الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة النّساء
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة (النساء) مدنية إلا آية واحدة نزلت في مكّة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي، وهي قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها..} . إلخ، وهي رقم [58]. وهي مائة وخمس وسبعون آية، وثلاث آلاف وخمس وأربعون كلمة، وستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا انتهى. خازن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح: 1 - سمّيت سورة النساء لكثرة ما ورد فيها من الأحكام؛ التي تتعلّق بهنّ بدرجة لم توجد في غيرها من السّور، ولذلك أطلق عليها اسم سورة (النّساء الكبرى) في مقابلة سورة (النساء الصّغرى) التي عرفت في القرآن بسورة (الطلاق).
2 -
قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: إنّ في سورة (النساء) لخمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا، وما فيها:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ،} و {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ} و {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ..} . إلخ، و {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ} و {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً} . رواه ابن جرير.
3 -
{يا أَيُّهَا النّاسُ:} نداء يعمّ بني آدم جميعا، كقوله تعالى في سورة (الأعراب):{يا بَنِي آدَمَ} . {اِتَّقُوا رَبَّكُمُ:} خافوا ربّكم، واحذروا غضبه، وانتقامه؛ إن عصيتموه، وخالفتم أوامره، ونواهيه. {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ:} وهو آدم، عليه ألف صلاة، وألف سلام، وإنّما أنّث {واحِدَةٍ:} على لفظ النفس، وإن كان المراد به آدم، وهو ذكر، كما قال بعضهم:[الوافر]
أبوك خليفة ولدته أخرى
…
وأنت خليفة ذاك الكمال
{وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} يعني: حواء، وذلك: أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-ألقى عليه النّوم، ثمّ خلق حوّاء من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو قصير، فلمّا استيقظ؛ رآها جالسة عند رأسه، فقال لها: من أنت؟ قالت امرأة، قال: لماذا
خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، وأسكن إليك. فمال إليها، وألفها؛ لأنّها خلقت منه. هذا هو المشهور، وتؤيّده الأحاديث الشريفة، ولكن هناك من يتبجّح، ويقول: إن الله خلقها بدون واسطة، يعني: أنّ الله خلقها من تراب، كما خلق آدم، ولهذا يقدّرون مضافا محذوفا، فيقولون:
الأصل من جنسها، أي: من البشر، وهاك قول الشاعر:[الطويل]
هي الضّلع العوجاء لست تقيمها
…
ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى
…
أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنّساء، فإنّ المرأة خلقت من ضلع، وإنّ أعوج ما في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه؛ كسرته، وإن تركته؛ لم يزل أعوج. فاستوصوا بالنّساء» . رواه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما. وروى ابن أبي حاتم عن قتادة، عن ابن عباس-رضي الله عنهما:«خلقت المرأة من الرّجل، فجعلت نهمتها في الرّجل، وخلق الرّجل من الأرض، فجعلت نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم» .
{وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً} أي: نشر، وفرّق من آدم، وحواء خلائق كثيرين ذكورا، وإناثا.
وإنّما وصف الله الرّجال بالكثرة دون النساء؛ لأنّ حال الرّجال أتمّ، وأكمل، وهذا كالتنبيه على أنّ اللائق بحال الرّجال الظهور، والاستشهار، وبحال النّساء الاختفاء والخمول، والواقع والمشهور: أن نسبة الإناث أكثر من الذّكور في كلّ زمان، ومكان. هذا؛ والرّجل مشتق من الرجولة، وهي الشّجاعة، والنّجدة، والمرأة مشتقة من المرء، وهو الرّجل الذي خلقت منه، كما رأيت. {وَاتَّقُوا اللهَ:} كرّره للتأكيد، ولا تنس الطّباق بين:{رِجالاً} و ({نِساءً})
{تَسائَلُونَ بِهِ:} يسأل بعضكم بعضا به، فيقول: أسألك بالله، وقد حذفت منه تاء المضارعة، أصله: تتساءلون، وقرئ بتشديد السّين؛ فأدغمت التاء الثانية في السّين.
{وَالْأَرْحامَ} أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها. ويقرأ بكسر الميم عطفا على الضمير المجرور بالباء، وقد استقبحها كثير من العلماء. قال أبو العباس المبرّد-رحمه الله تعالى-: لو صليت خلف إمام يقرأ: («ما أنتم بمصرخيّ»)، («واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام»)؛ لأخذت نعلي، ومضيت. ومنه قول الشاعر:[البسيط]
فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا
…
فاذهب فما بك والأيّام من عجب
{إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً:} حافظا، أو عالما، أو مطّلعا. هذا؛ و (الأرحام) جمع رحم، وهو القريب من جهة الأب، أو من جهة الأم، وقد عطف الله الأرحام على اسمه تنبيها على مكانتها عنده، كيف لا وقد أمر الله بصلتها في كثير من الآيات، وحذّر من قطعها، وهو الذي يقول في سورة (محمّد) صلى الله عليه وسلم:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ}
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ. والرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على صلة الأرحام، وحذّر من قطعها، وخذ ما يلي:
فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه» . أخرجه البخاري، ومسلم. وعن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الرّحم متعلّقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» . رواه البخاريّ، ومسلم. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال المرحوم سليمان الجمل: ومعلوم: أنّ (كان) في القرآن الكريم على أوجه: بمعنى الأزل، والأبد، وبمعنى المضي المنقطع، وهو الأصل في معناها، وبمعنى الحال، وبمعنى الاستقبال، وبمعنى:«صار» وبمعنى: «ينبغي» وبمعنى: «حضر» أو «وجد» أو «حصل» وترد للتأكيد، وهي الزائدة. انتهى نقلا عن كرخي، ولو قلنا: إنّ «كان» من أفعال الاستمرار، ومعنى:
{إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} كان، ولم يزل كائنا إلى يوم القيامة، وإلى أبد الآبدين في الدّنيا، والآخرة لكان كافيا وافيا.
الإعراب: ({يا}): حرف نداء ينوب مناب «أدعو» أو أنادي. ({أَيُّهَا}): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب ({يا}) وها: حرف تنبيه لا محلّ لها، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنه يجب حينئذ نصب المنادى.
{النّاسُ} بعضهم يعرب هذا، وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أن الاسم الواقع بعد «أيّ» واسم الإشارة إن كان مشتقّا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا؛ فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع، أعني:(أيّ) منصوب محلاّ، وكذا التابع أعني:({النّاسُ}) فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللّفظية، وإنّما أتبعت ضمة البناء مع أنّها لا تتبع؛ لأنها وإن كانت ضمّة بناء؛ لكنّها عارضة، فأشبهت ضمة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده الصبّان؛ لأنه قال: والمتجه وفاقا لبعضهم: أن ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إنّ رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضي للرّفع، وأجيب بأنّ العامل يقدّر من لفظ عامل المتبوع مبنيّا للمجهول، نحو:«يدعى» وهو مع ما فيه من التكلّف يؤدّي إلى قطع المتبوع. وقيل: إن رفع التابع المذكور بناء؛ لأنّ المنادى في الحقيقة هو المحلّى بال، ولكن لمّا لم يمكن إدخال حرف النداء عليه؛ توصّلوا إلى
ندائه ب (أيّ) أي: مع قرنها بحرف التنبيه. وردّه بعضهم بأنّ المراعى في الإعراب اللّفظ، وأنّ الأول منادى، والثاني تابع له.
{اِتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها مبتدأة كالجملة الندائية قبلها. {رَبَّكُمُ:} مفعول به، والكاف في محلّ جرّ بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {رَبَّكُمُ} . {خَلَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ نَفْسٍ:}
متعلقان بما قبلهما. {واحِدَةٍ:} صفة: {نَفْسٍ} وجملة: {وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها:} معطوفة على ما قبلها. وقيل: معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أنشأها، وخلق
…
إلخ. ({بَثَّ}): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} أيضا. {مِنْهُما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {رِجالاً:} مفعول به. {كَثِيراً:} صفة له {وَنِساءً:} معطوف على: {رِجالاً} وحذفت صفته لدلالة الأول عليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي:} إعرابه مثل إعراب سابقه. {تَسائَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها.
{وَالْأَرْحامَ:} بالنصب. فهو على وجهين: أحدهما: أنه معطوف على لفظ الجلالة، والثاني:
أنه معطوف على محل: {بِهِ} لأنهما في محل نصب مفعول به، وقرئ بالجر عطفا على محل الهاء، وهو ضعيف كما رأيت في الشرح، كما قرئ بالرّفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، التقدير:
والأرحام كذلك، وهو ضعيف أيضا. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسم: {إِنَّ} {كانَ:}
فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{اللهَ} . {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.
{رَقِيباً:} خبر: {كانَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، أو هي مستأنفة، أو هي معترضة في آخر الكلام، لا محلّ لها على جميع هذه الوجوه.
الشرح: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ..} . إلخ: نزلت الآية الكريمة في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ اليتيم؛ طلب المال، فمنعه عمّه، فنزلت، فقال العمّ: نعوذ بالله من الحوب الكبير! وردّ المال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من يوق شحّ نفسه، ورجع به-هكذا-فإنّه يحلّ داره» . يعني: جنته. فلمّا قبض الفتى المال؛ أنفقه في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثبت
الأجر، وبقي الوزر». فقيل: كيف يا رسول الله؟! قال: «ثبت الأجر للغلام، وبقي الوزر على والده» . لأنّه كان مشركا.
هذا؛ وإيتاء المال لليتامى: تسليمهم مالهم الّذي كان تحت يد الوصي، أو القيّم، أو القاضي، وسمّاهم الله يتامى باعتبار ما كان؛ أي: الذين كانوا يتامى؛ لأنه لا يتم بعد البلوغ، وكان يقال: يتيم أبي طالب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم استصحابا لما كان. {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ} أي: المال الحرام. {بِالطَّيِّبِ:} بالمال الحلال، وهذا الخطاب لأولياء اليتامى في كلّ زمان، ومكان، فكانوا في الجاهلية، وصدر الإسلام يعمد أحدهم إلى الرديء من ماله، فيبدله بالجيّد من مال اليتيم، ويقولون: اسم باسم، ورأس برأس: فنهاهم الله عن ذلك. ولا تنس الطّباق بين:
{الْخَبِيثَ} و (الطيب).
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} أي: لا تضمّوا أموال اليتامى إلى أموالكم؛ فتختلط فيها، ويحصل الجور، والظلم. وقيل: إنّ {إِلى} بمعنى: مع. {إِنَّهُ كانَ حُوباً:} ذنبا عظيما، والهاء عائدة على المصدر، وهو الأكل المفهوم من ({لا تَأْكُلُوا}). هذا؛ والتحوّب: التحزّن، والصّياح الشّديد، وهو أيضا: التوجّع، قال طفيل:[الطويل]
فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر
…
من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب
هذا؛ واليتامى جمع: يتيم، وهو من فقد أباه، وأمّه، أو فقدهما معا، وقد يغلب أن يكون المراد: من فقد معيله، وهو الأب من بني آدم، والأمّ من الحيوانات والطّيور. وهناك يتيم العقل، والأدب، والتربية، والخلق، والدين، وهو أسوأ حالا من الأول، وإن كان بلغ من العمر الخمسين، والستّين، ويملك من المال الملايين. ولله درّ القائل:[البسيط]
ليس اليتيم الّذي قد مات والده
…
إنّ اليتيم يتيم العلم والأدب
وخذ قول الآخر: [الكامل]
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
…
همّ الحياة وخلّفاه ذليلا
إنّ اليتيم هو الّذي تلقى له
…
أمّا تخلّت أو أبا مشغولا
الإعراب: {وَآتُوا} الواو: حرف عطف. ({آتُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، لا محلّ لها أيضا. {الْيَتامى:} مفعول به أوّل منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذّر.
{أَمْوالَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}):
ناهية جازمة. {تَتَبَدَّلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {الْخَبِيثَ:} مفعول به. {بِالطَّيِّبِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْخَبِيثَ} أي: مستبدلا بالطيب، والباء داخلة على المتروك. {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ:} معطوفة على ما قبلها. {إِلى أَمْوالِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من: {أَمْوالَهُمْ} التقدير: مضافة إلى أموالكم، والهاء، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها، وهي مفيدة للتعليل.
الشرح: روى الأئمة-واللّفظ لمسلم-: عن عروة بن الزبير، عن عائشة-رضي الله عنها في قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ..} . إلخ قالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليّها، تشاركه في ماله، فيعجبه مالها، وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوجها من غير أن يقسط لها في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى سنّتهنّ من الصّداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النّساء سواهنّ. انتهى قرطبي.
هذا؛ و «تقسطوا» من الرّباعي بمعنى: تعدلوا، قال تعالى في سورة الحجرات:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وهو من الثلاثي بمعنى: جار، وظلم، قال تعالى:{وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} .
{فَانْكِحُوا:} تزوّجوا. {ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ:} ما حلّ لكم من النساء؛ لأنّ منهنّ ما حرم كاللاتي في آية التحريم رقم [22]: الآتية. هذا؛ ووقعت: {ما} على النساء، وهنّ عاقلات، وهي لغير العاقل، كما هو معروف؛ لأنّهن ناقصات العقل، كما وقعت على النساء الإماء أيضا؛ ولأنهن ناقصات العقل أيضا، ولأنّهن يبعن، ويشترين كالبهائم، وتقديم المهر للمرأة الحرّة بمنزلة الثمن للأمة. وأيضا: إنّ «من وما» قد يتعاقبان، وقد يتقارضان، قال تعالى:{وَالسَّماءِ وَما بَناها} انظر سورة (الشمس) وقال تعالى في سورة (النّور): {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ..} . إلخ. هذا؛ و «خفتم» أصله: خوفتم، فنقلت حركة الواو إلى الخاء قبلها، بعد سلب فتحتها، فسكنت الواو، ثمّ حذفت لالتقاء السّاكنين، فالكسرة على الخاء للدّلالة على حركة المحذوف، ولو كانت دليلا على المحذوف؛ لكانت ضمّة.
{مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ:} هذه الألفاظ معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع.
وينبغي أن تعلم: أن الواو بمعنى «أو» للتخيير هنا، وليست لمطلق الجمع، ولو كانت كذلك؛ لكان يحلّ للمسلم الجمع بين تسع نسوة، وهو قول الشّيعة، وقد بينت السنة الشّريفة الحجر على المسلم في الجمع بين أكثر من أربع نسوة. وخذ ما يلي:
عن الحارث بن قيس-رضي الله عنه، قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«اختر منهنّ أربعا» أخرجه الترمذيّ. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما:
أنّ غيلان بن سلمة، أو ابن أمية الثقفي-رضي الله عنه-أسلم، وتحته عشرة نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا، ويترك سائرهن، فإن ذلك ما اختصّ به صلى الله عليه وسلم انظر ما ذكرته في سورة (الأحزاب) بشأن خصوصياته صلى الله عليه وسلم؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا؛ ومجيء الواو بمعنى «أو» وارد في لسان العرب بكثرة، منه قول كثيّر عزّة-وهو الشاهد رقم [669] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
وقالوا نأت فاختر لها الصّبر والبكا
…
فقلت البكا أشفى إذا لغليلي
انظره، وانظر ما بعده من شواهد. ومجيء «أو» بمعنى الواو وارد أيضا في لسان العرب بكثرة، من ذلك قول جرير في مدح الخليفة عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه:[البسيط]
جاء الخلافة أو كانت له قدرا
…
كما أتى ربّه موسى على قدر
انظره في كتابنا: «فتح القريب المجيب» وانظر ما بعده برقم [96] وما بعده.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} أي: إن خفتم أن لا تقدروا على العدل بين الزّوجات المتعدّدة؛ فاقتصروا على واحدة، {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ:} من الإماء، والسراري؛ أي: وإن خفتم من الجور، وعدم العدل؛ فاقتصروا على حرّة واحدة، وما ملكتم من الإماء، والسّراري؛ إذ ليس لهنّ قسم مثل الزّوجات الحرائر. هذا؛ وأسند تعالى الملك إلى اليمين؛ إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوص بالمحاسن؛ لتمكّنها، ويعبّر باليمين عن القوّة، مثل قوله تعالى في سورة (الصّافات):{فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} وقال تعالى في سورة (الحاقة): {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} . واليمين هي المبايعة، وبها سمّيت الألية يمينا، وهي الملتقية لرايات المجد، والسّؤدد، كما قال الشّمّاخ في عرابة الأوسي-رضي الله عنه:[الوافر]
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقّاها عرابة باليمين
وقال آخر: [الطويل]
ولمّا رأيت الشّمس أشرق نورها
…
تناولت منها حاجتي بيميني
هذا؛ و «الإيمان» بكسر الهمزة هو التّصديق بالجنان، والإقرار باللّسان، والعمل بالأركان.
ولمّا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر: خيره، وشرّه من الله تعالى» . والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد كما بينته في الآية رقم [2]: من سورة (الأنفال) وله شعب كثيرة، وفروع عديدة، وهي سبع وسبعون، أعلاها:(لا إله إلاّ الله) وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق.
{ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا} أي: ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحقّ، وتجوروا. يقال: الرّجل يعول إذا جار، ومال، ومنه قولهم: عال السّهم عن الهدف: مال عنه. قال ابن عمر-رضي الله عنه: إنّه لعائل الكيل، والوزن، قال الشاعر:[البسيط]
قالوا اتّبعنا رسول الله واطّرحوا
…
قول الرّسول وعالوا في الموازين
أي: جاروا. وعال الرّجل، يعيل: إذا افتقر، فصار عالة، ومنه قول تعالى في سورة (التوبة):{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} . ومنه قول أحيحة بن الجلاح: [الوافر]
وما يدري الفقير متى غناه
…
وما يدري الغنيّ متى يعيل
وقال الشافعي-رضي الله عنه: {أَلاّ تَعُولُوا:} ألا تكثر عيالكم. قال الكسائي: العرب تقول: عال، يعول، و: أعال، يعيل: إذا كثر عياله، وقال أبو عمر الدّوري، وكان إماما في اللّغة غير مدافع،: هي لغة حمير، وأنشد قول الشاعر:[الوافر]
وإنّ الموت يأخذ كلّ حيّ
…
بلا شكّ وإن أمشى وعالا
أي: وإن كثرت ماشيته، وعياله. وقرأ طلحة بن مصرّف:(«ألاّ تعيلوا») من: أعال الرّباعي، وهي حجّة للشافعي-رضي الله عنه.
تنبيه: مسألة تعدّد الزّوجات ضرورة إنسانيّة، اقتضتها ظروف الحياة، وهي ليست تشريعا، فنظمه، وشذّبه، وجعله علاجا، ودواء لبعض الحالات الاضطرارية الّتي يعاني منها المجتمع، مثل: عقم المرأة، وعدم صلاحيتها للوطء في بعض الحالات. وفي الحقيقة: إن تشريع التعدّد مفخرة من مفاخر الإسلام؛ لأنه استطاع أن يحلّ مشكلة اجتماعيّة هي من أعقد المشاكل، التي تعاينها الأمم، والمجتمعات اليوم، فلا تجد لها حلاّ، فهو سلاح يسيء الكثير من المسلمين استعماله بسبب الجور، والظّلم.
إنّ المجتمع كالميزان، يجب أن تتعادل كفتاه، فماذا نصنع حين يختل التوازن، ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرّجال؟ وهو في كلّ زمان، ومكان أكثر من الرّجال، أتحرم المرأة من نعمة الزّوجية، ونعمة الأمومة، ونتركها تسلك طريق الفاحشة، والرذيلة، أم نحلّ هذه المشكلة بتعدّد الزّوجات، وهي طرق فاضلة، نصون فيها كرامة المرأة، وطهارة الأسرة، وسلامة المجتمع؟
وأقرب الأمثلة شاهدا على ما نقول ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث زاد عدد النساء على الرّجال زيادة فاحشة، فأصبح مقابل كلّ شاب ثلاث فتيات، وهي حالة اختلال اجتماعي، فكيف يواجهها المشرّع؟ لقد حلّ الإسلام بتشريعه الرائع بتعدّد الزوجات، بينما وقفت المسيحية حائرة مكتوفة الأيدي، لا تبدي، ولا تعيد.
إنّ الرّجل الأوربي لا يبيح له دينه التعدّد، لكنّه يبيح لنفسه مصاحبة المئات من الفتيات بطريق الرّذيلة، يرى الوالد منهم فتاته مع عشيقها، فيسرّ، ويغتبط، بل ويمهّد لهما السبل المؤدية
لراحتهما؛ حتى أصبح ذلك عرفا ساريا، اضطرت معه الدّول إلى الاعتراف بمشروعية العلاقات الآثمة بين الجنسين، ففتحت باب التدهور الخلقي على مصراعيه، ووافقت على قبول مبدأ (تعدّد الزوجات) ولكن تحت ستار المخادنة، وهو زواج حقيقي، لكنّه غير مسجّل بعقد، ويستطيع الرّجل أن يطردها متى شاء دون أن يتقيد حيالها بأي حقّ من الحقوق، والعلاقة بينهما علاقة جسد، لا علاقة أسرة، وزوجية، فيا عجبا ممّن من منع تعدّد الزوجات بالحلال، وأباحه بالحرام! حتى نزلوا بالمرأة من مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الحيوانية، انتهى صفوة التفاسير بتصرف بسيط مني، ثم أنشد قول القائل:[الخفيف]
ربّ إنّ الهدى هداك وآيا
…
تك حقّ تهدي بها من تشاء
هذا؛ ويستدلّ بعض جهلة علماء السّوء في هذا الزّمن بهذه الآية، وفي الآية رقم [129]:
الآتية على وجوب الاقتصار على زوجة واحدة، وهو استدلال باطل محض، تردّه الشريعة الغرّاء، والسّنّة النبويّة المطهّرة، فويل لهم ممّا يأفكون!
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَلاّ:} ({إِنْ}): حرف مصدري ونصب. (لا):
نافية. {تُقْسِطُوا:} فعل مضارع منصوب ب ({إِنْ}) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و ({إِنْ}) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به صريح، أو هو في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: إن خفتم من عدم العدل، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {فِي الْيَتامى:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {فَانْكِحُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، هذا في الظاهر، وقال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-واتّفق كلّ من يعاني العلوم على: أنّ هذا الشرط لا مفهوم له، وأقول-وبالله التوفيق-: إنّ جواب الشرط محذوف، التقدير: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى؛ فلا تتزوجوهنّ، والفاء هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير:
وإذا كان ذلك حاصلا منكم؛ فانكحوا غيرهنّ ما طاب. {وَإِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {فَانْكِحُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، وهو «إذا» المقدّرة، وهذه الجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {طابَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ما} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، واعتبار:{ما} مصدرية ضعيف.
{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنَ النِّساءِ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل طاب
المستتر، و {مِنَ} بيان لما أبهم في:{ما} . {مَثْنى:} حال من فاعل: {طابَ} المستتر. وقيل:
حال من: {النِّساءِ} . وقيل: بدل من: ({ما}) وضعفهما الجمل نقلا عن السمين، وما بعدها معطوف عليه، ولم تنوّن؛ لأنها ممنوعة من الصّرف، للصّفة، والعدل.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا:} إعرابه مثل إعراب سابقه. (واحدة): مفعول به لفعل محذوف، التقدير:
فانكحوا واحدة، وقرئ بالرفع، التقدير: فواحدة كافية، فتكون الجملة اسمية، وعلى الاعتبارين فالجملة في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد، والجملة الشّرطية مستأنفة لا محلّ لها. أو: حرف عطف. {ما:} معطوفة على (واحدة) على الوجهين المعتبرين فيها. {مَلَكَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُكُمْ:} فاعله، والكاف في محلّ جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: ملكته أيمانكم. وقال مكي: {ما} مصدرية، وهو ضعيف جدّا.
{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَدْنى:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها. {أَلاّ تَعْدِلُوا:} إعرابه مثل إعراب: {أَلاّ تُقْسِطُوا} وهو مثله في التقدير، أي: أدنى من عدم العول، أو: أدنى إلى عدم العول، والجار والمجرور متعلقان ب:{أَدْنى} .
الشرح: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} أي: أعطوا النّساء مهورهنّ عطية عن طيب خاطر، وسماحة نفس. وقال ابن عباس، وغيره: الخطاب للأزواج. وقيل: للأولياء، فقد كان الولي في الجاهلية يأخذ مهر المرأة، ولا يعطيها شيئا، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يدفعوا ذلك إليهنّ، ولا تزال آثار الجاهلية فاشية في المجتمع البدويّ، ومن على شاكلتهم من الذين لم يتذوّقوا معنى الإيمان، ولم يعرفوا تعاليم الإسلام. وأقول: إنّ الخطاب يعمّ الأزواج، والأولياء جميعا، وعلى السّواء، وخذ ما يلي:
عن ميمون الكردي، عن أبيه-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيّما رجل تزوّج امرأة على ما قلّ من المهر، أو كثر، ليس في نفسه أن يؤدّي إليها حقّها، خدعها، فمات، ولم يؤدّ إليها حقّها؛ لقي الله يوم القيامة وهو زان. وأيّما رجل استدان دينا، لا يريد أن يؤدّي إلى صاحبه حقّه، خدعه؛ حتّى أخذ ماله، فمات؛ ولم يؤدّ إليه دينه؛ لقي الله؛ وهو سارق» . رواه الطّبرانيّ في الصّغير، والأوسط، ويلحق بهذا من يغتصبها صداقها بعد زواجه بها.
هذا؛ و {نِحْلَةً:} عطيّة، وهبة، ومنحة. فعن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده-رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن» . رواه الترمذيّ.
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ..} . إلخ. أي: سمحن، ووهبن عن طيب نفس للأزواج، أو للأولياء عن شيء من مهورهنّ، فلا بأس به بعد قبضها له. وقالوا: إذا كان بعد سنة من زواجها؛ لأنّها صاحبة الحق، تفعل في مهرها ما تشاء، والضمير في منه يعود إلى الصّداق المفهوم مما تقدّم. {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} أي: لا إثم فيه، ولا حرج، ولا داء فيه أيضا. أو هنيئا في الدنيا بلا مطالبة، مريئا في العقبى بلا تبعة. وهما صفتان من: هنؤ الطّعام، ومرؤ: إذا كان سائغا، لا تنغيص فيه. ومنه قول كثيّر عزّة:[الطويل]
هنيئا مريئا غير داء مخامر
…
لعزّة من أعراضنا ما استحلّت
روي: أن رجلا دخل على علقمة؛ وهو يأكل شيئا وهبته له امرأته من مهرها، فقال له: كل من الهنيء، والمرئ. وروي عن عليّ-رضي الله عنه، وكرم الله وجهه-: أنه قال: إذا اشتكى أحدكم شيئا، فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها، ثم ليشتر بها عسلا، فليشربه بماء السّماء، فيجمع الله هنيئا، ومريئا، وشفاء، ومباركا. وروي: أن ناسا يأكلون يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ممّا ساقه إليها من المهر، فنزلت الآية الكريمة.
الإعراب: {وَآتُوا النِّساءَ} مثل سابقه في إعرابه، {صَدُقاتِهِنَّ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {نِحْلَةً:} مفعول مطلق على حد: قعدت جلوسا، أو هو حال بمعنى: ناحلين إن كان من واو الجماعة، أو بمعنى: منحولين، إن كانت من النّساء، أو من الصّدقات. وقيل: هو تمييز. (إن): حرف شرط جازم. {طِبْنَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، ونون النسوة فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها
…
إلخ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {عَنْ شَيْءٍ:} متعلقان به أيضا. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:
{شَيْءٍ} . {نَفْساً:} تمييز محول عن الفاعل. {فَكُلُوهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (كلوه):
فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها
…
إلخ. {هَنِيئاً مَرِيئاً:} حال من الضمير المنصوب. وقيل: هما صفتان لمفعول مطلق محذوف، التقدير: أكلا هنيئا مريئا، والأول أقوى، وهما بمعنى: مهنّأ ممرّأ، و (إن) ومدخولها كلام مفرغ عمّا قبله لا محل له من الإعراب.
الشرح: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ..} . إلخ: لمّا أمر الله بدفع أموال اليتامى إليهم فيما تقدّم، وإيصال الصّدقات إلى الزّوجات؛ بيّن أنّ السّفيه، وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه، فدلّت الآية على ثبوت الوصيّ، والوليّ، والكفيل للأيتام. وفي هذه الآية دليل الحجر على
السّفهاء. وهم أقسام: فتارة يكون الحجر للصّغر، وتارة يكون للجنون، وتارة يكون لسوء التصرّف لنقص العقل، أو الدين، وهو المراد في الآية الكريمة بالنسبة لليتامى، وأوليائهم، وتارة يكون الحجر للفلس، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل، وضاقت أمواله عن وفائها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم بنوك، والنّساء، وقال: لا تعمد إلى مالك، وما خوّلك الله، وجعله الله معيشة، فتعطيه امرأتك، أو بنيك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم. انتهى. وعليه في الآية نهي لكلّ أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله تعالى من المال، فيعطيه امرأته، وأولاده، ثم ينظر إلى ما في أيديهم تحسّرا، وندامة، وكم رأينا، وسمعنا أناسا فعلوا ذلك، ولا سيّما الذين يحرمون الإناث، ويعطون الذكور، ثمّ أهانوهم، بل وطردوهم من بيوتهم، والسّعيد من وعظ بغيره، والشّقيّ من اتّعظ غيره به.
هذا؛ وقوله تعالى: {أَمْوالَكُمُ:} إن كان المراد به أموال اليتامى، وأضافه إلى الأولياء، والأوصياء؛ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: «إنّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم
…
» إلخ وإن كان المراد به أموال المخاطبين أنفسهم؛ فقد رأيته فيما تقدّم، وانظر شرح {سَفِيهاً} في الآية رقم [282] من سورة (البقرة).
وقال ابن جرير عن أبي موسى-رضي الله عنه، قال: ثلاثة يدعون الله، فلا يستجيب لهم:
رجل له امرأة سيّئة الخلق، فلم يطلقها، ورجل أعطى ماله سفيها، وقد قال الله:{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ} ورجل كان له على رجل دين، فلم يشهد عليه. انتهى، أقول: والمراد بسيئة، عهرها، وخروجها عن طاعة ربها.
هذا؛ وإنما قال: {الَّتِي} ولم يقل: اللاتي؛ لأنه جمع ما لا يعقل، فجرى على لفظ الواحد، كما قال تعالى في سورة (هود) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:
{فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} وقال في سورة (مريم): {جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي..} .
إلخ. ولو كان لما يعقل لقال: اللاتي، كما في الآية [23] الآتية:{وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} {وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ} وفي سورة (النور): {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاّتِي..} . إلخ، هذا هو الأكثر في لسان العرب، وقد يجوز فيما لا يعقل:«اللاتي» ، وفيما يعقل «التي» .
{قِياماً:} هو ما يقام به، وإعلاله مثل إعلال «صيام» فيما تقدّم، وأضيف هنا ما ذكره أبو البقاء؛ حيث قال: هو مصدر: قام، والياء بدل من الواو، وأبدلت منها لمّا أعلّت في الفعل، وكانت قبلها كسرة، والتقدير: التي جعل الله لكم سبب قيام أبدانكم، أي: بقائها، ويقرأ:
(«قيما») بغير ألف، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: انّه مصدر مثل الحول، والعوض، وكان القياس أن تثبت الواو، ولتحصّنها بتوسّطها، كما حصّنت في الحوض، والعوض، ولكن أبدلوها ياء حملا على «قيام» وعلى اعتلالها في الفعل.
والثاني: أنه جمع: قيمة، كديمة، وديم، والمعنى: أنّ الأموال كالقيم للنفوس إذا كان بقاؤها بها. وقال أبو علي الفارسي: هذا لا يصحّ؛ لأنه قد قرئ في قوله تعالى في سورة (الأنعام): {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً} وفي سورة (المائدة): {جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً} . ولا يصحّ معنى القيمة فيها.
والوجه الثالث: أن يكون الأصل قياما، فحذفت الألف، كما حذفت في: خيم.
ويقرأ: قواما بكسر القاف، وبواو، وألف، وفيه وجهان:
أحدهما: هو مصدر قاومت، قواما، مثل: لاوذت، لواذا، فصحّت في المصدر لمّا صحت في الفعل.
والثاني: هو اسم لما يقوم به الأمر، وليس بمصدر، ويقرأ كذلك إلا أنه بغير ألف، وهو مصدر صحّت عينه، وجاء على الأصل كالعوض.
ويقرأ بفتح القاف، وواو، وألف: قواما، وفيه وجهان أيضا:
أحدهما: هو اسم للمصدر مثل: السّلام، والكلام، والدوام.
والثاني: هو لغة في القوام الذي هو بمعنى القامة، يقال: جارية حسنة القوام، والقوام.
والتقدير: الّتي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم.
{وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ} أي: اجعلوا رزقهم، وكسوتهم من تلك الأموال، والضمير المنصوب يعود إلى الزوجة، والأولاد، أو إلى اليتامى، انظره فيما تقدّم من الشرح. {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} أراد تليين الخطاب، والوعد الجميل، واختلف في «القول المعروف» فقيل: معناه:
ادعوا لهم: بارك الله فيكم، وأنا ناظر لكم، وهذا الاحتياط يرفعه نفعه إليكم. وقيل: معناه:
وعدوهم وعدا حسنا، أي: إن رشدتم؛ دفعنا إليكم أموالكم، ويقول الأب لابنه: مالي إليك مصيره، وأنت إن شاء الله صاحبه؛ إذا ملكت رشدك، وعرفت تصرّفك.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تُؤْتُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {السُّفَهاءَ:} مفعول به أوّل. {أَمْوالَكُمُ:} مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب صفة: {أَمْوالَكُمُ} . {جَعَلَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {قِياماً:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: التي جعلها الله لكم قياما. {وَارْزُقُوهُمْ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها،
لا محلّ لها أيضا. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {قَوْلاً:} مفعول مطلق.
{مَعْرُوفاً:} صفة له.
الشرح: {وَابْتَلُوا الْيَتامى:} نزلت الآية الكريمة في ثابت بن رفاعة، وفي عمّه، وذلك: أنّ رفاعة مات، وترك ابنه ثابتا، وهو صغير، فجاء عمّه إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: إن ابن أخي يتيم في حجري: فما يحلّ لي من ماله، حتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله الآية الكريمة: والمعنى:
اختبروهم في عقولهم، وأديانهم، وفي تنمية أموالهم. هذا؛ وقال ابن كيسان: ويقال: أبلاه، وبلاه في الخير، والشرّ، وأنشد قول زهير في ممدوحيه: هرم بن سنان، والحارث بن عوف المرّيّين:[الطويل]
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
…
وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو
فجمع بين اللّغتين. وقيل: الأكثر في الخير: أبليته، وفي الشر: بلوته، وفي الاختبار:
ابتليته، وبلوته، قال النحاس: والابتلاء يكون في الخير، وفي الشرّ، قال تعالى في حقّ اليهود اللّؤماء:{وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ} .
{حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ} أي: البلوغ، ويكون بالاحتلام، أو ببلوغه خمسة عشر عاما عندنا، وثمانية عشر عاما عند أبي حنيفة، وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ؛ لأنّه يصلح للنكاح عنده، وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء على الأصح عند الشّافعي-رضي الله عنه، والعكس عند غيره.
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً:} أبصرتم هداية في التّصرفات، وصلاحا في المعاملات، واستقامة في الدّين، والأخلاق، وأنس: أبصر، قال تعالى في سورة (القصص):{فَلَمّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً} وقال النابغة في معلقته: [البسيط]
كأنّ رحلي، وقد زال النّهار بنا
…
بذي الجليل على مستأنس وحد
هذا؛ وقرئ: («رشدا») بفتحتين، وهما لغتان: ف: {رُشْداً:} مصدر: رشد، ورشدا مصدر:
رشد، وكذلك الرّشاد، فادفعوا إليهم أموالهم: أي بدون تأخير عن سن البلوغ. {وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا} أي: مسرفين مبذرين ومبادرين كبرهم؛ أي: بلوغ السنّ التي يستلمون فيها أموالهم، أو لإسرافكم، ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها، وتقولون: ننفق فيما نشتهي
قبل أن يكبر اليتامى، فينتزعوها من أيدينا. والإسراف في اللغة: الإفراط في كل شيء؛ ومجاوزة الحد فيه، قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [31]:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . وقال جرير في مدح بني أميّة: [البسيط]
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية
…
ما في عطائهم منّ ولا سرف
«هنيدة» اسم لكل مائة من الإبل، ومن دعاء الصّالحين المصلحين:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا} رقم [147]: من سورة (آل عمران). وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [220]: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فيها أكبر رادع، وزاجر من التعدّي على مال اليتيم.
ومن كان غنيّا؛ فليستعفف: أي عن الأكل من مال اليتيم، وإن عمل فيه، وقام بمصالحه، يقال: عف الرّجل عن الشّيء، واستعفّ: إذا أمسك، والاستعفاف عن الشيء: تركه، ومنه قوله تعالى في سورة (النور):{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً،} والعفة: الامتناع عمّا لا يحلّ، ولا يحبّ فعله.
{وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} المراد به هنا: بقدر حاجته، وأجر عمله في مال اليتيم، ولفظ: الاستعفاف، والأكل مشعر بأنّ للوليّ حقّا في مال اليتيم، فقد روى أبو داود عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جدّه: أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّي فقير، وليس لي شيء، ولي يتيم. فقال:«كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا مبذّر، ولا متأثّل» ؛ أي: مدّخر، وهذا إذا كان العمل في مال اليتيم يصرفه عن معاشه، وما يحتاج إليه. هذا؛ وبين {غَنِيًّا} و {فَقِيراً} طباق، وهو من المحسّنات البديعية، وبين الجملتين مقابلة لطيفة، فتأمّلها.
هذا؛ والفقير أصله في اللغة: الذي انكسر فقار ظهره، ثم أطلق على المعدم الذي لا يجد كفايته من المال؛ لأنه يشبه الّذي أنبتّ ظهره، وعدم الحول، والقوة، وهو أسوأ حالا من المسكين عندنا معاشر الشافعيّة، ويدلّ عليه قوله تعالى في سورة (الكهف):{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} فسمّاهم الله مساكين مع كونهم يملكون سفينة يتّجرون فيها، وينقلون البضائع من صقع إلى صقع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله المسكنة، ويتعوّذ به من الفقر، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ أحيني مسكينا، وتوفّني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين، وإنّ أشقى الأشياء من اجتمع عليه فقر الدّنيا، وعذاب الآخرة» . رواه ابن ماجة، وروى الترمذيّ مثله عن أنس-رضي الله عنه.
{فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} أي: فإذا سلّمتم إلى اليتامى أموالهم، فأشهدوا عليهم لئلا يجحدوا تسلّمها، فإنه أنفى للتّهمة، وأبعد للخصومة، ووجوب الضمان، والأمر للإرشاد، وليس للوجوب. {وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً:} حافظا لأعمال خلقه، ومحاسبهم عليها.
هذا؛ والفعل: «كفى» بمعنى: اكتف، فالباء زائدة في الفاعل عند الجمهور، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومثله مضارعه، كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} وقد يأتي بمعنى:
حسب، وهو بهذه الصيغة، ويكون قاصرا لا يتعدّى بنفسه إلى المفعول به، ولا تزاد الباء في فاعله، كما في قول سحيم بن وثيل الرّياحي-وهو الشاهد رقم [161]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
عميرة ودّع إن تجهّزت غازيا
…
كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا
وأما إذا كان بمعنى: جزى، وأغنى؛ فيكون متعدّيا لواحد، ولا تزاد الباء في فاعله، كما في قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [162]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
قليل منك يكفيني ولكن
…
قليلك لا يقال له قليل
وإذا كان بمعنى: وقى؛ فإنّه يكون متعدّيا لمفعولين، كما في قوله تعالى:{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} رقم [25]: من سورة (الأحزاب).
الإعراب: {وَابْتَلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{الْيَتامى:} مفعول به منصوب، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.
{حَتّى:} حرف غاية، لا عمل لها عند الجمهور هنا، والأخفش يعتبرها في مثل هذا جارة ل {إِذا} ووافقه الزجّاج، وابن درستويه على ذلك. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزّمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبنيّ على السّكون في محل نصب. {بَلَغُوا:}
فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {النِّكاحَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على القول المشهور المرجوح. {فَإِنْ:} الفاء: واقعة في جواب {إِذا} . (إن): حرف شرط جازم. {آنَسْتُمْ:} فعل ماض مبني على السّكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله.
{مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رُشْداً:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَادْفَعُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ادفعوا): فعل أمر، وفاعله. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {أَمْوالَهُمْ:}
مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها، والجملة الشرطية:(إن {آنَسْتُمْ..}.) إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جواب: {إِذا:} و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف بعد: {حَتّى} لا محلّ له، واعتبره الزّمخشري مثل قول جرير، وهو الشاهد رقم [209] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فما زالت القتلى تمجّ دماءها
…
بدجلة حتّى ماء دجلة أشكل
{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَأْكُلُوها:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، وها: مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها،
لا محل لها أيضا. {إِسْرافاً:} مفعول لأجله، أو هو حال بمعنى: مسرفين. {وَبِداراً:} معطوف على ما قبله. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكْبَرُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ..} .
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل في محلّ نصب مفعول به لبدارا، والمعنى: مبادرين كبرهم، وبلوغهم.
({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى ({مَنْ}).
{غَنِيًّا:} خبر: {كانَ} . {فَلْيَسْتَعْفِفْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، اللام: لام الأمر، (يستعفف): فعل مضارع مجزوم بلا الأمر، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط.
وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية {وَمَنْ كانَ..}. إلخ: مستأنفة لا محلّ لها، والتي بعدها إعرابها مثلها، وهي معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها.
{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): مثل سابقتها. {إِلَيْهِمْ:} فعل، وفاعل، والجملة في محلّ جرّ بإضافة (إذا) إليها. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَمْوالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة. {فَأَشْهِدُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا) وهذا يرجّح ما ذهبت إليه من أن العامل في: (إذا) فعل شرطها لا جوابها؛ لأنه لا يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها. {فَأَشْهِدُوا:} فعل أمر وفاعله، والجملة الفعلية جواب:(إذا) لا محل لها. {عَلَيْهِمْ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف.
{وَكَفى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِاللهِ:} الباء: حرف جر صلة. (الله): فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وقيل: الباء أصلية، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما على أنّهما مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره: الاكتفاء، والمعتمد الأول. {حَسِيباً:} تمييز. وقيل:
حال، والمعتمد الأول، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: نزلت الآية الكريمة في أوس بن ثابت الأنصاري-رضي الله عنه-توفي، وترك امرأة، يقال لها: أم كجّة، وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت، ووصيّاه،
يقال لهما: سويد، وعرفجة، فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته، وبناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصّغير؛ وإن كان ذكرا، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل، وطاعن بالرماح، وضارب بالسيوف، وحاز الغنيمة. فذكرت أم كجّة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهما، فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلاّ، ولا ينكأ عدوا. فقال عليه الصلاة والسلام: انصرفا؛ حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهنّ، فأنزل الله الآية الكريمة ردّا عليهم، وإبطالا لقولهم، وتصرفهم بجهلهم، فإن الورثة الصغار كان ينبغي أن يكونوا أحقّ بالمال من الكبار لعدم تصرفهم، والنظر في مصالحهم، فعكسوا الحكم، وأبطلوا الحكمة، فضلّوا بأهوائهم، وأخطئوا في آرائهم، وتصرفاتهم.
{لِلرِّجالِ نَصِيبٌ:} مبهم، بيّنته آيات المواريث الآتية. {مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ} ففيه تغليب الأب على الأم، وأيضا في لفظ: الأبوين، وفيه أشعار بتفضيل الأب على الأم، والذكر على الأنثى.
هذا؛ والتغليب باب من أبواب النّحو معروف، ومشهور. خذ قول الفرزدق-وهو الشاهد رقم [1168] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
أخذنا بآفاق السّماء عليكم
…
لنا قمراها والنّجوم الطّوالع
{مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} أي: سواء أكان الذي تركه المتوفّي مالا قليلا، أو كثيرا، فلكلّ من الرجال، والنساء نصيب بينته الآية الآتية. {نَصِيباً مَفْرُوضاً} أي: معلوما مقطوعا لكلّ وارث.
هذا؛ وبين: {قَلَّ} و {كَثُرَ} طباق.
الإعراب: {لِلرِّجالِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {نَصِيبٌ:} مبتدأ مؤخّر. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {نَصِيبٌ} أو بمحذوف صفة له. {مِمّا:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جرّ ب (من). {تَرَكَ:} فعل ماض. {الْوالِدانِ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو: من شيء تركه الوالدان. {وَالْأَقْرَبُونَ:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{لِلرِّجالِ..} .
إلخ مستأنفة لا محل لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {مِمّا:} بدل مما قبلهما، وجوز أبو البقاء اعتبارهما متعلقين بمحذوف حال من الضمير المحذوف الواقع مفعولا به.
{قَلَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والتي بعدها معطوفة عليها، وحذف متعلقها اكتفاء بما قبله. {نَصِيباً:} مفعول مطلق مؤكد لمعنى الكلام السابق. وقيل: حال. وقيل: منصوب على الاختصاص بفعل محذوف، تقديره: أعني. {مَفْرُوضاً:} صفة له.
الشرح: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ..} . إلخ: أي: فارضخوا لهم من المال قبل القسمة؛ إن كانوا غير وارثين. واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وهذا قبل نزول آية المواريث فلمّا نزلت آية المواريث؛ جعلت الأموال لأهلها، ونسخت هذه الآية. وهي رواية مجاهد عن ابن عبّاس، وقول سعيد بن المسيب، وعكرمة، والضّحاك. وقال قوم: هي محكمة غير منسوخة، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى الأشعري، وكثير غيره، ثم اختلف العلماء بعد القول بأنّها محكمة: هل هذا الأمر أمر وجوب، أو ندب؟ على قولين:
أحدهما: أنه واجب. فقيل: إن كان الوارث كبيرا؛ وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر تطيب به نفسه، وإن كان الوارث صغيرا؛ وجب على الولي أن يعتذر إليهم، ويقول: إني لا أملك هذا المال، وهو لهؤلاء الضّعاف، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم، وإن يكبروا فسيعرفوا حقّكم. هذا هو القول المعروف. وقال بعضهم: هذا حق واجب في مال الصّغار، والكبار، فإن كان الورثة كبارا؛ تولّوا إعطاءهم بأنفسهم، وإن كانوا صغارا؛ أعطى وليّهم. انتهى. خازن.
أقول: الآية محكمة، ولفظ القسمة يوحي بأنّها نزلت بعد آية المواريث. وقيل آية الموارث لم تكن قسمة؛ لأنّ الكبار كانوا يحرمون النساء، والصغار من الميراث، كما رأيت في الآية السابقة، ويستولون على تركة الميت. وسواء أكان الأمر للوجوب، أو للندب، فهو عمل إنساني نبيل، وقد طبّقه القانون في أكثر البلاد الإسلامية على الأحفاد الّذين مات والدهم قبل جدّهم، ثمّ مات الجدّ، فإنّه يعطي هؤلاء الأحفاد نصيب أبيهم لو كان حيّا بشرط ألا يزيد على الثلث، وقد أطلق عليه اسم الوصية الواجبة، ولا بأس به، فهو عمل إنسانيّ؛ لأنّ النفوس في هذه الأيام قد طبعت على الشحّ، وقست، فلم يبق فيها عطف، ولا شفقة.
هذا؛ والضمير في: {مِنْهُ} عائد على معنى القسمة؛ إذ هي بمعنى المقسوم، كقوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ} أي: السقاية؛ لأنّ الصواع مذكّر، وهما بمعنى واحد.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): انظر الآية رقم [6]. {حَضَرَ:} فعل ماض.
{الْقِسْمَةَ:} مفعول به. {أُولُوا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولُوا:} مضاف، و {الْقُرْبى:} مضاف إليه
مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَالْيَتامى:} معطوف على ما قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذّر. {وَالْمَساكِينُ:} معطوفة أيضا على ما قبله، والجملة الفعلية:{حَضَرَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها
…
إلخ. الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ارزقوهم): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محل لها. و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له على الاعتبارين. {وَقُولُوا..} .
إلخ: انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [5]: وهي معطوفة على جواب: (إذا).
الشرح: نزلت الآية الكريمة في الأوصياء. أي: تذكّر أيها الوصيّ ذريّتك الضّعاف من بعدك، وكيف يكون حالهم، وعامل اليتامى الذين في حجرك بمثل ما تريد أن يعامل به أبناؤك من بعدك. وقيل: هذا في الرّجل يحضره الموت، فيقول له من بحضرته عند وصيته: إنّ الله سيرزق ولدك، فانظر لنفسك، وأوص بمالك في سبيل الله، وتصدّق، وأعتق؛ حتّى يأتي على عامّة ماله، أو يستغرقه، فيضرّ ذلك بورثته، فنهوا عن ذلك، فكأنّ الآية تقول لهم: كما تخشون على ذريتكم، وورثتكم الضّياع من بعدكم، فكذلك اخشوا على ورثة غيركم، ولا تحملوا المحتضر على تبذير ماله، قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره، وروى سعد بن جبير عن ابن عباس: أنه قال: إذا حضر الرجل الوصية؛ فلا ينبغي أن يقول للموصي: أوص بمالك؛ فإنّ الله رازق ولدك، ولكن يقول: قدّم لنفسك، واترك لولدك. فذلك قوله تعالى:{فَلْيَتَّقُوا اللهَ} .
وقال مقسم وحضرميّ: نزلت في عكس هذا، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره: أمسك على ورثتك، وأبق لولدك، فليس أحد أحقّ بمالك من أولادك، وينهاه عن الوصية، فيتضرر بذلك ذوو القربى، وكلّ من يستحقّ أن يوصى له، فقيل لهم: كما تخشون على ذريتكم، وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك سدّدوا القول في جهة المساكين، واليتامى، واتقوا الله في ضررهم أصوب. وهذا القول، والأول أقعد في معنى الآية. والله أعلم بمراده، وأسراره كتابه. هذا؛ والقول السديد: العدل، والصّواب الموافق لما أمر الله، ورسوله به من الإحسان إلى اليتيم، والعدل في الوصيّة:«لا ضرر ولا ضرار» .
قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ما معنى وقوع: {لَوْ تَرَكُوا} وجوابه صلة ل {الَّذِينَ} قلت: معناه، وليخش الذين صفتهم وحالهم: أنهم لو شارفوا أن يتركوا ذريّة ضعافا -وذلك عند احتضارهم-خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم، وكاسبهم، كما قال خالد القناني الخارجي. انظر الشاهد رقم [927] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
لقد زاد الحياة إليّ حبّا
…
بناتي إنّهنّ من الضّعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدي
…
وأن يشربن رنقا بعد صافي
الإعراب: {وَلْيَخْشَ:} اللام: لام الأمر. (يخش): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لَوْ:}
حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَرَكُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.
{مِنْ خَلْفِهِمْ:} متعلّقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من:{ذُرِّيَّةً} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، على القاعدة المشهورة. {ذُرِّيَّةً:} مفعول به. {ضِعافاً:}
صفة: {ذُرِّيَّةً} . {خافُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والمفعول محذوف، التقدير:
خافوا عليهم الضياع. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية جواب {لَوْ} لا محل لها. و {لَوْ:} ومدخولها صلة الموصول.
{فَلْيَتَّقُوا:} الفاء: حرف عطف. (ليتقوا): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها.
الشرح: قال مقاتل بن حيّان: نزلت الآية الكريمة في رجل من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، وهو يتيم صغير، فأكله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
{إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً} يعني: سيأكلون يوم القيامة، فهو مجاز مرسل، وهو باعتبار ما يؤول إليه أمرهم، كقوله تعالى حكاية عن قول الرائي في منامه في سورة (يوسف) -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً} أي: عنبا يؤول أمره إلى الخمر.
وعكسه باعتبار ما كان قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} فسمّاهم يتامى باعتبار ما كان؛ لأنّهم لا يعطون المال؛ وهم صغار يتامى.
وإنّما خصّ الأكل بالذكر، وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات، وجميع التصرّفات الرديئة المتعلقة؛ لأن الأكل معظم المقصود من المال. وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها للتأكيد، والمبالغة، فهو كقولك: أبصرت بعيني، وسمعت بأذني، ومثله قوله تعالى:{ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ} .
{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً:} يقال: صلي النار، يصلاها صلى، وصلاء: قاسى حرها. قال تعالى في سورة (الأعلى): {لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى} والصّلاء هو التسخن بقرب النار، أو مباشرتها، ومنه قول الحارث بن عبّاد:[الخفيف]
لم أكن من جناتها علم الل
…
هـ وإنّي لحرّها اليوم صال
وصليته في النار: شويته فيها، وأصليته مثله، وصلّيته بتشديد اللام من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى، قال تعالى:{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} . وتصلّيت: استدفأت بالنار، قال الشاعر:[المنسرح]
وقد تصلّيت حرّ حربهم
…
كما تصلّى المقرور من قرس
هذا؛ وقال السّدي-رحمه الله تعالى-: يبعث آكل اليتيم ظلما يوم القيامة، ولهب النار يخرج من فيه، ومن سمعه، وعينيه، وأنفه، يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم. وفي حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: حدّثنا النبي عن ليلة أسري به، قال:«نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخرا من نار، يخرج من أسافلهم. قلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما، إنّما يأكلون في بطونهم نارا» . قرطبي، وخازن.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات» قيل:
يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: «الشرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنّسائي.
هذا؛ ولما نزلت الآية الكريمة؛ ثقل ذلك على الناس، واحترزوا من مخالطة اليتامى، وأموالهم بالكلية، فشق ذلك على اليتامى، فنزل قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [220]:{وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} . انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
هذا؛ وقد أوصى الله، ورسوله باليتيم، وحفظ ماله، فقال تعالى في كثير من الآيات:
{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} . فعن سهل بن سعد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنّة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى، وفرّج بينهما» . رواه البخاريّ، وأبو داود، والترمذي.
ورغّب عليه الصلاة والسلام المرأة في القعود على أولادها إذا آمت من زوجها. فعن عوف بن مالك الأشجعي-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وامرأة سفعاء الخدّين كهاتين يوم القيامة، امرأة آمت من زوجها ذات منصب، وجمال، حبست نفسها على يتاماها؛ حتّى بانوا، أو ماتوا» . رواه أبو داود.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، و {أَمْوالَ} مضاف، و {الْيَتامى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {ظُلْماً:} حال بمعنى:
ظالمين. وقيل: مفعول لأجله. {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يَأْكُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {فِي بُطُونِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{ناراً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، وجملة:{إِنَّما يَأْكُلُونَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها.
{ناراً:} مفعول به. {وَسَيَصْلَوْنَ:} الواو: حرف عطف. السين: حرف استقبال، وهي هنا مؤكدة للتحقيق، والوعيد. (يصلون): مضارع، وفاعله. {سَعِيراً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الواقعة خبرا ل {إِنَّ} فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: اختلف في سبب نزول الآية على أقوال: منها ما ذكرته عن أمّ كجّة، رضي الله عنها. وعن جابر-رضي الله عنه-قال: «جاءت امرأة سعد بن الرّبيع-رضي الله عنه-بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد بن الرّبيع، قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمّهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال:
«يقضي الله في ذلك» . فنزلت آية المواريث، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمّهما، فقال:«أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثّمن، وما بقي فهو لك» . أخرجه الترمذي، وأبو داود، وأحمد، وابن ماجة. وقيل: غير ذلك من الأسباب.
هذا؛ ولقد بين الله في هذه الآية ما أجمله فيما سبق، فدلّ هذا على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدّين، وعمدة من عمد الأحكام، وأمّ من أمهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر؛ حتى إنّها ثلث العلم، بل روي: نصف العلم، وهو أول علم ينزع من النّاس، وينسى.
هذا؛ ولقد نسخت هذه الآية الوصية للوالدين، والأقربين المذكورة في الآية رقم-179 - من سورة (البقرة) انظرها هناك.
فقد روى الدّارقطني عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعلّموا الفرائض، وعلّموها النّاس، فإنّه نصف العلم، وهو أوّل شيء ينسى، وأوّل شيء ينزع من أمّتي» .
وروي أيضا عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا القرآن، وعلّموه النّاس، وتعلّموا الفرائض، وعلّموها النّاس، وتعلّموا العلم، وعلّموه النّاس، فإنّي امرؤ مقبوض، وإنّ العلم سيقبض، وتظهر الفتن؛ حتّى يختلف الاثنان في الفريضة، لا يجدان من يفصل بينهما» .
{يُوصِيكُمُ اللهُ:} يعهد إليكم، ويأمركم. {فِي أَوْلادِكُمْ:} في شأن ميراثهم منكم. {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإنّ أهل الجاهلية كانوا يجعلون للذكر دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوت بين الصّنفين، فجعل للذّكر مثل حظ الأنثيين، وذلك لاحتياج الرّجل إلى مئونة النكاح، والنفقة، ومعاناة التكسب، وتحمّل المشاق، فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. وقد استنبط من الآية: أنّ الله تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، فعلم أنّه أرحم بهم منهم.
