم، أو خبل» أي: جرح يفسد العضو. وأنشد الفرّاء قول الشّاعر: [الكامل]

نظر ابن سعد نظرة ويلا لها

كانت لصحبك والمطيّ خبالا

هذا؛ وأصل: (دون) من الدون، وهو القرب، ومثله: أدنى، قال تعالى في سورة (النساء):

{ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا} ومنه تدوين الكتب؛ لأنّه إدناء، أي: تقريب البعض من البعض، ثم استعير للرّتب، فيقال: زيد دون عمرو، أي: في الشرف، والسيادة، ثمّ اتّسع فيهما؛ أي:«دون» و «أدنى» ، فاستعملا في كلّ تجاوز حدّ إلى حد، وتخطّي حكم إلى حكم، قال تعالى في الآية رقم [28] {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: لا يتجاوز وقاية المؤمنين إلى الكافرين، وقال أميّة بن أبي الصّلت:[البسيط]

يا نفس مالك دون الله من واق

وما على حدثان الدّهر من باق

أي: إذا تجاوزت وقاية الله، ولم تناليها؛ لم ينفعك غيره. ويأتي «دون» بمعنى قدّام، قال الأعشى:[الطويل]

تريك القذى من دونها وهي دونه

إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق

و «دون» نقيض «فوق» وهو تقصير عن الغاية. ويكون اسم فعل أمر، كقولك: دونك الدّرهم، أي: خذه، ويكون ظرفا، وهو الأصل فيه، والدّون: الحقير الخسيس، قال الشاعر:[المتقارب]

إذا ما علا المرء رام العلاء

ويقنع بالدّون من كان دونا

{وَدُّوا ما عَنِتُّمْ} أي: أحبّوا، وتمنّوا عنتكم، والعنت: المشقّة، والتضييق. قال تعالى في سورة (البقرة):{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ} و {الْعَنَتَ} في قوله تعالى في سورة (النساء){ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} المراد به: الزنى، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

{قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ} أي: ظهرت العداوة، والتكذيب لكم من أفواههم؛ لأنّهم لا يتمالكون لفرط عداوتهم، وبغضهم، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه. والفعل به اتصلت به تاء التأنيث، فصار بدات، فحذفت الألف لالتقائها مع تاء التأنيث ساكنة. {وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ:} هذا إخبار، وإعلام من العليم الحكيم بأنّهم يبطنون من العداوة، والبغضاء أكثر ممّا ينطقون به.

{قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ:} وضّحنا. {الْآياتِ} أي: الدّالة على وجوب موالاة المؤمنين، والإخلاص في العمل، والدّالة على وجوب معاداة الكافرين، والمنافقين. {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ:} تفهمون ما بيّن لكم، فتتعظون به. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 219

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [100]. {لا تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية، لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {بِطانَةً:} مفعول به. {مِنْ دُونِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف صفة:{بِطانَةً} والكاف في محل جر بالإضافة. {لا:} نافية. {يَأْلُونَكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به، وجمع الضمير على إرادة أفراد البطانة. {خَبالاً:}

مفعول به ثان. وقيل: مفعول مطلق على تأويل: {يَأْلُونَكُمْ:} لا يخبلونكم خبالا. وقيل:

منصوب بنزع الخافض. وقيل: تمييز، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل {بِطانَةً} أو بمحذوف حال منها بعد وصفها بما تقدّم.

{وَدُّوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما:} مصدرية.

{عَنِتُّمْ:} فعل وفاعل، و {ما} والفعل في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ودّوا عنتكم، والجملة الفعلية مثل ما قبلها، واعتبارها حالا من واو الجماعة؛ فلا بأس به، ولكن يجب تقدير «قد» قبلها لتقربها من الحال. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {بَدَتِ:}

فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث؛ التي هي حرف لا محلّ له. {الْبَغْضاءُ:} فاعله. {مِنْ أَفْواهِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْبَغْضاءُ} التقدير: ظاهرة من أفواههم، والجملة الفعلية مثل سابقتها، واعتبار الحالية فيها قويّ لوجود «قد» قبلها. وقيل: الجمل الثلاث مستأنفة، ومفيدة للتعليل.

{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنيّة على السّكون في محل رفع مبتدأ. {تُخْفِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل.

{صُدُورُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيء تخفيه صدورهم. {أَكْبَرُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والرابط:

الواو، والضمير.

«قد» : حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {بَيَّنّا:} فعل، وفاعل. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْآياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {تَعْقِلُونَ:} مضارع، وفاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان)، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط

ص: 220

غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم تعقلون؛ فقد بينا لكم الآيات. وقدره الجلال: فلا توالوهم. و {إِنْ} ومدخولها كلام معترض مستأنف، لا محلّ له.

{ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)}

الشرح: {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ:} الخطاب للمؤمنين الصادقين. و {تُحِبُّونَهُمْ} للمنافقين، والمعنى: أنتم أيها المؤمنون تحبّون المنافقين؛ واليهود؛ الذين نهيتكم عن مباطنتهم، وموالاتهم للأسباب التي بينكم، وبينهم من القرابة، والرّضاع، والمصاهرة، والحلف. {وَلا يُحِبُّونَكُمْ} أي:

لا يصافونكم المحبّة؛ وإن تظاهروا بألسنتهم بأنّهم يحبّونكم، ويودّونكم. {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ} أي: تؤمنون يا مسلمون بجميع الكتب السماوية؛ التي أنزلها الله على رسله، واليهود يؤمنون بالبعض، والمنافقون لا يؤمنون بشيء.

{وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الذي أنزل عليه، ومثله في سورة (البقرة) رقم [14]. {وَإِذا خَلَوْا} أي: خلا بعضهم إلى بعض. {عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} أي: عضّوا أطراف الأصابع من الغيظ، والحنق عليكم، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون إلى هؤلاء ظهروا، وكثروا؟! والعض: عبارة عن شدّة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه، ويوصف المغتاظ، والنّادم بعضّ الأنامل، والبنان، والإبهام ومنه قول أبي طالب:[الطويل]

يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل

وقال الحارث بن ظالم المرّيّ: [الطويل]

فأقتل أقواما لئاما أذلّة

يعضّون من غيظ رءوس الأباهم

وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية، قال: هم الإباضية. قال ابن عطيّة-رحمه الله تعالى-:

وهذه الصفة قد تترتّب في كثير من أهل البدع، وهو الصحيح، فتشمل الفرق الضالّة الاثنتين والسبعين، الذين ذكرتهم في الآية رقم [103]. والعضّ يعبّر به عن الشدّة، والألم. قال الفرزدق في مدح عبد الملك:[الطويل]

وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع

من المال إلاّ مسحتا أو مجلّف

«مجلّف» معطوفة على معنى: لم يبق من المال إلا مسحة، أو مجلّف. والعضّ يعبّر به عن شدة التمسّك بالشيء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه العرباض بن سارية-رضي الله عنه:«عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنّواجذ» . هذا؛

ص: 221

والأنامل جمع: أنملة، والأصابع جمع: إصبع، ففيهما تسع لغات: تثليث همزتهما، وتثليث ميم أنملة، وتثليث باء إصبع، وتزيد أصبوعا، وقد نظم بعضهم ذلك، فقال:[البسيط]

با إصبع ثلّثن مع ميم أنملة

وثلّث الهمز أيضا وارو أصبوعا

{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ:} دعاء عليهم بدوام الغيظ، وزيادته بتضاعف قوّة الإسلام، وأهله إلى أن يهلكوا، فعليه يتّجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة، وغير مواجهة بخلاف اللّعنة. {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ:}

خبير، وبصير، لا يعزب عن علمه شيء. {بِذاتِ الصُّدُورِ} أي: إنّ الله عليم بما في صدور عباده من نيّة حسنة، أو نيّة خبيثة، فيفعل بهم على حسب ما تكنّه صدورهم من غدر، وخيانة، وتبييت للشرّ، وغير ذلك.

هذا؛ و (ذات) بمعنى: صاحبة، فجعلت صاحبة الصّدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها.

نحو قوله تعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ} و {أَصْحابُ النّارِ} . هذا، و (ذات) مؤنث «ذو» الذي هو بمعنى:

صاحب، وقد يثنّى على لفظه، فيقال: ذاتا، أو ذاتي، كذا من غير ردّ لام الكلمة، وهو القياس، كما يثنّى «ذو» ب «ذوا» أو «ذوي» على لفظه ويجوز فيها:«ذواتا» على الأصل بردّ لام الكلمة، وهي الياء ألفا لتحرّك العين، وهي الواو قبلها، وهو الكثير في الاستعمال، قال تعالى في سورة (الرحمن) رقم [48]:{ذَواتا أَفْنانٍ} وقال في سورة (سبأ) رقم [16]: {ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} .

هذا؛ والتاء في (ذات) لتأنيث اللفظ، مثل تاء:(ثمّت، وربّت، ولات) ولكنّها تعرب بالحركات الظاهرة على التّاء، فالجر كما في الآية الكريمة، ومثلها كثير، والرفع جاء في قوله تعالى:{فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ} والنّصب جاء في قوله تعالى: {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ} سورة (المسد) وكلّ معانيها في القرآن الكريم: صاحبة؛ إلا في موضعين، فإنّها جاءت بمعنى:

الجهة، وذلك في قوله تعالى في سورة (الكهف):{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ} وقد رأيت تثنيتهما في الآيتين المذكورتين في حالتي النّصب، والجر، ولم ترد في القرآن الكريم بمعنى الجمع. هذا؛ ولم يتعرّض لها النحويّون بهذا المعنى مع كثرة تعرّضهم ل:«ذي» بمعنى صاحب، وتثنيته، وجمعه، ولكنهم ذكروا:«ذات» بمعنى: الّتي، و «ذوات» بمعنى: اللّواتي، وذلك في مبحث الاسم الموصول، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]

وكالّتي أيضا لديهم ذات

وموضع اللاّتي أتى ذوات

قال الأشموني رحمه الله تعالى: أي: عند طيئ ألحقوا ب «ذو» تاء التأنيث مع بقاء البناء على الضم، وحكى الفراء:«بالفضل ذو فضّلكم الله به، والكرامة ذات فضّلكم الله بها» . وقريب منه لابن هشام في أوضحه، وكلاهما أورد بيت رؤبة:[الرجز]

جمعتها من أينق موارق

ذوات ينهضن بغير سائق

ص: 222

والفرق بين الأولى، والثانية: أن الأولى لا تكون إلا مضافة لما بعدها كما رأيت، بخلاف الثانية، فإنها معرفة بالصّلة التي تذكر بعدها، كما في بيت رؤبة. تنبه لهذا، وأفهمه، فإنّه معنى دقيق، وأسأل الله لي المزيد من التّوفيق. هذا؛ وأضيف: أنّ جمع «ذات» : «ذوات» من لفظه كما يجمع على: أولات من غير لفظه، قال تعالى في سورة (الطلاق):{وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . كما يجمع المذكر «ذو» بمعنى صاحب: «أولو» من غير لفظه، وهو كثير في القرآن الكريم.

الإعراب: {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ:} لا أرى حاجة إلى المزيد عمّا ذكرته في الآية رقم [66] والله المستعان. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يُحِبُّونَكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها، والتي بعدها معطوفة أيضا عليها.

{بِالْكِتابِ} متعلقان بما قبلهما. {كُلِّهِ:} توكيد لما قبله، وهو بمعنى: الكتب، كما رأيت في الشرح، والهاء في محل جرّ بالإضافة.

{وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. ({إِذا}): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {لَقُوكُمْ:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله والكاف مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:({إِذا}) إليها على القول المشهور المرجوح. {قالُوا:} فعل، وفاعله، والألف للتفريق، {آمَنّا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والجملة:{قالُوا آمَنّا} جواب ({إِذا}) لا محلّ لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف، أو معطوف على ما قبله، لا محلّ له على الاعتبارين. {وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا:} إعرابه ظاهر إن شاء الله، وهو معطوف على ما قبله.

{عَلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْأَنامِلَ} التقدير: عضوا الأنامل مغتاظين عليكم. {الْأَنامِلَ:} مفعول به. {مِنَ الْغَيْظِ:} متعلقان بالفعل:

{عَضُّوا} وهما في محلّ مفعول لأجله.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره: أنت. {مُوتُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِغَيْظِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلِيمٌ:} خبرها. {بِذاتِ:}

متعلقان ب {عَلِيمٌ} و (ذات) مضاف، و {الصُّدُورِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية تحتمل أن تكون في محل نصب مقول القول، وأن تكون مستأنفة، ومفيدة للتعليل، ومردّها إلى مقول القول.

ص: 223

{إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}

الشرح: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ:} تصبكم أيّها المؤمنون. وأصل المسّ: الجسّ باليد، ثمّ يطلق على كل ما يصل إلى الشيء على سبيل التشبيه، كما يقال: مسّه نصب، وتعب، وهو يأتي للخير، والشرّ، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [17]:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . و {حَسَنَةٌ:} نعمة، كنصر، وغنيمة، ورخاء عيش، وخصب بالثّمار، والزروع. {تَسُؤْهُمْ:} تحزنهم. {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ:} شرّ، كهزيمة، وجدب، وبلاء، وأمثال ذلك. {يَفْرَحُوا بِها:} يسرّوا بها. والمعنى في الآية الكريمة إنّ من كان هذا شأنه، وهذه صفته من شدّة الحسد، والحقد يفرح بنزول الشّدائد، ويغتمّ بنزول الخير لم يكن أهلا لأن يتّخذ صديقا، وبطانة، تفشى إليه الأسرار، ويطّلع على بواطن الأمور، ويركن إليه في هذه الحياة. ولله درّ القائل:[الطويل]

وداريت كلّ النّاس إلاّ حواسدي

مداراتهم عزّت وعزّ نوالها

وكيف تداري عنك حاسد نعمة

إذا كان لا يرضيه إلاّ زوالها

هذا؛ وعبر سبحانه بالمسّ في الخير، وبالإصابة في الشرّ، وذلك للإشارة إلى أنّ الحسنة تسوء الأعداء الحاسدين، ولو كانت بأيسر الأشياء؛ ولو مسّا خفيفا، وأمّا السيئة؛ فإذا تمكّنت الإصابة إلى الذي يرثي له الشّامت؛ فإنّهم لا يرثون، بل يفرحون، ويسرّون. ورحم الله من يقول:[البسيط]

كلّ العداوة قد ترجى إزالتها

إلاّ عداوة من عاداك من حسد

هذا؛ وفي الجملتين من المحسّنات البديعيّة: المقابلة، حيث قابل الحسنة، والمساءة بها بالسّيئة، والفرح بها. {وَإِنْ تَصْبِرُوا} على أذاهم، وعلى طاعة الله، وموالاة المؤمنين، {وَتَتَّقُوا} الله فيما أمر وفيما نهى. {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً:} لا يضرّكم مكرهم، وعداوتهم، وحسدهم شيئا؛ لأنكم في حفظ الله، ورعايته، وعنايته. يقال: ضارّه، يضوره ضورا، ويضيره ضيرا. {إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: هو سبحانه عالم بما يدبّرونه، ويحيكونه لكم من مكائد، فيصرف عنكم شرّهم، ويعاقبهم على نواياهم الخبيثة بما يستحقّون، فلا يفوتونه، ولا يعجزونه. يقال: أحاط السّلطان بفلان: إذا أخذه حاصرا من كلّ جهة، فهو من باب المجاز، بل هي استعارة تبعيّة في الصّفة، سارية إليها من مصدرها، وقال الشاعر:[الطويل]

أحطنا بهم حتّى إذا ما تيقّنوا

بما قد رأوا مالوا جميعا إلى السّلم

ص: 224

ومنه قوله تعالى في سورة (الكهف): {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} وقال تعالى في آخر سورة (الطلاق):

{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . هذا؛ وأصل {مُحِيطٌ:} (محوط) لأنّه من أحاط يحيط، أو من حاط يحوط، وهو أولى فهو من الباب الأول، فقل في إعلاله:

اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى الحاء فصار:(محوط) ثم انقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَمْسَسْكُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والكاف مفعوله. {حَسَنَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {تَسُؤْهُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى:{حَسَنَةٌ} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والجملة الشرطية مستأنفة لا محل لها. وقال الجلال، ووافقه الجمل: متّصلة بالجملة الشرطية: {وَإِذا لَقُوكُمْ..} . إلخ، وجملة:{قُلْ مُوتُوا..} . إلخ معترضة بين الجملتين.

{وَإِنْ تُصِبْكُمْ..} . إلخ: هذه الجملة إعرابها مثل إعراب سابقتها، وهي معطوفة عليها. {وَإِنْ تَصْبِرُوا:} مثل سابقه. {وَتَتَّقُوا:} يجوز أن يكون مجزوما بسبب العطف على فعل الشرط، ويجوز أن يكون منصوبا على إضمار:«أن» كما هي القاعدة في عطف المضارع على فعل الشرط، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى الأول فالجملة معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها، وعلى اعتبار الفعل منصوبا ب «أن» مضمرة يؤوّل معها بمصدر معطوف على مصدر متصيّد من الفعل السابق، التقدير: وإن يكن صبر، وتقوى.

{لا:} نافية. {يَضُرُّكُمْ:} هذا الفعل يقرأ بكسر الضاد، وسكون الراء على أنّه جواب الشرط، وقد ظهر جزمه، وعليه: فهو من: ضار، يضير ضيرا بمعنى: ضرّ، ويقرأ بضم الضّاد، وتشديد الرّاء، وضمها، وهو من: ضرّ يضرّ، وفي رفعه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه في نية التقديم، أي: لا يضرّكم كيدهم شيئا؛ إن تتقوا. وهو قول سيبويه، وعليه قول زهير بن أبي سلمى-وهو الشاهد رقم [787] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

وإن أتاه خليل يوم مسغبة

يقول لا غائب مالي ولا حرم

والثاني: أنه حذفت الفاء الرابطة للجواب؛ إذ التقدير: فلا يضركم، وهو قول المبرّد، وعليه قول حسّان بن ثابت-رضي الله عنه، وهو الشاهد رقم [786] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان

ص: 225

وعلى هذين الوجهين فالضمة إعراب. والثّالث: أنّها ليست إعرابا، بل لمّا اضطرّ إلى التحريك؛ حرّك بالضم إتباعا لضمّة الضاد. وقيل: حركها بحركتها الإعرابية المستحقّة لها في الأصل. أبو البقاء بتصرف كبير. أقول: وهذا القول الأخير لا ضرورة فيه، وإنّما هو وجه من أوجه ثلاثة تجري في المضعّف المجزوم كما هو مقرّر في القواعد النحوية. ويقرأ بفتح الراء على أنّه مجزوم، حرّك بالفتحة لالتقاء الساكنين؛ إذ كان أخف من الضم والكسر. والكاف مفعول به.

{كَيْدُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {شَيْئاً:} نائب مفعول مطلق. والجملة الفعلية لا محل لها مثل ما قبلها.

{إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {بِما:} متعلقان ب {مُحِيطٌ} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {يَعْمَلُونَ:} التقدير: بالذي، أو: بشيء يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير:

بعملهم. {مُحِيطٌ:} خبر: {إِنْ} . والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ معترضة في آخر الكلام، متضمنة للوعيد، والتهديد لأعداء المسلمين.

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)}

الشرح: في الآيات الكريمة الحديث عن غزوة أحد. ومناسبتها لما قبلها: أنّه تعالى لمّا حذّر من اتّخاذ بطانة السوء؛ ذكر هنا: أنّ السبب في همّ الطائفتين من الأنصار بالفشل إنّما كان بسبب تثبيط المنافقين، وعلى رأسهم رأس النفاق ابن أبيّ، كما ذكر الله تعالى أن فشل المؤمنين في هذه الحرب إنّما هو مخالفة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم. إذا فالمناسبة واضحة.

{غَدَوْتَ:} خرجت غدوة، وهي السّاعات الأولى من الصّباح. {مِنْ أَهْلِكَ:} من بيت عائشة-رضي الله عنها، وفيه مفخرة لها، ورفعة لشأنها. {تُبَوِّئُ:} تنزل. وفي سورة (الحشر)[9]: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ:} اتخذوها منزلا. يقال: بوّأته منزلا، وبوّأت له، كما يقال: مكّنته، ومكّنت له، والمبوّأ: المنزل الملزوم، ومنه: بوّأه الله منزلا؛ أي: ألزمه إيّاه، وأسكنه فيه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من كذب عليّ متعمّدا؛ فليتبوّأ مقعده من النّار» . أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الشاعر: [المنسرح]

وبوّئت في صميم معشرها

فتمّ في قومها مبوّؤها

{مَقاعِدَ لِلْقِتالِ:} مواطن، ومواقف من الميمنة، والميسرة، والقلب، والجناحين، والسّاقة. على أنّه جمع: مقعد، وفي سورة (الجن) قوله تعالى حكاية عن قولهم:{وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ} . {وَاللهُ سَمِيعٌ} لأقوالكم. {عَلِيمٌ:} بنيّاتكم، وسرائركم.

ص: 226

تنبيه: الآية الكريمة، وما بعدها تتحدّث عن غزوة أحد. وملخّصها كما يلي: نزل كفّار قريش، وحلفاؤهم بأحد يوم الأربعاء ثاني عشر شوال، سنة ثلاث من الهجرة، وكانوا ثلاثة آلاف مقاتل، ليأخذوا بثأرهم ممّن قتل يوم بدر، فاستشار الرّسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقد دعا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، ولم يدعه من قبل، فقال هو، وأكثر الأنصار: أقم يا رسول الله بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟! فدعهم، فإن أقاموا؛ أقاموا بشرّ محبس، وإن دخلوا؛ قاتلهم الرّجال، ورماهم النّساء، والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا؛ رجعوا خائبين. وأشار بعضهم إلى الخروج، فقال صلى الله عليه وسلم:

«إنّي رأيت في منامي بقرا مذبوحة حولي، فأوّلتها خيرا. ورأيت في ذباب سيفي ثلما، فأوّلتها هزيمة. ورأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا في المدينة، وتدعوهم» .

فقال رجال فاتتهم بدر، وأكرمهم الله بالشّهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى أعدائنا! وبالغوا في ذلك حتى دخل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلبس لأمته-أي: درعه-فلما رأوا ذلك؛ ندموا على مبالغتهم، وقالوا: يا رسول الله! اصنع ما رأيت. فقال: لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته. فيضعها؛ حتّى يقاتل، فخرج بعد صلاة الجمعة بألف إلا خمسين رجلا، وأصبح بشعب أحد يوم السبت، ونزل في عدوة الوادي، وجعل ظهره، وعسكره إلى جبل أحد، وسوّى صفهم، وأمّر عبد الله بن جبير-رضي الله عنه-على الرّماة الّذين وضعهم على ظهر الجبل، وقال:«انضحوا بالنّبل عنّا، لا يأتونا من ورائنا! وقال لهم: اثبتوا في هذا المقام، فإذا عاينوكم؛ ولّوا الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين، ولا تخرجوا من هذا المقام على أيّ حال، وإن رأيتمونا تخطفنا الطّير؛ فلا تبرحوا مكانكم!» .

ولمّا خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رأس المنافقين؛ شقّ عليه ذلك، وقال لأصحابه:

أطاع الولدان، وعصاني! ثم قال لأصحابه: إنّ محمدا إنّما يظفر بعدوّه بكم. وقد وعد أصحابه: أنّ أعداءهم إذا عاينوهم؛ انهزموا، فإذا رأيتم أعداءه، فانهزموا أنتم. فيتبعونكم، فيصير الأمر إلى خلاف ما قاله محمد لأصحابه، فلمّا التقى الجمعان، وكان عسكر المسلمين ألفا، وكان المشركون ثلاثة آلاف؛ انخذل الخبيث بثلاثمائة من أصحابه من المنافقين، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو سبعمائة من أصحابه، فقوّاهم الله تعالى، وثبّتهم؛ حتى هزموا المشركين.

فلمّا رأى المؤمنون أصحاب عبد الله بن جبير انهزام المشركين؛ طمعوا أن تكون هذه الوقعة كوقعة بدر، فطلبوا المدبرين، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يقطعهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مثله من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلموا: أنّ ظفرهم يوم بدر إنّما كان ببركة طاعة الله، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ إنّ الله نزع الرّعب من قلوب المشركين، فكرّوا راجعين

ص: 227

على المؤمنين، فانهزم المسلمون، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه، منهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وطلحة، وسعد، وقتل الحمزة مع من قتل، رضي الله عنهم أجمعين، وكسرت رباعيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشجّ وجهه يومئذ، وكان من غزوة أحد ما كان.

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف عطف، أو استئناف. ({إِذْ}): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب، متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر، وابن هشام يعتبره مفعولا به لهذا المحذوف. {غَدَوْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة (إذا) إليها، والكلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين. {مِنْ أَهْلِكَ:}

متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل، التقدير: خارجا من أهلك، والكاف في محل جر بالإضافة. {تُبَوِّئُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره: أنت. {الْمُؤْمِنِينَ:}

مفعول به أوّل منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ. {مَقْعَدِ:} مفعول به ثان، ويتعدّى {تُبَوِّئُ} في الأصل للثاني بحرف الجر. كما في قوله تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ} . هذا؛ وإن اعتبرت: {مَقاعِدَ} ظرف مكان؛ فلست مفنّدا. {لِلْقِتالِ:} متعلقان بالفعل {تُبَوِّئُ} أو: هما متعلقان بمحذوف صفة: {مَقْعَدِ} وجملة: {تُبَوِّئُ..} . إلخ في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط الضمير فقط. هذا؛ وإن اعتبرت:{غَدَوْتَ} فعلا ناقصا؛ فالتاء اسمه، وجملة:{تُبَوِّئُ..} . إلخ في محل نصب خبره، والجملة الاسمية:{وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} مستأنفة لا محلّ لها.

{إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)}

الشرح: {إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ:} عزمت، وأرادت، والهمّ: العزم على الشيء، والمقاربة من الفعل من غير دخول فيه، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف الصدّيق-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} وقال عمرو بن ضابئ البرجمي: [الطويل]

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

والهمّ أيضا: الحزن، ومثله: الغمّ، ويفرّق بينهما بأن الأوّل لأجل تحصيل شيء في المستقبل، والثاني: لأجل فوات شيء، وفقدانه في الماضي، وبأنّ الأوّل يطرد النّوم، ويسبّب الأرق، والثاني: يجلب النوم، ويسبب الهدوء والسّكون. والهموم، والأحزان، إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب، وهزل جسمه. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «الهمّ نصف الهرم» .

وقال أبو الطّيّب المتنبي: [الكامل]

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصّبيّ فيهرم

ص: 228

{طائِفَتانِ:} قبيلتان، وهما: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي عسكر المسلمين. وانظر شرح:{طائِفَةٌ} في الآية رقم [69]. {أَنْ تَفْشَلا:} أن تجبنا عن القتال، وترجعا كما رجع الخبيث عبد الله بن أبيّ المنافق، وأصحابه، وقال: علام نقتل أنفسنا، وأولادنا؟! فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري-رضي الله عنه-وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم! فقال ابن أبيّ الخبيث: لو نعلم قتالا؛ لاتّبعناكم، فهمّ الحيّان باتّباعه، فعصمهما الله، ولم يرجعا. روى البخاريّ عن جابر-رضي الله عنه-قال: فينا نزلت الآية الكريمة ونحن الطائفتان، وما نحبّ: أنّها لم تنزل لقول الله عز وجل: {وَاللهُ وَلِيُّهُما} . وانظر شرح: {وَلِيُّ} في الآية رقم [257] من سورة (البقرة).

هذا؛ والتوكّل: تفويض الإنسان الأمر إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه، وضره.

وقالوا: المتوكل من إذا دهمه أمر؛ لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى. فعلى هذا: إذا وقع الإنسان في محنة، ثمّ سأل غيره خلاصه منها؛ لم يخرج عن حدّ التوكّل؛ لأنه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله تعالى، وإنّما هو من متعاطي الأسباب في دفع المحنة. وخذ ما يلي:

فعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله؛ لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا، وتروح بطانا» . أخرجه الترمذيّ. هذا؛ وللفرق بين التوكّل، والتّسليم، والتّفويض يقال: التوكل: أن تسكن إلى وعد الله، والتّسليم: أن تكتفي بعلم الله تعالى، والتّفويض: أن ترضى بحكم الله تعالى. وانظر الآية رقم [160] تجد ما يسرك.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزّمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب {عَلِيمٌ} أو هو بدل من سابقه. {هَمَّتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {طائِفَتانِ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جر إضافة:{إِذْ} إليها. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَتانِ} . {أَنْ تَفْشَلا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، أو هو منصوب بنزع الخافض، التقدير: بالفشل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، ومثله قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [113]. {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ}. ({اللهُ}): مبتدأ. {وَلِيُّهُما:} خبره، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والميم، والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الاسمية في محل نصب حال من ألف الاثنين، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 229

{وَعَلَى:} الواو: زائدة فيما أرى. ({عَلَى اللهِ}): متعلقان بالفعل بعدهما. {فَلْيَتَوَكَّلِ:} الفاء:

حرف استئناف، أو هي الزائدة، والواو حرف استئناف. اللام: لام الأمر، (يتوكل): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين. {الْمُؤْمِنُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محلّ لها. هذا؛ وقال أبو البقاء- رحمه الله تعالى-: دخلت الفاء لمعنى الشرط، والمعنى: إن فشلوا؛ فتوكلوا أنتم، وإن صعب الأمر؛ فتوكلوا. وعليه: فالواو ليست زائدة، وإنّما هي عاطفة جملة شرطية على الكلام السابق، وتكون الفاء هي الفصيحة، ولا يخفى ما فيه من التكلّف. وهذه الجملة مذكورة في الآية رقم [160] الآتية، انظرها هناك.

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)}

الشرح: يذكّر الله الصحابة الكرام-الذين أصيبوا في غزوة أحد-بنعمته عليهم في غزوة بدر الكبرى، وكان ذاك حين اعتمدوا، وتوكّلوا على الله. وبدر: ماء هنالك، وبه سمي الموضع، وقال الشعبيّ-رحمه الله تعالى-: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمّى بدرا، وبه سمّي الموضع، ويوم بدر كان يوم الجمعة وافق السّابع عشر من رمضان من سنة اثنتين من الهجرة، وهو يوم الفرقان؛ الّذي أعز الله فيه الإسلام، وأهله، ودفع فيه الشرك، وحزبه مع قلّة المسلمين، وكثرة المشركين. {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: ذليلون، جمع: ذليل، واسم الذلّ هنا مستعار؛ لأنّهم كانوا في أنفسهم أعزّة، ولكن نسبتهم إلى عدوّهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند المتأمّل ذلّتهم، وأنهم يغلبون لقلّة عددهم، وضعف عددهم من ضعف الحال، وقلّة السلاح، والمركوب، والمال، وذلك؛ لأنهم خرجوا يوم بدر على نواضح. وقد تكفّلت سورة (الأنفال) بشرح غزوة بدر.

{فَاتَّقُوا اللهَ} أي: في الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واصبروا، فإنّ النّصر مع الصبر، وأنّ مع العسر يسرا. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: بتقواكم، وطاعتكم لله ما أنعم عليكم من نصرته يوم بدر مع قلّة عددكم، وضعف قوّتكم.

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ما أنعم به عليكم. والترجّي إنّما هو بحسب عقول البشر؛ لأنّ الله تعالى لا يحصل منه ترجّ لعباده. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا! هذا، والفعل يتعدّى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له، وباللام أفصح، هذا ومن أسماء الله تعالى: الشّكور، ومعناه: هو الذي يجازي على يسير الطاعات كثير الدّرجات، ويعطي في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة. وخذ ما يلي: قيل في معنى الشكر لله تعالى ما يلي:

ص: 230

قال سهل بن عبد الله-رحمه الله تعالى-: الشكر: هو الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السرّ، والعلانية. وقالت طائفة أخرى: الشكر: هو الاعتراف في تقصير الشّكر للمنعم، ولذلك قال تعالى:{اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} فقال داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-: كيف أشكرك يا ربّ؛ والشكر نعمة منك عليّ؟ فقال تعالى: الآن قد عرفتني، وشكرتني؛ إذ قد عرفت: أن الشكر منّي نعمة عليك. وقال موسى-عليه السلام:

كيف أشكرك، وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟ فأوحى الله إليه:

يا موسى! الآن شكرتني. وقال ذو النون المصري-رحمه الله تعالى-: الشكر لمن فوقك بالطّاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان، والإفضال. قرطبي بتصرف.

هذا؛ وشكر الله يستوجب المزيد من النعم، قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} . وجحودها يستوجب سلبها، وذهابها. قال تعالى في الآية نفسها رقم [7]:{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} . لذا قيل: إنّ الشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة. وينبغي أن تعلم: أن فائدة الشكر تعود على الشاكر نفسه، قال تعالى في سورة (النّمل) رقم [40]:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} . وقال تعالى في سورة (لقمان) رقم [12]: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} . هذا؛ والشكر مطلوب لكلّ منعم، ومحسن، ولو كان من البشر، لذا فقد ندبنا سيّد الخلق، وحبيب الحقّ صلى الله عليه وسلم على أن نشكر من أحسن إلينا من الناس؛ لذا قال تعالى:{اُشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} وخذ ما يلي:

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من أعطي عطاء، فوجد؛ فليجز به، فإن لم يجد؛ فليثن، فإنّ من أثنى؛ فقد شكر، ومن كتم؛ فقد كفر، ومن تحلّى بما لم يعط؛ كان كلابس ثوبي زور» . أخرجه الترمذيّ. وعن أسامة بن زيد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا؛ فقد أبلغ في الثّناء» .

وعن النّعمان بن بشير-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر القليل؛ لم يشكر الكثير. ومن لم يشكر النّاس؛ لم يشكر الله. والتّحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» . قال الخطابي-رحمه الله تعالى-: هذا الكلام يتأول على معنيين: أحدهما: أنّ من كان طبعه كفران نعمة الناس، وترك الشكر لمعروفهم؛ كان من عادته كفران نعم الله، عز وجل، وترك الشكر له. والوجه الآخر: أنّ الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان النّاس إليه، ويكفر معروفهم؛ لاتصال أحد الأمرين بالآخر. ورحم الله من قال:[الطويل]

ومن لم يؤدّ الشّكر للنّاس لم يكن

لإحسان ربّ النّاس يوما بشاكر

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر (الواو) عاطفة. وبعضهم

ص: 231

يعتبرها حرف استئناف، ويعتبرون الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف. ولا أسلّمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو: وأقسم والله، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف. وبعضهم يقول: اللام موطئة للقسم، والموطئة معناها المؤذنة، وهذه اللام إنّما تدخل على «إن» الشرطية، لتدل على القسم المتقدّم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدّم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ. الآية رقم [12] من سورة (الحشر). افهم هذا، واحفظه، فإنّه جيد، والله ولي التوفيق.

فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم. فالجواب:

أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:{وَالنَّجْمِ،} {وَالشَّمْسِ وَضُحاها} فإن التقدير: وربّ النجم، وربّ الشمس

إلخ، الدليل على ذلك التصريح به في قوله تعالى في سورة (الذاريات):{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى في سورة (مريم): {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ، وأظهر منه في سورة (المائدة) رقم [73]:{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} . قالوا: (الواو) في الآيتين حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {نَصَرَكُمُ اللهُ:} ماض، ومفعوله، وفاعله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محلّ له.

{بِبَدْرٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من كاف المخاطبين، والجملة الاسمية:

{وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في محل نصب حال من الكاف أيضا، والرابط: الواو، والضمير.

{فَاتَّقُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (اتقوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهُ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية لا محلّ لها على جميع الوجوه؛ التي تعتبر في الفاء، والجملة القسمية مستأنفة لا محل لها أيضا. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تَشْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للعلم به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(لعلّ) والجملة الاسمية:

{لَعَلَّكُمْ..} . إلخ مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.

{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)}

الشرح: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ..}. إلخ: هذا حكاية من قول الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يوم بدر حين استقلّوا عددهم،

ص: 232

واستكثروا عدد عدوّهم، فوعدهم الرسول المعظم بأنّ الله سيمدّهم بألف من الملائكة. واختلف المفسرون في هذا الوعد: هل كان يوم بدر، أو يوم أحد؟ على قولين: أحدهما: أنّ هذا الكلام متعلق بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} . قاله عباد بن منصور، واختاره ابن جرير. وقال الربيع بن أنس-رضي الله عنه: أمدّ الله المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة، ثم صاروا خمسة آلاف.

القول الثاني: أنّ هذا الوعد متعلّق بقوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ..} . إلخ، وذلك يوم أحد، وهو قول مجاهد، وعكرمة، والضحّاك، رضي الله عنهم، لكن قالوا: لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف؛ لأن المسلمين فرّوا يومئذ، ولم يصبروا، ولم يثبتوا، ولكن ثبت بأنّ الله أيّد الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقد قال عمير بن إسحاق-رضي الله عنه: لما كان يوم أحد؛ انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي سعد بن مالك-رضي الله عنه-يرمي-وفتى شاب يتنبّل له، كلّما فني نبله؛ أتاه به فنثره، وقال: أرم أبا إسحاق! ارم أبا إسحاق! مرّتين. فلمّا انجلت المعركة سئل عن ذلك الرّجل، فلم يعرف. وعن سعد بن أبي وقاص-رضي الله عنه-قال: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شماله يوم أحد رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه، كأشدّ القتال، ما رأيتهما قبل، ولا بعد. يعني: جبريل، وميكائيل، عليهما السلام. متفق عليه.

وهناك من يقول: إنّ الملائكة نزلت يوم الخندق، فقد صبر المسلمون يومئذ، واتّقوا، وثبتوا. فقد قالت عائشة-رضي الله عنها: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل؛ أتاه جبريل، عليه السلام، فقال: قد وضعت السّلاح؟ والله ما وضعناه! أخرج إليهم. قال: فإلى أين؟ قال: هاهنا. وأشار إلى بني قريظة. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. متّفق عليه.

وعن أنس-رضي الله عنه-قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة. أخرجه البخاري.

هذا؛ ونزول الملائكة إنّما هو لتشريف هذه الأمّة، ولإلقاء الرّعب في قلوب المشركين. ويسأل لماذا ينزل الآلاف من الملائكة، وجبريل-عليه السلام-أهلك أقواما كثيرين بصيحة واحدة، كقوم لوط، وقوم صالح، والجواب: أن هذا كلّه في عذاب الاستئصال، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم لم يستأصلوا كما هو معروف؛ لأنّ الله علم: أن فيهم من يؤمن بالله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِذْ:} بدل من: ({إِذْ غَدَوْتَ}) أو هي متعلقة بالفعل: {نَصَرَكُمُ} على حسب ما رأيت من الاختلاف في التفسير. وقيل: متعلق بفعل محذوف، تقديره: اذكر. {تَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لِلْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَلَنْ:}

الهمزة: حرف استفهام إنكاري. ({لَنْ}): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَكْفِيَكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب ({لَنْ}) والكاف مفعول به. ({أَنْ}): حرف مصدري، ونصب. {يُمِدَّكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ:} والكاف مفعول به. {رَبُّكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر

ص: 233

بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {أَنْ،} والفعل مضارع في تأويل مصدر في محل رفع فاعل، وتقدير الكلام: ألن يكفيكم إمداد ربكم. والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{تَقُولُ..} . إلخ في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. {بِثَلاثَةِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و (ثلاثة) مضاف، و {آلافٍ:} مضاف إليه. {مِنَ الْمَلائِكَةِ:} متعلقان بمحذوف حال من (ثلاثة {آلافٍ}) أو صفة له، وهما تمييز له في الأصل. {مُنْزَلِينَ:} حال من الملائكة، أو صفة ثانية له، وهو أظهر. انتهى نقلا عن السمين.

{بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)}

الشرح: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا:} على لقاء العدو، وتثبتوا في ميدان الحرب. لكنّهم صبروا في موقعة بدر، وفي غزوة الخندق، ولم يصبروا في غزوة أحد. {وَتَتَّقُوا} الله في جميع أحوالكم، وتخافوه في جميع تصرّفاتكم، وحركاتكم، وسكناتكم. {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا:} الفور:

السرعة، والعجلة، وهو من: فارت القدر: إذا غلت، فاستعير للسّرعة، ثمّ سميت بها الحالة؛ التي لا ريث فيها، ولا تعريج على شيء من صاحبها، يقال: خرج من فوره، كما يقال: خرج من ساعته، ولم يلبث.

{مُسَوِّمِينَ:} بكسر الواو المشدّدة، أي: معلمين أنفسهم، أو خيولهم بعلامة يعرفون بها في الحرب. والسّيماء، والسّيمة، والسّومة: العلامة، وهذه العلامة يعلّمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها. قال عنترة في معلّقته:[الكامل]

فتعرفوني أنّني أنا ذلكم

شاكي السّلاح في الحوادث معلم

هذا؛ ودلّت الآية الكريمة على اتّخاذ العلامة للقبائل، والكتائب يجعلها السّلطان لهم لتتميز كلّ قبيلة، وكتيبة من غيرها عند الحرب. وفي عصرنا هذا كلّ دولة تتخذ علما خاصّا بها. ويقرأ بفتح الواو المشدّدة بمعنى معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم، أو معلمين بعمائم بيض.

فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا معلمين بالصّوف الأبيض في نواصي الدواب، وأذنابها، وقد كانوا على صور الرّجال، ويقولون للمؤمنين: اثبتوا؛ فإنّ عدوّكم قليل. والله معكم.

تنبيه: سئل السّبكي-رحمه الله تعالى-عن الحكمة في قتال الملائكة مع أنّ جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه. وأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش في الحرب، رعاية لصورة الأسباب؛ التي أجراها الله تعالى في عباده، والله فاعل للجميع. وذكرت الجواب في الآية السابقة.

ص: 234

الإعراب: {بَلى:} حرف جواب، لا محل له. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَصْبِرُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله والألف للتفريق، والمتعلق محذوف. انظر الشرح. والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، والفعلان:(تتقوا) و (يأتوكم): يجوز اعتبارهما مجزومين، أو منصوبين، كما رأيت:(تتقوا) في الآية رقم [120]. {مِنْ فَوْرِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة: {فَوْرِهِمْ} والهاء حرف تنبيه لا محل له. {يُمْدِدْكُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، والكاف مفعوله. {رَبُّكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية. {بِخَمْسَةِ:} متعلّقان بما قبلهما، وباقي الإعراب مثل الآية السابقة، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول فيما يظهر، وهو أولى من الاستئناف.

{وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}

الشرح: {وَما جَعَلَهُ:} وما جعل الإمداد المذكور في الآية السابقة. وقيل: تعود الهاء على المدد، وهم الملائكة. وقيل: تعود على التّسويم. وقيل: على الإنزال، ودل عليه {مُنْزَلِينَ} وقيل: تعود على العدد. {بُشْرى لَكُمْ:} بشارة لكم بالنصر، والعزّة، والكرامة. {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي: لتسكن، وتستقرّ ضمائركم، فلا تجزع من كثرة عدوّكم، وقلّة عددكم. {وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: لا تحيلوا النصر على الملائكة، والجند، وكثرة العدد، والعدد؛ فإن النّصر من عند الله، لا من عند غيره. والفرض أن يكون توكّلهم على الله، لا على الملائكة الّذين أمدّوا بهم. وفيه تنبيه على الإعراض عن الأسباب، والإقبال على مسبّب الأسباب. {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فاستعينوا به، وتوكلوا عليه؛ لأنّ العزّ، وهو كمال القدرة، والقوّة، والحكم، وهو كمال العلم، فلا تخفى عليه مصالح العباد، والبلاد. وعلى كلّ فقد كان ذلك الإمداد بمنزلة السّكينة لبني إسرائيل

(1)

، بشارة بالنّصر، وطمأنينة للقلوب، وهذه الآية مذكورة بجميع ألفاظها بسورة (الأنفال) رقم [10].

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): نافية. {جَعَلَهُ اللهُ:} فعل ماض. ومفعوله الأول، وفاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {بُشْرى:} مفعول لأجله مستثنى من عموم العلل. أو هو

1) إشارة لقوله تعالى في سورة البقرة [248]: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ

إلخ.

ص: 235

مفعول ثان. والأول أقوى، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذّر. {لَكُمْ:}

جار، ومجرور متعلقان ب {بُشْرى} أو بمحذوف صفة له. {وَلِتَطْمَئِنَّ} الواو: حرف عطف.

({لِتَطْمَئِنَّ}): فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: فعل الله ذلك بكم؛ لاطمئنان قلوبكم، وهذا على اعتبار:{بُشْرى} مفعولا ثانيا، أو هما معطوفان على:{بُشْرى} على اعتباره مفعولا لأجله، وتقدير الكلام: إلا للبشارة، وللاطمئنان. {قُلُوبُكُمْ:} فاعله والكاف في محل جر بالإضافة. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَما:} الواو: حرف استئناف.

({ما}): نافية. {النَّصْرُ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ:} مضاف، و {اللهُ:} مضاف إليه. {الْعَزِيزِ:} بدل من لفظ الجلالة. ومثله:

{الْحَكِيمِ} وانظر ما ذكرته في إعراب البسملة أول سورة (الفاتحة). والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها؛ إن لم تجوز عطف الاسمية على الفعلية.

{لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127)}

الشرح: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا:} هذا متعلّق بقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ} .

والمعنى: إن المقصود من نصركم ببدر؛ ليقطع طرفا؛ أي: ليهلك طائفة من الذين كفروا.

وقيل: المعنى: ليهدم ركنا من أركان الشّرك بالقتل، والأسر، فقتل من سادات قريش، وقادتهم سبعون، وأسر سبعون. ومن حمل الآية على غزوة أحد؛ قال: قتل من الكافرين ستة عشر، وكان النّصر فيه للمسلمين حتّى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانقلب الحال.

{أَوْ يَكْبِتَهُمْ:} أصل الكبت في اللّغة: صرع الشيء على وجهه. والمعنى: أن يصرعهم على وجوههم. والمراد منه: القتل، والهزيمة، أو الإهلاك، أو اللّعن، والخزي. {فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ} أي: فيرجعوا بالخيبة، لم ينالوا شيئا من الّذي أمّلوه. قال القحيف العقيلي شاعر إسلامي-وهو الشاهد رقم [173] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

فما رجعت بخائبة ركاب

حكيم بن المسيّب منتهاها

الإعراب: {لِيَقْطَعَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {اللهُ} وأن المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{نَصَرَكُمُ} أو بالفعل: {يُمْدِدْكُمْ} . وقيل: متعلقان بفعل محذوف يدلّ عليه أحد الفعلين المذكورين. {طَرَفاً:} مفعول به. {مِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طَرَفاً} . {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَوْ:} حرف

ص: 236

عطف. {يَكْبِتَهُمْ:} فعل مضارع معطوف على: (يقطع) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:

{اللهُ} أيضا، والهاء مفعول به. {فَيَنْقَلِبُوا} الفاء: حرف عطف. (ينقلبوا): فعل مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{خائِبِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128)}

الشرح: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي: بل الأمر كلّه إليّ. كما قال تعالى في سورة (الرّعد): {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} . وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} (سورة البقرة)). وقال محمد بن إسحاق-رحمه الله تعالى-: المعنى: ليس لك من الحكم شيء في عبادي، إلا ما أمرتك به فيهم، ثمّ ذكر بقيّة الأقسام، فقال:{أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي: ممّا هم فيه من الكفر، فيهديهم بعد الضّلالة. {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} أي: في الدّنيا، والآخرة على كفرهم، وذنوبهم، ولهذا قال:{فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ} أي: يستحقّون ذلك. وخذ ما يلي:

عن أنس-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيته، وشجّ وجهه يوم أحد؛ حتّى سال الدم على وجهه؛ قال:«كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم؛ وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟!» . فأنزل الله الآية الكريمة. أخرجه الإمام أحمد. وقيل: استأذن ربّه في أن يدعو في استئصالهم، فأنزل الله الآية، فعلم: أنّ منهم من سيسلم. وقد آمن الكثير منهم، مثل: خالد، وعمرو بن العاص، وعكرمة، وصفوان، وغيرهم. وقيل: نزلت في أهل بئر معونة، قتلهم عامر بن الطفيل، فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الرّكوع في الركعة الثانية من الفجر يقول: «اللهمّ العن فلانا، وفلانا، وفلانا» فأنزل الله الآية.

والمعتمد: أنّ الآية نزلت في وقعة أحد، والذي شجّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيّته هو: عتبة بن أبي وقّاص أخو سعد-رضي الله عنه.

الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:

{لَيْسَ} تقدّم على اسمها. {مِنَ الْأَمْرِ:} متعلقان بالخبر المحذوف. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {شَيْءٌ} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا، وهو غير مسلّم، والأولى تعليقهما بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {شَيْءٌ:} اسم: {لَيْسَ} مؤخر.

{أَوْ:} حرف عطف. {يَتُوبَ:} معطوف على (يقطع) في الآية السابقة، فهو منصوب مثله، وعليه: فجملة {لَيْسَ..} . إلخ معترضة بين المتعاطفين، ويحتمل أن يكون منصوبا ب «أن» مضمرة بعد:{أَوْ} ويكون المصدر المؤول منها، ومن الفعل المضارع معطوفا على الأمر، أو على:

ص: 237

{شَيْءٌ} . التقدير: ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم، أو: ليس لك من أمرهم شيء، أو التعدية عليهم، أو: تعذيبهم. فيكون مثل قوله تعالى في سورة (الشورى) رقم [51]: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً..} . إلخ. ومثل هذه الآية قول ميسون بنت بحدل الكلبيّة-وهو الشّاهد رقم [473] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

وأيضا قول الآخر-وهو الشاهد رقم [139] من كتابنا: «فتح ربّ البرية» -: [البسيط]

لولا توقّع معترّ فأرضيه

ما كنت أوثر أترابا على ترب

وأيضا قول أنس بن مدركة الخثعمي-وهو الشاهد رقم [140]: من الكتاب المذكور-: [البسيط]

إنّي وقتلي سليكا ثمّ أعقله

كالثّور يضرب لمّا عافت البقر

وخذ القاعدة من قول ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته: [الرجز]

وإن على اسم خالص فعل عطف

تنصبه إن ثابتا أو منحذف

وقيل: {أَوْ} بمعنى: إلاّ أن، كقولك: ألزمنّك، أو تعطيني حقي، على معنى: ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم، فتفرح بحالهم، أو يعذبهم، فتشفى منهم، ومثل ذلك قول زياد الأعجم-وهو الشاهد رقم [104]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [146]: من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الوافر]

وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما

{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يُعَذِّبَهُمْ:} فعل مضارع معطوف على ما قبله، وفاعله ما قبله، يعود إلى:(الله) والهاء في محل نصب مفعول به. {فَإِنَّهُمْ:} الفاء: حرف تعليل. (إنهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {ظالِمُونَ:} خبرها مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية تعليل لعذابهم؛ إن عذبهم الله تعالى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

{وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}

الشرح: {وَلِلّهِ ما فِي..} . إلخ: انظر الآية رقم [109]: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ:} بفضله، ورحمته. {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} أي: بعدله، وحكمته، يحكم فيهم بما يشاء، لا منازع له في

ص: 238

حكمه، ولا معارض له في فعله. وبين:{يَغْفِرُ} و ({يُعَذِّبُ}) طباق، وهو من المحسّنات البديعية. {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يعني: أنه تعالى يستر ذنوب عباده، لا على سبيل الوجوب عليه؛ لأنه تعالى لو أدخل جميع خلقه الجنّة؛ لكان ذلك برحمته، ولو أدخل جميع خلقه النّار؛ لكان ذلك بمحض عدله، ولكن جانب المغفرة، والرّحمة غالب. والله أعلم بمراده.

الإعراب: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ..} . إلخ: انظر الآية رقم [129]{يَغْفِرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:(الله) ومفعوله محذوف، والجملة في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفنّدا. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:(الله) والجملة الفعلية صلة: (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يغفر للذي، أو: لشخص يشاؤه. والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. (الله): مبتدأ. {غَفُورٌ رَحِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية، لا محلّ لها مثلها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدّقتم بالله، ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان، الذي هو زينة الإنسان. وقد خاطب الله عباده المؤمنين بقوله:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وثمانين موضعا من القرآن الكريم. ونداء المخاطبين باسم المؤمنين، يذكّرهم بأن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقى أوامر الله، ونواهيه بحسن الطاعة، والامتثال. وإنّما خصّهم الله بالنداء؛ لأنهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عمّا نهى عنه؛ إذا الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.

{لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا:} ينهى الله عن تعاطي الربا، وإنما ذكر الأكل؛ لأنّه أعظم منافع المال؛ لأنّ المال لا يؤكل، إنّما يصرف في المأكول، ثم يؤكل

إلخ، وانظر الآية رقم [275]. من سورة (البقرة). {أَضْعافاً مُضاعَفَةً} أراد به ما كانوا يفعلونه في الجاهلية عند حلول الدّين من زيادة المال، وتأخير الأجل. كان الرّجل في الجاهلية إذا كان له على آخر دين، فإذا جاء الأجل، ولم يكن للمدين ما يؤدّي؛ قال صاحب الدّين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل، فربما فعلوا ذلك مرارا فيصير الدّين أضعافا مضاعفة، فنهى الله عز وجل عن ذلك، وحرّم الله أصل الرّبا، ومضاعفته.

هذا؛ و {أَضْعافاً} جمع: ضعف، وهو بكسر الضاد، وسكون العين: مثل الشيء، وضعفاه:

مثلاه، وأضعافه: أمثاله. هذا هو الأصل في الضّعف، ثم استعمل في المثل، وما زاد، وليس

ص: 239

للزيادة حدّ، فيقال: هذا ضعف هذا؛ أي: مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا. ويقال:

أضعفت الشيء، وضعّفته، وضاعفته. فمعناه: ضممت إليه مثله فصاعدا. وقال بعضهم: ضاعفت أبلغ من: ضعّفت، ولذا قرأ أكثرهم في سورة (الأحزاب):{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} . وفي (الفرقان): {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} . وفي (النّساء): {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} . هذا؛ وللضّعف بفتح الضاد، والضّعف بكسرها، والضّعف بضمها معان نظمها بعضهم بقوله:[الرجز]

في الرّأي والعقل يكون الضّعف

والوهن في الجسم فذاك الضّعف

زيادة المثل كذا والضّعف

جمع ضعيف وهو شاكي الضّرّ

{وَاتَّقُوا اللهَ:} خافوه في أكل الرّبا، واحذروه، فلا تأكلوه. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:} أي لكي تسعدوا بثوابه في الآخرة؛ لأنّ الفلاح والفوز النجاح يتوقف على التقوى. وانظر ما ذكرته بشأن الربا في سورة (البقرة) رقم [275].

بعد هذا ينبغي أن تعلم: أنّ ذكر الأضعاف المضاعفة في الآية الكريمة ليس للقيد، والشرط، وإنّما هو لبيان الحالة التي كان الناس عليها في الجاهلية، وللتشنيع عليهم بأن هذه المعاملة ظلما صارخا، وعدوانا مبينا؛ حيث كانوا يأخذون الربا أضعافا مضاعفة، قال أبو حيّان -رحمه الله تعالى-نهوا عن الحالة الشّنعاء، الّتي يوقعون عليها الربا، فربما استغرق بالنّذر اليسير مال المدين، فالرّبا محرّم بجميع أنواعه، فهذه الحالة ليست قيدا في النّهي.

وينبغي أن تلاحظ: أن هذا النهي عن أكل الرّبا جاء اعتراضا بين أثناء قصّة غزوة أحد، وإنّما خصّه الله بالذكر من بين المعاصي؛ لأنّه هو الذي آذن فيه بالحرب في قوله في سورة (البقرة) رقم [279]. والحرب يؤذن بالقتل، فكأنّ الله-عز وجل-يقول: إن لم تتقوا الرّبا هزمتم، وقتلتم، فأمرهم بترك الرّبا؛ لأنّه كان معمولا به عندهم، والاعتراض بشيء بين ما هو بحث في شيء آخر إنّما هو للتنبيه على أهميته، كما في ذكر الدّعاء الذي بين آيات الصيام، وذكر الصّلاة بين الآيات المتعلّقة بالنّكاح، والطّلاق. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [100]: ففيها الكفاية. {لا تَأْكُلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها.

{الرِّبَوا} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {أَضْعافاً:} حال من: {الرِّبَوا} . {مُضاعَفَةً:} صفة له. {وَاتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [123].

ص: 240

{وَاِتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131)}

الشرح: {وَاتَّقُوا النّارَ:} هذا الوعيد لمن استحل الرّبا، ومن استحلّ الرّبا؛ فإنّه يكفر، وكلّ معصية من يستحلّها؛ فإنه كافر، ويستحقّ النار، وبئس القرار. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلّوا ما حرّم الله من الرّبا وغيره مما أوجب الله فيه النّار، وقال بعضهم: إن هذه الآية أخوف آية في القرآن؛ حيث أوعد الله المؤمنين بالنّار المعدّة للكافرين؛ إن لم يتقوه، ويجتنبوا محارمه. وقال الواحديّ-رحمه الله: في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين برحمة من الله تعالى؛ لأنه قال: أعدّت للكافرين، فجعلها معدّة للكافرين دون المؤمنين. وجوابه ما تقدّم من أنّ من استحلّ شيئا من محارم الله؛ فإنه كافر بالإجماع.

{الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ:} هيئت، وفيه دليل على أنّ النار موجودة الآن، وكذلك الجنّة، لقوله تعالى في كثير من الآيات:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} . وفيه ردّ على المعتزلة، وغيرهم الّذين ينكرون وجودهما الآن. هذا؛ وأصل:({اِتَّقُوا}): اوتقيوا، قلبت الواو تاء، وأدغمت بالتاء، وحذفت الضمة التي على الياء فالتقى ساكنان: الياء، والواو، فحذفت الياء، فصار:({اِتَّقُوا}) ثم قلبت الكسرة ضمّة لمناسبة الواو.

أمّا {النّارَ} فأصلها: النور، تحرّكت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. وهي المؤنث من المجازي، وقد تذكّر. وتصغيرها: نويرة، والجمع: أنور، ونيران، ونيرة، ويكنى بها عن جهنّم، الّتي سيعذب الله بها الكافرين، والفاسقين الفاسدين يوم الدّين، كما أنّها تستعار للشدّة، والضّيق، والبلاء، قال الشاعر:[الطويل]

وألقى على قيس من النّار جذوة

شديدا عليها حرّها والتهابها

فهي مستعارة في هذا البيت لشدّة النكاية؛ التي أذاقها قبيلة قيس. والفعل: نار، ينور، يستعمل لازما، ومتعديا؛ إذا بدئ بهمزة التعدية، كما في قولك: أنارت الشمس الكون.

الإعراب: {وَاتَّقُوا النّارَ:} إعرابه مثل ما قبله. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {النّارَ} . {أُعِدَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى النّار، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَاتَّقُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.

{وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)}

الشرح: فهذه الآية تقرن طاعة الرّسول بطاعة الله تعالى، وهذا كثير في الآيات القرآنية، ومنه قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [80]:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} . وانظر ما ذكرته

ص: 241

في الآية رقم [32]: فإنّه جيد، والحمد لله! {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فقد أتبع سبحانه الوعد بالوعيد، ترهيبا عن المخالفة، وترغيبا في الطّاعة. وانظر مثل هذا الترجّي في الآية رقم [123].

هذا؛ و (لعل) و «عسى» في مثل ذلك تفيدان تحقيق ما ذكر، وفي هذه الآية إطماع من ربّ كريم، فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه.

فائدة: وفي السّمين ما نصه: (لعل) في كلام الله تعالى للناس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ لعل على بابها من الترجّي، والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين؛ أي: لعلّكم ترحمون على رجائكم، وطمعكم. وكذا قال سيبويه في قوله تعالى:{لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} أي: اذهبا على رجائكما.

والثاني: أنّها للتعليل؛ أي: أطيعوا الله؛ لكي ترحموا، وبه قال قطرب، والطبري، وغيرهما.

والثالث: أنها للتعرّض للشّيء، كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرّضين لأن ترحموا.

الإعراب: ({أَطِيعُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو وفاعله، والألف للتفريق.

{اللهَ:} منصوب على التعظيم. {وَالرَّسُولَ:} معطوف عليه. {لَعَلَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تُرْحَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها.

{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)}

الشرح: {وَسارِعُوا..} . إلخ؛ أي: سارعوا بالأعمال الصّالحة، التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتّوبة؛ لأنّها تؤدي إلى المغفرة. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا..} . إلخ: لو وصل بعضها ببعض. وقيل: إنّ الله شبه عرض الجنّة بعرض السموات والأرض، لو وصل بعضها ببعض؛ لكان عرض الجنة في قدرها جميعا. وقيل: إنّ السّماوات السّبع، والأرضين السّبع لو جعلت صفائح، وألزق بعضها ببعض؛ لكان عرض الجنة في قدرها جميعا. وقيل: إنّ الله تعالى شبّه عرض الجنة بعرض السّماوات والأرض، ولا شكّ: أن الطّول يكون أزيد من العرض، فذكر العرض تنبيها على أنّ طولها أضعاف ذلك، ومن عادة العرب: أنّها تعبّر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله، قال الشّاعر:[الطويل]

كأن بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل

«الكفّة» بكسر الكاف: ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق. والأصل فيه: أنّ ما اتّسع عرضه؛ لم يضق، ولم يدقّ، وما ضاق عرضه؛ دقّ، فجعل العرض كناية عن السّعة. وروي: أنّ هرقل أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إنك تدعوني إلى جنّة، عرضها السموات والأرض. فأين النّار؟ فقال

ص: 242

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله فأين اللّيل إذا جاء النّهار؟» قيل: معناه-والله أعلم بذلك-: أنّه إذا دار الفلك حصل النّهار في جانب، والليل في ضدّ ذلك الجانب، فكذلك الجنّة في جهة العلوّ، والنار في جهة السّفل.

وروى طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-وعنده أصحابه، فقالوا: أرأيتم قولكم: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} فأين النّار؟ فقال: فأين الليل إذا جاء النهار؟ فقالوا: إنّ لمثلها في التوراة. ومعناه: حيث يشاء الله تعالى.

وقيل: هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، ويقع في نفوسهم وأفكارهم، وأكثر ما يقع في نفوسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بعرض السموات والأرض على ما يعرفه الناس. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض، كما تبسط الثياب، ويوصل بعضها ببعض، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله، وهذا قول الجمهور، وذلك لا ينكر. فإن في حديث أبي ذر-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما السّماوات السّبع والأرضون السّبع في الكرسيّ إلاّ كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما الكرسيّ في العرش إلاّ كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدّا من السموات والأرض، وقدرة الله أعظم من ذلك كله. هذا وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21] من سورة (الحديد) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك، هذا؛ وفي الآية تشبيه بليغ حيث حذف أداة التشبيه، وصرح بها في آية (الحديد) رقم [21].

بعد هذا: فقد حثّنا الله هنا إلى المسارعة إلى ما يوجب مغفرة الذنوب، وحضّنا على المسابقة إلى مثل ذلك في سورة (الحديد) وقال في سورة (المائدة) رقم [48]:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ:} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [148] من سورة (البقرة) ففيها شفاء، ودواء لقلبك.

تنبيه: حثّ الله سبحانه وتعالى في الآيات التي ذكرتها على المسارعة إلى الأعمال الصّالحة، كما وصف أنبياءه بأنّهم كانوا يسارعون في الخيرات، وهذا لا يناقض ما روي:

«العجلة من الشيطان والتأنّي من الرّحمن» لأنه مستثنى منه، كما أنّ هناك أمورا تسنّ المبادرة إلى فعلها، كأداة الصّلاة المكتوبة إذا دخل وقتها، وقضاء الدّين بحقّ الموسر، وتزويج البكر البالغ إذا أتى الكفؤ لها، ودفن الميت، وإكرام الضّيف إذا نزل. وخذ ما يلي: فعن عليّ-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله له: «يا عليّ! ثلاث لا تؤخّرها، الصّلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت كفؤا» . أخرجه الترمذيّ، وجاء في الشعر العربيّ الحثّ على العجلة. قال بشار بن برد الأعمى:[البسيط]

من راقب النّاس لم يظفر بحاجته

وفاز بالطّيّبات الفاتك اللهج

واختصره سلم الخاسر، فقال:[مخلّع البسيط]

من راقب النّاس مات همّا

وفاز باللّذة الجسور

ص: 243

ونسب للأعشى، ولغيره ما يلي:[البسيط]

وربّما فات قوما جلّ أمرهم

من التّأنّي وكان الحزم لو عجّلوا

وقال آخر: [البسيط]

وربّما ضرّ بعض النّاس بطؤهم

وكان خيرا لهم لو أنّهم عجّلوا

الإعراب: {وَسارِعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. ويقرأ بدون واو على الإفراد، فتكون الجملة مستأنفة. {إِلى مَغْفِرَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان ب {مَغْفِرَةٍ} أو بمحذوف صفة لها، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَجَنَّةٍ:} معطوف على: {مَغْفِرَةٍ} . {عَرْضُهَا:} مبتدأ، و (ها) في محل جر بالإضافة. {السَّماواتُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جر صفة:({جَنَّةٍ}). {وَالْأَرْضُ:}

معطوف على ما قبله. {أُعِدَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:({جَنَّةٍ}) والتاء للتأنيث. {لِلْمُتَّقِينَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر صفة ثانية ل ({جَنَّةٍ}) أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدّم، والاستئناف ممكن.

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)}

الشرح: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} أي: المال. {فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ} أي: في العسر، واليسر، في الغنى، والفقر، والرّخاء، والشدّة، لا يتركون الإنفاق في جميع الحالات، لا في فرح وسرور، ولا في حال محنة وبلاء، وسواء أكان الواحد منهم في عرس، أو حبس، فإنّهم لا يدعون الإحسان إلى النّاس، فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنّة السّخاء، وبذل المال؛ لأنّه أشقّ على النفس، وكانت الحاجة إلى بذل المال في ذلك الوقت أعظم الأحوال للحاجة إليه في مجاهدة الأعداء، ومواساة الفقراء المسلمين مهاجرين، وغيرهم. وقد ذكرت لك فيما مضى كثيرا من الأحاديث النبوية التي ترغّب في إنفاق المال في وجوه الخير. وخذ هنا ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جنّتان من حديد، من ثديّهما إلى تراقيهما، فأمّا المنفق؛ فلا ينفق شيئا إلا مادت على جلده؛ حتى تجنّ بنانه، وتعفو أثره، وأمّا البخيل؛ فلا يريد أن ينفق شيئا، إلاّ لزقت كلّ حلقة موضعها، فهو يوسّعها، ولا تتّسع» . متّفق عليه. ولا تنس: أنّ بين {السَّرّاءِ} و {وَالضَّرّاءِ} طباق، وهو من المحسّنات البديعية.

ص: 244

{وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي: إذا ثار بهم الغيظ؛ كظموه، بمعنى: كتموه، فلم يعملوه، وعفوا عمّن أساء إليهم، وقد ورد في بعض الآثار: يقول الله عز وجل: «يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت، فلا أهلك فيما أهلك» . رواه ابن أبي حاتم. والغيظ: شدّة الغضب، ومنه رجل كظيم، ومكظوم: إذا كان ممتلئا غمّا، وحزنا. قال تعالى في حقّ «يعقوب» على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} . وقال تعالى في من يسوءه ولادة الأنثى: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} . وقال تعالى في حقّ «ذي النّون» على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ} . والغيظ: أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، لكن فرقان ما بينهما: أنّ الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب، فإنّه يظهر على الجوارح مع فعل ما، ولا بدّ، ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله تعالى: أنّه هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم، وخذ ما يلي:

فعن معاذ بن أنس-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظا، وهو قادر على أن ينفّذه؛ دعاه الله سبحانه على رءوس الخلائق حتّى يخيّره من الحور العين ما شاء» . رواه أبو داود، والترمذيّ.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشّديد بالصّرعة، إنّما الشّديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» . رواه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما. وانظر الترغيب، والترهيب للحافظ المنذري؛ إن أردت الزيادة.

{وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ:} يعفون عمّن أساء إليهم، أو ظلمهم، والعفو عن الناس أجلّ ضروب فعل الخير، والإحسان، والأحاديث المرغّبة في ذلك كثيرة، أكتفي منها هنا بما يلي:

عن أبي كبشة الأنماريّ-رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث أقسم عليهنّ، وأحدّثكم حديثا، فاحفظوه. قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلاّ زاده الله عزّا، فاعفوا؛ يعزّكم الله، ولا فتح عبد باب مسألة إلاّ فتح الله عليه باب فقر» . رواه أحمد، والترمذي. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلاّ عزّا، وما تواضع أحد لله؛ إلاّ رفعه الله عز وجل» . رواه مسلم، والترمذيّ. وروى أنس: أنّ رجلا قال: يا رسول الله! ما أشدّ من كلّ شيء؟ قال: «غضب الله» قال: فما ينجي من غضب الله؟ قال: «لا تغضب» . قال العرجي: [الكامل]

وإذا غضبت فكن وقورا كاظما

للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فكفى به شرفا تصبّر ساعة

يرضى بها عنك الإله وترفع

وقال عروة بن الزّبير-رضي الله عنهما-في العفو: [البسيط]

لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا

حتّى يذلّوا وإن عزّوا لأقوام

ص: 245

ويشتموا فترى الألوان مشرقة

لا عفو ذلّ ولكن عفو إكرام

{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي: يثيبهم على إحسانهم. قال سريّ السّقطي-رحمه الله تعالى- الإحسان أن تحسن وقت الإمكان، فليس كلّ وقت يمكنك الإحسان، قال الشاعر:[البسيط]

بادر بخير ما كنت مقتدرا

فليس في كلّ وقت أنت مقتدر

وقال أبو العباس الجماني، فأحسن:[الخفيف]

ليس في كلّ ساعة وأوان

تتهيّأ صفائح الإحسان

وإذا أمكنت فبادر إليها

حذرا من تعذّر الإمكان

هذا؛ وللإحسان المقبول شرطان: أحدهما: أن يكون خالصا لوجه الله تعالى. والثاني: أن يكون موافقا للشريعة؛ التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم. فمتى اختلّ شرط منهما؛ كان العمل غير مقبول قطعا.

الإعراب: {الَّذِينَ:} يجوز فيه ثلاثة أوجه: الأول: الجر على أنّه صفة ل (المتقين) أو بدل منه. والثاني: النصب على إضمار فعل، تقديره: أعني، أو أمدح. والثالث: الرّفع من وجهين:

أحدهما: أنه خبر لمبتدإ محذوف، تقديره: هم الذين. والثاني: أنه مبتدأ، خبره ما بعده، وهو مبني على الفتح في محل جرّ، أو في محل نصب، أو في محل رفع. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {فِي السَّرّاءِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالضَّرّاءِ:} معطوف على ما قبله. {وَالْكاظِمِينَ:}

معطوف على: {الَّذِينَ} على الجر والنصب، ولم يقرأ بالرفع، وفاعله مستتر فيه. {الْغَيْظَ:}

مفعول به ب ({الْكاظِمِينَ}). {وَالْعافِينَ:} معطوف على: ({الْكاظِمِينَ}) على الوجهين المعتبرين فيه، والياء هي النائبة مناب الكسرة، أو الفتحة في الاسمين؛ لأنهما صفتا جمع مذكر سالم، والنون فيهما عوض من التنوين في الاسم المفرد. {عَنِ النّاسِ:} متعلقان ب ({الْعافِينَ}) قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وفاعله مستتر فيه. ({اللهُ}): مبتدأ. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}). {الْمُحْسِنِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:({اللهُ يُحِبُّ..}.) إلخ معترضة بين المتعاطفين مقرّرة لمحبّة الله للمحسنين.

{وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}

الشرح: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً:} يعني: فعلة فاحشة خارجة عمّا أذن الله فيه.

والفاحشة: ما عظم قبحه من الأفعال، والأقوال. وقال جابر بن عبد الله-رضي الله عنه:

ص: 246

الفاحشة: الزنى. {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ:} ظلم النفس هو ما دون الزنى، مثل القبلة، والمعانقة، واللمس، والنظر. {ذَكَرُوا اللهَ:} ذكروا وعيد الله، وعقابه، ووقوفهم بين يديه حين يسألهم عن أعمالهم يوم الفزع الأكبر، ذكروا عظمته، وكبرياءه. {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} أي: لأجل ذنوبهم، فتابوا منها، وأقلعوا عنها، نادمين على فعلها، عازمين على ألا يعودوا إليها. وهذه شروط التوبة المقبولة من حقّ الله، وأمّا التوبة من حقّ العبد؛ فلها شرط رابع، وهو ردّ الحقّ إلى صاحبه.

{وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} أي: لا يغفر الذنوب إلا الله. وصف سبحانه نفسه بسعة الرحمة، وقرب المغفرة، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا إلى فضله، وكرمه، وعفوه، ورحمته، وإحسانه. وفيه تنبيه على: أنّ العبد لا يطلب المغفرة إلا منه، وأنّه القادر على عقاب المذنب، وكذلك هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه، فثبت: أنّه لا يجوز طلب المغفرة إلا منه، عز وجل.

{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا} يعني: ولم يقيموا على الذنوب، ولم يستمرّوا عليها، ولكن تابوا منها، وأنابوا، واستغفروا. والإصرار: هو العزم بالقلب على ترك الأمر، والإقلاع عنه، ومنه صرّ الدّنانير، أي: الربط عليها. وقال قتادة: الإصرار: الثبوت على المعاصي، قال الشاعر:[البسيط]

يصرّ باللّيل ما تخفي شواكله

يا ويح كلّ مصرّ القلب ختّار

قال سهل بن عبد الله-رحمه الله تعالى-الجاهل ميت، والناسي نائم، والعاصي سكران، والمصر هالك. والإصرار هو التّسويف، والتّسويف أن يقول: أتوب غدا. وبمعنى الثبوت قوله تعالى في سورة (الجاثية) رقم [8]: {يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها،} وفي سورة (الواقعة) قوله تعالى: {وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} . وقيل: الإصرار: ترك الاستغفار.

فعن أبي بكر-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أصرّ من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرّة» . الترمذيّ.

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ:} فيه أقوال كثيرة، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: وهم يعلمون: أنها معصية، وأنّ لهم ربّا يغفرها. وقيل: وهم يعلمون: أن الإصرار ضارّ. وقيل: وهم يعلمون: أنّ الله ملك مغفرة الذنب. وقيل: وهم يعلمون: أنّ الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب؛ وإن كثرت.

وقيل: وهم يعلمون: أنهم إن استغفروه؛ غفر لهم. قال ثابت البناني-رحمه الله تعالى-: بلغني:

أنّ إبليس بكى حين نزلت الآية الكريمة. وذكر في مختصر ابن كثير عن أنس-رضي الله عنه.

بعد هذا: فقد ندبنا الله عز وجل في كثير من الآيات القرآنيّة إلى الاستغفار، وحثّنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة الصّحيحة. وخذ من ذلك ما يلي: فعن عليّ-رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدّثني عنه غيره؛ استحلفته، فإذا حلف لي؛ صدّقته، وإنّ أبا بكر-رضي الله عنه-حدّثني، وصدق: أنّه سمع

ص: 247

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يذنب ذنبا، فيتوضّأ، ويحسن الوضوء، ثمّ يصلّي ركعتين، فيستغفر الله، عز وجل؛ إلاّ غفر له» . ثم قرأ هذه الآية، والآية رقم [110] من سورة (النساء).

أخرجه أبو داود، والترمذيّ. أقول: والمرأة مثل ذلك.

وعن أنس-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، قال الله عز وجل:«يا بن آدم! إنّك ما دعوتني، ورجوتني؛ غفرت لك على ما كان منك، ولا أبالي. يا بن آدم! إنّك لو بلغت ذنوبك عنان السّماء، ثمّ استغفرتني؛ غفرت لك، ولا أبالي. يا بن آدم! إنّك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئا؛ لأتيتك بقرابها مغفرة» . أخرجه التّرمذيّ، وقال: حديث حسن.

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: «قال إبليس: وعزّتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم! فقال: وعزّتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني!» . رواه الإمام أحمد، والحاكم. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال:

أستغفر الله العظيم، الّذي لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه؛ غفرت ذنوبه، وإن كان فرّ من الزّحف». أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والحاكم. هذا بالإضافة لما ذكرته في الآية رقم [17] وفي الآية رقم [199] من سورة (البقرة) وخذ ما يلي:

فقد روي: أنّ عمر-رضي الله عنه-خرج يستسقي، فما زاد الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت فقال: لقد استسقيت بمجاديح السّماء التي يستنزل بها المطر. شبّه الاستغفار بالأنواء الصّادقة التي لا تخطئ. وعن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: أنّ رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال: استغفر الله، وآخر شكا إليه قلة الأولاد، فقال:

استغفر الله، وشكا إليه آخر قلة ريع أرضه، فقال: استغفر الله، فقال له الربيع ابن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا، ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار! فتلا عليه قوله تعالى في سورة نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً} .

بعد هذا؛ فالفعل: «استغفر» يتعدّى لاثنين، أولهما بنفسه، والثّاني ب «من» نحو: استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر، كقول الشاعر، وهو الشاهد رقم [486]: من كتابنا فتح رب البريّة: [البسيط]

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والقبل

ومثل: استغفر: أمر، واختار، وكنى، وسمّى، ودعا، وصدّق، وزوّج، وكال، ووزن.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله في الآية السابقة على جميع الوجوه المعتبرة فيه. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب لجوابه، صالح لغير ذلك،

ص: 248

مبني على السكون في محل نصب. {فَعَلُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فاحِشَةً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة:{إِذا} إليها على المشهور المرجوح. وجملة: {ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ:} معطوفة عليها، وجملة:{ذَكَرُوا اللهَ} جواب {إِذا} لا محل لها، وجملة:{فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ:} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها، والإعراب مثل الأولى، و {إِذا} ومدخولها كلام لا محلّ له؛ لأنه صلة الموصول.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف، واعتراض. ({مَنْ}): اسم استفهام بمعنى النفي مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {يَغْفِرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:({مَنْ}). {الذُّنُوبَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {إِلاَّ:} حرف حصر. {اللهَ:} بدل من الفاعل المستتر، والجملة الاسمية:({مَنْ يَغْفِرُ..}.) إلخ معترضة بين المتعاطفين، مؤكدة سعة رحمة الله تعالى، وعموم مغفرته، والحثّ على الاستغفار، والوعد بقبول التوبة.

({لَمْ}): حرف نفي، وجزم، وقلب. {يُصِرُّوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلى ما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، وجملة:{فَعَلُوا} صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: ولم يصروا على الذي، أو: على شيء فعلوه، وعلى اعتبار ما مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب {عَلى} التقدير: على فعلهم، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَلَمْ يُصِرُّوا..} . إلخ معطوفة على جواب: {إِذا} لا محلّ لها مثله، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة في «استغفروا» فلست مفندا.

الواو: واو الحال «هم» : ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْلَمُونَ:}

فعل مضارع، والواو فاعله، وانظر تقدير المفعول في الشرح، والجملة الفعلية في محل خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{يُصِرُّوا،} والرابط: الواو، والضمير، فتكون حالا متداخلة على الوجه الثاني في الجملة قبلها.

{أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)}

الشرح: {أُولئِكَ..} . إلخ: الإشارة إلى الموصوفين بما تقدّم، والإشارة بالبعيد للإشعار ببعد منزلتهم، وعلوّ مكانتهم في الفضل. {جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ..}. إلخ: قدّم سبحانه المغفرة على الجنّة؛ لأنّ التخلية مقدّمة على التّحلية، فلا يستحقّ دخول الجنّة من لم يتطهّر من الذنوب، والآثام. هذا؛ وتفيد الآية الكريمة: أنّ المطلوب بالتوبة أمران: أحدهما الأمن من العقاب،

ص: 249

وإليه الإشارة بقوله جلّ ذكره: {مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} والثاني: إيصال الثواب، وإليه الإشارة بقوله تعالى شأنه:{وَجَنّاتٌ تَجْرِي..} . إلخ؛ أي: ذلك لهم ذخر لا يبخس، وأجر لا يوكس. {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} أي: ونعم ثواب المطيعين؛ أي: الجنة، وما فيها من النّعيم، والخير العميم.

تنبيه: لا يلزم من إعداد الجنّة للمتقين، والتائبين جزاء لهم ألا يدخلها المصرّون، كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم ألا يدخلها غيرهم، بل المصرّون يدخلون الجنّة بعد أن يعذّبوا في نار الجحيم على حسب جرائمهم، ويدخل النّار من غير الكافرين عصاة المسلمين من الفاسدين، والظّالمين في هذه الدّنيا. وتنكير ({جَنّاتٌ}) على الأول يدلّ على أنّ ما لهم دون ممّا للمتّقين الموصوفين بتلك الصّفات المذكورة في الآية المتقدّمة، وكفاك فارقا بين القبيلتين: أنّه فصّل آيتهم، بأن بيّن: أنّهم محسنون، مستوجبون لمحبّة الله، وذلك؛ لأنّهم حافظوا على حدود الشرع، وتخطّوا التّخصّص بمكارمه. وفصّل آية هؤلاء بقوله:{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ؛} لأنّ المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل بعض ما فوّت على نفسه، وكم بين المحسن، والمتدارك، والمحبوب، والأجير! ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذا النّكتة. انتهى بيضاوي.

وفي هذا ردّ على الزّمخشري القائل: وفي هذه الآيات بيان قاطع: أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متّقون، وتائبون، ومصرّون، وأنّ الجنّة للمتّقين، والتّائبين منهم دون المصرّين.

ومن خالف في ذلك، فقد كابر عقله، وعاند ربّه. انتهى كشّاف. وقد صفعه ابن المنير-رحمه الله تعالى-صفعة ناعمة، ثمّ ذكر ما يلي:

روي: أنّ الله-عز وجل-أوحى إلى موسى-عليه السلام: «ما أقلّ حياء من يطمع بجنّتي بغير عمل؟! كيف أجود برحمتي على من بخل عليّ بطاعتي؟!» وعن شهر بن حوشب-رحمه الله تعالى-: طلب الجنّة بلا عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشّفاعة بلا سبب نوع من الغرور.

وارتجاء الرحمة ممّن لا يطاع حمق، وجهالة. وعن الحسن-رضي الله عنه: يقول الله يوم القيامة: جوزوا الصّراط بعفوي، وادخلوا الجنّة برحمتي، واقتسموها بأعمالكم. وعن رابعة البصريّة-رضي الله عنها: أنها كانت تنشد، وفي كتاب أدب الدّنيا، والدّين: أن ذلك لأبي العتاهية الصّوفي: [البسيط]

ما بال دينك ترضى أن تدنّسه

وثوب دنياك مغسول من الدّنس

ترجو النّجاة ولم تسلك مسالكها

إنّ السّفينة لا تجري على اليبس

الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {جَزاؤُهُمْ:} مبتدأ ثان، والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. مغفرة: خبره، والجملة الاسمية في محلّ رفع خبر المبتدأ. هذا؛

ص: 250

وأجيز اعتبار: {جَزاؤُهُمْ..} . بدلا من أولئك بدل الاشتمال، فيكون المصدر خبرا عنه، وذكرت في الآية رقم [87] ضعفه، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ..} . إلخ على اعتباره مبتدأ على وجه من ذكره، كما يجوز اعتباره في محل رفع خبر:

({الَّذِينَ إِذا..}.) إلخ على اعتباره مبتدأ، وغير معطوف على سابقه، أو هي مستأنفة لا محل لها من الإعراب بالإعراض عن الكلام السّابق. {مِنْ رَبِّهِمْ:} متعلقان ب {مَغْفِرَةٌ} أو بمحذوف صفة مقدّرة له. {وَجَنّاتٌ:} معطوف على: {مَغْفِرَةٌ} . {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان بما قبلهما، و «ها» في محلّ جرّ بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر صفة:({جَنّاتٌ}). {خالِدِينَ:} حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، وذكرت لك فيما مضى صحّة مجيء الحال من المضاف إليه، وفاعله مستتر فيه. وقال مكي: حال من: {أُولئِكَ} ولا وجه له البتة. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِدِينَ} . {وَنِعْمَ} الواو: حرف استئناف. ({نِعْمَ}): فعل ماض جامد دالّ على إنشاء المدح. {أَجْرُ:} فاعله، وهو مضاف، و {الْعامِلِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جرّه الياء

إلخ من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: ونعم أجر العاملين؛ الّذي ذكر، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)}

الشرح: {قَدْ خَلَتْ:} مضت، وذهبت. وإعلاله مثل إعلال:«بدا» في الآية رقم [118].

{سُنَنٌ:} وقائع سنّها الله في الأمم التي كذبت رسلها؛ حيث أهلكها الله بسبب مخالفتها للأنبياء. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} الخطاب للمؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد، ففيه تسلية لهم على ما أصابهم من الحزن، والكآبة في هزيمة غزوة أحد. وهذا رجوع لتفصيل بقية قصّة أحد، بعد تمهيد مبادئ الرّشد، والصلاح، وأوّلها الآية رقم [121]: فقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا} إلى هذه الآية اعتراض في خلال القصّة الواحدة. وخذ قول الشاعر، من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها

فأوّل راض سنّة من يسيرها

والسّنّة: الإمام المتّبع المؤتمّ به. قال لبيد-رضي الله عنه-في معلّقته: [الكامل]

من معشر سنّت لهم آباؤهم

ولكلّ قوم سنّة وإمامها

والسّنة: الأمّة، والسّنن: الأمم. قاله المفضل، وأنشد:[البسيط]

ما عاين النّاس من فضل كفضلهم

ولا رأوا مثلهم في سالف السّنن

ص: 251

هذا؛ والسّنة بمعنى: الشّريعة، والطّريقة، تكون حسنة، إن كانت في الخير، وتكون سيّئة إن كانت في الشرّ. وخذ ما يلي: عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من سنّ خيرا، فاستنّ به؛ كان له أجره، ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا. ومن سنّ شرّا، فاستنّ به، كان عليه وزره، ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا» . رواه الإمام أحمد، والحاكم عن حذيفة-رضي الله عنه-ورواه مسلم، وابن ماجة، والترمذيّ عن جرير بن عبد الله البجلي بأطول من هذا.