{فَإِنْ كُنَّ نِساءً} أي: إن كان الأولاد نساء خلصا ليس معهن ذكر يعصبهن. {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أي: اثنتين فما فوقهما. وقد استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنّ أقل الجمع اثنان فما فوق، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«الاثنان فما فوقهما جماعة» . وحكي عن سيبويه: أنه قال: سألت الخليل عن قوله: «ما أحسن وجوههما» فقال: الاثنان جماعة، وقد صحّ قول الشاعر:[الوافر]
يحيّى بالسّلام غنيّ قوم
…
ويبخل بالسّلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء
…
إذا ماتوا وصاروا في القبور
فواو الجماعة عائدة على الغني، والفقير {فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ} أي: المتوفّى: وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه، كقوله تعالى في سورة (ص):{حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} وقوله جل ذكره: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . هذا؛ ويقال: ثنتان، وثنتين، ولكن الأوّل أحسن، وأجود، والتاء في ثنتان كالتاء في بنتان، إلا أنّه لم يستعمل واحد الثنتين بالتاء، كما استعمل بنت، وكذلك التاء في اثنتان كالتاء في ابنتان، إلا أنهم لم يقولوا: اثنة، كما قالوا: ابنة، وخذ قول جعفر بن علبة الحارثي-وهو الشاهد رقم [103]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
فقالوا لنا ثنتان لا بدّ منهما
…
صدور رماح أشرعت أو سلاسل
{وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً:} أي: المولودة الوارثة منفردة؛ فنصيبها نصف الميراث. {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ..} . إلخ. أي: لكل واحد من أبوي الميت سدس ميراثه؛ إن كان له ولد ذكر، أو أنثى، لكن يأخذ الأب مع البنت السدس فرضا، ويأخذ الباقي تعصيبا، إن لم يكن ثمّة وارث آخر من ذوي الفروض.
{فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ..} . إلخ. أي: إن مات ذكر، أو أنثى، ولم يكن له وارث غير أبويه، فأمّه تأخذ، وتستحقّ الثلث فرضا، والباقي يأخذه الأب. ومثل ذلك ما إذا كان مع الأبوين أحد الزّوجين. فإن الأم تأخذ ثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزّوجين، والباقي للأب، وذلك للمحافظة على أن يأخذ الأب مثلي الأم، وهذا كله إن لم يكن للميت إخوة من أي جهة كانوا، فإنّ للأم حينئذ السدس فرضا؛ لأن الأخوة وإن كانوا محجوبين بالأب، فهم يحجبون الأمّ من الثّلث إلى السّدس حجب نقصان.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ} أي: إن تقسيم الورثة على ما تقدّم بيانه إنّما هو بعد تنفيذ الوصية، ووفاء الدّين من المال الذي تركه الميت. هذا؛ وقدّم ربنا ذكر الوصية على الدّين، وهي متأخرة عنه في الحكم؛ لأنها مشبهة بالميراث، شاقة على الورثة، ولأنها صلة بلا عوض، وأداؤها مظنّة للتفريط. عن الحارث عن علي-رضي الله عنه-أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدّين قبل الوصية، وأنتم تقرءون الوصية قبل الدّين، قال: والعمل على هذا عند عامّة أهل العلم: أنّه يبدأ بالدّين قبل الوصية. وروى الدّارقطنيّ من حديث عاصم بن ضمرة عن عليّ-رضي الله عنه-قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الدّين قبل الوصيّة، وليس لوارث وصيّة» أي: إلا أن يجيزها باقي الورثة.
ولمّا ثبت هذا؛ تعلّق الشافعي-رضي الله عنه-بذلك في تقديم دين الزّكاة، والحجّ على الميراث، فقال: إنّ الرجل إذا فرّط في زكاته؛ وجب أخذ ذلك من رأس ماله. وهذا ظاهر ببادئ الرأي، ولأنّه حقّ من الحقوق، فيلزم أداؤه عنه بعد الموت، كحقوق الآدميين، لا سيّما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة، ومالك-رحمهما الله تعالى-: إن أوصى؛ أدّيت من ثلث ماله، وإن سكت؛ لم يخرج عنه شيء. قالوا: لأن ذلك موجب لترك الورثة فقراء، إلا أنّه قد يتعمّد ترك الكل؛ حتّى إذا مات؛ استغرق ذلك جميع ماله، فلا يبقى للورثة حقّ، انتهى قرطبي.
{آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممّن يرثكم من أصولكم، وفروعكم في عاجلكم، وآجلكم، فاعملوا بما أوصاكم لا تعمدوا إلى تفضيل بعض، وحرمان بعض آخر. روي: أن أحد المتوالدين-أي: من الآباء أو من الأبناء-إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنّة سأل الله أن يرفع إليه ابنه، أو أباه. فيرفع بشفاعته.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي للإنسان أن يحرم بعض أولاده، ويعطي الآخرين من ماله، فيسبب بذلك عقوق أولاده المحرومين في الدّنيا، والآخرة. وإن كثيرا من المسلمين في هذه الأيام يفعلون ذلك، فيخالفون ما أوصى الله به في هذه الآية، وما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم من حسن معاملة الأولاد، والعدل بينهم؛ حتى في الابتسامة، والقبل.
{فَرِيضَةً مِنَ اللهِ} أي: هذا الذي ذكر في تفصيل الميراث، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من الله، حكم به، وقضاه. {إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً} أي: كان عليما بالأشياء
قبل خلقها، حكيما فيما قدّر من الفرائض في المواريث، وفرض من الأحكام، وفي لفظة:
{كانَ} ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الله تعالى كان عليما بالأشياء قبل خلقها، ولم يزل كذلك، الثاني: حكى الزجاج عن سيبويه: أنه قال: إنّ القوم لمّا شاهدوا علما، وحكمة، ومغفرة، وفضلا، قيل لهم: إن الله كان كذلك، ولم يزل على ما شاهدتهم. الثالث: قال الخليل: الخبر عن الله عز وجل بمثل هذه الأشياء كالخبر بالحال، والاستقبال؛ لأن صفات الله تعالى لا يجوز عليها الزّوال، والتقلّب انتهى خازن.
تنبيه: موانع الإرث: اختلاف الدّين، والرّقّ، والقتل وهو يمنع الإرث عمدا كان-أي:
القتل-أو خطأ؛ لما روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القاتل لا يرث» .
أخرجه الترمذيّ.
ويتعلق بتركة الميت حقوق أربعة: تجهيزه، ووفاء ديونه، وتنفيذ وصاياه، ثم تقسيم تركته بين ورثته حسب الكتاب، والسنة.
الإعراب: {يُوصِيكُمُ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والكاف مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {لِلذَّكَرِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مِثْلُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {حَظِّ} مضاف إليه، و {حَظِّ} مضاف، و {الْأُنْثَيَيْنِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مفسّرة لمعنى الوصية، والرابط محذوف، التقدير: للذكر منهم
…
إلخ. وقيل: الجملة مستأنفة لا محلّ لها. وقيل: في محل نصب مفعول به ثان للفعل: (يوصي) وعليه أبو البقاء.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {كُنَّ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، ونون النسوة اسمه. {نِساءً:} خبره.
{فَوْقَ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف صفة: {نِساءً} . وقيل: متعلّق بمحذوف في محل نصب خبر ثان ل (كان) والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلَهُنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لهنّ): جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {ثُلُثا:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنّه مثنّى، وحذفت النون للإضافة. و {ثُلُثا:} مضاف، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة فهي مبنية على السكون في محل جر بالإضافة. {تَرَكَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى المتوفّى، وهو معلوم من المقام كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: فلهن ثلثا ما تركه، والجملة الاسمية هذه في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية:{فَإِنْ كُنَّ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث، واسمه يعود إلى غير مذكور أيضا.
{واحِدَةً} خبر: {كانَتْ} وقرئ برفع واحدة على اعتباره فاعلا ب ({كانَتْ}) التّامّة، وهي بمعنى:
وقعت، وحدثت، والجملة الفعلية لا محل لها
…
إلخ، والجملة الاسمية:{فَلَهَا النِّصْفُ} في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها. ({لِأَبَوَيْهِ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، وعلامة الجر الياء
…
إلخ، وحذفت النون للإضافة والهاء في محل جر بالإضافة. {لِكُلِّ:} بدل مما قبلها بدل البعض، و (كلّ) مضاف، و {واحِدٍ} مضاف إليه. {مِنْهُمَا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {واحِدٍ} والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {السُّدُسُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها أيضا.
{مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {السُّدُسُ} و (ما) تحتمل ما ذكرته، وجملة:
{تَرَكَ} صلة، أو صفة (ما)
…
إلخ. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} مقدّم. {وَلَدٌ:}
اسمها مؤخر، والجملة لا محل لها
…
إلخ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُنْ:} فعل مضارع ناقص فعل الشرط. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {وَلَدٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية لا محلّ لها
…
إلخ، وجملة:{وَوَرِثَهُ أَبَواهُ} معطوفة على جملة شرط (إن) والجملة الاسمية: {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} في محلّ جزم جواب الشّرط، والجملة الشّرطية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محلّ لها. {فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} إعرابها واضح إن شاء الله تعالى.
{مِنْ بَعْدِ:} متعلّقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذه الأنصباء للورثة من بعد، وجوز أبو البقاء تعليقهما بمحذوف حال من ({السُّدُسُ}) كما جوز تعليقهما بفعل محذوف، التقدير: يستقرّ لهم ذلك من بعد
…
إلخ، و {بَعْدِ} مضاف، و {وَصِيَّةٍ:} مضاف إليه، {يُوصِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل محذوف كما في السّابقة، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{وَصِيَّةٍ} . {دَيْنٍ} معطوف على: {وَصِيَّةٍ} .
{آباؤُكُمْ:} مبتدأ. {وَأَبْناؤُكُمْ:} معطوف عليه، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {لا:}
نافية. {تَدْرُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {أَيُّهُمْ:} اسم استفهام مبتدأ، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {أَقْرَبُ:} خبره. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {أَقْرَبُ} . {نَفْعاً:} تمييز، والجملة الاسمية في محلّ نصب سدّت مسد مفعولي الفعل قبلهما المعلّق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وهو من أفعال القلوب. هذا؛ وجوّز اعتبار:{أَيُّهُمْ} اسما موصولا مفعول به أوّل للفعل قبله. و {أَقْرَبُ} خبرا لمبتدإ محذوف؛ أي: هو أقرب. وهذه الجملة صلة الموصول،
والمفعول الثاني محذوف، ولكنّ الأوّل أشهر عند المعربين، والجملة الفعلية:{لا تَدْرُونَ..} .
إلخ في محلّ رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{آباؤُكُمْ..} . إلخ معترضة بين الجمل المتعاطفة، لا محلّ لها. هذا؛ وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-: خبر المبتدأ محذوف، تقديره: هم المقسوم عليهم، وهم المعطون وما قدّمته أولى بالاعتبار.
{فَرِيضَةً:} مفعول مطلق مؤكد لما جاء في هذه الآية من الوصية الباهرة، على حدّ: قعدت جلوسا. وقيل: هو مفعول مطلق، عامله من لفظه محذوف، التقدير: فرض الله ذلك فريضة.
وقيل: حال مؤكّدة، والعامل: يوصيكم، وهو ضعيف. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:}
اسم {إِنْ} . {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمها يعود إلى:{اللهُ} . {عَلِيماً حَكِيماً:} خبران ل: {كانَ} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
تنبيه: كثر حذف فاعل الأفعال في الآية الكريمة كما رأيت، ومثل هذا قوله تعالى في سورة (هود) رقم [44]:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} وقوله تعالى في سورة (ص): {حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} وفي سورة (الواقعة) قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وفي سورة (القيامة) قوله تعالى: {كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ} ففي كل ذلك الفاعل محذوف يدلّ عليه المقام، ومثل هذه الآيات قول حاتم الطّائي:[الطويل]
لعمرك ما يغني الثّراء عن امرئ
…
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر
وأيضا قول سوار بن المضرّب السّعدي-وهو الشّاهد رقم [191]: من كتابنا: «فتح رب البريّة» -: [الطويل]
إذا كان لا يرضيك حتّى تردّني
…
إلى قطريّ لا إخالك راضيا
الشرح: {وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ:} الخطاب للرّجال الوارثين من نسائهم. {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} أي: وارث ذكرا كان، أو أنثى من بطنها، أو من صلب بنيها الذّكور، وإن
سفل؛ ذكرا كان، أو أنثى. منكم، أو من غيركم. أما بنو البنت وإن سفلت؛ فلا حظّ لهم في الميراث؛ لأنّهم من الأرحام. {فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} ممّا ذكر؛ {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ} فالولد منها يحجب الزّوج من النّصف إلى الرّبع، سواء أكان منه، أو من غيره.
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} من الزوجة، أو من غيرها، فالولد يحجبها من الرّبع إلى الثّمن، فقد فرض الله للرّجل بسبب الزواج ضعف ما للمرأة، كما في النسب. وهكذا قياس كل رجل، وامرأة اشتركا في الجهة، والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم، كما ستعرفه، فإنّهم شركاء في القسمة سواء. وينبغي أن تعلم أنّ الزوجة الواحدة، والاثنتين، والثّلاث، والأربع شركاء في الرّبع، أو في الثّمن. وينبغي أن تعلم: أنّ الثّلث، والسّدس، والرّبع، والثّمن تقرأ بضم أولها، وأوساطها، كما تقرأ بضم أولها وسكون أوساطها.
والأولى هي اللّغة الجيدة، والإسكان لغة. قال عيسى بن عمر-رحمه الله تعالى-كلّ اسم من ثلاثة أحرف أوّله مضموم، يجوز ضمّ ثانيه، وسكونه، وذلك مثل: عسر، ويسر
…
إلخ.
{وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً..} . إلخ: الكلالة: هو الذي ليس له ولد، ولا والد، رجلا كان، أو امرأة، فإن مات أحدهما على هذه الصّفة، وله أخ، أو أخت من الأم، فلأحدهما عند انفراده السّدس من ورثة الميت، فإن كانوا اثنين، فأكثر يأخذون الثلث، ويقتسمونه بالسّويّة بدون تفضيل الذّكر على الأنثى، فقد سوّى الله بينهما؛ لأنّ الإدلاء بمحض الأنوثة. وتفسير الكلالة بهذا هو المعتمد. وقيل: الكلالة: الورثة. وقيل: المال الموروث. وقيل: الإرث. وقيل:
القرابة. هذا؛ واشتقاقها من الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء، فكأنّ الميراث يصير للوارث بعد إعياء، وذلك لعدم أصول، وفروع للميت، وانظر الآية الأخيرة من هذه السّورة، وخذ هنا قول الأعشى من قصيدته؛ الّتي مدح بها النبيّ صلى الله عليه وسلم:[الطويل]
فآليت لا أرثي لها من كلالة
…
ولا من وجى حتّى تلاقي محمّدا
ومنه قوله أيضا: [الطويل]
إليك أبيت اللّعن كان كلالها
…
إلى الماجد القرم الجواد المحمّد
{غَيْرَ مُضَارٍّ} أي: غير مضارّ لورثته بالزيادة على الثلث، أو قصد المضارّة بالوصية دون القرابة، والإقرار بدين لا يلزمه لأجنبيّ، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال: «إنّ الرّجل ليعمل، أو المرأة بطاعة الله ستّين سنة، ثمّ يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصيّة، فتجب لهما النّار» . ثمّ قرأ أبو هريرة-رضي الله عنه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} حتّى بلغ: {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . رواه أبو داود، والترمذي. هذا؛ وقيل: إنّ الإضرار في الوصية من الكبائر؛ لأنّ مخالفة أمر الله-عز وجل-كبيرة، وقد نهى الله
عن الإضرار في الوصية، فدلّ على: أنّ ذلك من الكبائر، فويل للذين يحرمون بعض الأولاد، ويعطون البعض الآخر، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«إنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى؛ حاف في وصيّته، فيختم له بشرّ عمله، فيدخل النّار. وإنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الشّرّ سبعين سنة، فيعدل في وصيّته، فيختم له بخير عمله، فيدخل النّار» . رواه ابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه. هذا؛ وذكرت لك في الآية السابقة سبب تقديم الوصية على الدّين.
{وَصِيَّةً مِنَ اللهِ} أي: فريضة من الله. وقيل: عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم. {وَاللهُ عَلِيمٌ} أي: بمن جار، أو عدل في وصيته. {حَلِيمٌ:} لا يعاجل المعتدين بالعقوبة. وهذا وعيد، وتهديد لهم. وانظر الآية رقم [225]: من سورة (البقرة). وإنّما كررت الوصية في هذه الآية لاختلاف الموصين، كما هو واضح.
هذا؛ ويقال: رجل كلالة، وامرأة كلالة، لا يثنّى، ولا يجمع؛ لأنّه مصدر كالوكالة، والدّلالة، والسّماحة، والشّجاعة. وأعاد ضمير مفرد في قوله:{وَلَهُ أَخٌ} ولم يقل لهما على عادة العرب إذا ذكرت اسمين، ثمّ أخبرت عنهما، وكانا في الحكم سواء، ربما أضفت إلى أحدهما، وربما إليهما جميعا.
هذا؛ وأصل «أخ» أخو بدليل تثنية أخوين، وأخوان، فحذف منه، وغيّر على غير قياس و «ابن» أصله بني، فحذف منه الياء، وعوض منها الهمزة في أوله، قال الفرّاء-رحمه الله تعالى-: ضمّ أول الأخت؛ لأن المحذوف منها واو. وكسر أول بنت لأن المحذوف منها الياء، وهذا الحذف والتعليل على غير قياس أيضا.
تنبيه: كانت الوراثة في الجاهلية بالرّجولة، والقوّة، فقد كانوا يورّثون الرجال دون النساء، فأبطل الله عز وجل ذلك، كما رأيت فيما تقدّم رقم [7]: وكانت الوراثة أيضا في الجاهلية، وبدء الإسلام بالمحالفة، قال الله عز وجل:{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ} انظر الآية رقم [33]: الآتية، ثمّ صارت بعد المحالفة بالهجرة، قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا} الآية رقم [72] من سورة (الأنفال)، وهذا معنى التوارث بأخوّة الإسلام، ثم ثبت التّوارث بآيات (النّساء) الّتي الكلام فيها. والحمد لله.
فائدة: المسألة الحماريّة: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة لأب، وأم. فقال قوم: للزوج النصف، وللأم السّدس وللأخوة لأم الثلث، وسقط الأشقّاء. وبه قال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى. روي: أنّ الأخوة الأشقاء قالوا لعمر-رضي الله عنه: هب أنّ أبانا كان حمارا! وفي رواية: هب أن أبانا كان حجرا ملقى في اليم، فأشركنا بقرابة أمّنا! فأشركهم مع الإخوة لأم في الثّلث. وبه قال مالك، والشّافعي-رضي الله عنه، وأبو حنيفة وافق أحمد بن حنبل-رضي الله عنه. وتسمّى هذه المسألة: المشتركة، والحمارية، واليميّة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَلَكُمْ:} الواو: حرف عطف. ({لَكُمْ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {نِصْفُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {ما} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: نصف الّذي، أو: شيء تركه أزواجكم، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية السّابقة، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه.
{فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ:} انظر إعراب مثلها في الآية السابقة. و (إن) ومدخولها كلام مفرّع عما قبله، مستأنف لا محلّ له، والجملة قبلها معطوفة على الكلام السّابق كما ترى.
{مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: ({الرُّبُعُ}) إن كانت «ال» للتعريف، أو في محلّ رفع صفة له إن كانت «ال» للجنس، وقل مثل ذلك فيما تقدّم، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تَرَكْنَ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء تركنه. {مِنْ بَعْدِ:} انظر تعليق مثلها في الآية السّابقة، و {بَعْدِ} مضاف، و {وَصِيَّةٍ} مضاف إليه، {يُوصِينَ:} فعل مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله، والجملة الفعلية في محل جر صفة:{وَصِيَّةٍ} . {بِها:}
متعلقان بما قبلهما. {دَيْنٍ} معطوف على: {وَصِيَّةٍ} .
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ..} . إلخ: انظر إعراب مثل هذا الكلام فيما تقدّم مع التعليق وجواب الشرط المحذوف. {فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ:}
انظر إعراب مثل هذا الكلام فيما تقدّم أيضا. {تُوصُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية مع المتعلّق صفة:
{وَصِيَّةٍ} . {أَوْ دَيْنٍ:} معطوف على ما قبله.
(إن): حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض تام مبني على الفتح في محلّ جزم فعل الشرط. {رَجُلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها
…
إلخ. {يُورَثُ:} فعل مضارع، وقرئ بالبناء للمعلوم بتشديد الراء، وتخفيفها، وعليهما ف:{كَلالَةً} مفعول به، والفاعل يعود إلى:{رَجُلٌ} والجملة الفعلية في محلّ رفع صفة {رَجُلٌ} . هذا؛ وعلى قراءة الفعل بالبناء للمجهول، ف {كَلالَةً} صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: يورث وراثة كلالة، وأجيز اعتبار:{كَلالَةً} اسما للورثة كما قدمت، فتكون:{كَلالَةً} خبرا ل: {كانَ} وهي ناقصة، التقدير: وإن كان رجل يورث ذا كلالة، كما يجوز أيضا أن تكون:{كانَ} تامة بمعنى: وقع، وحصل، وجملة:{يُورَثُ:} نعت ل: {رَجُلٌ} و {كَلالَةً} نصب على التمييز، أو الحال على أن الكلالة هو الميت، التقدير: وإن كان رجل يورث متكلل النّسب إلى الميت.
{أَوِ امْرَأَةٌ} معطوف على: {رَجُلٌ} وحذفت الصفة و «كلالة» اكتفاء بما ذكر بعد: {رَجُلٌ} .
{وَلَهُ:} الواو: واو الحال. ({لَهُ}): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَخٌ:}
مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{رَجُلٌ} والرابط: الواو والضمير، وصحّ مجيء الحال منه لوصفه بما بعده، إذ الوصف يخصص، وحذف مثل هذه الجملة بعد:
{اِمْرَأَةٌ} . {فَلِكُلِّ:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (لكل): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، و (كلّ) مضاف، و {واحِدٍ} مضاف إليه. {مِنْهُمَا:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة:
{واحِدٍ} والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {السُّدُسُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والجملة الشرطية:{وَإِنْ كانَ رَجُلٌ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها أيضا.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف، (إن): حرف شرط جازم. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَكْثَرَ:} خبر:
(كان) والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {مِنْ ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بأكثر، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {فَهُمْ:}
الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هم): مبتدأ. {شُرَكاءُ:} خبره، والجملة الاسمية في محلّ جزم جواب الشرط
…
إلخ. {فِي الثُّلُثِ:} متعلّقان ب {شُرَكاءُ} أو بمحذوف صفة له، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.
{مِنْ بَعْدِ:} متعلّقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هذه الأنصباء للورثة من بعد.
وذكرت لك في الآية السّابقة: أنّ أبا البقاء جوّز تعليقهما بمحذوف حال من الثّلث، كما جوّز تعليقهما بمحذوف فعل، التقدير: يستقرّ لهم ذلك من بعد. و {بَعْدِ} مضاف، و {وَصِيَّةٍ} مضاف إليه. {يُوصى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذّر. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نائب فاعله، ويقرأ بالبناء للمعلوم، فيكون الفاعل عائدا على الموصي، والجملة الفعلية في محل جر صفة:
{وَصِيَّةٍ} . {أَوْ دَيْنٍ} معطوف على: {وَصِيَّةٍ} . {غَيْرَ:} حال من فاعل {يُوصى} أو من نائب فاعله، و {غَيْرَ} مضاف، و {مُضَارٍّ} مضاف إليه.
هذا؛ وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فأين ذو الحال فيمن قرأ: {يُوصى بِها} على ما لم يسمّ فاعله؟ قلت: يضمر ب {يُوصى} فينتصب عن فاعله؛ لأنّه لمّا قيل: يوصى بها، علم: أن ثمّ موصيّا، كما قال تعالى في سورة (النّور) رقم [36]:({يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}) على ما لم يسمّ فاعله، فعلم: أن ثمّ مسبّحا، فأضمر في:({يُسَبِّحُ}) فكما كان {رِجالٌ} فاعل ما يدلّ عليه ({يُسَبِّحُ}) كان {غَيْرَ مُضَارٍّ} حالا ممّا يدل عليه: {يُوصى بِها} انتهى بتصرف.
أقول: ومثل الآيتين قول نهشل بن حري-وهو الشّاهد رقم [193]: من كتابنا: «فتح رب البرية» ، والشاهد رقم [1048]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة
…
ومختبط ممّا تطيح الطّوائح
{وَصِيَّةٍ:} مفعول مطلق مؤكّد لما جاء في هذه الآية من الوصية الباهرة على حدّ: قعدت جلوسا. وقيل: هو مفعول مطلق، عامله من لفظه محذوف، التقدير: وصّى الله ذلك وصية.
وقيل: حال مؤكدة، والعامل فعل الوصية، وهو ضعيف. وقال القرطبي-رحمه الله تعالى-:
والعامل {يُوصِيكُمُ} ويصح أن يعمل فيها: {مُضَارٍّ} وهما ضعيفان. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب {وَصِيَّةٍ} أو بمحذوف صفة له. {وَاللهُ:} مبتدأ. {عَلِيمٌ حَلِيمٌ:} خبران له، والجملة الاسمية معترضة في آخر الكلام، الغرض منها التّهديد، والوعيد. تأمل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.
الشرح: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} يعني: الأحكام التي تقدّم ذكرها في هذه السّورة من مال اليتامى، والوصايا، والأنكحة، والمواريث. وإنّما سماها حدودا؛ لأنّ الشّرائع كالحدود المضروبة للمكلّفين، فلا يجوز لهم أن يتجاوزوها. والحدود جمع: حد، وهو في اللغة الحاجز بين شيئين متجاورين، والمراد هنا: الحد الفاصل بين الحلال، والحرام، فلذا يعاقب من تجاوزه بالحدّ.
وهو: العقوبة المقرّرة لذلك، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد ما حدّ الله من فرائضه.
{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ} يعني: في شأن المواريث، ورضي بما قسم الله له، وحكم عليه. {يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ..}. إلخ: وحّد الفاعل في هذه الآية، وفي الآية التالية؛ لأنّ إدخال الجنّة للمطيع، وإدخال النّار للعاصي إنّما هو بيد الله، والرّسول صلى الله عليه وسلم لا فعل له في ذلك.
{خالِدِينَ فِيها:} جمعه، وهو عائد على (من) باعتبار معناها، وأفرده في الآية التالية باعتبار لفظها. {وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ:} النجاح الكبير في الآخرة يوم لا ينفع مال، ولا بنون؛ إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإعراب: {تِلْكَ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {حُدُودُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها، و {حُدُودُ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ:} انظر الآية التالية. {جَنّاتٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، ويقال فيه ما يقال في مفعول:{(تدخلوا الجنة} في الآية رقم [142]: من سورة (آل عمران). {تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل.
{مِنْ تَحْتِهَا:} متعلقان به، و (ها) في محل جر بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعل {تَجْرِي،} والجملة الفعلية في محل نصب صفة: {جَنّاتٍ} . {خالِدِينَ:} حال من الضمير المنصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان خالدين، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يُطِعِ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها، وهو أقوى من العطف على ما قبلها. {وَذلِكَ:} الواو: حرف عطف. ({ذلِكَ}): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف الخطاب. {الْفَوْزُ:} خبر المبتدأ.
{الْعَظِيمُ:} صفته، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ:} يخالف أوامرهما فيما أمرا به، ولم يرض بقسمة الله في المواريث. {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ:} يتجاوز ما أمر الله به. {يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ:} قال الخازن-رحمه الله-فإن قلت: كيف قطع الله للعاصي بالخلود في النار في هذه الآية؟ وهل فيها دليل للمعتزلة على قولهم: إنّ العصاة، والفسّاق من المسلمين يخلدون في النّار؟ قلت: قال الضّحاك: المعصية هنا: الشرك. وروى عكرمة عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في معنى الآية: من لم يرض بقسمة الله، ويتعدّ ما قال الله؛ يدخله نارا. وقال الكلبي:
يكفر بقسمة المواريث، ويتعدّ حدود الله استحلالا، إذا ثبت ذلك، فمن ردّ حكم الله، ولم يرض بقسمته؛ كفر بذلك، ومن كفر؛ كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار؛ إذا لم يتب قبل موته، وإذا مات وهو مصرّ على ذلك كان مخلّدا في النار بكفره، فلا دليل في الآية للمعتزلة.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف عطف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْصِ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير يعود إلى ({مَنْ}). {اللهَ:} منصوب على التعظيم. ({يَتَعَدَّ}): فعل مضارع معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها ويجوز في مثله النصب على القاعدة التي تراها قريبا، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا. {حُدُودَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {يُدْخِلْهُ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا، وقرئ:(«ندخله»): على الالتفات، فيكون الفاعل مستتر وجوبا تقديره: نحن، والهاء مفعوله الأول. {ناراً:} مثل: {جَنّاتٍ} في الآية السابقة. {خالِداً:} حال من الفاعل المستتر
العائد إلى ({مَنْ}) وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية:{وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ} في محل نصب حال من الضمير الواقع مفعولا به، والرابط: الواو، والضمير.
الشرح: {وَاللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ} المراد بها هنا: الزنى، والفاحشة: الفعلة القبيحة، فهي مصدر كالعاقبة، والعافية، سمّيت بذلك لفحشها، وقبحها، ومعنى {يَأْتِينَ:} يفعلنها. يقال:
أتى الفاحشة، وجاءها، وغشيها، ورهقها: إذا فعلها. {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} أي: من المسلمين، فجعل الله الشهادة على الزنى خاصة أربعة تغليظا على المدّعي، وسترا على العباد.
وتعديد الشهود بالأربعة في الزنى حكم ثابت في التوراة، والإنجيل، والقرآن، قال تعالى في سورة النّور:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً} وقال هنا: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ولا بدّ أن يكون الشهود ذكورا، وعدولا. والخطاب للأزواج. وقيل: هو للحكّام، قال عمر-رضي الله عنه: إنّما جعل الله الشّهود أربعة سترا ليستركم به دون فواحشكم.
{فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} أي: فاحبسوهنّ في البيوت، والحكمة في حبسهن: أن المرأة إنّما تقع في الزنى عند الخروج، والبروز للرّجال، فإذا حبست في البيت؛ لم تقدر على الزنى. {حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ الْمَوْتُ} يعني: تتوفاهنّ ملائكة الموت عند انقضاء آجالهن. ففيه مجاز عقلي؛ حيث أسند الوفاة إلى الموت. {أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً:} وهذا الحكم كان في أوّل الإسلام، قبل نزول الحدود، كانت المرأة إذا زنت؛ حبست في البيت حتّى تموت، ثم نسخ ذلك بالحدود، وجعل الله لهن سبيلا، وخذ ما يلي:
عن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه-قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه؛ كرب لذلك، وتربّد له وجهه، فأنزل عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلمّا سرّي عنه؛ قال:«خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل الله لهنّ سبيلا، الثّيب بالثّيب، والبكر بالبكر، الثّيّب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة، ثم نفي سنة» . أخرجه مسلم، وغيره، فقال الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-: يجمع على الثيب الجلد، والرّجم بنصّ الحديث. والجمهور على أنه يكتفي بالرّجم.
ويفهم من هذا: أنّ الآية منسوخ حكمها بآية (النّور) قوله تعالى: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما..} . إلخ، وبآية الرّجم المنسوخة تلاوة، والباقية حكما إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى:
(الشيخ والشيخة، إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله، والله عزيز حكيم)، وهذه الآية كانت من سورة (الأحزاب) وأيّد ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله، فقد ثبت: أنّه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا، والغامدية في حديث صحيح. انظر ما ذكرته في سورة (النور) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَاللاّتِي:} الواو: حرف استئناف. ({اللاّتِي}): اسم موصول مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ. {يَأْتِينَ:} فعل مضارع مبني على السكون، ونون النسوة فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {الْفاحِشَةَ:} مفعول به. {مِنْ نِسائِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من نون النسوة، والكاف في محل جر بالإضافة، وفي خبر المبتدأ وجهان:
أحدهما الجملة الفعلية: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ..} . إلخ، وجاز دخول الفاء زائدة على الخبر على رأي الجمهور؛ لأنّ المبتدأ أشبه الشرط في كونه موصولا عامّا صلته فعل مستقبل. الوجه الثاني: أنّ الخبر محذوف، التقدير: فيما يتلى عليكم حكم اللاّتي
…
إلخ، فحذف الخبر، والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا نظير ما فعله سيبويه-رحمه الله تعالى- في نحو قوله تعالى في سورة (النّور):{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا..} . إلخ، وقوله تعالى في سورة (المائدة):{وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما} أي: فيما يتلى عليكم حكم الزانية
…
إلخ، ويكون الفعل المذكور في هذه الآيات دالاّ على ذلك المحذوف؛ لأنّه بيان له. انتهى. جمل نقلا عن السّمين.
(استشهدوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَلَيْهِنَّ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {أَرْبَعَةً:} مفعول به.
{مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَرْبَعَةً} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ على الوجه الأول في الإعراب، ولا محل لها على الوجه الثاني لأنها جواب الشرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فاستشهدوا. وتكون الفاء: فصيحة.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم، {شَهِدُوا:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، {فَأَمْسِكُوهُنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (أمسكوهن): فعل أمر وفاعله ومفعوله، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور
…
إلخ. {فِي الْبُيُوتِ:} متعلقان بما قبلهما. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَتَوَفّاهُنَّ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد: {حَتّى} وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {الْمَوْتُ:} فاعله. «وأن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما. {أَوْ:} حرف
عطف. {يَجْعَلَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله. {اللهُ:} فاعله. {لَهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من:
{سَبِيلاً} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه؛ صار حالا. {سَبِيلاً:} مفعول به.
الشرح: {وَالَّذانِ:} تثنية «الذي» وكان القياس أن يقال: اللذيان، كرحيان، ومصطفيان
…
إلخ، قال سيبويه-رحمه الله تعالى-: حذفت الياء؛ ليفرق بين الأسماء المتمكنة، والأسماء المبهمة. وقال علي الفارسي: حذفت الياء تخفيفا؛ إذ قد أمن اللبس في «اللذان» لأن النّون لا تنحذف، ونون التثنية في الأسماء المتمكنة قد تنحذف مع الإضافة في:
رحياك، ومصطفيا القوم، فلو حذفت الياء؛ لاشتبه المفرد بالاثنين.
{يَأْتِيانِها} أي: الفاحشة. {مِنْكُمْ} أي: المسلمين. {فَآذُوهُما} أي: عيروهما بالقول، واللسان، وهو أن يقال له: أما خفت الله؟! أما استحيت من الله حين زنيت؟! وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: سبّوهما، واشتموهما. {فَإِنْ تابا:} من الفاحشة، وحسنت توبتهما. {وَأَصْلَحا} أي: عملهما فيما يأتي. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُما} أي: اتركوهما، ولا تؤذوهما.
{إِنَّ اللهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً} أي: يعود على عبده بفضله، ومغفرته، ورحمته، إذا تاب إليه، وأناب إلى رحمته، وعفوه.
هذا؛ وقد وصف الله نفسه بأنّه توّاب، وتكرّر هذا اللفظ في القرآن منكّرا، ومعرّفا، واسما، وفعلا، وقد يطلق على العبد أيضا توّاب، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قال ابن العربي: ولعلمائنا في وصف الرب بأنه توّاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يجوز في حق الرّبّ سبحانه وتعالى، فيدعى به كما في الكتاب، والسنة، ولا يتأول. وقال آخرون: هو وصف حقيقي لله تعالى، وتوبة الله على العبد: رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة. وقال آخرون: توبة الله على العبد قبول توبته، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى: قبلت توبتك، وأن يرجع إلى خلقه الإنابة، والرجوع في قلب المسيء من إجراء الطّاعات على جوارحه، وإنّما قيل لله تعالى: تواب لمبالغة الفعل، وكثرة قبوله توبة عباده، ولكثرة من يتوب عليه.
تنبيه: كان حدّ الزاني في ابتداء الإسلام الأذى بالتوبيخ، والتعيير باللّسان، ثم صار بالحبس، كما رأيت في الآية السابقة، فلما نزلت الحدود، وثبتت الأحكام؛ نسخ ذلك بآية (النور) قوله تعالى:{الزّانِيَةُ وَالزّانِي..} . إلخ، فثبت الجلد على البكر بنصّ الكتاب، وثبت الرّجم على الثيب المحصن بآية (الأحزاب) المنسوخة تلاوة، والباقية حكما، وثبت: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
رجم-كما ذكرت لك-ماعزا، والغامدية، ورجم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، رضي الله عنهم أجمعين-.
الإعراب: {وَالَّذانِ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذانِ}): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، وبعضهم يعتبره مبنيّا على الألف في محل رفع، والنّون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {يَأْتِيانِها:} فعل مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، الألف فاعله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من ألف التثنية، وخبر المبتدأ يقال فيه ما قيل في الآية السابقة.
{فَآذُوهُما:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية يقال فيها ما يقال في الآية السابقة.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تابا:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، وألف الاثنين فاعله، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها
…
إلخ.
{وَأَصْلَحا:} معطوف على ما قبله، والألف فاعله. {فَأَعْرِضُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. {فَأَعْرِضُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {إِنَّ اللهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً:} انظر مثلها في الآية رقم [11].
الشرح: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ} أي: إن قبول التوبة كالمحتوم على الله فضلا، وكرما بمقتضى وعده الذي قطعه على نفسه بأنّ من يتوب يقبل الله توبته. قال تعالى في سورة (الشورى):{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} وقال جلّ ذكر في سورة (التوبة):
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} وقال في سورة (طه): {وَإِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ..} . إلخ.
هذا؛ وقيل: {عَلَى} بمعنى: عند، فيكون المعنى: التوبة التي عند الله. وقيل: هي بمعنى من، أي: من الله، وقال أهل المعاني: إن الله تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين في قوله جل ذكره في سورة (الأنعام) رقم [54]: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وإذا وعد شيئا؛ أنجز ميعاده، وصدق فيه. فمعنى قوله:{عَلَى اللهِ:} أوجب على نفسه من غير إيجاب أحد عليه؛ لأنه تعالى يفعل ما يريد.
{يَعْمَلُونَ السُّوءَ:} يعني: يعملون الذنوب، والمعاصي. سميت سوءا؛ لسوء عاقبتها؛ إذا لم يتب منها، وهو مصدر: ساء، يسوء، سوءا، أو مساءة: إذا أحزنه. والسّوء: الشر، والفساد، والجمع: أسواء، وهو بضم السين من ساءه، وبفتحها المصدر، تقول: رجل سوء بالإضافة، ورجل السّوء، ولا تقول: الرّجل السّوء. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ} سورة (الأنبياء).
{بِجَهالَةٍ} قال قتادة-رحمه الله تعالى-: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنّ كل شيء عصي الله به؛ فهو بجهالة، عمدا كان، أو غيره. وكلّ من عصى الله؛ فهو جاهل، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: من عمل السوء؛ فهو جاهل، ومن جهالته عمل السوء، فكل من عصى الله؛ سمّي جاهلا، وسمي فعله جهالة، وإنما سمّي من عصى الله جاهلا؛ لأنه لم يستعمل ما معه من العلم بالثّواب، والعقاب، وإذا لم يستعمل ذلك؛ سمّي جاهلا بهذا الاعتبار. وقيل:
معنى الجهالة هو اختيار اللّذة الفانية على اللّذة الباقية.
{ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} يعني: يتوبون من الذنب بعد الإقلاع منه بزمن قريب؛ لئلا يعدّ في زمرة المصرّين. وقيل: القريب: أن يتوب في صحّته قبل مرض موته. وقيل: قبل معاينة ملك الموت، ومعاينته أهوال الموت. وإنما سميت هذه المدّة قريبة؛ لأنّ كلّ ما هو آت قريب، وفيه تنبيه على أنّ عمر الإنسان-وإن طال-قريب، وهو قليل، وإن الإنسان يتوقع كل ساعة، ولحظة نزل الموت به، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . أخرجه الترمذي، الغرغرة: أن يجعل المشروب في فم المريض، فيردده في الحلق، ولا يصل إليه، ولا يقدر على بلعه، وذلك عند بلوغ الرّوح الحلقوم. وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الشّيطان قال:
وعزّتك يا ربّ لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم! فقال الرّبّ تبارك وتعالى:
وعزّتي وجلالي، وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني!».
بعد هذا: فالتوبة المقبولة هي التوبة النّصوح، ولها شروط: الندم بالجنان. والاستغفار باللسان، ورد الحقوق لأصحابها بحسب الإمكان، ولقد أحسن محمود الورّاق؛ حيث قال -رحمه الله تعالى-:[الكامل]
قدّم لنفسك توبة مرجوّة
…
قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق النّفوس فإنّها
…
ذخر وغنم للمنيب المحسن
الإعراب: {إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {التَّوْبَةُ:} مبتدأ. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف صفة التوبة على اعتبار (ال) للجنس، أو في محل نصب حال منها على اعتبار (ال) للتعريف، وهذا على قول من يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، ويجوز اعتبار:{عَلَى اللهِ} متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، ويكون:{لِلَّذِينَ} متعلقين بمحذوف حال
من الضمير المستتر في الجار والمجرور: {عَلَى اللهِ} . {يَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {السُّوءَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِجَهالَةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من السوء. {ثُمَّ:} حرف عطف.
وجملة: {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ:} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ..} . إلخ مستأنفة لا محل لها.
{فَأُولئِكَ:} الفاء: حرف عطف. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {يَتُوبُ:} فعل مضارع. {اللهِ:} فاعله. {عَلَيْهِمْ:}
متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة السابقة لا محل لها مثلها، وجملة:{وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} مستأنفة، أو هي معطوفة على ما قبلها. لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ} أي: المقبولة عند الله. {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ:} جمع:
سيئة، وهي عمل السّوء، وجمعها يدلّ على كثرتها بخلاف السّوء في الآية السّابقة، فإنه يدلّ على قلّة السيئات؛ لأنّ «ال» فيه للجنس. هذا؛ وأصل «سيئة» سيوئة، قلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء. {حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} يعني: وقع في النزع، وعاين ملائكة الموت، وهو حالة السّوق، حيث تساق الرّوح للخروج من جسده. {قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} قال المحققون: قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة، بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال، التي لا يمكن الرّجوع إلى الدنيا بحال، ولذلك لم تقبل توبة فرعون، ولا إيمانه، كما قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [90]:{حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ..} . إلخ. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة (غافر) رقم [85]: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا} . {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ} أي: لا تقبل توبة الكافرين؛ إذا ماتوا على كفرهم. انظر في الآية رقم [91] من سورة (آل عمران) فإنه جيد، والحمد لله! {أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ:} هيأنا، والإعتاد:
التهيئة، من العتاد، وهو العدّة. وقيل: أصله: أعددنا، فأبدلت الدال الأولى تاء.
قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: الآية الأولى في المؤمنين، والوسطى في المنافقين.
{لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى..} . إلخ، والأخرى في الكافرين:{وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ..} . إلخ.
هذا؛ وانظر شرح {الْآنَ} في الآية رقم [71] من سورة (البقرة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَلَيْسَتِ:} الواو: حرف عطف. ({لَيْسَتِ}): فعل ماض ناقص. والتاء حرف لا محلّ له. {التَّوْبَةُ:} اسم. (ليس). {لِلَّذِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر (ليس) والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {يَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {السَّيِّئاتِ} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، الجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ:}
انظر إعراب مثل هذا الكلام في الآية رقم [6]: {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:
{أَحَدَهُمُ:} {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمه. {تُبْتُ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله. {الْآنَ} ظرف زمان متعلق بما قبله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:
(إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب: {إِذا} لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي. {الَّذِينَ:} معطوف على ما قبله مجرور مثله، ورجحه ابن هشام في المغني، وجوز أبو البقاء اعتباره مبتدأ، خبره الجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ.
{يَمُوتُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَهُمْ:}
الواو: واو الحال. ({هُمْ}) ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كُفّارٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {أَعْتَدْنا:} فعل وفاعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {أُولئِكَ} والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محلّ لها، أو هي في محل رفع خبر:({الَّذِينَ}) على رأي أبي البقاء. {عَذاباً:} مفعول به. {أَلِيماً:} صفة له.
الشرح: نزلت الآية الكريمة في أهل المدينة، وذلك: أنهم كانوا في الجاهلية، وفي أوّل الإسلام إذا مات الرّجل، وخلّف امرأة؛ جاء ابنه من غيرها، أو قريبه من ذوي عصبته، فألقى ثوبه على تلك المرأة، أو على خبائها، فصار أحقّ بها من نفسها، ومن غيره، فإن شاء؛ تزوجها بغير صداق إلا الصّداق الأول الذي أصدقها الميّت، وإن شاء؛ زوّجها من غيره، وأخذ صداقها وإن شاء؛ عضلها، ومنعها من الأزواج، يضارّها بذلك؛ لتفتدي منه بما ورثت من الميّت، أو تموت هي، فيرثها، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها وليّ زوجها ثوبه؛ كانت أحقّ
بنفسها. وكانوا على ذلك حتّى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري-رضي الله عنه-وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها، يقال له: حصن-وقيل: اسمه: قيس بن أبي قيس-فطرح ثوبه عليها، فورث نكاحها، ثمّ تركها، فلم ينفق عليها، يضارّها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن أبا قيس توفي، وورث نكاحي ابنه، فلا هو ينفق عليّ، ولا هو يدخل بي، ولا هو يخلّي سبيلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اقعدي في بيتك؛ حتّى يأتي أمر الله فيك» . فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة.
{وَلا تَعْضُلُوهُنَّ..} . إلخ. أي: لا تمنعوهنّ من الأزواج. والعضل: التّضييق، والمنع، وهو راجع إلى معنى الحبس، ومن قول معاوية: معضلة ولا أبا حسن لها! يريد عليّا-رضي الله عنه الذي كان يحل المعضلات من الأمور. والمعنى: مسألة صعبة ضيّقة. وقال طاوس-رحمه الله تعالى-: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلا ابن عباس-رضي الله عنهما. وكلّ مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشّافعي-رضي الله عنه:[المتقارب]
إذا المعضلات لك فاصطنعني
…
كشفت حقائقها بالنّظر
هذا؛ والعضل: الحبس. قال الشاعر: [الوافر]
وإنّ قصائدي لك فاصطنعني
…
عقائل قد عضلن عن النّكاح
وقال آخر: [الكامل]
فلأعضلنّ قصائدي من بعده
…
حتّى أزوّجها من الأكفاء
{لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ} أي: لتضجر، فتفقدي ببعض مالها. قيل: هو خطاب للأزواج. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هذا في الرّجل تكون له امرأة، وهو كاره لها، ولصحبتها، ولها عليه مهر، فيضارّها؛ لتفتدي منه، وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله عن ذلك. وقيل: هو خطاب لأولياء الميت، فنهاهم الله عن عضل المرأة. وهو ما الكلام فيه.
{إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ:} اختلف في الفاحشة، فقيل: هي الزنى. وقيل: هي النشوز، وسوء الخلق، وإيذاء الزّوج، وأهله، والبذاء في الكلام، والفجور، فكلّ ذلك يحلّ للزّوج أن يأخذ منها فداء، وهو فحوى قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [229]:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وهذا ما يسمّى بالخلع، والمخالعة.
{وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قيل: هو راجع للكلام الذي قبله، والمعنى:{وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً} {وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فصدر الآية ينهى عن فعل الجاهلية، وتقاليدها، وآخرها ينهى عن سوء معاملة الزّوج في جميع الأحيان والأمكنة، والمعاشرة بالمعروف: توفية حقّها من المهر، والنفقة، وألا يعبس في وجهها لغير ذنب، وأن يكون لينا هينا في القول، لا فظّا، ولا غليظا، ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والدّستور في ذلك قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [229]:
{فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} وقوله تعالى في الآية رقم [231]: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ..} . إلخ. والرّسول صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك، فخذ من قوله ما يلي:
عن عمرو بن الأحوص الجشميّ-رضي الله عنه: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع يقول: بعد أن حمد الله، وأثنى عليه، وذكّر، ووعظ، ثمّ قال:«ألا واستوصوا بالنّساء خيرا، فإنّما هنّ عوان عندكم، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك؛ إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن؛ فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا. ألا إنّ لكم على نسائكم حقّا، ولنسائكم عليكم حقّا، فحقّكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ، وطعامهنّ» . رواه ابن ماجة، والترمذي.
{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ} أي: لدمامة، أو لسوء خلق من غير ارتكاب فاحشة، أو نشوز؛ فهذا يندب فيه الاحتمال، والصبر، وقسر النّفس على الرّضا، والقناعة بهنّ، فعسى أن يؤول الأمر إلى الخير منهنّ بأن يرزق الله منهنّ أولادا صالحين، فتنقلب تلك الكراهية محبة، والنفرة رغبة. وفي الآية ندب إلى إمساك المرأة مع الكراهية لها؛ لأنّه إذا صحبها، وتحمل ذلك المكروه طلبا للثواب، وأنفق عليها، وأحسن صحبتها؛ استحقّ الثّناء الجميل في الدّنيا، والثواب الجزيل في العقبى، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك، فخذ ما يلي من قوله:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا؛ رضي منها آخر» . رواه مسلم، وغيره. وبشار بن برد في المعاشرة يقول:[الطويل]
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا
…
صديقك لم تلق الّذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنّه
…
مقارف ذنب مرّة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى
…
ظمئت وأيّ النّاس تصفو مشاربه؟
ومن ذا الّذي ترضى سجاياه كلّها؟
…
كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [1]: {لا:} نافية. {يَحِلُّ:} فعل مضارع. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَرِثُوا:}
فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من:{أَنْ تَرِثُوا:} في محل رفع فاعل: {يَحِلُّ} والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {النِّساءَ:} مفعول به. {كَرْهاً:} حال بمعنى: مكرهات. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية، أو ناهية. {تَعْضُلُوهُنَّ:} معطوف على ما قبله، فهو منصوب، أو مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة النصب، أو الجزم حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والنون حرف دال على جماعة الإناث، وعلى النصب فهو داخل
في جملة التأويل بالمصدر، وعلى الجزم فالجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {لِتَذْهَبُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل: وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محلّ جرّ باللام، والجار والمجرور متعلّقان بما قبلهما. {بِبَعْضِ:} متعلقان بما قبلهما و (بعض) مضاف، و {ما} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة.
{آتَيْتُمُوهُنَّ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم حرف دال على جماعة الذكور، وحرّكت بالضم لتحسين اللفظ، فتولدت واو الإشباع، والهاء مفعول به أول، والنون حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: آتيتموهن إيّاه. {إِلاّ:} أداة استثناء. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {يَأْتِينَ:} فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب ب {أَنْ} ونون النسوة فاعله، و {أَنْ} والفعل:{يَأْتِينَ:} في تأويل مصدر في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، أو في محل نصب على الاستثناء، وهو أقوى. {بِفاحِشَةٍ:} متعلقان بما قبلهما.
{مُبَيِّنَةٍ:} صفة: (فاحشة). و ({عاشِرُوهُنَّ}): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والنون حرف دال لجماعة الإناث. {بِالْمَعْرُوفِ:} متعلقان به، أو بمحذوف حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {كَرِهْتُمُوهُنَّ:} إعرابه مثل إعراب سابقه، والفعل في محل جزم فعل الشرط، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنها شرط جملة شرط غير ظرفي. {فَعَسى:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(عسى): فعل ماض جامد مبني على فتح مقدر على الألف للتعذّر وهو تام، و {أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً} في تأويل مصدر في محل رفع فاعل:(عسى) والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط.
هذا؛ وأجيز اعتبار الجواب محذوفا، التقدير: فاصبروا عليهنّ. وعليه فجملة: (عسى) مفيدة للتعليل لا محلّ لها. {وَيَجْعَلَ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله. {اللهُ:} فاعله. {فِيهِ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {خَيْراً:} مفعول به. {كَثِيراً:} صفة له.
الشرح: لمّا ذكر الله تعالى في الآية حكم الفراق؛ الّذي سببه المرأة بنشوزها، وأنّ للزّوج أخذ المال منها عقّب ذلك بذكر الفراق؛ الّذي سببه الزوج، وبيّن: أنّه إذا أراد الطّلاق من غير نشوز، وسوء عشرة؛ فليس له أن يطلب منها مالا.
واختلف العلماء فيما إذا كان الزّوجان يريدان الفراق، وكان منهما نشوز، وسوء عشرة، فقال مالك-رضي الله عنه: للزّوج أن يأخذ منها؛ إذا تسببت في الفراق، ولا يراعى تسببه هو.
وقالت جماعة من العلماء: لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنّشوز، وتطلبه في ذلك.
هذا؛ وفي الآية الكريمة دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأنّ الله تعالى لا يمثل إلا بمباح. وخطب عمر-رضي الله عنه، فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النّساء، فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق قطّ امرأة من نسائه، ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقيّة. فقامت إليه امرأة، فقالت: يا عمر! يعطينا الله، وتحرمنا! أليس الله يقول:{وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً؟!} قال-رضي الله عنه: أصابت امرأة، وأخطأ عمر. وفي رواية: كلّ الناس أفقه منك يا عمر! والجملة فيها تفخيم الأمر، وتأكيده، والمبالغة فيه.
{أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً} أي: ظلما، وباطلا ظاهرا. والبهتان: هو الافتراء، وهو:
أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به، وهو بريء منه؛ لأنه يبهت عند ذلك، ويتحيّر. والاستفهام للتوبيخ، والتقريع.
هذا؛ و {زَوْجٍ} يطلق على الرّجل، والمرأة، والقرينة تبيّن الذّكر، والأنثى، ويقال لها أيضا: زوجة، وحذف التاء منها أفصح إلا في الفرائض، فإنّها بالتاء أفصح لتوضيح الوارث، قال الأصمعي: ولا تكاد العرب تقول: زوجة. وحكى الفرّاء: أنه يقال: زوجة، وأنشد للفرزدق:[الطويل]
وإنّ الّذي يسعى ليفسد زوجتي
…
كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها
وقال عمّار بن يسار-رضي الله عنه-في شأن عائشة-رضي الله عنها: «والله إنّها لزوجة نبيّكم صلى الله عليه وسلم في الدّنيا والآخرة، ولكنّ الله-تبارك وتعالى-ابتلاكم ليعلم: إيّاه تطيعون، أم هي؟» ذكره البخاريّ. وعن أنس رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمرّ به رجل، فدعاه، فقال:«يا فلان هذه زوجتي» . فقال: يا رسول الله! من كنت أظنّ به، فلم أكن أظنّ بك! فقال صلى الله عليه وسلم:«إنّ الشّيطان يجري من الإنسان مجرى الدّم في العروق» . أخرجه مسلم. والمحفوظ:
أنّ ذلك كان ليلا، وأنّ الرّجل كان الزّبير بن العوّام، رضي الله عنه.
هذا؛ والزوج: القرين، قال تعالى:{اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} أي: قرناءهم، الآية رقم [22] من سورة (الصافات)، والزّوج: ضد الفرد، وكلّ واحد منهما يسمى: زوجا أيضا، ويقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيّان، وهما سواء. قال تعالى لنوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كلّ زوج
ذكرا، وأنثى. رقم [40] من سورة (هود). وقال تعالى في سورة (الأنعام):{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.} .
إلخ، والمعنى: ثمانية أفراد، والزّوج: الصّنف، والنوع، قال تعالى في سورة (لقمان) رقم [10]:{فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ومثله في سورة الحجّ رقم [5]. وانظر (القنطار) في سورة (آل عمران) الآية رقم [14].
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {أَرَدْتُمُ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {اِسْتِبْدالَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {زَوْجٍ:} مضاف إليه. من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {مَكانَ:} ظرف مكان متعلق بالمصدر، أو مفعول ثان له، والمعنى لا يأباه. ({آتَيْتُمْ}): فعل، وفاعل. {إِحْداهُنَّ:}
مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون حرف دال على جماعة الذكور. {قِنْطاراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.
{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، (لا): ناهية. {تَأْخُذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:
{شَيْئاً} كان صفة له
…
إلخ. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها، و (إن) ومدخولها كلام معطوف على (إن) السابقة ومدخولها، لا محلّ لها مثله.
{أَتَأْخُذُونَهُ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. ({تَأْخُذُونَهُ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {بُهْتاناً:} حال بمعنى: باهتين، أو هو مفعول لأجله. {وَإِثْماً:}
معطوف على ما قبله. {مُبِيناً:} صفة له.
الشرح: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ:} كلمة تعجب، أو استفهام، وإنكار. والمعنى: كيف يليق بالعاقل أن يستردّ ما بذله لزوجته عن طيب نفس؟! {وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ} أصل الإفضاء في اللغة: الوصول، يقال: أفضى إليه؛ أي: وصل إليه. ثمّ للمفسرين في معنى الإفضاء في هذه
الآية قولان: أحدهما: أنّه كناية عن الجماع، وهو قول ابن عباس-رضي الله عنهما، فإنّه قال: الإفضاء في هذه الآية: الجماع، ولكنّ الله كريم يكني. وهو قول مجاهد، والسّدي، واختيار الزجّاج، وابن قتيبة. وهو مذهب الشّافعي؛ لأنّ عنده أنّ الزّوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع بنصف المهر؛ وإن خلا بها. والقول الثاني في معنى الإفضاء هو: أن يخلو بها؛ وإن لم يجامعها.