{فَسِيرُوا:} هذا الأمر لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظروا، ويعتبروا بأحوال الأمم الماضية.

وفيه ردع، وزجر للكافرين المكذّبين بأنّ الله سيهلكهم، كما أهلك من قبلهم؛ لأنّ الكافر إذا تأمّل أحوال الكفار المهلكين تأمّل اعتبار؛ صار ذلك داعيا إلى الإيمان، والكف عن كثير من طغيانه، وجبروته؛ لأن النّظر إلى آثار المتقدّمين له أثر في النفس الكاملة، كما قيل:[الخفيف]

إنّ آثارنا تدلّ علينا

فانظروا بعدنا إلى الآثار

هذا؛ وعاقبه كلّ شيء آخره، ونتيجته، ومصيره، ومآله. ولم يؤنّث الفعل:{كانَ} لأنّ عاقبة مؤنث مجازي، وما كان منه يستوي فيه التذكير، والتأنيث، أو لأن عاقبة اكتسب التذكير من المضاف إليه، وهو مصدر مثل:«العافية»

إلخ.

بعد هذا: فإنّي ألفت النظر إلى أنّه تعالى، قال هنا:{فَانْظُروا} بعد الأمر بالسّير في الأرض، وقال جلّ ذكره في الآية رقم [11] من سورة (الأنعام):{ثُمَّ انْظُرُوا} والفرق بينهما:

أنّ النظر جعل مسببا عن السّير، فكأنه قيل: سيروا؛ لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين، ومعنى السّير هناك: إباحة السّير في الأرض للتّجارة، وغيرها، وإيجاب النّظر في آثار الهالكين، ونبّه على ذلك ب (ثم) التي هي للتراخي لتباعد ما بين الواجب، والمباح. انتهى.

الإعراب: {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث الساكنة. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من:{سُنَنٌ} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا على القاعدة: نعت النكرة

إلخ، والكاف في محل جر بالإضافة. {سُنَنٌ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {فَسِيرُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر، التقدير: إنّ شككتم في ذلك {فَسِيرُوا} . (سيروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية في محلّ جزم جواب للشّرط المقدّر:«إن» .

{فَانْظُروا:} الفاء: حرف عطف. (انظروا): مثل سابقه في إعرابه، والجملة الفعلية معطوفة على سابقتها. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر: {كانَ} تقدّم عليها وعلى اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسم {كانَ،} وهو مضاف،

ص: 252

و {الْمُكَذِّبِينَ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{كَيْفَ كانَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به للفعل قبلهما المعلّق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام.

{هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}

الشرح: {هذا:} الإشارة إلى القرآن، أو إلى قوله تعالى:{قَدْ خَلَتْ..} . إلخ، أو إلى ما ذكر من أحوال المتقين، والتّائبين. هذا؛ والبيان: الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة، بعد أن كانت حاصلة. والهدى: بيان طريق الرّشد المأمور بسلوكه دون طريق الغيّ. والموعظة: هي الكلام الذي يفيد الزّجر عمّا لا ينبغي في طريق الدّين، وإنّما خصّ المتّقين بالهدى، والموعظة؛ لأنّهم هم المنتفعون بهما دون غيرهم. انتهى خازن بتصرّف. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {هذا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له (ذا) اسم إشارة مبنيّ على السّكون في محل رفع مبتدأ. {بَيانٌ:} خبره. {لِلنّاسِ:} متعلقان ب {بَيانٌ} لأنّه مصدر، أو بمحذوف صفة له. {وَهُدىً:} معطوف على {بَيانٌ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {وَمَوْعِظَةٌ:} معطوف على ما قبله. {لِلْمُتَّقِينَ:} متعلقان ب ({مَوْعِظَةٌ}) أو بمحذوف صفة لها، وحذف متعلق ({هُدىً}) لدلالة متعلق ({مَوْعِظَةٌ}) عليه، أو هو من باب التنازع. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب المشركين مع ما أصابهم من الجراح، والقتل، وكان قد قتل من الأنصار سبعون رجلا، ومن المهاجرين خمسة رجال، منهم: الحمزة، رضي الله عنهم أجمعين. ومعنى الآية: لا تضعفوا عن الجهاد، ولا تجزعوا على من قتل منكم؛ لأنهم في الجنّة. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} يعني: بالعزة، والنّصر، والغلبة عليهم.

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعب، فأقبل خالد صلى الله عليه وسلم في خيل المشركين، يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ لا يعلوه علينا، اللهمّ لا قوّة لنا إلاّ بك» فثاب نفر من المسلمين رماة، فصعدوا الجبل، ورموا خيل المشركين؛ حتّى انهزموا، وعلا المسلمون الجبل. وقيل:{وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ؛} لأنّ حالكم خير من حالهم؛ لأنّ قتلاكم في الجنّة، وقتلاهم في النّار، وأنتم تقاتلون على الحقّ، وهم يقاتلون على الباطل، ولأنّ العاقبة الحسنة لكم بالظفر، والنصر عليهم. وفي هذه الآية بيان فضل هذه الأمة؛ لأنّه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه، فقد قال لموسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:

ص: 253

{قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} وقال لهذه الأمة: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} . {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} مصدّقين بوعد الله، فلا تهنوا، ولا تحزنوا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَهِنُوا:} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة في المعنى على قوله تعالى:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} . {وَلا تَحْزَنُوا:} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها. {وَأَنْتُمُ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمُ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الْأَعْلَوْنَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محلّ نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [118] وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه. انظر الشرح.

{إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ (140)}

الشرح: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ:} انظر الآية رقم [120]، {قَرْحٌ:} يقرأ بفتح القاف، وضمها، وهما لغتان، كالضّعف، والضّعف. وقيل: بالفتح: الجراح، وبالضّمّ: ألمها. {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ..} . أي: فقد أصاب الكفار أعداءكم قريب من ذلك من قتل، وجراح. قال تعالى في سورة (النّساء) رقم [104]:{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ..} . إلخ. {وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ:} نصرفها بين الناس من فرح، وحزن، وصحّة، وسقم، وغنى، وفقر، واجتماع، وفرقة، كما قال الشاعر:[الطويل]

ثمانية للمرء لا بدّ منهم

وكلّ امرئ لا بدّ له من ثمانيه

سرور وحزن واجتماع وفرقة

عسر ويسر ثم سقم وعافيه

والدّولة: الكرّة، قال النّمر بن تولب الصّحابي-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [209]:

من كتابنا: «فتح ربّ البرية» -: [المتقارب]

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسرّ

والمداولة: مثل المعاورة، قال الشاعر:[الكامل]

فلأهدينّ مع الرّياح قصيدة

منّي محيّرة إلى القعقاع

ترد المياه فلا تزال مداولا

في النّاس بين تمثّل وسماع

ص: 254

{وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ليظهر الله للناس إيمان الذين آمنوا، ويميّزهم من غيرهم، فهو سبحانه عليم بالناس، وأعمالهم، وأقوالهم، ونيّاتهم قبل أن يخلقوا وبعد أن خلقوا. فالعلم هنا بمعنى الظّهور، والتمييز. {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ} أي: وليكرم قوما بالشهادة، من أراد أن يكرمهم بها، وذلك؛ لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنّون لقاء العدو، وأن يكون لهم يوم كيوم بدر، فيقاتلون العدوّ، ويلتمسون فيه الشهادة، {شُهَداءَ..}. جمع: شهيد، سمّي بذلك؛ لأنّه مشهود له بالجنّة. والشهيد بمعنى الشّاهد؛ أي: الحاضر للجنّة. والشّهادة فضلها عظيم، ويكفيك في بيان فضلها قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [111]:{إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ..} .

إلخ، وقوله تعالى في سورة (الصف):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ..} . إلخ.

هذا؛ وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-في هذه الآية دليل على أنّ الإرادة غير الأمر، كما يقوله أهل السنّة، فإنّ الله نهى الكفار عن قتل المؤمنين؛ حمزة، وأصحابه؛ وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشّجرة، وأراده، فواقعه آدم، وعكسه: أنّه أمر إبليس بالسّجود لآدم، ولم يرده، فامتنع، وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق في سورة (التوبة):{وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنّه-جلّ ذكره-خلق الكسل، والأسباب القاطعة عن المسير، فقعدوا. انتهى.

{وَاللهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ:} تقدّم معنى محبة الله، وعدم محبته لعباده، وانظر شرح:{الْأَيّامُ} في الآية رقم [25].

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَمْسَسْكُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والكاف مفعوله. {قَرْحٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَسَّ:} فعل ماض. {الْقَوْمَ:} مفعول به. {قَرْحٌ} فاعله. {مِثْلُهُ

:} صفته، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط فيما يظهر، وعند التأمل يتبيّن لك: أنّ الجواب محذوف، التقدير: إن يمسسكم قرح؛ فلا تحزنوا، أو: فتأسّوا. وعليه فجملة:

{فَقَدْ مَسَّ..} . إلخ تعليل للجواب المحذوف، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.

{وَتِلْكَ:} الواو: حرف استئناف. ({تِلْكَ}): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {الْأَيّامُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {نُداوِلُها:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وجوز اعتبار:{الْأَيّامُ} خبر المبتدأ. وعليه فالجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه.

ص: 255

{وَلِيَعْلَمَ:} الواو: حرف عطف. ({لِيَعْلَمَ}): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور معطوفان على علة محذوفة، التقدير: نداولها بين الناس ليكون كذا، وكذا، وليظهر الله الذين آمنوا للنّاس. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول لا محلّ لها. {وَيَتَّخِذَ:} الواو: حرف عطف. ({يَتَّخِذَ}): فعل مضارع معطوف على ({يَعْلَمِ}) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} .

{مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{شُهَداءَ} كان صفة له، فلما قدّم عليه؛ صار حالا

إلخ. {شُهَداءَ:} مفعول به.

{وَاللهُ:} الواو حرف استئناف، واعتراض. «الله»: مبتدأ. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}). {الظّالِمِينَ

:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، وهو أولى من اعتبارها حالا من فاعل ({يَتَّخِذَ}) المستتر، وعند ما تعلم: أنّ {وَلِيُمَحِّصَ..} . إلخ معطوف على الكلام السابق؛ يتبيّن لك: أنّها معترضة لا محلّ لها.

{وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)}

الشرح: {وَلِيُمَحِّصَ..} . إلخ: ليطهّرهم، ويصفّيهم من الذنوب؛ إن كانت الدّولة عليهم، والتمحيص: التنقية، والإزالة. {وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ:} يهلكهم؛ إن كانت الغلبة عليهم. ومعنى الآية: إن قتلكم الكافرون؛ فهو شهادة لكم، وتطهير من الذنوب، والسّيئات، وإن قتلتموهم أنتم؛ فهو محقهم، واستئصالهم، ومحو آثارهم.

الإعراب: {وَلِيُمَحِّصَ:} الواو: حرف عطف. ({لِيُمَحِّصَ}): إعرابه مثل إعراب: ({لِيَعْلَمَ}) والجار والمجرور معطوفان عليه أيضا. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:

{آمَنُوا} مع المتعلّق المحذوف صلته. {وَيَمْحَقَ:} فعل مضارع معطوف على (يمحص) منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {الْكافِرِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ.

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ (142)}

الشرح: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ..} . إلخ. {أَمْ} منقطعة بمعنى: «بل» وقيل: الميم زائدة، ويبقى الاستفهام للتوبيخ، والإنكار. وانظر شرح (يحسب) في الآية رقم [273]: من سورة (البقرة)، والمعنى: لا تظنوا أيّها المؤمنون أن تدخلوا الجنة، وتنالوا كرامتي، وثوابي. {وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ}

ص: 256

{جاهَدُوا مِنْكُمْ:} قال الإمام فخر الدّين الرازي-رحمه الله تعالى-: ظاهر الآية يدلّ على وقوع النفي عن العلم، والمراد وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يصدر الجهاد عنكم، وتقديره: أنّ العلم متعلّق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حصلت هذه المطابقة؛ لا جرم حسن إقامة كلّ واحد منهما مقام الآخر. وقال الواحدي-رحمه الله تعالى- النفي في الآية واقع على العلم، والمعنى على الجهاد دون العلم، وذلك لما فيه من الإيجاز في انتفاء جهاد لو كان؛ لعلمه، والتقدير: ولمّا يكن المعلوم من الجهاد، الذي أوجب عليكم.

فجرى النفي على العلم للإيجاز على سبيل التوسّع في الكلام؛ إذ المعنى مفهوم من غير إخلال.

وقال الزجّاج-رحمه الله تعالى-: المعنى: ولما يقع العلم بالجهاد، والعلم بصبر الصابرين، أي: ولمّا يعلم الله ذلك واقعا منكم؛ لأنّه يعلمه غيبا، وإنّما يجازيهم على عملهم. انتهى خازن بحروفه.

{وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ} يعني: في الحرب، وعلى ما نالهم في ذات الله عز وجل من جراح، وألم، ومكروه. وفي هذه الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد، والمعنى: أم حسبتم أيها المنهزمون يوم أحد أن تدخلوا الجنّة كما دخلها الّذين قتلوا، وبذلوا مهجهم لربّهم، عز وجل، وصبروا على ألم الجراح، والطعن، وثبتوا لعدوّهم من غير أن تسلكوا طريقهم، وتصبروا صبرهم. انتهى خازن. وانظر سبب نزول الآية رقم [214] من سورة (البقرة) فهو شبيه بما هنا.

تنبيه: لعلّك تدرك معي: أنّ في الآيات التفاتا كثيرا من الخطاب إلى الغيبة، ثم إلى الخطاب، ثم إلى التكلّم، ثمّ إلى الغيبة، ثم إلى الخطاب، ثمّ إلى الغيبة، ثمّ إلى الخطاب، استخرج ذلك بنفسك، وانظر شرح الالتفات الآية رقم [56]. والله ولي التوفيق.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف. وهي بمعنى «بل» التي للإضراب. {حَسِبْتُمْ:} فعل، وفاعل. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {تَدْخُلُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:{حَسِبْتُمْ} والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {الْجَنَّةَ} منصوب على الظرفية المكانية عند بعض النّحاة، وفي مقدّمتهم سيبويه، والمحقّقون، وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسّع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظّرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السّعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدّي، ومثل ذلك قل في:(دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشّام)، وأيضا قوله تعالى:{اِهْبِطُوا مِصْراً} وهذا إذا كان الفعل ثلاثيّا، وأما إذا كان رباعيّا بأن دخلت عليه همزة التعدية، ونصب مفعولين؛ فإنه يقال في المفعول ما ذكر في مفعول الثلاثي، والمفعول الأول يكون صريحا، مثل: أدخلت خالدا البيت.

ص: 257

{وَلَمّا:} الواو: واو الحال. ({لَمّا}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَعْلَمِ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمّا}) وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين، هذا وقرئ بالفتحة شاذّا على أنّ أصله:(«يعلمن») فحذفت نون التوكيد الخفيفة، وبقيت الفتحة قبلها، وعليه فهو مبني على الفتح في محلّ جزم، وتوكيد المضارع بعد «لمّا» شاذ، لذا قلت: فالقراءة شاذة. {اللهُ:} فاعله. {الَّذِينَ:} مفعوله.

وجملة: {جاهَدُوا مِنْكُمْ..} . صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{وَلَمّا يَعْلَمِ..} . إلخ في محل نصب حال من تاء الفاعل، أو من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير المجرور محلاّ ب (من) {وَيَعْلَمَ:} الواو: واو المعية. ({يَعْلَمِ}): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الواو، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالواو على مصدر متصيّد من الفعل السّابق، التقدير: ولمّا يحصل علم الله بالذين جاهدوا، وعلمه بالصّابرين. هذا؛ ويقرأ الفعل بالرفع. فتكون الواو للحال، ولا يسوغ هذا إلا على إضمار مبتدأ قبله، فتكون الجملة الاسمية، كأنّه قال: ولمّا تجاهدوا؛ وأنتم صابرون. {الصّابِرِينَ:} مفعول به، ولا تنس:

أنّ الفعل ({يَعْلَمِ}) من المعرفة، لا من العلم اليقيني. انظر الآية رقم [29].

{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}

الشرح: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ..} . إلخ: هذا خطاب خوطب به الّذين لم يشهدوا بدرا، وكانوا يتمنّون أن يحضروا مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لينالوا كرامة الشّهادة، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج من المدينة إلى أحد، وكان رأيه الإقامة فيها. والمعنى: وكنتم تمنّون الموت قبل أن تشاهدوه، وتعرفوا شدّته، فقد رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم، وشارفتم أن تقتلوا معهم. وهذا توبيخ لهم على ما تسبّبوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه، ثمّ انهزموا عنه، وإنّما تمنّوا الشّهادة؛ لينالوا كرامة الشّهداء من غير قصد إلى ما يتضمّنه من غلبة الكفّار. ولقد قال عبد الله بن رواحة-رضي الله عنه-حين نهض إلى مؤتة. وقيل له:

ردّكم الله سالمين غانمين! [البسيط]

لكنّني أسأل الرّحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ

(1)

تقذف الزّبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتّى يقال إذا مرّوا على جدثي

أرشده الله من غاز وقد رشدا

بعد هذا؛ فجملة: (أنتم تنتظرون) مؤكدة لما قبلها؛ لأنّ الرؤية، والنظر بمعنى واحد، وانظر شرح الموت في الآية رقم [90]. و {تَمَنَّوْنَ} أصله:«تتمنون» فحذفت إحدى التاءين. وهذا الحذف

1) ذات فرغ: أي: واسعة

ص: 258

كثير في كتاب الله، وفي الكلام العربيّ. هذا؛ والتمنّي: طلب الشيء البعيد حصوله بخلاف الترجيّ، فإنّه طلب الشيء الممكن حصوله. وتمنّى الشيء: أحبه، ورغب فيه، ويأتي «تمنّى» بمعنى: قرأ، قيل به في قوله تعالى في سورة (الحجّ) رقم [52]:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: إذا تلا؛ ألقى الشيطان في تلاوته. انظر شرحها هناك، فإنّه جيد، والحمد لله! وأنشد الشاعر في عثمان بن عفان-رضي الله عنه:[الطويل]

تمنّى كتاب الله آخر ليلة

تمنّي داود الزّبور على رسل

وقال كعب بن مالك-رضي الله عنه-فيه أيضا: [الطويل]

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

الإعراب: {وَلَقَدْ} انظر الآية رقم [123]. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تَمَنَّوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.

{الْمَوْتَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{كُنْتُمْ،} والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف، لا محلّ له. {مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَلْقَوْهُ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» وعلامة نصبه حذف النّون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَلْقَوْهُ} في محل جر بإضافة: {قَبْلِ} إليه. هذا؛ ويقرأ شاذّا بضم لام ({قَبْلِ}) بقطعه عن الإضافة، فيكون المصدر المؤول في محل نصب بدل اشتمال من:{الْمَوْتَ} فيكون التقدير: تمنّون الموت لقاءه.

{فَقَدْ:} الفاء: حرف عطف. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {رَأَيْتُمُوهُ..} . فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحرّكت بالضم لتحسين اللفظ، فتولّدت واو الإشباع، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَنْظُرُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من تاء الفاعل، والرابط: الواو، والضمير.

{وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ (144)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة، وما بعدها بسبب انهزام المسلمين يوم أحد، وكان ذلك لمّا رمى عبد الله بن قمئة الحارثي-لعنه الله تعالى-رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر، فكسر رباعيّته، وشجّ

ص: 259

وجهه، وأقبل يريد قتله، فذبّ عن النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير-رضي الله عنه، وهو صاحب الراية يوم بدر، ويوم أحد؛ حتّى قتله ابن قمئة، وهو يرى: أنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ: ألا إنّ محمدا قد قتل! وقيل: كان الصارخ الشّيطان، ففشا في الناس خبر قتله صلى الله عليه وسلم فانكفا، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله! حتّى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هربهم، فقالوا: يا رسول الله! فديناك بآبائنا، وأمهاتنا! أتانا خبر قتلك، فرعبت قلوبنا، فولّينا مدبرين! فنزلت.

وروي: أنه لما صرخ الصّارخ؛ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان! وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيّا؛ لما قتل! ارجعوا إلى إخوانكم، وإلى دينكم.

فقال أنس بن النّضر عمّ أنس بن مالك-رضي الله عنه: يا قوم! إن كان محمد قتل؛ فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء! وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء! ثم شدّ بسيفه، فقاتل حتّى قتل-رضي الله عنه، وأرضاه!

ومعنى قوله تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ..} . إلخ؛ أي: محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الرّسل؛ الذين مضوا قبله، فكما ثبت أتباعهم على دينهم، فأثبتوا أنتم على دينكم بعد موته؛ لأنّ المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرّسالة، وإلزام الحجّة، لا وجوده بين أظهر قومه. {أَفَإِنْ ماتَ} محمد صلى الله عليه وسلم:{أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} أي: رجعتم إلى دينكم الأول؟! ففيه استعارة تصريحية بالفعل، وذكرت في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [143]:{مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} أنها استعارة تمثيلية؛ حيث مثّل لمن يرتدّ عن دينه بمن ينقلب على عقبيه. ومثله قوله تعالى في سورة (الأنفال): {فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ} .

هذا؛ والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر الرّجل، وتثنيته: عقبان. قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حقّ الذين لا يغسلون الأعقاب في الوضوء جيدا: «ويل للأعقاب من النّار!» . {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ:} يرجع عن الإسلام. {فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً} وإنما يضرّ نفسه بتعريضها للسخط، والعذاب، والانتقام. {وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرِينَ..}. أي: يثبّت الله المطيعين؛ الذين ثبتوا على الإيمان، ولم يرتدّ عن الإسلام. وهذه الجملة بعد سابقتها فيها اتصال الوعد بالوعيد.

ورحم الله القرطبي؛ إذ يقول: هذه الآية أدلّ دليل على شجاعة الصدّيق، وجراءته، فإنّ الشّجاعة، والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو معروف، فظهرت عنده شجاعته، وعلمه، فإن المسلمين اضطربوا عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجوا، وماجوا، منهم عمر-رضي الله عنه-حيث طار صوابه، وأخذ يقول: من قال:

إنّ محمدا قد مات؛ قطعت رأسه بهذا السّيف! وعثمان-رضي الله عنه-قد أقعد، وعليّ

ص: 260

-كرم الله وجهه-قد أخرس، واضطرب الأمر، فكشفه الصدّيق-رضي الله عنه، ولعن مبغضيه- بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسّنح

الحديث كما في البخاري، رحمه الله تعالى.

وفي سنن ابن ماجة-رحمه الله تعالى-عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: لمّا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون: لم يمت النبيّ صلى الله عليه وسلم، إنّما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي، فجاء أبو بكر-رضي الله عنه، فكشف عن وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقبّله بين عينيه، وقال: أنت أكرم على الله أن يميتك مرّتين. قد مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم! وعمر في ناحية المسجد يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت؛ حتّى يقطع أيدي أناس من المنافقين، وأرجلهم! فقام أبو بكر-رضي الله عنه، ولعن الله مبغضيه-فصعد المنبر. فقال: من كان يعبد الله؛ فإن الله حيّ لا يموت، ومن كان يعبد محمّدا؛ فإنّ محمدا قد مات! وتلا الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها فقال عمر-رضي الله عنه، ولعن الله مبغضيه أيضا-: والله لكأني ما قرأت هذه الآية إلا يومئذ! وتلا الصدّيق قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ..} . إلخ، كما تلا قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} .

فعن أنس-رضي الله عنه-قال: لمّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ أضاء منها كلّ شيء فلمّا كان اليوم الذي مات فيه؛ أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. أخرجه ابن ماجة.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): نافية مهملة. {مُحَمَّدٌ:} مبتدأ. {إِلاّ:}

حرف حصر {رَسُولٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَلَتْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع تاء التأنيث التي هي حرف لا محلّ له. {مِنْ قَبْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {الرُّسُلُ:} فاعل: {خَلَتْ} والجملة الفعلية في محل رفع صفة رسول.

{أَفَإِنْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الفاء: حرف عطف، أو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {ماتَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محلّ جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مُحَمَّدٌ} صلى الله عليه وسلم، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَوْ:} حرف عطف. {قُتِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول معطوف على ما قبله، فهو في محل جزم مثله، ونائب الفاعل يعود إلى:{مُحَمَّدٌ} صلى الله عليه وسلم أيضا.

{اِنْقَلَبْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم جواب الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشّرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب «إذا» الفجائية. {عَلى أَعْقابِكُمْ

:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل، والتقدير:

انقلبتم مرتدّين على أعقابكم، والكلام:{أَفَإِنْ..} . إلخ جملة مستأنفة، لا محلّ لها.

ص: 261

{وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً:} انظر إعراب مثله في الآية التالية. {عَلى عَقِبَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من فاعل {يَنْقَلِبْ} أي: مرتدّا على عقبيه، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنّى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جرّ بالإضافة، و {شَيْئاً..} . نائب مفعول مطلق، والجملة الاسمية:

{وَمَنْ يَنْقَلِبْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{وَسَيَجْزِي:} الواو: حرف استئناف. السين: حرف تنفيس، واستقبال. (يجزي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثّقل. {اللهَ:} فاعله. {الشّاكِرِينَ:}

مفعول به

إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها مستأنفة.

{وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ (145)}

الشرح: {وَما كانَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [79] والمعنى: لا يصح، ولا يكون لنفس الموت إلا بأمر الله تعالى، وقضائه، وقدره، وعلمه، وذلك: أنّ الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح، فلا يموت أحد إلا بإذن الله تعالى، وأمره. والمراد من الآية: تحريض المؤمنين على الجهاد، وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأنّ الجبن لا ينفع، وأن الحذر لا يدفع المقدور، وأنّ أحدا لا يموت قبل أجله؛ وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك، كقوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [34]:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .

{كِتاباً مُؤَجَّلاً:} أي: مؤقتا، له أجل معلوم، لا يتقدّم، ولا يتأخّر، والمراد ب {كِتاباً:}

اللّوح المحفوظ؛ لأنّ فيه آجال جميع الخلائق. قال تعالى في سورة (فاطر) رقم [11]: {وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ} والمعتزلي يقول: يتقدّم الأجل، ويتأخر، وأن من قتل فإنّما يهلك قبل أجله، وكذلك: كلّما ذبح حيوان؛ كان هلاكه قبل أجله؛ لأنّه وجب على القاتل الضّمان، والدّية، وقد ردّ عليهم اللّقاني-رحمه الله تعالى بقوله:[الرجز]

وميّت بعمره من يقتل

وغير هذا باطل لا يقبل

{وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها} أي: من يرد بعمله، وطاعته الدّنيا، ويعمل لها؛ نؤته منها ما يكون جزاء، والمعنى نؤته منها ما نشاء على ما قدّرناه له. نزلت في الذين تركوا الجبل يوم أحد، وطلبوا الغنيمة. قال تعالى في سورة (الإسراء):{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} .

{وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها} أي: نؤته جزاء عمله على ما وصف الله تعالى من تضعيف لمن يشاء، والمراد بهم: الّذين ثبتوا من الرّماة على الجبل. قال تعالى في سورة (الشورى): {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} .

ص: 262

{وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ:} المؤمنين المطيعين؛ الذين لم يشغلهم شيء عن الجهاد، ولم يريدوا بأعمالهم إلا الله، والدار الآخرة. هذا؛ و (نجزي) من الجزاء، والمجازاة، وهي المكافأة على عمل ما، تكون في الخير، قال تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} . وتكون في الشر، قال تعالى:{وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} فقد أراد جزاء الشرّ. والجزاء من جنس العمل، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ. والفعل منه ينصب مفعولين، تقول: جزى زيد عمرا خيرا. وانظر الشّكر في الآية رقم [123]. هذا؛ و «الشّكور» اسم من أسماء الله الحسنى ويفسّر بحقه تعالى بالّذي يعطي على العمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة. وخذ ما يلي: فعن عمر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه» . متفق عليه.

وعن زيد بن ثابت-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدّنيا همّه؛ فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدّنيا إلاّ ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيّته؛ جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدّنيا؛ وهي راغمة» .

رواه ابن ماجة، والطّبرانيّ باختلاف في بعض ألفاظه. ومثل هذا كثير في:«التّرغيب والترهيب» .

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}) نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.

{لِنَفْسٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} تقدّم على اسمها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَمُوتَ:} منصوب ب «أن» والفاعل يعود إلى (نفس) والمصدر المؤول من:

{أَنْ تَمُوتَ} في محل رفع اسم: {كانَ} مؤخر. {بِإِذْنِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {تَمُوتَ} المستتر، التقدير: أن تموت إلا مأذونا لها. هذا وجوز اعتبارهما متعلقين بمحذوف خبر: {كانَ} وعليه يكون: {لِنَفْسٍ} متعلقين ب {كانَ} . و (إذن) مضاف {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {كِتاباً} مفعول مطلق، عامله محذوف، التقدير: كتب كتابا، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال أيضا، وهي على تقدير «قد» قبلها. {مُؤَجَّلاً:} صفة:

{كِتاباً..} . والجملة الفعلية: {وَما كانَ..} . إلخ مستأنفة.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُرِدْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {ثَوابَ:} مفعول به، وهو مضاف و {الدُّنْيا:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر.

{نُؤْتِهِ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر وجوبا تقديره: نحن، والهاء مفعول به. {مِنْها:}

ص: 263

جار ومجرور متعلقان به، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه. فقيل: جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان. وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق بينهما. {وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ:} انظر الآية السابقة، فإعرابها مثلها.

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اِسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ (146)}

الشرح: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} أي: وكثير من الأنبياء قاتل معهم جماعات كثيرون، فأصابهم من أعدائهم قروح، وجراحات. {فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ} بل استمروا على جهادهم أعداءهم؛ لأنّ الذي أصابهم إنّما هو في سبيل الله، وطاعته. وإقامة دينه، ونصرة نبيه، فكان ينبغي لكم أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد! وحجّة هذه القراءة ما روي عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أنه قال: ما سمعنا أن نبيّا قتل في القتال، وعلى هذه القراءة فالوقف على {قاتَلَ} جائز. هذا؛ ويقرأ:(«قتل») بالبناء للمجهول، ففيه أوجه: أحدها: أن يكون القتل راجعا على النبيّ وحده. والوجه الثاني: أنّ القتل نال النبيّ، ومن معه من الربّيّين، ويكون المراد البعض، فيكون المعنى: وكأين من نبيّ قتل، وبعض من كان معه، فما ضعف الباقون لقتل من قتل من إخوانهم. والوجه الثالث أن يكون القتل نال الربّيّين لا النبيّ. والمعنى: وكأين من نبيّ قتل من كان معه، وعلى دينه من الربّيّين. والقراءة الأولى أقوى.

هذا؛ و (الرّبيّون): قال ابن عباس-رضي الله عنهما: جموع كثيرة. وقيل: هم فقهاء علماء. وقيل: هم الأتباع. ويقال: ربّيون بفتح الراء منسوب إلى الرّب. قال الخليل-رحمه الله تعالى-: الرّبّيّ: الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء، وهم الرّبانيّون نسبوا إلى التألّه، والعبادة، ومعرفة الربوبية لله تعالى. وانظر شرح:{رَبّانِيِّينَ} في الآية رقم [79].

{فَما وَهَنُوا:} ضعفوا، وجبنوا. {لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: من القتل، والجراح، وذهاب الأموال في سبيل إعلاء كلمة الله، وإعزاز دينه. {وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا:} خضعوا وذلّوا، وأصله: استكن من السّكون؛ لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، والألف من إشباع الفتحة. أو أصله: استكون من الكون، فنقلت حركة الواو إلى الكاف؛ لأنّ الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، ثم يقال: قلبت الواو ألفا لتحرّكها بحسب الأصل وانفتاح ما قبلها الآن. {وَاللهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ:} انظر المحبّة فيما تقدّم. وانظر «الصّبر» في آخر السّورة، والمراد هنا: الصّابرين في الجهاد، والمعنى: أنّ من صبر على تحمل الشّدائد في طلب

ص: 264

الآخرة، ولم يظهر الجزع، والعجز؛ فإنّ الله يحبّه، ومحبّة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه، وإعزازه، وإيصال الثواب له، وإدخاله الجنّة مع أوليائه، وأصفيائه.

بعد هذا: ({كَأَيِّنْ}) أصلها «أي» الاستفهامية، دخلت عليها كاف التشبيه، فصارت بمعنى «كم» الخبرية التكثيرية، وهي كناية عن عدد مبهم، مثل: كم، وكذا. وفيها خمس لغات، كلّها قرئ بها: إحداها: ({كَأَيِّنْ}) وهي الأصل، وبها قرأ الجماعة إلا ابن كثير، وقال الشاعر:[الوافر]

وكأيّن من أناس لم يزالوا

أخوهم فوقهم وهمو كرام

والثانية: كائن بوزن كاعن، وبها قرأ ابن كثير، وجماعة، وهي أكثر استعمالا من كأيّن، وإن كانت الأصل، وهو كثير في الشّعر العربي، مثل قول جرير-وهو الشّاهد رقم [885]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الوافر]

وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا

وأيضا قول زهير-وهو الشاهد رقم [96] من كتابنا: «فتح ربّ البريّة» -: [الطويل]

وكائن ترى من صامت لك معجب

زيادته أو نقصه في التّكلّم

والثالثة: كئين بوزن كريم. والرابعة: كيئن بياء ساكنة، وهمزة مكسورة، والخامسة: كأن بوزن: كفن. هذا؛ والجلال المحلّى اعتبر ({كَأَيِّنْ}) بسيطة غير مركبة، وأنّ آخرها نون من نفس الكلمة لا تنوين؛ لأن هذه الدّعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل-والشيخ رحمه الله تعالى- سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويّون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم، مع ما ينضمّ إلى ذلك من الفوائد، وتشحين الذّهن، وتمرينه. انتهى جمل بالإضافة إلى ما أضفته من شواهد شعرية.

الإعراب: {وَكَأَيِّنْ:} الواو: حرف استئناف. ({كَأَيِّنْ}): اسم كناية بمعنى كثير مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ، وأجاز السّمين اعتباره مفعولا به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَبِيٍّ:} تمييز ل ({كَأَيِّنْ}) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {قاتَلَ:} فعل ماض.

{مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {رِبِّيُّونَ:} فاعل:

{قاتَلَ،} أو هو نائب فاعل: ({قاتَلَ}) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ.

هذا؛ وقيل: إنّ فاعل: {قاتَلَ} أو نائب فاعل ({قاتَلَ}) يعود إلى: {نَبِيٍّ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، ومعه: ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم. و {رِبِّيُّونَ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من الفاعل المستتر، أو من نائبه. كما قيل:

إن الجملة الفعلية في محل جر صفة: {نَبِيٍّ،} والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ.

ص: 265

وهنالك أقوال أخر ضعيفة ضربت عنها صفحا روما للاختصار. {كَثِيرٌ} صفة: {رِبِّيُّونَ} والجملة الاسمية: {وَكَأَيِّنْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): نافية. {وَهَنُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق.

{لِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أَصابَهُمْ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{فَما وَهَنُوا..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وهو أولى من العطف على ما قبلها، والجملتان:{وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا:} معطوفتان عليها، لا محل لهما مثلها. {وَاللهُ:} الواو:

واو الحال. ({اللهِ}): مبتدأ. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {الصّابِرِينَ:} مفعول به منصوب

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَاللهُ يُحِبُّ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو فقط، والحال بمعنى الظرف كما ذكرته في الآية رقم [57] والاستئناف ممكن بالإعراض عمّا قبل الجملة الاسمية.

{وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَاُنْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147)}

الشرح: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ} أي: قول الربّيّين الذين قاتلوا مع الأنبياء. {إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا..} .

إلخ: أضافوا الذنوب، والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربّانيّين هضما لها، واستقصارا في العمل. والدّعاء بالاستغفار من الذنوب جعلوه مقدّما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب، والنصرة على العدوّ؛ ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاء، وطهارة، وخضوع أقرب إلى الاستجابة، ففيه تعريض بالمنهزمين يوم أحد. {وَثَبِّتْ أَقْدامَنا:} في مواطن الحرب؛ لكي لا تزول عند لقاء العدو، وذلك يكون بإزالة الخوف، والرّعب من قلوبهم. {وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ:} لأنّ النصر على الأعداء لا يكون إلا من عند الله. بيّن الله جلّت قدرته، وتعالت حكمته: أن الربّيّين كانوا مستعدّين عند لقاء العدو بالدّعاء، والتضرّع، وطلب الإعانة، والنّصر من الله تعالى. والغرض من ذلك أن يقتدي بهم في هذه الطريقة الحسنة أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم. وخذ ما يلي:

فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يدعو بهذا الدعاء: «اللهمّ اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منّي» . أخرجه مسلم. فالرّسول صلى الله عليه وسلم منزّه عن الخطأ، والجهل، والإسراف في الأمر، فعلى المسلم أن يستعمل ما في كتاب الله، وصحيح السنة من الدّعاء، ويدع ما سواه، ولا يقول: أختار كذا، فإن الله تعالى قد اختار لنبيه، وأوليائه، وعلّمهم كيف يدعون؟ وانظر:«الإسراف» في سورة (النساء) رقم [6]

ص: 266

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.

{قَوْلَهُمْ:} خبر كان مقدم. والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِلاّ:}

حرف حصر. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ} والفعل:{قالُوا} في تأويل مصدر في محل رفع اسم: {كانَ} مؤخر. هذا؛ ويقرأ برفع ({قَوْلَهُمْ}) على أنّه اسم كان، فيكون المصدر المؤول في محل نصب خبرها، ولهذا نظائر في كتاب الله كثيرة، وجملة:{وَما كانَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الفعلية السابقة لا محل لها مثلها، وعليه تكون الجملة الاسمية:{وَاللهُ يُحِبُّ الصّابِرِينَ} معترضة بين المتعاطفتين، لا محلّ لها. {رَبَّنَا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {اِغْفِرْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:

أنت. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ذُنُوبَنا:} مفعول به. {وَإِسْرافَنا:} معطوف على ما قبله، و (نا) في محل جر بالإضافة. {فِي أَمْرِنا} متعلقان بما قبلهما، و (نا) في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {وَثَبِّتْ:} الواو: حرف عطف. ({ثَبِّتْ}): فعل دعاء، وفاعله: أنت. أقدامنا: مفعول به، (نا) في محل جرّ بالإضافة. ({اُنْصُرْنا}): فعل دعاء، وفاعله: أنت، و (نا) مفعول به. {عَلَى الْقَوْمِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْكافِرِينَ:} صفة:

{الْقَوْمِ} مجرور مثله، والكلام:{رَبَّنَا..} . إلخ كلّه في محل نصب مقول القول.

{فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}

الشرح: {فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا:} أعطاهم الله، ومنحهم بسبب الاستغفار، واللّجوء في الشدائد إلى الله ثواب الدنيا من النّصر، والغنيمة، وقهر الأعداء، والثناء الجميل، وغفران الذنوب والخطايا. وحسن ثواب الآخرة؛ يعني: الجنة، وما فيها من النعيم المقيم. إنّما خص ثواب الآخرة بالحسن إجلالا له، وتنبيها على عظمته؛ لأنه غير زائل، ولم يشب بتنغيص، ولم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلّته؛ ولأنه سريع الزوال مع ما يشوبه من التنغيص، والأكدار، والهموم، والأحزان. {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} انظر الآية رقم [134].

الإعراب: {فَآتاهُمُ:} الفاء: حرف عطف. (آتاهم): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {ثَوابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {الدُّنْيا} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر. {وَحُسْنَ:} معطوف على {ثَوابَ} وهو مضاف {ثَوابَ:} مضاف إليه، و {ثَوابَ} مضاف، و {الْآخِرَةِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية:{فَآتاهُمُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ:}

انظر إعراب مثلها في الآية [146] وهي مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام، لا محل لها.

ص: 267

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)}

الشرح: قال عليّ-رضي الله عنه: نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة يوم أحد: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم. وعن الحسن البصري-رحمه الله تعالى-إن تستنصحوا اليهود، والنصارى، وتقبلوا منهم؛ لأنهم كانوا يستفزونهم، ويوقعون الشّبه في الدين، ويقولون: لو كان نبيّا؛ لما غلب، ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم، وإنّما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يوما له، ويوما عليه. وعن السدي: إن تستكينوا لأبي سفيان، وأصحابه، وتستأمنوهم. {يَرُدُّوكُمْ} إلى دينهم. وقيل: هو عامّ في جميع الكفار، وإن على المؤمنين أن يجانبوهم، ولا يطيعوهم في شيء، ولا ينزلوا على حكمهم، ولا على مشورتهم؛ حتى لا يستجروهم إلى موافقتهم. وانظر الآية رقم [100]: فهي مثلها. {عَلى أَعْقابِكُمْ:} انظر الآية رقم [144]: وانظر ما ذكرته في النّداء في رقم [130].

{فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} أي: في الدّارين، أما خسران الدنيا؛ فلأنّ أشقّ الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد إلى العدوّ، وإظهار الحاجة إليه، وأما خسران الآخرة؛ فالحرمان من الثواب المؤبّد، والوقوع في العقاب المخلّد. انتهى جمل.

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [130]: {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{تُطِيعُوا} فعل مضارع فعل الشر مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {يَرُدُّوكُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب الشرط ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {عَلى أَعْقابِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول الثاني على اعتبار الفعل متعديا لمفعولين، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الكاف على اعتباره متعديا لمفعول واحد، والجملة الشّرطية: لا محل لها كالجملة الندائية. {فَتَنْقَلِبُوا:} الفاء: حرف عطف، أو هي فاء السببية. (تنقلبوا): فعل مضارع مجزوم بسبب العطف على جواب الشرط، أو هو منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء، وعلامة الجزم أو النصب حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، ويجوز في مثل ذلك رفع الفعل، كما رأيت في الآية رقم [284]: من سورة (البقرة) وعلى وجه النصب تؤول «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيّد من

ص: 268

الفعل السابق، التقدير: إن تطيعوا

يقع ردّكم على أعقابكم، فانقلابكم. {خاسِرِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب

إلخ.

{بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ (150)}

الشرح: {بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ:} وليكم، وناصركم، وحافظكم، فاستعينوا به، ولا تستعينوا بغيره. هذا؛ و (مولى) يطلق في الأصل على الإله المعبود بحقّ، كما هنا، ومن أسماء الله الحسنى: المولى، ويطلق على العبد، والسيد، والأمير، وابن العم، والحليف، والناصر، والمعين، كما في قوله تعالى في سورة (الدّخان):{يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} . وقال تعالى في سورة (الحج): {فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} و «مولى» يكون بمعنى:

المقرّ، والمصير، والاستيلاء. قال تعالى في سورة (الحديد) مخاطبا الكافرين، والمنافقين:

{مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} كما يطلق على مولى العتاقة، والمحالفة، وكلّ منهما لا يكون متصل النّسب في القبيلة، ولكنّه لصيق بها، والموالي في نظر العرب من الخسّة، والضّعة بحيث لا يرونهم في مصافهم. {وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ} أي: إنه تعالى قادر على نصركم، فكيف تطيعون الكفار، وتسمعون كلام المنافقين؛ وهم عاجزون عن نصر أنفسهم؛ فضلا عن نصرهم غيرهم؟!.