قال الفراء: الإفضاء: أن يخلو الرّجل، والمرأة؛ وإن لم يجامعها. وبه قال أبو حنيفة- رحمه الله تعالى-وأصحابه، قالوا: إذا خلا بها خلوة صحيحة، يجب كمال المهر، والعدّة، دخل بها، أو لم يدخل بها؛ لما رواه الدّارقطني عن ثوبان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كشف خمار امرأة، ونظر إليها؛ وجب الصّداق» . وقال عمر-رضي الله عنه: إذا أغلق بابا، وأرخى سترا، ورأى عورة؛ فقد وجب الصّداق، وعليها العدّة، ولها الميراث. وانظر الآية رقم [237] من سورة (البقرة) فإنّه جيد، والحمد لله!.
{وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} المراد بذلك: عقد النكاح: زوّجت، وأنكحت. وقال سفيان الثوري-رحمه الله: هو قوله تعالى: {فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ} . وفي صحيح مسلم عن جابر-رضي الله عنه-في خطبة الوداع: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال فيها: «واستوصوا بالنّساء خيرا، فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» . وفي الآية الكريمة استعارة لفظ الميثاق للعقد الشّرعيّ.
الإعراب: {وَكَيْفَ:} الواو: حرف استئناف. كيف: اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من واو الجماعة. {تَأْخُذُونَهُ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{أَفْضى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر. {بَعْضُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {إِلى بَعْضٍ:} متعلقان بما قبلهما. ({أَخَذْنَ}): فعل، وفاعل. {مِنْكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، وجوز تعليقهما بمحذوف حال من:{مِيثاقاً} . {مِيثاقاً:} مفعول به. {غَلِيظاً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها.
الشرح: سبب نزول هذه الآية والتي قبلها ذكرته في الآية رقم [19]. {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ} أي: لا تتزوّجوا ما تزوّج آباؤكم من النّساء. وهذا نهي لما كان الجاهليّون يفعلونه
من التزوّج بامرأة الأب، سواء المدخول بها، والمعقود عليها من غير دخول بها، وانظر تفسير النكاح، وشرحه في الآية رقم [6]. {إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ} أي: مضى من تزوّج بعضكم حليلة أبيه، قبل نزول الأحكام، وتبيين الحلال، والحرام. هذا؛ ووقعت:{ما} على النّساء، كما وقعت في الآية رقم [3].
{إِنَّهُ:} أي: النكاح، والزواج المفهوم من الفعل السّابق. {كانَ فاحِشَةً:} سمّاه الله فاحشة؛ لأنّ زوجة الأب بمنزلة الأم، ونكاح الأمهات حرام، فلمّا كان كذلك؛ سمّاه الله فاحشة؛ لأنّه من أقبح المعاصي. {وَمَقْتاً} يعني: أنّه يورث المقت من الله، وهو أشدّ الغضب، وغاية الخزي، والنّدامة. {وَساءَ سَبِيلاً} أي: وبئس ذلك طريقا؛ لأنّه يؤدّي إلى مقت الله، والعرب تسمّي الرّجل من امرأة أبيه مقيتا، وكان منهم الأشعث بن قيس، وأبو معيط بن أبي عمرو بن أميّة. وذكر القرطبيّ كثيرين غيرهما.
قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابيّ عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوّج الرّجل امرأة أبيه؛ إذا طلقها، أو مات عنها، ويقال لهذا الرجل: الضّيزن. وقال ابن عرفة: كانت العرب إذا تزوّج الرجل امرأة أبيه، فأولدها، قيل للولد: المقتيّ. وأصل المقت: البغض، من: مقته، يمقته، مقتا، فهو ممقوت، ومقيت، فكانت العرب، تقول للرّجل من امرأة أبيه: مقيت، فسمّى الله تعالى هذا النكاح مقتا؛ إذ هو ذا مقت، يلحق فاعله، وخذ ما يلي:
فقد روى البغويّ بسنده عن البراء بن عازب-رضي الله عنه-قال: مرّ بي خالي، ومعه لواء، فقلت: أين تذهب؟ قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوّج امرأة أبيه أن آتيه برأسه. وينبغي أن تعلم: أنّ ما ذكر في هذه الآية مشروع في بيان من يحرم نكاحها، ومن لا يحرم، وإنّما خصّ هذا النكاح بالنّهي، وأفرده بالذّكر في هذه الآية مبالغة في الزّجر عنه، حيث كانوا مصرّين على تعاطيه. والله أعلم بمراده.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَنْكِحُوا:} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، فلا محلّ لها على الاعتبارين، {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأوّلين مبنية على السّكون في محل نصب مفعول به. {نَكَحَ:} فعل ماض. {آباؤُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: ولا تنكحوا الذي، أو شيئا نكحه آباؤكم. {مِنَ النِّساءِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنَ} بيان لما أبهم في:{ما} وعلى اعتبارها مصدرية، وتؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر، والمصدر يؤول باسم مفعول، ويكون التقدير: ولا تنكحوا منكوحة آبائكم. {إِلاّ:} أداة استثناء. {ما:}
تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السّكون في محل نصب على الاستثناء المنقطع، أو المتصل. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَلَفَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{ما} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها.
{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمها يعود إلى الزواج، أو النّكاح المفهوم من الفعل السابق. {فاحِشَةً:} خبر: {كانَ} . {وَمَقْتاً:} معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(إنّ) والجملة الاسمية تعليل للنهي، لا محلّ لها.
({ساءَ}): فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فسّره التمييز، وهو:{سَبِيلاً،} والمخصوص بالذم محذوف، التقدير: ذلك النكاح، وجملة:{وَساءَ سَبِيلاً} مستأنفة لا محل لها. وقيل: هي في محل نصب مقول القول لقول محذوف معطوف على خبر: {كانَ} التقدير: ومقولا فيه ساء سبيلا. وهو تكلّف لا داعي له.
الشرح: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ} أي: حرّم عليكم نكاحهنّ، وهو عامّ في كلّ حال، لا يتخصّص بوجه من الوجوه. هذا؛ و {أُمَّهاتُكُمْ} جمع: أم، والقياس أن يكون جمعها أمّات، قال الزّمخشري في الكشاف عند قوله تعالى في سورة (النّحل):{وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} . والهاء مزيدة في أمّات، كما زيدت في: أراق، فقيل: أهراق، وشذّت زيادتها في الواحدة كما في قول قصي بن كلاب، وهو الجدّ الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم:[الرجز]
أمّهتي خندف والياس أبي
…
عند تناديهم بهال وهب
وقال ابن عصفور في الممتع: أما أمّهة، فمنهم من يجعل الهاء فيه زائدة، ومنهم من يجعلها أصلية، فالذي يجعلها زائدة يستدلّ على ذلك بأنها في معنى الأم، وأورد بيت قصي؛ إلا أنّ الفرق بين أمّ، وأمّهة: أنّ أمهة تقع في الغالب على من يعقل، وقد تستعمل فيما لا يعقل، وذلك قليل جدّا، نحو قول السّفاح بن بكير:[السريع]
قوّال معروف وفعّاله
…
عقّار مثنى أمّهات الرّباع
و «أمّ» يقع في الغالب على من لا يعقل، وقد يقع على من يعقل، نحو قول جرير:[الوافر]
لقد ولد الأخيطل أمّ سوء
…
على باب استها صلب وشام
وممّا يدل أيضا على زيادة الهاء في أمهة قولهم: أمّ بينة الأمومة-بغير هاء-ولو كانت أصلية لثبتت في المصدر، والذي يجعلها أصلية يستدلّ على ذلك بما حكاه صاحب العين من قولهم: تأمّهت أمّا، فتأمّهت تفعّلت بمنزلة: تنبّهت مع أن زيادة الهاء قليلة جدّا، فمهما أمكن جعلها أصلية؛ كان ذلك أولى فيها. والصّحيح: أنها زائدة؛ لأنّ الأمومة حكاها أئمّة اللغة، وأما تأمّهت، فانفرد بها صاحب العين، وكثيرا ما يأتي في كتاب العين ما لا ينبغي أن يؤخذ به لكثرة اضطرابه، وخلله.
هذا؛ والأمّ تعمّ من ولدتك، أو ولدت من ولدك، وإن علت. {وَبَناتُكُمْ:} جمع بنت أو ابنة، انظر ما ذكرته في الآية رقم [11] وتتناول من ولدتها، أو ولدت من ولدها، وإن سفلت.
{وَأَخَواتُكُمْ:} من جهة الأب، أو الأم، أو منهما. {وَعَمّاتُكُمْ:} جمع: عمّة، وهي كل أنثى ولدها من ولد ذكرا ولدك. {وَخالاتُكُمْ:} جمع: خالة، وهي كلّ أنثى ولدها من ولد أنثى ولدتك قريبا، أو بعيدا. {وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ} تتناول القربى، والبعدى، فهذه الأصناف السّبعة محرّمة بسبب النّسب بنصّ القرآن، وجملته: أنه يحرم على الرّجل أصوله، وفصوله، وفصول أوّل فصل من كلّ أصل بعده أصله، وقل مثله في المرأة، قال العلماء: كلّ امرأة حرّم الله نكاحها بالنسب، والرّحم؛ فحرمتها مؤبّدة، لا تحلّ بوجه من الوجوه.
الصنف الثاني من المحرمات المحرمات بالسّبب، وهنّ سبع أيضا: الأول، والثاني المحرمات بالرّضاع، وذلك قوله تعالى:{وَأُمَّهاتُكُمُ اللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ} فكلّ أنثى انتسبت باللّبن إليها فهي أمّك، وبنتها أختك. وإنّما نصّ الله على ذكر الأم، والأخت ليدلّ بذلك على جميع الأصول، والفروع، فنبّه بذلك: أنّه تعالى أجرى الرّضاع مجرى النّسب.
ويدلّ على ذلك ما روي عن عائشة-رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحرم من الرّضاع ما يحرم من الولادة» . أخرجه البخاريّ، ومسلم، فزوج المرضعة أبو الرّاضع، وأولادها أخوته، وأخواتها خالاته، وإخوتها أخواله
…
إلخ. وإنما سمّى الله المرضعات: أمّهات لأجل الحرمة، فيحرم عليه نكاحها، ويحلّ له النّظر إليها، والخلوة بها، والسّفر معها، وتقديرها، واحترامها، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين مع حليمة، السّعدية مرضعته على القول بحياتها بعد انتهاء تلك الغزوة، وإكرام أخته الشّيماء بنت حليمة-رضي الله عنها. ولا يترتّب على الرضاع جميع أحكام الأمومة من كلّ وجه، فلا يتوارثان، ولا تجب على كلّ واحد نفقة الآخر، وغير ذلك من الأحكام، وصلة الرّحم مشروعة بينهما بلا شكّ.
وإنما يثبت الرضاع بشرطين: أحدهما أن يكون إرضاع الصّبيّ، والصّبيّة في حال الصّغر، وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته، لقوله تعالى في سورة (البقرة):{وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} وقوله تعالى في سورة (لقمان): {وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ} . الشرط الثاني: أن يكون الرّضاع خمس رضعات متفرّقات. روي ذلك عن عائشة، وبه قال ابن الزّبير-رضي الله عنه، وإليه ذهب الشّافعي، ويدلّ على ذلك ما روي عن عائشة-رضي الله عنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحرّم المصّة، ولا المصّتان» . أخرجه مسلم.
وعن عائشة؛ قالت: كان فيما أنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثمّ نسخت ب (خمس معلومات) فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنّ فيما يقرأ من القرآن. قولها: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل: أنّه لم يبلغها نسخ ذلك، وأجمعوا على أنّ هذا لا يتلى، فهو ما نسخ تلاوته وبقي حكمه كآية الرّجم؛ التي ذكرتها مرارا.
وذهب جمهور العلماء إلى أنّ قليل الإرضاع، وكثيره يحرّم، وهو قول ابن عبّاس، وابن عمر-رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيّب، وإليه ذهب الثوري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، وأبو حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والرواية الثانية كمذهب الشافعي، واحتجّ الجمهور بمطلق الآية؛ لأنه عمل بعموم القرآن، وظاهره، ولم يذكر عددا، وأجاب الشافعي، ومن وافقه في هذه المسألة بأنّ السّنّة مبينة للقرآن، ومفسرة له.
{وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ} يعني: إذا تزوّج الرّجل بامرأة حرمت عليه أمّها الأصلية، وجميع جدّاتها من قبل الأب، والأم كما في النسب، والرّضاع أيضا، ومذهب أكثر الصحابة وجميع التّابعين، وكلّ العلماء: أنّ من تزوّج امرأة حرمت عليه أمّها بنفس العقد، سواء دخل بها، أو لم يدخل بها، وذهب جمع من الصحابة إلى أنّ أم المرأة إنّما تحرم بالدخول بابنتها، وهو قول عليّ، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن الزّبير، وجابر، وأظهر الروايات عن ابن عباس-رضي الله عنهم أجمعين-، والعمل اليوم على القول الأوّل، وهو مذهب الجمهور، ويدلّ على ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيّما رجل نكح امرأة؛ فلا يحلّ له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل بها؛ فلينكح ابنتها، وأيّما رجل نكح امرأة؛ فلا يحلّ له أن ينكح أمّها؛ دخل بها، أو لم يدخل» . أخرجه الترمذيّ. وروي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل تزوّج امرأة، فطلقها قبل أن يدخل بها:«إنّه لا بأس أن يتزوّج ابنتها، ولا يحلّ له أن يتزوّج أمّها» . وهذا ما يقرّر قاعدة شرعيّة: (العقد على البنات يحرّم الأمّهات، والدّخول على الأمّهات يحرّم البنات).
{وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ:} ربائبكم: جمع ربيبة، والرّبيب: ولد المرأة من زوج آخر، سمّي بذلك؛ لأنّه يربّه، أي: يتولّى شئونه، ويقوم عليه،
كما يربّ ولده في غالب الأمر. {فِي حُجُورِكُمْ:} خرّج مخرج الغالب، وهو قيد غير لازم؛ لأنّ الرّبيب، والرّبيبة يحرمان، وإن لم يكونا في حجر أحد الزوجين.
هذا؛ و {حُجُورِكُمْ} جمع: حجر بفتح الحاء، وكسرها: مقدّم الثوب، والمراد لازم الكون في الحجور، وهو الكون في تربيتهم، وتحت عنايتهم. هذا؛ والحجر يطلق على أمور: حضن الإنسان، وهو ما بين يديه من ثوبه، يقال: نشا فلان في حجر فلان، أي في رعايته، وحفظه.
هذا؛ والحجر بفتح الحاء: المنع من التصرّفات الماليّة لسفه، وفلس، وغير ذلك، وأمّا الحجر بكسر الحاء، فيطلق على الفرس، وعلى العقل، وعلى حجر إسماعيل، وعلى حجر ثمود، وعلى الكذب، وعلى الحرام، كما في قوله تعالى في سورة (الفرقان):{وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} وقد نظمها بعضهم في قوله: [البسيط]
ركبت حجرا وطفت البيت خلف الحجر
…
وحزت حجرا عظيما في دخول الحجر
لله حجر منعني من دخول الحجر
…
ما قلت حجرا ولو أعطيت ملء الحجر
هذا؛ ويقرأ («اللائي») بالهمزة، كقوله تعالى في سورة الطّلاق:{وَاللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاّئِي لَمْ يَحِضْنَ} وقال الشاعر: [الطويل]
من اللاء لم يحجبن يبغين حسبة
…
ولكن ليقتلن البرئ المغفّلا
هذا؛ و ({اللاّتِي}) و ({اللاّئِي}) جمعان ل «الّتي» كما تجمع على: «اللواتي» ولم يوجد هذا الجمع في القرآن، كما تجمع على:«ذوات» قال ابن مالك-رحمه الله-في ألفيته: [الرجز]
باللاّت واللاّء الّتي قد جمعا
…
واللاّء كالّذين نزرا وقعا
{وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} يعني: أزواج أبنائكم. {وَحَلائِلُ} جمع:
حليلة، أو حليل، والمراد هنا الأوّل. وقيل في اشتقاقهما: إنّهما من الحلول، فسمّيا بذلك؛ لأنهما يحلان منزلا واحدا، وفراشا، فحليل على هذا القول: فعيل بمعنى: مفاعل، مثل شريب، وأكيل، ونديم، بمعنى مشارب، ومؤاكل، ومنادم. وقيل: بل هما مشتقّان من الحلّ؛ لأنّ كلاّ منهما يحلّ لصاحبه، فعلى هذا القول «فعيل» بمعنى: مفعل مثل: حكيم بمعنى محكم.
وقيل: بل هما مشتقّان من الحل، وهو على هذا القول «فعيل» بمعنى: فاعل، وسمّيا بذلك لأنّ كلاّ منهما يحل إزار صاحبه. وقيل: سمّيا بذلك؛ لأنّ كلاّ منهما يحل من الآخر محلاّ، لا يحلّه سواه، وهو قريب من الأوّل.
وقوله: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} خرج الولد المتبنّى، فإنه يجوز له أن يتزوّج امرأة من تبنّاه؛ لأنه كان في الجاهلية، وصدر الإسلام الولد المتبنّى بمنزلة الابن. وقصّة زيد بن حارثة في سورة (الأحزاب) أكبر شاهد على ذلك، ومثل زوجة الابن من الصّلب في التحريم زوجة الابن من الرّضاع.
مسألة البنت المخلوفة من الزّنى: وشرحها: لو زنى بامرأة، ولم يتزوجها بعقد صحيح، وحملت منه ببنت، فيجوز له أن يتزوّج هذه البنت عند الشافعي؛ لأنّه لا حرمة لماء الزنى، ولا يجوز له أن يتزوّجها عند مالك، والثّوري، وأبي حنيفة، والأوزاعيّ، والليث. ولأحمد روايتان، وبالغوا في ذلك بأنّه لو مسّها بشهوة؛ حرمت عليه أمّها، وابنتها، وحرمت على الأب، والابن. وإنّي أجرؤ على الفتوى: أنه على رأيهم في هذا الزّمن لا يوجد شيء حلال؛ لما نسمعه، ونسأل عنه من مباضعة الحموات، أي: أمهات الزّوجات، وغيرهنّ، فضلا عن المداعبة، واللّمس، والنّظر بشهوة، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وحجّة الشّافعي-رضي الله عنه-فيما ذهب إليه مبدأ:(الحرام لا يحرّم الحلال) وهذا مبدأ مستقيم، والله المستعان، وبه التّوفيق، وعليه الاتّكال.
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ:} بنسب، أو رضاع، بل، وبملك يمين؛ أي: لا يجوز للرّجل أن يجمع بين أختين في عصمته في حياتهما، وأجمع العلماء على أنّه لو طلق المرأة طلاقا رجعيّا؛ لا يجوز له أن يتزوج أختها، أو أربعا سواها حتى تنقضي عدّتها. واختلفوا لو طلقها طلاقا بائنا، ولم تنقض عدّتها؛ فالمعتمد: أنه يجوز له زواج أختها، أو أربع. {إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ} يعني: لكن ما قد مضى؛ فإنّه معفو عنه بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} . وقيل: إنّ فائدة هذا الاستثناء: أنّ أنكحة الكفار صحيحة، فلو أسلم عن أختين؛ قيل: له أختر أيتهما شئت، ويدلّ على ذلك ما روي عن الضّحّاك بن فيروز عن أبيه، قال:
قلت: يا رسول الله! أسلمت، وتحتي أختان. قال:«طلق أيتهما شئت» . أخرجه أبو داود، ومثله ما إذا أسلم، وعنده أكثر من أربع نسوة، فإنّه يختار أربعا، ويطلق سائرهنّ.
وقال بعض العلماء في حدّ ما يحرم الجمع بينهما، أقول: قرابة بنسب أو لبن، لو فرض أحدهما ذكرا؛ لا يجوز له زواج الآخر، لا يجوز الجمع بينهما. أقول: ويستثنى من ذلك زوجة أبي المرأة فيجوز الجمع بينها وبين ربيبتها، وعليه لا يجوز الجمع بين المرأة، وعمّتها، ولا بين المرأة، وخالتها، ودليله ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها» . رواه البخاريّ، ومسلم. والشيعة يجوزون الجمع بين من ذكر؛ لأنهم لا يأخذون بالأحاديث النبوية إلا إذا كانت مروية عن طريق أهل البيت. أعرف شيعيّا جمع بين المرأة، وبنت أختها في حياتهما. والحكمة في منع ذلك ظاهرة، وهو ما يحدث بين الضرائر من التنازع، والتشاجر، وفيه قطع للرّحم بين المرأة وبين بنت أخيها، أو بنت أختها. هذا؛ وقال ابن شهاب: فنرى خالة أبيها، وعمّة أبيها بهذه المنزلة. وإنّما صار إلى ذلك لأنه حمل الخالة، والعمّة على العموم، وتمّ له ذلك.
الإعراب: {حُرِّمَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أُمَّهاتُكُمْ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، والكاف في محل جر بالإضافة، والأسماء التالية معطوفة عليه، و ({بَناتُ}) مضاف، {الْأَخِ} مضاف إليه، و ({بَناتُ}) مضاف، و {الْأُخْتِ} مضاف إليه. {اللاّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة ({أُمَّهاتُكُمْ}). {أَرْضَعْنَكُمْ:} فعل ماض مبني على السكون، والنون فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَأَخَواتُكُمْ:}
معطوف على ما قبله. {مِنَ الرَّضاعَةِ:} متعلقان بمحذوف حال ممّا قبلهما. {وَأُمَّهاتُ:}
معطوف أيضا، وهو مضاف، و {نِسائِكُمْ:} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَرَبائِبُكُمُ:} معطوف أيضا. {اللاّتِي:} صفة له. {فِي حُجُورِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {مِنْ نِسائِكُمُ:} متعلقان بمحذوف حال من: ({رَبائِبُكُمُ}). {اللاّتِي:} صفة له.
{دَخَلْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة صلة:{اللاّتِي} . {بِهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} وهو في محل جزم فعل الشرط، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {دَخَلْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية خبر:{تَكُونُوا} والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال:
لأنها جملة شرط غير ظرفي. {بِهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إن» . {جُناحَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحلّ محلّ المفرد. و (إن) ومدخولها كلام معترض بين الأسماء المتعاطفة.
{وَحَلائِلُ:} معطوف على الأسماء السابقة، وهو مضاف، و {أَبْنائِكُمُ} مضاف إليه، والكاف في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جرّ صفة:
{أَبْنائِكُمُ} . {مِنْ أَصْلابِكُمْ:} متعلقان بمحذوف صلة: {الَّذِينَ} .
{وَأَنْ:} الواو: حرف عطف. ({أَنْ}): حرف مصدري، ونصب. {تَجْمَعُوا:} فعل مضارع منصوب ب: ({أَنْ}) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و ({أَنْ}) والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل رفع معطوف على {أُمَّهاتُكُمْ:} التقدير: وحرم عليكم الجمع
…
إلخ. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله،
و {بَيْنَ:} مضاف، و {الْأُخْتَيْنِ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنّى، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ:} انظر الآية السّابقة. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى:{اللهَ} . {غَفُوراً رَحِيماً:} خبران ل {كانَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {أَنْ} . والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.
الشرح: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ:} عطف على المحرّمات المذكورات قبل. والتحصين:
التمنّع، ومنه الحصن؛ لأنّه يمتنع فيه، ومنه قوله تعالى في سورة (الأنبياء):{وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} . ومنه: الحصان للفرس؛ لأنّه يمنع صاحبه من الهلاك، والحصان: المرأة العفيفة، والحرّة، والمرأة المسلمة الشّريفة. قال حسّان-رضي الله عنه-في الصدّيقة بنت الصدّيق-رضي الله عنها:[الطويل]
حصان رزان ما تزنّ بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
والمعنى: حرّمت النساء ذوات الأزواج من النساء، فلا يحلّ لأحد نكاحهنّ قبل مفارقة أزواجهنّ، أو موتهم، وهذه هي السّابعة من النساء، اللاّتي حرمن بالسّبب. قال أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في نساء كنّ هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهنّ أزواج في مكّة، فتزوجن ببعض المسلمين، ثم قدم أزواجهنّ مهاجرين، فنهى الله عن نكاحهنّ. والمراد تحريم نكاح المذكورات فهو على حذف مضاف.
{إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ:} يعني: السّبايا، اللاتي سبين ولهنّ أزواج في دار الحرب، فيحلّ لمالكهنّ وطؤهنّ. فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين جيشا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا لهنّ أزواج من المشركين، فكرهوا غشيانهنّ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. أخرجه مسلم. قال الفرزدق في هذا المعنى:[الطويل]
وذات حليل أنكحتها رماحنا
…
حلال لمن يبني بها لم تطلّق
{كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ:} المعنى: حرمت عليكم أمهاتكم
…
وكتب عليكم هذا كتابا، بمعنى:
فرضه، وقضى به. وقيل: المعنى: الزموا كتاب الله، واعملوا به، ولا تخرجوا عن حدوده.
{وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} أي: وأحلّ لكم ما سوى ذلكم الذي ذكر من المحرّمات، وظاهر هذه الآية يقتضي حلّ ما سوى المذكورين من الأصناف المحرّمات، لكن قد دلّ الدّليل من السّنّة بتحريم أصناف أخر سوى ما ذكر.
فمن ذلك: أنّه يحرم الجمع بين المرأة، وعمّتها، وبين المرأة، وخالتها، كما رأيته في الآية السّابقة، ومن ذلك: المطلقة ثلاثا، لا تحلّ لزوجها الأوّل حتى تنكح زوجا غيره. ومن ذلك المعتدّة، فلا تحلّ للأزواج حتى تنقضي عدّتها. ومن ذلك: أنّ من كان عنده أربع نسوة حرم عليه أن يتزوج بخامسة. ومن ذلك الملاعنة، فإنّها محرّمة على الملاعن بالتأبيد، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«المتلاعنان لا يجتمعان» . فهذه أصناف من المحرمات سوى ما ذكر في الآيتين. فعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ} ورد بلفظ العموم، لكن العموم دخله التّخصيص، فيكون عامّا مخصوصا.
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ} أي: وأحلّ لكم أن تطلبوا بأموالكم، أي: تنكحوا بصداق، أو تشتروا بثمن. وفي الآية دليل على أنّ الصداق لا يتقدّر بشيء، فيجوز على القليل، والكثير، وهو مذهب الشّافعي-رضي الله عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الموهوبة:«التمس ولو خاتما من حديد» . وقال أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صداق النّساء، فقال:«هو ما اصطلح عليه أهلوهم» . وروى جابر-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنّ رجلا أعطى امرأة ملء يديه طعاما؛ كانت به حلالا» . أخرجهما الدّارقطنيّ في سننه.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لا يكون الصّداق أقل من ربع دينار، أو ثلاثة دراهم كيلا، وعند أبي حنيفة، وأحمد رحمهما الله تعالى: أقلّه عشرة دراهم، واحتجّا بما رواه جابر:
أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صداق دون عشرة دراهم» . أخرجه الدارقطنيّ. قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وفي سنده مبشر بن عبيد متروك الحديث.
{مُحْصِنِينَ:} متعفّفين بالزّواج عن الزنى. {غَيْرَ مُسافِحِينَ:} غير زانين. والسّفاح: الفجور، والزنى، وأصله من السّفح، وهو الصبّ، والسّيلان، قال تعالى:{أَوْ دَماً مَسْفُوحاً،} وإنّما سمّي الزنى سفاحا؛ لأنّ الزاني لا غرض له إلا صب النّطفة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس:«هذا النّكاح، لا السّفاح، ولا نكاح السّرّ» .
{فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ:} الاستمتاع: التلذّذ. والأجور: المهور، وسمّي المهر أجرا؛ لأنّه أجر الاستمتاع. وهذا نصّ في أنّ المهر يسمى أجرا، ودليل على أنّه في مقابلة البضع؛ لأنّ ما يقابل المنفعة يسمّى أجرا. واختلف في معنى الآية، فقال الحسن، ومجاهد، وغيرهما: المعنى: فما أنفقتم، وتلذّذتم بالجماع من النّساء بالنكاح الصّحيح. {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن، فالمهر بدل المنافع ليس بدل الأعيان، كما سمّي بدل الدّار، والدّابة أجرا.
وقال قوم: المراد من الآية نكاح المتعة، وهو أن ينكح امرأة إلى مدّة معلومة بشيء معلوم، فإذا انقضت تلك المدّة؛ بانت منه بغير طلاق، ويستبرئ رحمها، وليس بينهما ميراث، وكان هذا في ابتداء الإسلام، ثمّ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المتعة، فحرّمها. ففي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه: أنّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا أيّها النّاس إنّي كنت أذنت لكم في الاستمتاع بالنّساء، وإنّ الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء؛ فليخلّ سبيله، ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا» . وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصّحابة، فمن بعدهم. وعن عليّ-رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وفي رواية: الأهلية. أخرجه البخاريّ، ومسلم.
واختلفت الرّوايات عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في المتعة، فروي عنه: أنّ الآية محكمة. وكان يرخّص في المتعة، قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة، أسفاح هي أم نكاح؟ فقال: لا سفاح، ولا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: متعة؛ قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} . قلت: هل لها عدّة؟ قال: نعم حيضة، قلت: هل يتوارثان؟ قال: لا. وروي: أنّ النّاس لما ذكروا، وتذاكروا فتيا ابن عباس بالمتعة؛ حتّى قال أحد الشّعراء:[البسيط]
أقول للرّكب إذ طال الثّواء بنا
…
يا صاح هل لك في فتيا ابن عبّاس؟
في بضّة رخصة الأطراف ناعمة
…
تكون مثواك حتّى مرجع النّاس
قال: قاتلهم الله! أنا ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق، لكن قلت: إنّما تحلّ للمضطر كما تحلّ الميتة له. وروي: أنّه رجع، وقال بتحريمها. روى عطاء الخراساني عن ابن عباس: أنّها صارت منسوخة، بقوله تعالى:{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . وروى سالم بن عبد الله بن عمر: أنّ عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام ينكحون هذه المتعة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؟ لا أجد رجلا نكحها إلا رجمته بالحجارة. وقال: هدم المتعة النكاح، والطلاق، والعدّة، والميراث. وهذا ما اتفق المسلمون عليه جيلا بعد جيل، وقبيلا بعد قبيل، وآخر من تكلّم بحلّها من المسلمين المأمون الخليفة العباسي، وهو ما يلي:
فقد روي: أنّه أباحها للمجاهدين، وهم بعيدون عن أهليهم، فدخل عليه العالم الجليل يحيى بن أكثم-رحمه الله تعالى-وهو يرتعد غضبا، فقال المأمون: ما للإمام يشتاط غضبا؟ فقال الإمام العظيم: كيف لا وقد انتهكت حرمات الله، وأحلّ ما حرّم الله، ورسوله؟! قال المأمون:
ومن فعل ذلك؟ فقال: أمير المؤمنين فعل ذلك. قال: وكيف كان ذلك؟! قال: ألم تحل المتعة؛ وقد حرّمها الله، ورسوله إلى يوم القيامة؟ قال: أليست تحلّ بعقد شرعيّ، ومهر، ورضا،
واختيار، مع رشد، وعقل؟! قال: يا أمير المؤمنين! فالله يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أهي زوجة ترث، وتورث؟ قال: لا. قال:
أيلحق الولد بالمتمتع إذا كان بعيدا عن البلد المتمتّع بها؟ قال: لا، قال: فإذا محرّمة إذا كانت ليست زوجة بالمعنى الصحيح، ولا أمة بملك اليمين. فرجع المأمون عن تحليلها، واستغفر الله.
بعد هذا أقول: تأباها المروءة، والشّرف، فأيّ رجل فيه شيء من ذلك، ثمّ هو يرضى بأن يعطي أخته، أو بنته لشخص أياما معدودة، ثم هو يردّها له، وقد تكون حملت منه بولد؟! ثمّ ما مصير هذا الولد؟ هل هو لقيط، أو ابن زنى، أو هو ولد شرعي، فيجب أن يرث من والده، وينتسب إليه؟! وهل يتأتّى هذا في نكاح المتعة؟.
{فَرِيضَةً:} لازمة، وواجبة. {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ:} اختلفوا فيهنّ، فمن حمل ما قلته على نكاح المتعة قال: أراد أنّهما إذا عقدا عقدا إلى أجل على مال، فلمّا تمّ الأجل، فإن شاءت المرأة؛ زادت في الأجل، وزاد الرّجل في الأجر، وإن لم يتراضيا؛ فارقها، وقد تقدّم: أنّ ذلك كان جائزا، ثمّ نسخ، وحرم. ومن حمل الآية على الاستمتاع بالنّكاح الصحيح؛ قال: المراد بقوله: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ} يعني: من الإبراء من المهر، والافتداء، والاعتياض. وقال الزجّاج: معناه: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزّوج مهرها، وأن يهب الرّجل المرأة التي لم يدخل بها نصف المهر؛ الذي لا يجب عليه.
{إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً:} بما يصلحكم أيها الناس في مناكحكم، وغيرها من سائر أموركم.
{حَكِيماً} فيما دبّر لكم من التدبير، وفيما أمركم به، ونهاكم عنه، ولا يدخل حكمه خلل، ولا زلل، والحمد لله!.
الإعراب: {وَالْمُحْصَناتُ:} الواو: حرف عطف. ({الْمُحْصَناتُ}): معطوف على: {أُمَّهاتُكُمْ} في الآية السابقة عطف مفرد على مفرد، أو هو نائب فاعل لفعل محذوف، التقدير: وحرمت عليكم المحصنات، فيكون العطف عطف جملة فعلية على مثلها. {مِنَ النِّساءِ:} متعلقان ب ({الْمُحْصَناتُ}) لأنّه صيغة مفعول. وقيل: متعلقان بمحذوف حال منه. {إِلاّ} أداة استثناء. {ما:} مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية.
{مَلَكَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُكُمْ:} فاعل، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: إلا الذي. أو إلا شيئا ملكته أيمانكم، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر، والمصدر يؤوّل بصيغة المفعول في محلّ نصب على الاستثناء؛ إذ التقدير: إلا مملوكة أيمانكم.
{كِتابَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، دلّ عليه:{حُرِّمَتْ} في الآية السابقة، أو المقدّر قبل ({الْمُحْصَناتُ}). و {كِتابَ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله.
{عَلَيْكُمْ} جار ومجرور متعلقان بالفعل المقدر، والجملة الفعلية على هذا مستأنفة، لا محلّ لها.
هذا؛ وقال الزجّاج، والكوفيّون:{عَلَيْكُمْ:} اسم فعل أمر، فهو إغراء، و {كِتابَ:} مفعول به مقدّم له. وهو غير مسلّم، فإنّ الإغراء لا يجوز فيه تقديم معموله عليه، فلا يقال: زيدا عليك، وزيدا دونك، بل يقال: عليك زيدا، ودونك عمرا. وهناك من يقول: هو منصوب بفعل محذوف، التقدير: الزموا كتاب الله. هذا؛ وقرأ أبو حيوة، وابن السميقع:(«كتب الله عليكم») على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، والمعنى: كتب الله عليكم ما قصّه من التحريم.
{وَأُحِلَّ:} الواو: حرف عطف. ({أُحِلَّ}): فعل ماض مبني للمجهول. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع نائب فاعل:
({أُحِلَّ}) والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، وعليه ف {كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} معترض بين الجمل المتعاطفة، لا محلّ له. {وَراءَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {وَراءَ} مضاف، و {ذلِكُمْ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جرّ بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {أَنْ تَبْتَغُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل منهما في محل جرّ بحرف جرّ محذوف، التقدير: لأن، أو بأن تبتغوا، وجوز اعتبار المصدر بدلا من:{ما} . وأرى صحة اعتبار المصدر في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو ابتغاؤكم، وهذه الجمل يجوز اعتبارها حالا من:{ما} أو مستأنفة لا محلّ لها.
{بِأَمْوالِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {مُحْصِنِينَ:} حال من واو الجماعة. {غَيْرَ:} حال ثانية، وهو مضاف، و {مُسافِحِينَ:} مضاف إليه، وعلامة النصب في الأول، وعلامة الجر في الثاني الياء؛ لأنّهما جمعا مذكر سالمان، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{فَمَا:} الفاء: حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {اِسْتَمْتَعْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله.
{بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {مِنْهُنَّ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف حال من الهاء العائدة إلى (ما) و (من) بيان لما أبهم فيما، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {فَآتُوهُنَّ:} الفاء واقعة في جواب الشرط. (فآتوهن): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول، والنون حرف دال على جماعة الإناث. {أُجُورَهُنَّ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، وخبر المبتدأ الذي هو (ما) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [14]، والجملة الفعلية: (آتوهن
…
) إلخ في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها. هذا؛ ويجوز اعتبار (ما) موصولة بمعنى اللاتي، وعليه فجملة {اِسْتَمْتَعْتُمْ} صلته، وجملة:{فَآتُوهُنَّ..} . إلخ خبره، ودخلت الفاء
على الخبر، وهي زائدة؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، وعلى الوجهين فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها.
{فَرِيضَةً:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: أجورهنّ التي فرضتم لهنّ، وهذه الجملة المقدّرة صلة الموصول المقدّر. وقيل: إنّه حال من: {أُجُورَهُنَّ} فتكون بمعنى: مفروضة.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {جُناحَ} اسمها مبني على الفتح في محلّ نصب. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر: ({لا}). {فِيما:} جار ومجرور متعلّقان بالخبر المحذوف. {تَراضَيْتُمْ:} فعل وفاعل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) على اعتبارها موصولة، أو صفتها على اعتبارها موصوفة، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور بالباء. {مِنْ بَعْدِ:} متعلّقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلاّ بالباء، والعامل:{تَراضَيْتُمْ:} أو بمحذوف حال من (ما) وتكون {مِنَ} بيانا لما أبهم فيها، والعامل هو الاستقرار المحذوف، و {بَعْدِ:} مضاف، و {الْفَرِيضَةِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{وَلا جُناحَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {إِنَّ اللهَ كانَ..} . إلخ: انظر الآية السابقة.
الشرح: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً:} أي: لم يجد غنى، وسعة، ومالا يتزوّج به النساء الحرائر المؤمنات. وسمّي الغنى، والمال: طولا؛ لأنّه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر، والضيق في العيش. والطّول المراد به هنا: مؤن الزّواج، والنفقات المتعلّقة به. {فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} أي: فلينكح الإماء عند العجز عن تكاليف نكاح الحرّة. والمراد: جارية أخيه المسلم، فإنّ الإنسان لا يجوز أن يتزوّج جارية نفسه بعقد، بل يطؤها بملك اليمين من غير عقد عليها.
والخطاب لمن أراد الزواج بالأمة هو مثل قول الرّسول صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: «إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم» . {مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ} أي: من المسلمات، لا من فتيات غيركم، والفتيات الجواري: المملوكات، جمع: فتاة، يقال للأمة صغيرة وكبيرة: فتاة، وللعبد صغيرا
وكبيرا: فتى، وأمّا الأحرار؛ فلا يقال للذّكر فتى، وللأنثى فتاة إلا إذا كانا شابّين، وفي الحديث الصّحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقولنّ أحدكم عبدي، وأمتي، ولكن ليقل: فتاي، وفتاتي» .
وإنّما كان نكاح الأمة منحطّا عن نكاح الحرّة لما فيه من إتباع الولد لأمّه في الرقّ، ولثبوت حقّ السيّد فيها، وفي استخدامها، ولأنّها ممتهنة مبتذلة، خارجة، ولّاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى النّاكح، ومهانته، والعزّة والكرامة من صفات المؤمنين.
{وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ} المعنى: إنّ الله أعلم بتفاصيل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان، ورجحانه، ونقصانه فيهم، وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرّجل، وحقّ المؤمنين ألا يعتبروا إلا فضل الإيمان، لا فضل الأحساب، والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء، وترك الاستنكاف منه.
{بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: إنّكم كلّكم من نفس واحدة، فلا تستنكفوا من نكاح الإماء عند الضرورة. وإنّما قيل لهم ذلك؛ لأنّ العرب كانت تفتخر بالأنساب، والأحساب، ويسمّون ابن الأمة: الهجين، إذا كانت الأمة ملكا للواطئ، وإذا لم تكن ملكا له؛ فولدها رقيق مثلها، فأعلم الله: أنّ ذلك أمر لا يلتفت إليه، فلا يتداخلنّكم شموخ، وأنفة من التزويج بالإماء، فإنّكم متساوون في النّسب إلى آدم. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد الله: أنّ المؤمنين بعضهم أكفاء بعض.
{فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} أي: اخطبوا الإماء إلى ساداتهنّ: فدلّ على أنّ السيّد هو ولي أمته، لا تزوج إلا بإذنه، وكذلك العبد لا يزوّج نفسه. فعن نافع: أنّ ابن عمر-رضي الله عنهما أخذ عبدا له نكح بغير إذنه، فضربه الحدّ، وفرّق بينهما، وأبطل صداقها؛ لأنّه كان يرى نكاح العبد بغير إذن وليه زنى. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عبد الله بن محمّد بن عقيل، قال: سمعت جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّما عبد نكح بغير إذن سيّده فهو عاهر» . فإن كان مالك الأمة امرأة زوّجها من يزوّج المرأة بإذنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تزوّج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها، فإنّ الزّانية هي الّتي تزوّج نفسها» . هذا؛ وذكرت لك في الآية رقم [221] من سورة (البقرة) قول الرّسول صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلاّ بوليّ، وشاهدي عدل» . انظرها هنالك؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. ويحتجّ أبو حنيفة في الآية، فيقول: إنّ لهنّ أن يباشرن العقد بأنفسهن؛ لأنّه اعتبر إذن الولي في نكاحهنّ لا عقدهنّ، وهو مخالف لرأي الجمهور، كما رأيت فيما تقدم.
{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ:} أي: وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل، وضرار، وإحواج إلى الاقتضاء واللزوم، وإنّما أضاف الأجور، أي المهور إلى الإماء، والواجب أداؤها إلى أسيادهن، لا إليهن؛ لأنّهن وما في أيديهن مال أسيادهن، فكان أداؤها إليهن أداء إلى السيد، أو هو على حذف مضاف، أصله: فآتوا مواليهن.
{مُحْصَناتٍ:} عفائف شريفات. {غَيْرَ مُسافِحاتٍ:} غير زانيات، وبين الكلمتين طباق وهو من المحسّنات البديعية. {وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ:} زانيات سرّا، والأخدان جمع: خدن، وهو الصّديق في السّرّ. {فَإِذا أُحْصِنَّ:} زوجن. وقيل: أسلمن، والأول أولى. {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ} أي: بزنى. وسمي الزنى فاحشة لفحشة؛ لأنّه لم تبحه ديانة من الدّيانات. وذكرت ما فيه الكفاية بشأن الزنى في سورة (الإسراء) وغيرها. {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ} أي: من الحدّ الذي على الحرائر. والجمهور على أنّ الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة، سواء أكانت مسلمة، أو كافرة، مزوّجة، أو بكرا، مع أنّ مفهوم الآية يقتضي: أنّه لا حدّ على غير المحصنة من الإماء، وقد قال الجمهور: المنطوق مقدّم على المفهوم، فمن المنطوق ما رواه مسلم في صحيحه عن عليّ-رضي الله عنه: أنّه خطب، فقال: يا أيّها النّاس أقيموا الحدّ على إمائكم؛ من أحصن منهنّ، ومن لم يحصن، فإنّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«أحسنت! اتركها حتّى تتماثل» . وفي رواية: «فإذا تعافت من نفاسها، فاجلدها خمسين» .
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها؛ فليجلدها الحدّ، ولا يثرّب عليها
(1)
، ثمّ إن زنت؛ فليجلدها الحدّ، ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت الثالثة، فتبيّن زناها؛ فليبعها ولو بحبل من شعر». أخرجاه في الصّحيحين.
{ذلِكَ:} أي: التّرخيص في نكاح الإماء عند فقد الحرّة، أو عند فقد مئونتها. {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} العنت: المشقة، والتضييق، قال تعالى في سورة (البقرة):{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ:} وقال تعالى في سورة (آل عمران) محذّرا المؤمنين من الكافرين، والمنافقين:{وَدُّوا ما عَنِتُّمْ} والمراد به هنا: الزّنى. والعنت في الأصل: انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكلّ مشقّة، وضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم بأفحش القبائح، وهو الزنى؛ لما يجرّ من الحدّ في الدّنيا، والعقاب الشديد في الآخرة. هذا؛ و {خَشِيَ} مضارعه: يخشى، والمصدر: خشية، والرّجل خشيان، والمرأة خشيا، وهذا المكان أخشى من ذاك، أي: أشد خوفا، وقد يأتي «خشي» بمعنى علم القلبية، قال الشاعر المسلم:[الطويل]
ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى
…
سكن الجنان مع النّبيّ محمّد
قالوا: معناه: علمت، وقوله تعالى في سورة (الكهف) حكاية عن قول الخضر-عليه السلام:
{فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا. هذا؛ والخشية أصلها: طمأنينة في القلب، تبعث على التوقّي. والخوف: فزع القلب تخفّ له الأعضاء، ولخفّة الأعضاء سمّي: خوفا.
1) لا يثرّب عليها: أي لا يوبّخها، ولا يقرّعها بالزنى بعد الضرب. (النهاية).
هذا؛ ويفهم من الآية الكريمة: أنّ نكاح الأمة مشروط بشرطين: العجز عن نكاح الحرّة، وخوف الزنى. والحمد لله رب العالمين حيث ألغي الرقّ. ولم يبق للإماء وجود، ولكن لا بدّ من القول: إنّه قد حلّ محل الإماء الآنسات، وبنات العوائل كما يسمّونه في هذا العصر، فهن القينات، والمغنّيات، والرّاقصات، والخالعات، والهالعات المبتذلات.
{وَأَنْ تَصْبِرُوا} أي: وصبركم عن نكاح الإماء متعفّفين خير لكم. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاكه» . رواه أبو هريرة-رضي الله عنه، ورواه أبو إسحاق الثّعلبي.
وهذا يعني: أنّ الصبر على العزوبة خير من نكاح الأمة؛ لأنّه يفضي إلى إرقاق الولد، والغضّ من النّفس، والصّبر على مكارم الأخلاق أولى من البذالة.
هذا؛ والصبر: حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وحبس اللّسان عن الشّكوى، وحبس الجوارح عن التّشويش، وهو مرّ المذاق، يكاد لا يطاق، إلا أنّه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال القائل:[البسيط]
الصّبر مثل اسمه مرّ مذاقته
…
لكن عواقبه أحلى من العسل
وبالجملة فنفع الصبر مشهور، والحضّ عليه في الكتاب، والسّنة مقرّر مسطور، وهو على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على البلاء، ولا تنس: أنّ من أسماء الله: الصّبور، وفسّر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الرّعد) رقم [22]:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلبا لمرضاته، وهذا هو الصبر المحمود، وهو أن يكون الإنسان صابرا لوجه الله تعالى، راضيا بما نزل به من الله. طالبا بذلك الصبر ثواب الله تعالى، محتسبا أجره على الله. فهذا هو الصبر الذي يدخل صاحبه رضوان الله.
وأمّا إذا صبر العبد؛ ليقال: ما أعظم صبره! وما أشدّ قوّته على تحمّل النوائب! أو يصبر لئلا يعاب على الجزع، أو يصبر لئلا تشمت به الأعداء، فهذا كلّه مذموم، ولا ينيل صاحبه الدّرجات العلى، والمقام الرّفيع عند الله، وقد يعرّضه لشديد غضب الله، ونقمته.
هذا؛ والصّبر على أنواع: الصّبر عن المعصية، وله ثلاثمائة درجة، والصّبر على الطاعة، وله ستمائة درجة، والصّبر على البلاء، وله تسعمائة درجة في الجنّة، لكن ذلك لا يكون إلا بالصّبر عند الصّدمة الأولى، كما روى البخاريّ-رحمه الله تعالى-عن أنس-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «إنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى» . وأخرجه مسلم بأتمّ منه، وقال الأستاذ أبو علي: الصّبر حدّه: ألا تعترض على التّقدير، فأمّا إظهار البلوى على غير وجه الشّكوى؛ فلا ينافي الصّبر. قال تعالى في سورة قصّة أيوب-على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:
{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} بعد أن أخبر عنه: أنّه قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} .
ثمّ اعلم: أنّ الصبر ذكر في القرآن الكريم في خمسة وتسعين موضعا، ومن أجمعها الآية رقم [155] من سورة (البقرة) وما بعدها:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ..} . إلخ: ومن آنقها قوله تعالى في سورة (ص) في حقّ أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ} حيث قرن هاء الصّبر بنون العظمة. ومن أبهجها قوله تعالى في سورة (الرعد):
{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} . ومن أعظمها بشارة قوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [10]: {إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} .
فائدة: قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً:} وقال جل ذكره: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ،} وقال تعالى شأنه: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذية معه.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسْتَطِعْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وهو في محلّ جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و ({مَنْ}) بيان لما أبهم في ({مَنْ}).
{طَوْلاً:} مفعول به. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَنْكِحَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} والفاعل يعود إلى ({مَنْ})، والمصدر المؤول منهما في محلّ نصب مفعول به ل {طَوْلاً} أو هو بدل من:{طَوْلاً} بدل كلّ من كلّ، أو في محل جر بحرف جر بمحذوف، يقدر ب «إلى» أو بلام التعليل، وعلى الاعتبارين فالجار والمجرور متعلّقان بمحذوف صفة:{طَوْلاً} . هذا؛ وقيل: إنّ {طَوْلاً} مفعول لأجله، كما قيل: مفعول مطلق لفعل محذوف، والمعتمد الأوّل.
{الْمُحْصَناتِ:} صفة لموصوف محذوف، التقدير: أن ينكح النّساء المحصنات. {الْمُؤْمِناتِ:}
صفة ثانية، فهما منصوبان، وعلامة نصبهما الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّهما جمعا مؤنث سالمان. {فَمِنْ ما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من ما): متعلّقان بفعل محذوف، التقدير: فلينكح من ما
…
إلخ. وقيل: هما متعلّقان بمحذوف صفة لموصول محذوف، التقدير:
فلينكح امرأة كائنة ممّا. وقيل: متعلّقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالمنكوحة ممّا
…
إلخ. والكلام على جميع الاعتبارات في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ له؛ لأنّه لم يحلّ محلّ المفرد. {مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية السابقة، ومحلّها، وما ذكرته فيها. {مِنْ فَتَياتِكُمُ:} متعلّقان بمحذوف حال من مفعول: {مَلَكَتْ} . {الْمُؤْمِناتِ:} صفة لما قبله. وقيل: هو صفة لموصوف محذوف واقع مفعولا به للفعل المقدّر، التقدير: من فتياتكم الفتيات المؤمنات، وفيه تكلّف لا يخفى، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل:
الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين. هذا؛ وإن اعتبرت:({مَنْ}) اسما موصولا؛ فهو مبتدأ،
والجملة بعده صلته، والجملة المقدّرة على جميع الاعتبارات خبره، وتكون الفاء زائدة في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والكلام مستأنف لا محلّ له.
{وَاللهُ:} مبتدأ. {أَعْلَمُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرّابط: الواو، والضمير، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها. {بِإِيمانِكُمْ:} متعلّقان ب {أَعْلَمُ} والكاف في محل جر بالإضافة. {بَعْضُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة.
{مِنْ بَعْضٍ:} متعلّقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الضمير، أو هي مستأنفة؛ لا محلّ لها.
{فَانْكِحُوهُنَّ:} الفاء حرف عطف. على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسّببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر. (انكحوهن): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والهاء في محل نصب مفعول به، والنون فيه وما في بعده حرف دال على جماعة الإناث، والجملة الفعلية لا محلّ لها على جميع الوجوه المعتبرة في الفاء. {بِإِذْنِ:} متعلّقان بما قبلهما، و (إذن) مضاف، و {أَهْلِهِنَّ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة. {وَآتُوهُنَّ:} فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة معطوفة على ما قبلها. {أُجُورَهُنَّ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جرّ بالإضافة.
{بِالْمَعْرُوفِ:} متعلّقان بمحذوف حال من: {أُجُورَهُنَّ} . {مُحْصَناتٍ:} حال من الضمير المنصوب، وعلامة نصبه الكسرة
…
إلخ. {غَيْرَ:} حال أخرى من الضمير، و {غَيْرَ} مضاف، و {مُسافِحاتٍ:} مضاف إليه. {وَلا:} الواو حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي.
{مُتَّخِذاتِ:} معطوف على: {مُسافِحاتٍ،} وهو مضاف، و {أَخْدانٍ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبنيّ على السكون في محل نصب. {أُحْصِنَّ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون، ونون النسوة نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَإِنْ:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (إن): حرف شرط جازم. {أَتَيْنَ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، ونون النسوة فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي.
{بِفاحِشَةٍ:} متعلقان بما قبلهما. {فَعَلَيْهِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (عليهن): جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. {نِصْفُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {ما} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {عَلَى الْمُحْصَناتِ:} متعلّقان بمحذوف صلة الموصول. {مِنَ الْعَذابِ:} متعلّقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور
قبلهما، و {مَنْ:} بيان لما أبهم في: {ما،} والجملة الاسمية: (عليهن {نِصْفُ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور
…
إلخ، و (إن) ومدخولها كلام لا محلّ له؛ لأنّه جواب (إذا)، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.
{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر المبتدأ. {خَشِيَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) وهو العائد. {الْعَنَتَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها. {مِنْكُمْ} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب حال من الفاعل المستتر، و {مَنْ} بيان لما أبهم في:{ما،} والجملة الاسمية: {ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَأَنْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْ}): حرف مصدري، ونصب. {تَصْبِرُوا:} فعل مضارع منصوب ب (أن) وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل منهما في محلّ رفع مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الكاف المجرورة ب ({مَنْ})، والرّابط: الواو، والضمير. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب {خَيْرٌ،} والجملة الاسمية: {وَاللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.
الشرح: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: يريد الله إنزال هذه الآيات من أجل أن يبيّن لكم دينكم، ويوضّح لكم شرعكم، ومصالح أموركم. وقيل: يبيّن لكم ما يقرّبكم منه، وما يحل لكم، وما يحرم عليكم، وذلك يدلّ على امتناع خلوّ واقعة عن حكم الله تعالى، كما قال تعالى في سورة (الأنعام):{ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} . {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي:
يرشدكم إلى شرائع من قبلكم في تحريم الأمّهات، والبنات، والأخوات، فإنّها كانت محرّمة على من قبلكم. وقيل: يرشدكم إلى ما لكم فيه مصلحة، كما بينه لمن كان قبلكم. وقيل:
يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء، والصّالحين، والطّرق التي سلكوها في دينهم؛ لتقتدوا بهم. {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ:} ويوفقكم للتّوبة عمّا كنتم عليه من مخالفة أوامر الله. {وَاللهُ عَلِيمٌ:}
بمصالح عباده فيما يهمّهم في أمر دينهم، ودنياهم. {حَكِيمٌ:} فيما شرع لهم.
هذا؛ والإرادة: نزوع النّفس، وميلها إلى الفعل، بحيث يحملها عليه، ويقال للقوّة التي هي مبدأ النّزوع، والأوّل مع الفعل، والثّاني قبله، وكلا المعنيين غير متصوّر اتصاف الباري تعالى
به، ولذا اختلف في معنى إرادته تعالى، فقيل: إرادته لأفعاله: أنّه غير ساه، ولا مكره، ولأفعال غيره أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته. وقيل: علمه باشتمال الأمر على النّظام الأكمل، والوجه الأصلح، وانظر الآية رقم [28].
هذا؛ و {سُنَنَ} جمع: سنّة، وهي الشريعة، والطريقة، قال خالد بن زهير الهذلي، وهو الشاهد رقم [923]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها
…
فأوّل راض سنّة من يسيرها
والسّنّة: الإمام المتّبع المؤتم به، قال لبيد-رضي الله عنه-في معلّقته:[الكامل]
من معشر سنّت لهم آباؤهم
…
ولكلّ قوم سنّة وإمامها
والسنّة: الأمة، والسّنن: الأمم. قال المفضّل، وأنشد:[البسيط]
ما عاين النّاس من فضل كفضلهم
…
ولا رأوا مثلهم في سالف السّنن
هذا؛ والسّنّة بمعنى الشّريعة، والطريقة، تكون حسنة إن كانت في الخير، وتكون سيئة إن كانت في الشر، وخذ ما يلي: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سنّ خيرا فاستنّ به؛ كان له أجره، ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن سنّ شرّا، فاستنّ به؛ كان عليه وزره، ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا» . رواه الإمام أحمد، والحاكم عن حذيفة-رضي الله عنه. ورواه مسلم، وابن ماجة، والترمذي عن جرير بن عبد الله البجلي بأطول من هذا.