الإعراب: {بَلِ:} حرف إضراب تبتدأ بعده الجمل، انظر مبحثه في كتابنا:«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {اللهُ:} مبتدأ. {مَوْلاكُمْ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذّر، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، هذا وقرئ بنصب لفظ الجلالة، على تقدير: بل أطيعوا الله، فيكون:{مَوْلاكُمْ} بدلا منه، أو عطف بيان عليه.

{وَهُوَ:} الواو: واو الحال. ({هُوَ}) ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خَيْرُ:}

خبره، وهو مضاف، و {النّاصِرِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{مَوْلاكُمْ} والرابط: الواو، والضمير.

{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ (151)}

الشرح: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ..} . إلخ: وذلك: أنّ أبا سفيان، ومن معه ارتحلوا متوجهين إلى مكّة، فلمّا بلغوا بعض الطريق؛ ندموا، وقالوا: بئس ما صنعنا! قتلناهم؛ حتى إذا لم يبق منهم

ص: 269

إلا الشّريد؛ تركناهم، ارجعوا إليهم، فاستأصلوهم، فلمّا عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرّعب، يعني: الخوف الشديد، كما قال الله تعالى في سورة (الحشر):{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} حتّى رجعوا عمّا همّوا به، فعلى هذا القول يكون الوعد بإلقاء الرّعب في قلوب الكفار مخصوصا بيوم أحد. وقيل: إنّه عام، وإن كان السبب خاصّا، وقد ثبت في الصّحيحين عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا، لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي:

نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا، وطهورا، وأحلّت لي الغنائم، وأعطيت الشّفاعة، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى النّاس عامّة».

هذا؛ و {الرُّعْبَ} يقرأ بضم العين، وسكونها. قال عيسى بن عمر-رحمه الله: كلّ اسم ثلاثي يجوز فيه ضم العين، وسكونها، وذلك مثل عسر، ويسر، وحلم

إلخ.

{بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} أي: حجّة، وبرهانا. وسمّيت الحجّة:

سلطانا؛ لأن السّلطان مشتقّ من السّليط؛ وهو ما تستصبح به. وقيل: السّلطان: القوّة، والقدرة، وسمّيت الحجّة سلطانا؛ لقوّتها في دفع الباطل. وقال بعض المفسّرين المحقّقين: سمّيت الحجّة سلطانا؛ لأنّ صاحب الحجّة يقهر من لا حجّة له، كالسّلطان بقهر غيره. وقال الزجّاج:

السّلطان: هو الحجّة، وسمّي السّلطان سلطانا؛ لأنّه حجّة الله في أرضه، هذا؛ وجمعه بمعنى الحاكم، والمالك: سلاطين، ولا يجمع إذا كان بمعنى الحجّة، والبرهان.

هذا؛ والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام، قال تعالى في سورة (الأعراف):{وَأَلْقَى الْأَلْواحَ} . وقال في سورة (الشّعراء): {فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} . وقال فيها أيضا: {فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ} كما قد يستعار للمعاني، كما في هذه الآية، وكقوله تعالى في سورة (طه):{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} .

{وَمَأْواهُمُ النّارُ:} مستقرّهم، وملجؤهم النّار، وبئس القرار! {وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ:}

مأواهم، والفرق بين مأوى، ومثوى: أن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأما المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولو مؤقّتا، وقدّم المأوى على المثوى؛ لأنه على التّرتيب الوجودي، يأوي، ثم يثوي. انتهى جمل. والله أعلم بمراده.

الإعراب: {سَنُلْقِي:} السين: حرف استقبال. (نلقي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن. هذا؛ ويقرأ: («سيلقي») على أنّ الفاعل يعود إلى (الله)، وعلى القراءة الأولى يوجد التفات من الغيبة إلى التكلّم، وعلى هذه القراءة لا يوجد التفات. {فِي قُلُوبِ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، و {قُلُوبِ} مضاف، و {الَّذِينَ:} مضاف إليه مبني على الفتح في محل جر، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {الرُّعْبَ:} مفعول: (نلقي). {بِما:} الباء: حرف

ص: 270

جر. (ما): مصدرية. {أَشْرَكُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل:{أَشْرَكُوا} في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(نلقي). {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل: {أَشْرَكُوا} . {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ل {أَشْرَكُوا}. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُنَزِّلْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} والفاعل يعود إلى (الله). {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به. {سُلْطاناً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلاّ بالباء.

{وَمَأْواهُمُ:} الواو: واو الحال. ({مَأْواهُمُ}): مبتدأ، والهاء في جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله:{النّارُ} في المعنى؛ إذ المعنى: وتؤويهم النار. {النّارُ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها. {وَبِئْسَ} الواو: حرف عطف. ({بِئْسَ}): فعل ماض جامد لإنشاء الذم. {مَثْوَى:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، و {مَثْوَى} مضاف، و {الظّالِمِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره:

النّار، وهذا المخصوص فيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر مقدّم، والثاني: أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي النّار، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وعطفها على ما قبلها يقوّي الاستئناف.

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}

الشرح: قال محمد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: لمّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد؛ وقد أصيبوا، قال بعضهم لبعض: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النّصر؟! فنزلت هذه الآية، وذلك: أنّ المسلمين قتلوا صاحب لواء المشركين، وسبعة نفر منهم بعده على اللّواء، وكان النصر ابتداء للمسلمين؛ غير أنّهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرّماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة، فكان ذلك سبب الهزيمة. وقال محمّد بن كعب: ولمّا قتل صاحب لواء المشركين، وسقط لواؤهم؛ رفعته عمرة بنت علقمة الحارثيّة، وفي ذلك يقول حسّان-رضي الله عنه:[الطويل]

فلولا لواء الحارثيّة أصبحوا

يباعون في الأسواق بيع الجلائب

ص: 271

{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ:} تقتلونهم قتلا ذريعا. وقيل: معناه: تستأصلونهم بالقتل بأمر الله، وقضائه، وقدره. و (الحسّ): الاستئصال بالقتل، قال جرير:[الوافر]

تحسّهم السّيوف كما تسامى

حريق النّار في الأجم الحصيد

وقال آخر: [الطويل]

حسسناهم بالسّيف حسّا فأصبحت

بقيّتهم قد شرّدوا وتبدّدوا

{حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ} أي: جبنتم، وضعفتم؛ إذ معنى الفشل: الضعف مع الجبن، قال تعالى في الآية رقم [122]:{إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} وقال تعالى في سورة (الأنفال): {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا} . {وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ:} اختلفتم. والمراد: الرّماة الذين أقامهم الرّسول صلى الله عليه وسلم ردءا للجيش، حين قال بعضهم: نلحق المنهزمين من الكفّار. وقال بعضهم:

بل نثبت في مكاننا الّذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه. {وَعَصَيْتُمْ} أي: خالفتم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في الثبوت، وكان ثبت عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر يسير دون العشرة ممّن كان معه، فلمّا رأى خالد بن الوليد، وعكرمة ابن أبي جهل خلوّ الجبل من الرّماة؛ حملوا على الرّماة الذين بقوا مع عبد الله بن جبير-رضي الله عنه-فقتلوهم، وانقضّوا على المسلمين من خلفهم، فدهش المسلمون، وتحولت الريح دبورا بعد أن كانت صبا، وانتفضت صفوف المسلمين، واختلطوا، فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضا، وما يشعرون من الدّهش، ونادى إبليس: إنّ محمدا قد قتل. فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين. وذكرت لك فيما سبق: أنّ الذي قال: قتلت محمدا هو: عبد الله بن قمئة.

{مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ:} من النّصر، والظفر، والغنيمة يا معشر المسلمين! وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين، وولّوا الأدبار. {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا} أي: الغنيمة.

قال ابن مسعود-رضي الله عنه: ما شعرنا أنّ أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، وعرضها؛ حتى كان يوم أحد، والمراد بهم: من تركوا الجبل، كما رأيت فيما تقدم. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ:} وهم الذين ثبتوا على الجبل مع أميرهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم.

{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} يا معشر المسلمين بعد أن استوليتم على المشركين، ردّكم عنهم بالانهزام، والفشل، ودلّ هذا على: أن المعصية مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: المعنى: ثم انصرفتم. فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرّعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم، قال القشيري-رحمه الله تعالى-: هذا لا يغنيهم؛ لأنّ إخراج الرّعب من قلوب الكافرين حتّى يستخفّوا بالمسلمين قبيح عندهم، ولا يجوز أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله تعالى:{ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} معنى. {لِيَبْتَلِيَكُمْ:} ليمتحنكم، ويختبركم؛ ليميز المؤمن من الكافر، ومن المنافق، ومن يريد الدنيا ممّن يريد الآخرة.

ص: 272

{وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ} أي: سامحكم، فلم يعاقبكم أيّها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يستأصلكم بسبب المخالفة، والمعصية. {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} بالعفو، والمغفرة، وهذا من تمام نعم الله على عباده المؤمنين؛ لأنه نصرهم أولا، ثمّ عفا عن المذنبين منهم ثانيا؛ لأنه ذو الفضل، والإحسان.

وفي الآية الكريمة دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن، وأنّ الله تعالى يعفو عنه بفضله، وكرمه إن شاء؛ لأنه تعالى سمّاهم مؤمنين مع ما ارتكبوه من مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كبيرة، وعفا عنهم بعد ذلك؛ لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر التولّي يوم الزحف من الموبقات، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«اجتنبوا السّبع الموبقات» قيل:

يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .

رواه الشّيخان، وغيرهما.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} انظر الآية رقم [123] ففيها الكفاية. {صَدَقَكُمُ:} فعل ماض، ومفعوله الأول. {اللهُ:} فاعله. {وَعْدَهُ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم جوابه كلام مستأنف لا محل له. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب، متعلّق بالفعل:(صدق). {تَحُسُّونَهُمْ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. {بِإِذْنِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما: أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {حَتّى:} حرف ابتداء، ويعتبرها الأخفش جارة ل:{إِذا} . وقدّره ابن هشام في المغني. وقد اختلف في متعلّقها على قول الأخفش على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها متعلقة ب {تَحُسُّونَهُمْ} والثاني: أنها متعلقة ب {صَدَقَكُمُ} وهو ظاهر قول الزمخشري. والثالث:

أنها متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق، تقديره: دام لكم ذلك إلى وقت فشلكم.

{إِذا} على القول الثاني في: {حَتّى:} في محل جرّ ب {حَتّى} وعلى القول الأول:

ظرف لما يستقبل من الزّمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه. صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {فَشِلْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة {إِذا} إليها على القول المشهور المرجوح. ({تَنازَعْتُمْ}): فعل، وفاعل. {فِي الْأَمْرِ:} متعلقان به، والجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جرّ مثلها. {وَعَصَيْتُمْ:} الواو: حرف عطف. ({عَصَيْتُمْ}): فعل، وفاعل. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا. {ما:} مصدرية. {أَراكُمْ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به أول. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والفعل بصري، لكنّه تعدى إلى الثاني بهمزة

ص: 273

التعدية. {تُحِبُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أراكم الذي، أو: شيئا تحبّونه. و {ما} المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة:{بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد رؤيته لكم الذي تحبونه. قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وجواب {حَتّى} محذوف، وعند التأمل يتبيّن لك: أنّ جواب {إِذا} هو المحذوف. ثم قال: ومثل هذا جائز، كقوله تعالى في سورة (الأنعام) رقم [35] {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ..}. إلخ؛ إذ التقدير: فافعل. وقال الفرّاء: جواب {حَتّى:} {وَتَنازَعْتُمْ} والواو مقحمة زائدة، كقوله تعالى في سورة (الصافات):{فَلَمّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ} أي: ناديناه.

وقال امرؤ القيس في معلّقته رقم [37]: [الطويل]

فلمّا أجزنا ساحة الحيّ وانتحى

بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل

أي: انتحى. وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من: {وَعَصَيْتُمْ} أي: حتى إذا فشلتم وتنازعتم؛ عصيتم. وعلى هذا: فيه تقديم، وتأخير، أي: حتى إذا تنازعتم، وعصيتم؛ فشلتم.

وقال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون الجواب: {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} و {ثُمَّ} زائدة، والتقدير: حتى إذا فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم؛ صرفكم عنهم، وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول زهير، وهو الشاهد رقم [185] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى

فثمّ إذا أمسيت أمسيت غاديا

وجوز الأخفش أن تكون زائدة، كما في قوله تعالى في سورة (التوبة):{حَتّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ..} . إلخ. وقيل: {حَتّى} بمعنى «إلى» وحينئذ لا جواب له، أي: صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم؛ أي: كان ذلك الوعد بشرط الثبات. انتهى قرطبي بتصرّف. انظر ما ذكرته عنه من شواهد في محالها التي ذكرتها في كتبي؛ ليتبيّن لك: أنّ {حَتّى} لا جواب لها، وأن الجواب لأداة شرط جازمة أو غير جازمة، وعليه ف {إِذا} ومدخولها كلام مبتدأ، أو مستأنف لا محلّ له.

({مِنْكُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، ولا أعتمده، وإنّما أعتمد ما ذكرته في الآية رقم [110] {يُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{مِنْ} . {الدُّنْيا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية صلة:{مِنْ} أو صفتها، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {ثُمَّ:} حرف عطف. {صَرَفَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والكاف مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة جواب:{إِذا} المقدّرة، وعليه فالجملتان الاسميتان معترضتان بين المتعاطفتين لا محلّ لهما.

ص: 274

{لِيَبْتَلِيَكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلّقان بما قبلهما، أي: صرفكم عنهم؛ لابتلائكم، واختباركم. {عَنْهُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ:} انظر أول الآية. {وَاللهُ:} الواو:

حرف استئناف. (الله): مبتدأ {ذُو:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنّه من الأسماء الخمسة، و {ذُو} مضاف، و {فَضْلٍ} مضاف إليه. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان ب (فضل) أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{وَاللهُ ذُو..} . إلخ: مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام، الغرض منها بيان فضل الله، وجوده على عباده المؤمنين.

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)}

الشرح: {إِذْ تُصْعِدُونَ:} تذهبون. والإصعاد: الذهاب في الأرض. قال القتبي، والمبرد: أصعد: أبعد في الذهاب، وأبعد فيه، فكأنّ الإصعاد: إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع. قال الأعشى من قصيدته الّتي هيأها لينشدها الرّسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، وقبل فتح مكة:[الطويل]

ألا أيّهذا السّائلي أين أصعدت

فإنّ لها في بطن يثرب موعدا

وقال الفرّاء: الإصعاد: الابتداء في السّفر. والانحدار: الرجوع منه. وأنشد أبو عبيدة: [الرجز]

قد كنت تبكين على الإصعاد

فاليوم سرّحت وصاح الحادي

{وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ:} تعرّجون، وتقيمون؛ أي: لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا، ولا يقف واحد منكم لآخر. وانظر الآية [78]:{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ:} يناديكم من ورائكم. يقول: «إليّ عباد الله! إليّ عباد الله! من يكرّ؛ فله الجنة» . {فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي: فجزاكم غمّا على غمّ. قال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: الغمّ الأول بسبب الهزيمة، وحين قيل: قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ ليس لهم أن يعلونا!» . وقال السّدي-رحمه الله تعالى-: الغمّ الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة، والنصر. والثاني: بإشراف العدوّ عليهم. وقال محمّد بن إسحاق-رحمه الله تعالى-: أي: كربا بعد كرب بقتل من قتل من إخوانكم، وعلوّ عدوّكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قتل بينكم، فكان ذلك متتابعا عليكم غمّا بغمّ. وقيل غير ذلك.

ص: 275

{لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ} أي: لكي تحزنوا على ما فاتكم، وأصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما:

الذي فاتهم الغنيمة، والّذي أصابهم القتل، والهزيمة. وهذا على اعتبار (لا) صلة، وأما على اعتبارها نافية، فالمعنى يكون: ولقد عفا عنكم؛ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا ما أصابكم؛ لأنّ عفوه يذهب كلّ همّ، وحزن.

هذا؛ وسميت العقوبة التي نزلت بالمسلمين: ثوابا على سبيل المجاز؛ لأنّ لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، وقد يجوز استعماله في الشرّ؛ لأنّه مأخوذ من: ثاب: إذا رجع، فأصل الثّواب كلّ ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيرا، أو شرّا، فمتى حملنا لفظ الثّواب على أصل اللغة؛ كان حقيقة، ومتى حملناه على الأغلب؛ كان مجازا، كقول الشاعر:[الطويل]

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

فجعل العطاء مكان العقاب؛ لأنّ الأداهم السّود هي: القيود الثقال. والمحدرجة هي:

السياط. {وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} أي: عالم بأعمالكم صغيرها، وكبيرها، فيجازيكم بها. فيه ترغيب في الطّاعة، وترهيب من المعصية. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِذْ:} ظرف متعلق بأحد الأفعال السابقة. وقيل: متعلق بفعل محذوف، تقديره:

اذكروا، فهو مبني على السّكون في محل نصب. {تُصْعِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:({إِذْ}) إليها، والّتي بعدها معطوفة عليها، فهي في محل جرّ مثلها.

{وَالرَّسُولُ:} الواو: واو الحال. ({الرَّسُولُ}): مبتدأ. {يَدْعُوكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى الرّسول، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {فِي أُخْراكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر، والكاف في محل جر بالإضافة. {فَأَثابَكُمْ:} الفاء: حرف عطف. (أثابكم): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله، والكاف مفعول به أول. {غَمًّا:} مفعول به ثان. {بِغَمٍّ:} متعلقان بمحذوف صفة: {غَمًّا} والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{تُصْعِدُونَ} أو هي معطوفة على جملة: {صَرَفَكُمْ} . والأوّل أقوى.

{لِكَيْلا تَحْزَنُوا..} . إلخ: اللام: حرف تعليل وجر. (كي): حرف مصدري، ونصب.

(لا): نافية، أو حرف صلة، كما رأيت في الشرح. {تَحْزَنُوا:} فعل مضارع منصوب ب (كي)

ص: 276

وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلى:}

حرف جر. ({ما}): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب {عَلى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فاتَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({ما}) وهو العائد، أو الرابط، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. ({لا}): مثل سابقتها. {ما أَصابَكُمْ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، و (كي) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{عَفا} وعليه ف ({لا}) نافية، أو: هما متعلقان ب (أثابكم) وعليه ف ({لا}) صلة.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {خَبِيرٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، والحالية فيها ضعيفة. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {خَبِيرٌ} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {تَعْمَلُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: خبير بالّذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير:

بعملكم. والجار والمجرور متعلقان ب {خَبِيرٌ}

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)}

الشرح: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} يا معشر المؤمنين. {مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً:} الأمنة، والأمن سواء. وقيل: الأمنة إنّما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه. فقد روى البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أنس-رضي الله عنه: أنّ أبا طلحة قال: غشينا النعاس؛ ونحن في مصافّنا يوم أحد. قال: فجعل سيفي يسقط من يدي، وآخذه، ويسقط، وآخذه. والنّعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان، والطّمأنينة، كما قال تعالى في سورة (الأنفال) في قصة بدر:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} . قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: النّعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصّلاة من الشّيطان. والفائدة في كون النّعاس أمنة في القتال: أنّ الخائف على نفسه، لا يأخذه النوم، فصار حصول النّوم وقت الخوف الشّديد دليلا على الأمن، وإزالة الخوف، والثقة بوعد الله

ص: 277

بالنّصر. وينبغي أن تعلم: أنّ النعاس في هذه السّورة لم يعقبه نوم، بخلافه في سورة (الأنفال) في غزوة بدر فقد أعقبه نوم، كما رأيت هناك. هذا؛ والنعاس، والسّنة، والوسن: أوائل النوم، قال أبو الطيب المتنبّي-وهو الشاهد رقم [966]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [البسيط]

ابلى الهوى أسفا يوم النّوى بدني

وفرّق الهجر بين الجفن والوسن

{يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ:} والمعنى: أعقبكم بما نالكم من الخوف، والرّعب أن أمنكم أمنا تنامون معه؛ لأن الخائف لا يكاد ينام، فأمّنهم بعد خوفهم. {وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ:}

المراد بهم: المنافقون، أراد الله عز وجل أن يميز المؤمنين من المنافقين، فأوقع النعاس على المؤمنين؛ حتّى أمنوا، ولم يوقع النعاس على المنافقين، فبقوا في الخوف، والرعب. قال الزبير بن العوام-رضي الله عنه: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدّ علينا الخوف، أرسل الله تعالى علينا النّوم، والله إني لأسمع قول معتّب بن قشير، والنعاس يغشاني ما أسمعه كالحلم يقول ما قاله الله تعالى عنه:{لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا} .

{يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: يظنون: أنّ الله لا ينصر محمدا، وأصحابه، وأنّ دينه يضمحل، والمعنى: يظنّون غير الظنّ الذي يجب أن يظنّ به من نصر دينه، ورفعة شأنه وعزة في الدنيا، والآخرة، وينصر المؤمنين، ويمكنهم من أعدائهم، ويخذل المشركين أعداءه، وأعداء المؤمنين. {ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ} أي: كظن الجاهلية، الذين يحاولون أن يبطلوا دين الله بشتّى الأساليب، ومختلف المحاولات.

{يَقُولُونَ:} أي: يقول المنافقون. {هَلْ لَنا:} أي: ما لنا. {مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ:} وذلك:

أنّه لمّا شاور النّبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين في هذه الواقعة، وأشار عليه ألا يخرج من المدينة، فلمّا خالفه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخرج، وقتل من قتل؛ قيل لابن أبيّ: قد قتل بنو الخزرج، قال: هل لنا من الأمر من شيء؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار، أي: ما لنا أمر يطاع. وقيل: المراد بالأمر: النصر، والظفر، يعني: ما لنا من هذا الذي يعدنا به محمّد من النصر، والظفر من شيء، وإنّما هو لكفار قريش، وأشياعهم، أي: من المشركين.

{قُلْ..} . إلخ: الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق محمّد صلى الله عليه وسلم أي: قل لهؤلاء المنافقين:

إنّ النصر، والظفر، والأمور كلّها بيد الله، يصرّفها كيف يشاء، ويدبّرها كيف أراد، وأحبّ.

{يُخْفُونَ..} . إلخ: يعني: يخفون في أنفسهم من الكفر، والشكّ في وعد الله، عز وجل، أو:

يخفون النّدم على خروجهم مع المسلمين من المدينة. وقيل: الذي أخفوه هو قولهم: {لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ..} . إلخ.

{قُلْ:} يا محمد لهؤلاء المنافقين: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ:} أي:

كتب عليهم القتل، وقدّر عليهم. {إِلى مَضاجِعِهِمْ:} إلى مصارعهم؛ الّتي يصرعون فيها وقت

ص: 278

القتل، ومعنى الآية: إنّ الحذر لا ينفع مع القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير، فالذين قدّر عليهم القتل، وقضاه الله، وحكم به عليهم لا بدّ وأن يقتلوا. والمعنى: لو جلستم في بيوتكم؛ لخرجتم منها، ولظهر الذين قضى الله عليهم بالقتل، وقضاه إلى حيث يقتلون فيه؛ لأن كلّ إنسان يموت في المكان الّذي قدّر الله فيه موته، وكذلك في الزّمان المحدّد فيه موته، كما قال تعالى:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .

{وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ:} وجرى ما جرى، وحصل ما حصل في غزوة أحد؛ ليختبر الله إيمان المؤمنين، ويظهر نفاق المنافقين، وليمحّص ما في قلوبكم: وليكشف الله ما في قلوبكم من الإيمان، أو من النفاق. وانظر الآية رقم [141]. {وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ:} انظر الآية رقم [119].

تنبيه وفائدة: روي: أنّ ملك الموت عليه السلام-حضر مجلس سليمان بن داود-على نبينا، وحبيبنا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام-فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة، فلمّا قام؛ قال الرجل: يا نبيّ الله! من هذا؟ فقال سليمان: هذا ملك الموت. قال: أرسلني مع الرّيح إلى عالم آخر، فإنّي رأيت منه مرأى هائلا! فأمر سليمان الريح، فألقته في قطر سحيق-أي بعيد-من أقطار العالم، فما لبث أن عاد ملك الموت عليه السلام إلى سليمان عليه السلام، فقال: كنت أمرت بقبض روح ذلك الرّجل في هذه الساعة في أرض كذا، فلما رأيته في مجلسك؛ قلت: متى يصل هذا إليها، وقد أوصلته الريح إلى هناك، فقضي أمر الله في زمانه، ومكانه من غير إخلال بشيء من ذلك. انتهى جمل نقلا عن أبي السّعود. فعليه: من قدّر الله موته في مكان كذا يجعل الله له حاجة في ذلك المكان؛ حتّى يقع كما قدّر الله تعالى، وأراد.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَنْزَلَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى:{اللهُ} . {عَلَيْكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ بَعْدِ} متعلقان بالفعل قبلهما، و {بَعْدِ} مضاف، و {الْغَمِّ} مضاف إليه. {أَمَنَةً:} مفعول به. {نُعاساً:} بدل من: {أَمَنَةً} بدل كلّ من كلّ. وقيل: بدل اشتمال. وقيل: {نُعاساً} مفعول به. {أَمَنَةً} حال منه متقدّمة، وساغ ذلك على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . وقيل: {أَمَنَةً} حال من كاف الخطاب، بمعنى: ذوي أمنة.

وقيل: مفعول لأجله، وعليهما ف {نُعاساً} مفعول به. {يَغْشى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والفاعل يعود إلى:{نُعاساً} . {طائِفَةً} مفعول به.

{مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَةً} وجملة: {يَغْشى..} . إلخ في محل نصب صفة: {نُعاساً} ويقرأ الفعل بتاء المضارعة، وعليه فالجملة الفعلية صفة:{أَمَنَةً} .

{وَطائِفَةٌ:} الواو: حرف استئناف. ({طائِفَةً}): مبتدأ، وصفتها محذوفة، ودلّ عليها ما قبلها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَهَمَّتْهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول

ص: 279

به. {أَنْفُسُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وقال أبو البقاء-رحمه الله تعالى-: الجملة في محل نصب حال، والعامل:{يَغْشى} وتسمّى هذه الواو واو الحال. وسبقه مكيّ إلى ذلك.

وقال القرطبيّ: الواو واو الحال بمعنى: «إذ» وهذا يعني: أنّ الحال بمعنى الظرف، والرابط:

الواو فقط. انظر ما ذكرته في الآية رقم [57]: تجد ذلك مفصّلا. {يَظُنُّونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المنصوب محلاّ. {بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {غَيْرَ:} نائب مفعول مطلق لإضافته لمصدر محذوف، التقدير: غير الظنّ الحقّ، وهو مضاف، و {الْحَقِّ} مضاف إليه. {ظَنَّ:} بدل من {غَيْرَ} و {ظَنَّ} مضاف، و {الْجاهِلِيَّةِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، وهو في الأصل: كظن الجاهلية، فحذفت أداة التشبيه، فانتصب، كما ذكرت. هذا؛ وقال أبو البقاء:{غَيْرَ الْحَقِّ} مفعول أوّل ل {يَظُنُّونَ} و {بِاللهِ} في محل المفعول الثاني، و {ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ} مفعول مطلق. هذا؛ وقال النّسفي-رحمه الله:

وجملة: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} صفة ل {طائِفَةً} و {يَظُنُّونَ} خبر ل {طائِفَةً} أو صفة أخرى، أو حال؛ أي: قد أهمتهم أنفسهم ظانين.

{يَقُولُونَ:} مضارع وفاعله. {هَلْ:} حرف استفهام بمعنى النفي، كقوله تعالى:{هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ} . وقال امرؤ القيس، وهو الشاهد رقم [656] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

وإن شفائي عبرة مهراقة

وهل عند رسم دارس من معوّل

{لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنَ الْأَمْرِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، وبعضهم يعلقهما بمحذوف حال من:{شَيْءٍ} ويقول: كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا، وهو غير مسلّم لهم. {مِنْ} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:

{هَلْ لَنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ بدل من جملة:

{يَظُنُّونَ} . أو هي مفسّرة لها.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْأَمْرِ:}

اسم {إِنَّ} . {كُلَّهُ:} توكيد، وصح ذلك لاختلاف أنواع الأمر. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} . هذا؛ ويقرأ: («كلّه») فيكون مبتدأ، و {لِلّهِ} متعلقان بمحذوف خبره، وتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ} و {إِنَّ} واسمها، وخبرها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، أو معترضة كما ستقف عليه. {يُخْفُونَ:} فعل

ص: 280

مضارع، وفاعله. {فِي أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {يُبْدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يخفون الذي، أو: شيئا لا يبدونه. {لَكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:{يُخْفُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة في: {يَقُولُونَ} والرابط: الضمير فقط.

{يَقُولُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} مقدّم. {مِنَ الْأَمْرِ:}

متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {شَيْءٍ} وهو غير مسلّم. {شَيْءٍ:} اسم {كانَ} مؤخر، وجملة:{كانَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {قُتِلْنا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، و (نا) نائب فاعله. {هاهُنا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (هنا): اسم إشارة مبني على السّكون في محل نصب على الظّرفية المكانية متعلّق بما قبله، وجملة:{ما قُتِلْنا هاهُنا} جواب {لَوْ} لا محلّ لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُونَ لَوْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. وقال أبو البقاء: حال من الضمير في: {يُخْفُونَ} . وقال النّسفي: بدل من: {يُخْفُونَ} أو استئناف. هذا؛ وأرى جواز التفسير لما يخفون في أنفسهم. تأمّل، وتدبّر.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله: أنت. {لَوْ} مثل ما قبلها. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِي بُيُوتِكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان) وجملة: {كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} لا محل لها

إلخ. {لَبَرَزَ:} اللام: واقعة في جواب {لَوْ} . (برز): فعل ماض.

{الَّذِينَ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب:{لَوْ} لا محل لها، {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول، {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، {الْقَتْلُ:} نائب فاعل: {كُتِبَ} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِلى مَضاجِعِهِمْ:} متعلقان بالفعل: (برز) والهاء في محل جر بالإضافة، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.

({لِيَبْتَلِيَ}): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ:} فاعله. {ما:}

اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي صُدُورِكُمْ:}

متعلّقان بمحذوف صلة: {ما} أو: صفتها، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وفعل الله ذلك بكم ليبتلي

إلخ، أو عطف على محذوف، التقدير: لبرز الذين.. لنفاذ القضاء، أو لمصالح

ص: 281

جمّة، وللابتلاء. أو عطف على قوله في الآية السابقة:{لِكَيْلا تَحْزَنُوا..} . إلخ. وقدّر القرطبيّ-رحمه الله تعالى-ما يلي: فرض الله عليكم القتال، والحرب، ولم ينصركم يوم أحد؛ ليختبر صبركم، وليمحّص عنكم سيئاتكم؛ إن تبتم، وأخلصتم. {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ:}

إعرابه مثل إعراب ما قبله.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {عَلِيمٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {بِذاتِ:} متعلقان ب {عَلِيمٌ} و (ذات) مضاف، و {الصُّدُورِ} مضاف إليه.

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا} أي: انهزموا، وهربوا منكم يا معشر المسلمين من ساحة الحرب. فهو خطاب لمن كان مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المؤمنين يوم أحد، وكان قد انهزم أكثر المسلمين، ولم يبق مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أربعة عشر رجلا: سبعة من الأنصار، وسبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص-رضي الله عنهم أجمعين-. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ} أي: الجيشان.

{إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ} أي: طلب زلّتهم، كما يقال: استعجله، أي: طلب عجلته. أو المعنى: دعاهم إلى الزلّة، وحملهم عليها بإلقاء الوسوسة في قلوبهم. {بِبَعْضِ ما كَسَبُوا} أي:

بمعصيتهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فالإضافة إلى الشّيطان لطف، وتقريب، والتعليل بكسبهم وعظ، وتأديب، وانظر قوله تعالى في سورة (البقرة):{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها} .

{وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} أي: تجاوز الله، وصفح عن الّذين هربوا يوم أحد، فلم يعاقبهم بذلك، وغفر لهم، مع أنّ الهرب من ساحة الحرب من الموبقات السّبع كما ذكرته سابقا. {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} غفور لمن تاب، وأناب، حليم: لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [263] من سورة (البقرة).

هذا؛ والعفو بمعنى ما ذكر كثير في القرآن الكريم كثرة لا تعدّ، ولا تحصى، كما يأتي ({عَفَا}) بمعنى الكثرة، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [95]:{ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا..} . إلخ؛ أي: حتى كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم، من قولهم: عفا النبات، وعفا الشّحم، والوبر: إذا كثر. قال الحطيئة: [الطويل]

بمستأسد الغربان عاف نباته

وعفا المنزل، يعفو عفاء،: إذا انمحت آثاره، ومعالمه ذهبت. قال الأخطل التّغلبي، وهو الشاهد رقم [498] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

ص: 282

وبالصّريمة منهم منزل خلق

عاف تغيّر إلاّ النّؤي والوتد

وعفو المال: ما يفضل عن الحاجة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [219]: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} والعافي: طالب المعروف، والإحسان، قال عروة بن الورد العبسي المعروف بعروة الصّعاليك:[الطويل]

وإنّي امرؤ عافي إنائي شركة

وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

وجمع العافي: عفاة، قال الأعشى في مدح ممدوحه:[المتقارب]

تطوف العفاة بأبوابه

كطوف النّصارى ببيت الوثن

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم: {إِنَّ} . {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: الذين تولوا كائنين منكم. {يَوْمَ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {اِلْتَقَى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.

{الْجَمْعانِ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {اِسْتَزَلَّهُمُ:} فعل ماض، والهاء في محل نصب مفعول به. {الشَّيْطانُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:({إِنَّ}) والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، أو مبتدأة لا محل لها. {بِبَعْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بإضافة:(بعض) إليها. {كَسَبُوا:}

فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: ببعض الذي، أو: شيء كسبوه، وعلى اعتبار ({ما}) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بإضافة:(بعض) إليه، التقدير: ببعض كسبهم.

{وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم بالله. (اللام): واقعة في جواب القسم. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {عَفَا اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [123]. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها.

{غَفُورٌ حَلِيمٌ:} خبران لها، والجملة الاسمية مستأنفة، أو تعليلية، لا محل لها.

ص: 283

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}

الشرح {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية [130]. {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: المنافقين عبد الله بن أبيّ، وأصحابه. وأطلق الله عليهم لفظ: الكفر؛ لأنهم أخبث من الكفار في كلّ زمان ومكان، وفي الآخرة يكون عذابهم أشدّ من عذاب الكفار. قال تعالى في سورة (النساء):{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} . {وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ} يعني: إخوانهم في النفاق، والكفر.

وقيل: لإخوانهم في النسب، وكانوا مسلمين، فيكون المراد بهم الّذين بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة، ويطلق عليهم اسم القراء. {إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} يعني: سافروا في الأرض لتجارة، وغيرها. ففيه استعارة تشبيها للمسافر في البر بالسّابح الضارب في البحر؛ لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقّا لها، واستعانة على قطعها.

{أَوْ كانُوا غُزًّى} أي: خرجوا غازين في سبيل الله. فهو جمع: غاز، أي: خارج للحرب، والقياس: غزاة؛ لأنه جمع: غاز، وهو اسم منقوص، كقاض، وقضاة، لكنّه جاء على: فعّل حملا على الصّحيح، نحو: شاهد، وشهّد، وغائب، وغيّب، ونائم، ونوّم، وصائم، وصوّم

إلخ.

{لَوْ كانُوا عِنْدَنا} أي: مقيمين في بلدنا معنا. {ما ماتُوا وَما قُتِلُوا} لأن المنافقين يعتقدون أن الموت، والقتل بسبب السفر في الأرض، أو الخروج إلى الحرب، لا بالأجل.

{لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ} أي: ظنهم، وقولهم. {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} غمّا، وتأسّفا في قلوبهم، والحسرة: شدّة الندم، وتألّم القلب على شيء فات، لا يمكن تداركه، قال الشاعر:[الطويل]

فوا حسرتي لم أقض منها لبانتي

ولم أتمتّع بالجوار وبالقرب

وقيل: ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم يوم القيامة؛ لما هم فيه من الخزي، والنّدامة، ولما فيه المسلمون من النعيم، والكرامة. هذا؛ وجمعها: حسرات انظر الآية رقم [167]: من سورة (البقرة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. وقد تكلّم الزمخشري في فاعل الحسرة في هذه الآية بما يوافق مذهبه الاعتزالي، ولم يتعرّض له ابن المنير كعادته.

{وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: إنّ الله هو المؤثر في الحياة، والممات، لا الإقامة، ولا السفر، فإن الله قد يبقي المسافر، والغازي حيّا، ويميت المقيم في بيته، والقاعد في أهله. وهذا واقع ومشاهد. وفيه ردّ لما يعتقده المنافقون، وضعفاء الإيمان. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:} فيه تهديد

ص: 284

ووعيد للمؤمنين؛ إن قالوا واعتقدوا اعتقاد الكافرين، والمنافقين، فإنّ الآية الكريمة تنهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم في الاعتقاد. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

روي: أنّ خالد بن الوليد-رضي الله عنه-قال عند موته: ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف، أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي، كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء!

الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [130]. {لا:} ناهية جازمة. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {كَالَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُونُوا} . هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما، فهي الخبر، فهي مبنية على الفتح في محل نصب، وتكون مضافة، و ({الَّذِينَ}) مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{لا تَكُونُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. ({قالُوا}): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِإِخْوانِهِمْ} متعلقان ب ({قالُوا}) والهاء في محل جر بالإضافة. {إِذا:} ظرف زمان مجرّد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلّق بالفعل: ({قالُوا}). {ضَرَبُوا:} ماض، وفاعله. {فِي الْأَرْضِ:}

متعلقان به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها. {أَوْ:} حرف عطف. {كانُوا:}

فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {غُزًّى:} خبر: {كانُوا} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها، وجملة:{كانُوا غُزًّى} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها.

{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:} مثل سابقه. {عِنْدَنا:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {كانُوا} و (نا) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {ما:} نافية. {ماتُوا:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية جواب:{لَوْ} لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {كَفَرُوا} لا محلّ لها مثلها.

{لِيَجْعَلَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل. {اللهُ:} فاعله.

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {حَسْرَةً:} مفعول به ثان. {فِي قُلُوبِهِمْ} متعلقان ب {حَسْرَةً} أو بمحذوف صفة لها، و «أن» المضمرة والفعل:(يجعل) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قالوا، وهذا على أنّ اللام لام العاقبة، وهي متعلّقة بمحذوف؛ إن كانت للتعليل، التقدير: أوقع ذلك في قلوبهم ليجعله. وقيل غير ذلك.

{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {يُحْيِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة، مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع

ص: 285

خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة مبينة قدرة الله فيما يريد من الإحياء، والإماتة. والحالية ضعيفة. وجملة:{وَيُمِيتُ:} معطوفة على ما قبلها. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:} إعراب هذه الجملة مثل قوله تعالى في الآية رقم [153]: {وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} . والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، فيها ما ذكرته في الشرح.

تنبيه: حذف مفعول: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} للعلم بهما من المقام، وقد قال ابن هشام رحمه الله تعالى في المغني: إذا تعلق الإعلام بمجرّد إيقاع الفاعل للفعل، فيقتصر عليه، ولا يذكر المفعول، ولا ينوى؛ إذ المنويّ كالثابت، ولا يسمّى محذوفا؛ لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعوله له، ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [258]:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [9]: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [31]: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} ومثله في سورة (البقرة) رقم [186]:

وأيضا قوله تعالى في سورة (الدهر): {وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ..} . إلخ.

إذ المعنى: ربي الذي يفعل الإحياء، والإماتة، وهل يستوي من يتصف بالعلم، ومن ينتفي عنه العلم، وأوقعوا الأكل، والشرب، وذروا الإسراف، وإذا حصلت منك رؤية هنالك. ومنه على الأصح. قوله تعالى في سورة (القصص) رقم [23]:{وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ..} . إلخ: ألا ترى: أن موسى-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-إنما رحمهما؛ إذ كانتا على ضفة الذّياد، وقومهما على السّقي، لا لكون مذودهما غنما، ومسقيهم إبلا، وكذلك المقصود من قولهما:{نَسْقِي} السقي، لا المسقي، ومن لم يتأمل، قدّر: يسقون إبلهم، وتذودان غنمهما، ولا نسقي غنمنا.

تنبيه: تكرار الماضي المتّصل به واو الجماعة في هذه الآية، والإعراب المتعارف عليه هو ما ذكرته، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة.

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (157)}

الشرح: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: في الجهاد لإعلاء كلمة الله. {أَوْ مُتُّمْ:} أي على فراشكم من غير قتل. {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ} لمن آمن، وعمل صالحا، واهتدى بهدي النبي صلى الله عليه وسلم. {وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ..}. إلخ يعني: من الغنائم. والمعنى: ولئن وقع فيكم ما تخافونه من القتل في سبيل الله، أو الهلاك بالموت؛ فإنّ ما تنالونه من المغفرة، والرحمة من الله أفضل من الدنيا وحطامها الفاني، ومتاعها الزّائل.

ص: 286

هذا؛ والفعل: {مُتُّمْ} يقرأ بضم الميم، وكسرها، فالأول من باب: نصر، ك:«قلت» و «صنت» . والثاني من باب: علم، ك «خفت» و «نمت». وقال المفسرون: من: مات، يمات، كخاف، يخاف، ونام ينام، وهو بعد الإعلال يعود على باب: علم.

الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف، أي دالة عليه.

(إن): حرف شرط جازم. {قُتِلْتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فِي سَبِيلِ} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {أَوْ:} حرف عطف. {مُتُّمْ:} فعل وفاعل والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{لَمَغْفِرَةٌ:} اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف. (مغفرة): مبتدأ. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب (مغفرة) أو بمحذوف صفة لها. {وَرَحْمَةٌ:} معطوف على (مغفرة) وحذف متعلقه لدلالة ما قبله عليه. {خَيْرٌ:} خبر المبتدأ. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، {يَجْمَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء يجمعونه، وعلى اعتبار (ما) أو مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من جمعهم، والجملة الاسمية:{لَمَغْفِرَةٌ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المحذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة: إذا اجتمع شرط، وقسم فالجواب للسابق منهما. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (158)}

الشرح: المعنى: سواء متم على فراشكم، أو قتلتم في ساحة الحرب؛ فإنّ مرجعكم إلى الله. فيجازيكم بأعمالكم، فآثروا ما يقرّبكم إلى الله. ويوجب لكم رضاه من الجهاد في سبيله، والعمل بطاعته. ولله درّ القائل:[الطويل]

فإن تكن الأبدان للموت أنشئت

فقتل امرئ بالسّيف في الله أفضل

والموت لا بد منه، ورحم الله من قال:[الطويل]

ومن لم يمت بالسّيف مات بغيره

تنوّعت الأسباب والموت واحد

الإعراب: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} انظر الآية السابقة. {لَإِلَى:} اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف. (إلى الله): متعلقان بالفعل بعدهما. {تُحْشَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول

ص: 287

مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النّون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وانظر الآية السابقة.

{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}

الشرح: {فَبِما:} (ما) زائدة وتسمى في القرآن صلة، وهناك من يقول: إنّها غير زائدة، وهي نكرة موصوفة. وحجّة من يقول هذا تنزيه كلام الله تعالى من الزيادة، وعليه ذهب أبو بكر الزبيدي وغيره، وهذا فيه نظر؛ لأنّ القائلين بكون هذا زائدا لا يعنون أنّه يجوز سقوطه، ولا أنه مهمل، ولا معنى له، بل يقولون: إنّه زائد للتّوكيد، فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن. انتهى جمل بتصرف.

أقول: زيادة (ما) ظاهرة في قوله تعالى في سورة (النّساء) رقم [155]: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ..} . إلخ، وقوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [40]:{قالَ عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} وانظر موجز القول في (ما) وشواهدها في كتابنا: «فتح القريب المجيب» تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي: فبسبب رحمة الله: أودعها الله في قلبك يا محمد! كنت هينا لينا مع أصحابك؛ مع أنهم خالفوا أمرك، وعصوك. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ:} الفظّ:

الغليظ الجافي، والأنثى فظّة، والجمع: أفظاظ، قال الشاعر في ممدوحه:[الطويل]

ليس بفظّ في الأدانيّ والألى

يؤمّون جدواه ولكنّه سهل

وفظّ على أعدائه يحذرونه

فسطوته حتف ونائله جزل

وغلظ القلب عبارة عن تجهّم الوجه، وقلّة الانفعال في الرّغائب، وقلّة الإشفاق، والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:[البسيط]

يبكى علينا ولا نبكي على أحد

لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

{لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ:} لتفرّقوا عنك، ونفروا منك، ومن قول أبي النّجم، يصف إبلا:[الرجز]

مستعجلات القيض غير جرد

ينفضّ عنهنّ الحصى بالصّمد

والمعنى: ولو كنت سيئ الكلام، والأخلاق، قاسي القلب، والطباع؛ لانفضّوا عنك، وتركوك، ولكن الله حسّن أخلاقك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: إنّي أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: «إنّه ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي السّيّئة بالسّيّئة، ولكن يعفو، ويصفح» .

ص: 288

{فَاعْفُ عَنْهُمْ} أي: تجاوز عن زلاّتهم، وما فعلوا يوم أحد من الهزيمة. {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: واسأل الله المغفرة لهم؛ حتّى يشفّعك فيهم. وقيل: فاعف ما كان منهم يوم أحد ممّا يختصّ بك، واستغفر لهم فيما يختصّ بحقوق الله، وذلك من إتمام الشفقة عليهم، والرأفة بهم.

{وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} أي: في أمر الحرب ونحوه، مما لم ينزل عليك فيه وحي، تطييبا لنفوسهم، وترويحا لقلوبهم، ورفعا لأقدارهم، أو لتقتدي بك أمّتك فيها، جاء من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما تشاور قوم قطّ إلاّ هدوا لأرشد أمورهم» . ومن قوله صلى الله عليه وسلم: «ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد» . وقال الحسن البصريّ، والضحّاك: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلّمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمّته من بعده.

ولقد روى البغويّ-رحمه الله تعالى-بسنده عن عائشة-رضي الله عنها-أنّها قالت: ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرّجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في كثير من أمور الدنيا، مما لم ينزل عليه فيها وحي، فقد شاورهم حين خرج إلى بدر، واستشارهم في النزول في مكان في بدر، فأشار عليه الحباب بن المنذر بغير المكان الذي أراد النزول فيه، واستشارهم في أسرى بدر، وفي غزوة الخندق، وفي الخروج إلى أحد كما رأيت فيما سبق، وغير ذلك كثير.

هذا؛ الاستشارة دعامة تقوم عليها أمور الدنيا، والآخرة، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبّر قبل العمل يؤمّنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استنبط الصّواب بمثل المشاورة. ومن فوائدها: أنه قد يعزم الإنسان على أمر، فيشاور فيه، فيتبين له الصواب في قول غيره، فيعلم بذلك عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. ومنها: أنه إذا لم ينجح أمره؛ علم: أنّ امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه. وقال بعضهم في مدح المشاورة:[الطويل]

وشاور إذا شاورت كلّ مهذّب

لبيب أخي حزم لترشد في الأمر

ولا تك ممّن يستبدّ برأيه

وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر

قال العلماء: وصفة المستشار في الأحكام الدينية: أن يكون عالما ديّنا. وفي أمور الدنيا:

أن يكون عاقلا مجرّبا وادّا في المستشير، قال الشاعر:[المتقارب]

إذا كنت في حاجة مرسلا

فأرسل حكيما ولا توصه

وإن باب أمر عليك التوى

فشاور لبيبا ولا تعصه

وأكتفي بما تقدّم هنا. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [38]: من سورة (الشورى) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {فَإِذا عَزَمْتَ} أي: على أمر من الأمور؛ فامض وتوكل على الله، وثق به، ولا تعتمد

ص: 289

إلا عليه، فإنه ولي الإعانة، والعصمة، والتسديد. والمراد: ألا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله تعالى في كلّ أموره، وإنّ المشاورة لا تنافي التوكّل. والعزم، والعزيمة: ما عقدت عليه نفسك من أمر أن تفعله، وعزم على الشيء: قدر، وصمّم على فعله، قال الشاعر:[الطويل]

إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه

ونكّب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه

ولم يرض إلاّ قائم السّيف صاحبا

الإعراب: {فَبِما:} الفاء: حرف استئناف. الباء: حرف جر. (ما): حرف صلة. {رَحْمَةٍ:}

اسم مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {مِنَ اللهِ:} متعلّقان ب {رَحْمَةٍ} أو بمحذوف صلة لها. {لِنْتَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لَهُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَلَوْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. ({لَوْ}):

حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه.

{فَظًّا:} خبر أول. {غَلِيظَ:} خبر ثان ل (كان)، و {غَلِيظَ} مضاف، و {الْقَلْبِ} مضاف إليه، من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، وجملة:{كُنْتَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لانْفَضُّوا:} اللام واقعة في جواب ({لَوْ}). (انفضوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب لو، لا محل لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين. {مِنْ حَوْلِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة.

{فَاعْفُ:} الفاء: هي الفصيحة. (اعف): فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب شرط يقدّر ب «إذا» ، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وحاصلا؛ فاعف عنهم. ({اِسْتَغْفِرْ}): أمر، وفاعله: أنت.

{لَهُمْ} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {وَشاوِرْهُمْ:} فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة معطوفة على ما قبلها. {فِي الْأَمْرِ:} متعلقان بما قبلهما.

{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبنيّ على السكون في محل نصب. {عَزَمْتَ:} فعل، وفاعل، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَتَوَكَّلْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (توكل) فعل أمر، وفاعله: أنت. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية جواب:(إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {يُحِبُّ:} فعل مضارع،

ص: 290

والفاعل يعود إلى: {اللهِ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مستأنفة، أو تعليلية، لا محل لها على الاعتبارين. {الْمُتَوَكِّلِينَ:} مفعول به.

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}

الشرح: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ} أي: إن يعنكم الله بنصره، ويمنعكم من عدوّكم، كما فعل يوم بدر؛ {فَلا غالِبَ لَكُمْ} أي: لا أحد من الناس يغلبكم، ويقهركم؛ لأنّ الله تعالى هو المتولي نصركم. {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ:} كما فعل يوم أحد، فلم ينصركم، بل وكلكم إلى أنفسكم لمخالفتكم أمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ:} من بعد خذلانه، وهو ترك المعونة.

والمعنى: لا أحد ينصركم من بعد الله. وينبغي تعميم الخطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة، فالهاء تعود على الله جلّ ذكره. وقيل: بل تعود على الخذلان.

{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي: لا على غيره؛ لأنّ الأمر كلّه لله، لا رادّ لقضائه، ولا دافع لحكمه، فيجب أن يتوكل العبد في كل الأمور على الله تعالى، لا على غيره. وقيل:

التوكل: أن لا تعصي الله من أجل رزقك، ولا تطلب لنفسك ناصرا غيره، ولا لعملك شاهدا سواه، وخذ ما يلي:

عن عمران بن حصين-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا بغير حساب» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟! قال: «هم الّذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون» . فقام عكّاشة بن محصن-رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم! فقال: «أنت منهم» . فقام آخر، فقال: يا نبي الله! ادع الله أن يجعلني منهم! فقال: «سبقك بها عكّاشة» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [122]: فإنّه جيد، والحمد لله!

هذا؛ والخذلان: ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به، وخذلت الوحشية: أقامت على ولدها في المرعى، وتركت صواحباتها، فهي خذول، قال طرفة في معلقته رقم [8]:[الطويل]

خذول تراعي ربربا بخميلة

تناول أطراف البرير وترتدي

انظر شرحه في كتابنا إعراب المعلّقات؛ فإنّه جيد، والحمد لله. وقال طرفة أيضا:[الكامل]

نظرت إليك بعين جارية

خذلت صواحبها على طفل

ولا تنس أنّ بين: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ} وبين: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} مقابلة، وهي من المحسّنات البديعية.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَنْصُرْكُمُ:} فعل مضارع فعل الشرط، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة

ص: 291

شرط غير ظرفي. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» .

{غالِبَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، والجملة الشرطية مستأنفة لا محلّ لها. {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ:}

إعرابه مثل إعراب سابقه. {فَمَنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {ذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع خبره.

{الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {ذَا} . أو هو بدل منها. هذا؛ وجوز أن يكون: (من ذا) اسما مركبا مبنيّا على السكون في محل رفع مبتدأ، والذي خبره.

{يَنْصُرْكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية: (من ذا

) إلخ في محل جزم جواب الشرط

إلخ، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محل له مثله. {وَعَلَى اللهِ..}. إلخ: انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [122].

{وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض القوم: لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت الآية الكريمة. أخرجه أبو داود، والترمذيّ. وروي عن الضّحاك-رحمه الله تعالى-قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع، وجاءت غنائم للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يقسم للطّلائع، فأنزل الله الآية الكريمة.

وروي ابن جرير الطّبري عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قوله: المعنى: ما كان لنبيّ أن يقسم إلى طائفة من المؤمنين، ويترك طائفة، ويجور في القسم، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله تعالى، ويحكم فيه بما أنزل الله، يقول: ما كان الله ليجعل نبيّا يغلّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك؛ استنّوا به.

وقال مقاتل، والكلبي: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرّماة المركز للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له، أو ألا تقسم الغنائم، كما لم تقسم يوم بدر، فتركوا المركز، ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز، حتّى يأتيكم أمري؟» قالوا: تركنا بعض إخواننا وقوفا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: بل ظننتم أنا نغلّ، فلا نقسم.

فأنزل الله هذه الآية.

ص: 292

وقال محمد بن كعب القرظيّ، ومحمد بن إسحاق: هذا في شأن الوحي، يقول: وما كان لنبي أن يكتم شيئا من الوحي، رغبة، أو رهبة، أو مداهنة، والغلول: هو الخيانة، وأصله: أخذ الشيء في خفية يقال: غل فلان، يغل بفتح الياء، وضم الغين؛ أي: وما كان لنبي أن يخون؛ لأنّ النبوة والخيانة لا يجتمعان؛ لأن منصب النبوة أعظم المناصب، وأشرفها، وأعلاها، فلا تليق به الخيانة؛ لأنّها في نهاية الدناءة، والخسّة، والجمع بين الضدّين محال. فثبت بذلك: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يخن أمّته في شيء، لا من الغنائم، ولا من الوحي.

وقيل: المراد به: الأمة؛ لأنه قد ثبتت براءة ساحة النبيّ من الغلول، والخيانة، فدلّ ذلك على أنّ المراد بالغلول غيره. انتهى خازن بتصرف. وهذا الذي أعتمده إن شاء الله؛ لأنه قد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة، والمراد أمّته، مثل قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ..} . إلخ، وقوله تعالى:{وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ..} . إلخ، وغير ذلك.

{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي: يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله، وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبّخا بإظهار خيانته على رءوس الناس، هذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغالّ نظير الفضيحة التي يوقعها الله بالغادر في أن ينصب له لواء عند استه بقدر غدرته.

{ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ:} تعطى جزاء ما كسبت وافيا غير ناقص، وكان المناسب لما قبله أن يقال: ثم يوفى ما كسب، ولكنّه عمّم الحكم؛ ليدخل تحته كلّ كاسب من الغالّ وغيره، فاتّصل به من حيث المعنى، وهو أثبت، وأبلغ. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فلا ينقص ثواب محسنهم، ومطيعهم، ولا يزاد في عقاب سيّئهم. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول، فعظّمه، وعظّم أمره، ثم قال:«لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول، لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس، له حمحمة، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة، لها ثغاء، يقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس، لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك» .

أخرجه الإمام مسلم، وغيره. حمحمة الفرس: صوته دون الصهيل. الرّقاع: الثياب، جمع رقعة وقيل: هي التي فيها الحقوق، وخفوقها: حركتها، والصّامت: الذهب، والفضّة.

ص: 293

فتبيّن: أن الغلول كبيرة من الكبائر، بدليل الآية الكريمة، والحديث الشريف. ومن الغلول هدايا العمال، وحكمه في الفضيحة في الآخرة حكم الغال، فقد روى أبو داود في سننه، ومسلم في صحيحه عن أبي حميد الساعديّ-رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، استعمل رجلا من الأزد، يقال له: ابن اللّتبيّة على الصّدقة، فجاء، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال:«ما بال العامل نبعثه، فيجيء، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي لي؟ ألا جلس في بيت أمّه وأبيه، فينظر أيهدى له، أم لا؟! لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إلا جاء به يوم القيامة، إن كان بعيرا؛ فله رغاء، أو بقرة؛ فلها خوار، أو شاة تيعر» ثمّ رفع يديه حتّى رأينا عفرتي إبطيه، ثمّ قال:«اللهمّ هل بلّغت. اللهمّ هل بلّغت» وابن اللّتبية اسمه عبد الله صحابيّ، واللّتبية أمه، ومنهم من يفتح اللام.

وروى أبو داود عن بريدة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول» . فويل ثمّ ويل، ثم ويل لحكام هذا الزّمن، ولموظفي هذا الزّمن الذين لا يعملون إلا إذا أخذوا الرّشوة جهرا، لا خيفة، وينهبون من مؤسّسات الدّولة ما يستطيعون نهبه، كلّ بحسب وظيفته، ومركزه فيها، وجلالته، وعظمته في جهاز الدّولة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم!

الإعراب: ({ما}): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لِنَبِيٍّ:} متعلقان بمحذوف خبر:

{كانَ} تقدّم على اسمها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. ({يَغُلَّ}): فعل مضارع منصوب بأن، والفاعل يعود إلى النبيّ، والمصدر المؤوّل من الفعل وناصبه في محلّ رفع اسم كان مؤخّر، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَمَنْ:} الواو حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَغْلُلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره هو. {يَأْتِ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا، والجملة الفعلية، لا محل لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل:

الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها، {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {غَلَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). ومفعوله ومفعول ما قبله محذوف، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، التقدير: يأت بالذي، أو بشيء غلّه. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه.

{ثُمَّ:} حرف عطف. {تُوَفّى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر. {كُلُّ:} نائب فاعله، وهو المفعول الأول، وقد اكتسب التأنيث

ص: 294

من المضاف إليه، فهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {كَسَبَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل يعود إلى:{كُلُّ نَفْسٍ} والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء كسبته، وعلى اعتبار ({ما}) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب المفعول الثاني، التقدير: توفّى كلّ نفس كسبها.

{وَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({هُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{لا:} نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{كَسَبَتْ} وجمع الضمير على معنى {كُلُّ نَفْسٍ} والرابط: الواو، والضمير، والجملة الفعلية:{تُوَفّى..} .

إلخ معطوفة على الجملة الشرطية قبلها، لا محل لها مثلها.

تنبيه: ذكرت لك: أن {كُلُّ} اكتسب التأنيث من إضافته لنفس، واكتساب المضاف من المضاف إليه التذكير أو التأنيث باب من أبواب النّحو معروف، انظره في كتابنا:«فتح القريب المجيب» . ومن أمثلته قول المجنون-وهو الشاهد رقم [903] منه-: [الوافر]

أمرّ على الدّيار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الدّيار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الدّيارا

{أَفَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)}

الشرح: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ} أي: ترك الغلول، وصبر على الجهاد، وامتثل أمر الله فيما أمر، وانتهى عمّا نهى عنه، وزجر، واهتدى بهدي سيد البشر صلى الله عليه وسلم. {كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ} أي: رجع بغضب من الله بأن غلّ، أو تولّى من الميدان في ساحة الطّعن، والطّعان، ثمّ ارتكب المحرّمات، وفعل المنهيات. والمعنى لا يستوي الأول، والثاني في الحكم عند الله، فالفرق بعيد بينهما، كما بين المشرق، والمغرب، أو بين السماء، والأرض، ولهذه الآية نظائرها في سورة (الرّعد) رقم [21] وسورة (السّجدة) رقم [18] وغير ذلك. {وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ:} مآله، ومصيره، ومقرّه. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: المذموم هو.

هذا؛ والهمزة في قوله تعالى: {أَفَمَنِ} للإنكار، وهي في نية التّأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تقدّم على الواو، وثم تنبيها على أصالتها في التّصدير، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ}

ص: 295

بِهِ. وأخواتها تتأخر عن حروف العطف، كما قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ،} {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} . هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف في ذلك جماعة، أوّلهم الزمخشري، فزعموا: أن الهمزة في الآيات المتقدّمة في محلّها الأصلي، وأن العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف، فيقولون:

التقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً،} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ:} أمكثوا، فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم، فنضرب عنكم؟ أتؤمنون في حياته، فإن مات، أو قتل

إلخ، ويضعف ما في قولهم من التكلف، وأنه غير مطرد في جميع المواضع.

انتهى مغني بتصرف. وانظر الآية رقم [165] الآتية.

الإعراب: {أَفَمَنِ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف. (من): تحتمل الموصولة، والموصوفة-أي: شخص، أو: إنسان-مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ.

{اِتَّبَعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من)، تقديره: هو. {رِضْوانَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {كَمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و (من) تحتمل الموصولة والموصوفة أيضا. {باءَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من). والجملة الفعلية صلة (من)، أو صفتها، والعائد أو الرابط: رجوع الفاعل إليها أيضا. {بِسَخَطٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب (سخط) لأنه مصدر، أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: يستوي الأمران، أو: الشخصان

إلخ، والمعتمد الأوّل.

{وَمَأْواهُ:} الواو: واو الحال. ({مَأْواهُ}): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الألف للتعذّر، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وفي المعنى فاعله جهنّم، التي هي خبره في الظّاهر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل {باءَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير. {وَبِئْسَ:} الواو: حرف استئناف. ({بِئْسَ}):

فعل ماض جامد لإنشاء الذّم، {الْمَصِيرُ:} فاعله، والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: هي جهنم، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، ولا يجوز عطفها على ما قبلها؛ لأنها إنشائية، والإنشاء لا يكون حالا.

{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)}

الشرح: أي: هم درجات متفاوتة، ومختلفو المنازل عند الله، فلمن اتّبع رضوانه الكرامة، والثواب العظيم، ولمن باء بسخط منه المهانة، والعذاب الأليم، بل هم على درجات، أو في درجات على حسب أعمالهم، فالأعمال الصّالحة ليست بدرجة واحدة، من النّفع، والحسن،

ص: 296

والأعمال السّيّئة ليست بدرجة واحدة من الضرّ، والقبح. هذا والغالب استعمال الدّرجات في العرف لأهل الثواب، واستعمال الدّركات لأهل النّار، والعقاب. قال تعالى:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ} . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {هُمْ دَرَجاتٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {عِنْدَ} ظرف مكان متعلق بمحذوف صفة:{دَرَجاتٌ} . و {عِنْدَ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَاللهُ بَصِيرٌ..}. إلخ: انظر إعراب مثلها في الآية رقم [153].

{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)}

الشرح: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} أحسن إليهم، وتفضل عليهم، والمنّة: النعمة العظيمة، وذلك في الحقيقة لا يكون إلا من الله؛ لأنه المالك للنّعمة حقيقة، وغيره من المخلوقين لا يملكها حقيقة، وإنّما هي وكالة يقوم بها إن أحسن الوكالة. {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يعني: من جنسهم عربيّا مثلهم، ولد ببلدهم، ونشأ بينهم، يعرفون نسبه، وليس حيّ من أحياء العرب، إلا له فيهم نسب، إلا بني تغلب، فإنهم كانوا نصارى، وقد ثبتوا على النصرانية، فطهّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم من أن يكون له فيهم نسب، وقرئ شاذّا:(«من أنفسهم») بفتح الفاء. يعني:

من أشرفهم؛ لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش، وقريش أفضل من سائر العرب، والعرب أفضل من غيرهم. وقيل: أراد بالمؤمنين: جميع المؤمنين، ومعنى:{مِنْ أَنْفُسِهِمْ:} أنه واحد منهم، وبشر مثلهم، وإنما امتاز عنهم بالوحي، والرّسالة. وهو معنى قوله تعالى في آخر سورة (التوبة):{لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ..} . إلخ وقوله تعالى في سورة (الجمعة):

{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ..} . إلخ. وخص المؤمنين بالمنّة، والذكر؛ لأنهم المنتفعون به، والمهتدون بهديه، فالمنة عليهم أعظم.

{يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ:} يقرأ عليهم كتابه الذي أنزل عليه بعد أن كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي السّماوي. {وَيُزَكِّيهِمْ:} ويطهّرهم من دنس الكفر، ونجاسة المحرمات، والخبائث، وسوء الأخلاق، والطّباع. {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ} أي: القرآن، وهو آيات الله المذكورة، فعلى هذا؛ فهو بالنسبة لما قبله من اختلاف اللفظ، واتحاد المعنى. {وَالْحِكْمَةَ:} انظر الآية رقم [48]. {وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ} أي: قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ:} لفي جهالة، وحيرة عن الهدى عميا صمّا، لا يعرفون معروفا، ولا ينكرون منكرا، فهداهم الله بنبيه صلى الله عليه وسلم.

هذا؛ و «ضلّ» أكثر ما يستعمل بمعنى: كفر، وأشرك، وهو ضدّ: اهتدى، واستقام.

ومصدره: الضّلال كما في هذه الآية، ويأتي ضل بمعنى: غاب، كما في قوله تعالى:{وَضَلَّ}

ص: 297

عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ويأتي بمعنى: خفي يخفى، قال تعالى في سورة (طه) حكاية عن قول موسى لفرعون:{قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} . وضلّ الشيء: ضاع، وهلك، ومنه قوله تعالى في سورة (الرّعد):{وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ،} وضلّ: أخطأ في رأيه، ولولا هذا المعنى؛ لكفر أولاد يعقوب بقولهم له في حضرته:{تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وقولهم في غيبته: {إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ،} وضلّ: تحيّر، وهو أقرب ما يفسّر به قوله تعالى مخاطبا حبيبه صلى الله عليه وسلم في سورة (الضّحى):{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى} .

وأضلّ، يضل غيره من الرّباعي، ومصدره: الإضلال، فهو متعدّ، والثلاثي لازم، ومصدره:

الضّلال، وهو الخروج عن جادّة الحقّ، والانحراف عن الصّراط المستقيم. وينبغي أن تعلم أنّ طريق الهدى واحدة، لا اعوجاج فيها، ولا التواء، قال تعالى في سورة (الأنعام):{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وأما الضّلال؛ فطرقه كثيرة ومتشعّبة، قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام:

{فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} . وقال الشاعر الحكيم: [البسيط]

الطّرق شتّى وطرق الحقّ واحدة

والسّالكون طريق الحقّ أفراد

لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم

فهم على مهل يمشون قصّاد

والنّاس في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله. وقيل: هي لام الابتداء، (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {مَنَّ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله.

{عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، أو هي ابتدائية لا محلّ لها على الاعتبارين. {إِذْ} حرف تعليل، أو هي ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل:{مَنَّ} . {بَعَثَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية لا محلّ لها على اعتبار {إِذْ} حرف تعليل، وهي في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها على اعتبارها ظرفية. {فِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَسُولاً:} مفعول به. {مِنْ أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صفة: {رَسُولاً} والهاء في محل جر بالإضافة.

{يَتْلُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو، والفاعل يعود إلى:

{رَسُولاً} . {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل:{رَسُولاً} أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم. {آياتِهِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَيُزَكِّيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل،

ص: 298

والفاعل يعود إلى: {رَسُولاً} أيضا، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وكذا جملة:{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} معطوفة عليها أيضا.

{وَإِنْ:} الواو: واو الحال. ({إِنْ}): مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان ب {كانُوا} وقد بني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {لَفِي:} اللام: هي الفارقة بين «إنّ» العاملة، والمهملة، وهي لازمة عند الإهمال. قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]

وخفّفت إنّ فقلّ العمل

وتلزم اللاّم إذا ما تهمل

(في {ضَلالٍ}): متعلقان بمحذوف خبر: (كان) وهذا الإعراب على مذهب البصريين، وأما الكوفيون فيقولون:({إِنْ}) نافية بمعنى «ما» واللام بمعنى: «إلا» والمعنى: ما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين، ويستدلون على ذلك بقول الشاعر، وهو الشاهد رقم [420]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» [البسيط]

أمسى أبان ذليلا بعد عزّته

وما أبان لمن أعلاج سودان

والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو والضمير.

{أَوَلَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}

الشرح: {أَوَلَمّا أَصابَتْكُمْ:} أو حين: انظر تقدّم الهمزة على الواو في الآية [162]:

وقدمت عليها، كما تقدّمت على الفاء في قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وغيرها كثير، وكما دخلت على (ثم) في قوله تعالى:{أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} . هذا قول سيبويه، وقال الأخفش: زائدة، ومذهب الكسائي: أنها «أو» تحركت الواو منها تسهيلا، وتقرأ («أو») ساكنة الواو، فتجيء بمعنى «بل». وقال ابن عطية: وهذا تكلّف، والصحيح قول سيبويه.

{أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} يعني: ما أصابهم يوم أحد. {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها:} يوم بدر بأن قتلتم منهم سبعين، وأسرتم سبعين، والأسير في حكم المقتول؛ لأنّ الآسر يستطيع قتل أسيره؛ إن أراد. أو المعنى: فهزمتموهم يوم بدر، ويوم أحد أيضا في الابتداء، وقتلتم فيه منهم قريبا من عشرين، فنلتم منهم في يومين، ونالوا منكم في يوم واحد.

{قُلْتُمْ أَنّى هذا} أي: من أين أصابنا هذا الانهزام، والقتل؛ ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي؟! {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي: إنما وقعتم فيما

ص: 299

وقعتم فيه بشؤم ذنوبكم، وهو مخالفتكم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرين: أولهما: أنه صلى الله عليه وسلم اختار الإقامة في المدينة على الخروج إلى العدوّ في أحد، واختاروا هم الخروج. والأمر الثاني:

مخالفة الرّماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين أقامهم على الجبل، وخذ ما يلي:

روى عبيدة السلماني-رحمه الله تعالى-عن عليّ-رضي الله عنه-قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّ الله كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى يوم بدر، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدّتهم. فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم للنّاس، فقالوا: يا رسول الله! عشائرنا، وإخواننا. بل نأخذ منهم فداء، فنقوى به على قتال عدوّنا، ويستشهد منّا عدّتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر. لم يسنده البغوي، وأسنده ابن جرير الطّبري. انتهى خازن، وقرطبي. وفي النّفس من هذه الرواية شيء.

الإعراب: {أَوَلَمّا أَصابَتْكُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير، وتوبيخ. الواو: حرف عطف، أو استئناف. ({لَمّا}): انظر الآية رقم [36]. {أَصابَتْكُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به. {مُصِيبَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية ابتدائية، لا محلّ لها على القول بحرفية ({لَمّا})، وهي في محل جر بإضافة:({لَمّا}) إليها على القول بظرفيتها. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَصَبْتُمْ:} فعل وفاعل. {مِثْلَيْها:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، و (ها) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{مُصِيبَةٌ} أو في محل نصب حال من الكاف الواقعة مفعولا به، والرابط: الضمير فقط. {قُلْتُمْ:} فعل، وفاعل. {أَنّى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع خبر مقدّم، وهذا إذا كان الاستفهام عن الحال، وأما إذا كان بمعنى:«من أين» فيكون مبنيّا على السكون في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدّم. {هذا:}

الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْتُمْ..} . إلخ جواب ل: (ما) لا محل لها و ({لَمّا}) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. أبو السعود.

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ} مضاف، و {أَنْفُسِكُمْ:}

مضاف إليه، والكاف في محل جرّ بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و ({كُلِّ}) مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، أو هي مفيدة للتعليل، لا محلّ لها على الاعتبارين، وهي من مقول القول على اعتبارها للتعليل.

ص: 300

{وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)}

الشرح: {وَما أَصابَكُمْ:} الخطاب للمؤمنين، والذي أصابهم: هو القتل، والجراح، والهزيمة. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ:} جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك ب «أحد» يوم أحد. {فَبِإِذْنِ اللهِ} أي: فبعلمه، وقضائه، وقدره، وحكمه، وحكمته. وفيه تسلية للمؤمنين بما حصل لهم يوم أحد من القتل، والهزيمة، ولا تقع التسلية إلا إذا علموا: أن ذلك كان واقعا بقضاء الله وقدره، فحينئذ يرضون بما قضى الله لهم، وعليهم. وانظر شرح (أصاب) في الآية رقم [156]: من سورة (البقرة).

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَصابَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({ما}) وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله.

{اِلْتَقَى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر. {الْجَمْعانِ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنّه مثنّى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{يَوْمَ} إليها. {فَبِإِذْنِ:} الفاء: صلة لتحسين اللفظ، وساغ ذلك لشبه الموصول بالشرط في العموم، (بإذن): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ، و (إذن): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. هذا؛ واعتبار ({ما}) شرطية غير مستبعد، وعليه فالفعل أصاب فعل شرطها، وهي مبتدأ، والجملة الاسمية:«فهو بإذن الله» في محل جزم جوابها، وخبرها مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا، والجملة على الاعتبارين اسمية، وهي معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.

{وَلِيَعْلَمَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى {اللهِ} .

و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور معطوفان على معنى:(بإذن الله). عطف سبب على سبب. وقيل: متعلقان بمحذوف، التقدير:

وفعل ما أصابكم ليعلم

إلخ. والأول أولى. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنّون عوض من التنوين في الاسم المفرد.

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ اِدْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167)}

الشرح: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا} المعنى: ليظهر إيمان المؤمنين بثباتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بقلّة صبرهم على ما نزل بهم. فالمراد من العلم: المعلوم، والمراد: ليتبيّن

ص: 301

المؤمن من المنافق، وليتميّز أحدهما من الآخر، كقوله جلّ ذكره:{وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ} رقم [141]. هذا؛ والنفاق: إظهار الإيمان، وإخفاء الكفر، وسمّي المنافق منافقا، أخذا من: نافقاء اليربوع، وهو جحره الذي يقيم فيه، فإنّه يجعل له بابين، ويدخل من أحدهما، ويخرج من الآخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكافرين بقوله: أنا كافر. وكان المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من الرجال، ومائة من النساء، هذا وقال تعالى في سورة (التوبة):{الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ..} . إلخ.

هذا؛ وقد يتصف مؤمن بصفات المنافقين، فيكذب في القول، ويخلف في الوعد، ويخون في الأمانات، ويفجر في الخصومة، فهذا يقال له: نفاق العمل، وأمّا الأول؛ فيقال له: نفاق العقيدة، وهو أخبث من الكفر، وعقابه أشدّ منه، قال تعالى في سورة (النساء) رقم [145]:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} . وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من نفاق العمل، والاتصاف به، فإنّه يجرّ إلى نفاق العقيدة. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» . رواه البخاريّ، ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه؛ كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ، كانت فيه خصلة من النّفاق؛ حتّى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . رواه البخاريّ، ومسلم.

{وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا:} المقول له عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق، وأصحابه، وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا خرج إلى أحد بألف رجل؛ حتى إذا كان بالشّوط بين أحد، والمدينة؛ انخذل عبد الله المنافق بثلث النّاس، وقال: ما ندري علام نقتل أنفسنا؟! فرجع بمن معه من المنافقين، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر-رضي الله عنه، وهو يقول:

يا قوم! أذكّركم الله أن تخذلوا نبيّكم عند حضور عدوّه! تعالوا قاتلوا في سبيل الله-أي: لأجل دين الله وطاعته-أو ادفعوا عن أموالكم، وأهليكم! وقيل: معناه: تعالوا كثّروا سواد المسلمين؛ إن لم تقاتلوا، ليكون ذلك دفعا، وقمعا للعدو، فإنّ السّواد إذا كثر؛ حصل دفع العدو. قال أنس رضي الله عنه: رأيت يوم القادسية عبد الله ابن أمّ مكتوم الأعمى، وعليه درع يجرّ أطرافها.

وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ فقال: بلى، ولكنّي أكثّر سواد المسلمين بنفسي. ومعنى قوله-رضي الله عنه: إن لم تقاتلوا في سبيل الله، فقاتلوا دفعا عن أنفسكم، وحريمكم. ألا ترى أنّ قزمان بن الحارث العبسي المنافق، قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله ليؤيّد هذا الدّين بالرّجل الفاجر» .

ص: 302

{هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ} أي: المنافقون في يوم أحد. {أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ} أي: بينوا حالهم، وهتكوا أستارهم، وكشفوا عن كفرهم، ونفاقهم لمن كان يظنّ: أنهم مؤمنون، فصاروا أقرب إلى الكفر في ظاهر الحال، وإن كانوا كافرين على التّحقيق.

{يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي: يظهرون الإيمان بألسنتهم، ويضمرون الكفر في قلوبهم، وهذه صفة المنافقين، لا صفة المؤمنين. {وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ} أي: يخفون، ويضمرون من الكفر، والنفاق. وانظر شرح:{يَكْتُمُونَ} في الآية رقم [71]

هذا؛ و {يَوْمَئِذٍ} ظرف زمان مضاف لظرف آخر، والتنوين فيه ينوب عن جملة محذوفة، دلت عليها الغاية، فإنّ الأصل: يوم إذ جاءت قريش ورأوها. و (إذ) مضافة لهذه الجملة، فحذفت الجملة الفعلية، وعوّض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء الساكنين، كما كسرت في:

«صه، ومه» عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في:«حينئذ، وساعتئذ» ونحو ذلك.

{وَلِيَعْلَمَ:} إعرابه مثل إعراب ما قبله، والجار والمجرور الناتجان منه معطوفان على مثلهما، والفاعل مستتر، تقديره: هو يعود إلى: {اللهِ} أيضا. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {نافَقُوا:} فعل وفاعل، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. ({قِيلَ}): فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. وقيل: هما في محل رفع نائب فاعله. وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره: هو، يعود إلى مصدر الفعل. {تَعالَوْا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. وقيل: في محل رفع نائب فاعل: ({قِيلَ})، وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ومفعولا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» . وهذا لا غبار عليه. قال ابن هشام-رحمه الله في المغني-: فليس هذا من باب الإسناد إلى الجملة؛ لما بيّنا؛ أي: من أنّ الجملة إذا قصد لفظها، يحكم لها بحكم المفردات، فيجوز حينئذ وقوعها مبتدأ، وفاعلا، أو نائبا عنه، ومثّل لذلك في شذور بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل ما قلت أنا والنّبيّون من قبلي: لا إله إلاّ الله» انظر الشاهد رقم [793] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.

{قاتِلُوا:} فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مثل سابقتها في المحل، وإنما لم يكن بحرف العطف؛ لأنّه أراد أن يكون كلّ من الجملتين مقصودة بنفسها. وقيل: الثانية في محل نصب حال، ولا وجه له؛ لأنّها إنشائية. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ:}

مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {أَوِ:} حرف عطف. {اِدْفَعُوا:} فعل أمر، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وجملة:({وَقِيلَ..}.) إلخ تحتمل العطف على جملة: {نافَقُوا} فتكون داخلة في حيز الموصول، وتحتمل الاستئناف.

ص: 303

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضمّ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {نَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن. {قِتالاً:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{لاتَّبَعْناكُمْ:} اللام: واقعة في جواب: {لَوْ} . (اتبعناكم): فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لِلْكُفْرِ:} متعلقان ب {أَقْرَبُ} بعدهما، وكذلك {لِلْإِيمانِ} متعلقان به، وإن كان بمعنى واحد، وجاز أن يعمل:

{أَقْرَبُ} فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل «أطيب» في قولهم:«هذا بسرا أطيب منه رطبا» في الظرفين المقدّرين؛ لأن أفعل يدل على معنيين: على أصل الفعل، وزيادة، فيعمل في كلّ واحد منهما بمعنى غير الآخر، فتقديره: يزيد قربهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان. انتهى أبو البقاء. {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلق ب: {أَقْرَبُ} أيضا، و (إذا): ظرف لما مضى من الزّمان مبني على السكون في محل جرّ بالإضافة، وحرّك بالكسر لالتقاء الساكنين، وانظر ما ذكرته في الشرح. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب {أَقْرَبُ} أيضا، والجملة الاسمية:{هُمْ لِلْكُفْرِ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من واو الجماعة ب {قالُوا} فلست مفندا، والرابط: الضمير فقط.

{يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِأَفْواهِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، وساغ ذلك؛ لأنها بمعنى: كلام كثير. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى {ما،} وهو العائد، أو الرابط. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} وجملة: {لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} صلة: {ما} أو صفتها، وجملة:{يَقُولُونَ..} . إلخ تحتمل الاستئناف، وأن تكون في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ (من)، والرابط: الضمير فقط، وهي حال متداخلة من وجه واحد. ({اللهِ}): مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره. {بِما} جار ومجرور متعلقان ب ({أَعْلَمُ}) لأنه بمعنى: عالم، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أعلم بالذي، أو بشيء يكتمونه في قلوبهم، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: أعلم بكتمانهم النفاق. والجملة الاسمية: {وَاللهُ أَعْلَمُ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

والاستئناف ممكن بالإعراض عمّا قبل الجملة الاسمية. تأمّل، وتدبر، وربّك أعلم.

ص: 304

{الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)}

الشرح: نزلت الآية الكريمة في عبد الله بن أبيّ المنافق، وأصحابه. وفي المراد ب (إخوانهم) قولان: أحدهما: أنّ المراد ب (إخوانهم): الذين استشهدوا بأحد، فيكون (إخوانهم) في النسب لا في الدين. والقول الثاني: أن المراد ب (إخوانهم): المنافقون. فعلى القول الأول يكون معنى الآية: الذين قالوا في إخوانهم، أو عن إخوانهم الذين قتلوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا. وعلى القول الثاني يكون معنى الآية: الذين قالوا: وهم ابن أبيّ، وأصحابه لإخوانهم في النفاق.

{وَقَعَدُوا} أي: قالوا هذا القول، وقعدوا بأنفسهم عن القتال. {قُلْ:} خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.

{فَادْرَؤُا:} فادفعوا، والدرء: الدفع. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ادفعوا الحدود بالشّبهات» . {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:} إن كنتم صادقين بقولكم: {لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا؛} فادفعوا الموت عن أنفسكم، يعني: أن الحذر لا ينفع من القدر. وفي الآية دليل على أنّ المقتول يموت بأجله، خلافا لمن يزعم من المعتزلة، وغيرهم: أن القتل يقطع على المقتول أجله، روي: أنّه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا. قال أبو الليث السّمرقندي: سمعت بعض المفسّرين بسمرقند يقول: لمّا نزلت الآية؛ مات سبعون نفسا من المنافقين. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلا من الواو في:{يَكْتُمُونَ،} وأن يكون في محل رفع مبتدأ خبره: {قُلْ فَادْرَؤُا} وهذا ضعيف جدّا، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم بفعل محذوف، ويجوز أن يكون في محل جرّ بدلا من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة في قوله:{بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ومثله قول الفرزدق: [الطويل]

على حالة لو أنّ في القوم حاتما

على جوده لضنّ بالماء حاتم

{قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {لِإِخْوانِهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَقَعَدُوا:} الواو: واو الحال. ({قَعَدُوا}): ماض وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها. وقيل: معطوفة على جملة الصلة.

{لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَطاعُونا:} فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها

إلخ. {ما:} نافية. {قُتِلُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والجملة الفعلية جواب:{لَوْ} لا محلّ لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل نصب مقول القول.

{عَنْ أَنْفُسِكُمُ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {الْمَوْتَ} مفعول به.

ص: 305

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب

إلخ، والجملة الفعلية لا محلّ لها

إلخ، وجواب الشرط محذوف. انظر تقديره في الشّرح. و {إِنْ} ومدخولها كلام معترض في الآخر، لا محل له، المراد منه تحدّيهم، وإظهار كذبهم.

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}

الشرح: لا تزال الآيات الكريمة تتابع أحداث غزوة أحد، وتكشف عن أسرار المنافقين، ومواقفهم المخزية لهم في الدّنيا، والآخرة، وبينت ما أعدّ الله من الكرامة للشهداء شهداء أحد وغيرهم إلى يوم القيامة، فهي عامّة في جميع الشهداء، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمّا أصيب إخوانكم بأحد؛ جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم؛ قالوا: من يبلّغ إخواننا عنّا: أنّا أحياء في الجنّة، نرزق؛ لئلاّ يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب؟! فقال الله سبحانه: أنا أبلّغهم عنكم، قال: فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} إلى آخر الآيات.

وعن جابر-رضي الله عنه-قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا جابر! ما لي أراك منكّسا مهتما؟!» . قلت: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالا، وعليه دين، فقال:«ألا أبشّرك بما لقي الله-عز وجل-به أباك؟» قلت: بلى يا رسول الله! قال: «إنّ الله أحيا أباك، وكلّمه كفاحا (مواجهة) وما كلّم أحدا قطّ إلاّ من وراء حجاب، فقال له: يا عبدي! تمنّ؛ أعطك، قال: يا ربّ، فردّني إلى الدّنيا، فأقتل فيك ثانية، فقال الربّ-تبارك وتعالى: إنّه سبق منّي: أنّهم إليها لا يرجعون، قال: يا ربّ فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا..}. إلخ» . رواه ابن ماجة، والترمذي، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [154]: من سورة (البقرة). وخذ هنا ما يلي:

فعن أبي موسى-رضي الله عنه: أنّ أعرابيّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل؛ ليذكر، والرجل يقاتل؛ ليرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله» . أخرجه الشيخان، وغيرهما.