الإعراب: {يُرِيدُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {لِيُبَيِّنَ:} في اللام أوجه: أحدها:
أنّها مزيدة في مفعول فعل الإرادة. قاله الزمخشري في غير هذا الموضع، وكأنّ هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له، لما فيها من معنى الإرادة. وقال ابن عطيّة-رحمه الله تعالى-: اللام مؤكدة، دخلت على المفعول به؛ لأنّ التقدير: يريد الله بما أنزل التّبيين. وقيل: اللام لام التعليل، والفعل منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، وعليه فالمفعول محذوف، والتقدير: يريد الله بما أنزل التبيين. الثالث: أنّها بمعنى «أن» الناصبة، وأنّها نصبت الفعل بنفسها. قال الفرّاء: العرب تجعل لام «كي» في موضع «أن» في: أراد، وأمر، وإليه ذهب الكسائي، وخطّأ الزجّاج هذا القول، وقال: لو كانت اللام بمعنى «أن» لدخلت عليها لام أخرى، كما تقول: جئت كي تكرمني، ثمّ تقول: جئت لكي تكرمني، وأنشد قول قيس بن عبادة:[الطويل]
أردت لكيما يعلم النّاس أنّها
…
سراويل قيس والوفود شهود
قال: والتقدير: أراد الله به ليبيّن لكم، ومثل هذه الآية الآية رقم [32] من سورة (التّوبة)، والآية رقم [33] من سورة (الأحزاب)، والآية رقم [71] من سورة (الأنعام)، والآية رقم [8] من سورة (الصف) ومثل ذلك قول كثيّر عزّة-وهو الشّاهد رقم [294] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
أريد لأنسى ذكرها فكأنّما
…
تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل
{لَكُمْ:} جار ومجرور، متعلّقان بما قبلهما. {وَيَهْدِيَكُمْ:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به أول. {سُنَنَ:} مفعول به ثان، وهو مضاف. و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِكُمْ:}
متعلّقان بمحذوف صلة الموصول. {وَيَتُوبَ:} معطوف على ما قبله منصوب أيضا، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} أيضا. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما، وتقدير الكلام بعد تأويل الأفعال بمصادر: يريد الله لكم التبيين، وهدايتكم إلى طرق من قبلكم، والتوبة عليكم. وجملة:
{يُرِيدُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها، والجملة الاسمية:{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ:} مستأنفة أيضا.
الشرح: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ:} كرّره للتوكيد، وقال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحبّ، ويرضى. وقيل: معناه: يدلّكم على ما يكون سببا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم. {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ:}
المراد بهم اليهود، والنصارى، والمجوس، فقد كانوا ينكحون الأخوات من الأب، وبنت الأخ، وبنت الأخت، فلمّا حرّمهن الله تعالى؛ قالوا: إنكم تحلّون بنت الخالة، وبنت العمّة، والخالة، والعمّة عليكم حرام، فانكحوا بنت الأخ، وبنت الأخت، فنزلت الآية. وقيل: هم الزّناة يريدون أن تكونوا مثلهم. هذا؛ و {الشَّهَواتِ} جمع: شهوة، وهي حلال إن كانت ممّا أباحه الشّرع الشريف، وحرام إن كانت ممّا حرّمه الدّين الحنيف.
{أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} أي: بموافقتهم على اتباع الشّهوات، واستحلال المحرّمات، فتكونوا مثلهم. هذا؛ والفعل «مال، يميل» من الأفعال التي يتغيّر معناها بتغيّر الجارّ، فتقول:
ملت عنه: إذا كرهته، وأعرضت عنه، وملت إليه: إذا أحببته، وأقبلت عليه. وانظر الآية رقم [127]: الآتية، ورقم [135].
الإعراب: ({اللهُ}): مبتدأ. {يُرِيدُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى ({اللهُ}). {أَنْ يَتُوبَ} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ:} والفاعل يعود إلى ({اللهُ})، والمصدر المؤوّل منهما في محلّ نصب
مفعول به، وجملة:{يُرِيدُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {يُرِيدُ:} فعل مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {يَتَّبِعُونَ:} فعل مضارع وفاعله. {الشَّهَواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها. {أَنْ تَمِيلُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب مفعول به. {مَيْلاً:} مفعول مطلق. {عَظِيماً:} صفة له.
تنبيه: إرادة الله الخير لعباده المؤمنين ثابتة، وإرادة الفجرة، والكفرة الشرّ للمؤمنين متجدّدة في كلّ وقت، وحين. والأول مستفاد من الجملة الاسمية، والثاني مستفاد من الجملة الفعلية.
{يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)}
الشرح: {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أي: ليسهّل عليكم أحكام الشّرائع، فهو عامّ في كلّ أحكام الشّرع، وجميع ما يسّره الله لنا، وسهّله علينا، إحسانا منه إلينا، وتفضّلا، ولطفا علينا، ولم يثقل التكاليف علينا، كما أثقلها على بني إسرائيل، فهو كقوله تعالى في سورة (البقرة):
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ،} وقوله تعالى في سورة (الحج): {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وكما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «بعثت بالحنيفيّة السّمحة» .
فلذلك رخّص لكم في المضايق، والأمور الشّاقة، كإحلال نكاح الأمة عند عدم القدرة على نكاح الحرّة، وكالإفطار في رمضان بسبب المرض، والسّفر، وغير ذلك كثير ممّا هو معلوم من الدّين.
{وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً} والمعنى: أنّ هواه يستميله، وشهوته، وغضبه يستخفّانه، وهذا أشدّ الضّعف، فاحتاج إلى التّخفيف. وقال طاوس-رحمه الله تعالى-: ذلك في أمر النّساء خاصّة. وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه قال: {وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً} أي: لا يصبر عن النّساء. وقال سعيد بن المسيب-رحمه الله تعالى-: لقد أتى عليّ ثمانون سنة، وذهبت إحدى عينيّ، وأنا أعشو بالأخرى، وصاحبي أعمى، وأصمّ-يعني: ذكره-وإنّي أخاف من فتنة النّساء. قال عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه: ألا تروني لا أقوم إلا رفدا، أي: إلا أن أعان على القيام، ولا آكل إلا ما لوّق لي، أي: ليّن، وسخّن، وقد مات صاحبي منذ زمان-يعني ذكره-وما يسرّني أنّي خلوت بامرأة لا يحلّ لي-أي: الخلوة بها-وأنّ لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشّيطان، فيحركه، على أنّه لا سمع له، ولا بصر. لذا حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الخلوة.
فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلّون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإنّ ثالثهما الشّيطان» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النّساء» .
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا خير في النّساء، ولا صبر عنهنّ، يغلبن كريما، ويغلبهنّ لئيم، فأحبّ أن أكون كريما مغلوبا، ولا أحبّ أن أكون لئيما غالبا» .
هذا؛ وقيل: معنى: {ضَعِيفاً:} أي: خلق الإنسان من شيء ضعيف، من طين، أو من نطفة، ثمّ من علقة، ثم من مضغة. قال تعالى في سورة الرّوم:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} .
هذا؛ و {الْإِنْسانُ} كلمة تطلق على الذّكر، والأنثى من بني آدم خاصّة، ومثلها: شخص، قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} ومعلوم: أنّ الله لم يقصد الذكور خاصّة، والقرينة الآيات الكثيرة الدالة على أنّ المراد: الذكر، والأنثى، واللام في الإنسان لام الجنس التي تفيد الاستغراق، ولذا صحّ الاستثناء من الإنسان في سورة العصر. هذا؛ وإنسان العين هو المثال؛ الّذي يرى فيها، وهو النقطة السّوداء؛ التي تبدو لامعة وسط السّواد.
تنبيه: روي عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما-أنّه قال: ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس، وغربت: هذه الآيات الثلاث المذكورة تباعا، وقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ..} . إلخ، و {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ..} .
إلخ، و {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ..} . إلخ، و {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ..} . إلخ، و {ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ..} . إلخ.
تنبيه: دلّت الآيات الثلاث على أنّ الله سبحانه وتعالى مريد بإرادة قديمة زائدة على الذّات. هذا مذهب أهل السنة، كما أنّه جلّت قدرته عالم بعلم، قادر بقدرة، حيّ بحياة، سميع يسمع، بصير يبصر، متكلّم بكلام. وهذه كلّها معان وجوديّة أزلية، زائدة على الذّات. وذهب المعتزلة، والشّيعة إلى نفيها، والّذي يقطع دابر هؤلاء أن يقال: لو لم يصدق كونه ذا إرادة؛ يصدق أنّه ليس بذي إرادة، ولو صحّ ذلك؛ لكان كل ما ليس بذي إرادة ناقصا بالنسبة إلى من له إرادة، فلم يبق إلا أن يكون الذي لم يتّصف بالإرادة أنقص ممّا هو متّصف بها، ولا يخفى ما فيه من المحال، فإنّه كيف يتصور أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، والبديهة تقضي بردّه، وإبطاله. وقد وصف الباري نفسه جل جلاله، وتقدّست أسماؤه بأنّه مريد، فقال تعالى:{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ،} وقال جلّ شأنه: {إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وانظر الآية رقم [26].
الإعراب: {يُرِيدُ اللهُ:} مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، والمصدر المؤوّل من:{أَنْ يُخَفِّفَ} في محل نصب مفعول به. {عَنْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {وَخُلِقَ:} الواو: واو الحال. ({خُلِقَ}): فعل ماض مبني للمجهول. {الْإِنْسانُ:} نائب
فاعله. {ضَعِيفاً:} حال من: {الْإِنْسانُ} . وقيل: تمييز، والأوّل أقوى، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب، والرابط: الضمير فقط، وقبلها «قد» مقدرة؛ لتقرّب الماضي من الحال.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ:} نادى الله عباده المؤمنين في هذه الآية بأكرم وصف، وألطف عبارة؛ أي: يا من صدّقتم بالله، ورسوله، وتحلّيتم بالإيمان الّذي هو زينة الإنسان. وقد خاطب الله عباده المؤمنين بهذا النداء في ثمانية وعشرين موضعا من القرآن، وهذا ثاني نداء في هذه السّورة، وخطاب خوطب به المؤمنون بالنداء الدالّ على الإقبال عليهم، ونداء المخاطبين باسم المؤمنين يذكرهم: أن الإيمان يقتضي من صاحبه أن يتلقّى أوامر الله، ونواهيه بحسن الطّاعة، والامتثال. وإنّما خصّهم الله بالنداء؛ لأنّهم هم المستجيبون لأمره، المنتهون عمّا نهى عنه؛ إذ الغالب أن يتبع هذا النداء بأمر، أو بنهي.
{لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ:} فقد أضاف الله الأموال إلى المخاطبين، والمراد أموال غيركم. فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وفيه منتهى الزّجر؛ لأنّ الإنسان الكامل يجب عليه أن يحافظ على مال غيره، كما يحافظ على ماله من الضّياع، والهلاك، وهذا من قبيل التعاون الذي حثّ عليه ربّنا، جلّ وعلا، ونبينا صلى الله عليه وسلم ذكر مثل ذلك في خطبة الوداع في حجّة الوداع، فقال: «إنّ دماءكم، وأموالكم حرام عليكم
…
إلخ».
{بِالْباطِلِ:} بما لم يبحه الشّرع الشّريف، والدّين الحنيف، وهو يعمّ كلّ مال أخذ بدون وجه شرعيّ، وأبوابه كثيرة متفرّعة، ومتنوعة، أذكر منها على سبيل المثال ما أشاع الفساد، والضّلال: الرّبا بآثامه، وشروره، واستغلال النفوذ بأنواعه، وفجوره، والرّشوة بأنواعها، واحتكار البضائع لبيعها بثمن أعلى، وخزنها، وتصريفها بثمن أغلى، والذين يأخذون معاشاتهم، ولا يؤدّون أعمالهم، ويقبضون أجورهم، ويتهرّبون من واجباتهم، والّذين يسرقون، ويخونون، ويغشّون، ويختلسون. ويدخل في ذلك: القمار، والخداع، والغصب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، كما يؤخذ بالحياء؛ إذ ما أخذ بالحياء؛ فهو حرام، أو حرّمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، مثل حلوان الكهّان، والمنجّمين، والمشعوذين، وأثمان الخمور، والخنازير، وأثمان الملاهي الشّاغلة عن ذكر الله تعالى، وربحها، بل وتجارتها حرام، والغبن الفاحش في البيع والشراء، وأفحش ذلك أكل مال اليتيم بغير حقّ، كما رأيته في الآية رقم [10].
ومن الأكل بالباطل: أن يحكم الحاكم لك؛ وأنت تعلم أنّك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء الحاكم؛ لأنّه يقضي بالظاهر. فقد روى الأئمّة عن أمّ سلمة-رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم يكون ألحن بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قطعت له من حقّ أخيه شيئا؛ فلا يأخذه، فإنّما أقطع له قطعة من نار» . وفي رواية أخرى: «فليحملها، أو ليذرها» .
هذا؛ والباطل: ضد الحقّ، والباطل بمعنى الفاسد، والبطلان عبارة عن عدم الشيء، إما بعدم ذاته، أو بعدم فائدته، ونفعه. هذا؛ و «بطل» من باب دخل، والبطل بفتحتين: الشجاع، والبطل: بضم فسكون: الباطل، والكذب، والزور، والبهتان، والبطالة: التعطّل، والتفرّغ من العمل، ومبطل: اسم فاعل من: أبطل الرّباعي، والباطل في قوله تعالى في سورة (فصلت):
{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} قال قتادة، والسّدي: الباطل: الشّيطان لا يستطيع أن يغيّر في القرآن شيئا، ولا يزيد، ولا ينقص منه، وقوله تعالى في سورة (الشورى):{وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ} الباطل: الشرك، والبطلة في قول الرّسول صلى الله عليه وسلم:«لا تستطيعها البطلة» أي: لا تستطيع قراءة سورة (البقرة) السّحرة. هذا؛ ويجمع «باطل» على: أباطيل شذوذا، كما شذّ: أحاديث، وأعاريض، وأفاظيع في جمع حديث، وعريض، وفظيع. وفي القرطبي: وجمع الباطل: بواطل، والأباطيل جمع: البطولة، ولم أجده في كتب اللغة.
{إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً:} أي: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، والتّجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، ومنه: الأجر، والثواب؛ الّذي يعطيه الله تعالى للعبد يوم القيامة عوضا عن الأعمال الصّالحة؛ التي هي بعض من فعله. قال تعالى في سورة (الصف):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} . وقال تعالى في سورة (فاطر): {يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ} .
وقال تعالى في سورة (التوبة): {إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ..} . إلخ، فسمّى الله ذلك كلّه: بيعا، وشراء على سبيل المجاز. تشبيها بعقود البيع، والشراء؛ التي تحصل بها الأغراض، والمعاوضات. {عَنْ تَراضٍ:} أي: عن طيب نفس كلّ واحد من المتبايعين. وقيل: هو أن يخيّر كلّ واحد منهما صاحبه بعد البيع فيلزم، وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرّقا، لما روي عن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايع الرّجلان؛ فكلّ واحد منهما بالخيار، ما لم يتفرّقا، وكانا جميعا، أو يخيّر أحدهما الآخر، فإن خيّر أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك؛ فقد وجب البيع، وإن تفرّقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع؛ فقد وجب البيع» . رواه الشّيخان، وغيرهما.
هذا؛ ومن هذه الآية الكريمة احتجّ الشافعي-رضي الله عنه-على أنّه لا يصحّ البيع إلا بالإيجاب، والقبول؛ لأنّه يدلّ على التّراضي نصّا بخلاف المعاطاة، فإنّها قد لا تدلّ على
الرّضا. وخالف الجمهور في ذلك: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد-رضي الله عنهم-فرأوا: أنّ الأقوال كما تدلّ على التراضي، فكذلك الأفعال تدلّ في بعض المحالّ قطعا، فصحّحوا ببيع المعاطاة مطلقا. هذا؛ وقد قال تعالى:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} .
والرسول صلى الله عليه وسلم رغب التّجار في الصّدق، والأمانة، وحذّرهم من الكذب، والخيانة، فعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«التّاجر الصّدوق الأمين مع النّبيّين، والصّدّيقين والشّهداء يوم القيامة» . رواه الترمذيّ.
وعن عبد الرحمن بن شبل-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ التّجّار هم الفجّار» . قالوا: يا رسول الله! أليس قد أحلّ الله البيع؟ قال: «بلى: ولكنّهم يحلفون، فيأثمون، ويحدّثون، فيكذبون» . رواه الإمام أحمد، والحاكم، وإنّما قال ذلك؛ لأنّهم أهل دين واحد، فهم كنفس واحدة. وصحّ عن النّبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في حجّة الوداع: «ألا لا ترجعوا بعدي ضلاّلا يضرب بعضكم رقاب بعض» . وقيل: المعنى لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب المعاصي، ويحتمل أن يكون المعنى: لا تقتلوا أنفسكم في حال ضجر، أو غضب. وقد احتجّ عمرو بن العاص بهذه الآية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السّلاسل، فقال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت، ثمّ صلّيت بأصحابي صلاة الصّبح، فلمّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال:«يا عمرو صلّيت بأصحابك؛ وأنت جنب؟» قلت: يا رسول الله إنّي احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك! فذكرت قول الله عز وجل:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} فتيمّمت، ثمّ صليت.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا. رواه أحمد، وأبو داود، وانظر قوله تعالى:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} في سورة (البقرة) رقم [194] فله صلة بهذه الآية.
هذا وأورد ابن مردويه عند هذه الآية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل، فقتل نفسه، فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا، فقتل نفسه، فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا» . أخرجه الشّيخان، وغيرهما عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
{إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} يعني: إنّ الله تعالى من رحمته بكم نهاكم عن كلّ شيء تستوجبون به مشقة، أو محنة. وقيل: إنّه تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم؛ ليكون ذلك توبة لهم، وكان بكم يا أمّة محمد رحيما؛ حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الشاقّة الصّعبة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: ({يا}) أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو: أنادي. ({أَيُّهَا}): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا). (ها): حرف تنبيه لا محلّ له، وأقحم للتّوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محلّ جرّ بالإضافة؛ لأنّه حينئذ يجب نصب المنادى. وانظر
الآية رقم [1] إن أردت الزيادة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من ({أَيُّهَا})، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لا:}
ناهية جازمة. {تَأْكُلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب {لا} وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها.
{أَمْوالَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. {بِالْباطِلِ:} متعلّقان بالفعل قبلهما أيضا.
{إِلاّ:} أداة استثناء منقطع بمعنى: لكن. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَكُونَ:}
فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} . {تِجارَةً:} يقرأ بالنصب على اعتبار الفعل ناقصا، فيكون اسمه محذوفا، التقدير: إلا أن تكون المعاملة تجارة. ويقرأ بالرفع على اعتبار الفعل تامّا بمعنى: إلا أن تقع تجارة، أو: إلا أن توجد تجارة، مثل قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [281]:{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ،} وقال الشاعر: [الطويل]
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي
…
إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
و {أَنْ تَكُونَ:} في تأويل مصدر في محل نصب على الاستثناء المنقطع من: {أَمْوالَكُمْ؛} لأنّ التجارة ليست من جنس الأموال المنهي عن أكلها. {عَنْ تَراضٍ:} متعلّقان بمحذوف صفة:
{تِجارَةً} وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب {تَراضٍ} . {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ:} إعراب هذه الجملة مثل ما قبلها، وهي معطوفة عليها. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل
…
إلخ وإعرابها ظاهر.
الشرح: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} أي: ما سبق ذكره من قتل النفس المحرّمة؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور. وقيل: إنّه يعود إلى قتل النفس، وأكل المال بالباطل؛ لأنّهما مذكوران في آية واحدة. وقيل: إنّه يعود إلى كلّ ما نهى الله عنه من أول السّورة إلى هنا. {عُدْواناً وَظُلْماً} العدوان: تجاوز الحد، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وقيّد الوعيد بذكر العدوان والظلم؛ ليخرج منه فعل السّهو، والخطأ، وعطف ({ظُلْماً}) على ما قبله من تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما، فهو من باب الترادف، كما قال عديّ بن زيد العبادي-وهو الشاهد رقم [666] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
وقدّمت الأديم لراهشيه
…
وألفى قولها كذبا ومينا
{فَسَوْفَ نُصْلِيهِ:} ندخله، فيحترق بحرّ نار جهنم. فهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، فليحذر منه كلّ عاقل لبيب ممّن ألقى السّمع وهو شهيد. ويقرأ الفعل بفتح النون على أنّه مأخوذ من: صلي نارا، وبضمّها على أنّه مأخوذ من: أصلى، ويقرأ بالياء على أنّ الفاعل يعود إلى الله.
{وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً:} سهلا لينا هينا؛ لأنّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء.
الإعراب: {وَمَنْ:} حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {يَفْعَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له.
{عُدْواناً:} حال من فاعل: {يَفْعَلْ} المستتر، وهو مصدر بمعنى: معتديا. وقيل: هو مفعول لأجله. ({ظُلْماً}): معطوف عليه. {فَسَوْفَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (سوف): حرف تسويف، واستقبال. {نُصْلِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، أو هو حسب القراءات، والهاء مفعول به أول. {ناراً:}
مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [25]. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {ذلِكَ:}
اسمها. {عَلَى اللهِ:} متعلّقان بما بعدهما. {يَسِيراً:} خبر كان، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، واعتبارها حالا من الضمير الواقع مفعولا به فيه بعد.
الشرح: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ:} اجتناب الشيء: المباعدة عنه، وتركه جانبا، والكبيرة: ما كبر، وعظم من الذّنوب، وعظمت عقوبته. وقال عليّ-رضي الله عنه: الكبيرة:
كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وسئل ابن عباس عن الكبائر: أسبع هي؟ قال: هي إلى السّبعمائة أقرب، وفي رواية: إلى السّبعين أقرب، إلا أنّه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وقال: كلّ شيء عصي الله به فهو كبيرة، فمن عمل شيئا؛ فليستغفر الله، فإنّ الله لا يخلّد في النار من هذه الأمة إلا من كان راجعا عن الإسلام، أو جاحدا فريضة، أو مكذّبا بقدر. وخذ ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات» قيل:
يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ،
وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».
رواه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنّسائيّ.
هذا؛ والكبائر لا حدّ لها، فهي كثيرة، مثل: الشرك، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والزنى، واللّواط، واليمين الغموس، والإضرار في الوصية، والغلول. وفي كلّ واحدة أحاديث تحذّر من اقتحامها، وارتكابها. ويضاف إلى ذلك: أكل أموال الناس بالباطل، والإفطار في رمضان بلا عذر، وقطع الرّحم، والخيانة في الكيل، والوزن، وتأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر، وضرب المسلم بلا حقّ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا، وسب أصحابه، وكتمان الشّهادة بلا عذر، وأخذ الرّشوة، والقوادة بين الرّجال، والنساء، والسّعاية عند السّلطان، ومنع الزّكاة، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة عليه، ونسيان القرآن بعد تعلّمه، وإحراق الحيوان بالنّار، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والوقيعة في أهل العلم، وحملة القرآن.
{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} أي: نسترها عليكم؛ حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل؛ لأنّ أصل التكفير: السّتر، والتغطية، فصغار الذنوب تكفّر بالحسنات، ولا يكفّر كبارها إلا التوبة والإقلاع عنها، كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
«الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ؛ إذا اجتنبت الكبائر» . أخرجه مسلم. فقد ثبت بما تقدّم من الأدلّة: أنّ الذنوب على قسمين: صغائر، وكبائر، وانظر قوله تعالى في سورة النّجم:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} فإنّه جيّد، والحمد لله!.
هذا؛ والإصرار على الصّغيرة كبيرة، وخذ ما يلي:
فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّهنّ يجتمعن على الرّجل حتّى يهلكنه» . وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضرب لهنّ مثلا، كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرّجل ينطلق فيجيء بالعود، والرّجل يجيء بالعود حتّى جمعوا سوادا، وأجّجوا نارا، وأنضجوا ما قذفوا فيها» . رواه الإمام أحمد، والطبراني، والبيهقي. وفي رواية:«إنّ الشّيطان قد يئس أن تعبد الأصنام في أرض العرب، ولكنّه سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقّرات، وهي الموبقات يوم القيامة» .
وعن عائشة-رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة! إيّاك ومحقّرات الذّنوب، فإنّ لها من الله طالبا» . رواه النّسائيّ، وابن ماجة.
هذا؛ والصغائر مثل: اللمسة، والنظرة، والكلمة المنهي عنهنّ؛ لأنّهنّ يكنّ ذرائع الفساد، والزنى.
{وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} يعني: حسنا شريفا، وهو الجنّة. والمعنى: إذا اجتنبتم الكبائر، وأتيتم بالطاعات؛ نكفّر عنكم الصّغائر، وندخلكم مدخلا تكرمون فيه، وخذ ما يلي:
قال أبو جعفر بن جرير عن صهيب مولى الصّواري: أنّه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، وأبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال:«والّذي نفسي بيده- ثلاث مرّات-» ، ثمّ أكبّ، فأكبّ كلّ رجل يبكي لا ندري ماذا حلف عليه، ثمّ رفع رأسه، وفي وجهه البشرى، فكان أحبّ إلينا من حمر النّعم. فقال: «ما من عبد يصلّي الصّلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزّكاة، ويجتنب الكبائر السّبع، إلاّ فتحت له أبواب الجنّة، ثمّ قيل له:
ادخل بسلام». رواه النّسائيّ، والحاكم، وابن حبان.
الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَجْتَنِبُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق.
{كَبائِرَ:} مفعول به، وهو مضاف. و {ما:} مبنية على السكون في محل جرّ بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة. {تُنْهَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو نائب فاعله. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط الضمير المجرور ب (عن). وتقدير الكلام: كبائر الذي، أو كبائر شيء تنهون عنه، وجملة:{تَجْتَنِبُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال:
لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {نُكَفِّرْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل مستتر تقديره:
«نحن» ، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {عَنْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {سَيِّئاتِكُمْ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة من الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَنُدْخِلْكُمْ:} معطوف على جواب الشرط، ويجوز في مثله النصب على إضمار «أن» والرّفع على الاستئناف. كما رأيت في الآية رقم [284]: من سورة (البقرة)، والفاعل مستتر، تقديره «نحن» والكاف مفعول به. {مُدْخَلاً:} مفعول مطلق على اعتباره مصدرا ميميّا، أو هو ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله على اعتباره اسم مكان. {كَرِيماً:} صفة له.
الشرح: عن مجاهد، عن أمّ سلمة-رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله! يغزو الرّجال، ولا نغزو، وإنّما لنا نصف الميراث. فأنزل الله الآية. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-:
وأنزل الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ..} . إلخ الآية من سورة (الأحزاب). أخرجه الترمذي.
وقيل: قال الرجال: نرجو أن يكون أجرنا على الضّعف من أجر النساء كالميراث. وقالت النّساء: نرجو أن يكون وزرنا على النّصف من وزر الرّجال، كالميراث، فنزلت.
هذا؛ وأصل التمنّي: تقدير الشيء في النّفس، وتصديره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين أن يحصل له مال غيره مع زوال النّعمة عن ذلك الغير، فهذا القسم هو الحسد، وهو مذموم؛ لأنّ الله تعالى يفيض نعمه على من يشاء من عباده، وهذا الحاسد يعترض على الله تعالى فيما فعل، وربما اعتقد في نفسه: أنّه أحقّ بالنعمة من ذلك الإنسان أيضا، فهذا اعتراض أيضا، وهو مذموم. القسم الثاني: أن يتمنّى مثل مال غيره، ولا يحبّ أن يزول المال عن الغير، وهذا حسد الغبطة، وهذا ليس بمذموم، ومن الناس من منع منه أيضا، قال: لأنّ تلك النعمة ربّما كانت مفسدة في حقّه في الدّين، أو في الدّنيا.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: لا تتمنّ مال فلان، ولا مال فلان، فلا تدري لعلّ هلاكك في ذلك المال، فليعلم العبد: أنّ الله تعالى أعلم بمصالح عباده، فليرض بقضائه، ولتكن أمنيته الزيادة من عمل الآخرة، وليقل: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني، ودنياي، ومعادي. والمعنى: اطلبوا الفضل بالعمل، لا بالحسد، ولا بالأماني الباطلة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ليس الإيمان بالتّمنّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل» .
هذا؛ والتمنّي: طلب الشيء البعيد حصوله، بخلاف الترجّي، فإنّه طلب الشيء الممكن حصوله، وتمنّى الشيء: أحبه، ورغب فيه. ويأتي تمنّى بمعنى قرأ، قيل به في قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [52]:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي: إذا قرأ ألقى الشّيطان في تلاوته، انظر شرحها هناك، فإنّه جيد. والحمد لله! وأنشد الشّاعر في عثمان بن عفّان-رضي الله عنه:[الطويل]
تمنّى كتاب الله آخر ليلة
…
تمنّي داود الزّبور على رسل
وقال كعب بن مالك-رضي الله عنه-فيه أيضا: [الطويل]
تمنّى كتاب الله أول ليلة
…
وآخره لاقى حمام المقادر
{لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: ممّا ترك الوالدان والأقربون من الميراث، يقول: للذّكر مثل حظ الأنثيين. وقيل: هو الاكتساب في الأجر، يعني: أنّ الرّجال، والنساء في الأجر في الآخرة سواء؛ لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، يستوي في ذلك الرّجال، والنّساء، وإن فضّل الرّجال في الدنيا على النّساء.
وقيل: للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا من أمر الجهاد، وللنّساء نصيب مما اكتسبن، يعني: من طاعة
الأزواج، وحفظ الفروج. هذا؛ وشبّه الله تعالى استحقاقهم للإرث، وتملّكهم له بالاكتساب، واشتقّ في لفظ الاكتساب:{اِكْتَسَبُوا} على طريقة الاستعارة التبعية.
{وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يعني: من رزقه. وقيل: من طاعته، وهو سؤال التوفيق للعبادة. وقيل: لم يأمر الله عباده بالمسألة إلا ليعطيهم، وفيه تنبيه على أنّ العبد لا يعيّن شيئا في الدّعاء، والطّلب، لكن يطلب من فضل الله ما يكون سببا لصلاح دينه، ودنياه، وآخرته. وخذ ما يلي:
عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله فإنّ الله يحبّ أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج» . رواه الترمذيّ.
وخرّج أيضا ابن ماجة: عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله؛ يغضب عليه» . وهذا يدلّ على أنّ الأمر بالسّؤال لله تعالى واجب، وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى، فنظمه، فقال:[الكامل]
لا تسألنّ نبي آدم حاجة
…
وسل الّذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله
…
وبني آدم حين يسأل يغضب
{إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً:} يعني: إنّه تعالى عليم بما يكون صلاحا للسّائلين، فليقتصر العبد على المجمل في الطّلب، فإنّ الله تعالى عليم بما يصلحه، فلا يتمنّ غير الذي قدّر له. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه؛ حيث جعل النّاس طبقات، ورفع بعضهم درجات.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): ناهية. {تَتَمَنَّوْا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {فَضَّلَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضّمير المجرور محلاّ بالباء. {بِهِ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {بَعْضَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ:} متعلّقان بمحذوف حال من بعضكم. {لِلرِّجالِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {نَصِيبٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة معترضة، لا محلّ لها. {مِمَّا:} جار ومجرور متعلّقان ب {نَصِيبٌ} أو بمحذوف صفة له، و ({ما}) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية ضعيفة. {اِكْتَسَبُوا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها، والرابط، أو العائد محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء اكتسبوه. {وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ..} . إلخ: إعرابها مثل إعراب سابقتها، وهي معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {وَسْئَلُوا:} الواو: حرف عطف.
{وَسْئَلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {اللهُ:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: حوائجكم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:({لا تَتَمَنَّوْا..}.) إلخ، وما بينهما معترض. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من لفظ الجلالة والهاء في محلّ جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى الله. {بِكُلِّ:} متعلّقان ب {عَلِيماً} بعدهما، و (كلّ) مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه.
{عَلِيماً:} خبر: {كانَ} والجملة الفعلية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.
الشرح: {وَلِكُلٍّ:} أي: لكلّ تركة جعلنا ورّاثا يستحقّونها. أو: لكلّ ميت جعلنا ورّاثا يرثونه. فالتنوين في (كلّ) قائم مقام المضاف إليه، كما ترى، ويسمّى تنوين العوض. فليرض كل واحد بما قسم الله له من الميراث، ولا يتمنّ مال غيره. {جَعَلْنا مَوالِيَ:} ورّاثا، وموالي: جمع مولى، وهو يطلق في الأصل على الإله المعبود بحقّ، ومن أسماء الله الحسنى: المولى، ويطلق على العبد، والسيد، والأمير، وابن العم. قال الفضل بن العباس-رضي الله عنهما:[البسيط]
مهلا بني عمّنا مهلا موالينا
…
لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
كما يطلق على الحليف، والناصر، والمعين. قال تعالى في سورة (الدّخان) رقم [41]:
{يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى،} ويطلق على مولى العتاقة، والمحالفة، وكلّ منهما لا يكون متصل النّسب في القبيلة، ولكنّه لصيق بها، والموالي في نظر العرب من الخسّة، والضّعة بحيث لا يرونهم في مصافّهم.
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ:} المعاقدة: المحالفة، والمعاهدة، وقد كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا تحالفوا؛ أخذ كلّ واحد بيد صاحبه، وتحالفوا على الوفاء بالعهد، والتمسّك به، فيقول أحدهم للآخر: دمي دمك، وهدمي هدمك، أعقل عنك، وتعقل عنّي، وأرثك، وترثني.
فيقبل الآخر، فيكون لكلّ واحد من تركة الآخر السّدس، هذا قول. والقول الآخر: أنّها في شأن المؤاخاة الواقعة بين المهاجرين، والأنصار، وقد نسخت بالآية الكريمة في آخر سورة (الأنفال):{وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ} .
وفسّرها أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-بما يلي: لو أسلم رجل، أو امرأة على يد رجل، وتعاقدا على أن يتعاقلا، ويتوارثا، وليس أحدهما بعربيّ، والآخر عربيّ، فيقول الآخر: واليتك
على أن تعقلني إذا جنيت، وترث منّي إذا متّ. ويقول الآخر: قبلت؛ انعقد ذلك، ويرث الأعلى من الأسفل.
{فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ:} من الميراث، والنّصرة، والمعاونة، والنّصيحة، والوصيّة لهم، فنسخ الحكم بالنّسبة للميراث، كما رأيت، وهو باق في البواقي. {إِنَّ اللهَ كانَ:} ولم يزل كائنا.
{عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً:} قال عطاء-رحمه الله تعالى-: يريد: أنّه لم يغب عنه علم ما خلق، وبرأ. فعلى هذا: الشهيد بمعنى: الشاهد، والمراد منه علمه بجميع الأشياء. وقيل: الشّهيد: هو الشّاهد على الخلق يوم القيامة بكلّ ما عملوه، فعلى هذا: الشّاهد بمعنى: الخبر. وفيه وعد للطّائعين، ووعيد للعاصين.
هذا؛ وقوله تعالى: {جَعَلْنا} يكثر التعبير بمثل هذا في القرآن الكريم. قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى-في كتابه: (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح): وقوله تعالى: {كَتَبْنا،} {جَعَلْنا،} {إِنّا،} {نَحْنُ،} {نَقُصُّ،} {نُسْئَلُ} لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء، وعلى الواحد العظيم المطاع؛ الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكن له شركاء، ولا نظراء، والله تعالى خلق كلّ ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة، وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنّا، ونحن، وفعلنا، وضربنا
…
إلخ، ولا يريدون: أنّهم ثلاثة ملوك، فمالك الملك ربّ العالمين، وربّ كلّ شيء، ومليكه، هو أحقّ أن يقول:{إِنّا نَحْنُ..} . إلخ، مع أنّه ليس شريك، ولا مثل، بل له جنود السّماوات والأرض.
انتهى.
أقول: و «نا» هذه تسمّى: نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، فالله تعالى لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلّم بها العبد. فيقول: أخذنا، وأعطينا، وليس معه أحد، وهذا مستعمل، وواقع.
الإعراب: {وَلِكُلٍّ:} الواو: حرف استئناف. ({لِكُلٍّ}): متعلقان بما بعدهما على أنّهما مفعوله الثاني. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {مَوالِيَ:} مفعول به أول. هذا وجه للإعراب، وهناك وجه آخر، وهو: أنّ الجار، والمجرور:({لِكُلٍّ}) متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، والمبتدأ محذوف، والجملة الفعلية صفة (كل) والمفعول الأول محذوف، وتقدير الكلام: ولكلّ جعلنا لهم موالي حظّ. وفيه تكلّف لا يخفى. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة «حظ» المحذوف على الوجه الثاني من الإعراب، أو هما متعلقان بفعل محذوف، تقديره: يرثون مما، وهذه الجملة تكون صفة موالي، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جرّ ب (من). {تَرَكَ:} فعل ماض. {الْوالِدانِ:} فاعله مرفوع وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنّه مثنّى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {وَالْأَقْرَبُونَ:} معطوف على ما
قبله مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم
…
إلخ، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء تركه الوالدان.
{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. وقيل: هو منصوب بفعل محذوف، يفسّره المذكور بعده. وقيل: هو معطوف على (مولى) والمعتمد الأول. {عَقَدَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: عقدت أيمانكم لهم. {فَآتُوهُمْ:} الفاء: صلة. (آتوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول. {نَصِيبَهُمْ:} مفعوله الثاني، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وزيدت الفاء في الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشّرط في العموم، والجملة الاسمية مستأنفة. {إِنَّ اللهَ كانَ..} . إلخ. انظر إعراب الآية السابقة، فإعراب هذه الجملة مثلها بلا فارق.
الشرح: {الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ:} أي: متسلّطون على تأديب النّساء، والأخذ على أيديهنّ. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أمّروا عليهنّ، فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله. والقوّام: هو القائم بالمصالح، والتدبير، والتأديب، فالرّجل يقوم بأمر المرأة، ويجتهد في حفظها. ولمّا أثبت الله القيام للرّجال على النّساء، بيّن السبب، فقال:{بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} يعني: فضّل الله تعالى الرّجال على النّساء بأمور: منها: زيادة العقل، والدّين، والولاية، والشهادة، والجهاد، والجمعة، والجماعات، وبالإمامة، ولأنّ منهم الأنبياء، والخلفاء، والأئمة. ومنها: أنّ الرّجل يتزوج بأربع نسوة، ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، ومنها: زيادة النّصيب في الميراث، والتّعصيب في الميراث، وبيده الطّلاق، والنكاح، والرجعة، وإليه انتساب الأولاد. هذا؛ والتّعبير بالبعضية إيحاء بأنّ المرأة من الرّجل بمنزلة عضو من جسم الإنسان، وكذلك الرّجل، ولا ينبغي أن يتكبّر عضو على عضو، فالكلّ يؤدي دوره بانتظام، ولا غنى لواحد عن الآخر. {قَوّامُونَ} مبالغة قائم، مثله في الآية رقم [135] الآتية.
وربما أنفقوا من أموالهم يعني: وبما أعطوا من مهور النّساء، والنّفقة عليهنّ. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد؛ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» . أخرجه الترمذيّ. هذا؛ وفهم العلماء من هذه الجملة: أنّ الزّوج متى عجز عن نفقتها؛ لم يكن قوّاما عليها، وإذا لم يكن قواما عليها؛ كان لها فسخ العقد لزوال المقصود؛ الّذي شرع لأجله النكاح، وهو النّفقة عليها، وهو مذهب مالك، والشّافعي. وقال أبو حنيفة: لا يفسخ العقد. لقوله تعالى في سورة (البقرة): {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} .
{فَالصّالِحاتُ..} . إلخ هذا كلّه خبر، ومقصوده الأمر بطاعة الزّوج، والقيام بحقّه في ماله، وفي نفسها في حال غيبته. وفي مسند أبي داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النّساء الّتي إذا نظرت إليها؛ سرّتك، وإذا أمرتها؛ أطاعتك، وإذا غبت عنها؛ حفظتك في نفسها، ومالك» . قال: وتلا هذه الآية: {الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ} . وقال صلى الله عليه وسلم لعمر-رضي الله عنه: «ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء؟ المرأة الصّالحة، إذا نظر إليها؛ سرّته، وإذا أمرها؛ أطاعته، وإذا غاب عنها؛ حفظته» . أخرجه أبو داود أيضا.
ومعنى: {بِما حَفِظَ اللهُ} أي: بما حفظ من الله حين أوصى بهنّ الأزواج، وأمرهم بأداء المهر، والنّفقة إليهنّ. وقيل: المعنى: بما حفظهنّ الله، وعصمهنّ، ووفّقهن لحفظ الغيب.
{وَاللاّتِي تَخافُونَ} أي: تعلمون، وتتيقّنون، مثل قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [229]:{إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} . وقيل: الخوف فيهما بمعنى الظن. {نُشُوزَهُنَّ:} عصيانهنّ، وترفّعهن عن طاعة الأزواج. قال ابن عبّاس-رضي الله عنهما: هو أن تستخفّ بحقوق زوجها، ولا تطيع أمره، وترفع صوتها عليه. والنّشوز مأخوذ من النّشز، وهو ما ارتفع من الأرض، يقال: نشز الرّجل، ينشز، وينشز: إذا كان قاعدا، فنهض قائما، ومنه قوله تعالى في سورة (المجادلة):{وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا،} وقال أبو منصور اللغوي: النّشوز: كراهية كلّ واحد من الزوجين صاحبه، يقال: نشزت، تنشز، فهي ناشز بغير هاء.
{فَعِظُوهُنَّ} أي: بكتاب الله، أي: ذكّروهن ما أوجب الله عليهنّ من حسن الصّحبة، وجميل العشرة للزّوج، والاعتراف بالدّرجة التي له عليها، ويذكر له قول النّبي صلى الله عليه وسلم:«أيّما امرأة ماتت؛ وزوجها عنها راض؛ دخلت الجنّة» . رواه ابن ماجة، والترمذيّ عن أمّ سلمة-رضي الله عنها-وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت بعلها؛ قيل لها: ادخلي من أيّ أبواب الجنّة شئت» . رواه الإمام أحمد، والطبرانيّ عن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه. وقال للسّائلة عن حقّ الزوج: «من حقّه أن لو سال منخراه دما، وقيحا، فلحسته بلسانها؛ ما أدّت حقّه، ولو كان ينبغي لبشر أن يسجد لبشر؛ لأمرت المرأة
أن تسجد لزوجها إذا دخل عليها لما فضّله الله عليها». رواه البزار، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تمنعه نفسها؛ وإن كانت على ظهر قتب» . رواه ابن ماجة عن ابن أبي أوفى-رضي الله عنه.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرّجل امرأته إلى فراشه، فلم تأته، فبات غضبان عليها؛ لعنتها الملائكة؛ حتّى تصبح» . رواه الشّيخان، وغيرهما، وانظر الآية رقم [18].
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ:} الهجر في المضجع: هو أن يولّيها ظهره في الفراش، ولا يجامعها. وقيل: هو الابتعاد عن فراشها. وهذا الأولى، فإنّ الزّوج إذا أعرض عن فراشها، فإن كانت محبّة للزّوج؛ فذلك يشقّ عليها، فترجع للصّلاح، وإن كانت مبغضة له، فيظهر النّشوز منها، ويتبيّن: أنّه من قبلها. وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسرّ إلى حفصة، فأفشته إلى عائشة، وتظاهرتا عليه، وكما فعل صلى الله عليه وسلم حين تآمرن عليه، وطلبن زيادة في النفقة. انظر سورة (الأحزاب) وسورة (التحريم). ولا يبلغ به الأربعة الأشهر التي ضرب الله أجلا عذرا للمولي، كما رأيت في سورة (البقرة) رقم [226]، وقد ثبت: أنّ الهجر للمرأة خير علاج لنشوزها، وترفّعها، ولا سيما إذا كان الهجر كناية عن الجماع.
{وَاضْرِبُوهُنَّ} يعني: إن لم يصلح حالهنّ بالهجران بعد الوعظ، فاضربوهنّ ضربا غير مبرّح، ولا شائن، وهو الذي لا يكسر عظما، ولا يشين وجها، فإنّه إذا أدى إلى الضّرر؛ وجب الضمان مثل ضرب المعلم المؤدّب غلامه للعلم، والأدب. هذا؛ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع:
«ألا واستوصوا بالنّساء خيرا فإنّما هنّ عوان عندكم، ليس تملكون منهنّ شيئا غير ذلك، إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن؛ فعظوهنّ، واهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهنّ سبيلا، ألا إنّ لكم على نسائكم حقّا، ولنسائكم عليكم حقّا، فحقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقّهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ، وطعامهنّ» . رواه ابن ماجة، والترمذي عن عمرو بن الأحوص الجشمي-رضي الله عنه.
قال عليّ-رضي الله عنه: يعظها بلسانه، فإن انتهت؛ فلا سبيل له عليها، فإن أبت؛ هجر مضجعها، فإن أبت؛ ضربها، فإن لم تتّعظ بالضّرب؛ بعث الحكم. وقال آخرون: هذا الترتيب مراعىّ عند خوف النّشوز، أمّا عند تحقّق النشوز؛ فلا بأس بالجمع بين الكلّ.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} فيما أمرتموهنّ، وطلبتم منهنّ. {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي: فلا تطلبوا عليهنّ طريقة تحتجّون بها عليهنّ إذا قمن بواجب حقّكم. وعن حكيم بن معاوية-رضي الله عنه عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله! ما حقّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت،
وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلاّ في البيت». أخرجه أبو داود.
{إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً:} فيه تهديد، ووعيد، وتحذير من ظلم المرأة إذا هي انصاعت لأوامر الزّوج بعد نشوزها. والمعنى: اعلموا: أنّ قدرة الله عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم من نساء، وضعفاء، فأنتم أحقّ بالعفو؛ إن حصل منهم هفوات، ومخالفات. وانظر نشوز الرّجل في الآية رقم [128].
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في سعد بن الرّبيع-رضي الله عنه-أحد نقباء الأنصار، نشزت عليه زوجته حبيبة بنت زيد بن خارجة بن أبي زهير، فلطمها، فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أفرشته كريمتي، فلطمها، فقال صلى الله عليه وسلم:«لتقتصّ منه» فانصرفت لتقتصّ منه، فقال صلى الله عليه وسلم:«ارجعوا، هذا جبريل أتاني» فأنزل الله هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:«أردنا أمرا، وأراد الله غيره، وما أراد الله خير» ونقض الحكم الأوّل. وقيل: إنّ في هذا المردود نزل قوله تعالى في سورة (طه): {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} .
تنبيه: ممّا تقدّم يتبيّن لنا: أنّ الله عز وجل لم يأمر في شيء من كتابه بالضّرب صراحا إلا هنا، وفي الحدود العظام، فساوى معصيتهنّ لأزواجهنّ بمعصية الكبائر، وولّى الأزواج ذلك دون الأئمّة، وجعله لهم دون القضاة بغير شهود، ولا بيّنات ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النّساء. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {الرِّجالُ:} مبتدأ. {قَوّامُونَ:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنّون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {عَلَى النِّساءِ:} متعلقان ب {قَوّامُونَ} . {بِما:} جار ومجرور متعلّقان ب {قَوّامُونَ} أيضا، و (ما) تحتمل الموصولة، والمصدرية. {فَضَّلَ:} فعل ماض. {اللهُ:}
فاعله. {بَعْضَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) والعائد محذوف، والتقدير: بالّذي فضّل الله به
…
إلخ، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محلّ جرّ بالباء، التقدير: بسبب تفضيل بعضهم على بعض. {وَبِما:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، و (ما) تحتمل ما ذكر.
{أَنْفَقُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، والتقدير: بالذي، أو: بشيء أنفقوه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محلّ جرّ بالباء، التقدير: بإنفاقهم. {مِنْ أَمْوالِهِمْ:} متعلّقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف. و {مِنْ:} بيان لما أبهم في (ما)، والهاء في محل جر بالإضافة.
{فَالصّالِحاتُ:} الفاء: حرف استئناف. (الصالحات): مبتدأ. {قانِتاتٌ:} خبر أول.
{حافِظاتٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {لِلْغَيْبِ:} متعلقان ب {حافِظاتٌ} لأنّه اسم فاعل، لذا ففيه، وفي سابقه ضمير مستتر هو فاعله. {بِما:} جار ومجرور متعلّقان ب {حافِظاتٌ} أيضا، و (ما) تحتمل الموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين فجملة:{حَفِظَ اللهُ} صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء حفظه الله، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: بحفظ الله لهنّ حقوقهنّ، وكرامتهن. {وَاللاّتِي:} الواو: حرف عطف.
({اللاّتِي}): اسم موصول مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ. {تَخافُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة ({اللاّتِي}) لا محل لها. {نُشُوزَهُنَّ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والنون فيه، وفيما بعده حرف دال على جماعة الإناث، وفي خبر المبتدأ وجهان: أحدهما: أنّه الجملة الفعلية. {فَعِظُوهُنَّ..} . إلخ، وجاز دخول الفاء زائدة على الخبر على رأي الجمهور؛ لأنّ المبتدأ أشبه الشرط في كونه موصولا عامّا، صلته فعل مستقبل. الوجه الثاني: أنّ الخبر محذوف، التقدير: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي
…
إلخ، فحذف الخبر، والمضاف إلى المبتدأ لا لدلالة عليها، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا نظير ما فعله سيبويه-رحمه الله تعالى-في نحو قوله تعالى في سورة (النّور):{الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُوا..} . إلخ؛ أي: فيما يتلى عليكم حكم الزانية
…
إلخ، ويكون الفعل المذكور في هذه الآيات دالاّ على ذلك المحذوف؛ لأنّه بيان له. انتهى. جمل نقلا عن السمين.
{فَعِظُوهُنَّ:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ على الوجه الأول في الإعراب، وهي لا محلّ لها على الوجه الثاني؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا، وواقعا؛ فعظوهن، وتكون الفاء فصيحة، والتي بعدها معطوفة عليها على الوجهين المعتبرين فيها، والجملة الفعلية:
{فَعِظُوهُنَّ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {أَطَعْنَكُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، ونون النسوة فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَلا:} الفاء واقعة في جواب الشرط. (لا): ناهية. {تَبْغُوا:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد.
{عَلَيْهِنَّ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {سَبِيلاً:} مفعول به. و (إن) ومدخولها كلام مفرع، ومستأنف، لا محلّ له. {إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً:} إعرابها واضح إن شاء الله.
الشرح: {وَإِنْ خِفْتُمْ:} أي: وإن علمتم، وتيقّنتم. وقيل: معناه الظنّ؛ أي: إن ظننتم.
وأصل الفعل: خوفتم، فنقلت حركة الواو إلى الخاء قبلها بعد سلب فتحتها، فسكنت الواو، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فالكسرة على الخاء للدّلالة على حركته المحذوفة، ولو كانت دليلا على المحذوف؛ لكانت ضمّة. والجمهور على أنّ المخاطب: الحكام، والأمراء. {شِقاقَ:}
للشّقاق ثلاثة معان: أحدها: العداوة، كما في قوله تعالى حكاية عن قول شعيب لقومه:{وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي..} . إلخ. والثاني: الضّلال: كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} . وكما في الآية الكريمة؛ التي نحن بصدد شرحها؛ لأنّ كلّ واحد من المتشاقّين يكون في شقّ غير شقّ صاحبه، أي: في ناحية، وجهة. قال الشاعر:[الوافر]
وإلاّ فاعلموا أنّا وأنتم
…
بغاة ما بقينا في شقاق
هذا؛ و (بين) ظرف مكان بمعنى: وسط بسكون السّين، لا يقع إلا بين متعدّد لفظا، وحكما. تقول: جلست بين القوم، كما تقول: جلست وسط القوم. هذا؛ والبين: الفراق، والبعاد، وهو أيضا الوصل، فهو من الأضداد، كالجون يطلق على الأسود، والأبيض، ومن استعماله بمعنى الوصل ما قرئ به سورة (الأنعام) رقم [94]:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} حيث قرئ برفعه، ومن استعماله بمعنى الفراق والبعاد قول كعب بن زهير-رضي الله عنه-من قصيدته التي مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الشاهد رقم [809] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
…
إلاّ أغنّ غضيض الطّرف مكحول
{فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها:} المخاطب بذلك الحاكم الشّرعي في هذه الأيام؛ لأنّ تنفيذ الأحكام إليه، ويجوز أن يتولّى ذلك جماعة من المسلمين ممّن يسعون في الإصلاح بين النّاس. وقيد الله الحكمين من أهل الزّوجين؛ لأنّهما أعرف بحال الزوجين، ويجب أن يكونا من أهل العدالة، وحسن النظر، والبصر بالفقه، فإن لم يوجد من أهلهما من يصلح لذلك، فيرسل من غيرهم عدلين، عالمين، وذلك إذا أشكل أمرهما، ولم يدر ممّن الإساءة منهما، فأمّا إذا عرف الظّالم منهما؛ فإنّه يؤخذ منه الحقّ لصاحبه، ويجبر على إزالة الضّرر. وهذا بعد أن يختلي الحكم بمن ينوب عنه، ويتعرّف أحواله، ومظالمه، وشكواه، وعلى
الحكمين أن يسعيا بالإصلاح بين الزّوجين، ويذكّر انهما بالله، وبالنّصيحة، وما أفضى به كلّ منهما، فإن أنابا، ورجعا؛ تركاهما، وضمنا لهما حياة سعيدة رغيدة، وإن كان غير ذلك، ورأيا الفرقة؛ فرّقا بينهما، وتفريقهما جائز على الزّوجين، وسواء وافق حكم قاضي البلد، أو خالفه، وكّلهما الزوجان بذلك، أو لم يوكّلاهما. والفراق في ذلك طلاق بائن.
وقال قوم: ليس لهما الطّلاق ما لم يوكّلهما الزّوج في ذلك، وليعرّفا القاضي بذلك، وهذا بناء على أنّهما رسولان شاهدان، ثمّ القاضي يفرّق إن أراد، ويأمر الحكم بالتّفريق، وهو قول كثيرين. والصّحيح الأول، وأنّ للحكمين التّطليق دون توكيل، وهو قول مالك، والشافعي، وهو مرويّ عن عثمان، وعليّ، وابن عبّاس-رضي الله عنهم، وخالف أبو حنيفة-رحمه الله تعالى- في ذلك، فيرى: أنّ الحكمين لا يطلقان إلا برضا الزوج، واحتجّ بما يلي:
فقد روى الدارقطنيّ من حديث محمّد بن سيرين عن عبيدة في هذه الآية، قال: جاء رجل، وامرأة إلى عليّ-رضي الله عنه، ومع كلّ واحد منهما جماعة من الناس، فأمرهم، فبعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، وقال عليّ للحكمين: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرّقا؛ فرقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه، ولي. وقال الزّوج: أمّا الفرقة؛ فلا، فقال عليّ-رضي الله عنه: كذبت! والله لا تبرح حتى تقرّ بمثل الذي أقرّت به! هذا؛ وفي الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما تقول الخوارج: لا تحكيم إلا لله، فهذه كلمة حق يريدون بها الباطل، وقد وافق الإمام أحمد أبا حنيفة فيما ذهب إليه.
{إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً..} . إلخ أي: إن يرد الزوجان إصلاحا، وصدقا فيما أخبرا به الحكمين؛ يوفّق الله بينهما، وقال ابن عباس ومجاهد-رضي الله عنهم: إن يرد الحكمان إصلاحا؛ يوفّق الله بين الزوجين. وقيل: المراد: الزوجان.
{إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً:} يعني: أنّ الله تعالى يعلم كيف يوفّق بين المختلفين، ويجمع بين المتفرّقين. وفيه وعيد شديد للزّوجين، والحكمين؛ إن سلكوا غير طريق الحق. هذا؛ وذكر الله في الآية الكريمة الإصلاح، ولم يذكر ما يقابله وهو التفريق، وفيه إشارة لطيفة إلى أنّه ينبغي للحكمين أن يبذلا جهدهما في الإصلاح؛ لأنّ في التفريق خراب البيوت، وتشتيت الأولاد، وذلك ممّا ينبغي أن يجتنب.
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {شِقاقَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {بَيْنِهِما:} مضاف إليه من إضافة المصدر لظرفه، مثل قوله تعالى:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَابْعَثُوا:} الفاء:
واقعة في جواب الشرط. (ابعثوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {حَكَماً:} مفعول به. {مِنْ أَهْلِهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {حَكَماً،} والهاء في محل جر بالإضافة. {وَحَكَماً:} معطوف على ما قبله.
{مِنْ أَهْلِها:} متعلقان بمحذوف صفة له، و (ها) في محل جر بالإضافة. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يُرِيدا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها
…
إلخ. {أَصْلَحا:} مفعول به.
{يُوَفِّقِ:} فعل مضارع جواب الشرط. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب «إذا» الفجائية. {بَيْنِهِما:} ظرف مكان متعلّق بما قبله.. إلخ، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً:} تقدّم إعراب مثلها كثيرا.
الشرح: أجمع العلماء: أنّ هذه الآية من المحكم المتّفق عليه، وليس منها شيء منسوخ، وكذلك في جميع الكتب السماوية، ولو لم يكن كذلك؛ لعرف ذلك من جهة العقل، وإن لم ينزل به كتاب. انتهى. قرطبي. {وَاعْبُدُوا اللهَ:} العبادة: غاية التذلّل، ولا يستحقّها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى، ولذلك يحرم السّجود لغير الله تعالى. وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود. {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً:}
الشرك على أنواع: الأول: الشّرك الظاهر، وهو أن يتّخذ العبد إلها غير الله من حجر، أو شمس، أو قمر، أو شخص من البشر. والثاني: الشرك الخفيّ، وهو أن يعتقد أنّ للشيء تأثيرا في هذا الكون، أو تأثيرا في شيء من الأشياء. ومن الشرك الخفيّ: الرّياء. فعن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما، قال: قال رجل: يا رسول الله! إني أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يرى موطني. فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزل قوله تعالى:{فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} . رواه الحاكم، والبيهقي. قال الماورديّ: قال جميع أهل التأويل: إنّ المراد بالآية النهي عن الرّياء، كيف لا؟ وأحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم تصرّح بأنّ الرّياء شرك.
فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بصحف مختّمة، فتنصب بين يدي الله تعالى، فيقول الله عز وجل: ألقوا هذه، واقبلوا هذه، فتقول
الملائكة: وعزّتك وجلالك ما رأينا إلاّ خيرا، فيقول الله عز وجل: إنّ هذا كان لغير وجهي، وإنّي لا أقبل إلاّ ما ابتغي به وجهي». رواه الطبرانيّ، والبيهقيّ، والبزّار.
وعن محمود بن لبيد-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشّرك الأصغر!» قالوا: وما الشّرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: «الرّياء، يقول الله عز وجل إذا جزى النّاس بأعمالهم: اذهبوا إلى الّذين كنتم تراءون في الدّنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟!» . رواه الإمام أحمد، والبيهقي. وانظر ما ذكرته في آخر سورة (الكهف) فإنّه جيد، والحمد لله، وانظر «الإخلاص» في سورة (الزّمر) رقم [11].
{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} أي: وأحسنوا بالوالدين، والإحسان إلى الأبوين يعرفه كلّ واحد من الناس بفطرته، وهو أن يقوم المرء بخدمتهما، ولا يرفع صوته عليهما بقدر سعته. نعم إنّ البر بالوالدين أمر عظيم حثّ عليه الشّرع، واستحسنه الذّوق، والطّبع، ولكنّهما كما تعلم ليسا في الدّرجة سواء، فإنّ الأمّ قد كابدت في سبيلك، وتعبت أكثر من تعب الأب، وجهاده أضعافا مضاعفة، فهي التي تحمّلت المشقّات، فحملتك في بطنها تسعة أشهر، وهي التي كادت تنزل إلى قبرها حينما ولدتك، ثمّ بعد ذلك هي التي وضعت نفسها تحت تصرفك في ليلك ونهارك، تقوم إذا تحرّكت، وتنزعج إذا بكيت، وكم أصابها المرض، وأعياها السهر، وأضناها البكاء من أجلك، كلّ ذلك في سبيل تربيتك، وتأمين راحتك، وأنت لا تعلم من ذلك شيئا، ولذا جاء التنبيه عليها في سورة (لقمان) رقم [14]، وفي سورة (الأحقاف) رقم [15] وخذ هنا قول القائل بالإضافة لما ذكرته في سورة (الإسراء) رقم [23 و 24]:[الطويل]
لأمّك حقّ لو علمت كبير
…
كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي
…
لها من جواها أنّة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقّة
…
فمن غصص منها الفؤاد يطير
فدونك فارغب في عميم دعائها
…
فأنت لما تدعو إليه فقير
{وَبِذِي الْقُرْبى} أي: القرابات من جهة الأب، ومن جهة الأم، وهم الأرحام، فقد أمرنا الله ورسوله بالإحسان إليهم وصلتهم، فعن أنس-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسّأ له في أثره؛ فليصل رحمه» . رواه البخاريّ، ومسلم.
وعن عبد الرحمن بن عوف-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: أنا الله، وأنا الرّحمن خلقت الرّحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها؛ وصلته، ومن قطعها؛ قطعته» . رواه أبو داود، والترمذيّ.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق، حتّى إذا فرغ منهم، قامت الرّحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك» . ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» }. رواه البخاريّ، ومسلم.
{وَالْيَتامى:} انظر الآية رقم [2] ورقم [3] من هذه السّورة ففيهما الكفاية. {وَالْمَساكِينِ} انظر الآية رقم [8] من هذه السّورة. {وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى:} الجار القريب منك، أي: فهو رحم. {وَالْجارِ الْجُنُبِ} أي: الجار الغريب. وقيل: الأوّل الذي قرب جواره منك، والثاني الّذي بعد جواره منك. والتفسير الأوّل قاله علقمة بن عبدة، يخاطب به الحارث بن جبلة الغسانيّ:[الطويل]
فلا تحرمنّي نائلا عن جناية
…
فإنّي امرؤ وسط القباب غريب
وقال نوف الشّامي-رحمه الله تعالى-: {وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى:} المسلم، و {وَالْجارِ الْجُنُبِ:} الكافر، وعلى هذا فالوصاة بالجار مأمور بها، مندوب إليها، مسلما كان، أو كافرا، وهو الصحيح، والإحسان يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة، وكف الأذى، والمحاماة دونه، فقد روى البخاريّ عن عائشة-رضي الله عنها-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتّى ظننت: أنّه سيورّثه» . وروي عن ابن عمر من وجه آخر.
وعن أبي شريح الكعبي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!» قيل: يا رسول الله! لقد خاب وخسر من هذا؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه» قالوا: وما بوائقه؟ قال: «شرّه» . رواه البخاريّ.
وروى البزّار عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة: جار له حقّ واحد، وهو أدنى الجيران حقّا، وجار له حقّان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقّا، فأمّا الجار الّذي له حقّ واحد؛ جار مشرك لا رحم له، له حقّ الجوار، وأمّا الجار الّذي له حقّان؛ فجار مسلم، له حقّ الإسلام وحقّ الجوار، وأمّا الّذي له ثلاثة حقوق؛ فجار مسلم ذو رحم، له حقّ الجوار، وحقّ الإسلام، وحقّ الرّحم» . والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة، ومسطورة.
{وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ:} عن عليّ، وابن مسعود-رضي الله عنهما، قالا: هي المرأة، وقال ابن عباس، ومجاهد-رضي الله عنهم: هو الرّفيق في السّفر، وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: هو الرّفيق الصّالح. وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في
السّفر. قال القرطبيّ: وأسند الطبريّ: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه، وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة، فقطع قضيبين، أحدهما معوجّ، فخرج، وأعطى لصاحبه القويم، فقال: كنت يا رسول الله أحقّ بهذا! فقال: «كلاّ يا فلان إنّ كلّ صاحب يصحب آخر فإنّه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار» .
{وَابْنِ السَّبِيلِ:} فعن ابن عباس، وجماعة: هو الضعيف. وقال مجاهد: هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر. وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضّعيف: المارّ في الطريق، فهما سواء، فعن أبي شريح خويلد بن عمرو-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، جائزته يوم وليلة، وضيافته ثلاثة أيّام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحلّ له أن يثوي عنده؛ حتّى يحرجه» رواه مالك، والخمسة ما عدا النّسائي.
{وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ:} أمر الله بالإحسان إلى المماليك. عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمّن يملك قوتهم» . رواه مسلم.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«للمملوك طعامه، وكسوته، ولا يكلّف من العمل إلاّ ما يطيق» . أخرجه مسلم. وعن أبي ذرّ-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم، فأعينوهم» . أخرجاه في الصّحيحين.
هذا؛ وذكرت في سورة (النور) رقم [33] كلمة حول ما يطعن به المستشرقون، والملحدون من أبناء المسلمين في الإسلام، وينعتونه بالقسوة، وبأنّه عمل على تكديس الرّق. انظرها تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
{إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ:} حب الله للعبد: رحمته، وغفرانه، ورضوانه. وعدم محبّته: غضبه، وسخطه، وانتقامه. {مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً:} المختال: المتكبّر، العظيم في نفسه؛ الذي لا يقوم بحقوق الناس، والفخور على عباد الله بما أعطاه الله من نعمه، ولا يشكره عليها. وإنّما ختم الله هذه الآية بهذين الوصفين المذمومين؛ لأنّ المختال الفخور يأنف من أقاربه الفقراء، ومن جيرانه الضّعفاء، فلا يحسن إليهم، ولا يلوي بنظره عليهم؛ ولأنّ المختال هو المتكبّر، ومن كان متكبرا؛ فلا يقوم بحقوق الناس. وخذ ما يلي:
عن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله تعالى يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء» . متفق عليه. وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من تعظّم في نفسه، أو اختال في مشيته؛ لقي الله-تبارك، وتعالى-وهو عليه غضبان» . رواه الطبرانيّ في الكبير، والحاكم بنحوه. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي
في حلّة، تعجبه نفسه، ومرجّل جمّته، يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة». متفق عليه.
وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله-جلّ وعلا-:
الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما؛ ألقيته في النّار». رواه ابن ماجة، وغيره، والأحاديث في ذلك كثيرة مشهورة مسطورة.
الإعراب: {وَاعْبُدُوا:} الواو: حرف استئناف. ({اُعْبُدُوا}): فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة التي هي فاعله، والألف للتفريق بين واو العلة، وواو الضمير. هذا هو الإعراب المتعارف عليه، والمشهور بين الناس، والإعراب الحقيقي أن يقال في مثل ذلك: فعل أمر مبني على سكون مقدّر على آخره، منع من ظهوره إرادة التخلّص من التقاء الساكنين. أو يقال: منع من ظهوره اشتغال المحل بالضمّ الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة. وما أجدرك أن تلاحظ هذا في كلّ فعل أمر مسند إلى واو الجماعة، أو إلى ألف الاثنين، مثل: اعبدا، وحرّك بالفتحة لمناسبة ألف الاثنين، أو إلى ياء المؤنثة المخاطبة، مثل: اعبدي، وقد حرك بالكسرة لمناسبة ياء المخاطبة. والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تُشْرِكُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا})، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {بِهِ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما.
{شَيْئاً:} صفة لمفعول مطلق محذوف.
{وَبِالْوالِدَيْنِ:} الواو: حرف عطف. ({بِالْوالِدَيْنِ}): جار ومجرور متعلّقان بفعل محذوف، والتقدير: أحسنوا بالوالدين، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنّى لفظا، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه من الأسماء الخمسة. و ({ذِي}) مضاف، و {الْقُرْبى:} مضاف إليه مجرور، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذّر. {وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ:} هذه الأسماء معطوفة على ({ذِي الْقُرْبى}). {ذِي الْقُرْبى:} صفة (الجار) مجرور
…
إلخ. {الْجُنُبِ:} صفة (الجار).
{بِالْجَنْبِ:} متعلقان بمحذوف حال من ({الصّاحِبِ}) وهو أولى من التعليق به نفسه. {وَابْنِ السَّبِيلِ:} معطوف أيضا على ما قبله.
{وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): معطوفة على المجرورات السّابقة مبنية على السّكون في محلّ جرّ، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {مَلَكَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْمانُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، والتقدير: والذي، أو: وشيء ملكته أيمانكم، وعلى
اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر، والمصدر يؤوّل باسم مفعول، التقدير: ومملوك أيمانكم.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها، والمعلّل محذوف؛ إذ التقدير: لا تفتخروا على هؤلاء؛ لأنّ الله
…
إلخ. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به.
{كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{مَنْ} وهو العائد، أو الرابط. {مُخْتالاً:}
خبر: {كانَ} . {فَخُوراً:} خبر ثان لها، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ} أو صفتها.
الشرح: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: نزلت الآية الكريمة في اليهود الذين بخلوا ببيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم فكتموها، وعلى هذا يكون المراد بالبخل: كتمان العلم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار، ويقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، ولا تدرون ما يكون. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالبخل: كتمان العلم، ومنع المال؛ لأنّ البخل في كلام العرب منع السّائل من فضل ما لديه، وإمساك المقتنيات. وفي الشّرع: البخل عبارة عن إمساك الواجب، ومنعه. وإذا كان كذلك؛ أمكن حمله على منع المال، ومنع العلم. ولا بأس به، وبالإضافة لما ذكرته بشأن البخل، والشح في الآية رقم [180] من سورة (آل عمران) أذكر هنا ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنّم في جوف عبد أبدا. ولا يجتمع شحّ، وإيمان في قلب عبد أبدا» . رواه النّسائيّ، وغيره. وعن الحسن البصري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بقوم خيرا؛ ولّى أمرهم الحكماء، وجعل المال عند السّمحاء. وإذا أراد الله بقوم شرّا؛ ولّى أمرهم السّفهاء وجعل المال عند البخلاء» . رواه أبو داود في مراسيله.
وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل-عليه السلام-عن الله تعالى قال:«إنّ هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلح له إلاّ السّخاء، وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه» . رواه الطّبراني في الأوسط. وقال عليّ-كرّم الله وجهه-: إذا أقبلت عليك الدنيا؛ فأنفق منها، فإنّها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك؛ فأنفق منها، فإنّها لا تبقى، وأنشد:[البسيط]
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة
…
فليس ينقصها التّبذير والسّرف
وإن تولّت فأحرى أن تجود بها
…
فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
ورحم الله من قال: [الوافر]
وذي حرص تراه يلمّ وفرا
…
لوارثه ويدفع عن حماه
ككلب الصّيد يركض وهو طاو
…
فريسته ليأكلها سواه
{وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ:} قيل: هم الأغنياء؛ الذين كتموا الغنى، وأظهروا الفقر، وبخلوا بالمال. وقيل: المراد اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم الموجودة في التوراة، والإنجيل.
عن عطاء بن يسار-رحمه الله تعالى-قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما-فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أجل، والله إنّه لموصوف في التّوراة بصفته في القرآن:«يا أيّها النّبيّ إنّا أرسلناك شاهدا، ومبشّرا، ونذيرا، وحرزا للأمّيين، أنت عبدي، ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظّ، ولا غليظ، ولا سخّاب بالأسواق، ولا يدفع السّيّئة بالسّيّئة، ولكن يعفو، ويغفر، ولن يقبضه الله؛ حتّى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلاّ الله، فيفتح بها أعينا عميا، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا» . رواه البخاريّ، وأحمد، رحمهما الله تعالى!.
هذا؛ و (كتم) من باب: نصر، وربما عدّي إلى مفعولين، فيقال: كتمت زيدا الحديث، ومنه الآية رقم [42] الآتية، والأكثر أن يتعدّى للثاني بحرف الجر، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [159]{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى..} . إلخ، وتزاد (من) جوازا في المفعول الأول، فيقال: كتمت من زيد الحديث، وكتّم الشيء: بالغ في كتمانه، أي: في إخفائه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» قال صاحب القاموس: والكتم محركة، والكتمان بالضّمّ: نبت يخلط بالحناء، ويخضّب به الشعر، ويصنع منه مداد الكتابة. انتهى.
ورحم الله البوصيري إذ يقول: [البسيط]
فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت
…
من جهلها بنذير الشّيب والهرم
ولا أعدّت من الفعل الجميل قرى
…
ضيف ألمّ برأسي غير محتشم
لو كنت أعلم أنّي ما أوقّره
…
كتمت سرّا بدا لي منه بالكتم
{وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ:} للجاحدين نعمة الله عليهم؛ إذ يراد بالكفر: الجحود. {عَذاباً مُهِيناً:} أي: يهانون به في الآخرة. وإعلاله مثل إعلال: {مُبِيناً} في الآية رقم [20].
الإعراب: {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب بدلا من: {مَنْ كانَ} في الآية السابقة، أو في محل نصب على الذم بفعل محذوف، أو هو في محل رفع لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، وتكون الجملة بدلا من جملة:{كانَ مُخْتالاً فَخُوراً} أو مفسرة لها، أو الموصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، التقدير: الذين يبخلون بما أعطوا، ومنحوا. وأجيز اعتبار الخبر:{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ..} . إلخ على بعد فيه. {يَبْخَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها، وكذلك جملة:
{وَيَكْتُمُونَ..} . إلخ معطوفة عليها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {آتاهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، والهاء مفعول به أول. {اللهُ:} فاعله. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلّقان بمحذوف حال من المفعول الثاني المقدّر. و {مِنْ:} بيان لما أبهم في: {ما،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
يكتمون الذي، أو: شيئا آتاهم الله إيّاه من فضله.
{وَأَعْتَدْنا:} الواو: واو الحال. ({أَعْتَدْنا}): فعل، وفاعل. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {عَذاباً:} مفعول به. {مُهِيناً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، وإعادة (الكافرين)، وكان حقّه الإضمار، وأعاده بلفظ (الكافرين) للتشنيع على الباخلين، والكاتمين، و «قد» مقدرة قبل الجملة. وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها.
الشرح: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ..} . إلخ: يعني: للفخار، والسّمعة، وليقال: ما أسخاهم! وما أجودهم! لا يريدون بما أنفقوا وجه الله تعالى. نزلت الآية في اليهود الذين يبخلون، ويأمرون الناس بالبخل
…
إلخ. وقيل: نزلت في المنافقين؛ لأنّ الرّياء ضرب من النّفاق. وقيل: نزلت في مشركي مكّة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وغيرها. هذا؛ والرياء شرك. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك معي غيري؛ تركته وشركه» . أخرجه مسلم.
وعن شدّاد بن أوس-رضي الله عنه: أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صام يرائي؛ فقد أشرك. ومن صلّى يرائي؛ فقد أشرك. ومن تصدّق يرائي؛ فقد أشرك» . رواه البيهقيّ.
{وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} أي: الإيمان الحقيقي. {وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ:} هو آخر أيام الدّنيا، فيه الحشر، والنشر، والحساب، والجزاء، ودخول أهل الجنّة الجنّة بالفضل الإلهيّ، ودخول أهل النّار النّار بالعدل الربّانيّ.
{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً..} . إلخ. يعني: من يكن الشّيطان صاحبه، وخليله؛ فبئس الصّاحب! وبئس الخليل الشيطان في الدنيا وفي الآخرة! وبيّن الله نتيجة صداقة الشيطان في سورة (ق) وفي سورة (إبراهيم) على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والقرين: المقارن، أي: الصاحب، والصديق. قال طرفة في معلّقته-وينسب لعديّ بن زيد العبادي: وهو مذكور في كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): معطوف على ما قبله على جميع الوجوه المعتبرة فيه. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {أَمْوالَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {رِئاءَ:} حال بمعنى مرائين، أو مفعول لأجله، أي: لأجل الرّياء. وقيل: صفة لمفعول مطلق محذوف، والتقدير:
إنفاقا رئاء. وهو ضعيف. و {رِئاءَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {بِاللهِ} متعلقان بما قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): حرف نفي. {بِالْيَوْمِ:} معطوفان على ما قبلهما.
{الْآخِرِ:} صفة: (اليوم).
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكُنِ:} فعل مضارع ناقص فعل الشرط مجزوم. {الشَّيْطانُ:} اسم: {يَكُنِ} . {لَهُ} .
جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {قَرِيناً:} خبر: {يَكُنِ} . {فَساءَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ساء): فعل جامد لإنشاء الذمّ، وفاعله ضمير مستتر يفسّره التمييز الذي بعده، والمخصوص بالذمّ محذوف، التقدير: فساء قرينا الشّيطان، وذرّيته! وهذه الجملة في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه، كما ذكرته مرارا، والجملة الاسمية:{وَمَنْ يَكُنِ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {وَماذا عَلَيْهِمْ..} . إلخ: أي: وأيّة تبعة، ومؤاخذة، ووبال عليهم في الإيمان بالله، واليوم الآخر؟! والجواب: لا تبعة، ولا ضرر عليهم. والمراد: الذمّ، والتّوبيخ للذين أعرضوا عن الإسلام؛ لأنّ الواقع كلّ مصلحة، ومنفعة موجودة في الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا كقولك للعاقّ: ما ضرّك لو كنت بارّا بوالديك؟! وقد علم: أنّه لا مضرّة في البرّ، والإحسان للوالدين، ولكنّه ذمّ، وتوبيخ. {وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً:} تهديد، ووعيد للّذين أعرضوا عن الإيمان بالله، واليوم الآخر
…
إلخ.
الإعراب: {وَماذا:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. ({ذا}): اسم موصول بمعنى الّذي مبني على السكون في محل رفع خبره.
{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صلة ({ذا}). هذا؛ ويجوز اعتبار ({ماذا}) اسما مركبا مبنيّا على السكون في محل رفع مبتدأ، والجار والمجرور:{عَلَيْهِمْ} متعلّقان بمحذوف خبره، والجملة الاسمية على الاعتبارين مستأنفة، لا محلّ لها. {لَوْ:} مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِاللهِ:}
متعلقان بما قبلهما. {وَالْيَوْمِ:} معطوف على ما قبله. {الْآخِرِ:} صفة ({الْيَوْمِ}). و ({لَوْ}) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جرّ بحرف جر محذوف. انظر تقديره في الشّرح. وقيل: هي الامتناعية جوابها محذوف، التقدير: لو آمنوا؛ لم يضرّهم الإيمان شيئا. والأول أقوى.
{وَأَنْفَقُوا:} معطوف على: {آمَنُوا،} ويقدّر مثله بمصدر، انظر الشرح. {مِمّا:} متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {رَزَقَهُمُ اللهُ:} فعل ماض، ومفعوله الأول، وفاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: وأنفقوا من الذي، أو من شيء رزقهم الله إيّاه. {وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً:} إعرابها واضح إن شاء الله.
والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب {عَلِيماً} بعدهما.
الشرح: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} أي: إنّ الله لا يبخس الناس، ولا ينقصهم من ثواب عملهم وزن ذرّة، بل يجازيهم بها، ويثيبهم عليها، فهو كقوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وفي صحيح مسلم: عن أنس-رضي الله
عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدّنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأمّا الكافر؛ فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدّنيا؛ حتّى إذا أفضى إلى الآخرة؛ لم يكن له حسنة يجزى بها» . هذا والذّرّة: النّملة الحمراء الصّغيرة، وتقال لكلّ جزء من أجزاء الهباء المنتشر في الفضاء، وهي لا ترى إلا في ضوء الشّمس الدّاخل إلى مكان مظلم.
{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} أي: يكثر ثوابها، ويبارك فيها، قال قتادة-رحمه الله تعالى-:
لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرّة أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها. وفي الصّحيحين عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطّويل، وفيه:«فيقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان، فأخرجوه من النّار» .
وفي لفظ: «أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجوه من النّار. فيخرجون خلقا كثيرا» . ثمّ قال أبو سعيد-رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} .
وقال ابن أبي حاتم: قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: يؤتى بالعبد، أو بالأمة، فينادي مناد على رءوس الخلائق: هذا فلان بن فلان، من كان له عليه حقّ؛ فليأت إلى حقّه، ثمّ يقول: آت هؤلاء حقوقهم! فيقول: يا ربّ من أين لي، وقد ذهبت الدّنيا عنّي؟! فيقول الله تعالى للملائكة: انظروا إلى أعماله الصّالحة، فأعطوهم منها. فإن بقي منها مثقال ذرّة من حسنة؛ قالت الملائكة: يا رب-وهو أعلم بذلك منهم-قد أعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، وبقي مثقال ذرّة من حسنة، فيقول الله تعالى للملائكة: ضعّفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتي الجنّة. ومصداقه:
{إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ..} . إلخ. وإن كان عبدا شقيّا؛ قالت الملائكة: إلهنا! فنيت حسناته، وبقيت سيّئاته، وبقي طالبون كثير، فيقول الله تعالى: خذوا من سيئاتهم، وأضيفوها إلى سيّئاته، ثمّ صكّوا له صكّا إلى النّار.
فالآية على هذا التفسير في الخصوم، وأنّه تعالى لا يظلم مثقال ذرّة للخصم على الخصم يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى له، بل يثيبه عليها، ويضعفها له، وقد تقدّم في الآية رقم [28] عن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنّ هذه الآية إحدى الآيات، الّتي هي خير ممّا طلعت عليه الشّمس.
{وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} يعني: الجنة. والمعنى: يعطي من عنده أجرا عظيما بعد مضاعفة الحسنة الّتي توفرت له. قال أبو هريرة-رضي الله عنه: إذا قال الله عز وجل: {أَجْراً عَظِيماً} فمن يقدر قدره؟! وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة مع أنّ له حسنات كثيرة، وأعمالا صالحات.
هذا؛ والضّعف بكسر الضاد، وسكون العين: مثل الشّيء، وضعفاه: مثلاه، وأضعافه:
أمثاله، هذا هو الأصل في الضّعف، ثمّ استعمل في المثل، وما زاد، وليس للزّيادة حدّ، فيقال:
هذا ضعف هذا، أي: مثله، أو مثلاه، أو ثلاثة أمثاله، وهكذا. ويقال: أضعفت الشيء، وضعّفته، وضاعفته، فمعناه: ضممت إليه مثله، فصاعدا. وقال بعضهم: ضاعفت أبلغ من ضعّفت، ولذا قرأ بعضهم في سورة (الأحزاب):{يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} وفي (الفرقان): {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ} وفي هذه السورة: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} . هذا؛ وللضّعف بتثليث الضّاد معان نظمها بعضهم بقوله: [الرجز]
في الرّأي والعقل يكون الضّعف
…
والوهن في الجسم فذاك الضّعف
زيادة المثل كذا والضّعف
…
جمع ضعيف وهو شاكي الضّرّ
هذا؛ و (لدن) بمعنى: عند، وفيها إحدى عشر لغة، أفصحها إثبات النون ساكنة، وهي لغة القرآن الكريم، وهي بجميع لغاتها معناها: أول غاية زمان، أو مكان، وقلّما تفارقها «من» الجارة لها، فإذا أضيفت إلى الجملة؛ تمحّضت للزّمان؛ لأنّ ظروف المكان لا يضاف منها إلى الجملة إلا «حيث». ويجوز تصدير الجملة بحرف مصدري لما لم يتمحّض. (لدن) في الأصل للزّمان. وإذا أضيفت للضمير وجب إثبات النون؛ لأنّه لا يقال: لده، ولا لدك. وانظر الآية [8] من سورة (آل عمران).
{تَكُ:} أصله تكون، فلمّا دخل الجازم؛ صار:«إن تكون» فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصار «إن تكن» ثم حذفت النون الساكنة للتخفيف ولكثرة الاستعمال. وهذا الحذف جائز، وغير لازم، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته ممّا اختصت به كان:[الرجز]
ومن مضارع لكان منجزم
…
تحذف نون وهو حذف ما التزم
ولحذف النون شروط: أن يكون مضارعا مجزوما بالسّكون، وأن لا يكون بعده ساكن، ولا ضمير متّصل كما في الآية الكريمة، وغيره كثير، ومثلها كثير في الشّعر العربي، ولا تحذف عند فقد أحد الشروط إلا في ضرورة الشّعر، كما في قول الخنجر بن صخر الأسدي-وهو الشاهد رقم [243] من كتابنا:«فتح ربّ البرية» -: [الطويل]
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة
…
فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم
وأيضا قول الآخر: وهو الشاهد رقم [244] من الكتاب المذكور: [الطويل]
إذا لم تك الحاجات من همّة الفتى
…
فليس بمغن عنك عقد الرّتائم
وقرئ شاذّا قوله تعالى: «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب
…
» إلخ. ولم تحذف في قول أبي الأسود الدؤلي لجريانه على القاعدة: [الطويل]
دع الخمر تشربها الغواة فإنّني
…
رأيت أخاها مجزئا بمكانها
فإلاّ يكنها أو تكنه فإنّه
…
أخوها غذته أمّه بلبانها
يريد نقيع الزّبيب.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَظْلِمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها، ومفعول {يَظْلِمُ} محذوف، والتقدير: لا يظلم أحدا.
{مِثْقالَ:} صفة مفعول مطلق محذوف، والتقدير: ظلما مثقال ذرّة، كما تقول: لا أظلم قليلا، ولا كثيرا. وقيل: ضمن: {يَظْلِمُ} معنى ما يتعدى لمفعولين، فانتصب:{مِثْقالَ} على أنّه مفعول ثان، والأول محذوف، التقدير: لا ينقص، أو لا يغصب أحدا مثقال ذرة من الخير، أو الشر. انتهى. جمل نقلا عن أبي حيان. و {مِثْقالَ:} مضاف، و {ذَرَّةٍ:} مضاف إليه.
{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنَّ}): حرف شرط جازم. {تَكُ:} فعل مضارع ناقص فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، واسمه ضمير مستتر تقديره: هو، يعود إلى:{مِثْقالَ ذَرَّةٍ} وإنّما أنّث الضمير؛ لكون: {مِثْقالَ} مضافا إلى {ذَرَّةٍ،} وهي مؤنثة: أو الاسم محذوف، التقدير: إن تك فعلته. {حَسَنَةً:} خبر: {تَكُ} .
هذا؛ وقرئ بالرفع على اعتبار: {تَكُ} تامة، و («حسنة») فاعلها، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {يُضاعِفْها:} جواب الشّرط، والفاعل يعود إلى الله، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. وقيل: معطوفة على الجملة الاسمية قبلها.
({يُؤْتِ}): فعل مضارع معطوف على جواب الشّرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والمفعول الأول محذوف، التقدير: ويؤت من يريد. هذا؛ ويجوز في مثل هذا الفعل في العربية النصب على إضمار «أن» والرّفع على الاستئناف، كما رأيت في الآية رقم [283] من سورة (البقرة).
{مِنْ:} حرف جر. {لَدُنْهُ:} اسم مبني على السكون في محل جر ب {مِنْ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من:
{أَجْراً} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه صار حالا. {أَجْراً:} مفعول به. {عَظِيماً:} صفة له.
{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)}
الشرح: {فَكَيْفَ إِذا..} . إلخ. يعني: فكيف يكون حال هؤلاء المشركين، والمنافقين يوم القيامة. {إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد: بنبيّها، والمعنى: يؤتى بالأنبياء يشهدون على أممهم، ولها. {وَجِئْنا بِكَ:} يا محمد. {عَلى هؤُلاءِ}
{شَهِيداً} أي: شاهدا على من آمن بالإيمان، وعلى من كفر بالكفر، وعلى من نافق بالنفاق.
وقيل: المعنى: وجئنا بك يا محمد شاهدا على صدق هؤلاء الأنبياء بأنّهم بيّنوا لأممهم طريق الحقّ، والصّواب لعلمك بشرعهم، وعقائدهم. هذا؛ وفي الآية ما يسمّى: السؤال عن المعلوم لتوبيخ السّامع، وتقريعه.
فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليّ القرآن» .
فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ فقال:«إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري» . قال:
فقرأت عليه سورة (النساء) حتى جئت هذه الآية: {فَكَيْفَ..} . إلخ. قال: «حسبك الآن!» قال:
فالتفتّ إليه، فإذا عيناه تذرفان. متّفق عليه، وزاد مسلم، فقال:«وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم» أو قال: «ما كنت فيهم» شكّ أحد رواته. انتهى خازن.
هذا؛ و «جاء» يستعمل لازما، إن كان بمعنى حضر، وأقبل، ومتعدّيا إن كان بمعنى: وصل، وبلغ، فمن الأول ما هو في هذه الآية، ومن الثاني قوله تعالى:{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ} . ومثله «أتى» يستعمل لازما، ومتعديا.
(أمّة): تكون واحدا إذا كان يقتدى به، كقوله تعالى في حقّ إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً..} . إلخ. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعث أمّة وحده» لأنّه لم يشرك في دينه غيره، و «الأمّة» الطريقة، والملّة، والدّين، كقوله تعالى، حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً} . وكلّ جنس من الحيوان أمّة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} والأمة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت وحين، و «الأمة»: الشجة التي تبلغ الدماغ، يقال: رجل مأموم، وأميم.
و «الأمة» أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الأمة، أي: حسن القامة. قال الشاعر: [المتقارب]
وإنّ معاوية الأكرمين
…
حسان الوجوه طوال الأمم
الإعراب: {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فكيف حالهم، أو في محل نصب حال، عامله محذوف، التقدير: فكيف يصنع هؤلاء الكفرة، والجملة سواء أكانت اسمية، أو فعلية: مستأنفة لا محلّ لها. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلّق بالفعل المقدّر، أو هو متعلّق بنفس المبتدأ الّذي قدّرناه. {جِئْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة {إِذا} إليها. هذا؛ ومثل هذه الآية في إعرابها الآية رقم [25]: من سورة (آل عمران)، ومثل الآيتين قول الفرزدق-وهو الشّاهد رقم [225]: من كتابنا: «فتح رب البريّة» ، والشاهد رقم [528]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
فكيف إذا مررت بدار قوم
…
وجيران لنا كانوا كرام
{مِنْ كُلِّ:} متعلقان بما قبلهما، و ({كُلِّ}) مضاف، و {أُمَّةٍ:} مضاف إليه. {بِشَهِيدٍ:}
متعلقان بالفعل قبلهما. {وَجِئْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {بِكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {عَلى:} حرف جر. {هؤُلاءِ:}
الهاء للتنبيه لا محل لها. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر ب {عَلى،} والجار والمجرور متعلّقان بالفعل: {جِئْنا،} أو هما متعلّقان ب {شَهِيداً} بعدهما. {شَهِيداً:} حال من كاف الخطاب.
الشرح: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ..} . إلخ أي: في اليوم العصيب الذي يشهد فيه كلّ نبيّ على أمته، ويشهد الرّسول صلى الله عليه وسلم على أمّته يتمنّى الذين كفروا، وعصوا الرسول لو يدفنوا في الأرض، ثمّ تسوى بهم كما تسوّى بالموتى، أو لو تنشق الأرض، فتبتلعهم، ويكونون ترابا، كقوله تعالى في آخر سورة النبأ:{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً} .
{وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما-في رواية عطاء عنه: لو تسوّى بهم الأرض، وأنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كفروا به، ولا نافقوه. فعلى هذا القول يكون الكتمان ما كتموا في الدنيا من صفة محمّد صلى الله عليه وسلم، ونعته، وهو كلام متصل بما قبله.
وقيل: هو كلام مستأنف، قال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما-فقال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: هات ما يختلف عليك، قال: منها قوله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً،} ومنها قوله تعالى: {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فقد كتموا، فقال ابن عباس: يغفر الله تعالى لأهل الإسلام ذنوبهم، ويدخلهم الجنة، فيقول المشركون: تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فيقولون:{وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} رجاء أن يغفر لهم، فيختم على أفواههم، وتنطق أيديهم، وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك عرفوا: أنّ الله لا يكتم حديثا، وعنده {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ} فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلاّ من عند الله.
وقال الحسن البصري: إنّها مواطن؛ ففي موطن لا يتكلّمون، ولا تسمع إلا همسا، وفي موطن يعترفون على أنفسهم، وهو قوله تعالى:{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} . وفي موطن لا يتساءلون، وفي موطن يتساءلون، وفي موطن يسألون الرجعة، وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم، وتتكلّم جوارحهم، فهو قوله تعالى:{وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً} .
هذا؛ و {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان مضاف لظرف آخر، التنوين فيه ينوب عن جملة محذوفة دلّت عليها الغاية، فإنّ الأصل: يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد
…
إلخ، و (إذ) مضافة لهذه الجملة، فحذفت الجملة الفعلية، وعوّض عنها التنوين، وكسرت الذال لالتقاء السّاكنين، كما كسرت في (صه، ومه) عند تنوينهما، ومثل ذلك قل في: حينئذ، وساعتئذ، ونحوهما.
الإعراب: {يَوْمَئِذٍ:} ظرف زمان متعلّق بالفعل بعده. وقيل: متعلّق ب {شَهِيداً} قبله، وإذ ظرف لما مضى من الزّمان مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وحرّك بالكسر لالتقاء الساكنين. {يَوَدُّ} فعل مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
{كَفَرُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{يَوَدُّ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها على تعليق الظرف ب {يَوَدُّ،} وصفة له على تعليقه بما قبله. {وَعَصَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، وحركت بالضم لالتقاء الساكنين، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصّلة، لا محلّ لها مثلها. {الرَّسُولَ:} مفعول به. {لَوْ:} حرف مصدري.
{تُسَوّى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.
{بِهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْأَرْضُ:} نائب فاعل، و {لَوْ} المصدرية والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ل {يَوَدُّ}. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}):
نافية. {يَكْتُمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {حَدِيثاً:}
مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محلّ لها. انظر الشرح، وجوز أبو البقاء اعتبارها حالا من واو الجماعة، ويكون الرّابط: الواو، والضمير.
الشرح: وجه اتصال الآية بما قبلها: أنّ الله تعالى قال: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} ثمّ ذكر بعد الإيمان الصّلاة التي هي رأس العبادات، ولذلك يقتل تاركها. ولا يسقط فرضها بحال من الأحوال، بل يجب أن تؤدّى بقدر الإمكان.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ: خصّ الله سبحانه وتعالى المؤمنين بهذا الخطاب؛ لأنّهم كانوا يقيمون الصّلاة، وقد أخذ بعض الصحابة من الخمر، وأتلفت عليهم عقولهم، فخصّوا بهذا
الخطاب. وقيل لهم: لا تدخلوا في الصلاة، وتحرموا بها في حال سكركم، ونهى عن قربان الصّلاة في حال السّكر، وهو أبلغ في النّهي عن الصّلاة في تلك الحالة. والقاعدة: أنّ الأحكام إذا كانت نواهي؛ يقال فيها: لا تقربوها؛ على حدّ قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى،} و {وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ} وهكذا، وإن كانت أوامر، يقال فيها: لا تعتدوها، أي: لا تتجاوزوها، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة):{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها} . هذا وقيل: المراد بالصلاة: أمكنتها، وهي المساجد. و {سُكارى} يقرأ بفتح السين وضمها، كما قرئ:(«سكرى») كهلكى، على أنّه جمع، أو مفرد بمعنى: وأنتم قوم سكرى.
{حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} أي: في صلاتكم من الذكر، وقراءة القرآن. وهذا كان قبل نزول تحريم الخمر، كما ستعرفه. {وَلا جُنُباً} أي: في حال الجنابة، والجنب يستوي فيه الواحد، والجمع، والمذكر، والمؤنث؛ لأنّه اسم جرى مجرى المصدر الّذي هو: الإجناب، وأصل الجنابة: البعد، سمّي الذي أصابته الجنابة جنبا؛ لأنّه يتجنّب الصلاة، والمسجد. وقيل:
لمجانبته النّاس؛ حتّى يغتسل، قال علقمة بن عبدة:[الطويل]
فلا تحرمنّي نائلا عن جنابة
…
فإنّي امرؤ وسط القباب غريب
هذا؛ والجنابة تحصل بخروج المنيّ بأيّ سبب كان، وبإدخال الحشفة في فرج، ولو بهيمة، ولو من غير إنزال.
هذا؛ ويحرم على الجنب خمسة أشياء: الصّلاة، والطّواف، وقراءة القرآن، ودخول المسجد، ومسّ المصحف، وحمله. {إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} العابر هاهنا: اسم فاعل من العبور، وهو قطع الطريق من هذا الجانب إلى الجانب الآخر. واختلف العلماء في معناه على قولين:
أحدهما: أنّ المراد بالعبور في المسجد، وذلك أنّ قوما من الأنصار، كانت أبوابهم في المسجد، فتصيبهم الجنابة، ولا ماء عندهم، ولا ممرّ لهم إلا في المسجد، فرخّص لهم العبور فيه. فعلى هذا يكون المراد بالصّلاة موضع الصّلاة. والمعنى: لا تقربوا المسجد، وأنتم جنب إلا مجتازين فيه، إمّا للخروج منه، أو للدخول فيه، مثل أن يكون قد نام في المسجد، فأجنب، فيجب الخروج منه، أو يكون الماء في المسجد، فيدخله إليه، أو يكون طريقه عليه، فيمر فيه من غير إقامة. وهذا قول ابن مسعود، وأنس، والحسن البصري، وكثير من التابعين، وإليه ذهب الشّافعي، وأحمد-رضي الله عنهم.
القول الثاني: أنّ المراد من قوله: {إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ} المسافرون، والمعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين، ولم تجدوا ماء، فتيمّموا. فمنع الجنب من الصّلاة؛ حتّى يغتسل، إلا أن يكون في سفر، ولا ماء معه، فيتيمّم، ويصلّي إلى أن يجد ماء، فيغتسل.
وهذا قول عليّ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، فمن جعل عابري السبيل المسافرين؛ منع الجنب من العبور في المسجد. وهو مذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى.
وصحّح ابن جرير الطبري، والواحدي القول الأول، ويدلّ عليه: أنّ جميع القراء استحسنوا الوقف على قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} .
تنبيه: اختلف العلماء في العبور في المسجد، فأباحه قوم على الإطلاق، وهو قول الحسن، وبه قال مالك، والشّافعي. ومنعه قوم على الإطلاق، وهو قول أصحاب الرأي. وقال قوم: يقيم للعبور في المسجد. واختلف العلماء في المكث في المسجد أيضا للجنب، فمنعه أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يجوز للجنب المكث في المسجد بحال، لما روي عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال:«وجّهوا هذه البيوت عن المسجد» فخرج إليهم بعد، فقال:«وجّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإنّي لا أحلّ المسجد لحائض، ولا جنب» . أخرجه أبو داود. وجوز الإمام أحمد المكث في المسجد للجنب بشرط الوضوء. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقرأ الجنب، ولا الحائض، ولا النّفساء من القرآن شيئا» . أخرجه الدّارقطني.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى:} جمع مريض، وأراد به المرض الذي يضرّ معه إمساس الماء، فيخاف من استعماله التلف، أو زيادة المرض، فإنّه يتيمّم، ويصلي مع وجود الماء، وإن كان بعض أعضائه صحيحا، وبعضها جريحا؛ غسل الصّحيح، ويتيمّم عن الجريح في الوجه واليدين، لما روي عن جابر-رضي الله عنه، قال: خرجنا في سفرنا، فأصاب رجلا منّا حجر، فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمّم؟ فقالوا: ما نحد لك رخصة، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات، فلمّا قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال:«قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنّما شفاء العيّ السّؤال، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم، ويعصر، أو يعصب-شكّ الرّاوي-على جرحه خرقة، ثمّ يمسح عليه، ويغسل سائر جسده» . أخرجه أبو داود، والدارقطني.
ولم يجوّز أصحاب الرأي الحنفيّة الجمع بين الغسل، والتيمم، قالوا: إذا كان أكثر أعضائه أو بدنه صحيحا غسل الصحيح، ولا يتيمّم عليه، وإن كان الأكثر جريحا؛ اقتصر على التيمّم.
والحديث حجّة لمن أوجب الجمع بين الغسل، والتيمّم.
{أَوْ عَلى سَفَرٍ} يعني: أو كنتم مسافرين، وأراد به السّفر الطّويل، والقصير، وعدم الماء، فإنّه يتيمّم، ويصلّي، ولا إعادة عليه، لما روي عن أبي ذر-رضي الله عنه-قال: اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي: من مال الزّكاة، فقال:«يا أبا ذرّ! ابد فيها» أي: أخرج إلى البادية فيها، فبدوت إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة، فأمكث الخمس، والستّ، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فأخبرته، فقال:«ثكلتك أمّك يا أبا ذرّ! لأمّك الويل!» فدعا بجارية سوداء، فجاءت بعسّ فيه ماء، فسترتني بثوب، واستترت بالرّاحلة، فاغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلا، فقال صلى الله عليه وسلم:
«الصّعيد الطّيّب وضوء المسلم إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء؛ فأمسّه جلدك، فإنّ ذلك خير» . أخرجه أبو داود.
أمّا إذا لم يكن الرّجل مريضا، ولا على سفر، وعدم الماء في موضع لا يعدم فيه غالبا؛ فإنّه يتيمّم، ويصلي، ثمّ يعيد إذا وجد الماء، وقدر عليه. وبه قال الشّافعيّ. وقال مالك، والأوزاعيّ: لا إعادة عليه، وقال أبو حنيفة: يؤخّر الصّلاة حتّى يجد الماء.
{أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ:} الغائط: المكان المطمئن من الأرض، وجمعه: الغيطان، وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث، فكنوا به عن الحدث، وذلك أنّ الرّجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض-يعني: مكانا منخفضا من الأرض-يحجبه عن أعين الناس، فسمّي الحدث بهذا الاسم، فهو من باب تسمية الشّيء باسم مكانه.
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ:} إذا أفضى الرّجل بيده، أو بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة، ولا حائل بينهما؛ انتقض وضوؤهما، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وبه قال الزّهري، والأوزاعيّ، والشّافعيّ، لما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر: أنّه قال: «قبلة الرّجل امرأته، وجسّها بيده من الملامسة، فمن قبّل امرأته، أو جسّها بيده؛ فعليه الوضوء» . أخرجه مالك في الموطّأ. وقال الشافعي: وبلغنا عن ابن مسعود مثله، وقال مالك، والليث بن سعد، وأحمد: إذا كان اللمس بشهوة؛ انتقض الوضوء، وإن لم يكن بشهوة؛ فلا. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض الوضوء باللّمس إلا أن يحدث الانتشار، وقال: إنّ {لامَسْتُمُ} بمعنى: جامعتم، ويؤيد الأوّل قراءة:(«لمستم») واللّمس يطلق في الشّرع على الجسّ باليد، قال تعالى في سورة (الأنعام):{وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} أي: جسّوه. وقال صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقرّ بالزنى يعرض له بالرجوع عن الإقرار: «لعلّك قبلت، أو لمست» . وفي الحديث الصحيح: «واليد تزني، وزناها اللّمس» . وقالت عائشة-رضي الله عنها: قلّ يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا، فيقبّل، ويلمس، ولا دليل فيه لعدم النّقض، بل هو دليل على أنّ اللّمس: الملامسة، لا الجماع.
{فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً:} اعلم أنّ التيمم من خصائص هذه الأمّة، خصّها الله به؛ ليسهل عليهم أسباب العبادة، ويدلّ على ذلك ما روي عن حذيفة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضّلنا على النّاس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلّها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا؛ إذا لم نجد الماء» . أخرجه مسلم.
وكان سبب بدء التيمّم ما روي عن عائشة-رضي الله عنها، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتّى إذا كنّا بالبيداء، أو بذات الجيش؛ انقطع عقد لي، فأقام رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم على الناس، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى النّاس إلى أبي بكر رضي الله عنه-فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالنّاس معه، وليس معهم ماء؟ فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي؛ قد نام، فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليس معهم ماء قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده بخاصرتي، فلا يمنعني من التّحرّك، إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمّم، فتيمّموا، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه-وهو أحد النّقباء-: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر! قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته. أخرجاه في الصّحيحين.
واختلف في الصّعيد الطيب: فقال الشافعي-رحمه الله تعالى-: لا يقع اسم الصعيد إلا على تراب ذي غبار، وهو القدوة في اللّغة، وقوله في ذلك حجّة، وقد وافقه على ذلك الفراء، وأبو عبيدة في أنّه التراب. وجميع الأقوال في الصّعيد صحيحة في اللّغة، وقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الصّعيد: هو التراب، ولأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«جعلت لي الأرض مسجدا، وترابها طهورا» . فخصّ التراب بالطّهور، ولأنّ الله تعالى وصف الصّعيد بالطّيب، والطّيب من الأرض الّذي هو ينبت فيها، بدليل قوله تعالى في سورة (الأعراف):{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ} فعلى هذا ما لا ينبت ليس بطيّب، وللشّافعي أيضا قوله تعالى:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وكلمة (من) للتبعيض هنا، ولا يأتي ذلك في الصّخر الذي لا تراب عليه. وأيضا فإنّه يقال للغبار: صعيدا؛ لأنّه مأخوذ من الصّعود، وهو الارتفاع، ولا يكون ذلك في الصّخر، وما أشبهه.
وذهب أبو حنيفة، ومالك-رحمهما الله تعالى-إلى أنّه يجوز التيمّم بكل ما هو من جنس الأرض، كالرّمل، والجصّ، والنّورة والزّرنيخ، ونحو ذلك حتى لو ضرب يده على صخرة ملساء، لا غبار عليها؛ صحّ تيمّمه عندهم، واحتجّوا بظاهر الآية، قالوا: لأنّ التيمّم القصد، والصّعيد اسم لما تصاعد من الأرض، فقوله تعالى:{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي: اقصدوا أرضا، فوجب أن يكون هذا القدر كافيا.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ:} الوجه الممسوح في التيمّم هو المحدود في الوضوء، وفي اليدين إلى المرافق، وذلك يكون بضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين.
{إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا:} يتجاوز عن ذنوب عباده، ويعفو عنهم، ويصفح، فهو صيغة مبالغة.
{غَفُوراً:} ستورا على عباده، يغفر الذنوب، ويسترها. وفيه تنبيه على أنّ الله تعالى رخّص لعباده أمر العبادة، ويسّرها عليهم؛ لأنّ من كانت عادته أن يغفر الذّنوب، ويسترها؛ كان أولى بأن يرخّص للعاجزين أمر العبادة.
بعد هذا: أفادت الآية الكريمة: أنّ الجنب، والمحدث إذا فقد كلّ منهما الماء؛ يتيمّم بالتّراب، لا فرق بينهما في الحكم، ويقاس عليهما الحائض، والنفساء، وكذلك يتيمّم المريض، والّذي يخشى ضررا من البرد، وأنّ التيمّم في الوجه، واليدين دون سائر الأعضاء.
بعد هذا انظر ما ذكرته في سورة (البقرة) رقم [219] بشأن تحريم الخمر، وكيف كان تحريمه على دفعات، ومراتب؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ:} انظر إعراب مثل هذه الكلمات في الآية رقم [29]. {وَأَنْتُمْ:} الواو: واو الحال. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.
{سُكارى:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {حَتّى:} حرف غاية وجر. {تَعْلَمُوا:}
فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد: {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والفعل بمعنى: تعرفوا، فلذا اكتفى بمفعول واحد، و «أن» المضمرة والفعل في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
حتى تعلموا الذي، أو: شيئا تقولونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: حتى تعلموا قولكم. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية.
{جُنُباً:} معطوف على الجملة الاسمية الواقعة حالا. {إِلاّ:} أداة استثناء. {عابِرِي:} مستثنى من عموم الأحوال منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم. وحذفت النون للإضافة، و {عابِرِي:} مضاف، و {سَبِيلٍ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وهناك قول بأنّ {إِلاّ} صفة:{جُنُباً} وهي بمعنى: غير، ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية لكونها على صورة الحرف، وهي مضافة، و {عابِرِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المنقولة إليه من {إِلاّ} ووقوع {إِلاّ،} بمعنى «غير» قاله به ابن هشام في المغني، ومن شواهدها قول لبيد بن ربيعة رضي الله عنه-وهو الشّاهد رقم [114] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
لو كان غيري-سليمى-الدّهر غيّره
…
وقع الحوادث إلاّ الصّارم الذّكر
{حَتَّى تَغْتَسِلُوا:} إعرابه مثل إعراب: {حَتّى تَعْلَمُوا} بلا فارق، والجار والمجرور الناتجان من {حَتّى} والمصدر المؤوّل متعلّقان بالفعل:{لا تَقْرَبُوا} أيضا.
{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {مَرْضى:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه
فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {أَوْ:} حرف عطف. {عَلى سَفَرٍ:} معطوفان على {مَرْضى} فهما متعلقان بمحذوف خبر (كان) في المعنى. {جاءَ أَحَدٌ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على {مَرْضى} أيضا كذا قيل، والأصح: أنّها معطوفة على {كُنْتُمْ مَرْضى} أيضا. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَدٌ} . {مِنَ الْغائِطِ:} متعلقان ب {جاءَ} . {لامَسْتُمُ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُنْتُمْ مَرْضى} . {النِّساءَ:} مفعول به. {فَلَمْ:} الفاء: حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَجِدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب (لم) وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ماءً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{كُنْتُمْ مَرْضى} أيضا. {فَتَيَمَّمُوا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (تيمموا):
فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد. و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له من الإعراب، وبعده كلام مقدّر، أي: فاضربوا به ضربتين.
{صَعِيداً:} مفعول به. وقيل: منصوب بنزع الخافض؛ أي: بصعيد. وقيل: هو ظرف مكان، ومن جعل {طَيِّباً} بمعنى: حلالا نصبه على الحال، أو المصدر، وقوله تعالى:
(امسحوا) معطوف على المحذوف؛ الذي رأيت تقديره. {بِوُجُوهِكُمْ:} الباء: حرف جر صلة.
(وجوهكم): مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والكاف في محل جر بالإضافة. {إِنْ:} حرف مشبّه بالفعل.
{اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{اللهَ} . {عَفُوًّا غَفُوراً:} خبران ل {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها مستأنفة، ومفيدة للتّعليل.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} ألم تنظر. فهو تعجب من حال اليهود، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويعمّ كلّ مؤمن عاقل عنده شيء من التفكير، والتبصّر. {الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ:} المراد بهم علماء اليهود، والمراد بالنصيب الذي أوتوه: ما بيّن لهم في التوراة من الأحكام، والعلوم التي من جملتها ما علموه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأحقيّة الإسلام. ومعنى:{أُوتُوا:} أعطوا، وأصله أوتيوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء، والواو، فحذفت الياء، فصار:({أُوتُوا}) ثم قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو، فصار:{أُوتُوا} .
{يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} أي: يختارونها على الهدى، أو يستبدلونها به، لذا فأصل الكلام: يشترون الضلالة بالهدى، فالباء بمعنى: بدل، وهي داخلة على محذوف، والمراد بأنّهم يأخذون الرّشا، ويحرّفون التوراة. {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي: لم يكفهم أن ضلّوا في أنفسهم؛ حتّى تعلّقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحقّ؛ لأنّهم أيقنوا: أنّهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل، فكرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق، فأرادوا أن تضلوا كما ضلّوا، كما قال تعالى في الآية رقم [89] الآتية:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً} . ولا تنس الاستعارة في:
{يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} فالشراء هنا مستعار، والمعنى: استحبوا الكفر على الإيمان.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية الكريمة في رفاعة بن زيد، ومالك بن الدخشم اليهوديين، كانا إذا تكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا ألسنتهما، وعاباه، وكانا يأتيان رأس المنافقين، ورهطه، يثبطانهم عن الإسلام.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتعجّب. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره:«أنت» . {إِلَى الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {نَصِيباً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان ب: {نَصِيباً،} أو بمحذوف صفة له. {يَشْتَرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.
{الضَّلالَةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو فقط، والمتعلق محذوف، كما رأيت في الشرح. ({يُرِيدُونَ}): مضارع، وفاعله. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَضِلُّوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله
…
إلخ، و {أَنْ تَضِلُّوا:} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {السَّبِيلَ:} مفعول به، وجملة:{وَيُرِيدُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
{وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (45)}
الشرح: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ:} أي: منكم، فيخبركم بهم لتبتعدوا عنهم، ولتكونوا على حذر منهم، ومن مخالطتهم. {وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا} أي: حافظا من شرّهم، فثقوا به، واعتمدوا عليه.
{نَصِيراً} معينا يعينكم على أعدائكم.
هذا؛ والولي: من يتولّى شئون غيره، والنّصير بمعنى المعين، والمساعد، والفرق بينهما:
أنّ الولي قد يضعف عن النّصرة، والمعاونة، والنصير قد يكون أجنبيّا من المنصور، فبينهما
عموم، وخصوص من وجه. هذا؛ والولي لله: العارف بالله تعالى على حسب ما يمكن، المواظب على الطّاعات، المعرض عن الانهماك في اللّذات، والشّهوات.
وفيه وجهان: أحدهما: أنّه فعيل بمعنى: مفعول، كقتيل بمعنى: مقتول، وجريح بمعنى:
مجروح. فعلى هذا هو: من يتولّى الله حفظه، ورعايته، فلا يكله إلى غيره، ونفسه طرفة عين، كما قال تعالى:{وَهُوَ يَتَوَلَّى الصّالِحِينَ} . الوجه الثاني: أنّه فعيل مبالغة من فاعل، كرحيم، وعليم، بمعنى: راحم، وعالم، فعلى هذا هو من يتولّى عبادة الله تعالى من غير أن يتخلّلها عصيان، أو فتور. وكلا المعنيين شرط في الولاية.
فمن شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أنّ من شروط النّبيّ أن يكون معصوما، فكلّ من كان للشرع عليه اعتراض؛ فليس بولي، بل هو مغرور مخادع. ذكره الإمام أبو القاسم القشيري، وغيره من أئمّة الطّريقة، رحمهم الله تعالى. انتهى من شرح ألفاظ الزبد للشيخ أحمد بن حجازي الفشني، رحمه الله تعالى. وربنا يقول في الحديث القدسي:«من عادى لي وليّا؛ فقد آذنته بالحرب» .
هذا؛ والفعل ({كَفى}) بمعنى: اكتف، فالباء زائدة في الفاعل عند الجمهور، وهو لازم لا ينصب المفعول به، ومثله مضارعه، كما في قوله تعالى:{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} وانظر:
الآية رقم [6] ففيها فضل زيادة.
الإعراب: {وَاللهُ أَعْلَمُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ أَعْلَمُ}): مبتدأ، وخبر. {بِأَعْدائِكُمْ:}
جار ومجرور متعلقان ب {أَعْلَمُ،} والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. ({كَفى}): فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر. {بِاللهِ:} الباء: حرف جر صلة. ({اللهُ}): فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وقيل: الباء أصلية، والجار والمجرور متعلقان بما قبلهما، على أنّهما مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره: الاكتفاء. والمعتمد الأول. {وَلِيًّا:} تمييز.
وقيل: حال. والمعتمد الأول، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا:} هم اليهود سمّوا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل، من:«هاد» بمعنى: تاب، ورجع، ومنه قوله تعالى، حكاية عن قولهم في سورة (الأعراف) رقم [156]:{إِنّا}
هُدْنا إِلَيْكَ أو سمّوا بذلك نسبة إلى يهودا بن يعقوب، وهو أكبر أولاده. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} أي: يغيّرون كلام الله في التوراة، ويبدّلونه، فكانوا يغيّرون صفات الرّسول صلى الله عليه وسلم الموجودة في التوراة، فقد وضعوا مكان أبيض ربعة: آدم طوال، وهكذا. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: كانت اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألونه عن الأمر، فيخبرهم به، فيرى: أنّهم يأخذون بقوله، فإذا خرجوا من عنده؛ حرّفوا كلامه. وانظر الآية رقم [412] من سورة (المائدة) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
هذا؛ وقرئ: «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام، وبفتح الكاف وكسر اللام، وهو جمع:
كلمة، وهو مؤلف من كلمتين، أو أكثر، أفاد فائدة، أم لم يفد. وأمّا الكلام فلا يكون إلا من كلمتين، أو أكثر، أفاد فائدة يحسن السكوت عليها، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
…
واسم وفعل ثمّ حرف الكلم
واحده كلمة والقول عم
…
{وَيَقُولُونَ سَمِعْنا} أي: قولك بآذاننا. {وَعَصَيْنا:} أي: أمرك بقلوبنا، وجوارحنا. وذلك:
أنّهم كانوا إذا أمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر؛ قالوا في الظاهر: سمعنا، وقالوا في الباطن: عصينا. وهذا أبلغ في الكفر، والعناد. {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} أي: اسمع ما نقول، لا سمعت؛ والكلام ذو وجهين: يحتمل الخير، والشرّ، فأصله للخير، أي: لا سمعت مكروها، ولكن اليهود اللّؤماء، كانوا يقصدون به الدّعاء على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا أسمعك الله، وهو دعاء عليه بالصّمم، أو بالموت. أو: اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، أو: اسمع غير مسمع كلاما ترضاه. أو:
اسمع كلاما غير مسمع إيّاك؛ لأنّ أذنك تنبو عنه.
{وَراعِنا} معناها في العربية: أنظرنا، وتمهّل علينا، وهي في لغة اليهود سبّ من الرّعونة، وكانوا يقولون لأصحابهم: إنّنا نشتم محمدا، ولا يعرف، ولو كان نبيّا؛ لعرف ذلك، فأطلعه الله على خبث ضمائرهم، وسوء نيّاتهم، وما في قلوبهم من العداوة، والبغضاء. ومثل هذه الآية في معناها، ومغزاها قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [104]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا..} . إلخ.
{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ:} أي: صرفا للكلام عن نهجه الصّحيح إلى نسبة السّبّ؛ حيث وضعوا:
{غَيْرَ مُسْمَعٍ} موضع: لا سمعت مكروها، وأجروا: راعنا، مجرى: أنظرنا. وأصل ليّا: لويا فقلبت الواو ياء، ثم أدغمت الياء في الياء. وأصل اللّي: فتل الحبل، فاستعير هنا للكلام الذي قصد به غير ظاهره.
(ألسنتهم): جمع لسان، وهو على هذا مذكّر، كحمار، وأحمرة، ويجمع أيضا على:
ألسن. وهو على هذا مؤنّث، كذراع، وأذرع. ويجمع أيضا على: لسن بضم اللام، وضم
السين، وتسكينها أيضا، وتصغيره على التذكير: لسين، وعلى التأنيث: لسينة، وقد يجعل اللّسان كناية عن كلمة السّوء، كما في قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [330] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
لسان السّوء تهديها إلينا
…
وحنت وما حسبتك أن تحينا
فيؤنث لا غير، كما يجعل كناية عن الرسالة، أو القصيدة من الشّعر، كقول الآخر:[المتقارب]
أتتني لسان بني عامر
…
فجلّى أحاديثها عن بصر
وقد يجعل كناية عن الكلمة الواحدة، كما في قول الأعشى، وكان قد أتاه خبر مقتل أخيه المنتشر:[البسيط]
إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها
…
من علو لا عجب منها ولا سخر
قال الجوهري: يروى: من علو-بضم الواو، وفتحها، وكسرها-أي أتاني خبر من أعلى.
والتأنيث للكلمة، وقد أطلق الله اللّسان على القرآن بكامله مع التّذكير في سورة (النّحل) حيث قال جلّ ذكره:{وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} كما أطلقه على الثناء الجميل، والذّكر الحسن في قوله جلّ ذكره في سورة (مريم) على نبينا وعليها ألف صلاة، وألف سلام:{وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} .
{وَطَعْناً فِي الدِّينِ} أي: استهزاء، وسخرية. {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا} أي: قالوا بدل:
{سَمِعْنا وَعَصَيْنا:} {سَمِعْنا وَأَطَعْنا} . {وَاسْمَعْ:} أي: بدل: لا سمعت. {وَانْظُرْنا:} أي: بدل قولهم: {وَراعِنا} . {لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: قولهم ذلك أفضل. {وَأَقْوَمَ} أي: أعدل، وأصوب، وأنجى لهم في الدنيا، والآخرة. وانظر ما ذكرته في سورة (البقرة) رقم [104] فإنّه جيّد. والحمد لله!.
{وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ} أي: طردهم من رحمته، وأبعدهم من رضوانه بسبب كفرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم. وانظر «اللّعن» في الآية رقم [61] من سورة (آل عمران). {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً} أي: فلا يؤمن من اليهود إلا نفر قليل، مثل: عبد الله بن سلام، وأصحابه. أو المعنى: إلا إيمانا قليلا ضعيفا، لا يعبأ به، وهو إيمانهم بأنّ الله خالقهم، ورازقهم، أو أراد بالقلّة: العدم، كقول الشاعر:[الطويل]
قليل التّشكّي للمهمّ يصيبه
أي: عديم التشكي. هذا؛ وقال الله هنا: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} . وقال تعالى في سورة (المائدة): {مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} فالأوّل بمعنى الإمالة، والإزالة، والتّغيير، والتّبديل. وأمّا
الثّاني؛ فإنّه بمعنى: أنّه كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرّفوه تركوه كالغريب، الّذي لا موضع له بعد مواضعه، ومقارّه. انتهى. كشّاف.
الإعراب: {مِنَ الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم لمبتدإ محذوف. هذا؛ وقال الزّجّاج-رحمه الله تعالى-: إن جعلت: {مِنَ} متعلقة بما قبل، فلا يوقف على قوله:
{نَصِيراً،} وإن جعلتها منقطعة عما قبلها، فيجوز الوقف على:{نَصِيراً،} ويكون التقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم، ثمّ حذف. وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النّحويون:[الرجز]
لو قلت ما في قومها لم تيثم
…
يفضلها في حسب وميسم
قالوا: المعنى لو قلت: ما في قومها أحد يفضلها. ومثله قول تميم بن عقيل: [الطويل]
وما الدّهر إلاّ تارتان فمنهما
…
أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
إذ التقدير: فمنهما تارة أموت منها، وقال تعالى في سورة (الصافات) رقم [164]:{وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} انظرها فالكلام عليها جيّد، والحمد لله! وعلى ما تقدّم فالجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {هادُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {يُحَرِّفُونَ:} فعل مضارع وفاعله. {الْكَلِمَ} مفعول به. {عَنْ مَواضِعِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع صفة للمبتدإ المحذوف، الذي رأيت تقديره. ({يَقُولُونَ}): فعل مضارع، وفاعله. {سَمِعْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، والتي بعدها معطوفة عليها، وحذف مفعول الفعلين، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع صفة مثلها. ({اِسْمَعْ}): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {غَيْرَ:} حال من الفاعل المستتر، وهو مضاف، و {مُسْمَعٍ:} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا. {وَراعِنا:} فعل أمر مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل تقديره: أنت، و (نا): مفعول به، والجملة معطوفة أيضا، فهي في محل نصب مقول القول. {لَيًّا:} مفعول لأجله، عامله:({يَقُولُونَ}).
وقيل: هو حال من واو الجماعة بمعنى: لاوين. {بِأَلْسِنَتِهِمْ:} متعلقان ب {لَيًّا} أو بمحذوف صفة له، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَطَعْناً:} معطوف على: {لَيًّا} . {فِي الدِّينِ:} متعلقان ب (طعنا) أو بمحذوف صفة له.
{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {قالُوا:} فعل، وفاعل. {سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا} الإعراب واضح إن شاء الله. والجمل كلّها في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في
محل رفع خبر (أنّ) و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف، هو شرط (لو) عند المبرد، التقدير: ولو ثبت، أو حصل قولهم. وقال سيبويه: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو قولهم ثابت، أو حاصل، وقول المبرد هو المرجّح هنا؛ لأنّ «لو» لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر، والفعل المقدّر، وفاعله جملة فعلية لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {لَكانَ:} اللام: واقعة في جواب (لو). (كان): فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر تقديره: هو، يعود إلى القول المفهوم من الكلام المتقدّم. {خَيْراً:} خبر كان. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْراً} .
{وَأَقْوَمَ:} معطوف على {خَيْراً} ومتعلقه محذوف، اكتفاء بمتعلق:{خَيْراً} . وجملة: {لَكانَ..} .
إلخ جواب (لو) لا محلّ لها. و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.
{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {لَعَنَهُمُ:}
فعل ماض، ومفعوله. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على (لو) ومدخولها، لا محلّ لها أيضا. {بِكُفْرِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {فَلا:} الفاء: حرف تعليل. (لا): نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية تعليل ل (لعن) لا محلّ لها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا إيمانا قليلا، لا يعبأ به، أو هو صفة لمستثنى محذوف، التقدير:
إلا نفرا قليلا. انظر الشرح.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ:} هذا النداء يشمل اليهود، والنّصارى، والمراد به هنا:
اليهود خاصّة. {آمِنُوا بِما نَزَّلْنا} يعني: القرآن الكريم. {مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ} يعني: التوراة، التي كانت بيد اليهود، وأنزلها الله تعالى على موسى، وهارون، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. ومعنى تصديق القرآن للتوراة: نزوله حسبما نعت لهم فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو كونه موافقا لها في القصص، والمواعيد، والدّعوة إلى التّوحيد، والعدل بين النّاس، والنّهي عن المعاصي، والفواحش، وأمّا ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار، والأمم؛ فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هو عين الموافقة؛ من حيث إنّ كلاّ منها حقّ بالإضافة إلى عصره، تضمّن للحكمة الّتي يدور عليها فلك التشريع.
هذا؛ وقال تعالى في هذه الآية: {بِما نَزَّلْنا،} وقال في كثير من الآيات: {أَنْزَلْنا} والفرق بينهما: أنّ الأوّل يفيد: أنّ القرآن نزل مفرّقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال على ما نرى عليه أهل الشّعر، والخطابة، وهذا ممّا يريب الكافرين، والملحدين، كما حكى الله سبحانه عنهم:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} فبيّن سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} الآية رقم [32] من سورة (الفرقان)، وأمّا لفظ:{أَنْزَلْنا} فإنّه يفيد: أنّه نزل جملة واحدة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً..} . إلخ: أي: من قبل أن نمحو عنهم تخطيط صورها، ونجعلها على هيئة أدبارها. يعني: الأقفاء. وقيل: نديرها، فنجعل الوجوه إلى خلف، والأقفاء إلى قدّام، وإنّما جعل الله هذا عقوبة لهم، لما فيه من تشويه الخلقة، والمثلة، والفضيحة، وعند هذا تكثر الحسرات، ويحصل لهم الغمّ. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما:{نَطْمِسَ وُجُوهاً:}
نجعلها كخفّ البعير، أو كحافر الدّابة. وقال قتادة، والضّحاك: نعميها، كقوله تعالى:{فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ} رقم [37] من سورة (القمر). وقيل: المعنى: نجعل منابت الشعر كوجوه القردة. هذا؛ ولم يفعل الله بهم ما هدّدهم به؛ لأنّ هذا الوعيد، والتّهديد كان مشروطا بعدم الإيمان، وقد آمن منهم ناس، فرفع عن الباقين.
روي: أنّ عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-لمّا سمع هذه الآية، وكان قافلا من الشّام جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله، فأسلم، وقال: يا رسول الله! ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يحوّل وجهي إلى قفاي! وكذلك روي عن كعب الأحبار: أنّه لمّا سمع هذه الآية في خلافة عمر رضي الله عنه-أسلم، وقال: يا ربّ! أسلمت مخافة أن يصيبني وعيد هذه الآية، فكان هذا الوعيد مشروطا بأن لا يؤمن أحد منهم، وهذا الشّرط لم يوجد؛ لأنّه آمن منهم جمع كثير في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده. هذا؛ والوجه: ما تتمّ به المواجهة، وقد يعبّر به عن الذّات، ومنه قوله تعالى في سورة (الرّحمن):{وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} وفي آخر سورة (القصص): {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} .
{أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ السَّبْتِ:} السبت: أحد أيام الأسبوع المعروفة، قال ابن عطية-رحمه الله تعالى-: والسّبت إما مأخوذ من السّبوت، الذي هو الرّاحة والدّعة، وإمّا من السبت، وهو:
القطع؛ لأنّ الأشياء سبتت، وتم خلقها في أيام الأسبوع السّتّة قبله. هذا؛ والسّبت بكسر السين:
الجلد المدبوغ بالقرظ، ولم ينجرد من شعره. وقال أبو زيد: السّبت: جلود البقر خاصّة مدبوغة.
قال عنترة في معلّقته-وهو الشّاهد رقم [306] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الكامل]
بطل كأنّ نيابه في سرحة
…
يحذى نعال السّبت ليس بتوأم
هذا؛ وقصّة أصحاب السبت كانت في زمن داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بقرية، يقال لها: أيلة على شاطئ البحر الأحمر، وتدعى اليوم: إيلات، وهي مرفأ هام لليهود على البحر الأحمر، يروى: أنّ الله تعالى اختار لهم يوم الجمعة؛ ليكون يوم راحة، وعبادة، ونظافة، وغير ذلك، فأبوا، وقالوا: فرغ ربّنا من خلق السموات والأرض يوم الجمعة، واستراح يوم السّبت، فنحن نختاره، ولذلك، شدّد الله عليهم بأن حرّم عليهم أيّ عمل دنيويّ ما عدا العبادة، والنظافة، وأمثالها، وكانت معيشة أهل تلك القرية من صيد الأسماك، لا مورد لهم غيرهم، فابتلاهم الله، أي: اختبرهم، فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السّبت، وأقبل نحوهم، فإذا مضى يوم السّبت؛ ذهبت الحيتان في أعماق البحر، فلم يتمكّنوا من الصّيد طوال أيام الأسبوع. كما قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [163]:{وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} .
فظهر لهم الشّيطان، وقال لهم: احفروا حياضا قرب البحر، وافتحوا جداول بينها وبين البحر، فكانت الحيتان تدخل الحياض يوم السّبت، ويصطادونها يوم الأحد، فنهاهم نبيّهم عن فعلهم هذا، فصاروا ثلاث فرق، وكانوا سبعين ألفا: فرقة أمسكت، ونهت، وفرقة أمسكت، ولم تنه، وفرقة اصطادت، واعتدت، فهذه هي الّتي مسخت قردة لهم أذناب يتعاوون. وقيل: مسخ الشباب قردة، والشيوخ خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام فقط، ثم هلكوا، ولم يأكلوا، ولم يشربوا، ولم يتوالدوا، ونجت الفرقتان الأخريان: النّاهية، والسّاكتة عن النّهي. وقيل: هلكت أيضا.
ويقال: إنّ النّاهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار، فأصبح النّاهون ذات يوم في مجالسهم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للنّاس لشأنا، فعلوا الجدار، فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الأبواب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابهم من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس، فتشمّ ثيابه، وتبكي، فيقول لهم: ألم ننهكم؟ فتقول القردة برأسها: نعم، وانظر تفصيل ذلك في سورة (الأعراف).
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يعش مسخ قطّ فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل، ولم يشرب، ولم ينسل، قال ابن عطيّة رحمه الله تعالى: وروي عن النّبي صلى الله عليه وسلم، وثبت: أنّ الممسوخ لا ينسل، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، أمّا قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبني قريظة، ولبني النّضير:«يا أحفاد القردة» لم يرد به إلاّ التّقريع، والتوبيخ.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ:} انظر الآية رقم [29]: {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على الضمّ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {آمِنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون،
والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِما:} جار، ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {نَزَّلْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالّذي، أو: بشيء نزّلناه، وجملة:{آمِنُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {مُصَدِّقاً:} حال من المفعول المحذوف. {لِما:} جار، ومجرور متعلقان ب {مُصَدِّقاً،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) أو بمحذوف صفتها، التقدير: مصدقا للذي، أو: لشيء يوجد معكم، والكاف في محل جرّ بالإضافة. هذا؛ وابن هشام في مغني اللبيب يعتبر اللام زائدة، ويسمّيها لام التقوية، فإذا (ما) مجرورة لفظا، منصوبة محلاّ، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (البروج):
{فَعّالٌ لِما يُرِيدُ} وفي سورة (المعارج): {نَزّاعَةً لِلشَّوى} وفي سورة (الأنبياء): {وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ،} وأورد ابن هشام قول حاتم الطائي-وقيل: هو لقيس بن عاصم المنقري-رضي الله عنه-وهو الشاهد رقم [398] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له
…
أكيلا فإنّي لست آكله وحدي
{مِنْ قَبْلِ:} متعلقان بالفعل: {آمِنُوا} . {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {نَطْمِسَ:}
فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن، والمصدر المؤول منهما في محل جر بإضافة:{قَبْلِ} إليه. {وُجُوهاً:} مفعول به. {فَنَرُدَّها:} الفاء: حرف عطف.
(نردّها): معطوف على نطمس منصوب مثله، والفاعل تقديره: نحن، و (ها) مفعول به. {عَلى أَدْبارِها:} متعلقان بما قبلهما، وها: في محل جر بالإضافة. (أو): حرف عطف. {نَلْعَنَهُمْ:}
معطوف على ما قبله منصوب مثله، والفاعل تقديره: نحن، والهاء مفعول به.
{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {لَعَنّا:} فعل، وفاعل، و (ما) والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: نلعنهم لعنا كائنا مثل لعننا أصحاب السبت. وهو قول أبي البقاء، وغيره في مثل هذا التركيب. ومذهب سيبويه في مثله النصب على الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدّم على طريق الاتساع، فيكون التقدير: نلعنهم على مثل هذه الحالة، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: قال ابن جرير الطّبري-رحمه الله تعالى-: معناه: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا، فإنّ الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فعلى هذا يكون
في الآية دلالة على: أنّ اليهودي يسمّى مشركا في عرف الشّرع. وقيل: إنّ الآية نزلت في وحشي، وأصحابه، وذلك لمّا قتل وحشيّ حمزة-رضي الله عنه-ورجع إلى مكّة؛ ندم هو وأصحابه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّا قد ندمنا على ما صنعنا، وإنّه ليس يمنعنا من الإسلام إلا أنّا سمعناك بمكّة، تقول:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ..} . إلخ الآيات من سورة (الفرقان) وقد دعونا مع الله إلها آخر، وقتلنا النفس الّتي حرم الله، وزنينا، فلولا هذه الآية؛ لاتّبعناك، فنزلت:{إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً..} . إلخ الآيتان من سورة (الفرقان) بعد الأولى، فبعث بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلمّا قرءوهما؛ كتبوا إليه: هذا شرط شديد، ونخاف ألا نعمل عملا صالحا، فنزلت:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ} فبعث بها إليهم، فبعثوا إليه: إنّا نخاف ألا نكون من أهل المشيئة، فنزلت:{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ..} . إلخ الآية من سورة (الزمر) فبعث بها إليهم، فدخلوا في الإسلام، ورجعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم.
ثم قال لوحشي: «أخبرني كيف قتلت حمزة؟» فلمّا أخبره، قال:«ويحك! غيّب وجهك عنّي» . فلحق بالشّام، فكان به إلى أن مات. انتهى خازن. والمشهور: أنّ هذا كان بعد فتح مكة، بعد أن أهدر الرّسول صلى الله عليه وسلم دم وحشي فيمن أهدر، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فتوسّل ببعض الصّحابة، فأدله على النبي الكريم، فعفا عنه، وحصل ما حصل من المناقشة شفاها، ونزلت الآيات تباعا، أو متفرقات. ولحوق وحشي بالشّام كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بزمن طويل؛ إذ كان بعد فتح بلاد الشام في زمن الفاروق-رضي الله عنه. والمشهور: أنّه أقام في بلاد الحجاز. وحارب في حروب الردّة، وهو الذي قتل مسيلمة الكذاب، وكان يقول: قتلت خير رجل في الإسلام، وشرّ رجل في الكفر، وأرجو أن تكون هذه بهذه! ويروى: أنّه لمّا قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ويحك! غيّب وجهك عنّي!» قال: أنبيّ، وحقود؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«بل نبيّ، وفقود» .
بعد هذا: المراد بالشّرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوّليّا، فإنّ الشرع قد نصّ على شرك أهل الكتاب قاطبة، وقضى بخلود أصناف الكفرة في النّار. {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ} أي:
ما دون الشّرك من الذنوب صغائرها، وكبائرها. {لِمَنْ يَشاءُ} أي: لمن يتكرّم الله عليه، ويتفضّل بالعفو، والإحسان. {اِفْتَرى:} فعل، واقترف {إِثْماً:} ذنبا.
وفي الآية تهديد، ووعيد لليهود، فإنّهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التّحريف في التوراة، ويطمعون في المغفرة، كما قال تعالى عنهم في سورة (الأعراف) رقم [169]. {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا} ولمّا هددهم الله بهذه الآية؛ قالوا:
لسنا مشركين، بل نحن من خواصّ خلق الله، كما حكى الله عنهم قولهم في سورة (البقرة):
{وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً،} وحكى عنهم: أنهم قالوا: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ}
إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، وحكى قولهم في سورة (المائدة):{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} .
هذا؛ وفي الآية ردّ على المعتزلة، والقدرية؛ حيث قالوا: لا يجوز في الحكمة أن يغفر لصاحب كبيرة. وعند أهل السنة: إنّ الله يفعل ما يشاء، لا مكره له، ولا حجر عليه، ويدلّ على ذلك ما روي عن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّه قال: كنّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة؛ شهدنا: أنّه من أهل النّار حتّى نزلت هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ..} . إلخ، فأمسكنا عن الشهادة. ويروى عن عليّ-رضي الله عنه: أنّه قال: ما في القرآن أحبّ إليّ من هذه الآية: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ} . أخرجه الترمذيّ. وخذ ما يلي:
عن أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الظّلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يترك الله منه شيئا، فأمّا الظّلم الّذي لا يغفره الله: فالشّرك؛ قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأمّا الظّلم الّذي يغفره الله: فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربّهم، وأمّا الظّلم الّذي لا يتركه: فظلم العباد بعضهم لبعض» . رواه البخاريّ، ومسلم.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {لا:} نافية. {يَغْفِرُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {يُشْرَكَ:} فعل مضارع مبني للمجهول منصوب ب {إِنَّ} . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان به، وهما في محل رفع نائب فاعله، و {أَنْ يُشْرَكَ} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به. {وَيَغْفِرُ:} فعل مضارع مرفوع، وفاعله يعود إلى:{اللهَ،} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. فهي في محل رفع مثلها. وقيل:
مستأنفة. وليس بشيء. {ما:} تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {دُونَ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف صلة: {ما} أو صفتها، و {دُونَ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جرّ بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {يَغْفِرُ} المثبت، و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جرّ باللام. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} والجملة الفعلية صلة ({مَنْ}) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: للّذي، أو لشخص يشاؤه الله. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُشْرَكَ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِاللهِ:} متعلقان به. {فَقَدِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {اِفْتَرى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود
إلى ({مَنْ}) أيضا. {إِثْماً:} مفعول به. {عَظِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو:({مَنْ}) مختلف فيه، كما ذكرته مرارا. والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ..} . إلخ: الخطاب للنّبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لكلّ أحد، والاستفهام تعجيب، وتشويق إلى استماع ما بعده؛ إن كان المخاطب لم يعلم بحال المذكورين، أو هو استفهام تقرير؛ إن كان المخاطب يعلم بحالهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير، ولم يسمع؛ لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجّب.
{إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ:} المراد بهم اليهود، حيث قالوا:{نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} وقيل:
جاء ناس منهم بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: «لا» قالوا:
والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه باللّيل؛ كفّر عنا بالنّهار، وما عملناه بالنّهار؛ كفّر عنا باللّيل. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، حين قالوا:{نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبّاؤُهُ} وقالوا: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى} .
والتزكية هنا عبارة عن مدح الإنسان نفسه بالصّلاح، والدّين، وغير ذلك، وقد نهى الله عن ذلك، فقال في سورة (النجم):{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى،} ومعنى: {يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ:}
يزعمون: أنهم أزكياء؛ لأنّهم برّءوا أنفسهم من الذّنوب. قال تعالى ردّا عليهم: {بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ} أي: يجعله زاكيا.
هذا؛ وقيل: نزلت الآية في ذمّ التّمادح، والتزكية. وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود-رضي الله عنه، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المدّاحين التراب. وفي الصّحيحين: عن عبد الله بن أبي بكر-رضي الله عنهما-عن أبيه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل، فقال:«ويحك! قطعت عنق صاحبك» ثمّ قال: «إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسبه كذا، ولا يزكّي على الله أحدا» . وقال ابن مسعود-رضي الله عنه:
إنّ الرجل ليغدو بدينه، ثمّ يرجع، وما معه منه شيء، يلقى الرّجل ليس يملك له ضرّا، ولا نفعا، فيقول له: إنّك والله كيت، وكيت! ولعلّه يرجع، ولم يحظ من حاجته بشيء، وقد أسخط الله.
وما أكثر الذين يسخطون الله بمدحهم غيرهم؛ لينالوا منافع مادية، أو مناصب معنوية في كل زمان، ومكان! فيبيعون دينهم، وكرامتهم، بل ومروءتهم، وهذا إذا كان المدح نفاقا، وبالباطل.
فأمّا مدح الرّجل بما فيه من الفعل الحسن، والأمر المحمود؛ ليكون منه؛ ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه به؛ فليس بمدّاح بالباطل، والنفاق. كيف لا؛ وقد
مدح الرسول صلى الله عليه وسلم في الشّعر، والخطب، والمخاطبة، ولم يحث التّراب في وجوه المدّاحين، ولا أمر بذلك، كمدح العباس، وحسّان، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك له بشعرهم، وكقول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم-وهو الشّاهد رقم [225] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
{وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: الذين يزكيهم الله لا يظلمون بنقص ثوابهم، ولا بزيادة سيّئاتهم، وهو يعمّ الذين يزكّون أنفسهم، وغيرهم من جميع النّاس. هذا؛ و (الفتيل) هو الخيط الذي يكون في شق التّمرة، يضرب به المثل في الحقارة. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما-وغيره: هو ما يخرج بين إصبعيك، أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما. ومثل هذا في التحقير قوله تعالى في الآية رقم [124]:{وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} والنقير هو: النقرة في ظهر النّواة، تنبت منها النّخلة. و (القطمير) هو: القشرة التي تحيط بالنواة، قال تعالى في سورة فاطر:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} . ويضرب بالثلاثة المثل في الشيء الحقير التافه؛ الذي لا قيمة له.
الإعراب: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ:} انظر الآية رقم [44]. {يُزَكُّونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، وجملة:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة.
{بَلِ:} حرف إضراب، تبتدأ بعده الجمل. {اللهُ:} مبتدأ. {يُزَكِّي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يزكّي الذي، أو: شخصا يشاؤه. {وَلا:} الواو: حرف عطف. {لا} ): نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله. {فَتِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: ظلما فتيلا. وقيل: مفعول به ثان على تضمين: {يُظْلَمُونَ:} ينقصون، والجملة الفعلية:{وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} معطوفة على جملة محذوفة، تقديرها: فهم يعاقبون، أو: هم يثابون، ولا يظلمون فتيلا. هذا؛ والتقدير اختلف بحسب تفسير واو الجماعة.
{اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)}
الشرح: {اُنْظُرْ كَيْفَ..} . إلخ الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وفحواه: تعجيبه صلى الله عليه وسلم ممّا ذكر عنهم في الآية السّابقة. {يَفْتَرُونَ:} يختلقون، والافتراء: الاختلاق، ومنه: افترى فلان على فلان، أي:
رماه بما ليس فيه. وفريت الشيء: قطعته. {الْكَذِبَ} أي: في زعمهم: أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وأنّهم مطهّرون من الذنوب، والسّيّئات. وكفى به: أي: بالكذب، والافتراء. {إِثْماً مُبِيناً:} ذنبا ظاهرا واضحا، لا خفاء فيه.
هذا؛ والآية الكريمة تشنّع على اليهود كذبهم، وافتراءهم، وقبائح أعمالهم، فتصفهم بأنّهم كاذبون، والكذب ديدنهم، وصفة لازمة لهم في ماضيهم، وحاضرهم، والكذب من أفحش الذّنوب، ومن أخبث ما يتّصف به إنسان، وأبرز صفات المنافقين، وحذّر منه الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الحالات، حتّى في المزاحة، والمراء، وخذ ما يلي:
عن أبي أمامة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا زعيم ببيت في وسط الجنّة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحا» . رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر» . رواه البخاريّ، ومسلم.
وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهنّ؛ كانت فيه خصلة من النّفاق؛ حتّى يدعها: إذا ائتمن؛ خان، وإذا حدّث؛ كذب، وإذا عاهد؛ غدر، وإذا خاصم؛ فجر» . رواه الستّة إلا ابن ماجة.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن العبد الإيمان كلّه حتّى يترك الكذب في المزاحة. والمراء، وإن كان صادقا» . رواه أحمد، والطبراني، وغير ذلك كثير.
الإعراب: {اُنْظُرْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت، وهو معلّق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام. {كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال، عامله ما بعده.
{يَفْتَرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من الكذب، تقدّم عليه. {الْكَذِبَ:} مفعول به، وقال الجمل: أو مفعول مطلق؛ لأنّه يلاقي العامل في المعنى؛ إذ الافتراء؛ والكذب متقاربان معنى، أو معناهما واحد، ولا وجه له، وجملة:{كَيْفَ يَفْتَرُونَ..} . إلخ في محل نصب مفعول به ل (انظر) المعلّق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وجملة:{اُنْظُرْ..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَكَفى:} الواو: حرف استئناف. ({كَفى}): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. {بِهِ:} الباء: حرف جر صلة، والهاء فاعله مجرور لفظا مرفوع محلاّ. وقيل: الباء أصلية، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما على أنّهما مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره: الاكتفاء، والمعتمد الأول. {إِثْماً:} تمييز. وقيل: حال. والمعتمد الأوّل. {مُبِيناً:}
صفة له، وجملة:{وَكَفى..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ:} انظر الآية رقم [44]. {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ:} اختلف العلماء فيهما، فقيل: هما كلّ معبود من دون الله تعالى. وقيل: هما صنمان لقريش سجد اليهود لهما مرضاة لقريش. وقيل: الجبت: اسم للأصنام، والطاغوت:
شياطين الأصنام، ولكل صنم شيطان يدخل فيه، ويكلّم النّاس، فيفترون بذلك. وقيل: الجبت:
الكاهن، والطاغوت: الساحر. وقال ابن مسعود-رضي الله عنه: الجبت، والطاغوت هاهنا كعب ابن الأشرف، وحيي بن أخطب. وقال الفاروق-رضي الله عنه: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان، ولعلّ قول ابن مسعود أقرب إلى الصّواب بدليل قوله تعالى في الآية رقم [60] الآتية:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ} .
و ({الطّاغُوتِ})، كل ما عبد من دون الله، ومنه قوله تعالى:{وَعَبَدَ الطّاغُوتَ} رقم [60] من سورة (المائدة)، وفي سورة (البقرة) رقم [256]:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ..} . إلخ، وهو يطلق على المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث. واشتقاقه من: طغا، يطغو. أو من طغى، يطغى: إذا تجاوز الحدّ، ومنه قوله تعالى في سورة (الحاقة):{إِنّا لَمّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ} ويجمع على: طواغيت، ولم يرد في القرآن الكريم بلفظ الجمع.
{وَيَقُولُونَ:} أي: يقول اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب. {لِلَّذِينَ كَفَرُوا:} المراد أبو سفيان، وأصحابه من قريش. {أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً:} أقوم دينا، وأرشد طريقا.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وسبعين راكبا من اليهود، قدموا مكّة بعد وقعة أحد؛ ليحالفوا قريشا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزل باقي اليهود على قريش في دورهم، فقال لهم أهل مكّة: أنتم أهل كتاب، ومحمّد صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم، فاسجدوا إلى هذين الصنمين، ففعلوا ذلك، فذلك قوله تعالى:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ} .
ثمّ قال كعب بن الأشرف الخبيث لأهل مكة: ليخرج منكم ثلاثون رجلا، ومنا ثلاثون، فنلزم أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ هذا البيت لنجهدنّ في قتال محمّد! ففعلوا، ثم قال أبو سفيان لكعب بن الأشرف: إنّك امرؤ تقرأ الكتاب، وتعلم. ونحن أميّون، لا نعلم؛ فأينا أهدى سبيلا:
نحن، أم محمد؟ فقال كعب بن الأشرف: اعرض عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: فنحن ننحر
للحجيج الكوماء، ونسقيهم الماء، ونقري الضّيف، ونفكّ العاني، ونصل الرّحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمّد فارق دين آبائه، وقطع الرّحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمد الحديث. فقال كعب الخبيث: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد! فأنزل الله الآية.
تنبيه: ما ذكر منقول من الخازن، والقرطبي، وهو خطأ تاريخيّ فإنّ الوافد على قريش على رأس سبعين من اليهود إنّما هو حيي بن أخطب، وأمّا كعب بن الأشرف لعنه الله، فقد قتله محمّد بن مسلمة، وصبحه غيلة على رأس خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. راجع السّيرة الحلبية، وزيني دحلان. وذهاب اليهود إلى مكّة كان بعد موقعة أحد، وسببا في غزوة الخندق.
هذا؛ وفي موقف اليهود من قريش، وتفضيلهم، وثنيتهم على محمّد صلى الله عليه وسلم، يقول الدكتور اليهودي إسرائيل ولفنسون في كتابه:(تاريخ اليهود في بلاد العرب) كان من واجب اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش، وأن لا يصرّحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التّوحيد الإسلامي، ولو أدّى بهم الأمر إلى عدم إجابة مطلبهم؛ لأنّ بني إسرائيل الذين كانوا منذ عدّة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا نكبات لا تحصى، من تقتيل، واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتّى من أدوار التاريخ، كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم، وكلّ عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين.
هذا؛ فضلا عن أنّهم بالتجائهم إلى عبدة الأصنام، إنّما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم، ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام، والوقوف منهم موقف الخصومة. انتهى.
ولفنسون يهودي. والذي دعاهم إلى هذا هو الحسد، والحقد، والبغضاء.
الإعراب: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ:} انظر الإعراب في الآية رقم [44].
{يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرّابط الضمير فقط. {بِالْجِبْتِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالطّاغُوتِ:} معطوف على (الجبت). {وَيَقُولُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية مع مقولها معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وجملة:
{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها.
{هؤُلاءِ:} الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {أَهْدى:} خبر المبتدأ مرفوع وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {مِنَ الَّذِينَ:} متعلقان ب {أَهْدى} لأنّه صيغة تفضيل، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلّق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {سَبِيلاً:} تمييز ل:
{أَهْدى} .
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)}
الشرح: {أُولئِكَ..} . إلخ: الإشارة إلى المذكورين في الآية السابقة. {لَعَنَهُمُ اللهُ:}
أبعدهم من رحمته. {وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ:} يطرده من رحمته، ويبعده من رضوانه. {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً:} مانعا يمنعه من العذاب بشفاعة، أو غيرها. هذا؛ و (تجد) ماضيه: وجد، والمضارع أصله: يوجد، فحذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها، وهما: الياء، والكسرة في مضارع الغائب يجد، وتحذف من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه.
هذا؛ وقد أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل اللّعنة على الكاذبين في سورة (آل عمران) ولقد كرّر لعن الكافرين في سورة (البقرة) وهنا لعن اليهود المعادين للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام، كما لعن الظّالمين، والفاسقين والنّاقضين للعهد في آيات متفرّقة، وهو دليل قاطع على أنّ من مات على كفره، فقد استحقّ اللّعن من الله، والملائكة، والنّاس أجمعين، وأمّا الأحياء من الكفّار؛ فقد قال بعض العلماء: لا يجوز لعن كافر معيّن؛ لأنّ حاله لا يعلم عند الوفاة، فلعله يؤمن، ويموت على الإيمان. وقد قيّد الله تعالى في الآية رقم [161] من سورة (البقرة) إطلاق اللعنة على من مات على الكفر. ويجوز لعن الكفار جملة بدون تعيين، كما في قولك: لعن الله الكافرين، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم، فجمّلوها، وباعوها» . وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنسان معيّن من الكفار، بدليل قتاله، وهو الصّحيح، كيف لا؟! وقد لعن حسّان بن ثابت-رضي الله عنه-أبا سفيان، وزوجه هندا في شعره، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، خذ قوله:[الكامل]
لعن الإله وزوجها معها
…
هند الهنود طويلة البظر
وقد لعن الفاروق-رضي الله عنه-أبا سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي وغيرهم، الّذين قدموا المدينة المنورة بعد غزوة أحد، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلّموه، فقام معهم جماعة من المنافقين، وقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا بسوء، وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربّك. فشقّ ذلك على سيد الخلق، وحبيب الحق، فقال له الفاروق: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم. فقال: «إنّي أعطيتهم الأمان» . فقال الفاروق:
اخرجوا في لعنة الله، وغضبه، ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، كيف لا؟! وآية (النّور) رقم [7] تأمر المسلم أن يلعن نفسه إن كان من الكاذبين.
وأمّا العصاة من المسلمين؛ فلا يجوز لعن واحد منهم على التعيين قطعا، وأمّا على الإطلاق، فيجوز كما في قولك: لعن الله الفاسقين، والفاسقات
…
إلخ؛ لما روي: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله السّارق يسرق البيضة، فتقطع يده» . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الواشمة،
والمستوشمة، وآكل الرّبا. ولعن من غيّر منار الأرض، ومن انتسب إلى غير مواليه، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن أتى امرأة في دبرها». وكل ذلك في الصّحيح من الأحاديث، وخذ ما يلي:
عن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبد إذا لعن شيئا صعدت اللّعنة إلى السّماء، فتغلق أبواب السّماء دونها، ثمّ تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثمّ تأخذ يمينا، وشمالا، فإن لم تجد مساغا؛ رجعت إلى الّذي لعن، فإن كان أهلا، وإلاّ؛ رجعت إلى قائلها» . رواه أبو داود.
الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محلّ رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {لَعَنَهُمُ:} فعل ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد الضمير المنصوب. {وَمَنْ:} الواو:
حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ على اعتبار مفعول الفعل بعده محذوفا، أو هو في محل نصب مفعول به مقدّم له. {يَلْعَنِ:} فعل مضارع فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله. {فَلَنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لن): حرف ناصب.
{تَجِدَ:} فعل مضارع منصوب ب (لن) والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان ب {نَصِيراً} بعدهما، أو هما متعلقان بالفعل:{تَجِدَ،} على أنّهما مفعول به ثان تقدّم على الأوّل، وهو:{نَصِيراً،} والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:
لا محل لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين.
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيراً (53)}
الشرح: {أَمْ لَهُمْ:} أي: لليهود اللؤماء. {نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ:} الكلام استفهام إنكاري، أي:
ليس لهم نصيب من الملك؛ إذ لو كان لهم نصيب من ملك الدنيا، أو من ملك الله؛ لبخلوا به على عباد الله، فلا يعطون أحدا من الناس أقل شيء، وذلك لشدّة بخلهم، ولؤمهم، وذلك: أنّ اليهود كانوا يقولون: نحن أولى بالملك، والنبوة من العرب، فكيف نتبعهم؟ فأكذبهم الله، وأبطل دعواهم.
ولكن في هذه الأيام صار لهم ملك، ودولة، بسبب تفرّق كلمة المسلمين، وتمزيق وحدتهم، وأرجو أن يمنّ الله تعالى على المسلمين بجمع شملهم، وتوحيد كلمتهم، وتنظيم صفوفهم، فعند ذلك يقضون على اليهود، وعلى دولتهم، ولا يكون هذا إلا عند نزول عيسى، عليه السلام.
تنبيه: وصف الله اليهود اللؤماء بالبخل بهذه الآية، ووصفهم بالجهل في الآية المتقدّمة، ووصفهم بالحسد في الآية التالية، وهذه الخصال كلّها مذمومة، وهي متأصّلة في اليهود، فكيف يدّعون الملك، ويتمنّون النبوّة؟!
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف، وهي منقطعة عمّا قبلها لتضمّنها الاستفهام الإنكاري.
{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {نَصِيبٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها. {مِنَ الْمُلْكِ:} متعلقان ب {نَصِيبٌ} أو بمحذوف صفة له.
{فَإِذاً:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن شرط مقدّر، التقدير: وإذا كان لهم نصيب من الملك؛ فإذا. (إذا): حرف جواب وجزاء مهمل لا عمل له، وهو يكتب بالنون عند الجمهور، وأجاز الفرّاء كتابته بالتنوين. {لا:} نافية. {يُؤْتُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، وقرئ بحذف النون، وذلك على إعمال (إذن). {النّاسَ:} مفعول به أول.
{نَقِيراً:} مفعول به ثان، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، والجملة الفعلية: (إذا
…
) إلخ لا محل لها؛ لأنّها جواب للشّرط المقدّر ب «إذا» وبعضهم يقدّره ب «لو كان لهم
…
إلخ» وعلى التقديرين، فالجملة الشّرطية كلام مفرّع عمّا قبله، لا محلّ له.
الشرح: {أَمْ يَحْسُدُونَ} أي: اليهود يحسدون. {النّاسَ:} المراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وإنّما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع، وهو واحد؛ لأنّه صلى الله عليه وسلم اجتمع فيه من خصال الخير، والبركة، ما لا يجتمع مثله في جماعة. ومن هذا القبيل، يقال: فلان أمّة وحده. يعني: أنّه يقوم مقام أمّة. قال تعالى في سورة (النحل) في حقّ إبراهيم-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام-: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ} . هذا؛ وقد أطلق الله لفظ: {النّاسَ} على نعيم بن مسعود في سورة (آل عمران) فقال عز وجل: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} . وقيل: المراد ب {النّاسَ} النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنّ لفظ «الناس» جمع، وحمله على الجمع أولى.
والمراد بالفضل: النبوة؛ لأنّها أعظم المناصب، وأشرف المراتب، وكذلك حسدوه على النّصرة، والإعزاز، والقوّة. وقيل: حسدوه على ما أحلّ الله له من النّساء، وكان له يومئذ تسع نسوة، فقالت اليهود: لو كان محمد نبيّا؛ لشغله أمر النبوة عن الاهتمام بأمر النساء. {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ:} المراد بآل إبراهيم: ذريته الأكرمون، مثل: يوسف، وموسى، وهارون، وداود، وسليمان، وغيرهم، على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة وألف سلام. والمراد ب {الْكِتابَ:} التوراة، والزّبور، والإنجيل. والمراد ب ({الْحِكْمَةَ}) النبوّة. {وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً:} هو ما وهبه الله لداود، وسليمان من الملك العظيم المذكور في القرآن هنا. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: أم يحسدون محمدا صلى الله عليه وسلم على ما أحلّ الله له من النّساء، فيكون المراد بالملك العظيم على هذا هو ما أحلّه الله لداود، ولسليمان، فإنّه كان لداود مائة امرأة، ولسليمان ألف امرأة:
ثلاثمائة حرّة، وسبعمائة سرّيّة. والفائدة في كثرة تزوجهما: أنّه كان لكلّ منهما قوة أربعين نبيّا، وقوة النبيّ بقوة أربعين رجلا عاديّا، وكلّ من كان أقوى؛ كان أكثر نكاحا. انتهى. خازن، وقرطبي.
هذا؛ والحكمة: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو منحة، ونور من ربّ العالمين. قال مالك-رحمه الله تعالى-وقال أبو بكر بن دريد-رحمه الله تعالى-: الحكمة كلّ كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح؛ فهي حكمة. وقال أبو العالية-رحمه الله تعالى-: الحكمة خشية الله، فإنّ خشية الله رأس كلّ حكمة، وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود-رضي الله عنه-مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم:«رأس الحكمة مخافة الله» .
هذا؛ و {آلَ} أصله: أهل، فأبدلت الهاء همزة ساكنة، فصار (أأل) ثمّ أبدلت الهمزة الثانية الساكنة مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى، على القاعدة:«إذا اجتمع همزتان: الأولى متحركة، والثانية ساكنة، قلبت الثانية مدّا مجانسا لحركة الهمزة الأولى» وذلك مثل آدم، وإيمان، وأومن، فإنّ الأصل: أأدم، وإئمان، وأأمن، وقلب الهاء همزة سائغ، مستعمل لغة في: أراق، فإن أصله: هراق، كما تقلب الهمزة هاء، ومنه قول الشاعر-وهو الشاهد رقم [416] من كتابنا:
«فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
ألا يا سنا برق على قلل الحمى
…
لهنّك من برق عليّ كريم
والأول كثير مستعمل في الشعر العربي، وغيره، وهذا مذهب سيبويه، وقال الكسائي:
أصل: آل (أول) كجمل، من آل يئول، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا. وقد صغّروه على أهيل، وهو يشهد للأول، وعلى أويل، وهو يشهد للثاني، ولا يستعمل (آل) إلا فيما له خطر وشأن، بخلاف أهل، يقال: آل النبي، وآل الملك، ولا يقال: آل الحجام، ولكن:
أهله، ولا ينقض بآل فرعون، فإنّ له شرفا باعتبار الدّنيا. واختلف في جواز إضافته إلى المضمر، فمنعه الكسائي، والنّحاس، وزعم أبو بكر الزبيدي: أنّه من لحن العوام، والصحيح جوازه، كما في قول عبد المطلب بن هاشم جدّ النبي صلى الله عليه وسلم:[الكامل]
لا همّ إنّ العبد يم
…
نع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصّلي
…
ب وعابديه اليوم آلك
وفي الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى آله» .
هذا؛ وأمّا (الحسد) فهو تمنّي زوال النعمة عمّن هو مستحق لها، وربما يكون ذلك مع سعي في زوالها، والحسد مذموم، وصاحبه مغموم، وهو «يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» .
رواه أنس-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أبو داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه-وقد أطلت الكلام على الحسد في سورة الفلق، فانظره، فإنّه جيد. والحمد لله! وخذ هنا ما يلي:
فقد قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد، نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد. وقال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: لا تعادوا نعم الله! قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله في بعض الكتب:(الحسود عدوّ نعمتي، متسخّط لقضائي، غير راض بقسمتي). ورحم الله من قال: [الكامل]
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النّار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب عرف العود
وقال أبو الأسود الدؤلي-رحمه الله تعالى-، وهو الشاهد رقم [386] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الكامل]
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
…
فالكلّ أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدا وبغضا إنّه لدميم
وقيل: إذا سرك أن تسلم من الحاسد؛ فعمّ عليه أمرك، ولرجل من قريش قال:[الرمل]
حسدوا النّعمة لمّا ظهرت
…
فرموها بأباطيل الكلم
وإذا ما الله أسدى نعمة
…
لم يضرها قول أعداء النّعم
هذا؛ وكلّ ذي نعمة محسود. اسمع قول القائل: [البسيط]
إن يحسدوك على فضل خصصت به
…
فكلّ منفرد بالفضل محسود
ومآل الحسود في الدّنيا: الهمّ، والغمّ، والهلاك. وفي الآخرة: عذاب النار، وبئس القرار! ولقد أحسن من قال:[مجزوء الكامل]
اصبر على حسد الحسو
…
د فإنّ صبرك قاتله
فالنّار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله
فإبليس لمّا حسد آدم؛ طرد من رحمة الله، وقابيل لمّا حسد أخاه هابيل؛ كان مآله الخزي، والنكال، واليهود لمّا حسدوا الرسول صلى الله عليه وسلم طردوا من رحمة الله، واستحقّوا اللعنة في الدنيا والآخرة، وباءوا بغضب من الله بنصّ القرآن، والنصارى ضلّوا سواء السبيل.
الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى «بل» للانتقال من موضوع إلى آخر. {يَحْسُدُونَ:}
فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله. {النّاسَ:} مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة بعد «بل» لا محلّ لها. {عَلى ما:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {ما:} تحتمل الموصولة،
والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب {عَلى}. {آتاهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر. والهاء مفعول به أوّل. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة ما، أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: على الذي، أو: على شيء آتاهم الله إيّاه. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول الثاني المحذوف. و {مِنْ:} بيان لما أبهم في: {ما،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {فَقَدْ:} الفاء:
حرف تفريع. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {آتَيْنا:} فعل، وفاعل.
{آلَ:} مفعول به أول، وهو مضاف. و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان.
{وَالْحِكْمَةَ:} معطوف على ما قبله، وجملة:{آتَيْنا آلَ..} . إلخ مفرعة عمّا قبلها، ومستأنفة لا محلّ لها، والجملة بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها، وإعرابها واضح إن شاء الله تعالى.
{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)}
الشرح: {فَمِنْهُمْ:} أي: من اليهود. {مَنْ آمَنَ بِهِ:} أي: بمحمّد صلى الله عليه وسلم وصدق بنبوته، ورسالته، كعبد الله بن سلام، وأصحابه-رضي الله عنهم-وهم قلّة قليلة. وقيل: المراد بما ذكر من حديث آل إبراهيم المتقدّم ذكره. {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ:} أعرض، ولم يؤمن به، وهم الكثرة، كقوله تعالى في سورة (الحديد):{فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} .
الإعراب: {فَمِنْهُمْ:} الفاء: حرف استئناف وتفريع. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السّكون في حلّ رفع مبتدأ مؤخر. {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {آمَنَ،} والجملة الفعلية صلة: (من) أو صفتها؛ إن كانت نكرة موصوفة، وهذا الإعراب هو المتعارف عليه في مثل هذه الجملة، ولا أرتضيه. والأصح: أنّ مضمون الجار والمجرور مبتدأ، و {مَنْ} هي الخبر لأنّ (من) الجارة دالة على التبعيض أي: وبعض الناس، وجمع الضمير يؤيد ذلك، ويؤيده قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [110]:{مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ} فأكثرهم معطوف على مضمون: ({مِنْهُمْ}) والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها. {وَكَفى:} الواو: حرف عطف. ({كَفى}): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر. الباء: حرف جر صلة. (جهنم): فاعل ({كَفى}) مجرور لفظا، مرفوع محلاّ.
{سَعِيراً:} تمييز، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً:} هذا وعيد من الله-عز وجل-للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله تعالى من اليهود، وغيرهم من سائر الكفار، والمعنى: إنّ الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمد من آياتي الدالة على توحيدي، وصدق رسولي محمد صلى الله عليه وسلم، سوف أدخلهم نارا، يحترقون فيها. {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي: احترقت جلودهم.
{بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها:} يعني غير الجلود المحترقة. قال ابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهم: إذا احترقوا؛ بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس. وروي: أنّ هذه الآية قرئت عند عمر رضي الله عنه، فقال عمر للقارئ: أعدها، فأعادها، وكان عنده معاذ بن جبل، فقال عند تفسيرها: تبدّل كلّ ساعة مائة مرّة، فقال عمر-رضي الله عنه: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكره البغويّ بغير سند، وخذ ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيّام للرّاكب المسرع» . رواه البخاريّ، ومسلم.
وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضرس الكافر، أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيّام» . أخرجه مسلم، والترمذيّ.
وإن أردت الزيادة؛ فانظر التّرغيب، والتّرهيب للحافظ المنذري، رحمه الله تعالى.
والحكمة في توسيع جلودهم، وأعضائهم؛ ليذوقوا شدّة العذاب، كما قال تعالى:{لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} . وتبديل الجلود: إعادتها بشكل آخر، كما تقول: صنعت من خاتمي خاتما آخر، فالثاني هو الأوّل غير أنّ الصناعة بدلت الصّفة. وقيل: المراد بالجلود: السّرابيل، كما قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ} سمّيت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة، كما يقال للشيء الخاص بالإنسان: هو جلدة ما بين عينيه، وأنشد ابن عمر-رضي الله عنهما:[الطويل]
يلومونني في سالم وألومهم
…
وجلدة بين العين والأنف سالم
ونظير تبديل الجلود قوله تعالى في سورة (إبراهيم) أيضا: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} وهي تلك الأرض بعينها إلا أنّها تغيّر آكامها، وجبالها، وأنهارها، وأشجارها، ويزاد في سعتها، ويسوّى ذلك منها، ومن هذا المعنى قول الشاعر:[الطويل]
فما النّاس بالنّاس الّذين عهدتهم
…
ولا الدّار بالدّار الّتي كنت أعرف
هذا؛ و (آيات) جمع: آية، وهي في الأصل: العلامة الظاهرة، وتقال للمصنوعات في هذا الكون من حيث إنّها تدلّ على وجود الصانع، وعلمه، وقدرته. قال تعالى في سورة (البقرة):
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} {لَآياتٍ..} . إلخ رقم [164]، وقال في سورة (آل عمران) رقم [190]{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ..} . إلخ. كما تقال لكل طائفة من القرآن، كما في هذه الآية، كما تطلق على المعجزة الخارقة للعادة، مثل:
انشقاق القمر، ونحوه، وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . كما تطلق، ويراد بها العبرة، والاعتبار، كما في قوله تعالى:{قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ..} . إلخ رقم [13] من سورة (آل عمران). هذا؛ والتعبير في هذه الآية وغيرها كثير عن المستقبل بالماضي إنّما هو لتحقق الوقوع.
هذا؛ و (الذوق) يكون محسوسا، ومعنى، وقد يوضع موضع الابتلاء، والاختبار، تقول:
اركب هذا الفرس. فذقه؛ أي: اختبره، وانظر فلان، فذق ما عنده. قال الشماخ يصف قوسا:[الطويل]
فذاق فأعطته من اللّين جانبا
…
كفى ولها أن يغرق السّهم حاجز
وقد يعبّر بالذّوق عمّا يطرأ في النفس، وإن لم يكن مطعوما لإحساسها به كإحساسها بذوق المطعوم، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:[الطويل]
فذق هجرها إن كنت تزعم أنّها
…
فساد ألا يا ربّما كذب الزّعم
وتقول: ذقت ما عند فلان، أي: اختبرته، وذقت القوس: إذا جذبت وترها؛ لتنظر ما شدّتها؟ وأذاقه الله وبال أمره، أي: عقوبة كفره ومعاصيه، قال طفيل بن سعد الغنوي:[الطويل]
فذوقوا كما ذقنا غداة محجّر
…
من الغيظ في أكبادنا والتّحوّب
وتذوّقته، أي: ذقته شيئا فشيئا. وأمر مستذاق، أي: مجرب معلوم. قال الشاعر: [الوافر]
وعهد الغانيات كعهد قين
…
دنت عند الجعائل مستذاق
وأصله: ذوق بالضم، وذوقوا في كثير من الآيات للإهانة، وفيه استعارة تبعية تخيليّة، وذكر العذاب في كثير من الآيات استعارة مكنية؛ حيث شبّه العذاب بشيء يدرك بحاسة الأكل، وشبّه الذّوق بصورة ما يذاق، وأثبت للذّوق تخييلا.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها. {كَفَرُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {بِآياتِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا) في محل جر بالإضافة. {سَوْفَ:} حرف
تسويف واستقبال. {نُصْلِيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والهاء مفعول به أول. {ناراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية مبتدأ، أو مستأنفة لا محلّ لها.
{كُلَّما:} (كلّ): ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، و (ما) مصدرية توقيتية. {نَضِجَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، حرف لا محلّ له. {جُلُودُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة، و (ما) والفعل (نضج) في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت نضج جلودهم، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل (كلّ). وقيل:(ما) نكرة موصوفة والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى:(وقت) أيضا، وانظر مبحث «كلّما» في كتابنا:«فتح القريب المجيب» .
{بَدَّلْناهُمْ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {جُلُوداً:} مفعول به ثان. {غَيْرَها:} صفة:
{جُلُوداً} . و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب {كُلَّما} لا محلّ لها، و {كُلَّما} ومدخولها في محل نصب حال من الضّمير المنصوب في نصليهم، والرابط الضّمير فقط، ويجوز أن تكون صفة:{ناراً} والرابط محذوف، التقدير: نارا كلّما نضجت فيها جلودهم.
{لِيَذُوقُوا:} اللام: حرف تعليل وجر. (يذوقوا): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتّفريق. {الْعَذابَ:} مفعول به، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محلّ جرّ باللام، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل بدّلناهم. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:}
اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{اللهَ} . {عَزِيزاً حَكِيماً:} خبران ل {كانَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية مفيدة للتّعليل، أو هي مستأنفة، أو هي معترضة في آخر الكلام، لا محلّ لها على جميع هذه الوجوه.
الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا:} صدّقوا بالله، ورسوله تصديقا صحيحا. {وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:}
الأعمال الصّالحات على اختلاف درجاتها، ومراتبها من فعل مأمورات، واجتناب منهيّات.
{سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ:} جمع: جنة، وهي البستان المملوء بالنّخيل، والشّجر الكثير، المتكاثف؛ الذي يجنّ؛ أي: يستر ما يكون متداخلا فيه، وسمّيت دار الثواب: جنّة؛ لما فيها من النّعيم؛ الذي لا ينفد، وجمع «الجنّة» على:{جَنّاتٍ} يدلّ على جنان كثيرة مرتبة بحسب أعمال العاملين، لكلّ طبقة منهم جنّة من تلك الجنان، وهي سبع، بل ثمان: جنّة الفردوس، وجنة
عدن، وجنّة النّعيم، ودار الخلد، ودار المقامة، ودار السّلام، وجنّة المأوى، وعليّون. وفي كلّ منها مراتب، ودرجات متفاوتة على حسب درجات الأعمال، والعمّال.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي: من تحت قصورها، وأشجارها، ولم يجر لهما ذكر؛ لأنّ الجنّات دالة عليهما، والأنهار لا تجري، وإنّما يجري الماء فيها، فهو من تسمية الشيء باسم محلّه، ويسمّى مجازا مرسلا، وهو كثير في كتاب الله تعالى، مثل قوله تعالى:{وَجاءَ رَبُّكَ} أي:
أمر ربك. {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها، وقال الشّاعر:[الكامل]
نبّئت أنّ النّار بعدك أوقدت
…
واستبّ بعدك يا كليب المجلس
أي: استبّ أهل المجلس. و {الْأَنْهارُ} جمع: نهر، وهو معروف في الدّنيا، ولكن شتان ما بين أنهار الجنّة، وأنهار الدّنيا. هذا؛ ويجمع النّهر على أنهر، ونهر، وأنهار، وهاء «النّهر» تفتح، وتسكن. هذا؛ ويروى: أنّ أنهار الجنّة ليست في أخاديد، إنّما تجري على أرض الجنّة منضبطة بالقدرة حيث شاء أهلها.
{خالِدِينَ فِيها:} ماكثين مقيمين لا يبرحون منها. {أَبَداً:} هو الزّمان الطّويل. الّذي ليس له حدّ، فإذا قلت: لا أكلمك أبدا، فالأبد من وقت التكلّم إلى آخر العمر. وانظر الآية رقم [122] الآتية. {لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ} أي: ولهم في الجنّة زوجات من الحور العين، مطهّرات من الأقذار، والأدناس الحسّيّة، والمعنويّة، فالحسية مثل: الحيض، والنّفاس، والبول، والغائط، والنّخام
…
إلخ، والمعنوية مثل: سوء الخلق، وعدم الانصياع لأوامر الأزواج، وإيذاء الأزواج، وكذلك نساء الدّنيا المؤمنات يكنّ يوم القيامة أجمل من الحور العين، كما قال تعالى في سورة الواقعة:{إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً} . هذا؛ ولكلّ واحد من أهل الجنة زوجتان من نساء الدّنيا، وعدد من الحور العين على حسب درجته، ومكانته عند الله. هذا و {أَزْواجٌ} جمع: زوج، وهو يطلق على الرّجل، والمرأة، والقرينة تبين الذّكر، والأنثى، ويقال لها أيضا: زوجة، وحذف التاء أفضل إلا في الفرائض، فإنّها بالتاء أفصح لتوضيح الوارث، وقال الأصمعي-رحمه الله تعالى-: ولا تكاد العرب تقول: زوجة. وحكى الفرّاء: أنّه يقال:
زوجة، وأنشد للفرزدق:[الطويل]
وإنّ الّذي يسعى ليفسد زوجتي
…
كساع إلى أسد الشّرى يستبيلها
وقال عمّار بن ياسر-رضي الله عنهما-في عائشة-رضي الله عنها: والله إنّي لأعلم أنّها زوجة نبيكم في الدّنيا، والآخرة، ولكنّ الله ابتلاكم؛ لتتّبعوه، أو إيّاها. ذكره البخاريّ. وعن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه، فمرّ به رجل، فدعاه، فقال:«يا فلان! هذه فلانة زوجتي» فقال: يا رسول الله! من كنت أظنّ به، فلم أكن أظنّ بك! فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الشّيطان
يجري من الإنسان مجرى الدّم». أخرجه مسلم، والمحفوظ: أنّ ذلك كان ليلا. وأنّ الرجل كان الزّبير بن العوّام-رضي الله عنه، وأنّ المرأة كانت سودة بنت زمعة-رضي الله عنها.
هذا والزوج: القرين، قال تعالى في سورة (الصافات) رقم [22]. {اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ} أي: وقرناءهم، والزّوج ضد الفرد، وكلّ واحد منهما يسمّى زوجا أيضا، يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج، كما يقال: هما سيّان، وهما سواء، وقال تعالى في سورة (هود):{اِحْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: من كلّ نوع ذكرا، وأنثى، وقال تعالى في سورة (الأنعام):{ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ..} . إلخ. والمعنى: ثمانية أفراد، والزّوج الصّنف، والنّوع، قال تعالى في سورة (لقمان):{وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: صنف من النّبات، ومثلها في سورة الحجّ رقم [5].
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي: دائما مستمرا، لا تنسخه شمس، ولا يؤذيهم فيه حرّ، ولا برد.
قال الخازن-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: إذا لم يكن في الجنّة شمس يؤذي حرّها، فما فائدة وصفها بالظلّ الظّليل؟ قلت: إنّما خاطبهم بما يعقلون، ويعرفون، وذلك لأنّ بلاد العرب في غاية الحرارة، فكان الظلّ عندهم من أعظم أسباب الرّاحة، واللّذاذة، فهو كقوله تعالى:{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} انتهى. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الواقعة): {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وقال في سورة (الرّعد): {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} وقال جلّ شأنه في سورة (المرسلات): {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} . انظر شرح هذه الآيات في محالّها تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.
تنبيه: لمّا ذكر الله تعالى في الآية السابقة الكافرين، وما أعدّ لهم من العذاب الأليم، والعقاب الشّديد؛ ذكر في هذه الآية المؤمنين الصّادقين، وما أعدّ لهم من النّعيم المقيم في جنّات النّعيم، وتلك سنّة الله في كتابه الكريم، حيث اقتضت حكمته تعالى ورحمته، فلا يذكر التّصديق من المؤمنين، إلا ويذكر التّكذيب من الكافرين، ولا يذكر الإيمان، إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنّة إلا ويذكر النّار، ولا يذكر الرّحمة إلا ويذكر الغضب، والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، راجيا خائفا.
تنبيه: ذكر الله في الآية السابقة الكفر، ولم يتبعه بشيء؛ بينما ذكر الإيمان في هذه الآية، وأتبعه بذكر العمل الصّالح، وهذا يلاحظ في الآيات القرآنيّة الكثيرة، ممّا يدل على أنّ العمل الصالح قرين الإيمان، وقد لا يجدي الإيمان بدون عمل، وهو ما أفاده قول الرّسول صلى الله عليه وسلم:
«الإيمان، والعمل قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه» . كما أنّ الإيمان مشروط لقبول العمل الصّالح، ويسمّى مثل هذا في علم المعاني احتراسا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب معطوف على اسم (إنّ)، أو هو في محل رفع معطوف على محلّه، أو في محل رفع مبتدأ،
والكلام مستأنف. {آمَنُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق، ومتعلقه محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. ({عَمِلُوا}): فعل ماض مبني على الضم، والواو
…
إلخ.
{الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {سَنُدْخِلُهُمْ:} السين: حرف تنفيس، واستقبال. (ندخلهم): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والهاء في محل نصب مفعول به. {جَنّاتٍ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله عند بعض النّحاة، وفي مقدّمتهم سيبويه، والمحقّقون-وعلى رأسهم الأخفش-ينصبونه على التوسّع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السّعة بإجراء اللازم مجرى المتعدّي، ومثل هذا يقال في مفعول «دخل» الثلاثي، ومفعول «نزل» و «سكن» وأيضا قوله تعالى في سورة (البقرة):{اِهْبِطُوا مِصْراً} وعلى جميع الاعتبارات فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة لأنّه جمع مؤنث سالم.
{تَجْرِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل. {مِنْ تَحْتِهَا:}
متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {الْأَنْهارُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{جَنّاتٍ} . {خالِدِينَ:} حال من الضّمير المنصوب، منصوب وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنّون عوض عن التّنوين في الاسم المفرد، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلّقان ب {خالِدِينَ} . {أَبَداً:} ظرف زمان متعلّق به أيضا.
{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {فِيها:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف حال من الضمير المستتر المستقر في: {لَهُمْ،} أو هما متعلقان بمحذوف خبر ثان. وقيل:
متعلقان بمحذوف حال من: {أَزْواجٌ} كان صفة له
…
إلخ، وهو غير مسلّم؛ لأنّ بعضهم لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {أَزْواجٌ:} مبتدأ مؤخّر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
وقال أبو البقاء: حال، أو صفة، ولا أراهما قويّين، ولو قيل بالاعتراض بين الجملتين المتعاطفتين؛ لكان أحسن، وأفضل. (ندخلهم {ظِلاًّ}): معطوفة على جملة: {سَنُدْخِلُهُمْ} إلخ، فهي في محلّ رفع مثلها، وإعرابها مثلها بلا فارق. {ظَلِيلاً:} صفة {ظِلاًّ} مؤكّدة. كقولهم:
شمس شامس، وليل أليل، ويوم أيوم. تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.
الشرح: قال البغوي-رحمه الله تعالى-: نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدّار، وكان سادن الكعبة، فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح؛ أغلق عثمان باب الكعبة،
وصعد السّطح، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح، فقيل له: إنّه مع عثمان، فطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح: فأبى، وقال: لو علمت: أنّه رسول الله؛ لم أمنعه المفتاح. فلوى علي-رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح، وفتح الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، وصلّى فيه ركعتين، فلمّا خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، وأن يجمع له بين السّقاية، والسّدانة، فأنزل الله الآية الكريمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا-رضي الله عنه-أن يردّ المفتاح إلى عثمان، ويعتذر إليه، ففعل ذلك، فقال له عثمان: آذيت، وأكرهت، ثم جئت تترفّق، فقال عليّ-رضي الله عنه: لقد أنزل الله في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان-رضي الله عنه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّدا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلاّ ظالم» . فكان المفتاح معه إلى أن مات، فدفعه إلى أخيه شيبة، فالمفتاح، والسّدانة في أولادهم إلى يوم القيامة.
هذا؛ وأثبت أبو عمر بن عبد البر، وابن منده، وابن الأثير: أنّ عثمان بن طلحة-رضي الله عنه هاجر إلى المدينة في هدنة الحديبية سنة ثمان مع خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص-رضي الله عنهم أجمعين-. انتهى خازن بتصرّف. فيكون من السّابقين.
هذا؛ و (الأمانة) مصدر، وحقّ المصادر ألا تجمع؛ لأنّها كالفعل يدلّ على الكثير، والقليل من جنسه، ولكن لمّا اختلفت أنواع الأمانة؛ جاز جمعها؛ لأنّها لمّا اختلفت أنواعها شابهت المفعول به، فجمعت كما يجمع المفعول به، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى في سورة (المعارج):{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} . والأمانة: خلق من الأخلاق الفاضلة، وصفة من الصفات النبيلة، وأصل من أصول الديانات، ولذلك أكّدت جميع الشرائع أمرها، وحثّت على الاتصاف بها، وبالإضافة لما ذكرته في سورة (آل عمران) رقم [75] أذكر هنا ما يلي:
فالأمانة تجري في كل شئون الحياة، فمن أسرّ إليك سرّا؛ فقد أودع عندك أمانة، ومن استشار غيره في أمر دنيويّ؛ فهو أمانة، والمال في يد الإنسان أمانة، والولد في يد الإنسان أمانة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله سائل كلّ راع عمّا استرعاه، حفظ، أم ضيّع؛ حتّى يسأل الرّجل عن أهل بيته» . رواه ابن حبّان في صحيحه عن الحسن-رضي الله عنه. وعن أنس رضي الله عنه. وجوارح الإنسان كلّها أمانة، والتّكاليف الإلهيّة كلّها أمانة، ومعاملات النّاس كلّها أمانة، وخذ ما يلي:
عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذّنوب كلّها إلاّ الأمانة، قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة، وإن قتل في سبيل الله، فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي ربّ كيف؛ وقد ذهبت الدّنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثّل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه، فيراها، فيعرفها، فيهوي في أثرها حتّى يدركها، فيحملها على منكبيه حتّى إذا ظنّ: أنّه خارج؛ زلّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين. ثمّ قال:
الصّلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة-وأشياء عدّدها-وأشدّ ذلك الودائع». رواه البخاريّ، وأحمد، والبيهقيّ موقوفا. وذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد: أنّه سأل أباه عنه، فقال: إسناد جيّد. هذا؛ وجميع النعم التي أنعم الله بها على الإنسان أمانة؛ وما أكثرها! قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها} .
{وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} أي: ويأمركم الله أن تعدلوا بين الناس في أحكامكم. ويدخل في ذلك جميع الخلق، والخطاب يعمّ كلّ من تولّى الحكم بين اثنين من ولاة، وغيرهم. فعن ابن عباس-رضي الله عنهما-عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستّين سنة، وحدّ يقام في الأرض بحقّه أزكى فيها من مطر أربعين صباحا» . رواه الطّبرانيّ في الكبير، والأوسط، وكلمة «إمام» تعمّ، وتشمل كلّ من تولّى شأنا من شئون المسلمين، وأمرا من أمورهم، فهو يتدرّج من رئيس الدّولة إلى المحافظ.. إلى الشّرطي الذي يتولى التّحقيق بين اثنين متخاصمين. وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن-وكلتا يديه يمين-الّذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا» . رواه مسلم، والنّسائي. وأحقّ الناس بالعدل الأهل، وهو يشمل الزّوجة، والأولاد.
و (أهل) اسم جمع، لا واحد له من لفظه، مثل: معشر، ورهط، ونفر
…
إلخ. والأهل:
العشيرة، وذوو القربى. ويطلق على الزّوجة، والأولاد، وعلى الأتباع أيضا، وجمعه: أهلون وأهال، وآهال، وأهلات، وبالأولين قرئ قوله تعالى في سورة التّحريم:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ} .
{وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا..} . إلخ أي: ويأمركم بأن تحكموا بالحق، والإنصاف، وإذا قضيتم بين الناس، فلا تميلوا عن الحق إلى أحد المتخاصمين. {إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً:}
لأقوالكم، {بَصِيراً:} بأعمالكم. وصف الله تعالى نفسه بأنّه سميع بصير، يسمع ويرى، كما قال تعالى في سورة طه لموسى وهارون على نبينا وحبيبنا وعليهما ألف صلاة، وألف سلام:{إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى،} والمعنى: فإذا حكمتم؛ فهو يسمع حكمكم، وإذا أديتم الأمانة؛ فهو يبصر فعلكم. وأصل العدل هو المساواة في الأشياء، فكل ما خرج عن الظلم، والاعتداء سمّي عدلا. قال بعض العلماء: ينبغي للقاضي أن يسوّي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدّخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم بالحق فيما لهما، وعليهما. وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحقّ إلى مستحقّه، وأن لا يمتزج بغرض آخر. هذا؛ وذكر لفظ الجلالة في ثلاث جمل لتربية المهابة في النّفوس، ولتعظيمه في القلوب.
هذا؛ و (نعم) فعل ماض جامد لإنشاء المدح، و (بئس) فعل ماض جامد لإنشاء الذّمّ، قال في المختار:«نعم» منقول من نعم فلان بفتح النون، وكسر العين: إذا أصاب النّعمة. وبئس فلان بفتح الباء، وكسر الهمزة: إذا أصاب بؤسا، فنقلا إلى المدح، والذم، فشابها الحروف، فلم يتصرفا، وفيهما أربع لغات: نعم، وبئس بكسر فسكون، وهي أفصحنّ، ثمّ نعم بئس بكسر أولهما وثانيهما، غير أنّ الغالب في (نعم) أن يتصل بها «ما» كما في الآية التي نحن بصدد شرحها، وكما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [271]:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ} وبئس اتصلت بها «ما» على اللغة الفصحى، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [90]:
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} والآية رقم [93] منها أيضا: {بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ} والآية رقم [150] من سورة (الأعراف): {بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي..} . إلخ، واللغة الثالثة: نعم وبأس بفتح وسكون، والرابعة: نعم وبئس بفتح وكسر، وهي الأصل فيهما، ولا بدّ لهما من شيئين: فاعل، ومخصوص بالمدح، أو بالذمّ، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز]
فعلان غير متصرّفين
…
نعم وبئس رافعان اسمين
مقارني ال أو مضافين لما
…
قارنها كنعم عقبى الكرما
ويرفعان مضمرا يفسّره
…
مميّز كنعم قوما معشره
والقول بفعليتهما إنما هو قول البصريين، والكسائي، بدليل دخول تاء التأنيث عليهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من توضّأ يوم الجمعة فبها، ونعمت، ومن اغتسل؛ فالغسل أفضل» . وقال الكوفيّون: هما اسمان بدليل دخول حرف الجر عليهما في قول أعرابيّ؛ وقد أخبر بأنّ امرأته ولدت بنتا: والله ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرّها سرقة. وقول آخر: نعم السّير على بئس العير. وتأوّله البصريّون على حذف كلام مقدّر، والتقدير: والله ما هي بولد مقول فيه: نعم الولد، ونعم السّير على عير مقول فيه: بئس العير. والمعتمد في ذلك قول البصريين.
هذا؛ ويجب في فاعلهما أن يكون مقترنا بال، أو مضافا لمقترن بها، أو ضميرا مميزا بنكرة، أو كلمة «ما»؛ فالأول: كما في قوله تعالى: {نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . والثاني: نحو قوله تعالى: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} . والثالث: مثل قوله تعالى: {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} . والرابع: كما في الآية التي بين أيدينا. وهذا شرح لأبيات ابن مالك.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يَأْمُرُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين. {إِنَّ:} حرف مصدري ونصب.
{تُؤَدُّوا:} فعل مضارع منصوب ب {إِنَّ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة،
والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول منهما في محل جرّ بحرف جرّ محذوف، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، وتقدير الكلام: إنّ الله يأمركم بأداء. {الْأَماناتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم. {إِلى أَهْلِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {تُؤَدُّوا} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {الْأَماناتِ} .
{وَإِذا:} الواو: حرف عطف. ({إِذا}): ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلّق بمحذوف على مذهب البصريّين؛ الذين لا يجيزون إعمال ما بعد «أن» المصدرية فيما قبلها، التقدير: ويأمركم أن تحكموا بالعدل إذا حكمتم، وعند الكوفيين متعلق بالفعل الآتي؛ لأنّهم يجيزون إعمال ما بعد «أن» المصدرية فيما قبلها. {حَكَمْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه. {أَنْ تَحْكُمُوا:} إعرابه مثل إعراب: {أَنْ تُؤَدُّوا،} والمصدر المؤول في محل جرّ بحرف جرّ محذوف، والجار والمجرور معطوفان على مثلهما السّابقين. {بِالْعَدْلِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما على أنّهما مفعوله، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة.
{نِعِمّا:} (نعم) فعل ماض جامد لإنشاء المدح. (ما): نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التّمييز المفسّر لفاعل (نعم) المستتر، التقدير: نعم الشيء شيئا. هذا؛ وجوّز اعتبار (ما) اسما موصولا على أنّها فاعل (نعم) والمعتمد الأول. {يَعِظُكُمْ:} فعل مضارع والفاعل يعود إلى: {اللهَ،} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صفة (ما) أو صلتها، والرابط، أو العائد هو الضمير المجرور محلاّ بالباء، والمخصوص بالمدح محذوف، التقدير: نعم الشيء، أو الذي يعظكم به هو تأدية الأمانة، والحكم بالعدل، وجملة:{نِعِمّا..} . إلخ في محل رفع خبر: (إنّ) والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ كانَ..} . إلخ مفيدة للتعليل، أو هي مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: لمّا ذكر الله في الآية السابقة الأمانة، وأمر بأدائها النّاس جميعا، وأمر الحكام أن يحكموا بين الناس بالعدل؛ تقدّم في هذه الآية إلى الرّعية، فأمر بطاعته أولا، وهي: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ثمّ أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثانيا فيما أمر به، ونهى عنه، ثمّ أمر بطاعة الحكام، والأمراء ثالثا على قول الجمهور، وفي مقدّمتهم: أبو هريرة، وابن عباس، وغيرهم من كبار الصحابة. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [29]. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني؛ فقد أطاع الله.
ومن عصاني؛ فقد عصى الله. ومن يطع الأمير؛ فقد أطاعني. ومن يعص الأمير؛ فقد عصاني».
متفق عليه.
وعن أنس-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا، وأطيعوا، وإن أمّر عليكم عبد حبشيّ، كأنّ رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله» . رواه البخاريّ.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن أسمع، وأطيع، وإن كان عبدا حبشيّا مجدوع الأطراف» . رواه مسلم، رحمه الله تعالى!.
وورد في بعض الكتب المنزلة: يقول الله-عز وجل: «أنا الله ملك الملوك، ومالك الملك، قلوب الملوك، ونواصيهم بيدي، فإن العباد أطاعوني؛ جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصوني؛ جعلتهم عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبّ الملوك، ولكن توبوا إليّ أعطّفهم عليكم» .
وهو معنى قول الرّسول صلى الله عليه وسلم: «كما تكونوا يولّ عليكم» .
هذا؛ وقال العلماء: طاعة الإمام واجبة على الرّعية ما دام على الطّاعة، فإذا زال عن الكتاب، والسنة؛ فلا طاعة له، وإنّما طاعته فيما وافق الحقّ. وقال عليّ-رضي الله عنه: حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، ويؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك؛ فحقّ على الرّعية أن يسمعوا، ويطيعوا. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «على المرء المسلم السّمع والطّاعة فيما أحبّ أو كره إلاّ أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية؛ فلا سمع، ولا طاعة» . رواه أبو داود. هذا؛ وفي قوله تعالى: {مِنْكُمْ} إيحاء على أنّ الحكام الذين تجب طاعتهم؛ إن حكموا بالعدل يجب أن يكونوا مسلمين حسّا، ومعنى، لحما، ودما، لا أن يكونوا مسلمين شكلا، وصورة. وخذ ما يلي:
قال الزّمخشري-رحمه الله تعالى-: والمراد ب ({أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}): أمراء الحق؛ لأنّ أمراء الجور الله ورسوله بريئان منهم، فلا يعطفون على الله، ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنّما يجمع بين الله، ورسوله، والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل، واختيار الحق، والأمر بهما، والنّهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين، ومن تبعهم بإحسان، وكان الخلفاء يقولون:
أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت؛ فلا طاعة لي عليكم. انتهى.
هذا؛ ومن العلماء من يقول: المراد بأولي الأمر: العلماء العاملون، الذين يعلّمون النّاس بأمور الدين، ويأمرونهم بالمعروف، وينهونهم عن المنكر. وهو قول لابن عباس-رضي الله عنهما-وكذا قال مجاهد، وعطاء، وغيرهما، واستدلّوا بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ..} . إلخ فأمر الله تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله، وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الردّ إلى الكتاب، والسنة. قال تعالى في الآية رقم [83]:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ}
{مِنْهُمْ} ويدلّ هذا على صحّة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما. قال سهل بن عبد الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السّلطان، والعلماء، فإذا عظّموا هذين؛ أصلح الله دنياهم، وأخراهم، وإذا استخفّوا بهذين؛ فسدت دنياهم، وأخراهم. وانظر الآية رقم [83] ومعنى:
{تَنازَعْتُمْ:} تجادلتم، واختلفتم، فكأنّ كلّ واحد ينتزع حجّة الآخر، ويذهبها، والمنازعة:
مجاذبة الحديث، والحجج. قال الأعشى في معلّقته:[البسيط]
نازعتهم قضب الرّيحان متّكئا
…
وقهوة مرّة راووقها خضل
{فِي شَيْءٍ} من أمر دينكم، ودنياكم. {فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} أي: ردّوا ذلك الحكم إلى كتاب الله، عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم في حياته ما دام حيا، وبالنّظر في سنّته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
ومن لم ير هذا اختلّ إيمانه؛ لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . قال العلماء: في الآية دليل على أنّ من لا يعتقد وجوب طاعة الله عز وجل، وطاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، ومتابعة السنة، والحكم بالأحاديث الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنا بالله، واليوم الآخر، وهو الذي يكون فيه الحشر، والنشر، والحساب والجزاء، ودخول أهل الجنّة الجنّة بالفضل الإلهيّ، ودخول أهل النّار النّار بالعدل الرّبّانيّ.
{ذلِكَ خَيْرٌ:} أي: ردّكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب، والسنّة خير من التنازع. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً:} أي: مرجعا، وأحمد عاقبة، من: آل، يؤول إلى كذا، أي: صار.
هذا؛ وقال البخاريّ-رحمه الله تعالى-: نزلت الآية الكريمة في عبد الله بن حذافة السّهمي-رضي الله عنه-إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس سرية، فلمّا خرجوا؛ وجد عليهم في شيء، فقال لهم: أليس أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى! قال: فاجمعوا حطبا، ثم دعا بنار فأضرمها، ثمّ قال: عزمت عليكم لتدخلنّها! فقال شابّ منهم: إنّما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النّار، فلا تعجلوا حتّى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها، فادخلوها، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فقال لهم:«لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا، إنّما الطّاعة في المعروف» . وفي رواية: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . وضعّف الدّاودي هذه الرّواية.
وقال السّديّ-رحمه الله تعالى-: نزلت في خالد بن الوليد-رضي الله عنه-وذلك: أنّه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، وفيها عمّار بن ياسر-رضي الله عنهما، فلمّا قربوا من القوم؛ هربوا منهم، وجاء رجل منهم إلى عمّار قد أسلم، فأمّنه عمّار، فجاء خالد-رضي الله عنه، فأخذ مال الرّجل، فقال عمّار: إني قد أمنته؛ وقد أسلم، فقال خالد: أتجير عليّ؛ وأنا الأمير؟! فتنازعا، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجاز أمان عمّار، ونهاه أن يجير ثانية. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [29]{أَطِيعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، وجملة:{وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَأُولِي:} معطوف على ما قبله منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (أولي):
مضاف، و {الْأَمْرِ:} مضاف إليه. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من ({أُولِي الْأَمْرِ}).
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (إن): حرف شرط جازم. {تَنازَعْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فِي شَيْءٍ:} متعلّقان بما قبلهما. {فَرُدُّوهُ:}
الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ردّوه): فعل أمر، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد.
{إِلَى اللهِ} متعلّقان بما قبلهما، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَالرَّسُولِ:} معطوف على ما قبله. {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها، وجواب الشّرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم؛ فردّوه، والجملة الشرطية مستأنفة.
{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {خَيْرٌ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {وَأَحْسَنُ:}
معطوف على ما قبله. {تَأْوِيلاً:} تمييز.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ:} ألم تنظر. فهو تعجيب من حال المنافقين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعمّ كلّ عاقل، ومن عنده شيء من التفكير، والتبصّر، فهو إنكار من الله-عز وجل-على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله، وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله، وسنّة رسوله. والآية قال ابن عباس-رضي الله عنهما فيها: نزلت في رجل من المنافقين، يقال له: بشر، كان بينه، وبين يهوديّ خصومة، فقال اليهودي: ننطلق إلى محمد، وقال المنافق: بل ننطلق إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي
سمّاه الله: الطاغوت، فأبى اليهوديّ أن يخاصمه إلا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأى المنافق ذلك؛ أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهوديّ، فلما خرجا؛ قال المنافق: لا أرضى! انطلق إلى أبي بكر، فحكم الصديق-رضي الله عنه-لليهوديّ، فلم يرض-ذكره الزجّاج -وقال: انطلق بنا إلى عمر، فذهبا إلى عمر، فقال اليهودي: إنا صرنا إلى محمّد، ثم إلى أبي بكر، فلم يرض، فقال عمر-رضي الله عنه-للمنافق: أكذاك هو؟ قال: نعم، قال:
رويدكما حتى أخرج إليكما، فدخل، وأخذ السيف، ثمّ ضرب به المنافق، فقتله، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله، وقضاء رسوله. وهرب اليهوديّ، ونزلت الآية، وقال جبريل-عليه السلام: إنّ عمر فرّق بين الحقّ، والباطل، فسمّي الفاروق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له:«أنت الفاروق» ، وفي ذلك نزلت الآية كلّها إلى قوله:{تَسْلِيماً} وهذه إحدى الآيات الّتي وافقت رأي عمر، ومثلها الآية رقم [98]، والآية رقم [125] من سورة (البقرة)، والآية رقم [94] من سورة (المائدة)، والآية رقم [67] من سورة (الأنفال)، والآية رقم [59] من سورة (الأحزاب)، والآية رقم [5] من سورة (التحريم) وغير ذلك.
هذا؛ و {يَزْعُمُونَ:} ماضيه زعم، قال الشيخ مصطفى الغلاييني-رحمه الله تعالى-: الغالب في زعم أن تستعمل للظنّ الفاسد، وهو حكاية قول يكون مظنّة للكذب. فيقال فيما يشك فيه، أو فيما يعتقد كذبه. ولذلك يقولون:(زعموا) مطيّة الكذب، أي: إنّ هذه الكلمة مركب للكذب، ومن عادة العرب: أنّ من قال كلاما وكان عندهم كاذبا؛ قالوا: زعم فلان. ولهذا جاء في القرآن الكريم في كلّ موضع ذمّ القائلون به، وقد يراد الزّعم بمعنى القول مجردا عن معنى الظنّ الراجح، أو الفاسد، أو المشكوك فيه، فإن كانت زعم بمعنى: تأمّر، وترأّس، أو بمعنى: كفل به تعدّت إلى واحد بحرف الجر، تقول: زعم على القوم، فهو زعيم، أي: تأمّر عليهم، وترأسهم، وزعم بفلان، وبالمال، أي: كلفه، وضمنه، وتقول: زعم اللّبن، أي: أخذ يطيب، فهو لازم. انتهى.
أقول: ولا تنس الكفالة، والضمان من (زعم) في قوله تعالى:{قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} سورة (يوسف) رقم [72]، وقوله جلّ ذكره:{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ} سورة (القلم) رقم [40]. بعد هذا أقول: إنّ (زعم) من الأفعال التي تنصب مفعولين؛ أصلهما مبتدأ وخبر، إن كان من أفعال الرّجحان، والأكثر أن يسدّ مسدهما: أن، واسمها، وخبرها مخففة من الثقيلة، أو غيرهما، نحو قوله تعالى في سورة التغابن:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا..} . إلخ، وفي هذه الآية:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ..} . إلخ. انظر شواهد ذلك في كتابنا: «فتح رب البريّة» . والقليل أن تنصب مفعولين صريحين، وهو ناقص التصرّف، ويأتي منه ماض، ومضارع، ولا يأتي منه أمر.
{أُنْزِلَ إِلَيْكَ} أي: القرآن الكريم. {أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} المراد: التّوراة التي أنزلها الله على موسى، وهارون، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، والزّبور الذي أنزله الله على داود، على نبينا، وحبيبنا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام. {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ:}
الطاغوت: الكثير الطغيان، والمراد به هنا: كعب بن الأشرف اليهودي اللعين. وانظر الآية [256] من سورة (البقرة)، وقد رأيت: أنّ الطاغوت: الشيطان، فقد شبهه الله بالشيطان، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان بدليل ما بعده:
{وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ:} أي: أن يرفضوه، ولا يقبلوا به؛ لأنّ الكفر بالطّاغوت، وعدم الرضا به هو صريح الإيمان، قال تعالى في سورة (البقرة):{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها} . {وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} أي: يخرجهم من جادة الحقّ والصّواب إلى الباطل. والإضلال: خلق فعل الضلال في العبد. {ضَلالاً:} هذا مصدر، وليس جاريا على يضلهم، فيحتمل أن يكون جعل مكان الإضلال، مثل قوله تعالى في سورة (نوح) -على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} فوضع مصدر الثلاثي موضع مصدر الرّباعي، ويحتمل أن يكون مصدرا للمضارع:(يضلهم) أي:
فيضلوا ضلالا بعيدا، أي: كبيرا مستمرا إلى الموت. هذا؛ وفي إسناد البعد إلى الضلال مجاز عقلي؛ لأنّ البعيد في الحقيقة إنّما هو الضالّ؛ لأنّه هو الذي يتباعد عن الطريق، فوصف به فعله، كما تقول: جدّ جدّه.
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتعجب. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف المقصورة، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت. {إِلَى الَّذِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محل لها. {يَزْعُمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {آمَنُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سدّ مسدّ مفعولي:
{يَزْعُمُونَ} . {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ:} معطوف على سابقه، وإعرابه مثله.
{يُرِيدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {أَنْ يَتَحاكَمُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والمصدر المؤوّل منهما في محل
نصب مفعول به، وجملة:{يُرِيدُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة في:
{يَزْعُمُونَ} والرابط: الضمير فقط. {إِلَى الطّاغُوتِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أُمِرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة في:{يُرِيدُونَ} . والرابط: الواو، والضمير، وهي حال متداخلة، والمصدر المؤوّل من:{أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وتقدير الكلام: وقد أمروا بالكفر به؛ أي: بالطاغوت، وجملة:{وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، وإعرابها واضح إن شاء الله.
{ضَلالاً:} مفعول مطلق. {بَعِيداً:} صفة له.
الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ:} للمنافقين. {تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} يعني: هلمّوا إلى حكم الله الّذي أنزله الله في كتابه، وإلى الرسول؛ ليحكم بينكم به. {رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ..} .
إلخ: يعرضون عنك، وعن حكمك إعراضا، وأيّ إعراض. وإنّما أعرض المنافقون عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّهم علموا: أنّه كان يحكم بالحق الصّريح، ولا يقبل الرّشا، وإنّما ذكر لفظ المنافقين في موضع الإضمار للتسجيل عليهم بالنّفاق، وذمّهم به، والتشنيع عليهم. وانظر ما وصفهم الله به في الآية رقم [8] من سورة (البقرة) وما بعدها.
هذا؛ و {قِيلَ} أصله: (قول) بضم القاف، وكسر الواو، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، فصار (قول) بكسر القاف وسكون الواو، ثمّ قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار: قيل.
وأمّا {تَعالَوْا؛} فقد قال ابن هشام-رحمه الله تعالى-في قطر النّدى: وأمّا (هات)، و (تعال) فعدّهما جماعة من النحويين في أسماء الأفعال، والصواب: أنّهما فعلا أمر؛ بدليل:
أنّهما دالان على الطلب، وتلحقهما ياء المخاطبة، فتقول: هاتي، وتعالي. واعلم: أنّ آخر «هات» مكسور أبدا، إلا إذا كان لجماعة المذكرين، فإنّه يضمّ، فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتيا يا زيدان. وهاتيا يا هندان، وهاتين يا هندات. كلّ ذلك بكسر التاء، وتقول: هاتوا يا قوم، بالضم، قال تعالى في كثير من الآيات:{قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ،} وأنّ آخر «تعال» مفتوح في جميع أحواله من غير استثناء، تقول: تعال يا زيد، وتعالي يا هند، وتعاليا يا زيدان، وتعاليا يا هندان، وتعالوا يا زيدون، وتعالين يا هندات (كل ذلك بالفتح) قال تعالى
في سورة (الأنعام): {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ..} . إلخ. وقال-جلّ ذكره-في سورة (الأحزاب):
{فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} . ومن ثمّ لحّنوا أبا فراس الحمداني بقوله: [الطويل]
أيا جارتا ما أنصف الدّهر بيننا
…
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
وأقول: إنّ الفعلين (هات، وتعال) ملازمان للأمريّة، فلا يأتي منهما مضارع، ولا ماض، وهما بمعنى:(أحضروا أو احضروا) فالأول متعدّ، والثاني لازم، وهو من الثلاثي، وأمّا تعالى، يتعالى، فهما بمعنى تعاظم، يتعاظم، أو بمعنى تنزّه، يتنزّه. وقل في إعلال:{تَعالَوْا،} أصله:
تعالوا، ثم تعاليوا، فحذفت الضمة التي على الياء للثقل، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وبقيت الواو؛ لأنّها ضمير، وبقيت الفتحة على اللام؛ لتدلّ على الألف المحذوفة.
أمّا الفعل: {يَصُدُّونَ} فهو بفتح الياء، وضم الصاد، ويقرأ بضم الياء، وكسر الصاد، وهما لغتان: صدّ، وأصدّ، مثل: صدّ، وأصدّ: إذا أنتن، وضمّ، وأضمّ: إذا تغير، وهو من صدّ، يصدّ صدودا: إذا تنكب، وليس فصيحا؛ لأنّ في صدّه مندوحة عن تكلّف التعدية بالهمزة، ويأتي الفعل بمعنى: يعرضون، ويميلون، كما في هذه الآية الكريمة. كما يأتي بمعنى: يضجون فرحا، لكنه بكسر الصاد، كما في قوله تعالى في سورة (الزخرف):{*وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ،} ومصدر الأولين صدّ، وصدود، ومصدر الأخير: صديد. والصّدد:
القرب، يقال: داري صدد داره، أي: قربها، وقبالتها، والصّدد: القصد، تقول: رجعنا إلى ما نحن بصدده، أي: بقصده، وهو أيضا الميل، والناحية.
هذا؛ والنفاق: إظهار الإيمان، وإخفاء الكفر، وسمّي المنافق منافقا أخذا من نافقاء اليربوع، وهو جحره الّذي يقيم فيه، فإنّه يجعل له بابين، يدخل من أحدهما، ويخرج من الآخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكافرين بقوله: أنا كافر. وكان المنافقون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من الرّجال، ومائة من النساء. هذا وقال تعالى في سورة (التوبة):{الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ..} . إلخ.
هذا؛ وقد يتصف مؤمن بصفات المنافقين، فيكذب في القول، ويخلف في الوعد، ويخون في الأمانة، ويفجر في الخصومة، فهذا يقال له: نفاق العمل، وأمّا الأوّل؛ فيقال له: نفاق العقيدة، وهو أخبث من الكفر، وعقابه أشدّ منه، قال تعالى في الآية رقم [145] الآتية:{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من نفاق العمل، والاتصاف به، فإنّه يجر إلى نفاق العقيدة. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . رواه البخاريّ، ومسلم، وزاد مسلم في رواية له:
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزّمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {تَعالَوْا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِلى ما:} متعلقان بما قبلهما، و {ما} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنيّة على السّكون في محل جرّ ب {إِلى}. {أَنْزَلَ اللهُ:}
ماض وفاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:
إلى الذي، أو: إلى شيء أنزله الله، وجملة:{تَعالَوْا..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل:
{قِيلَ،} وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول مقامه» وهذا لا غبار عليه. هذا؛ وقيل: الجار والمجرور: {لَهُمْ} في محل رفع نائب فاعله. وقيل: نائب الفاعل يعود إلى مصدر الفعل، أي:
قيل قول، وهذا مقارب لما قبله، وعليهما تكون الجملة الفعلية:{تَعالَوْا..} . إلخ في محلّ نصب مقول القول. {وَإِلَى الرَّسُولِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{قِيلَ..} . إلخ في محلّ جرّ بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح.
تنبيه: «إذا» ظرف لما يستقبل من الزمان، وفيه معنى الشرط، واختلف في ناصبها، فقيل:
بالجواب، واعترض بأنّ الجواب قد يقترن بالفاء. وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها. وقيل:
الشرط، واعترض أيضا بأنّها مضاف للشرط، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وأجيب عن هذا الاعتراض بأنّ القائلين: إنّ الناصب هو الشّرط، لا يقولون بإضافة «إذا» إليه، فلذا كان الثاني أرجح من الأوّل، وإن كان الأوّل أشهر، فقول بعض المعربين: خافض لشرطه، منصوب بجوابه جرى على غير الراجح، ولذا كانت عبارة سيبويه-رحمه الله تعالى-:«خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك» محتملة لما تريد من احتمالات، ولذا ذكرت هذه الجملة كلّما أعربت:«إذا» .
{رَأَيْتَ:} فعل، وفاعل. {الْمُنافِقِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {يَصُدُّونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {عَنْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {صُدُوداً:} مفعول مطلق، وجملة {يَصُدُّونَ..}. إلخ في محل نصب حال من:{الْمُنافِقِينَ،} وإن اعتبرت: {رَأَيْتَ} بصريا، متعديا لمفعول واحد فقط. وفي محل نصب مفعول به ثان؛ إن اعتبرته متعديا لمفعولين.
وجملة: {رَأَيْتَ..} . إلخ جواب ({إِذا}) لا محلّ لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محلّ له على الاعتبارين.
الشرح: {فَكَيْفَ:} أي: فكيف يكون حالهم، أو فكيف يصنعون {إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} أي: عظيمة يعجزون عنها. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: تصيبهم عقوبة بسبب ما قدّمت أيديهم، وهو التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد لهم على سوء صنيعهم، ورضاهم بحكم الطّاغوت دون حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: المصيبة هي قتل عمر-رضي الله عنه-لذلك المنافق.
هذا؛ وإنّما نسبت الأعمال إلى الأيدي؛ لأنّ أكثر الأعمال إنّما تزاول بالأيدي، وإن كانت من أعمال القلوب، والأرجل، والعيون، والأيدي تغليبا للأكثر على الأقلّ. هذا؛ واليد تطلق في الأصل على اليد الجارحة، وقد تطلق على النفس، والذات، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [195]:{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . وقد تطلق على القدرة، والقوّة، وهو كثير مثل قوله تعالى في سورة (ص) رقم [17]:{وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} وخذ قول عروة بن حزام العذري، وهو الشّاهد رقم [116] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل]
وحمّلت زفرات الضّحى فأطقتها
…
وما لي بزفرات العشيّ يدان
كما تطلق اليد على النّعمة، والمعروف. يقال: لفلان يد عندي، أي: نعمة، ومعروف، وإحسان، وتطلق على الحيلة، والقوة، فيقال: لا يد لي في هذا الأمر، أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير.
{ثُمَّ جاؤُكَ} أي: المنافقون حين تصيبهم المصائب يعتذرون إليك. {يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا:} ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك. {إِلاّ إِحْساناً} يعني: في التحاكم إلى غيرك، لا إساءة.
{وَتَوْفِيقاً} يعني: بين الخصمين، لا مخالفة لك في حكمك. نظيرها قوله تعالى في سورة (التوبة) رقم [107]:{وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى} . وقيل: جاء أولياء المقتول المنافق الّذي قتله عمر-رضي الله عنه-إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يطلبون ديته، وقالوا: ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا، ويوفّق بينه، وبين خصمه، وما خطر ببالنا: أنّه يحكم بما حكم به من قتل صاحبنا. فأهدر الله دم ذلك المنافق.
هذا؛ وأصاب فلانا البلاء: وقع عليه. وأصابهم المطر: نزل عليهم. قال تعالى في سورة (الروم) رقم [48]: {فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . وتقول: أصاب السّهم، يصيب: لم يخطئ هدفه، وأصاب الرّجل في قوله، أو في رأيه: أتى بالصواب. ويأتي «أصاب»
بمعنى: قصد، وأراد. قال تعالى في حقّ سليمان-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام- {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} وقال الشاعر:[المتقارب]
أصاب الكلام فلم يستطع
…
فأخطا الجواب لدى المفصّل
هذا؛ و «مصيبة» أصلها: مؤصيبة، فحذفت الهمزة فصار: مصيبة، فقل في إعلالها: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، فنقلت حركة الياء إلى الصاد قبلها، فصارت مصيبة. هذا ومضارع أصاب: يصيب، وأصله: يؤصيب، فحذفت الهمزة للتخفيف حملا على المبدوء بهمزة المضارعة (أأصيب) الذي حذفت همزته الثانية للتخفيف من ثقل الهمزتين، فصار:(يصيب) ثم يقال فيه ما قيل في «مصيبة» فصار: يصيب، وحذفت الهمزة من مؤصيبة للتخلص من ثقل الهمزتين في التّقدير.
الإعراب: {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف استئناف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فكيف حالهم؟ أو: في محل نصب حال، عامله محذوف، التقدير: فكيف يصنع هؤلاء المنافقون؟ والجملة سواء أكانت اسمية، أو فعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل المقدّر، أو هو متعلق بنفس المبتدأ؛ الّذي قدرناه. {أَصابَتْهُمْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث والهاء مفعول به. {مُصِيبَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها، ومثل هذه الآية في إعرابها قول الفرزدق، وهو الشاهد رقم [225] من كتابنا:«فتح رب البرية» ، والشاهد رقم [528] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
فكيف إذا مررت بدار قوم
…
وجيران لنا كانوا كرام
{بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُصِيبَةٌ} أو بمحذوف صفة لها، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. وقيل: المصدرية أيضا. {قَدَّمَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث.
{أَيْدِيهِمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء قدمته أيديهم، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب {مُصِيبَةٌ..} . إلخ، والتقدير: بتقديم أيديهم الشر، أو السوء
…
إلخ.
{ثُمَّ:} حرف عطف. {جاؤُكَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، وهو أولى من العطف على ما قبلها. هذا؛ وقال الجلال: جملة: {جاؤُكَ} معطوفة على جملة: {يَصُدُّونَ..} . إلخ في الآية السّابقة فيكون ما بينهما كلاما معترضا. ولا أراه قويا.
{يَحْلِفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو
الجماعة، والرابط: الضمير فقط. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {إِنْ:} حرف نفي. {أَرَدْنا:}
فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم المفهوم من:{يَحْلِفُونَ} لا محلّ لها. {إِلاّ:}
حرف حصر. {إِحْساناً:} مفعول به، وما بعدها معطوف عليه.
الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة إلى المنافقين المذكورين في الآيات السّابقة. {يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ:} أي: من النّفاق، وكذبهم في اعتذارهم، فلا ينفعهم الكتمان، والحلف الكاذب، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن عقوبتهم. وقيل: عن قبول عذرهم. {وَعِظْهُمْ} أي: باللسان.
والمراد: زجرهم بالوعظ من النّفاق، والكفر، والكذب، وتخويفهم بعذاب الآخرة.
{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} يعني: بليغا يؤثّر في قلوبهم موقعه، وهو التّخويف بالله عز وجل. وقيل: هو أن يوعدهم بالقتل؛ إن لم يتوبوا من النّفاق. وقيل: هو أن يقول لهم:
إن أظهرتم ما في قلوبكم من النّفاق؛ قتلتم؛ لأنّ هذا القول يبلغ في نفوسهم كلّ مبلغ. وقيل:
معناه: أعرض عنهم في الملأ، وقل لهم في أنفسهم إذا خلوت بهم قولا بليغا، أي: أغلظ لهم في القول خاليا بهم، ليس معهم غيرهم؛ مسارّا لهم النّصيحة؛ لأنّها أنجع في السرّ. وقيل: هذا الإعراض منسوخ بآية القتال. وقد تكلّم العلماء في حدّ البلاغة.
فقال بعضهم: البلاغة: إيصال المعنى إلى الفهم في أحسن صورة من اللفظ. وقيل:
البلاغة: حسن العبارة مع صحّة المعنى. وقيل: البلاغة سرعة الإيجاز مع الإفهام، وحسن التصرف من غير إضجار. وقيل: أحسن الكلام ما قلّت ألفاظه، وكثرت معانيه. وقيل: خير الكلام ما شعرت أوّله: أنّك بشوق إلى سماع آخره. وقيل: لا يستحقّ الكلام اسم البلاغة إلا إذا طابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إلى السّمع أسبق من معناه إلى القلب. وقيل:
المراد بالقول البليغ في الآية أن يكون حسن الألفاظ. حسن المعاني، مشتملا على الترغيب، والترهيب، والإعذار، والإنذار، والوعد، والوعيد بالثواب، والعقاب، فإنّ الكلام إذا كان كذلك؛ عظم وقعه في القلوب، وأثر في النفوس. انتهى. خازن.
ويعرّف علماء البلاغة البلاغة بقولهم: هي تأدية المعنى الجليل واضحا بعبارة صحيحة فصيحة، لها في النفس أثر خلاب مع ملاءمة كلّ كلام للموطن الذي يقال فيه، والأشخاص الذين يخاطبون به. وانظر شرح الفصاحة، والبلاغة في قواعد اللّغة العربية الذي شرحته، وعلّقت عليه، وأعربت أمثلته، وشواهده بتوفيق الله، ومنّه.
هذا؛ و «القلب» قطعة صغيرة على هيئة الصّنوبرة، خلقها الله في الآدمي، وجعلها محلاّ للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله فيه بالخط الإلهيّ، ويضبطه بالحفظ الرّباني، حتى يحصيه، ولا ينسى منه شيئا، وهو بين لمّتين: لمة من الملك، ولمة من الشّيطان، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخرّجه الترمذيّ عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-وقد مضى في الآية رقم [269] من سورة (البقرة) وهو محلّ الخطرات، والوساوس، ومكان الكفر، والإيمان، وموضع الإصرار، والإنابة، وموضع الانزعاج، والطمأنينة. وانظر قسوة القلب في الآية رقم [74] من سورة (البقرة).
الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع خبر المبتدأ. {يَعْلَمُ اللهُ:} مضارع، وفاعله. {ما:}
اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فِي قُلُوبِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ} مستأنفة لا محلّ لها.
{فَأَعْرِضْ:} الفاء: هي الفصيحة. (أعرض): فعل أمر مبني على السّكون، والفاعل مستتر تقديره أنت. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان حالهم كذلك؛ فأعرض عنهم. {وَعِظْهُمْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها، والتي بعدها معطوفة أيضا عليها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{فِي أَنْفُسِهِمْ:} متعلقان ب {بَلِيغاً} . وقيل: متعلقان بالفعل: (قل) وهو ضعيف. {قَوْلاً:}
مفعول مطلق. {بَلِيغاً:} صفته.
الشرح: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ:} أيّ رسول من المرسلين قبلك يا محمد! {إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ} يعني: بأمر الله، والمعنى: إنّما وجبت طاعة الرسول بأمر الله؛ لأنّ الله أذن في ذلك، وأمر به. وقيل: معناه: بعلم الله، وقضائه؛ أي: تكون طاعته بإذن الله؛ لأنّه أذن فيه، فتكون طاعة الرسول طاعة لله، ومعصيته معصية لله، ففيه توبيخ، وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضوا بحكم الطّاغوت. وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-: المعنى: لا يطيع أحد إلا من وفّقته لذلك. وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وكأنّه احتج بذلك على أنّ الذي لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن أظهر الإسلام؛ كان كافرا مستوجبا القتل. وتقريره: أنّ
إرسال الرّسول لما لم يكن إلا ليطاع؛ كان من لم يطعه، ولم يرض بحكمه؛ لم يقبل رسالته، ومن كان كذلك؛ كان كافرا مستوجب القتل. انتهى.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ..} . إلخ: يرشد الله تعالى العصاة، والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم في حياته؛ فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنّهم إذا فعلوا ذلك؛ تاب الله عليهم، ورحمهم، وغفر لهم، ولهذا قال:{لَوَجَدُوا اللهَ تَوّاباً رَحِيماً،} وخذ ما يلي:
فقد روى أبو صالح عن عليّ-رضي الله عنه-قال: قدم علينا أعرابيّ بعد ما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثا على رأسه من ترابه، فقال: قلت يا رسول الله، فسمعنا قولك، ووعيت عن الله، فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ..} . إلخ، وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي! فنودي من القبر: أنّه قد غفر لك. انتهى قرطبي.
وفي مختصر ابن كثير: وقد ذكر جماعة منهم الشّيخ أبو منصور الصّباغ في كتابه: (الشّامل) الحكاية المشهورة عن العتبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابيّ، فقال:
السّلام عليك يا رسول الله! سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ..} . إلخ، وقد جئتك مستغفرا لذنبي، مستشفعا بك إلى ربي، ثمّ أنشد يقول:[البسيط]
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثمّ انصرف الأعرابيّ، فغلبتني عيني، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في النّوم، فقال: يا عتبيّ! الحق الأعرابي فبشره: أنّ الله قد غفر له.
هذا؛ وفي قوله تعالى: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} بعد قوله: {جاؤُكَ} إجلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفخيم له، وتعظيم لاستغفاره، وأنّهم إذا جاءوه؛ فقد جاءوا من خصّه الله برسالته، وجعله سفيرا بينه، وبين خلقه، ومن كان كذلك فإنّ الله تعالى لا يردّ شفاعته، فلهذا السبب عدل إلى طريقة الالتفات من الخطاب إلى لفظ الغيبة، فلم يقل: واستغفرت لهم، وإنّما قال:
{وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} . وللالتفات فوائد كثيرة: منها تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد.
هذه فوائده العامة. ويختص كل موضع بنكت، ولطائف باختلاف محلّه، كما هو مقرّر في علم البديع. ووجهه: حثّ السامع، وبعثه على الاستماع؛ حيث أقبل عليه المتكلّم، وأعطاه فضل عنايته، وخصّه بالمواجهة. هذا؛ وانظر:«استغفر» و «الاستغفار» في الآية رقم [135] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل.
{مِنْ:} حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {إِلاّ:} حرف حصر. {لِيُطاعَ:} اللام: لام التعليل. (يطاع): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، ونائب الفاعل يعود إلى (الرّسول)، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {أَرْسَلْنا،} وهو على معنى المفعول لأجله، أي: أرسلنا للطّاعة. {بِإِذْنِ:} متعلّقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان ب {أَرْسَلْنا} وقيل: متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، و (إذن) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله.
{وَلَوْ:} الواو: تحتمل العطف، والاستئناف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.
{أَنَّهُمْ:} حرف مشبّه بالفعل، والهاء اسمه. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزّمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: {جاؤُكَ} . {ظَلَمُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جرّ بإضافة:{إِذْ} إليها. {أَنْفُسَهُمْ:}
مفعول به، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة. {جاؤُكَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محلّ رفع خبر:(أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع فاعل لفعل محذوف هو شرط (لو) عند المبرد، التقدير: ولو حصل مجيئهم. وقال سيبويه-رحمه الله تعالى-: هو في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، التقدير: ولو مجيئهم حاصل، أو:
ثابت، وقول المبرّد-رحمه الله تعالى-هو المرجح في هذه المسألة؛ لأنّ (لو) لا يليها إلا فعل ظاهر، أو مقدر. والفعل المقدّر، وفاعله جملة فعلية لا محلّ لها؛ لأنّها في محلّ رفع مثلها.
وأيضا جملة: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} معطوفة عليها أيضا.
{لَوَجَدُوا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (وجدوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محلّ لها. {اللهِ:} منصوب على التّعظيم. {تَوّاباً:} مفعول به ثان. {رَحِيماً} . من تعدّد المفعول الثاني، وقد تعدّد كأصله، وهو الخبر.
الشرح: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي: المنافقون، وكلّ من أعرض عن حكم الله، وحكم رسوله. {فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: اختلف، واختلط. ومنه الشّجر لاختلاف أغصانه، ففيه
استعارة للمعقول بالمحسوس، حيث استعار ما اشتبك، وتضايق من الشّجر للتّنازع الّذي يدخل به بعض الكلام في بعض، قال طرفة في مدح قومه:[الرمل]
وهم الحكّام أرباب الهدى
…
وسعاة النّاس في الأمر الشّجر
{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} أي: في صدورهم ضيقا، وشكّا. قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [125]:{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ} .
{مِمّا قَضَيْتَ} أي: حكمت. {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} أي: ويسلّموا لحكمك تسليما، لا شكّ فيه، ولا اعتراض فيه بالظاهر، ولا بالباطن.
هذا؛ و «ثمّ» : حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور: التشريك في الحكم، والترتيب، والمهلة، وفي كلّ منها خلاف مذكور في «مغني اللبيب» ، وقد تلحقها تاء التأنيث السّاكنة، كما تلحق «ربّ» و «لا» العاملة عمل «ليس» فيقال: ثمّت، وربّت، ولات، والأكثر تحريك التاء معهنّ بالفتح. هذا؛ و «ثمّ» هذه غير «ثمّ» بفتح الثاء، فإنّها اسم يشار به إلى المكان البعيد، كما في قوله تعالى في سورة (الشّعراء) رقم [64]:{وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ} وقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [115]: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} . وهذه ظرف لا يتصرّف، ولا يتقدّمه حرف التنبيه، ولا يتصل به كاف الخطاب، وقد تتصل به التاء المربوطة، فيقال: ثمّة. وثمّ: تعطف المفرد، والجملة، فإن اتصلت بها التاء؛ اختصت بعطف الجمل.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في الزّبير بن العوّام-رضي الله عنه-ورجل من الأنصار، يقال له:
حاطب بن أبي بلتعة، فعن عروة بن الزّبير-رضي الله عنهما-عن أبيه: أنّ رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرّة (مسائل الماء التي تكون من الجبل) التي يسقون بها النّخل، فقال الأنصاري: سرّح الماء يمرّ. فأبى عليه، فاختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزّبير:
«اسق يا زبير! ثمّ أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري، فقال: يا رسول الله! آن كان ابن عمّتك؟! فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ قال للزبير:«اسق يا زبير! ثمّ احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر» فقال الزّبير-رضي الله عنه: أما إنّي لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك، وتلاها. متّفق عليه.