وينبغي أن تعلم: أنّ الشهيد ثلاثة أنواع: شهيد في الدنيا، والآخرة، وشهيد في الدنيا، وشهيد في الآخرة فقط، فالأول: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والثاني: من قاتل للمغنم، أو ليذكر، أو لغرض من أغراض نفسه الدنيوية، والثالث: خذه ممّا يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تعدّون الشّهيد فيكم؟» قالوا:

يا رسول الله من قتل في سبيل الله؛ فهو شهيد. قال: «إنّ شهداء أمّتي إذا لقليل» قالوا: فمن هم

ص: 306

يا رسول الله؟! قال: «من قتل في سبيل الله؛ فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله؛ فهو شهيد، ومن مات في الطّاعون؛ فهو شهيد، ومن مات في البطن؛ فهو شهيد» . أخرجه مسلم. وفي رواية لمالك، والبخاريّ، والترمذي:«الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله» . وفي رواية لأبي داود، والنسائي:«وما تعدّون الشّهادة؟» قالوا:

القتل في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الشّهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمطعون شهيد، والّذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيد» .

وعن سعيد بن زيد-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قتل دون دمه؛ فهو شهيد، ومن قتل دون دينه؛ فهو شهيد، ومن قتل دون أهله؛ فهو شهيد» . رواه أبو داود، وغيره. والأحاديث في ذلك كثيرة. ولا تنس الطّباق بين:{أَحْياءٌ} و {أَمْواتاً} فهو من المحسنات البديعية.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم ب ({لا}) الناهية، والنون حرف لا محلّ له، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، ويقرأ الفعل بياء المضارعة، وعليه ف {الَّذِينَ} فاعله، ويكون المفعول الثاني محذوفا. {قُتِلُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.

{أَمْواتاً:} مفعول به ثان، وجملة:{قُتِلُوا..} . إلخ صلة الموصول لا محل لها، وجملة:({لا تَحْسَبَنَّ..}.) إلخ مستأنفة لا محل لها. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب مبتدأ بعده. {أَحْياءٌ:}

خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:«بل هم أحياء» : الجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {عِنْدَ:} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن يكون خبرا ثانيا للمبتدإ. الثاني: أن يكون ظرفا ل {أَحْياءٌ} . الثالث: أن يكون ظرفا ل {يُرْزَقُونَ} بعده. الرابع: أن يكون نعتا ل {أَحْياءٌ} .

الخامس: أن يكون حالا من الضمير المستكن في: {أَحْياءٌ} . والمراد في كل ذلك متعلّق الظرف، لا الظرف نفسه، و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يُرْزَقُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والثاني محذوف. والجملة الفعلية فيها أربعة أوجه: أحدها: أنها خبر ثالث للمبتدإ، أو ثان؛ إذا لم نجعل الظرف خبرا.

الثاني: أنها صفة ل {أَحْياءٌ} . والثالث: أنها حال من الضمير في {أَحْياءٌ} . الرابع: أنها حال من الضمير المستكن في الظرف. والمراد في كل ذلك: أنّها في محل

إلخ.

ص: 307

{فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}

الشرح: {فَرِحِينَ..} . إلخ أي: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم فرحون بما هم فيه من النّعمة، ومستبشرون بإخوانهم الّذين يقتلون بعدهم في سبيل الله: أنّهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون ممّا أمامهم، ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم. وقال محمد بن إسحاق-رحمه الله تعالى-: أي: ويسرّون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم.

وقال السّدّي-رحمه الله تعالى-: يؤتى الشهيد بكتاب، فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا، وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا، وكذا، فيسرّ بذلك، كما يسرّ أهل الدّنيا بغائبهم إذا قدم عليهم.

هذا؛ والاستبشار: هو الفرح، والسرور الذي يحصل للإنسان عند البشارة. وأصله: من البشرة؛ لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه. وانظر الفرح في الآية رقم [188] الآتية.

الإعراب: {فَرِحِينَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه حال من واو الجماعة في: {يُرْزَقُونَ} .

والثاني: أنه حال من الضمير في: {أَحْياءٌ} . والثالث: أنه حال من الضمير المستكن في الظرف. والرابع: أنه منصوب على المدح بفعل محذوف. وأقواها أولها. فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد.

هذا وقرأ ابن أبي عبلة شاذّا: («فرحون») على أنّه نعت ل {أَحْياءٌ} أو خبر متعدد للمبتدإ المقدّر قبله. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {فَرِحِينَ} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {آتاهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي أو بشيء آتاهم الله إيّاه. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير الواقع مفعولا ثانيا، و {مِنْ} بيان لما أبهم في (ما)، {وَيَسْتَبْشِرُونَ:} الواو: حرف عطف. ({يَسْتَبْشِرُونَ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على محل:{فَرِحِينَ} فهي في محل نصب حال مثله، أو هي في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وهم يستبشرون، وعليه فالجملة اسمية، وهي في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{فَرِحِينَ} فهي حال متداخلة.

{بِالَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَلْحَقُوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِهِمْ:} جار، ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ خَلْفِهِمْ:} متعلقان

ص: 308

بمحذوف حال من واو الجماعة، التقدير: لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلّفين عنهم، أي:

متأخّرين في الحياة، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة.

{أَلاّ:} (أن): حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. (لا): نافية مهملة. {خَوْفٌ:} مبتدأ. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، أو هما متعلقان ب {خَوْفٌ} أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف، التقدير: لا خوف عليهم موجود، والجملة الاسمية هذه في محل رفع خبر (أن) المخففة من الثّقيلة، و (أن) واسمها المحذوف وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بدل من (الذين). أو في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن لا

إلخ، والجار والمجرور على هذا بدل من قوله:(الذين)، التقدير: بعدم الخوف عليهم. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي. {هُمْ:} مبتدأ، وجملة:{يَحْزَنُونَ} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها.

{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}

الشرح: {يَسْتَبْشِرُونَ..} . إلخ: واو الجماعة عائدة على: {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} وكرر الفعل للتأكيد. {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ} بأجر، وثواب، وهو الجنّة، وما أعدّه الله فيها للمجاهدين، وغيرهم من المؤمنين. {وَفَضْلٍ:} زيادة على الأجر والثّواب، وهو النظر لوجهه الكريم، كما قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} وقوله تعالى في سورة (ق): {وَلَدَيْنا مَزِيدٌ} . {وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ:} لا يبطل ثوابهم، ولا يمحق بركته، وهو يشعر بأنّ من لا إيمان له يحبط أجره من جميع الأعمال الصالحة التي يعملها.

تنبيه: بيّن الله عز وجل في الآية السابقة: أن الشهداء يستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وبيّن في هذه الآية: أنهم يستبشرون أيضا لأنفسهم بما رزقوا من النعيم والفضل، فالاستبشار الأوّل كان لغيرهم، والثّاني كان لأنفسهم خاصّة. وخذ ما يلي:

عن المقداد بن معد يكرب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للشّهيد عند الله ستّ خصال: يغفر له في أوّل دفعة، ويرى مقعده من الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه» . أخرجه التّرمذيّ، وابن ماجة.

وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أكرم الله الشهداء بخمس كرامات، لم يكرم بها أحدا من الأنبياء، ولا أنا: أحدها: أنّ جميع الأنبياء قبض أرواحهم ملك الموت، وهو الذي سيقبض روحي، وأمّا

ص: 309

الشهداء فالله هو الّذي يقبض أرواحهم بقدرته، كيف يشاء، ولا يسلّط على أرواحهم ملك الموت. والثّاني: أنّ جميع الأنبياء قد غسّلوا بعد الموت، وأنا أغسّل بعد الموت، والشّهداء لا يغسّلون، ولا حاجة لهم إلى ماء الدّنيا. والثّالث: أنّ جميع الأنبياء قد كفّنوا وأنا أكفّن، والشّهداء لا يكفّنون، بل يدفنون في ثيابهم. والرابع: أنّ الأنبياء لمّا ماتوا سمّوا: أمواتا، وإذا متّ قالوا: مات، والشّهداء لا يسمّون أمواتا. والخامس: أنّ الأنبياء تعطى لهم الشّفاعة يوم القيامة، وشفاعتي أيضا يوم القيامة، وأمّا الشّهداء فإنّهم يشفعون كلّ يوم فيمن يشفعون». انتهى قرطبي.

الإعراب: {يَسْتَبْشِرُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية فيها أوجه: أحدها: أنّها مستأنفة، والثاني: أنّها توكيد للأولى، وإليه ذهب الزمخشري، والبيضاوي. والثالث: أنّ الفعل بدل من الأول. {بِنِعْمَةٍ:} متعلّقان بما قبلهما. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب (نعمة) أو بمحذوف صفة له.

{وَفَضْلٍ:} معطوف على سابقه، ({أَنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {لا:}

نافية. {يُضِيعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله. {أَجْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور، والجملة الفعلية في محل رفع خبر ({أَنَّ}). و ({أَنَّ}) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جرّ معطوف على نعمة، هذا ويقرأ بكسر همزة ({أَنَّ}) على أن الجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو: وإعادة الاسم الكريم بلفظه. وقيل: مستأنفة لا محلّ لها.

{الَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)}

الشرح: {الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ:} لبّوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم للخروج بعد غزوة احد. هذا؛ و {اِسْتَجابُوا} بمعنى: أجابوا، فليست السين، والتاء للطلب، مثل قوله تعالى في سورة (البقرة):{الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً} فإنه بمعنى: أوقد، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي من قصيدة يرثي فيها أخاه شبيبا، ومن أبياتها الشاهد رقم [727] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]

وداع دعا من ذا يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي: يجبه عند ذاك مجيب. {مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ} انظر الآية رقم [140]. {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} أي: العمل، وعملوا بما يرضي الله. هذا وروي: أن أبا سفيان، وأصحابه لمّا قفلوا راجعين بعد غزوة أحد، ونالوا من المسلمين ما نالوا، فبلغوا الرّوحاء؛ ندموا، وهمّوا بالرجوع إلى المدينة؛ ليستأصلوا المسلمين قبل أن يستعيدوا قواهم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فندب

ص: 310

أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان، وقال: لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس.

فخرج معه جماعة من أصحابه؛ حتّى بلغوا حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، وكان بأصحابه القرح الذي أصابهم يوم أحد، فتحاملوا على أنفسهم؛ حتّى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرّعب في قلوب المشركين، فذهبوا إلى مكّة المكرمة، ونزلت تلك الآية، وما بعدها.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة ل: {الْمُؤْمِنِينَ،} أو بدل منه، أو هو في محل نصب على المدح بفعل محذوف، أو هو في محل رفع مبتدأ، خبره الجملة الاسمية الآتية. {اِسْتَجابُوا} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {لِلّهِ:}

متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَالرَّسُولِ:} معطوف على ما قبله. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بما قبلهما أيضا. {ما:} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها في محل جر بإضافة {بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد إصابة القرح إياهم. هذا؛ وقال مكي: {مِنْ بَعْدِ..} .

إلخ: متعلقان بمحذوف خبر: {الَّذِينَ} وهذا على اعتباره مبتدأ. {أَصابَهُمُ الْقَرْحُ:} ماض، ومفعوله، وفاعله. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَحْسَنُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والمفعول محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح. {وَاتَّقَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، والمفعول محذوف، التقدير: اتقوا الله. ({أَجْرٌ}): مبتدأ مؤخر.

{عَظِيمٌ:} صفته، والجملة الاسمية:{لِلَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها على الوجهين الأوّلين في (الدّين) الأول. وعلى قول مكي المتقدّم، أو هي في محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ.

{الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}

الشرح: {الَّذِينَ:} المراد بهم: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. {قالَ لَهُمُ النّاسُ:} المراد به: نعيم بن مسعود الأشجعي قبل أن يسلم، وأطلق عليه لفظ الناس؛ لأنه من جنسهم، كما يقال: فلان يركب الخيل، وماله إلا فرس واحد، أو لأنه انضم إليه ناس من المدينة، أي: من المنافقين، وأذاعوا كلامه. وانظر الآية رقم [54] من سورة (النساء). {إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ:} المراد به:

أبو سفيان، وقومه، ومن انضمّ إليهم من حلفائهم. {فَاخْشَوْهُمْ:} خافوهم. والماضي: خشي، والمصدر: خشية، والرجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذاك، أي: أشد خوفا، وقد يأتي «خشي» بمعنى:«علم» القلبية، قال الشاعر المسلم:[الكامل]

ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى

سكن الجنان مع النّبيّ محمّد

ص: 311

قالوا: معناه: علمت، وقوله تعالى في سورة (الكهف) حكاية عن قول الخضر-عليه السلام:{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا. هذا؛ والخشية:

أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقّي. والخوف: فزع في القلب تخفّ له الأعضاء، ولخفة الأعضاء سمّي خوفا. {فَزادَهُمْ إِيماناً:} تصديقا بالله، وثقة بوعده. هذا؛ وزاد، يزيد ضد:

نقص، ينقص، يكون لازما، كقولك: زاد المال درهما، ويكون متعديا لمفعولين، كما في الآية التي بين أيدينا، وقولك: زاد الله خالدا خيرا، بمعنى: جزاه الله خيرا، وأما قولك: زاد المال درهما، والبرّ مدّا؛ فدرهما، ومدّا تمييز، ومثله قل في: نقص، فمن المتعدي قوله تعالى:{ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} ومن اللازم قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} .

تنبيه: أفادت الآية الكريمة: أن الإيمان يزيد، وينقص، ومثلها قوله تعالى في سورة (الأنفال):{وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} وكذلك الكفر، والنفاق يزيد، وينقص، قال تعالى في سورة (البقرة):{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً،} قال تعالى في سورة (التوبة): {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ..} . إلخ. انظر شرح الآيتين في محلهما.

ويعضد ذلك قول ابن عمر-رضي الله عنهما: قلنا: يا رسول الله! الإيمان يزيد، وينقص؟ قال:

«نعم، يزيد؛ حتّى يدخل صاحبه الجنّة، وينقص؛ حتّى يدخل صاحبه النّار» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمّة؛ لرجح به» . وهذا هو المعتمد إن شاء، وهو مذهب الأشاعرة.

تنبيه-روي: أنا أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل؛ إن شئت. فقال عليه الصلاة، والسّلام: إن شاء الله، فلمّا كان العام القابل خرج في أهل مكة؛ حتّى نزل بمرّ الظهران، فأنزل الله الرّعب في قلبه، كما وعد الله بقوله:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ..} . إلخ، وبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي، وقد قدم مكة معتمرا، فسأله أن يذهب إلى المدينة، ويثبّط همم المسلمين، ويخوفهم، وقد التزم له عشرا من الإبل، فخرج نعيم إلى المدينة، فوجد المسلمين يتجهزون للخروج، فقال لهم: أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم إلا الشديد. يريد ما حصل في غزوة أحد من انكسار المسلمين، أفترون أن تخرجوا؛ وقد جمعوا لكم؟! ففتروا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والّذي نفسي بيده لأخرجنّ، ولو لم يخرج معي أحد!» فخرج المسلمون معه؛ وهم يقولون: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ولم يلتفتوا إلى ما قاله نعيم، حتى بلغوا بدرا الصّغرى، وكانت موضع سوق للعرب، يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام، فأقام المسلمون تلك المدة في بدر، وصادفوا الموسم، وباعوا ما كان معهم من التجارات، فربحوا الدرهم درهمين، ولم يأتهم أحد من أهل مكّة. وهذا ما تفيده الآية التالية.

وقال القرطبي-رحمه الله-في قوله تعالى: {وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: كافينا الله. وروى البخاري عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال في قوله تعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ}

ص: 312

النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ

إلخ قالها إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام-حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين {قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وورود «حسب» بمعنى: كاف كثير في القرآن مع إضافته لجميع الضمائر. قال الشاعر -وهو الشاهد رقم [967] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا

فحسبك والضّحّاك

(1)

سيف مهنّد

الإعراب: {الَّذِينَ:} بدل من سابقه على جميع الوجوه فيه. {قالَ:} فعل ماض. {لَهُمُ:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {النّاسُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {النّاسُ:} اسم {إِنَّ} . {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {جَمَعُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول.

{فَاخْشَوْهُمْ:} الفاء: هي الفصيحة. (اخشوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا وصحيحا؛ فاخشوهم. والكلام كلّه في محل نصب مقول القول. {فَزادَهُمْ:} الفاء:

حرف عطف. (زادهم): فعل ماض، والفاعل محذوف يدل عليه المقام، أي: فزادهم قول الناس، مثل قوله تعالى في سورة (الواقعة):{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وقوله تعالى في سورة (القيامة): {كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ} . انظرهما في محلّهما، والهاء مفعول به أول. {إِيماناً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها. ({قالُوا}): ماض وفاعله. {حَسْبُنَا:} مبتدأ، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله ضمير مدلول عليه بلفظ الجلالة. {اللهُ:} خبر لمبتدإ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَنِعْمَ:} الواو: حرف عطف. ({نِعْمَ}): فعل ماض جامد لإنشاء المدح. {الْوَكِيلُ:} فاعله، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: ونعم الوكيل الممدوح الله. والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا.

{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاِتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}

الشرح: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ..} . إلخ؛ أي: رجع المسلمون من بدر الصغرى بربح عظيم، وسلامة، وسرور كما رأيت في الآية السابقة. {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ:} لم يصبهم أذى من جرح، أو

1) روي بالفتح، والضم، والكسر، ولكلّ تأويله. انظره في المصدر المشار إليه.

ص: 313

قتل، أو كيد عدوّ. {وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ:} عملوا بما يسبب رضوان الله. {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ:} الله صاحب كرم، وجود، وإحسان على عباده المؤمنين الممتثلين أوامره المجتنبين نواهيه، وقد تفضّل عليهم بالتثبيت، وزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والتصلّب في الدّين، وإظهار الجرأة على العدو، وبالحفظ من كل ما يسوءهم، وإصابة النفع مع ضمان الأجر، والرّضا، والرّضوان، والعفو، والغفران. والحمد لله ربّ العالمين.

الإعراب: {فَانْقَلَبُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فانقلبوا، والكلام مستأنف لا محل له. {بِنِعْمَةٍ:}

متعلقان بما قبلهما. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: (نعمة)، أو هما متعلقان به.

{وَفَضْلٍ:} معطوف على (نعمة)، وحذف متعلقة اكتفاء بما قبله. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَمْسَسْهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} والهاء مفعول به. {سُوءٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال. من واو الجماعة، التقدير: غير ممسوسين بسوء. {وَاتَّبَعُوا:}

ماض وفاعله، والألف للتفريق. {رِضْوانَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله ضمير فيه، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{فَانْقَلَبُوا} لا محل لها مثلها، أو هي معطوفة على ما قبلها، فتكون في محل نصب حال مثلها. {وَاللهُ:}

الواو: واو الحال، أو واو الاعتراض. ({اللهِ}): مبتدأ. {ذُو:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذُو:} مضاف، و {فَضْلٍ:} مضاف إليه.

{عَظِيمٍ:} صفة: {فَضْلٍ} والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط الواو وإعادة الاسم الكريم بلفظه. وقيل: معترضة في آخر الكلام، الغرض منها بيان فضل الله، وجوده على عباده المؤمنين.

{إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}

الشرح: {إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ} المراد به: أبو سفيان، أو نعيم بن مسعود؛ الذي تقدّم ذكره.

قال أبو حيان: وإنما نسب إلى الشّيطان؛ لأنه ناشئ عن وسوسته، وإغوائه، وإلقائه. فيكون في الكلام استعارة. وانظر شرح {الشَّيْطانُ} في الآية رقم [268]: من سورة (البقرة). {يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ:} أتباعه، وأنصاره القاعدين عن الخروج مع الرّسول صلى الله عليه وسلم، وهم المنافقون. أو المعنى:

يخوفكم بأوليائه، فحذف حرف الجر، والضمير، ووصل الفعل إلى الاسم، فنصبه.

{فَلا تَخافُوهُمْ} أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تقعدوا عن قتالهم. والمراد: الكافرون المذكورون فيما سبق. {وَخافُونِ} أي: خافوني في ترك أمري، وجاهدوا في سبيلي مع رسولي، فإنّي وليّكم، وناصركم على أعدائي، وأعدائكم. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} مصدّقين بوعدي أنى متكفّل لكم بالنّصر، والظفر؛ لأنّ الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره.

ص: 314

هذا؛ والخوف: الذّعر، والرعب. وأما التّخوّف؛ فهو التنقّص، كما في قوله تعالى في الآية رقم [47] من سورة (النحل):{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} . يروى: أنّ عمر الفاروق-رضي الله عنه. قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا التخوّف: التنقّص، قال: فهل تعرف العرب هذا في أشعارهم؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:[البسيط]

تخوّف الرّحل منها تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن

فقال عمر-رضي الله عنه: أيها الناس عليكم بديوانكم، لا تضلّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم. وأصل الخوف في الباطن يحصل من توقع مكروه، يقع في المستقبل، وقد أمرنا الله في هذه الآية بأن نخافه، ونخشاه، كما أمر سلفنا الصالح بذلك، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (البقرة):{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} وقال في سورة (المائدة): {فَلا تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ} وقال مخاطبا نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم في سورة (الأحزاب): {وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} وخذ ما يلي من قول نبينا، وحبيبنا صلى الله عليه وسلم في الخوف:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربّه جلّ، وعلا: أنّه قال:

«وعزّتي لا أجمع على عبدي خوفين، وأمنين، إذا خافني في الدّنيا أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدّنيا؛ أخفته يوم القيامة» . رواه ابن حيّان في صحيحه. وعن أبي ذرّ-رضي الله عنه-قال:

قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} حتّى ختمها، ثمّ قال:«إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطّت السّماء، وحقّ لها أن تئطّ، ما فيها موضع قدم إلاّ ملك واضع جبهته ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم؛ لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنّساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله! والله لوددت أنّي شجرة تعضد!» .

رواه البخاريّ باختصار، والترمذيّ، إلا أنه قال:«ما فيها موضع أربع أصابع» . ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في البكاء. فخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ عين باكية يوم القيامة إلاّ عين غضّت عن محارم الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين خرج منها مثل رأس الذّباب من خشية الله عز وجل» . رواه الأصبهاني، وانظر التّرغيب والترهيب؛ إن أردت الزيادة.

لذلك كان الخوف من الله شعار المغربين، وقرين المهتدين، وكان بشير النجاة، والأمان الأكبر عند الله، وكان طريقا لهداية القلوب النافرة، وسبيلا لسلوك النفوس الحائرة، من استضاء بنوره؛ وصل، ومن تمسك بحبله؛ رشد، ومن أخذ نفسه به؛ فقد هدي إلى صراط مستقيم. من خاف؛ سلم، ومن أطاع مولاه؛ غنم، ومن خاف ربّه، وخشي ذنبه؛ استقام، واهتدى؛ لأنه

ص: 315

علم: أنّ العمل اليوم، وأنّ الحساب غدا، لذلك كان الخوف من الله طريق الأنبياء، وحلية الأصفياء من الأتقياء، وخوف الرّسول صلى الله عليه وسلم وخوف صحابته: أبي بكر، وعمر، وعلي، وعبد الله بن رواحة-رضوان الله عليهم-محفوظ، ومعروف في بطون الكتب.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {ذلِكُمُ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. الشّيطان: خبره. {يُخَوِّفُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ} والمفعول الأول محذوف، انظر الشرح. {أَوْلِياءَهُ:}

مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الشَّيْطانُ} والعامل في الحال اسم إشارة، مثل قوله تعالى حكاية عن قول سارة:{وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} هذا؛ ويجوز اعتبار {الشَّيْطانُ} بدلا من اسم الإشارة، فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر الأول، كما أجيز اعتبار الجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّما ذلِكُمُ..} .

إلخ مستأنفة لا محل لها.

{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية جازمة. {تَخافُوهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جملة جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا، وحاصلا؛ فلا تخافوهم، وهذا الكلام مستأنف لا محل له. ({خافُونِ}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة المدلول عليها بالكسرة في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ:} تقدم إعرابها كثيرا.

{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176)}

الشرح: {وَلا يَحْزُنْكَ..} . إلخ: نزلت الآية في قوم أسلموا، ثمّ ارتدوا عن الإسلام خوفا من المشركين، فاغتمّ الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك. وقيل: هو عامّ في جميع الكفّار.

ومسارعتهم في الكفر: المظاهرة على حرب الرّسول صلى الله عليه وسلم. قال القشيري-رحمه الله تعالى-:

الحزن على كفر الكافر طاعة، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن على كفر قومه، فنهي عن ذلك، كما قال تعالى له:{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} وقال جلّ ذكره، وتعالى شأنه:

{فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} . هذا؛ والحزن: ضدّ السرور، ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرّجل، وأحزنه غيره، أيضا، مثل: سلكه، وأسلكه. قال اليزيدي:«حزنه» لغة قريش، و «أحزنه» لغة تميم، وقرئ بهما، إلا في سورة (الأنبياء)، فإنّه في الأولى فقط. قوله تعالى:{لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} . وهي أفصح اللغتين.

ص: 316

{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً} أي: لا ينقصون من ملك الله، وسلطانه شيئا بسبب كفرهم، كما روي في حديث أبي ذرّ الطويل:«يا عبادي لو أنّ أوّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا» . أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذيّ، وغيرهما.

{يُرِيدُ اللهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} يعني: لا يجعل لهم نصيبا في ثواب الآخرة ونعيمهما الدائم، فلذلك خذ لهم؛ حتّى سارعوا في الكفر. وفي الآية دليل على أنّ الخير، والشر بإرادة الله تعالى، وفيه ردّ على القدرية، والمعتزلة؛ الذي يقولون: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه. هذا؛ والحظّ: النّصيب والجدّ، وهو البخت، والدولة، يقال: فلان ذو حظّ، وحظيظ، ومحظوظ، وما الدنيا إلا أحاظ، وجدود، ورحم الله المعرّي؛ إذ يقول:[الكامل]

لا تطلبنّ بغير حظّ رتبة

قلم الأديب بغير حظّ مغزل

سكن السّماكان السّماء كلاهما

هذا له رمح وهذا أعزل

السّماكان: كوكبان، يقال لأحدهما: الأعزل، وهو منازل القمر، وهو الّذي له النوء، وسمّي أعزل؛ لأنّه لا شيء من الكواكب بين يديه، ويقال للآخر: الرّامح، وسمّي رامحا بكوكب يتقدّمه.

ومعنى البيتين: أنهما مع استوائهما في وجود كلّ منهما في السّماء، امتاز أحدهما عن الآخر، فلهذا حظّ، ولا حظّ لذاك، فالمدار على القضاء الأزليّ، والسّعد الأولي. اللهم اجعلنا من السّعداء، ولا تجعلنا من الأشقياء! وما أحسن قول من قال في بيان حظوظ الرّجال:[الرمل]

خلق الحظّ جمانا وحصى

خالق الإنسان من ماء وطين

فوليد تسجد الدّنيا له

ووليد في زوايا المهملين

وقال المتنبي، وقد أجاد، وأحسن:[الطويل]

هو الحظّ حتّى تفضل العين أختها

وحتّى يصير اليوم لليوم سيّدا

هذا؛ والحظّ: النصيب. قال تعالى في سورة (النساء) في آية المواريث: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} . وقال تعالى في سورة (المائدة) رقم [14]: في ذمّ اليهود اللّؤماء: {فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ} .

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): ناهية جازمة. {يَحْزُنْكَ:} مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، والكاف مفعول به، {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {يُسارِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{فِي الْكُفْرِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {لَنْ:} حرف ناصب. {يَضُرُّوا:} فعل مضارع منصوب ب ({لَنْ})

ص: 317

وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، الواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:}

منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إن) والجملة الاسمية: {إِنَّهُمْ..} .

إلخ مفيدة للتعليل، لا محلّ لها. {شَيْئاً:} مفعول به ثان، أو هو نائب مفعول مطلق. {يُرِيدُ:}

فعل مضارع.

{اللهَ:} فاعله. (أن) حرف ناصب. ({لا}): نافية. {يَجْعَلَ:} فعل مضارع منصوب ب (أن) والفاعل يعود إلى: {اللهَ} . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {حَظًّا:} مفعول به. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان ب: {حَظًّا} أو بمحذوف صفة له، والمصدر المؤول من:{أَلاّ يَجْعَلَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به، وجملة:{يُرِيدُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وهو أولى من اعتبارها حالا. {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({لَهُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{عَذابٌ:} مبتدأ مؤخّر. عظيم: صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.

{إِنَّ الَّذِينَ اِشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ} الشراء هنا: مستعار، والمعنى: استحبّوا الكفر على الإيمان، كما قال تعالى في سورة (فصلت):{وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى} فعبّر عنه بالشّراء؛ لأنّ الشراء إنّما يكون فيما يحبّه مشتريه، فأمّا أن يكون في معنى شراء المعاوضة؛ فلا؛ لأن الكافرين، والمنافقين لم يكونوا مؤمنين، فيبيعون إيمانهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخذوا الكفر، وتركوا الإيمان. ومعناه: استبدلوا، واختاروا الكفر على الإيمان، وإنّما أخرجه بمعنى الشّراء توسّعا؛ لأن الشراء، والتجارة راجعان إلى الاستبدال، والعرب تستعمل ذلك في كلّ من استبدال شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب الهذلي-وهو الشاهد رقم [771] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل

هذا؛ والباء بمعنى «بدل» وقد دخلت على المتروك.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم: ({إِنَّ}). {اِشْتَرَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الْكُفْرَ:} مفعول به. {بِالْإِيْمانِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الْكُفْرَ} التقدير:

مستبدلا بالإيمان. {لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً:} إعراب هذه الجملة مثل ما قبله، وكررت للتّوكيد، وهي في محل رفع خبر:({إِنَّ}). والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا

ص: 318

محل لها. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ:} هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، أو هي مستأنفة لا محل لها. وانظر إعرابها في الآية السابقة.

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)}

الشرح: {وَلا يَحْسَبَنَّ} أي: الكفار. وقرئ: («ولا تحسبنّ») بتاء المضارعة. والمعنى: لا تحسبنّ يا محمد. وهو يعمّ كل مخاطب. {أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ:} الإملاء: الإمهال، وطول العمر مع رغد العيش. وقيل: المراد تخليتهم وشأنهم، من: أملى لفرسه: إذا أرخى لها الطول؛ لترعى كيف شاءت. {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً} أي: إنّ الله يعطيهم ما يحبّون، ويمهلهم؛ ليزدادوا طغيانا، فهو كقوله تعالى في سورة (مريم):{مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} . وقوله تعالى في سورة (القلم): {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وانظر رقم [197].

وروي عن ابن مسعود، وابن عباس-رضي الله عنهما-قولهما: ما من أحد برّ، ولا فاجر إلاّ والموت خير له؛ لأنّه إنّ كان برّا؛ فقد قال الله تعالى:{وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ} وإن كان فاجرا؛ فقد قال تعالى: {إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً} وهذا يعارض ما ورد من قول النبي صلى الله عليه وسلم:

«لا يتمنّى أحدكم الموت، إمّا محسنا؛ فلعلّه يزداد، وإمّا مسيئا؛ فلعلّه يستعتب» . أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أنّ رجلا قال: يا رسول الله أيّ الناس خير؟ قال: «من طال عمره، وحسن عمله» . قال: فأيّ الناس شرّ؟ قال: «من طال عمره، وساء عمله» . رواه الترمذيّ، والطبرانيّ. والآية نص في بطلان رأي المعتزلة، والقدريّة؛ لأنّ الله تعالى أخبر: أنه يطيل أعمارهم؛ ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. وقد تحمّل الزمخشري في هذه الآية تأويلات فاسدة، فصفعه ابن المنبر-رحمه الله تعالى-صفعة ناعمة.

هذا؛ و «عذاب» اسم مصدر لا مصدر؛ لأنّ المصدر: تعذيب؛ لأنه من: عذّب، يعذّب.

ومثله: سلام، وعطاء، وكلام

إلخ، و «مهين» أصله: مهين، فإعلاله قل فيه: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، فنقلت حركة الياء إلى الهاء بعد سلب سكونها، فصار: مهين، ومثله قل في إعلال مبين، ونحوه.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): ناهية جازمة. {يَحْسَبَنَّ:} مضارع مبني على الفتح في محل جزم ب ({لا}) الناهية، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {كَفَرُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، ومتعلقه

ص: 319

محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَنَّما:} (أنّ): حرف مشبه بالفعل.

(ما): مصدرية. {نُمْلِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب اسم:(أنّ) التقدير: أنّ إملاءنا. {خَيْرٌ:} خبر: (أنّ){لِأَنْفُسِهِمْ:}

متعلقان ب {خَيْرٌ} والهاء في محل جر بالإضافة، ويجوز اعتبار (ما) اسما موصولا في محل نصب اسم:(إنّ) والجملة بعده صلته، والعائد محذوف، التقدير: أنّ الذي نمليه لهم، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي الفعل قبله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{وَلا يَحْزُنْكَ..} . إلخ، لا محل لها، وهي مستأنفة.

وما تقدّم إنّما هو على قراءة الفعل بالياء، وأما على قراءته بالتاء، فالفاعل مستتر، تقديره:

أنت، و {الَّذِينَ} هو مفعول واحد؛ لأنّ التعويل على البدل، وهو ينوب عن المفعولين لو حلّ محلّ المفعولين كما هو معروف. {أَنَّما:} كافة ومكفوفة. {نُمْلِي:} فعل مضارع

إلخ.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. {لِيَزْدادُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة بعد لام التعليل، والفعل في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل نملي أيضا. {إِثْماً:} تمييز، والجملة الفعلية:{أَنَّما نُمْلِي..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، والجملة الاسمية:{وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ:} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الواو، والضمير. هذا؛ وهناك قراءة شاذّة، وأوجه إعراب ضعيفة ضربت عنها صفحا روما للاختصار.

{ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}

الشرح: اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، فقال الكلبيّ-رحمه الله تعالى-: قالت قريش: يا محمد! تزعم: أنّ من خالفك فهو في النّار، والله عليه غضبان، وأنّ من أطاعك، وتبعك على دينك، فهو في الجنة، والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك، وبمن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال السّدّيّ-رحمه الله تعالى-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«عرضت عليّ أمّتي في صورها في الطّين، كما عرضت على آدم، وأعلمت من يؤمن بي، ومن يكفر بي» . فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا استهزاء: زعم محمد: أنّه يعلم من يؤمن به، ومن يكفر، ممّن لم يخلق بعد، ونحن معه، وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام طعنوا في علمي؟! لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين

ص: 320

السّاعة، إلاّ نبّأتكم به». فقام عبد الله بن حذافة السّهمي، فقال: من أبي يا رسول الله؟! فقال:

«حذافة» فقام عمر-رضي الله عنه-فقال: يا رسول الله رضينا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبك نبيّا؛ فاعف عنّا، عفا الله عنك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فهل أنتم منتهون، فهل أنتم منتهون؟!» . ثم نزل عن المنبر، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: إنّ المؤمنين سألوا أن يعطوا آية يفرّقون بها بين المؤمن، والمنافق، والكافر، فنزلت هذه الآية.

والمعنى: لا يترككم الله أيّها النّاس مختلطين، لا يعرف مؤمنكم من منافقكم؛ حتى يميز المؤمن المخلص من المنافق، وذلك بالوحي إلى نبيّكم عن أحوالكم، أو بالتكاليف الشاقّة؛ التي لا يصبر عليها إلا المخلصون منكم، كبذل الأموال، والأنفس في سبيل الله ليختبر به بواطنكم، ويكشف به عن عقائدكم.

هذا؛ و «يذر» لا يأتي منه ماض ك: «يدع» استغناء عنه بتصرف مرادفه، وهو:«يترك» ، وحذفت الواو من «يذر» من غير موجب تصريفي، وإنّما حمل على «يدع» لأنه بمعناه و «يدع» حذف الواو منه لموجب تصريفي، وهو وقوع الواو بين عدوتيها، وهما: الياء، وكسرة مقدرة، وأما الواو في «يذر» فوقعت بين ياء، وفتحة أصلية. انتهى جمل نقلا من السّمين، أقول: وقوله كسرة مقدّرة؛ إذ الأصل: يودع مثل: يوعد، وإنّما فتحت الدّال من «يدع» لأنّ لامه حرف حلقيّ. فيفتح ما قبله، ومثله: يقع، ويطأ، ويسع، وانظر «دع» و «ذر» في سورة (البقرة) رقم [278] فإنّه جيّد، والحمد لله!

{حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ:} {يَمِيزَ:} مضارع، وماضيه «ماز» ومثله: ميّز، وأماز بمعنى:

فرز الشيء عن غيره، وبمعنى: فضّله على غيره. وقرئ: («حتّى يميّز») بالتشديد من: ميّز، وكذا قوله تعالى في (الأنفال):{لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} و {تَكادُ تَمَيَّزُ:} تنقطع، وبهذا فسّر قوله تعالى في سورة (الملك):{تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ،} وقوله تعالى في سورة (يس): {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} بمعنى: اعتزلوا من المؤمنين الصّالحين، وانظر ما ذكرته فيها هناك، فإنّه جيد.

هذا؛ والمراد ب {الْخَبِيثَ:} الكفر، والنفاق، أو الكافرون، والمنافقون، والمراد ب {الطَّيِّبِ:} الإيمان، أو المؤمنون، كما يطلقان على العمل الصّالح، والسيئ. وانظر قوله تعالى في سورة (النور) رقم [26]:{الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ..} . إلخ ففي الكلام استعارة، وطباق، وهو من المحسّنات البديعيّة.

{وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ:} وما كان الله ليبيّن لكم المؤمن من الكافر، فيقول: فلان مؤمن، وفلان كافر، وفلان منافق؛ لأنّه لا أحد يعلم الغيب إلا الله، وإنّ سنّة الله جارية ألا يطّلع على غيبه أحد من الناس، فلا سبيل إلى معرفة المؤمن من الكافر، أو المنافق إلا بالامتحان بالآفات، والمصائب؛ ليتميز المؤمن المخلص بثباته على إيمانه، ويتزلزل المنافق عند المحن، والبلايا.

ص: 321

{وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} أي: ولكنّ الله يصطفي، ويختار من رسله من يشاء، فيطلعه على ما يشاء من غيبه. {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ:} يقال: إنّ الكفّار لمّا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم من يؤمن منهم، فأنزل الله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} يعني: لا تشتغلوا بما لا يعنيكم، واشتغلوا بما يعنيكم، وهو الإيمان، والعمل الصالح، ولا تتشوّفوا إلى اطلاع علم الغيب، فهو ليس لكم، وإنّما قال:{وَرُسُلِهِ} على الجمع، لقوله جلّ ذكره: ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، ولأنّ من أقر بجميع الرّسل؛ كان مقرّا؛ ومعترفا بأحدهم بداهة، وهذه صفة المؤمنين؛ لأنّهم آمنوا بجميع الرّسل.

{وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} أي: وإن تصدّقوا من اجتبيته برسالتي، وأطلعته على ما أشاء من غيبي، وأعلمته بالمنافق منكم، والمؤمن المخلص، وتتّقوا ربّكم فيما أمركم به، ونهاكم عنه.

{فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: بإيمانكم، وطاعتكم لربّكم.

يروى: أنّ رجلا منجّما كان عند الحجّاج، فأخذ الحجاج حصيات عرف عدّتها، فقال للمنجّم: كم في يدي؟ فحسب المنجّم، فأصاب، فأغفله الحجّاج، وأخذ حصيات لم يعدّهنّ، فقال للمنجم: كم في يدي؟ فحسب، فأخطأ، ثمّ حسب، فأخطأ، فقال: أيّها الأمير أظنّك لا تعرف عدد ما في يدك؟ قال: لا، قال: فما الفرق بينهما؟ فقال: إنّ ذاك أحصيته، فخرج عن حدّ الغيب، فحسبت، فأصبت، وإن هذا لم تعرف عددها، فصار غيبا، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.

الإعراب: {ما كانَ:} {ما:} نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها.

{لِيَذَرَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام الجحود، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر:{كانَ} إذ المعنى: ما كان الله مريدا ترك المؤمنين. {الْمُؤْمِنِينَ:}

مفعول به منصوب

إلخ. {عَلى ما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (يذر) و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور ب {عَلى} .

{حَتّى:} حرف غاية وجر. {يَمِيزَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد: {حَتّى} والفاعل يعود إلى {اللهُ،} و «أن» المضمرة بعد: {حَتّى} والفعل: {يَمِيزَ} في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل: (يذر). {الْخَبِيثَ:} مفعول به. {مِنَ الطَّيِّبِ:} متعلقان بالفعل {يَمِيزَ} أو بمحذوف حال من: {الْخَبِيثَ} . {وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ:} إعراب هذا الكلام مثل إعراب سابقه بلا فارق.

ص: 322

{وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {يَجْتَبِي:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: ({لكِنَّ}) والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. أو هي مستأنفة لا محل لها على الاعتبارين. {مِنْ رُسُلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السّكون في محلّ نصب مفعول به، {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والجملة الفعلية صلة: {مِنَ} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: الّذي، أو: شخصا يشاؤه.

{فَآمِنُوا:} الفاء: هي الفصيحة، (آمنوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِاللهِ:} متعلقان به. {وَرُسُلِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا وحاصلا؛ فآمنوا

إلخ، والكلام كلّه معطوف على ما قبله. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تُؤْمِنُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير جازم. {وَتَتَّقُوا:} معطوف على ما قبله مجزوم مثله، أو هو منصوب ب «أن» مضمرة بعد واو المعية، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون، والواو فاعله، وعلى النصب ف «أن» المضمرة تؤول مع الفعل بمصدر في محل رفع معطوف على مصدر متصيّد من الفعل السابق، التقدير: وليكن منكم إيمان، وتقوى. {فَلَكُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لكم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فَلَكُمْ:} مبتدأ مؤخر.

{عَظِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحلّ محل المفرد، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}

الشرح: اختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية، فقال عبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس في رواية أبي صالح عنه، والشّعبي، ومجاهد-رضي الله عنهم أجمعين-: نزلت هذه الآية في الذين يبخلون أن يؤدّوا زكاة أموالهم. ووجه هذا القول: أنّ أكثر العلماء ذهبوا إلى أنّ البخل عبارة عن منع الواجب، وأنّ من منع التطوّع، لا يكون بخيلا، ويدلّ عليه الوعيد الشديد في سياق الآية.

ص: 323

وقال ابن عباس في رواية عطية عنه، وابن جريج عن مجاهد: أنّها نزلت في أحبار اليهود؛ الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبوّته. وهذا القول هو اختيار الزجّاج، ووجه هذا القول: أن البخل عبارة عن منع الخير، والنفع، ويدخل فيه منع العلم، كما يقال: بخل فلان بعلمه.

والمعتمد الأوّل، وإن كان الثاني يدخل فيه. انتهى خازن. وخذ ما يلي:

أولا: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالا، فلم يؤدّ زكاته؛ مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمتيه-يعني: شدقيه- ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنزك» . ثم تلا هذه الآية. أخرجه الشيخان، وغيرهما.

ثانيا: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم، فكتمه؛ ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من كتم علما؛ ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . ابن حبّان.

المعنى: ولا يظننّ الذين يمنعون زكاة أموالهم، ويبخلون في إنفاقه في وجوه الخير خيرا لهم في الدنيا، والآخرة، بل هو شرّ، ووبال عليهم، وهلاك لهم. {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ:} أي: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق في العنق. انظر الحديث الشريف المتقدّم. {وَلِلّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أخبر سبحانه وتعالى ببقائه، ودوام ملكه، وأنه في الأبد كهو في الأزل غنيّ عن العالمين، فيرث الأرض، ومن عليها بعد فناء خلقه، وزوال ملكهم، فتبقى الأملاك، والأموال، لا يدّعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثة في عادة الخلق، وليس هذا بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئا لم يكن ملكه من قبل، والله سبحانه وتعالى مالك السموات والأرض، وما بينهما، وما فيهما، وكانت السموات وما فيها، والأرض وما فيها له، وأنّ الأموال كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتوا؛ ردّت العارية إلى صاحبها، الذي كانت له في الأصل، ونظير هذه الآية قوله تعالى:{إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها} ومثل هذه الآية الآتية رقم [10] من سورة (الحديد). {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ:} فيه تهديد، ووعيد للبخلاء، والمقصرين بحقوق الله. ويقرأ الفعل بالياء، والتاء، -على الالتفات-في بعض القراءات فيه، وفي سابقه. وخذ ما يلي في البخلاء، والأسخياء:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إيّاكم والظّلم! فإنّ الظّلم ظلمات يوم القيامة، وإيّاكم والفحش، والتّفحّش! وإيّاكم والشّحّ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالشّحّ، أمرهم بالقطيعة، فقطعوا، وأمرهم بالبخل، فبخلوا، وأمرهم بالفجور، ففجروا

» إلخ. رواه أبو داود مختصرا.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله جنّة عدن بيده، ودلّى فيها ثمارها، وشقّ فيها أنهارها، ثمّ نظر إليها، فقال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقال: وعزّتي، وجلالي لا يجاورني فيك بخيل!» رواه الطّبرانيّ في الكبير، والأوسط.

ص: 324

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السّخيّ قريب من الله، قريب من الجنّة، قريب من النّاس، بعيد من النّار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنّة، بعيد من النّاس، قريب من النّار، ولجاهل سخيّ أحبّ إلى الله من عابد بخيل» . رواه الترمذيّ.

وعنه-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم؛ فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كانت أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم؛ فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» . رواه الترمذي.

وعن عمر-رضي الله عنه-قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تبارك وتعالى بعث حبيبي جبريل-عليه السلام-إلى إبراهيم، عليه السلام، فقال له: يا إبراهيم! إنّي لا أتّخذك خليلا على أنّك أعبد عباد لي، ولكن اطّلعت على قلوب المؤمنين، فلم أجد قلبا أسخى من قلبك» . أخرجه الطّبراني، وغيره وانظر الآية رقم [37]: من سورة (النساء) تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ:} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [178]:

{بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنيّة على السكون في محل جرّ بالباء. {آتاهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أوّل. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط، وهو المفعول الثاني محذوف، التقدير: يبخلون بالذي، أو: بشيء آتاهم الله إيّاه.

{مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، والمفعول الأول ل:{يَحْسَبَنَّ} محذوف، التقدير: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم

والهاء في محل جر بالإضافة، ودلّ على المحذوف:{يَبْخَلُونَ} .

وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى: وفي المفعول الأوّل وجهان: أحدهما: {هُوَ} ضمير البخل الذي دل عليه: {يَبْخَلُونَ} . الثاني: محذوف، تقديره: البخل، و {هُوَ} على هذا فصل، والمفعول الثاني {خَيْراً}. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْراً} هذا، وعلى قراءة الفعل:

(«تحسبن») بالتاء، فالفاعل ضمير مستتر تقديره:«أنت» ، المراد به النبي صلى الله عليه وسلم، أو كلّ مخاطب، والمفعول الأول محذوف قام مقامه:{الَّذِينَ} بعد حذفه، التقدير: ولا تحسبن بخل الذين يبخلون، أي: فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. قال الزجّاج: هو مثل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} و {خَيْراً} هو المفعول الثاني.

{بَلْ:} حرف إضراب، وانتقال، تبتدأ بعده الجمل، والجملة الاسمية:{هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} مستأنفة لا محل لها. {سَيُطَوَّقُونَ:} السين: مفيدة للتوكيد، وإن كانت في الأصل للاستقبال، (يطوقون): فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو نائب

ص: 325

فاعله، وهو المفعول الأول. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، مبنيّة على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {بَخِلُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بما قبله، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية:{سَيُطَوَّقُونَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.

{وَلِلّهِ:} الواو: حرف استئناف. ({لِلّهِ}): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم.

{مِيراثُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر الميمي لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [153].

{لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)}

الشرح: مناسبة الآيات لما قبلها ظاهرة، وذلك بعد أن انتهى الاستعراض القرآني لمعركة أحد، وما فيها من عبر، وعظات، وتناولت الآيات ضمن ما تناولت مكائد المنافقين، ودسائسهم، وما انطوت عليه نفوسهم من الكيد للإسلام، والغدر بالمسلمين، وتثبيط عزائمهم عن الجهاد في سبيل الله؛ أعقبه الله بذكر دسائس اليهود الخبيثة، وأساليبهم الشنيعة في محاربة الدّعوة الإسلاميّة عن طريق التشكيك، والبلبلة، والكيد، والدسّ؛ ليحذّر المؤمنين من خطرهم، كما حذّرهم من المنافقين. والآيات الكريمة تتحدّث عن اليهود، وموقفهم المخزي من الذّات الإلهية، وأنّها تهم لله عز وجل-بأشنع الاتهامات بالبخل، والفقر، ثم نقضهم للعهود، وقتلهم للأنبياء، وخيانتهم للأمانة؛ التي حمّلهم الله إيّاها، إلى آخر ما هنالك من جرائم، وشنائع اتّصف بها هذا الجنس الملعون. صفوة التفاسير.

سبب النزول روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مع أبي بكر-رضي الله عنه-كتابا إلى يهود بني قينقاع، يدعوهم فيه إلى الإسلام، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فقال «فنحاص» اللّعين-وكان من علمائهم، ومعه حبر آخر يقال له: أشيع-: إنّ الله فقير حتى سأل القرض؟ فلطمه أبو بكر-رضي الله عنه-على وجهه، وقال: لولا ما بيننا من العهد؛ لضربت عنقك! فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجحد ما قاله، فنزلت الآية الكريمة، في تصديق الصّدّيق-رضي الله عنه-وتكذيب «فنحاص». ومثل هذه الآية من قولهم الشنيع الآية رقم [67]:

من سورة (المائدة): {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ..} . إلخ.

ص: 326

{لَقَدْ سَمِعَ..} . إلخ: المعنى: لم يخف عليه ما قالوه، وأنّه سبحانه أعدّ لهم العقاب الشديد، والعذاب الأليم. هذا؛ و: سمع، يسمع من الأفعال الصّوتية، إن تعلّق بالأصوات؛ تعدّى إلى مفعول واحد، وإن تعلق بالذّوات؛ تعدّى إلى اثنين، الثاني منهما جملة فعليّة مصدّرة بمضارع من الأفعال الصّوتية. مثل قولك: سمعت فلانا يقول كذا. وهذا اختيار الفارسيّ.

واختار ابن مالك، ومن تبعه أن تكون الجملة الفعلية في محل نصب حال؛ إن كان المتقدم معرفة، مثل قولك: سمعت زيدا يقول كذا، وصفة إن كان نكرة، مثل قولك: سمعت رجلا يقول كذا.

{قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ:} انظر الآية رقم [6] من سورة (النساء) لشرح (الفقير). {وَنَحْنُ أَغْنِياءُ:}

قالوا ذلك تمويها على ضعفائهم، لا أنّهم يعتقدون هذا، وغرضهم تشكيك الضعفاء من المؤمنين، وتكذيب النبيّ صلى الله عليه وسلم أي: إنه فقير على قول محمّد؛ لأنه اقترض منّا. {سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ:} سنجازيهم عليه. وقيل: معناه: سنكتبه في صحائف أعمالهم، وهو كقوله تعالى في سورة (الأنبياء):{وَإِنّا لَهُ كاتِبُونَ} والكاتبون للأعمال هم الملائكة الموكّلون بذلك، والله هو الآمر بالكتابة، فأسند إليه الفعل مجازا، والموجودون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا الأنبياء، وإنّما نسب لهم القتل لرضاهم له، ولما بينهم وبين أصولهم من الخبث، والمكر، والخداع، وسوء الطّباع، فلذا صحّت الإضافة إليهم؛ لأنّ الرضا بالمعصية معصية، فقد روي: أن رجلا حسّن عند الشّعبيّ قتل عثمان-رضي الله عنه، فقال له الشّعبيّ: شركت في دمه. فجعل الرّضا بالقتل قتلا. وقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي-رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا عملت الخطيئة في الأرض؛ كان من شهدها، فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها، فرضيها؛ كان كمن شهدها» . {وَنَقُولُ:} لهؤلاء الّذين قالوا هذه المقالة: {ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} أي: فننتقم منهم، ونقول لهم. وانظر {ذُوقُوا} في الآية رقم [106].

هذا؛ والقول يطلق على خمسة معان، أحدها: اللفظ الدال على معنى. الثاني: حديث النفس، ومنه قوله تعالى في سورة المجادلة:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ} . الثالث:

الحركة، والإمالة، يقال: قالت النّخلة؛ أي: مالت. الرابع: يشهد به الحال، كما في قوله تعالى في سورة (فصلت):{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ..} . الخامس: الاعتقاد، كما تقول: هذا قول الأشاعرة، وهذه مقالة المعتزلة، أي: ما يعتقدونه.

هذا، وأمّا الكلام بالنسبة إلى البشر؛ فيدلّ على أحد ثلاثة أمور:

أولها: الحدث الذي يدلّ على لفظ التكليم، تقول: أعجبني كلامك زيدا، وتريد: تكليمك إيّاه، وقال الشاعر:[البسيط]

قالوا كلامك هندا وهي مصغية

يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا

ص: 327

وثانيها: ما يدور في النفس من هواجس، وخواطر، وكلّ ما يعبّر عنه باللفظ لإفادة السّامع ما قام بنفس المخاطب، فيسمى هذا الذي تخيّلته: كلاما في اللغة العربية، تأمل في قول الأخطل التّغلبي:[الكامل]

لا يعجبنّك من خطيب خطبة

حتّى يكون مع الكلام أصيلا

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

ثالثها: كل ما تحصل به الفائدة، سواء أكان ما حصلت به لفظا، أو خطّا، أو إشارة، أو دلالة حال، انظر إلى قول العرب:«القلم أحد اللسانين» وانظر إلى تسمية المسلمين ما بين دفتي المصحف: «كلام الله» ، ثم انظر إلى قوله تعالى في سورة (البقرة):{يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ} وقال جلّ ذكره في سورة (التوبة): {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} وإلى كلمته جلّت حكمته في هذه السورة: {قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً} . ثم انظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي؛ الذي نفى عن محبوبته الكلام اللفظي، وأثبت لعينها القول، والكلام:[الطويل]

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزون ولم تتكلّم

فأيقنت أنّ الطّرف قد قال مرحبا

وأهلا وسهلا بالحبيب المتيّم

والدليل عليه فيما نطق به الحال قول نصيب: [الطويل]

فعاجوا فأثنوا بالّذي أنت أهله

ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب

وقال تعالى في سورة (فصلت) حكاية عن قول السّماء، والأرض:{قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ} فقال قوم من العلماء: إنّهما تكلّمتا حقيقة، وقال آخرون: إنّهما لمّا انقادتا لأمر الله عز وجل؛ نزّل ذلك منزلة القول والكلام. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَمِعَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {قَوْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جرّ بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها صلة الموصول لا محلّ لها، وجملة:{لَقَدْ..} . إلخ مبتدأة، أو جواب لقسم محذوف، لا محلّ لها على الاعتبارين. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {فَقِيرٌ:} خبرها، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَنَحْنُ:} الواو: حرف عطف. ({نَحْنُ}): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {أَغْنِياءُ:} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، وفيها معنى التأكيد للجملة قبلها.

ص: 328

{سَنَكْتُبُ:} السين: مفيدة للتوكيد، والتّحقيق. (نكتب): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: سنكتب الذي، أو:

شيئا قالوه. وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: سنكتب قولهم، والجملة الفعلية هذه مستأنفة لا محلّ لها. {وَقَتْلَهُمُ:} معطوف على {ما} أو على المصدر، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {الْأَنْبِياءَ:}

مفعول به للمصدر. {بِغَيْرِ:} متعلقان بالمصدر، و (غير): مضاف، و {حَقٍّ} مضاف إليه.

{وَنَقُولُ:} الواو: حرف عطف. (نقول): فعل مضارع، والفاعل تقديره: نحن. {ذُوقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَذابَ:} مفعول به، و {الْحَرِيقِ:} مضاف إليه، من إضافة الموصوف للصفة؛ إذ الأصل: العذاب المحرق. والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَنَقُولُ..} . إلخ معطوفة على جملة:

{سَنَكْتُبُ..} . إلخ لا محلّ لها مثلها.

{ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)}

الشرح: {ذلِكَ:} إشارة إلى العذاب المذكور في الآية السابقة. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ:} من قتل الأنبياء، وقولهم المذكور في الآية السابقة، وسائر الأعمال القبيحة؛ الّتي صدرت عنهم في الدنيا، وإنّما ذكر الله-عز وجل-الأيدي على سبيل المجاز؛ لأنّ الفاعل هو الإنسان، لا اليد، إلا أنّ اليد لمّا كانت آلة الفعل؛ حسن إسناد الفعل إليها، ولأنّ أكثر الأعمال يكون باليد، فجعل كلّ عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التّغليب.

هذا؛ واليد تطلق في الأصل على اليد الجارحة، وقد تطلق على النفس، والذات، كما في قوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . وقد تطلق على القدرة، والقوّة، وهو كثير، مثل قوله تعالى في سورة (ص):{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} وخذ قول عروة بن حزام العذري-وهو الشاهد رقم [116]: من كتابنا: «فتح رب البريّة» -: [الطويل]

وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها

ومالي بزفرات العشيّ يدان

كما تطلق اليد على النّعمة، والمعروف، يقال: لفلان عندي يد؛ أي: نعمة، ومعروف، وإحسان. وتطلق على الحيلة، والتدبير، يقال: لا يد لي في هذا الأمر؛ أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير. {لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ:} ليس المراد بظلام المبالغة؛ حتّى تنتفي المبالغة، ويبقى أصل الظلم، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وإنّما المراد نفي نسبة الظلم إليه تعالى؛ إذ المعنى: ليس بذي ظلم، والآية مذكورة بحروفها بسورة (الأنفال) برقم [51] ومن ذلك قول

ص: 329

الرّسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذيّ عن ابن مسعود-رضي الله عنه: «لا يكون المؤمن لعّانا» فالمراد نفي للّعن أبدا، لا نفي المبالغة. وخذ قول امرئ القيس-وهو الشّاهد رقم [175] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]

وليس بذي رمح فيطعنني به

وليس بذي سيف وليس بنبّال

فهذه الصيغ ليست للمبالغة، وإنّما هي للنّسب، مثل: عطّار، ونجّار، وتمّار. قال ابن مالك رحمه الله:[الرجز]

ومع فاعل وفعّال فعل

في نسب أغنى عن اليا فقبل

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {بِما:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر المبتدأ، (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْدِيكُمْ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير:

بالذي، أو: بشيء قدّمته أيديكم. {وَأَنَّ:} الواو: حرف عطف. ({أَنَّ}): حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى:{اللهَ} تقديره:

«هو» ، {بِظَلاّمٍ} الباء: حرف جر صلة. (ظلام) خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {لِلْعَبِيدِ:} متعلقان ب (ظلام). وجملة: {لَيْسَ..} . إلخ في محل رفع خبر ({أَنَّ}) و ({أَنَّ}) واسمها وخبرها في تأويل مصدر معطوف على (ما) فهو في محل جر مثلها، والجملة الاسمية:{ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ..} . إلخ في محل نصب مقول لقول محذوف، التقدير: ويقال لهم إذا لقوا في جهنم: ذلك

إلخ.

أو: ونقول لهم إذا ألقوا

إلخ تقريعا، وتوبيخا، وتحقيرا، وتصغيرا.

{الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)}

الشرح: {الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا:} قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن صيفي، ووهب بن يهوذا، وزيد بن تابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحيي بن أخطب من اليهود، أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! تزعم: أنّ الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك كتابا، وإنّ الله عهد إلينا في التوراة ألا نؤمن لرسول يزعم: أنه جاء من عند الله، حتّى يأتينا بقربان تأكله

ص: 330

النّار، إن جئتنا به؛ صدقناك! فأنزل الله تعالى:{الَّذِينَ قالُوا} يعني: قد سمع الله قول الذين قالوا: إنّ الله عهد إلينا، يعني: أمرنا، وأوصانا في كتبه: أن لا نؤمن لرسول

إلخ.

هذا؛ وذكر الواحدي عن السّدّيّ: أنه قال: إنّ الله أمر بني إسرائيل في التّوراة: من جاءكم يزعم: أنه رسول الله؛ فلا تصدقوه؛ حتّى يأتيكم بقربان تأكله النار؛ حتّى يأتيكم المسيح، ومحمّد، فإذا أتياكم؛ فآمنوا بهما، فإنّهما يأتيان بغير قربان. زاد غير الواحدي: أنّه قال: وكانت هذه العادة باقية فيهم إلى مبعث المسيح، عليه الصّلاة، والسّلام، ثم ارتفعت، وزالت. هذا؛ وإسناد الأكل إلى النّار استعارة؛ إذ حقيقة الأكل إنّما تكون في الإنسان، والحيوان.

هذا؛ والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من أعمال البر، من نسك، وصدقة، وذبح، وصوم. وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبني إسرائيل، وكانوا إذا قربوا قربانا، أو غنموا غنيمة؛ جمعوا ذلك، وجاءت نار بيضاء من السماء، لا دخان لها، ولها دوي، وحفيف، فتأكل ذلك القربان، أو الغنيمة، وتحرقه، فيكون ذلك دليلا على القبول، وإذا لم يقبل؛ بقي على حاله، ولم تنزل نار.

{قُلْ:} هذا خطاب لحبيب الحق، وسيّد الخلق صلى الله عليه وسلم. {قَدْ جاءَكُمْ} يا معشر اليهود.

{رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي} يعني: مثل: زكريا، ويحيى، ويوشع، وغيرهم. {بِالْبَيِّناتِ:} بالمعجزات الواضحات، والحجج الدّامغات. {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي: ما ذكرتم من القربان. {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} يعني: فلم قتلتم الأنبياء؛ الذين أتوا بما طلبتم منهم من القرابين، والمراد بذلك: أسلافهم، كما ذكرته لك مرارا، والتقريع، والتوبيخ للموجودين في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:}

أنكم تتبعون الحقّ، وتنقادون للرّسل. وذكرت لك مرارا: أن {رُسُلٌ} وما أشبهه يجوز تسكين عينه وتحريكها بالضم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الَّذِينَ:} بدل مثله في الآية رقم [181] ويجوز أن يكون في محل نصب بفعل محذوف، التقدير: أذمّ الذين، كما يجوز أن يكون في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

هم الذين. {قالُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة مع مقولها صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَهِدَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ:} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. ({إِنَّ}) حرف مصدري ونصب.

(لا): نافية. {نُؤْمِنَ:} فعل مضارع منصوب ب ({إِنَّ}) والفاعل مستتر وجوبا، تقديره: نحن، و (أن) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بحرف خبر محذوف، التقدير: عهد إلينا بعدم الإيمان، والجار والمجرور متعلّقان بما قبلهما. {لِرَسُولٍ:} متعلقان بالفعل: {عَهِدَ} .

{حَتّى:} حرف غاية، وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَأْتِيَنا:} فعل مضارع منصوب ب «أن»

ص: 331

المضمرة بعد {حَتّى} والفاعل يعود إلى (رسول) ونا: مفعول به، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محلّ جرّ ب ({حَتّى}) والجار والمجرور متعلقان بالفعل ({نُؤْمِنَ}).

{بِقُرْبانٍ:} متعلقان بما قبلهما. {تَأْكُلُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به. {النّارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر صفة (قربان).

{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {جاءَكُمْ:} فعل ماض، والكاف مفعول به. {رُسُلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها. {مِنْ قَبْلِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل جاء، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{رُسُلٌ} وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة.

{بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بالفعل (جاء). {وَبِالَّذِي:} جار ومجرور معطوفان على البينات.

{قُلْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: بالذي قلتموه.

{فَلِمَ:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدّر. (لم): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وعلامة الجر الألف المحذوفة للفرق بين الخبر، والاستخبار. {قَتَلْتُمُوهُمْ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحركت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان قد جاءكم رسل

فلماذا قتلتموهم؟!. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:}

تقدّم إعراب مثلها كثيرا، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)}

الشرح: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} أي: كذّب اليهود، وقومك يا محمد! {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} مثل: نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وغيرهم من الرّسل. هذا؛ وذكّر الفعل هنا، وأنّث في سورة (الأنعام) رقم [34]: وفي سورة فاطر رقم [4]: مع أنّ الفاعل {رُسُلٌ:} في الآيات الثلاث؛ لأن رسل جمع تكسير ل: «رسول» وجمع التكسير يجوز تذكير فعله، وتأنيثه، كما هو مقرّر في القواعد النّحوية. وفي الآيات الثلاث تسلية للرّسول صلى الله عليه وسلم. {جاؤُ بِالْبَيِّناتِ} أي: بالدّلالات الواضحات، والمعجزات الباهرات. {وَالزُّبُرِ} أي: الكتب. واحدها: زبور، وهو الكتاب المقصور على الحكم، من: زبرت الشيء: إذا حبسته. وقيل: الزبور: المواعظ، والزواجر، من:

زبرته: إذا وعظته، وزجرته، وكلّ زبور فهو كتاب، والعكس صحيح، قال امرؤ القيس:[الطويل]

ص: 332

لمن طلل أبصرته فشجاني

كخطّ زبور في عسيب يماني

{وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ:} الواضح. والكتاب: ما يتضمّن الشّرائع، والأحكام، ولذلك جاء الكتاب، والحكمة متعاطفين في كثير من الآيات القرآنية. وقيل: المراد بالزّبور: الصّحف المنزلة على الأنبياء، كصحف إبراهيم، وهي ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة، وهي عشرة، وكصحف شيث، وهي ستّون، وصحف إدريس، وهي عشرة، فجملة الصحف مائة وعشرة، تضمّ لها الكتب الأربعة: التوراة، والإنجيل، والزّبور، والقرآن، فجملة الكتب المنزلة على الأنبياء مائة وأربعة عشر، وسور القرآن مائة وأربع عشرة، لذا فقد حوى جميع ما نزل في الكتب التي نزلت على الأنبياء، ومثل هذه الآية الآية رقم [25]: من سورة (فاطر).

الإعراب: {فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم، {كَذَّبُوكَ:} فعل ماض مبني على الضمّ في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُذِّبَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {رُسُلٌ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محلّ المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا فالجملة الفعلية تكون مفيدة للتعليل، ويكون التقدير: فإن كذبوك؛ فلا تحزن؛ لأنّه قد كذب

إلخ. {مِنْ قَبْلِكَ:} متعلقان بمحذوف صفة: {رُسُلٌ} وهو أقوى من تعليقهما بالفعل: {كُذِّبَ} والكاف في محل جر بالإضافة. {جاؤُ:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية لرسل، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم. {بِالْبَيِّناتِ:}

متعلّقان بما قبلهما، أو بمحذوف حال من واو الجماعة. {وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ:} معطوفان على ما قبلهما. {الْمُنِيرِ:} صفة (الكتاب).

{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)}

الشرح: يخبر الله جلّت قدرته في هذه الآية، وفي سورة (الأنبياء) رقم [35] إخبارا عامّا يعمّ جميع الخليقة بأنّ كلّ نفس ذائقة الموت، كقوله تعالى في سورة (الرحمن):{كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} فهو وحده الحيّ الذي لا يموت، والجنّ، والإنس يموتون، وكذلك الملائكة، وحملة العرش، وينفرد الواحد القهار بالدّيمومة، والبقاء، فيكون باقيا كما كان أزليّا قديما، وهذه الآية، وآية (الأنبياء) فيهما تعزية لجميع الناس، فإنّه لا يبقى أحد على وجه الأرض؛ حتّى يموت. ورحم الله من قال:[البسيط]

ص: 333

الموت باب وكلّ النّاس داخله

فليت شعري بعد الباب ما الدّار

الدّار جنّة عدن إن عملت بما

يرضي الإله وإن خالفت فالنّار

روى ابن أبي حاتم عن عليّ-رضي الله عنه-قال: لمّا توفّي النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وجاءت التّعزية، جاءهم آت يسمعون حسّه، ولا يرون شخصه، فقال: السّلام عليكم أهل البيت، ورحمة الله وبركاته:{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} إنّ في الله عزاء من كلّ مصيبة، وخلفا من كلّ هالك، ودركا من كلّ فائت، فبالله ثقوا، وإيّاه فارجوا، فإنّ المصاب من حرم الثواب، والسّلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته. قال جعفر الصّادق-رحمه الله تعالى- فأخبرني أبي: أنّ علي بن أبي طالب-رضي الله عنه، قال: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام.

{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ:} أبعد، وجنّب النّار. {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} أي: نجا من النّار، وظفر برضا الله، ورضوانه. هذا؛ والفعل «زحزح» يكون لازما ومتعديا، قال الشاعر في اللازم:[الطويل]

خليليّ ما بال الدّجى لا يتزحزح

وما بال ضوء الصّبح لا يتوضّح؟

وقال ذو الرّمّة في المتعدي: [البسيط]

يا قابض الرّوح عن جسم عصا زمنا

وغافر الذّنب زحزحني عن النّار

وروى النّسائيّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من صام يوما في سبيل الله؛ زحزح الله وجهه عن النّار سبعين خريفا» .

{وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ} أي: إنّ العيش في هذه الدّار الفانية يغرّ الإنسان بما يمنيه من طول البقاء، وسينقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأمّا من اشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع، وبلاغ إلى ما هو خير منها، وهذا بضم الغين، وهو بفتح الغين: الشيطان، كما في قوله تعالى:{وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} ومن قول العوام-وليس بشيء-: الغرور: ما تحمله المرأة أيام حيضها، أو نفاسها، ثم تلقيه في أماكن معروفة، وخذ ما يلي:

عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم:

{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ»} . أخرجه البخاريّ، وزاد الترمذي:«وفي الجنّة شجرة يسير الرّاكب في ظلّها مائة عام لا يقطعها، واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}. وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا، وما فيها، واقرءوا إن شئتم: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ..}. إلخ» .

ص: 334

هذا؛ وقد وصف الله تعالى في هذه الآية وغيرهما الحياة التي يحياها ابن آدم ب:

{الدُّنْيا؛} لدناءتها، وحقارتها، وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة، كما جاء في الحديث الشريف، ورحم الله الحريري؛ إذ يقول:[الكامل]

يا خاطب الدّنيا الدّنيّة إنّها

شرك الرّدى، وقرارة الأكدار

دار متى ما أضحكت في يومها

أبكت غدا تبّا لها من دار

ولقد أحسن من قال: [المتقارب]

هي الدّار دار الأذى والقذى

ودار الفناء ودار الغير

ولو نلتها بحذافيرها

لمتّ ولم تقض منها الوطر

أيا من يؤمّل طول الخلود

وطول الخلود عليه ضرر

إذا أنت شبت وبان الشبا

ب فلا خير في العيش بعد الكبر

هذا؛ والمتاع: كل شيء يتمتّع به الإنسان في دنياه، ويتلذّذ به من طعام، وشراب، ولباس، ومسكن، وولد، وزوجة، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«الدّنيا متاع وخير متاعها المرأة الصّالحة» رواه مسلم، والنّسائيّ عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما. وربّنا جلّت قدرته قال للكافرين:

{تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النّارِ} وقال جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ} وقال تعالى شأنه: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ} .

هذا والتمتّع بالشّيء: التلذذ به، والانتفاع بفوائده، ومثله الاستمتاع، والاسم: المتعة، فهنيئا لمن تمتّع، واستمتع بالمباح الحلال، وويل، ثمّ لمن تمتّع، واستمتع بالحرام. هذا؛ والمتعة بكسر الميم، وضمها: اسم للتمتّع، والزاد القليل، وما يتمتّع به من الصّيد، والطعام. ومتعة المرأة ما وصلت به بعد الطلاق من نحو قميص، وإزار، وملحفة. قال تعالى في سورة (البقرة):{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} . هذا؛ والتمتّع بالمرأة إلى أجل معلوم بيّنت فساده في أول سورة (المؤمنون) وفي سورة (المعارج) وبالله التوفيق.

قال الزّمخشري-رحمه الله تعالى-: شبّه الدّنيا بالمتاع الذي يدلّس به على المستام، ويغرّ؛ حتّى يشتريه، والشّيطان هو المدلّس، والغرور. انتهى. أي: فهو من باب الاستعارة، قال تعالى في كثير من الآيات:{فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} .

الإعراب: {كُلُّ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه، {ذائِقَةُ:} خبره، وهو مضاف، و {الْمَوْتِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله ضمير مستتر تقديره:

هي، وقرئ بتنوين («ذائقة») ونصب («الموت»). والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَإِنَّما:}

ص: 335

الواو: حرف عطف. ({إِنَّما}): كافة ومكفوفة. {تُوَفَّوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول.

{أُجُورَكُمْ:} مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محلّ لها مثلها. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه.

{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {زُحْزِحَ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح في محلّ جزم فعل الشرط، ونائب فاعله مستتر تقديره: هو يعود إلى (من). {عَنِ النّارِ:} متعلّقان بما قبلهما. {وَأُدْخِلَ} معطوف على ما قبله، ونائب فاعله يعود إلى (من) أيضا. {الْجَنَّةَ:} مفعول به ثان، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [142]. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {فازَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، هذا وإن اعتبرت (من) اسما موصولا في محل رفع مبتدأ، فالجملة بعده صلته، وجملة:(قد فاز) في محل رفع خبره، ودخلت الفاء في الخبر؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة لا محل لها.

{وَمَا:} الواو: حرف استئناف. ({مَا}): نافية مهملة. {الْحَياةُ:} مبتدأ. {الدُّنْيا:} صفة لها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ وقال الجمل: الإضافة على معنى: في، ولا أرى له وجها قويّا. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَتاعُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْغُرُورِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}

الشرح: {لَتُبْلَوُنَّ:} لتختبرن، وتقع عليكم المحن، والمصائب؛ ليعلم المؤمن من غيره. والاختبار، والامتحان يمحّص الجيد من الرديء، كما ذكره الله سابقا، فعلى هذا يكون معنى الاختبار في وصف الله تعالى محال؛ لأنّ الله عالم بحقائق الأشياء قبل أن يخلقها. فعلى هذا يكون معنى الاختبار في وصف الله تعالى: أنه يعامل العبد معاملة المختبر. {فِي أَمْوالِكُمْ:} بكثرة المصائب فيها بالآفات التي نتعرّض لها، وبالإنفاق في سبيل الله، وسائر

ص: 336

تكاليف الشرع. {وَأَنْفُسِكُمْ} يعني: بالمصائب، والأمراض، والقتل، وفقد الأحباب، كقوله تعالى في سورة (البقرة):{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ} .

خوطب المسلمون بهذه الآية؛ ليوطنوا أنفسهم على احتمال الأذى، وما سيلقون من الشدائد، والمصائب؛ ليصبروا على ذلك، حتى إذا لقوها؛ لقوها؛ وهم مستعدّون بالصبر لها، لا يرهقهم ما يرهق غيرهم ممّن تصيبه الشّدة بغتة، فينكرها، ويشمئزّ منها.

{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً:} يقول الله تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عمّا ينالهم من الأذى من اليهود، ومن المشركين، بل ومن المنافقين، وآمرا لهم بالصّبر، والعفو؛ حتّى يأتي الله بالنّصر.

وقد تحقّق ذلك للمسلمين بعد سنوات عدّة بقتل اليهود قبيلة، قبيلة، وبذلّ المنافقين، وأخيرا بفتح مكة، قال عكرمة: نزلت في أبي بكر، وفنحاص كما رأيت في الآية رقم [181] والأصح:

أنّها نزلت قبل وقعة بدر، كما ذكرت آنفا.

{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق، ولأصحابه. والمعنى: وإن تصبروا على أذاهم، وتتّقوا الله فيما أمركم به، ونهاكم عنه؛ لأنّ الصبر عبارة عن احتمال الأذى، والمكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عمّا لا ينبغي. هذا؛ والإشارة بقوله تعالى:{فَإِنَّ ذلِكَ} للصّبر، والتّقوى. {مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} أي: ممّا عزمه الله، وأمر به، وقطعه قطع إيجاب وإلزام، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا صيام لمن لم يعزم الصّيام من اللّيل» أي: لم يقطعه، ويجزم به بالنّيّة.

هذا؛ ودخلت لام الابتداء في سورة (الشّورى) في قوله تعالى: {إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ،} وهي للتّوكيد، ولم تدخل في هذه الآية، ولا في سورة (لقمان) رقم [17] لأنّ الصبر على مكروه حدث بظلم-كقتل-أشدّ من الصبر على مكروه حدث بلا ظلم، كموت ولد، كما أنّ العزم على الأول آكد منه على الثّاني، وما في سورة (الشورى) من القبيل الأول، فكان أنسب بالتوكيد، وما هنا، وما في سورة (لقمان) من القبيل الثاني، فكان أنسب بعدمه. انتهى جمل نقلا عن كرخي.

بعد هذا: فالفعل «تسمع» صحيح الآخر، فلمّا أسند لواو الجماعة صار: تسمعون، فلمّا أكّد بنون التوكيد صار: تسمعوننّ، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال، فصار تسمعون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على العين؛ لتدلّ عليها، فصار (لتسمعن). وإذا أسند الفعل المعتل الآخر لواو الجماعة، مثل: يدعو، يرمي، يسعى، فتحذف نون الرفع وواو الجماعة، وحرف العلة، مثل: لتدعنّ لترمنّ، إلا مع المعتل بالألف، فتثبت الواو؛ لأنّ قبلها فتحة، مثل لتسعونّ، ومنه: لتبلونّ.

الإعراب: {لَتُبْلَوُنَّ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: وعزتي، وجلالي! والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. (تبلون): فعل مضارع مبني للمجهول

ص: 337

مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو نائب فاعله، والنون حرف لا محل له. {فِي أَمْوالِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما. {وَأَنْفُسِكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَلَتَسْمَعُنَّ:} الواو: حرف عطف. ({لَتَسْمَعُنَّ}): إعرابه مثل إعراب:

{لَتُبْلَوُنَّ} وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها؛ لأنها جواب القسم المقدّر. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما.

{أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها.

{وَمِنَ الَّذِينَ:} معطوفان على ما قبلهما. {أَشْرَكُوا:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَذىً:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها. {كَثِيراً:} صفة له.

({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تَصْبِرُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. ({تَتَّقُوا}): انظر إعراب مثله في الآية رقم [179]: {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. ({إِنْ}): حرف مشبه بالفعل. {ذلِكَ:}

اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {مِنْ عَزْمِ:} متعلقان بمحذوف خبر: ({إِنْ}) و {عَزْمِ} مضاف، و {الْأُمُورِ:} مضاف، والجملة الاسمية:(إن {ذلِكَ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد، ({إِنْ}) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)}

الشرح: {وَإِذْ أَخَذَ اللهُ} أي: واذكر يا محمد إذ أخذ الله. {مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} يعني: اليهود، والنصارى، والمراد منهم العلماء خاصّة، وأخذ الميثاق هو: التوكيد، والإلزام لبيان ما أوتوه من الكتاب، وانظر الآية رقم [81]:{لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ} يعني: ليبينن ما في الكتاب، وليظهرن للناس؛ حتى يعلموه، وذلك: أنّ الله أوجب على: علماء التّوراة، والإنجيل أن يشرحوا للناس ما في هذين الكتابين من الدّلائل الدّالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلا تَكْتُمُونَهُ:}

ولكنّهم كتموه، وتعوضوا عما وجدوا عليه من الخير في الدنيا، والآخرة بالدّون الطفيف، والحظّ الدّنيوي السّخيف، فبئست الصفقة صفقتهم! وبئست البيعة بيعتهم! وفي هذا تحذير لعلماء المسلمين أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم من السّخط، والغضب، والحرمان من رضا الله في الدنيا، والآخرة. والضمير يعود إلى الميثاق، أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 338

{فَنَبَذُوهُ:} طرحوه، والنبذ: الطرح. {وَراءَ ظُهُورِهِمْ} أي: لم يعملوا به، ولم يبينوه، فيكون الضمير عائدا إلى الكتاب أيضا، ومثله قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [101]:{نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ} . {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً:} هو ما يأخذونه من سفلتهم من المآكل، والرّشا.

{فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ:} ذمهم الله تعالى على فعلهم ذلك، ويدخل في هذا الذمّ علماء السّوء من المسلمين؛ لأنهم أهل كتاب أيضا، وهو القرآن، وهو أشرف الكتب. قال قتادة: رحمه الله تعالى: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئا؛ فليعلّمه، وإيّاكم وكتمان العلم؛ فإنّه هلكة، وقال أيضا: مثل علم لا يقال به، كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج، كمثل صنم لا يأكل، ولا يشرب. وقال أيضا: طوبى لعالم ناطق، ومستمع واع، هذا علم علما، فبذله، وهذا سمع خبرا، فقبله، ووعاه. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل علما يعلمه، فكتمه؛ ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» . أخرجه الترمذي.

هذا؛ ولا تنس الاستعارة في النبذ، والاشتراء: شبه عدم التمسك، أو العمل به بالشيء الملقى خلف ظهر الإنسان، باشتراء ثمن قليل ما تعوّضوه من الحطام على كتم آيات، وفي الآية الكريمة من المحسّنات البديعية: الطباق بين ({لَتُبَيِّنُنَّهُ}) و ({لا تَكْتُمُونَهُ}).

هذا وجاء ({وَراءَ}) هنا بمعنى: خلف، ويأتي بمعنى: أمام، وقدّام، قال تعالى في سورة (الكهف):{وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وأيضا قوله تعالى في سورة (المؤمنون):

{وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} كما يأتي بمعنى «بعد» خذ قوله تعالى في سورة هود: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} أي: من بعد إسحاق يعقوب، وقال النابغة الذبياني:[الطويل]

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مطلب

أي: وليس بعد الله جل جلاله، وكذلك قوله تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام:{وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ} أي: من بعده. ومن مجيئه بمعنى:

أمام، وقدّام قول لبيد-رضي الله عنه:[الطويل]

أليس ورائي إن تراخت منيّتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع؟

وأيضا قول سوار بن المضرّب السّعدي، وكان قد هرب من الحجاج حين فرض البعث مع المهلب ابن أبي صفرة لقتال الخوارج:[الطويل]

أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي

وقومي تميم والفلاة ورائيا

وثبت بما تقدّم: أنّه من الأضداد، وهو منصوب على الظرفية المكانية، قال الأخفش:

يقال: لقيته من وراء، فترفعه على الغاية إذا كان غير مضاف تجعله اسما، وهو غير متمكن، كقوله تعالى:{لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} وأنشد قول الشاعر: [الطويل]

ص: 339

إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن

لقاؤك إلاّ من وراء وراء

الإعراب: {وَإِذْ:} الواو: حرف استئناف، ({إِذْ}): ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلّق بفعل محذوف، تقديره: اذكر وقت، وابن هشام في مغني اللبيب يعتبره مفعولا به لهذا المقدّر. {أَخَذَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {مِيثاقَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها.

{لَتُبَيِّنُنَّهُ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، وهو مفهوم من أخذ الميثاق. (تبيننه):

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة، المدلول عليها بالضمة فاعله، ونون التوكيد حرف لا محل له، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم، وجملة:{وَلا تَكْتُمُونَهُ} معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها، ولم تؤكد بنون التوكيد؛ لأنّها للحال، وشرط توكيد الفعل بالنون أن يكون مستقبلا مثل ما قبله.

{لِلنّاسِ:} متعلّقان بما قبلهما. {فَنَبَذُوهُ:} الفاء: حرف عطف. (نبذوه): فعل ماض، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{أَخَذَ اللهُ..} . إلخ فهي في محل جرّ مثلها، {وَراءَ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله، وهو مضاف، وظهورهم مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة.

({اِشْتَرَوْا}): فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به. {ثَمَناً:} مفعول به. {قَلِيلاً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جرّ أيضا.

{فَبِئْسَ:} الفاء: حرف استئناف. (بئس): فعل ماض جامد دال على إنشاء الذمّ. {ما:}

نكرة موصوفة مبنية على السّكون في محل نصب على التّمييز، وفاعل (بئس) ضمير مستتر دلّ عليه هذا التمييز. {يَشْتَرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محلّ نصب صفة (ما) والرابط محذوف، وتقدير الكلام: بئس الشيء شيئا مشترى به أنفسهم.

وإن أردت الزيادة؛ فانظر الآية رقم [90] من سورة (البقرة).

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)}

الشرح: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ:} قرئ بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، أي: لا تحسبن يا محمد الفارحين؛ الذين يفرحون. وقرئ بالياء على الغيبة، يعني: لا يحسبن الذين يفرحون

ص: 340

فرحهم منجيا لهم من العذاب. نزلت الآية الكريمة في المنافقين. وخذ ما يلي: عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، وتخلّوا عنه؛ فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية الكريمة. متّفق عليه. وانظر سورة (التوبة) رقم [81].

وقيل: نزلت في اليهود. وخذ ما يلي: عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنهما:

أن مروان بن الحكم-وكان أميرا على المدينة-قال: لبوّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس، فقل له: لئن كان كلّ منا فرح بما أتى، وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا؛ لتعذبنّ أجمعون!

قال ابن عباس-رضي الله عنهما: مالكم ولهذه الآية؟، إنّما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس-رضي الله عنهما-الآية، والتي قبلها. وقال ابن عباس: سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه إيّاه، وأخبروه بغيره. فخرجوا؛ وقد رأوا: أنّهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا عليه بذلك، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إيّاه ما سألهم عنه. متفق عليه أيضا. وقال محمّد بن كعب القرظي-رضي الله عنه: نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم.

{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا} أي: ويحبّون أن يحمدهم الناس على شيء لم يفعلوه؛ أي:

يحبون أن يقول الناس لهم: علماء، وليسوا بأهل العلم على الحقيقة. وقيل: فرحوا بما أتوا من تبديلهم التوراة، وأحبّوا أن يحمدهم الناس على ذلك. {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} أي:

بمنجاة من العذاب، والمفازة: المنجاة، وتطلق على الأرض الفقر الواسعة الشّاسعة، سمّيت بذلك على جهة التفاؤل، أو لأنّ من قطعها؛ فاز. وقرئ الفعل بفتح التاء، والياء، فيكون الفعل تأكيدا للأول وقرئ بفتح التاء، وضمّ الباء، فيكون المراد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمعنى: لا تظنّهم بمنجاة من العذاب؛ الذي أعدّه الله لهم في الدنيا من القتل، والأسر، وضرب الجزية، والذلّة، والصغار، {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} أي: في الآخرة، وهذه الآية وإن كانت نزلت في اليهود، أو المنافقين، فإنّ حكمها عامّ في كلّ من أحبّ أن يحمد بما لم يفعل من الخير، والصلاح، أو ينسب إلى العلم؛ وليس هو كذل.، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ والفرح لذة في القلب في إدراك المحبوب، ولذا أكثر ما يستعمل في اللّذات البدنية الدنيويّة، وقد ذمّ الله الفرح في مواضع من كتابه، كقوله تعالى في سورة (القصص) رقم [76]:

{لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} رقم [10] من سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، ولكنّه مطلق، فإذا قيد الفرح؛ لم يكن ذمّا، كقوله تعالى في هذه السورة في حقّ الشهداء:{فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} وقال تعالى:

ص: 341

{فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} رقم [58] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام. وقال جلّ ذكره في سورة (الروم) رقم [4 و 5]:{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ} .

الإعراب: {لا:} ناهية جازمة. {تَحْسَبَنَّ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محلّ جزم ب ({لا}) الناهية، والفاعل مستتر تقديره:«أنت» . وهذا على فتح الباء، وأمّا على ضمّها؛ فالفاعل واو الجماعة، وهي محذوفة دلّ عليها الضمّة على الباء قبلها، ويكون علامة الجزم حذف النّون؛ لأنه من الأفعال الخمسة. و {الَّذِينَ:} هو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، دلّ عليه ما بعده، تقديره: بمفازة، وأما على قراءة الياء، فالذين هو الفاعل، والمفعولان محذوفان، اكتفاء بمفعولي الفعل الآتي، ومنه قول الكميت بن زيد الأسدي، وهو الشاهد رقم [1] من كتابنا:«فتح رب البريّة» : [الطويل]

بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة

ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب

{يَفْرَحُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء.

{أَتَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء أتوه. ({يُحِبُّونَ}): مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أن يحمدوا: فعل مضارع منصوب بأن، وعلامة نصبه حذف النون، وهو مبنيّ للمجهول، والواو نائب فاعله، والمصدر المؤول منهما في محل نصب مفعول به. {بِما:}

متعلقان بما قبلهما، و (ما) مثل سابقتها. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَفْعَلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وعلامة جزمه

إلخ، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء لم يفعلوه، {فَلا:} الفاء: حرف عطف. أو هي صلة على اعتبار الفعل بعدها بدلا من السابق. {تَحْسَبَنَّهُمْ:} إعرابه مثل إعراب سابقه.

{بِمَفازَةٍ:} متعلّقان به، وهما في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي بدل منها، لا محلّ لها على الاعتبارين. {مِنَ الْعَذابِ:} متعلقان ب (مفازة) أو:

بمحذوف صفة لها. {وَلَهُمْ:} الواو: واو الحال. ({لَهُمْ}): جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {أَلِيمٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب، والرابط: الواو، والضمير.

{وَلِلّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}

الشرح: {وَلِلّهِ مُلْكُ..} . إلخ أي: ملكا، وخلقا، وعبيدا، وفي كثير من الآيات:{وَما بَيْنَهُما} أي: الموجود بين السماء، والأرض، من أفلاك، وكواكب في السماء، وما على

ص: 342

الأرض من جبال، وأنهار، وبحار

إلخ، فكل ذلك ملك لله تعالى، لا يشركه فيه أحد، وما يملكه الإنسان في هذه الدنيا الفانية، فإنما هو له ملك في الظاهر، قد منحه الله له ليتمتع به على وجه الوكالة والأمانة، فهنيئا لمن أحسن الوكالة، وويل لمن قصر في الوكالة، وخان في الأمانة.

{وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر على كلّ شيء لا يعجزه شيء، فاعبدوه، ولا تخالفوه، واحذروا غضبه، ونقمته، فإنّه العظيم الّذي لا أعظم منه، القدير الّذي لا أقدر منه.

الإعراب: {وَلِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على سابقه، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها من الإعراب. {وَاللهُ:} مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان بقدير بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلهما لا محل لها مثلها.

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاِخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)}

الشرح: {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [2/ 164]{اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:} انظر الآية رقم [2/ 51] والمراد باختلافهما ما يحصل فيهما من الزيادة والنقصان تبعا لفصول السنة كما هو معروف. {لَآياتٍ:} لدلائل واضحة على وجود الصانع، ووحدته، وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الوهم، والحس، كما سبق في الآية رقم [2/ 164] ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية؛ لأن مناط الاستدلال هو التغيير، وهذه متعرضة لجميع أنواعه. {لِأُولِي الْأَلْبابِ:} انظر الآية رقم [2/ 178].

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي خَلْقِ} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. و {خَلْقِ:}

مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وقال الجمل: الخلق: بمعنى المخلوق، إذ الآيات التي تشاهد إنما هي في المخلوق الذي هو السموات والأرض، وحينئذ فالإضافة بيانية. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على سابقه. {وَاخْتِلافِ:}

معطوف على: {خَلْقِ:} وهو مضاف، و {اللَّيْلِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، {وَالنَّهارِ:} معطوف على الليل. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم ({إِنَّ}) مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِأُولِي:} متعلقان بمحذوف صفة: (آيات) وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (أولي): مضاف، و {الْأَلْبابِ:} مضاف إليه، وجملة:{إِنَّ فِي خَلْقِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

ص: 343

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ (191)}

الشرح: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ..} . إلخ. أي: يذكرون الله دائما على جميع الحالات، قائمين، وقاعدين، ومضطجعين، وماشين، وراكبين. وقيل: معناه يصلّون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين-رضي الله عنه-لمّا أصيب بالبواسير:«صلّ قائما، فإن لم تستطع؛ فقاعدا، فإن لم تستطع؛ فعلى جنب» . أخرجه الشيخان في الصّحيحين، ولا دليل في الآية الكريمة للّذين يذكرون الله قياما، وهم يصفّقون، ويأتون بحركات، ويتكلّمون بكلمات ليست من الدّين في شيء. انظر ما نقلته عن القرطبي في سورة (الأنفال) رقم [2] و [35] تجد ما يسرّك.

هذا؛ وإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر لنا ألفاظا، ورغّبنا بذكر الله فيها، لا ما ينطق به هؤلاء المبتدعة.

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرّحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . أخرجه الخمسة ما عدا أبا داود.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه، وعن سمرة بن جندب-رضي الله عنه-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أحبّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر. لا يضرّك بأيّهنّ بدأت» . رواه مسلم، وغيره.

وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: أنّ عبدا من عباد الله قال: «يا ربّ لك الحمد، كما ينبغي لجلال وجهك، ولعظيم سلطانك، فعضّلت بالملكين، فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السّماء، فقالا: يا ربنا! إنّ عبدك قد قال مقالة، لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله-وهو أعلم بما قال عبده-: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربّ! إنّه قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتّى يلقاني، فأنا أجزيه بها» . رواه أحمد.

وعن أبي أيوب-رضي الله عنه-قال، قال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صاحب الكلمة؟» فسكت الرّجل، وظن: أنّه قد هجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء يكرهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هو؟ فإنّه لم يقل إلا صوابا» .

فقال الرّجل: أنا قلتها يا رسول الله! أرجو بها الخير، فقال:«والّذي نفسي بيده لقد رأيت ثلاثة عشر ملكا يبتدرون كلمتك أيّهم يرفعها إلى الله تبارك وتعالى» . رواه الطّبراني، وانظر الآية رقم [152] من سورة (البقرة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله عز وجل في كلّ أحيانه.

أخرجه مسلم. وأقول: وفي كلّ حالاته، وحركاته، وسكناته، لكن لا بالتّصفيق، والرقص،

ص: 344

والتّمايل إلى الأمام، والوراء. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه؛ كانت عليه من الله ترة. ومن اضطجع مضجعا، لا يذكر الله فيه؛ كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه؛ إلا كانت عليه من الله ترة» .

أخرجه أبو داود. والتّرة: النقص. وقيل: التّبعة بمعنى المؤاخذة.

{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} وإذا تفكّروا؛ اتعظوا، وإذا اتعظوا؛ آمنوا، وإذا آمنوا؛ عبدوا الله. والتفكّر في صنع الله أعظم عبادة يقوم بها العبد، وقد ورد: لتفكّر ساعة في صنع الله خير من عبادة سنة. وفي رواية عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أفضل من عبادة ستين سنة، وورد تفكّروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله، فإنّه لا تحيط به الفكرة. ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله، فقال:«تفكّروا في الخلق، ولا تفكّروا في الخالق، فإنّكم لا تقدرون قدره» .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «لا عبادة كالتّفكّر» لأنّه المخصوص بالقلب، والمقصود من الخلق. وروي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«بينما رجل مستلق على فراشه؛ إذ رفع رأسه، فنظر إلى السّماء، والنّجوم، فقال: أشهد أنّ لك ربّا، وخالقا! اللهمّ اغفر لي! فنظر الله إليه، فغفر له» .

هذا؛ والفكر: تصرف القلب في طلب الأشياء. وقال صاحب المفردات: الفكر: قوّة مطرقة للعلم إلى العلوم. والتفكّر: جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يكون له صورة في القلب. انتهى. هذا؛ والفكر يؤدّي إلى الوقوف على المعاني المطلوبة من التآنس، والتجانس بين الأشياء، كالزوجين.

وإنّما خصّ السموات، والأرض بالذكر هنا وفي كثير من الآيات؛ لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع {السَّماواتِ} دون ({الْأَرْضِ}) وهي مثلهنّ سبعا بدليل قوله تعالى في سورة الطّلاق:{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ؛} لأنّ طبقاتها مختلفة بالذّات، متفاوتة في الصّفات، والآثار، والحركات، وقدّمها لشرفها، وعلوّ مكانها، وتقدّم وجودها، ولأنها متعبد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في الأرض. وأيضا: لأنها كالذّكر، فنزول المطر من السّماء على الأرض كنزول المني من الذّكر في رحم المرأة، ولأنّ الأرض تنبت، وتخضرّ بالمطر.

ووحّد الأرض؛ لأنها بجميع طبقاتها جنس واحدة، وهو التراب، والأحجار.

وآية السموات: ارتفاعها بغير عمد من تحتها، ولا علائق من فوقها، ثمّ ما فيها من الشّمس، والقمر، والنجوم السّائرة، والكواكب الزّاهرة، شارقة، وغاربة، نيّرة، وممحوة آية ثانية، وآية الأرض: مدّها، وبسطها، وما فيها من الجبال، والبحار، والمعارف، والجواهر، والأنهار، والأشجار، والثمار، وما بثّ فيها من أجناس المخلوقات، فيعلم العباد حينئذ: أنّ لهما خالقا مدبّرا حكيما؛ لأن عظم آثاره، وأفعاله تدلّ على عظم خالقها، كما قيل:[المتقارب]

ص: 345

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

{رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً} أي: يقولون: ربنا ما خلقت هذا خلقا باطلا بغير حكمة، بل خلقته لحكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلّفين، وأدلّة لهم على معرفتك، وتحثّهم على طاعتك؛ لينالوا الحياة الأبدية، والسّعادة السّرمدية في جوارك.

{سُبْحانَكَ:} تنزيها لك عن جميع المعايب، والنقائص، و (سبحان): اسم مصدر. وقيل:

مصدر، مثل: غفران. وليس بشيء؛ لأن الفعل «سبّح» بتشديد الباء، والمصدر تسبيح، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا منصوبا بإضمار فعله، مثل: معاذ الله، وقد أجري على التّسبيح، بمعنى التنزيه على الشّذوذ في قول الأعشى:[السريع]

قد قلت لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

وتصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار، والجهل بحقيقة الحال، ولذلك جعل مفتاح التوبة في قوله تعالى، حكاية عن قول موسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} وقد نزّه الله ذاته في كثير من الآيات تنزيها يليق بجلاله، وعظمته. وجملة القول فيه: هو اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكّن؛ لأنّه لا يجري بوجوه الإعراب، من رفع، وجرّ، ولا تدخل عليه الألف، واللام، ولم يجئ من لفظه فعل، وذلك مثل: قعد القرفصاء، ولم ينصرف؛ لأن في آخره زائدتين: الألف والنون، ومعناه: التنزيه، والبراءة لله-عز وجل-من كلّ نقص، فهو ذكر لله تعالى، لا يصلح لغيره، والعامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه، لا من لفظه؛ إذ لم يجر له فعل من لفظه، وذلك مثل: قعد القرفصاء، فالتقدير عنده: أنزّه الله تنزيها، فوقع:«سبحان الله» مكان: «تنزيها لله» . وانظر الإعراب.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح، وفيه أوجه: الأول: في محل جر بدلا من: (أولي الألباب) أو صفة. الثاني: في محل نصب بفعل محذوف، التقدير: أمدح، أو أعني. الثالث: في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، وعليه؛ فالجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {يَذْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {قِياماً:} حال من واو الجماعة، وهو مصدر بمعنى: قائمين. {وَقُعُوداً:} معطوف عليه، وهو بمعنى: قاعدين. {وَعَلى جُنُوبِهِمْ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا، معطوف على ما قبله، التقدير: ومضطجعين على جنوبهم. والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَيَتَفَكَّرُونَ} معطوفة على جملة الصّلة، لا محلّ لها مثلها. {فِي خَلْقِ:} متعلقان به، و {خَلْقِ:} مضاف، و {السَّماواتِ:} مضاف إليه، وانظر الآية السّابقة.

ص: 346

{رَبَّنا:} منادى، حذف منه أداة النداء، ونا في محل جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {ما:} نافية. {خَلَقْتَ:} فعل، وفاعل. {هذا:} الهاء: حرف تنبيه، لا محلّ له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {باطِلاً:}

حال من اسم الإشارة، وهي حال لازمة لا يستغنى عنها؛ إذ لو حذفت؛ للزم نفي الخلق، وهو لا يصحّ. انظر الحال، وأنواعها في الآية رقم [88]. أو هو مفعول لأجله، أي: للباطل. أو هو منصوب بنزع الخافض. انتهى جمل نقلا عن كرخي. وقيل: هو صفة مصدر محذوف، التقدير:

ما خلقت هذا خلقا باطلا. وقيل: هو على المفعول الثاني، ويكون (خلق) بمعنى:«جعل» والكلام في محلّ نصب لقول محذوف، يقع حالا، التقدير: قائلين: ربنا ما خلقت

إلخ، والحال من واو الجماعة.

{سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، كما رأيت في الشرح، والكاف في محل جرّ بالإضافة، من إضافة المصدر أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا، والجملة الحاصلة منه، ومن فعله مستأنفة لا محلّ لها.

{فَقِنا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر. (قنا): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. و:

(نا) مفعول به أول، وانظر شرح هذا الفعل في الآية رقم [16]. {عَذابَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف، و {النّارِ:} مضاف إليه، وجملة:{فَقِنا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم، التقدير: فإذا نزهناك، وعظمناك؛ فقنا

إلخ.

{رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)}

الشرح: {رَبَّنا:} انظر الآية رقم [8]. {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أي: أذللته، وأهنته. وقال المفضل: أهلكته، وأنشد قول الشّاعر:[الكامل]

أخزى الإله مع الصّليب عبيده

اللابسين قلانس الرّهبان

والإخزاء هو: الإذلال، قال ذو الإصبع العدواني، وهو الشاهد رقم [260] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني

ومنه قول حسّان بن ثابت-رضي الله عنه، يخاطب به من شجّ وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد:[الطويل]

فأخزاك ربّي يا عتيب بن مالك

ولقّاك قبل الموت إحدى الصّواعق

ص: 347

مددت يمينا للنّبيّ تعمّدا

ودمّيت فاه قطّعت بالبوارق

وهو على هذا من الرّباعي، كما في الآية الّتي بين أيدينا. وهو من الثلاثي: خزي، يخزى، خزاية، بمعنى: استحيا، وخجل. قال نهشل بن حريّ الدّارميّ من قصيدة يرثي بها أخاه مالكا، وكان قد قتل مع الإمام علي-رضي الله عنه-بصفّين:[الطويل]

أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه

وهذا هو الشاهد رقم [324]: من كتابنا المذكور، وقال ذو الرمة:[البسيط]

خزاية أدركته بعد جولته

من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب

ويفهم من الآية الكريمة: أنّ العذاب الرّوحاني أفظع من العذاب الجسماني؛ لأنّ الإخزاء هو الذلّ، كما رأيت، ولا يكون إلا من مؤثّرات الرّوح، لا البدن. {وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ:}

من شفعاء، وأعوان، والظالمون: هم الذين ظلموا أنفسهم بالشّرك، أو بارتكاب الكبائر، وماتوا قبل أن يتوبوا. وقد وضع المظهر موضع المضمر؛ للدّلالة على أنّ ظلمهم تسبب لإدخالهم النار، وانقطاع النّصرة عنهم في الخلاص. والأحاديث الشّريفة تثبت وقوعها لهم. {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

الإعراب: {رَبَّنا:} انظر الآية السابقة. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها.

{مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، أو في محل نصب مفعول به مقدّم، وعلى الأوّل؛ فالمفعول الأول لفعل الشرط محذوف، التقدير: تدخله. {تُدْخِلِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {النّارَ:} يقال في هذا ما رأيته في مفعول:

{تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} في الآية رقم [142]. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَخْزَيْتَهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد. هذا؛ وخبر المبتدأ الذي هو: {مَنْ} مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، و {مَنْ} ومدخولها على الوجهين المعتبرين فيها في محل رفع خبر:(إنّ) والكلام كلّه في محل نصب مقول القول لقول محذوف واقع حالا، كما رأيت في الآية السابقة، وهو أولى من اعتباره كلاما مستأنفا.

{وَما:} حرف استئناف. ({ما}): نافية. {لِلظّالِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مَنْ:} حرف جر صلة. {أَنْصارٍ:} مبتدأ مؤخّر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وهناك من يجيز اعتبار أنصار فاعلا بالجار والمجرور قبله، لاعتماده على النّفي، ولم يذكر المتعلّق، فهما متعلقان بفعل

ص: 348

محذوف، تقديره: وما يوجد للظالمين أنصار. هذا؛ وإن اعتبرت ({ما}): نافية حجازية تعمل عمل ليس؛ فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب خبرها مقدّما، و {أَنْصارٍ} اسمها مؤخرا، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية، وهي في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو فقط، أو هي مستأنفة، أو معترضة اعتراضا تذييليّا في آخر الكلام، لا محلّ لها على الاعتبارين.

{رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)}

الشرح: {رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-وأكثر المفسّرين: المنادي هو محمد صلى الله عليه وسلم. ويدلّ على صحة هذا القول قوله تعالى في آخر سورة (النّحل): {اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ..} . إلخ. وقوله جلّ شأنه في سورة (الأحزاب): {وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ..} . إلخ، وقال محمّد بن كعب القرظي-رضي الله عنه:

المنادي هو القرآن؛ إذ ليس كلّ أحد لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم. ووجه هذا القول: أنّ كل واحد يسمع القرآن، ويفهمه، فإذا وفقه الله تعالى للإيمان به؛ فقد فاز به، وذلك؛ لأنّ القرآن مشتمل على الرّشد، والهدى، وأنواع الدلائل الدّالة على الوحدانية، فصار كالدّاعي إليها.

{أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا:} فصدقنا. {رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا:} كبائر ذنوبنا. {وَكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا} أي: صغائر ذنوبنا. هذا؛ وجمع بين غفران الذنوب، وبين تكفير السّيئات؛ لأنّ غفران الذنوب بمجرّد الفضل، وتكفير السّيئات بمحوها بالحسنات. أو الأوّل في الكبائر، والثّاني في الصغائر، فلا تكرار، فلا يرد السّؤال: كيف ذكر الثاني مع أنّه معلوم من الأول؟ {وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ} أي: اقبض أرواحنا في جملة الأبرار، أي: اجعلنا منهم، أو محشورين معهم، والأبرار واحدهم: برّ وبارّ، وهو من يفعل أفعال البرّ، أي: الخير، والمراد بهم الأنبياء، والصدّيقون، والصّالحون. وفيه تنبيه على أنّهم يحبّون لقاء الله، ومن أحبّ لقاء الله؛ أحبّ الله لقاءه.

الإعراب: {رَبَّنا:} مثل سابقه. {إِنَّنا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): في محل نصب اسمها.

{سَمِعْنا:} فعل، وفاعل. {مُنادِياً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). والكلام كله في محل نصب مقول القول لقول محذوف، كما رأيت في الآيتين السابقتين. {يُنادِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{مُنادِياً} .

{لِلْإِيمانِ:} متعلقا بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{مُنادِياً} أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر في: {مُنادِياً} . قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فأيّة فائدة في الجمع بين (المنادي) و (ينادي) قلت: ذكر النّداء مطلقا، ثمّ مقيّدا بالإيمان. تفخيما لشأن

ص: 349

المنادي؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان. ونحوه: قولك: مررت بهاد يهدي للإسلام، وذلك: أنّ المنادي إذا أطلق؛ ذهب الوهم إلى مناد للحرب، وغير ذلك انتهى.

{أَنْ:} حرف تفسير؛ لأنّها سبقت بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وبعضهم يعتبرها مصدرية. {آمِنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{بِرَبِّكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جرّ بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية مفسّرة لا محل لها، وعلى اعتبار:({أَنْ}) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محلّ جرّ بحرف جرّ محذوف، التقدير: بأن آمنوا، أي: بالإيمان، والجارّ، والمجرور متعلّقان بما قبلهما، والأول أقوى معنى، وأتمّ سبكا. {فَآمَنّا:} الفاء:

حرف عطف. (آمنا): فعل، وفاعل. والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:

{سَمِعْنا..} . إلخ.

{رَبَّنا:} توكيد لما قبلها. {فَاغْفِرْ:} الفاء: هي الفصيحة. (اغفر): فعل دعاء، والفاعل تقديره: أنت. {لَنا:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {ذُنُوبَنا:} مفعول به، و (نا) في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان الإيمان حاصلا منّا؛ فاغفر

إلخ، والتي بعدها معطوفة عليها. {عَنّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِنا:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم، (نا): في محل جر بالإضافة. {وَتَوَفَّنا:} فعل دعاء مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو «الألف» والفاعل مستتر تقديره: أنت، و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف حال من (نا) التقدير: توفنا أبرارا مع الأبرار. و {مَعَ:} مضاف، و {الْأَبْرارِ:} مضاف، ومثل الآية الكريمة قول النابغة في حذف متعلّق الظرف:[الوافر]

كأنّك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ

أي: كأنّك جمل من جمال بني أقيش. انتهى مكي.

{رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)}

الشرح: {رَبَّنا وَآتِنا:} أعطنا، وامنحنا. {ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ} أي: على ألسنة رسلك من الفضل، والرّحمة، والعزّة، والنّصر، والتأييد، والمعونة، ودخول الجنّة للمطيعين. وهذا السؤال ليس من خوف الخلف في حقّه تعالى، بل هو مخافة ألا يعمل الموعودون بما أمر الله به من قصور في الامتثال، أو مخافة من سوء العاقبة، والعياذ بالله!. {وَلا تُخْزِنا} أي: لا تعذبنا،

ص: 350

ولا تفضحنا، ولا تهنّا، ولا تمقتنا يوم القيامة. {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ} أي: بإثابة المؤمن المطيع، وإجابة الدّاعي، وتحقيق النصر، وتوفير العزّة، والكرامة للمؤمنين. وفيه: أنّهم دعوا بهذا الدّعاء على جهة العبادة، والخضوع، والتوكيد لما تقدّم، كقوله تعالى في آخر سورة (الأنبياء):{قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} ومعلوم: أنه سبحان لا يقضي، ولا يحكم إلا بالحقّ. هذا وانظر الوعد في الآية رقم [51]: من سورة (البقرة) فإنّه جيد، والحمد لله!

الإعراب: {رَبَّنا:} تقدم إعرابها. ({آتِنا}): فعل دعاء مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت، و (نا) مفعول به أوّل.

{ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنيّة على السّكون في محل نصب مفعول به ثان.

{وَعَدْتَنا:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: آتنا الذي، أو: شيئا وعدتناه. {عَلى رُسُلِكَ:} متعلقان بما قبلهما ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال؛ أي: منزلا، أو محمولا على لسان رسلك، والكاف في محل جرّ بالإضافة، وجملة:{وَآتِنا..} . إلخ معطوفة على جملة: (اغفر

) إلخ لا محلّ لها مثلها. {وَلا تُخْزِنا:} الواو: حرف عطف. لا ناهية جازمة. تخزنا: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف حرف العلة

إلخ، والفاعل تقديره: أنت، و (نا) مفعول به.

{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {إِنَّكَ:} حرف مشبّه بالفعل، والكاف اسمه، والجملة الفعلية:{لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ} في محل رفع خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للدّعاء لا محلّ لها، وجملة الكلام في محل نصب مقول القول.

{فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)}

الشرح: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ:} أي: فأجاب الله دعاءهم، وأعطاهم سؤلهم. {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ} أي: لا أحبط، ولا أبطل عملكم أيها المؤمنون، بل أثيبكم عليه. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} أي: لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا كان، أو أنثى. فعن أمّ سلمة-رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله! ما أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله تعالى:

{أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ..} . إلخ. أخرجه الترمذيّ، وغيره. {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} يعني: في

ص: 351

الدّين، والنصرة، والمولاة، والأحكام، والطاعة لله، وفي العقاب أيضا على الإساءة. وفي قوله تعالى:{مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى} طباق وهو من المحسّنات البديعية.

{فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا..} . إلخ: يعني: المهاجرين الذين هجروا أوطانهم، وأهليهم، وآذاهم المشركون بسبب إسلامهم، ومتابعتهم للرّسول صلى الله عليه وسلم. ومعنى {فِي سَبِيلِي:} في طاعتي ودينين وابتغاء مرضاتي، وهم المهاجرين؛ الذين أخرجهم المشركون من مكّة، فهاجروا إلى الحبشة، ثمّ إلى المدينة.

{وَقُتِلُوا} أي: أعداء الله. {وَقُتِلُوا} أي: استشهدوا في سبيل الله، وجهاد الكفار.

{لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ:} لأمحونّ عنهم ذنوبهم، ولأغفرنّها لهم. {وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ} يعني: الذي أعطاهم الله إيّاه من تكفير سيئاتهم، وإدخالهم الجنة، ذلك ثواب، وجزاء من فضل الله، وإحسانه إليهم. {وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ:} هذا تأكيد لكون الثواب الذي أعطاهم من فضله وكرمه. وأضافه إليه، ونسبه سبحانه إليه؛ ليدلّ على أنّه عظيم؛ لأنّ العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا، كما قال الشاعر:[الخفيف]

إن يعذّب يكن غراما وإن يع

ط جزيلا فإنّه لا يبالي

فقد روى ابن جرير الطّبري بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه-قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل ثلّة تدخل الجنّة فقراء المهاجرين، الّذين يتّقى بهم المكاره، إذا أمروا؛ سمعوا، وأطاعوا، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان؛ لم تقض له حتّى يموت، وحاجته في صدره، فإنّ الله يدعو الجنّة يوم القيامة، فتأتي بزخرفها، وزينتها، فيقول: أين عبادي الّذين قاتلوا في سبيلي، وقتلوا، وأوذوا في سبيلي، وجاهدوا في سبيلي، أدخلوا الجنّة! فيدخلونها بغير حساب، ولا عذاب، فتأتي الملائكة، فيسجدون، ويقولون: ربّنا نحن نسبّح لك اللّيل، والنّهار، ونقدّس لك، من هؤلاء الّذين آثرتهم علينا، فيقول الرّبّ عز وجل: هؤلاء عبادي الّذين قاتلوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي! فتدخل عليهم الملائكة من كلّ باب، يقولون لهم: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدّار» . انتهى خازن.

الإعراب: {فَاسْتَجابَ:} الفاء: حرف استئناف. (استجاب): فعل ماض. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَبُّهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. أنّي: حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم في محل نصب اسمها. {لا:} نافية. {أُضِيعُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: أنا. {عَمَلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {عَمَلَ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {عَمَلَ} . {مِنْ ذَكَرٍ:} بدل من قوله.

{مِنْكُمْ} وهو بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة، ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف

ص: 352

صفة ثانية ل: {عَمَلَ} كما يجوز أن يكونا متعلّقين بمحذوف حال من الضمير المستتر في:

{مِنْكُمْ} التقدير: استقرّ منكم كائنا من ذكر. {أَوْ:} حرف عطف. {أُنْثى:} معطوف على ما قبله مجرور مثله، وعلامة جرّه كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر، وأنّ، واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محلّ جرّ بحرف جرّ محذوف، التقدير: بأنّي، أي: بكوني. والجار والمجرور متعلقان بالفعل استجاب، هذا وقرئ بكسر الهمزة على تضمين استجاب معنى القول، فتكون الجملة الاسمية، في محلّ نصب مفعول به.

{بَعْضُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {مِنْ بَعْضٍ:} متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية معترضة. وقيل: هي مستأنفة جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرّجال في الثواب الذي وعد الله به عباده العاملين، وجوّز أبو البقاء اعتبارها حالا، أو صفة.

{فَالَّذِينَ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{هاجَرُوا} صلته، والجمل بعدها كلّها معطوفة عليها، وأفعالها مبنيّة على الضمّ مع ملاحظة المبني للمعلوم، والمبني للمجهول منها، والواو فاعل، أو نائب فاعل. {فِي سَبِيلِي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{لَأُكَفِّرَنَّ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: وعزتي، وجلالي! (أكفرن) فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهي حرف لا محل له، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنا، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب للقسم المحذوف. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِهِمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والقسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، ووقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدإ قاله ابن مالك، ومنعه ثعلب، ومثله قوله تعالى في سورة (النساء) رقم [72]:{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} ومثل ذلك قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [756]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الكامل]

جشأت فقلت اللّذ خشيت ليأتين

وإذا أتاك فلات حين مناص

وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] من سورة (العنكبوت) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق. {جَنّاتٍ:} مفعول به ثان، ويقال فيه أيضا ما رأيته في مفعول قوله تعالى:{تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} في الآية رقم [142]، فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة، وجملة:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} في محل جرّ صفة: {جَنّاتٍ} .

{ثَواباً:} مفعول مطلق مؤكّد لقوله: ({لَأُدْخِلَنَّهُمْ}) لأنّ المعنى: لأثيبنهم ثوابا. وهذا عند البصريين. وقال الكسائي: انتصب على القطع، أي: عامله محذوف من لفظه. وقال الفراء:

ص: 353

على التفسير؛ أي: هو تمييز. {مِنْ عِنْدِ اللهِ:} متعلقان ب {ثَواباً} أو بمحذوف صفة له، و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {وَاللهُ:} الواو: واو الحال. ({اللهِ}): مبتدأ. {عِنْدَهُ:}

ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، والهاء في محل جر بالإضافة. {حُسْنُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الأول. هذا وإن اعتبرت الظرف متعلقا بمحذوف خبر المبتدأ، و {حُسْنُ} فاعلا بمتعلقه فهو جيد لا غبار عليه، والجملة الاسمية:{وَاللهُ..} . إلخ في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة اللفظ الكريم، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ لا محل لها. و {حُسْنُ} مضاف، و {الثَّوابِ} مضاف إليه من إضافة الصّفة للموصوف؛ إذ الأصل: الثواب الحسن.

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196)}

الشرح: روي: أنّ بعض المسلمين كانوا يرون المشركين في رخاء، ولين عيش، فيقولون:

أعداء الله فيما نرى من الخير، والنّعمة، والرّفاهية؛ ونحن نهلك من الجوع، والجهد! فنزلت الآية الكريمة، ومثلها قوله تعالى في سورة (غافر):{ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} وقال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ} (70) والخطاب في الآية الكريمة لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، كيف لا؟ وقد قال له في سورة (الحجر) وسورة (طه):{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ..} . إلخ، والمعنى: لا يغرنّك أيّها السامع، ولا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السّعة، ولا تغترر بظاهر ما ترى من تبسّطهم في مكاسبهم، ومتاجرهم، ومزارعهم

إلخ.

الإعراب: {لا:} ناهية. {يَغُرَّنَّكَ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محل له في محل جزم ب {لا} الناهية، والكاف مفعول به. {تَقَلُّبُ} فاعله، وهو مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول لا محلّ لها. {فِي الْبِلادِ:} متعلقان بالمصدر: {تَقَلُّبُ} .

{مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)}

الشرح: {مَتاعٌ قَلِيلٌ:} انظر الآية رقم [185] وسمّاه الله: قليلا؛ لأنّه فان، وكلّ فان قليل؛ وإن كان كثيرا لقصر مدته، أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين في الآخرة. وفي صحيح الترمذي عن المستورد الفهري-رضي الله عنه-قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الدّنيا في الآخرة، إلاّ

ص: 354

كما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟». {وَبِئْسَ الْمِهادُ:} انظر الآية رقم [12].

هذا وبيّن الله تعالى في كثير من الآيات: أنّ إعطاء الله الدّنيا للكافرين، إنّما هو إمهال لا إهمال، واستدراج لا إكرام، قال تعالى في سورة (المؤمنون):{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [178].

وعن عمر-رضي الله عنه-قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو في مشربة، وإنّه لعلى حصير، ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، وعند رجليه قرظ مصبور، وعند رأسه أهب معلّقة، فرأيت الحصير قد أثر في جنبه، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: يا رسول الله! إنّ كسرى، وقيصر فيما هما فيه؛ وأنت يا رسول الله! تنام على حصير قد أثّر في جنبك؟! قال:«أما ترضى أن تكون لهما الدّنيا، ولنا الآخرة» . رواه البخاريّ، ومسلم. وفي رواية عن ابن مسعود أطول من هذا؛ وفيه:«ما أنا في الدّنيا إلاّ كراكب استظلّ تحت شجرة، ثمّ راح، وتركها» . المشربة: الغرفة.

الإعراب: {مَتاعٌ:} خبر لمبتدإ محذوف؛ أي: تقلّبهم متاع. {قَلِيلٌ:} صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، أو هي في محل نصب حال من:{تَقَلُّبُ الَّذِينَ} والرابط: المبتدأ المقدّر. {ثُمَّ:} حرف عطف. {مَأْواهُمْ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله في المعنى ما هو خبر عنه وهو:{جَهَنَّمُ} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {وَبِئْسَ الْمِهادُ:} تقدم إعرابها كثيرا، والمخصوص بالذمّ محذوف، التقدير: هي جهنم.

{لكِنِ الَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)}

الشرح: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ:} فيما أمرهم به من العمل بطاعته، واتّباع مرضاته، واجتناب ما نهاهم عنه من معاصيه. هذا؛ ويقرأ بتشديد نون ({لكِنِ}). {لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها:} تقدّم شرح هذه الكلمات كثيرا. {نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ:} النّزل: ما يعدّ للنازل، أي: للضيف من طعام، وشراب، وإكرام. قال أبو الشعراء الضبّي، وهو على سبيل الاستعارة التهكميّة:[الطويل]

وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

هذا؛ وذكر أبو البقاء رحمه الله تعالى: أنه يجوز أن يكون جمع: نازل، كما قال الأعشى في معلقته:[البسيط]

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل

ص: 355

هذا؛ ويقرأ («نزل») بضم الزاي وسكونها، مثل: عسر، وحلم

إلخ قال عيسى بن عمر -رحمه الله تعالى-: كل اسم على ثلاثة أحرف يجوز ضمّ ثانيه، وسكونه.

الإعراب: {لكِنِ:} حرف استدراك مهمل لا عمل له على تخفيفه، وحرف مشبّه بالفعل على تشديده. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، أو هو في محل نصب اسم:(لكنّ) على تشديده. {اِتَّقَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة، لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف لتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {رَبَّهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{جَنّاتٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{الَّذِينَ} . هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر: {الَّذِينَ} و {جَنّاتٌ} فاعل بمتعلقه؛ فالتقدير: يوجد لهم جنات، وجملة:{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ:} في محل رفع صفة: {جَنّاتٌ،} وأجاز مكي اعتبارها في محل نصب حال من متعلّق: {لَهُمْ} . {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة وقال مكي: حال من الضمير المخفوض في: {لَهُمْ} وهي حال مقدّرة منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وفاعله مستتر تقديره: هم. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِدِينَ} .

{نُزُلاً:} مفعول مطلق مؤكد، فعله محذوف، التقدير: يقال لهم: انزلوها نزلا. وقيل:

حال. وقيل: تمييز. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان ب: {نُزُلاً} أو بمحذوف صفة له، و {عِنْدِ:}

مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{لكِنِ الَّذِينَ} مستأنفة لا محلّ لها. {وَما:}

الواو: واو الحال. ({ما}): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {عِنْدِ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {عِنْدِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {خَيْرٌ:}

خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، وإعادة الاسم الكريم للتفخيم، والتعظيم. {لِلْأَبْرارِ:} متعلقان ب {خَيْرٌ} .

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)}

الشرح: قال ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك-رضي الله عنهم: نزلت في النّجاشي ملك الحبشة، واسمه: أصحمة، ومعناه في العربية: عطية، وذلك: أنّه لمّا مات؛ نعاه جبريل-عليه السلام-لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:

«اخرجوا، فصلّوا على أخ لكم، مات بغير أرضكم النّجاشيّ» . فخرج إلى البقيع، وكشف له إلى

ص: 356

أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي، فصلى عليه، وكبّر أربع تكبيرات، واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على علج حبشيّ نصرانيّ، لم يره قط، وليس على دينه، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة. وبهذا استدلّ الشّافعي-رضي الله عنه-على صلاة الغائب.

وقيل: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الرّوم كانوا على دين عيسى، عليه السلام، فآمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصدّقوه. وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام، وأصحابه. وقيل: نزلت في جميع مؤمني أهل الكتاب. وهذا القول أولى؛ لأنه لمّا ذكر أحوال الكفار، وأحوال أهل الكتاب، وأنّ مصيرهم إلى النار؛ ذكر حال من آمن من أهل الكتاب، وأنّ مصيرهم إلى الجنّة.

{خاشِعِينَ لِلّهِ} يعني: خاضعين لله، متواضعين له غير مستكبرين. وانظر الخشوع في الصّلاة في أول سورة (المؤمنون) فإنّه جيد، والحمد لله! {لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً} يعني: لا يغيّرون كتبهم، ولا يحرّفونها، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرئاسة، والمآكل، والرّشا، كما يفعله غيرهم من علماء اليهود، وسمّاه الله: قليلا؛ لأنه لا بقاء له، ولا قيمة له بجانب نعيم الآخرة الدّائم.

{أُولئِكَ:} إشارة إلى من هذه صفته من أهل الكتاب. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ:} لهم ثواب أعمالهم؛ التي عملوها لله في الدنيا، مدخر لهم عند الله، يوفّيهم إيّاه يوم القيامة. والعنديّة عنديّة تكريم، وتشريف، لا عندية مكان. إن الله سريع الحساب: انظر الآية رقم [19] وخذ ما يلي:

فعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لهم أجران:

رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيّه، وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعبد المملوك إذا أدّى حقّ الله، وحقّ مواليه، ورجل كانت عنده أمة يطؤها، فأدّبها، فأحسن تأديبها، وعلّمها، فأحسن تعليمها، ثمّ أعتقها، وتزوّجها، فله أجران». متفق عليه.

الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: حرف استئناف. {مِنْ أَهْلِ} متعلقان بمحذوف خبر: ({إِنَّ}) تقدّم على اسمها. و {أَهْلِ:} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {لَمَنْ:} اللام: لام الابتداء.

({مِنْ}): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم ({إِنَّ}) مؤخر، وانظر الآية رقم [110]: وقس هذه عليها. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: هو. {بِاللهِ:}

متعلقان به، والجملة الفعلية صلة:({مِنْ}) لا محل لها، والجملة الاسمية:({إِنَّ مِنْ..}.) إلخ مستأنفة لا محل لها. ({ما}): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر معطوفة على لفظ الجلالة. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والتي بعدها معطوفة عليها. {خاشِعِينَ:} حال من فاعل: {يُؤْمِنُ} المستتر، وجمعه باعتبار المعنى، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وفاعله مستتر فيه. {لِلّهِ:} متعلقان

ص: 357

ب {خاشِعِينَ} . {لا:} نافية. {يَشْتَرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {بِآياتِ:}

متعلقان به، (آيات): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، {ثَمَناً:} مفعول به. {قَلِيلاً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل نصب حال أيضا من فاعل:{يُؤْمِنُ} المستتر، فتعدّدت الحال وهي مختلفة إفرادا، وجملة.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {أَجْرُهُمْ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة، والجملة الاسمية في محلّ رفع خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلّقين بمحذوف خبر:{أُولئِكَ} ف: {أَجْرُهُمْ} يكون فاعلا بمتعلق الجار والمجرور، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ} مستأنفة لا محل لها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب {أَجْرُهُمْ} لأنه مصدر. و {عِنْدَ:} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء في محل جرّ بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{اللهِ:} اسمها. {سَرِيعُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْحِسابِ} مضاف إليه من إضافة الصفة المشبهة لفاعلها، والجملة الاسمية مستأنفة، أو معترضة في آخر الكلام، لا محلّ لها.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاِتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}

الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [100]{اِصْبِرُوا:} انظر «الصّبر» في الآية رقم [45] من سورة (البقرة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَصابِرُوا:} غالبوا أعداءكم بالصبر على شدائد الحرب، ومنه: مغالبة الشّيطان فيما يأمر به، ومغالبة النفس الأمارة بالسّوء فيما تأمر به. وتخصيصه بالذكر بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدّته. والمصابرة: مكافحة الأعداء، والثبات في الميدان، ومنه قول عنترة:[الطويل]

فلم أر حيّا صابروا مثل صبرنا

ولا كافحوا مثل الّذين نكافح

{وَرابِطُوا:} المرابطة هي: الحراسة، والوقوف في الثغور مترصدين للعدو، ولصدّ هجمات الأعداء والمعتدين، فعن سهل بن سعد-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدّنيا، وما عليها. وموضع سوط أحدكم من الجنّة خير من الدّنيا، وما عليها.

والرّوحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدّنيا وما عليها» متّفق عليه.

وعن فضالة بن عبيد-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كلّ ميّت يختم على عمله إلاّ المرابط في سبيل الله، فإنّه ينمي له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر» . أخرجه أبو داود، والترمذي. وعن عثمان بن عفان-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

ص: 358

«حرس ليلة في سبيل الله، أفضل من ألف ليلة، يقام ليلها، ويصام نهارها» . أخرجه الحاكم.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسّهما النّار:

عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله». أخرجه الترمذيّ.

هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-المرابطة: المداومة في مكان العبادة، وانتظار الصّلاة بعد الصلاة. ويشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويكفّر به الذنوب؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط» . رواه ابن حبّان عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، وأخرجه مسلم، وغيره من رواية أبي هريرة.

الإعراب: ({يا}): أداة نداء. ({أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}): انظر الآية رقم [130]. {اِصْبِرُوا:} فعل أمر، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها، والتي بعدها معطوفة عليها. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ:} تقدّم إعراب مثلها كثيرا. تأمّل، وتدبّر، وربك أعلم، وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.

انتهت سورة آل عمران شرحا، وإعرابا.

فلله الحمد والمنّة، ونسأله الوفاة على الكتاب والسّنّة.

ص: 359