زاد البخاري رحمه الله تعالى: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزّبير حقّه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد أشار على الزّبير رأيا، أي: أراد سعة له، وللأنصاري، فلمّا أحفظ الأنصاريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ استوعى للزّبير حقّه في صريح الحكم، وهو أنّ من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي، فهو أولى بأوّل الوادي، وحقّه تمام السّقي، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السّقي على وجه المسامحة، فلما أبى خصمه ذلك، ولم يعترف بما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسامحة؛ أمر الزبير باستيفاء حقّه على التّمام، وحمل خصمه على مرّ الحقّ، فعلى هذا تكون الآية مستأنفة، لا تعلّق لها بما قبلها.
قال البغوي: وروي: أنّهما لمّا خرجا مرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء؟ قال الأنصاري. لابن عمّته، ولوى شدقه، ففطن له يهوديّ كان مع المقداد، فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون: أنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم، وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرّة في حياة موسى، فدعانا موسى إلى التّوبة منه، فقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلناه فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربّنا؛ حتّى رضي عنّا! فقال ثابت بن قيس بن شمّاس-رضي الله عنه: أما والله إنّ الله ليعلم منّي الصدق، ولو أمرني محمّد أن أقتل نفسي؛ لفعلت. انتهى. كلّه من الخازن.
هذا؛ وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم؛ وإن ظهر الحقّ، فإن اصطلحوا؛ وإلا استوفى لذي الحقّ حقّه، وثبت الحكم. هذا؛ وقال مجاهد، والشعبيّ- رحمهما الله تعالى-: نزلت هذه الآية في بشر المنافق، واليهودي اللذين اختصما إلى الطاغوت، وعلى هذا القول تكون الآية متّصلة بما قبلها.
الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف استئناف. (لا): صلة، وهو المعتمد. وقيل: هي ردّ لكلام تقدّمها، تقديره: فلا يفعلون، أو ليس الأمر كما يزعمون من أنّهم آمنوا بما أنزل إليك، ثمّ استأنف. فعلى هذا يكون الوقف على (لا) تامّا. وقيل: هي نافية، والثانية: صلة، والقسم معترض بين حرف النفي والمنفيّ، وهذا ضعيف جدّا، ومثل الآية الكريمة قول امرئ القيس -وهو الشاهد رقم [456] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [المتقارب]
فلا-وأبيك-ابنة العامريّ
…
لا يدّعي القوم أنّي أفرّ
{وَرَبِّكَ:} الواو: حرف قسم وجر. ({رَبِّكَ}): مقسم به مجرور، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. (لا:) نافية. {يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محلّ لها، والجملة القسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يُحَكِّمُوكَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد: {حَتّى،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله والكاف مفعوله، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر. {شَجَرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (ما)، وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها.
{بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة.
{ثُمَّ:} حرف عطف. {لا:} نافية. {يَجِدُوا:} فعل مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله
…
إلخ. {فِي أَنْفُسِهِمْ:} متعلّقان بما قبلهما، أو هما متعلّقان بمحذوف حال من:
{حَرَجاً} كان صفة له، فلما قدّم عليه؛ صار حالا. وقيل: هما مفعول ثان ل {يَجِدُوا} .
{حَرَجاً:} مفعول به. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان ب {حَرَجاً} أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {قَضَيْتَ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء قضيته. وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من) التقدير: من قضائك.
{وَيُسَلِّمُوا:} معطوف على: {يُحَكِّمُوكَ} منصوب مثله. {تَسْلِيماً:} مفعول مطلق مؤكّد لعامله.
الشرح: {وَلَوْ أَنّا كَتَبْنا:} حكمنا، أو فرضنا، وأوجبنا. {عَلَيْهِمْ} أي: على المنافقين.
وقيل: يعود الضمير على الجميع، فيدخل فيه المنافق، وغيره. {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل. {أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما:} كما أوجبنا أيضا على بني إسرائيل ذلك.
{ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ:} ذكرت لك في الآية السّابقة: أنّ ثابت بن قيس بن شماس-رضي الله عنه-قال: أما والله-وإنّ الله ليعلم منّي الصدق-لو أمرني محمّد أن أقتل نفسي؛ لقتلتها.
وروى ابن مسعود، وعمّار بن ياسر، وعمر-رضي الله عنهم-قالوا مثل ثابت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والّذي نفسي بيده إنّ من أمّتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرّواسي» . ومن قال: إنّ الضمير يعود إلى المنافقين، قال: المعنى: {ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ} يعني: رياء، وسمعة. وفيه توبيخ عظيم لهم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ} أي: ولو أنّهم فعلوا ما كلّفوا به من طاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، والرّضا بحكمه؛ {لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: في الدنيا، والآخرة، وإنّما سمّي ذلك التكليف: وعظا؛ لأنّ أوامر الله، وتكاليفه مقرونة بالوعد، والوعيد، والثّواب، والعقاب، وما كان كذلك يسمّى:
وعظا. {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} يعني: تحقيقا، وتصديقا لإيمانهم. والمعنى: أنّ ذلك أقرب إلى ثبات إيمانهم، وتصديقهم.
وقيل في معنى الآية الكريمة: إنّنا خفّفنا على المنافقين؛ حيث اكتفينا منهم في توبتهم بالرّجوع إلى حكمك، والرّضا، ولم نشدّد عليهم كما شدّدنا على بني إسرائيل في توبتهم من عبادة العجل، حيث أمرناهم بقتل أنفسهم، والخروج من ديارهم، ولو أنّنا فرضنا عليهم ذلك؛ لم يفعله إلا بعضهم، ولو أطاعوا الرّسول، وامتثلوا أوامره؛ لكان أفضل لهم، وأقوى لإيمانهم، وأعظم لثوابهم.
بعد هذا: انظر شرح {كَتَبْنا} ونحوه في الآية رقم [33]. أمّا (النّفس) فإنّها تجمع في القلّة: أنفس، وفي الكثرة: نفوس. والنّفس تؤنث باعتبار الرّوح، وتذكّر باعتبار الشّخص، أي:
فإنّها تطلق على الذات أيضا، سواء أكان ذكرا، أم أنثى، فعلى الأول قيل: هي جسم لطيف مشتبك بالجسم اشتباك الماء بالعود الأخضر الرّطب، فتكون سارية في جميع البدن، قال الجنيد -رحمه الله تعالى-: الرّوح شيء استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز البحث عنه بأكثر من أنّه موجود. قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [85]:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} .
وقال بعضهم: إنّ هناك لطيفة ربّانيّة لا يعلمها إلا الله تعالى، فمن حيث تفكّرها تسمّى عقلا، ومن حيث الجسد بها تسمّى روحا، ومن حيث شهوتها تسمّى نفسا، فالثلاثة متّحدة بالذّات مختلفة بالاعتبار، هذا ما تدلّ عليه الآثار الصحاح، ومن الدليل على أنّ النفس هي الرّوح قوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [42]:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} يعني: الأرواح، وذلك بيّن في قول بلال-رضي الله عنه-للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث ابن شهاب:«أخذ بنفسي يا رسول الله الّذي أخذ بنفسك» وهذا كان في الوادي الّذي ناموا فيه عن صلاة الصّبح حتّى طلعت الشمس، وهم قافلون من غزوة تبوك. والنّفس أيضا: الدّم، يقال: سالت نفسه، قال الشاعر:[الطويل]
تسيل على حدّ الظّبات نفوسنا
…
وليست على غير الظّبات تسيل
وقال إبراهيم النّخعي-رحمه الله تعالى-وهو المقرّر في الفقه: «ما ليس له نفس سائلة، فإنّه لا ينجس الماء إذا مات فيه» . والنّفس أيضا: الجسد، قال الشاعر:[الكامل]
نبّئت أنّ بني سحيم أدخلوا
…
أبياتهم تامور نفس المنذر
هذا؛ وقد ذكر القرآن الكريم للنّفس خمس مراتب: الأمّارة بالسّوء، واللّوامة، والمطمئنة، والراضية، والمرضيّة، ويزاد: الملهمة، والكاملة. فالأمّارة بالسّوء: هي التي تأمر صاحبها بالسّوء، ولا تأمر بالخير إلاّ نادرا، وهي مقهورة، ومحكومة للشّهوات، وإن سكنت لأداء الواجبات الإلهية، وأذعنت لاتّباع الحق، لكن بقي فيها ميل للشّهوات؛ سمّيت: اللوّامة، فإن سكن اضطرابها، ولم يبق للنّفس الشّهوانية حكم أصلا؛ سميت: مطمئنة، فإن ترقّت من هذا؛ وأسقطت المقامات من عينها، وفنيت عن جميع مراداتها؛ سمّيت: راضية، فإن زاد هذا الحال عليها، صارت مرضيّة عند الحق، وعند الخلق، فإن أمرت بالرجوع إلى العباد لإرشادهم، وتكميلهم؛ سميت كاملة، فالنّفس سبع طبقات، ولها سبع درجات، كما ذكرت، وقدمت.
وأخيرا: خذ ما ذكره القرطبيّ-رحمه الله تعالى-؛ فقال: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «ما تقولون في صاحب لكم، إن أكرمتموه، وأطعتموه، وكسوتموه؛ أفضى بكم إلى شرّ
غاية، وإن أهنتموه، وأعريتموه، وأجعتموه؛ أفضى بكم إلى خير غاية؟». قالوا: يا رسول الله! هذا شرّ صاحب! قال: «والّذي نفسي بيده، إنّها لنفوسكم الّتي بين جنوبكم» . انتهى.
أمّا {دِيارِكُمْ} فهو جمع: دار، وهي مؤنّثة، وقد تذكّر، وهي منزل الإنسان، ومسكنه، أصلها: دور بفتحتين، قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وجمعها: ديار، ودور، وأدؤر، وأدور، وأدورة، وأدوار، ودورات، وديارات اعتلّت عينه بالقلب. هذا؛ والدار أيضا:
البلد، والقبيلة، ودار القرار: الآخرة، والدّاران: الدنيا، والآخرة، ودار الحرب: بلاد العدوّ.
هذا؛ وقال أبو حاتم: إنّ الدّيار: العساكر، والخيام. لا البنيان، والعمران، وعليه قوله تعالى:
{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في عساكرهم، وخيامهم ميتين. وقال جلّ شأنه:{فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} أي: في مدينتهم المعمورة. ولو أراد غير ما قيل؛ لجمع الدار، فعلم من كلامه: أنّ الديار مخصوصة بالخيام. قال صاحب الخزانة: وهذه غفلة عن قول الشاعر، وهو مجنون ليلى:(أقبّل ذا الجدار) هو حائط البيت، وذلك في قوله-وهو الشاهد رقم [903] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
أمرّ على الدّيار ديار ليلى
…
أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الدّيار شغفن قلبي
…
ولكن حبّ من سكن الديارا
الإعراب: {وَلَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ:} إعراب هذه الكلمات مثل إعراب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} في الآية رقم [64] بلا فارق. {أَنِ:} حرف تفسير؛ لأنّ {كَتَبْنا} بمعنى: قلنا لهم.
{اُقْتُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها مفسّرة ل {كَتَبْنا} لا محلّ لها، وقال الشلوبين: بحسب ما تفسّره، والتي بعدها معطوفة عليها، واعتبرت {أَنِ} مفسّرة؛ لأنّ ما قبلها مضمّن معنى القول دون حروفه. هذا؛ وبعضهم يعتبرها مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محل جرّ بحرف جر محذوف، التقدير:
بأن اقتلوا، أو في محل نصب مفعول به، التقدير: كتبنا عليهم القتل. {ما:} نافية. {فَعَلُوهُ:}
ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها، و ({لَوْ}) ومدخولها معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محلّ له على الاعتبارين. {إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلٌ:} بدل من واو الجماعة، وقرئ بالنّصب على الاستثناء. {مِنْهُمْ:} جار، ومجرور متعلقان ب {قَلِيلٌ} .
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا:} إعرابه مثل إعراب سابقه. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُوعَظُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو: نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلاّ بالباء. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَكانَ:} اللام: واقعة
في جواب ({لَوْ}). (كان): فعل ماض ناقص. واسمه ضمير مستتر تقديره: هو يعود إلى التّكليف، أو الرضا، انظر الشرح. {خَيْراً} خبر (كان) والجملة الفعلية جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله. {وَأَشَدَّ} معطوف على:{خَيْراً} . {تَثْبِيتاً:} تمييز.
{وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً (67)}
الشرح: {وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ..} . إلخ، لأعطيناهم، ومننّا عليهم ثوابا عظيما، وجزاء وافرا، وانظر (لدن) في الآية رقم [40].
الإعراب: {وَإِذاً:} الواو: حرف استئناف. ({إِذاً}): حرف جواب، وجزاء مهمل، لا عمل له. {لَآتَيْناهُمْ:} اللام: واقعة في جواب «لو» مقدّرة، التقدير: لو ثبتوا على ما ذكر. (آتيناهم):
فعل ماض، وفاعل، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب «لو» المقدرة.
{مِنْ:} حرف جر. {لَدُنّا:} اسم مبني على السكون في محل جر ب {مِنْ،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجوز تعليقها بمحذوف حال من:{أَجْراً} كان صفة له، فلمّا قدّم عليه صار حالا، (نا) ضمير متصل في محل جرّ بالإضافة. {أَجْراً:} مفعول به ثان. {عَظِيماً:} صفة له.
{وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)}
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: لأرشدناهم إلى دين مستقيم هو دين الإسلام. وقيل: معناه: لهديناهم إلى الأعمال الصّالحة؛ الّتي تؤدّي إلى الصّراط المستقيم، وهو الصّراط الّذي يمرّ عليه المؤمنون إلى الجنّة؛ لأنّ الله تعالى ذكر الأجر العظيم أولا، ثمّ ذكر الصّراط المستقيم بعده؛ لأنّه هو المؤدّي إلى الجنّة. وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: يصلون بسلوكه إلى جناب القدس، ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل بما علم؛ أورثه الله علم ما لا يعلم» .
هذا؛ والفعل (هديناهم) قد يعدّى إلى الثاني بنفسه كما في هذه الآية. وقد يعدّى إليه ب «إلى» كما في قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [23]: {فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ} وقد يعدّى باللام، كما في قوله تعالى في سورة (الأعراف) رقم [43]:{وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا} .
هذا؛ والصراط المستقيم في لغة العرب: الطّريق الواضح؛ الذي لا اعوجاج فيه. قال جرير في مدح عبد الملك بن مروان: [الوافر]
أمير المؤمنين على صراط
…
إذا اعوجّ الموارد مستقيم
وقال عامر بن الطفيل: [الوافر]
شحنّا أرضهم بالخيل حتّى
…
تركناهم أذلّ من الصّراط
ثمّ إنّ العرب تستعير «الصّراط» في كلّ قول، وعمل، وصف باستقامة، أو اعوجاج.
والمراد به هنا: التوفيق لامتثال أوامر الله فيما أمر، وفيما نهى، والأخذ بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله، وفعله. و (مستقيم) لا اعوجاج فيه، وأصله:(مستقوم) لأنّه من: استقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب سكونها، فصار:«مستقوم» ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، فصار: مستقيم.
الإعراب: {وَلَهَدَيْناهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({لَهَدَيْناهُمْ}): فعل، وفاعل، ومفعول به أول.
{صِراطاً:} مفعول به ثان. {مُسْتَقِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها.
الشرح: لمّا ذكر الله تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به، وأنابوا إليه؛ لأنعم عليهم؛ ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله. وهذه الآية تفسير قوله تعالى في سورة (الفاتحة):
{اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ،} وهي المراد في قوله صلى الله عليه وسلم عند موته: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» . وفي البخاريّ عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبيّ يمرض إلاّ خيّر بين الدّنيا والآخرة» . وكان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ} فعلمت: أنّه خيّر.
{وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ} أي: فيما أمرا، وفيما نهيا عنه. {فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ} أي: هم معهم في دار واحدة يستمتعون برؤيتهم، والحضور معهم، لا أنّهم يساوونهم في الدّرجة، فإنّهم يتفاوتون. لكنّهم يتزاورون للاتباع، والاقتداء وكلّ من فيها قد رزق الرّضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد: أنّه مفضول، قال تعالى:{وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} . والصّدّيق فعّيل:
المبالغ في الصّدق، والصّدّيق هو الذي يحقّق بفعله ما يقوله بلسانه. وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء كأبي بكر الصدّيق-رضي الله عنه، وبقيّة العشرة المبشّرين بالجنّة. {وَالشُّهَداءِ:} الذين قتلوا في سبيل الله لإعلاء كلمة الله. {وَالصّالِحِينَ:} جمع: صالح، وهو الذي استوت سريرته، وعلانيته في الخير. وقيل: الصّالح من اعتقاده صواب، وعمله في سنة، وطاعة. والصّلاح:
درجة عالية، ومكانة رفيعة، ولذلك سألها يوسف الصدّيق في الآية رقم [101] من السورة المسمّاة باسمه، وسألها إبراهيم الخليل في الآية رقم [83] من سورة (الشعراء) وسألها سليمان في الآية رقم [19] من سورة (النمل) وقال تعالى في حق إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل-على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة وألف سلام-:{وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصّالِحِينَ} الآية [86] من سورة (الأنبياء)، وقال عن إبراهيم في سورة (البقرة) رقم [130]:{وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ} .
{وَحَسُنَ أُولئِكَ:} الإشارة إلى المذكورين، والفعل:({حَسُنَ}) محوّل إلى باب فعل، بفتح، وضم، وهذا الباب مستعمل للمدح، كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [32]:{وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ويستعمل في الذم كما في قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [29]:
{وَساءَتْ مُرْتَفَقاً} فكل فعل ثلاثي إذا حول إلى باب فعل، يحتمل ذلك مع تضمنه التعجب، وورد في الشعر العربي بضم الحاء وسكون السين، ومنه قول الحطيئة:[البسيط]
طافت أمامة في الرّكبان آونة
…
يا حسنه من قوام ما ومنتقبا
وقول سعد الغنوي-وهو الشاهد رقم [60] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [البسيط]
لا يمنع النّاس منّي ما أردت ولا
…
أعطيهمو ما أرادوا حسن ذا أدبا
تنبيه: كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحبّ له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغيّر لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما غيّر لونك يا ثوبان؟!» قال:
يا رسول الله! ما بي مرض، ولا وجع غير أنّي إذا لم أرك؛ استوحشت وحشة شديدة؛ حتى ألقاك. ثم إنّي إذا ذكرت الآخرة؛ أخاف ألا أراك؛ لأنّك ترفع إلى عليين مع النبيين. وإني إن دخلت الجنة؛ كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنّة؛ لا أراك أبدا
…
فنزلت الآية الكريمة.
وذكر مكيّ: أنّ عبد الله بن زيد، الذي أري الأذان في المنام هو الذي نزلت فيه الآية، وأنّه لمّا توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعمني حتّى لا أرى شيئا بعده! فعمي. وحكاه القشيري، فقال:
اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي! فعمي مكانه، وانظر الآية [80] الآتية.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {يُطِعِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {اللهُ:} منصوب على التعظيم. {وَالرَّسُولَ:} معطوف على ما قبله. {فَأُولئِكَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له.
{مَعَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ. و ({مَعَ}) مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول
مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعده صلته. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنَ النَّبِيِّينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير في:
{عَلَيْهِمْ،} وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وما بعده معطوف عليه، وخبر المبتدأ الذي هو مختلف فيه، قيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. ({حَسُنَ}): فعل ماض. {أُولئِكَ:} فاعله. {رَفِيقاً:} تمييز، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (70)}
الشرح: {ذلِكَ:} الإشارة إلى ما للمطيعين من الأجر، والثواب، ومزيد الهداية، ومرافقة المنعم عليهم. {الْفَضْلُ مِنَ اللهِ} أي: تفضل به عليهم، لا أنّهم نالوه بطاعتهم. خلافا لما قالته المعتزلة: إنّما ينال العبد ذلك بفعله، فلما امتنّ الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله؛ دلّ ذلك على بطلان قولهم:{وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً} أي: بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل، واستحقاق أهله، ولا ينبئك مثل خبير.
الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {الْفَضْلُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه.
وقيل: صفة له. {مِنَ اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، هذا وإن اعتبرت الفضل خبر المبتدأ فالجار والمجرور يكونان متعلقين ب {الْفَضْلُ} أو بمحذوف حال منه، والعامل اسم الإشارة.
{وَكَفى:} الواو حرف استئناف. ({كَفى}): فعل مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر. {بِاللهِ:}
الباء: حرف جر صلة. (الله): فاعله مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {عَلِيماً:} تمييز، والجملة الفعلية مستأنفة.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً (71)}
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [29]. {خُذُوا حِذْرَكُمْ:} الحذر: احتراز من مخوف، والمعنى: احذروا، واحترزوا من عدوّكم، ولا تمكّنوه من أنفسكم. وقيل: المراد بالحذر: هو السّلاح، يعني: خذوا سلاحكم، وعدّتكم لقتال عدوّكم، وإنّما سمّي السّلاح حذرا؛ لأنّه به يتّقى، ويحذر. ولقائل أن يقول: إذا كان المقدور كائنا؛ فما يمنع الحذر؟ فالجواب عنه بأنّه لمّا كان الكل بقضاء الله، وقدره؛ كان الأمر بأخذ الحذر من قضاء الله، وقدره، ومنه قول الفاروق-رضي الله عنه: نفرّ من قضاء الله وقدره، إلى قضاء الله وقدره.
{فَانْفِرُوا ثُباتٍ} أي: اخرجوا سرايا متفرّقين سرية بعد سرية، و {ثُباتٍ} جمع: ثبة، وهي الجماعة من الرّجال فوق العشرة، وتجمع أيضا على «ثبين» جمع مذكر سالما، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته:[الوافر]
وأمّا يوم لا نخشى عليهم
…
فنصبح في مجالسنا ثبينا
{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} أي: اخرجوا جميعا كلكم مع نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى جهاد عدوّكم. و {اِنْفِرُوا:}
بكسر الفاء، وضمها تبعا للمضارع. هذا؛ والنفر: الجماعة، كالقوم، والرهط، لا واحد له من لفظه، والمصدر: النفور، والنّفير، فالله يدعو المؤمنين في الآية الكريمة لمواجهة أعدائهم، ومحاربتهم مجتمعين، ومتفرّقين حسب ما تدعو الحاجة إليه. قال البيضاويّ-رحمه الله تعالى-:
والآية وإن نزلت في الحرب، لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلّها كيفما أمكن قبل الفوات. انتهى. فيكون مضمونها مثل قوله تعالى في سورة (آل عمران):{وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} . إلخ، وقوله جلّ ذكره في سورة (الحديد):{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ..} .
إلخ. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [29]. {خُذُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {حِذْرَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله.
{فَانْفِرُوا:} الفاء: حرف عطف. (انفروا): أمر، وفاعله. {ثُباتٍ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، والجملة معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها، والتي بعدها معطوفة أيضا. {جَمِيعاً:} حال من واو الجماعة أيضا.
الشرح: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ:} نزلت الآية في المنافقين، وإنّما قال الله:{مِنْكُمْ} لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية، والنّسب، وإظهار كلمة الإيمان. والمعنى: وإن منكم لمن ليتأخرنّ، وليتثاقلنّ عن الجهاد، وهو عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، وأتباعه.
كان المنافقون يقولون للمؤمنين: لم تقتلون أنفسكم؟! تأنّوا حتى يظهر الأمر!.
{فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي: من قتل، وهزيمة. {قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ} أي: لقعودي عن الحرب، والجهاد. {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً:} حاضر الحرب، فيصيبني ما أصابهم. هذا؛ وعاد الضمير على (من) مفردا نظرا للفظها.
الإعراب: {وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّ}): حرف مشبّه بالفعل. {مِنْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: ({إِنَّ}) تقدّم على اسمها. {لَمَنْ:} اللام: لام الابتداء. (من): اسم موصول. أو نكرة موصوفة مبني على السكون في محل نصب اسم ({إِنَّ}) مؤخر. ولا أعتمده، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [55]. {لَيُبَطِّئَنَّ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف.
(يبطئن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة التي هي حرف لا محلّ له، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، والقسم، وجوابه صلة:(من) أو صفتها، وتقدير الكلام: وإنّ منكم لمن أقسم بالله ليبطئن. وساغ ذلك؛ لأنّ القسم وجوابه يعتبر كلاما خبريّا، والإنشائية هي مجرد القسم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [7] من سورة (العنكبوت) إن أردت الزيادة، والجملة الاسمية:{وَإِنَّ..} . إلخ في محلّ نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {أَصابَتْكُمْ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. والتاء للتأنيث، والكاف مفعول به. {مُصِيبَةٌ:}
فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي.
{قالَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم جواب الشرط، والفاعل ضمير يعود إلى:
({مَنْ}) تقديره: هو. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {أَنْعَمَ اللهُ:} ماض وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {عَلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {إِذْ:}
ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلّق بالفعل: {أَنْعَمَ} . {لَمْ:}
حرف نفي، وقلب، وجزم. {أَكُنْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} ناقص، واسمه ضمير مستتر تقديره: أنا. {مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلق ب {شَهِيداً} الذي هو خبر: {أَكُنْ،} والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها. هذا؛ وإن اعتبرت {إِذْ} حرف تعليل، فلا محل لها، وجملة:
{قالَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا «إذا» الفجائية و (إنّ) ومدخولها كلام مستأنف ومفرّع عمّا قبله، لا محلّ له، وهو معترض بين الجملتين المتعاطفتين.
الشرح: {وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ} أي: نصر، وفتح، وغنيمة. {لَيَقُولَنَّ} أي: هذا المنافق قول نادم حاسد. وقرأ الحسن البصري الفعل بضم اللام على معنى ({مِنَ}) ومن فتح اللام -وهي قراءة سبعيّة-فوحّد الضمير على لفظ ({مِنَ}). {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ..} . إلخ؛ أي: كأن لم تكن بينكم، وبينه معرفة، ومودّة في الدّين. والمعنى: كأنّه ليس من أهل دينكم، وذلك: أنّ المنافقين
كانوا يودّون المؤمنين في الظاهر فحسب. {يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ:} على وجه الحسد، أو الأسف على فوت الغنيمة مع الشّكّ في الجزاء من الله. {فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} أي: فآخذ نصيبا وافرا من الغنيمة.
تنبيه: نسبة الفضل في هذه الآية إلى جانب الله تعالى، دون إصابة المصيبة في الآية السابقة من العادات الشّريفة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام في سورة (الشعراء) -:{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وقوله تعالى حكاية عن قول الجن في سورة (الجن): {وَأَنّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} . واقرأ الآية رقم [79] من سورة (الكهف) وما بعدها بتأمّل.
الإعراب: {وَلَئِنْ:} الواو: حرف عطف. اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {أَصابَكُمْ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والكاف مفعول به.
{فَضْلٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب {فَضْلٌ} أو بمحذوف صفة له. {لَيَقُولَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (يقولن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو، أي: على لفظه، وعلى قراءته بضم اللام. فيكون الفعل مرفوعا، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والفاعل واو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه على القاعدة:«إذا اجتمع شرط، وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته: [الرجز]
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
…
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
والجملة القسمية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {كَأَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، التقدير: كأنّه. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} . {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {تَكُنْ} مقدّم، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مَوَدَّةٌ:} اسم: {تَكُنْ} مؤخّر، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:
{كَأَنْ} . والجملة الاسمية معترضة بين القول، ومقوله. وقيل: في محل نصب حال من فاعل الفعل قبله. وقيل: داخلة في المقول. والمعتمد الأول.
{يا لَيْتَنِي:} ({يا}): حرف تنبيه لا محلّ له. وقيل: أداة نداء، والمنادى محذوف، التقدير:
يا قوم، ونحوه. والأول أقوى. ({لَيْتَنِي}): حرف مشبه بالفعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم اسمها. {كُنْتُ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مَعَهُمْ:} ظرف مكان
متعلق بمحذوف خبر: {كُنْتُ،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (ليت) والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {فَأَفُوزَ:} الفاء: للسببية. (أفوز):
فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء، والفاعل مستتر تقديره: أنا، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: أتمنى كينونة معهم، ففوزا. هذا؛ وقرئ:(«أفوز») بالرفع على تقدير: فأنا أفوز، فتكون الجملة اسمية، وهي مستأنفة. {فَوْزاً:} مفعول مطلق. {عَظِيماً:} صفة له.
الشرح: {فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ..} . إلخ: هذا خطاب للمنافق المذكور في الآيتين السّابقتين؛ أي: ليخلص المنافق الإيمان، وليقاتل في سبيل الله. وقيل: هو خطاب للمؤمنين المخلصين؛ أي: فليقاتل المؤمنون المخلصون الباذلون أنفسهم، وأموالهم في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية. وفي الآية استعارة، فقد استعار لفظ الشّراء للمبادلة، والباء بمعنى: بدل، وقد دخلت على المتروك. ومثله كثير في الآيات القرآنية، و {يَشْرُونَ} بمعنى:
يشترون، ويبيعون، قال ابن مفرغ الحميري:[مجزوء الكامل]
وشريت بردا ليتني
…
من بعد برد كنت هامة
وقال أبو ذؤيب الهذلي، وهو الشاهد رقم [771] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم
…
فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل
{وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ:} في طاعة الله، ومن أجل إعلاء كلمته؛ إذ لا يذكر لفظ القتال، أو الجهاد؛ إلا ويقرن بكلمة:{فِي سَبِيلِ اللهِ،} وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ الغاية من القتال، والجهاد غاية شريفة نبيلة، هي: إعلاء كلمة الله، لا السيطرة، أو المغنم، أو الاستيلاء في الأرض، أو غير ذلك من الغايات الدّنيئة. {فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ..}. إلخ: وعد الله المجاهد في سبيل الله ظافرا، أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله. وخذ ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تضمّن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلاّ جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه، الّذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة» . أخرجه مسلم في صحيحه، وفي هذا الحديث، والآية الكريمة وعد من القويّ العزيز؛ {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ؟} لا أحد!.
هذا؛ و (السّبيل) يذكّر، ويؤنّث بلفظ واحد، فمن التّذكير قوله تعالى في سورة (الأعراف):
{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} . ومن التأنيث قوله تعالى في سورة (يوسف) رقم [108]: {قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ} والجمع:
سبول، وعلى التذكير: سبل، بضمتين، و: سبل، بضم فسكون.
الإعراب: {فَلْيُقاتِلْ:} الفاء: حرف استئناف. اللام: لام الأمر. (يقاتل): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان به، و {سَبِيلِ:} مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل (يقاتل)، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {يَشْرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {الْحَياةَ:} مفعول به. {الدُّنْيا:} صفة ({الْحَياةَ}) منصوب مثله، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذّر. {بِالْآخِرَةِ:} متعلقان بالفعل {يَشْرُونَ} أو بمحذوف حال من: {الْحَياةَ الدُّنْيا} أي: مستبدلة بالآخرة.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُقاتِلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما. و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {فَيُقْتَلْ:} فعل مضارع مبني للمجهول ونائب فاعله يعود إلى: ({مَنْ}) وهو معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، ويجوز في القواعد النّحوية. {أَوْ يَغْلِبْ:} {أَوْ:} حرف عطف. {يَغْلِبْ:} معطوف أيضا على فعل الشرط، وفاعله يعود إلى ({مَنْ}) أيضا. {فَسَوْفَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (سوف): حرف تسويف، واستقبال. {نُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والهاء مفعول به أول. {أَجْراً:} مفعول به ثان. {عَظِيماً:} صفة له، وجملة: (سوف
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد. وخبر المبتدأ الذي هو: ({مَنْ}) مختلف فيه كما رأيت في الآية رقم [69]. والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ..} . إلخ: استفهام إنكاري توبيخي، أي: أيّ شيء يمنعكم من القتال والجهاد في سبيل إعزاز دين الله، وفي سبيل تخليص المستضعفين الذين استذلّهم المشركون، فمنعوهم من الهجرة إلى المدينة المنورة، أو لا يقدرون على الهجرة لضعفهم،
وعجزهم. ففيه حضّ على الجهاد لإعلاء كلمة الله، وإظهار دينه، واستنقاذ المؤمنين الضّعفاء، وإن كان في ذلك تلف النّفوس. وتخليص الأسارى، والمستضعفين واجب على جماعة المسلمين، إمّا بالقتال، وإمّا بالأموال، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«فكّوا العاني» والمراد بالمستضعفين:
من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفّار قريش لهم، وهم المعنيّون بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«اللهمّ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين» .
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كنت أنا، وأمّي من المستضعفين. و (الولدان) جمع: ولد، وإنّما ذكر الله سبحانه الولدان مبالغة في الحثّ على الجهاد، وتنبيها على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ آذاهم الصّبيان.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ:} المراد بها: مكّة المكرمة. {الظّالِمِ أَهْلُها:}
بالشرك، ويظلمون غيرهم بالإيذاء، والتطاول عليهم، و {الظّالِمِ:} نعت سببيّ يجب فيه الإفراد، والتّذكير، ويراعى في تذكيره، وتأنيثه، وجمعه، وتثنيته ما بعده. {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} أي: من عندك نصيرا، ومعينا، ومخلّصا من إيذاء كفار قريش. وقد استجاب الله دعاءهم، وحقّق رجاءهم بأن يسّر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وجعل لمن بقي منهم في مكّة خير وليّ، وخير ناصر؛ حيث فتح الله مكّة على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، فتولاّهم، ونصرهم، ثمّ استعمل عليهم عتّاب بن أسيد-رضي الله عنه-فحمى المستضعفين، ونصرهم حتّى صاروا أعزّاء أهل مكّة. والحمد لله والمنّة!.
هذا؛ و «القرية» اسم للمكان الّذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة، وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أمّ القرى في قوله تعالى في الآية رقم [92] من سورة (الأنعام):{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها،} كما تطلق على الضيعة الصّغيرة، وهي مأخوذة من: قريت الماء في المكان: جمعته، وفي القاموس المحيط: القرية: بكسر القاف، وفتحها، والنسبة إليها: قروي، وقريي، والفتح أقوى.
الإعراب: {وَما لَكُمْ:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {لا:} نافية. {تُقاتِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محلّ نصب حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، والعامل اسم الاستفهام، كما في الآية رقم [88] الآتية، وكما في قوله تعالى:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} وغير ذلك كثير. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ:} مضاف، و {اللهِ:}
مضاف إليه. {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ:} معطوف على لفظ الجلالة، وهذا اختيار الزجاج، وقاله الزّهري، وقال المبرد: اختار أن يكون معطوفا على (السبيل) أي: وفي المستضعفين لاستنقاذهم.
فالسبيلان مختلفان. {مِنَ الرِّجالِ:} متعلقان ب (المستضعفين) لأنّه اسم مفعول، أو هما في محل رفع نائب فاعله، وهو الأولى. {وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ:} معطوفان على: {الرِّجالِ،} وجوز اعتبار المستضعفين منصوبا على الاختصاص بفعل محذوف، ولا وجه له.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة: {الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ} ويكون في الكلام تغليب، أو هو في محل نصب بفعل محذوف، التقدير: أعني الّذين، أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، وجملة:{يَقُولُونَ} مع مقولها صلة الموصول، لا محلّ لها. {رَبَّنا:} منادى حذف منه حرف النداء، و (نا) في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَخْرِجْنا:} فعل دعاء، وفاعله مستتر تقديره:
«أنت» و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية والندائية في محل نصب مقول القول. {مِنْ هذِهِ:}
متعلقان بما قبلهما. {الْقَرْيَةِ:} بدل اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. وقيل: صفة.
{الظّالِمِ:} صفة: {الْقَرْيَةِ} صفة سببية. {أَهْلُها:} فاعل به، و (ها) في محل جر بالإضافة.
{وَاجْعَلْ:} فعل دعاء، وفاعله تقديره:«أنت» . {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {مِنْ لَدُنْكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جرّ بالإضافة. {وَلِيًّا:} مفعول به ثان. هذا؛ وجوّز اعتبار الجار والمجرور (لنا) في محل نصب مفعول به أوّل، ووليّا مفعول به ثان، كما أجيز اعتبار:{مِنْ لَدُنْكَ} متعلقين بمحذوف حال من: {وَلِيًّا} كان صفة له
…
إلخ.
الشرح: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: المؤمنون يقاتلون لهدف سام، وغاية نبيلة، وهي نصرة دين الله، وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاته، فهو تعالى وليّهم، وناصرهم، ومعزّهم، ورافع شأنهم في الدّنيا، والآخرة. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ} أي: الذين كفروا يقاتلون في سبيل الشيطان، وما يأمر به من الظلم، والفساد، وبذلك كان الشيطان وليهم، وناصرهم؛ فشتّان بين من يقاتل لإعلاء كلمة الله، وبين من يقاتل في سبيل الشيطان. فمن قاتل في سبيل الله فهو الذي يغلب؛ لأنّ الله وليه، وناصره، ومن قاتل في سبيل الطاغوت؛ فهو المخذول المغلوب، و {الطّاغُوتِ:} كلّ ما عبد من دون الله، وانظر الآية رقم [51]. {فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ} أي: قاتلوا يا أولياء الله أولياء الشيطان، وحزبه، وأنصاره، وهم الكفار. {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ:} وساوسه، وزخارفه الّتي يلقيها في عقل ابن آدم. {كانَ ضَعِيفاً} أي: إنّ كيده للمؤمنين بمقارنة كيد الله للكافرين ضعيف، لا يؤبه له، فلا تخافوه، ولا تخافوا أولياءه. وفي هذا غاية التّرغيب في قتال الكافرين.
تنبيه: ذكر الله هنا: أنّ كيد الشيطان ضعيف، وهذا بمقارنته بكيد الله، وذكر في سورة (يوسف) أنّ كيد النّساء عظيم، وهذا بالنسبة إلينا، على أنّه من كلام العزيز زوج المرأة، ولا تنس: قوله تعالى في سورة (التّحريم): {وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} .
فائدة: في الآية الكريمة من المحسّنات البديعية: المقابلة، وهي أن يؤتى بمعنيين، أو أكثر، ثمّ يؤتى بما يقابل ذلك على التّرتيب، تأمّل في الآية تجد ذلك موجودا فيها، كما في الآية رقم [85] الآتية.
هذا؛ و «الشّيطان» اسم يطلق على عدو الله إبليس، وقد يطلق على كلّ نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم من الإنس، والجن، والحيوان. وما أكثر الشياطين بهذا المعنى من بني آدم، قال تعالى في سورة (الأنعام) رقم [112] -انظر شرحها هناك، ونصّها-:{وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً،} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذرّ الغفاري-رضي الله عنه: «يا أبا ذرّ تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» . قال:
أو للإنس شياطين؟! قال: «نعم» . ولا تنس أنّ لكلّ واحد من بني آدم شيطانا بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة-رضي الله عنها: «أجاءك شيطانك؟» قالت: أو لي شيطان؟ قال: «ما من أحد إلاّ وله شيطان» قالت: وأنت يا رسول الله؟! قال: «وأنا إلاّ أنّني أعانني الله عليه، فأسلم، فلا يأمر إلاّ بخير» . يروى بضم الميم، وفتحها، والمعنى يختلف.
هذا؛ و «الشّيطان» واحد الشياطين، مأخوذ من شطن: إذا بعد، والنّون أصلية، فهو مصروف على هذا؛ وسمّي الشّيطان شيطانا؛ لبعده عن الحقّ، وتمرّده. قال جرير:[البسيط]
أيّام يدعونني الشّيطان من غزل
…
وهنّ يهوينني إذ كنت شيطانا
وقيل: مأخوذ من: شاط: إذا احترق، وشاط: بطل، فالنون زائدة، وعليه فهو غير مصروف، و «شطن» من باب: قعد، و «شاط» من باب ضرب. هذا؛ واشتاط الرّجل: إذا احتدّ غضبا. واشتاط: إذا هلك. قال الأعشى في معلّقته: [البسيط]
قد نخضب العير في مكنون فائله
(1)
…
وقد يشيط على أرماحنا البطل
ويقوّي الاعتبار الأول، ويضعّف الثاني: أنّ سيبويه-رحمه الله تعالى-حكى: أنّ العرب تقول: تشيطن فلان: إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بيّن: أنّ تفعلل من شطن، ولو كان من شاط؛ لقالوا: تشيّط.
1) الفائل: عرق من الجوف إلى الفخذ، ومنون الفائل: الدم.
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {يُقاتِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما. و {سَبِيلِ:} مضاف.
و {اللهِ:} مضاف إليه، وجملة:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ:} معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها، وإعرابها واضح. {فَقاتِلُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (قاتلوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا، وحاصلا؛ فقاتلوا
…
إلخ. {أَوْلِياءَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {كَيْدَ:} اسمها، وهو مضاف، و {الشَّيْطانِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى ما قبله. {ضَعِيفاً:} خبر: {كانَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محلّ لها.
الشرح: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ:} الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحقّ محمد صلى الله عليه وسلم أو لكلّ أحد.
والاستفهام تعجيب، وتشويق إلى استماع ما بعده؛ إن كان المخاطب لم يعلم بحال المذكورين، أو هو استفهام تقرير؛ إن كان المخاطب يعلم بحالهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير، ولم يسمع؛ لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجّب.
{إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا..} . إلخ: قال الكلبيّ-رحمه الله تعالى-: نزلت الآية الكريمة في عبد الرحمن بن عوف الزّهري، وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة قبل أن يهاجروا، فكانوا يقولون: يا رسول الله! ائذن لنا في قتالهم، فإنّهم قد آذونا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كفوا أيديكم فإني لم اؤمر بقتالهم» . {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ:} فيه إشكال، وهو: أنّ الصلاة فرضت في السّنة العاشرة من النبوة، والزّكاة فرضت في السّنة الرابعة من الهجرة، وحلّه-وبالله التوفيق-: أنّ المراد بالصّلاة الصلاة التي كانت مفروضة: ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، وأنّ المراد بالزّكاة مطلق الصدقة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ:} فرض عليهم جهاد المشركين، وقتالهم، وأمروا بالخروج إلى بدر {إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ:} جماعة منهم، أي: من الّذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد، واستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في القتال. {يَخْشَوْنَ النّاسَ} أي: يخافون مشركي مكة، كما قال تعالى في سورة (الأنفال):{كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ..} . إلخ. {كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً:} {أَوْ} بمعنى الواو؛ يعني: وأشد خشية. انظر ما ذكرته في سورة (البقرة) رقم [74] بشأن «أو» تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. قال السدي رحمه الله تعالى: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال، فلمّا فرض القتال؛ كرهوه. وقيل: هو وصف للمنافقين، والمعنى: يخشون القتال مع المشركين، كما يخشون الموت من الله.
{وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ..} . إلخ؛ أي: هلا تركتنا، ولم تفرض علينا القتال حتى نموت بآجالنا. والقائلون لهذا القول هم المنافقون؛ لأنّ هذا القول، لا يليق بالمؤمنين. وقيل:
قاله بعض المؤمنين، وإنّما قالوا ذلك خوفا، وجبنا، لا اعتقادا، ثمّ إنهم تابوا من هذا القول.
قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم: أنّ الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين، سامعين، طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة على ما هو معروف من سيرتهم، رضي الله عنهم. اللهم إلا أن يكون قائله ممّن لم يرسخ الإيمان في قلبه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإنّ أهل الإيمان متفاضلون، فمنهم الكامل، ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عمّا يؤمر به فيما تلحقه فيه المشقّة، وتدركه فيه الشدّة. والله أعلم. انتهى.
{قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ} أي: قل يا محمد لهؤلاء: منفعة الدنيا، والاستمتاع بلذّاتها قليل، وسمّاه الله قليلا؛ لأنّه لا بقاء له، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«مثلي ومثل الدّنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة، ثمّ راح، وتركها» . ومثله يروى عن ابن مسعود-رضي الله عنه-وغيره كثير. وعن المستورد بن شدّاد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما الدّنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليمّ، فلينظر بم يرجع؟» . أخرجه مسلم. {وَالْآخِرَةُ} يعني: وثواب الآخرة. {خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى:} يعني: اتقى الشرك، وابتعد عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
{وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً:} ولا تنقصون من أجوركم قدر فتيل، انظر الآية رقم [49].
هذا؛ وقال ابن أبي حاتم عن هشام؛ قال: قرأ الحسن: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ} فقال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلّها أوّلها، وآخرها إلا كرجل نام نومة، فرأى في منامه ما يحبّ، ثمّ انتبه. وقال ابن معين: كان أبو مصهر ينشد: [الطويل]
ولا خير في الدّنيا لمن لم يكن له
…
من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدّنيا رجالا فإنّها
…
متاع قليل والزّوال قريب
الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتعجيب. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم.
{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لَمْ}) وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت. {إِلَى الَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول.
{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {كُفُّوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل رفع نائب فاعل:{قِيلَ،} وانظر ما ذكرته في الآية رقم [61]{أَيْدِيَكُمْ:} مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} معطوفتان على ما قبلهما.
{فَلَمّا:} الفاء: حرف عطف، أو استئناف. (لمّا): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى «حين» عند الفارسي، وابن السراج، وابن جنّي. تتطلّب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشّرط بجوابه، وصوّب ابن هشام الأوّل، والمشهور الثّاني. {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْقِتالُ:} نائب فاعل {كُتِبَ،} وجملة: {كُتِبَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية على القول بحرفية (لمّا)، وهي في محل جر بإضافة (لمّا) إليها على القول بظرفيتها. {إِذا:} كلمة دالة على المفاجأة. وهي تختصّ بالدّخول على الجملة الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، نحو: خرجت؛ فإذا الأسد بالباب، وهي حرف عند الأخفش، وابن مالك، ويرجّحه:«خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب» لأنّ «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وظرف مكان عند المبرّد، وابن عصفور، وظرف زمان عند الزجّاج، والزمخشري، وزعم هذا الأخير: أنّ عاملها فعل مشتقّ من لفظ المفاجأة. ولا يعرف هذا لغير الزّمخشري، وإنّما ناصبها الخبر المذكور في نحو:«خرجت فإذا زيد جالس» أو المقدّر في نحو: «فإذا الأسد» أي: حاضر. و {فَرِيقٌ:} مبتدأ. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف صفة {فَرِيقٌ} . {يَخْشَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {النّاسَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محلّ جر بإضافة {إِذا} إليها على القول بظرفيتها. وابتدائية لا محلّ لها على القول بحرفية {إِذا،} وعلى الاعتبارين فالجملة جواب:
(لمّا)، و {إِذا:} واقعة في جوابها، هذا وقيل:({إِذا}) على اعتبارها ظرفا متعلقة بمحذوف خبر مقدّم، و {فَرِيقٌ:} مبتدأ مؤخر، و {مِنْهُمْ،} متعلقان بمحذوف صفة: {فَرِيقٌ،} وجملة: {يَخْشَوْنَ النّاسَ} في محل نصب حال من الضمير المستتر في: {مِنْهُمْ} وقيل: هي صفة ثانية ل {فَرِيقٌ} وقيل غير ذلك، والمعتمد ما ذكرته أولا. {كَخَشْيَةِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: يخشون الناس خشية كائنة كخشية الله. وهذا قول أبي البقاء، وغيره في مثل هذا التركيب، ومذهب سيبويه في مثله النّصب على الحال من المصدر المفهوم من
الفعل المتقدّم على طريق الاتّساع، فيكون التقدير: يخشون الناس على مثل هذه الحال.
و (خشية) مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: كخشيتهم الله.
{أَوْ:} حرف عطف. {أَشَدَّ:} معطوف على المحذوف، وقد ردّه البيضاوي رحمه الله تعالى، فقال: عطف على (خشية) إن جعلته حالا، وإن جعلته مصدرا؛ فلا؛ لأنّ أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه، بل هو معطوف على اسم الله تعالى؛ أي: كخشية الله، أو كخشية أشد خشية منه على الفرض، اللهم إلا أن يجعل الخشية ذات خشية، كقولهم: جدّ جدّه، على معنى: يخشون الناس خشية مثل خشية الله، أو خشية أشد خشية من خشية الله. هذا؛ وقال الجلال، وتبعه الجمل:{أَشَدَّ:} حال من (خشية) كان صفة له، و (خشية) معطوف على «خشية» المقدّر، وقد أجمل أبو البقاء الكلام، فقال: والقول في قوله: {أَشَدَّ خَشْيَةً} كالقول في قوله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} وقد ذكر، أي في الآية رقم [200] من سورة (البقرة)، وقال مكي:{أَشَدَّ} معطوف على الكاف، وهي عنده اسم بمعنى:«مثل» .
{وَقالُوا:} الواو: حرف استئناف. (قالوا): فعل وفاعل، والألف للتفريق. {رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء. و (نا) في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (ما) مبنية على السكون، وهو الألف المحذوفة للفرق بين الخبر، والاستخبار. {كَتَبْتَ:} فعل، وفاعل. {عَلَيْنَا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْقِتالُ:} مفعول به. {لَوْلا:} حرف تحضيض. {أَخَّرْتَنا:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بما قبلهما. {قَرِيبٍ:} صفة: {أَجَلٍ،} والكلام كلّه في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {مَتاعُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {الدُّنْيا:}
مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {قَلِيلٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَالْآخِرَةُ:} مبتدأ. {خَيْرٌ:} خبره، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها. {لِمَنِ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْرٌ} . {اِتَّقى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف، وفاعله يعود إلى (من) وهو العائد، أو الرابط، ومفعوله محذوف، انظر: الشرح، والجملة الفعلية صلة:(من) أو صفتها.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {تُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع
…
إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {فَتِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: تجزون فيها جزاء أعمالكم، ولا تظلمون فتيلا، والكلام في محل نصب مقول القول أيضا.
الشرح: نزلت الآية الكريمة في المنافقين؛ الذين قالوا في قتلى أحد كما حكى الله عنهم:
{لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا} الآية رقم [156] من سورة (آل عمران)، فردّ الله عليهم بهذه الآية. وقيل: نزلت في الذين قالوا: {رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ،} فردّ الله عليهم بهذه الآية، فبيّن الله تعالى: أنّه لا خلاص لهم من الموت، وإذا كان لا بدّ من الموت؛ كان القتل في سبيل الله، وجهاد أعدائه أفضل من الموت على الفراش؛ لأنّ الموت في الجهاد تحصل به سعادة الآخرة.
{أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ..} . إلخ؛ أي: في أيّ مكان وجدتم، فلا بدّ أن يدرككم الموت عند انتهاء الأجل ويفاجئكم؛ ولو تحصّنتم منه بالحصون المنيعة، فلا تخشوا القتال خوف الموت. هذا؛ والموت: انتهاء الحياة بخمود حرارة البدن، وبطلان حركته. وموت القلب: قسوته، فلا يتأثر بالمواعظ، ولا ينتفع بالنّصائح. والموت أكبر واعظ. وخذ قول طرفة بن العبد:[الرمل]
وكفى بالموت فاعلم واعظا
…
لمن الموت عليه قد قدر
فاذكر الموت وحاذر ذكره
…
إنّ في الموت لذي اللّبّ عبر
كلّ شيء فيه يلقى حتفه
…
في مقام أو على ظهر سفر
والمنايا حوله ترصده
…
ليس ينجيه من الموت الحذر
وخذ ما يلي معتبرا، ومفكرا، وبالله التوفيق:[الطويل]
هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة
…
وأنت على سوء من الفعل عاكف
وإيّاك أن تمضي من الدّهر ساعة
…
ولا لحظة إلاّ وقلبك واجف
وبادر بأعمال يسرّك أن ترى
…
إذا نشرت يوم الحساب الصّحائف
وواحد (البروج): برج، وهو البناء المرتفع، والقصر العظيم، قال طرفة يصف ناقة:[البسيط]
كأنّها برج روميّ تكنّفها
…
بان بشيد وآجرّ وأحجار
هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: (البروج): الحصون، والآطام، والقلاع، ومعنى {مُشَيَّدَةٍ:} مطولة، ومحصّنة، ومزيّنة بالشّيد، وهو الجصّ. والمشيّدة، والمشيد سواء،
قال تعالى في سورة (الحجّ): {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} . هذا؛ وقال السّدّي-رحمه الله تعالى-: المراد بالبروج، بروج في السماء الدّنيا مبنية. وحكى هذا القول مكيّ عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: أنّه قال: ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ} و {جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً} و {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً} الأولى في سورة (البروج)، والثانية في سورة (الفرقان)، والثالثة في سورة (الحجر). انظر شرح هذه الآيات في محالّها؛ فإنّه جيد، والحمد لله!.
وهذه الآية تردّ على القدرية في الآجال، فعرّفهم الله بذلك: أنّ الآجال متى انقضت؛ فلا بدّ من مفارقة الرّوح الجسد، سواء أكان بذلك بقتل، أو بموت، حسب ما قدّر الله زهوقها بها، وقالت المعتزلة: إنّ المقتول لو لم يقتل؛ لعاش، فردّ عليهم اللّقاني في جوهرته بقوله:[الرجز]
وميّت بعمره من يقتل
…
وغير هذا باطل لا يقبل
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ..} . إلخ: نزلت في المنافقين، واليهود، وذلك: أنّ المدينة كانت ذات خير، وأرزاق ونعم عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا ظهر نفاق المنافقين، وعناد اليهود اللّؤماء؛ أمسك الله عنهم بعض الإمساك، فقال المنافقون، واليهود: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا، ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرّجل، وأصحابه، فقال الله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ} أي: المنافقين، واليهود. {حَسَنَةٌ} أي: خصب في الثمار، ورخص في الأسعار، ونماء في الزروع، والأولاد، وغير ذلك من وجوه الخير. {يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ} أي: من قبل الله. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: قحط، وجدب، ونقص في الزّروع، والثمار، أو موت أولاد، أو نتاج، وغير ذلك ممّا يكرهونه. {يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يا محمد! أي: بسببك يا محمد! فهم ينسبون الشرّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تشاؤما به. وقد حصل التفات من الخطاب إلى الغيبة، انظر الالتفات في الآية [64].
{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} يعني: الحسنة والخير من: خصب، ونصر، وعزّ، وصحّة، وعافية، والسيئة من: هزيمة، وقتل، وموت، ونحو ذلك، فالحسنة فضل، وإنعام من الله، وأمّا السيئة؛ فابتلاء، واختبار منه تعالى. ثمّ قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصّادرة عن شكّ، وريب، وقلّة فهم وعلم، وكثرة جهل وظلم:{فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ..} . إلخ؛ أي: لا يفهمون معاني القرآن، وأنّ الأشياء كلّها من الله، عزّ، وجل، خيرها، وشرها.
هذا؛ و (يكاد): يقرب، يقال: كاد يفعل، ولم يفعل، فهو فعل يدلّ على وقوع مقاربة الفعل بعدها، ولذا لم تدخل عليه «أن» لأنّها تخلص الفعل للاستقبال، وإذا دخل عليها حرف نفي، كما في هذه الآية؛ دلّ على أنّ الفعل بعدها وقع، وإذا لم يدخل عليها حرف نفي؛ لم يكن الفعل بعدها واقعا، ولكنّه قارب الوقوع. والفعل واوي العين، ف «كاد» أصله: كود، فتحرّكت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ويكاد وزنه: يكود، كيعلم، فنقلت فتحة الواو إلى الساكن قبلها؛ لأنّ الحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، ثمّ يقال: تحركت الواو بحسب
الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت ألفا، فصار: يكاد بوزن: يخاف، ومصدره: الكود، وهذا في «كاد» الناقصة، وأمّا «كاد» التّامة فهي يائية العين المفتوحة في الماضي كباع، المكسورة العين في المضارع كيبيع، ومصدره: الكيد، كالبيع، فهو من الباب الثاني، بخلاف الناقص فإنّه من الباب الرّابع، ولذا جاء المضارع في القرآن مختلفا، فمن الأوّل قوله تعالى في سورة (النور) رقم [35]:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ} ومن الثاني قوله تعالى في سورة (يوسف): {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} ومعنى الأول: المقاربة. ومعنى الثاني: المكر، والأول ناقص التصرف، ويحتاج إلى مرفوع، ومنصوب، والثاني تامّ التصرف، ويكتفي بالفاعل، وينصب المفعول به.
فائدة: قد تأتي «كاد» بمعنى: أراد، قال محبّ الدين الخطيب، شارح شواهد الكشّاف، وجعل منه قول الراقدة الأودي:[البسيط]
والبيت لا يبتنى إلاّ بأعمدة
…
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمّع أسباب وأعمدة
…
وساكن بلغوا الأمر الّذي كادوا
أي: الذي أرادوا، ومنه قول الآخر:[البسيط]
كدنا وكدت وتلك خير إرادة
…
لو عاد من زمن الصّبابة ما مضى
أي: أردنا، وأردت، دليله:«خير إرادة» . هذا؛ وقد شاع على الألسن أن نفي كاد إثبات، وإثباتها نفي، ولذا ألغز المعرّي بقوله:[الطويل]
أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة
…
جرت في لساني جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت
…
وإن أثبتت قامت مقام جحود
فأجابه الشيخ جمال الدين بن مالك صاحب الألفية بقوله: [الطويل]
نعم هي كاد المرء أن يرد الحمى
…
فتأتي لإثبات بنفي ورود
وفي عكسها ما كاد أن يرد الحمى
…
فخذ نظمها فالعلم غير بعيد
وقد اتفقت كلمة النّحاة على أن «كاد» كسائر الأفعال، وكلامهم متقارب المعنى في هذا الشأن، ومتشابه.
انظر الشاهد رقم [1127] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» والأشموني، وغيرهما، وها أنا ذا أسوق لك ما ذكره السّيوطي-رحمه الله تعالى-في كتابه:(همع الهوامع) لتكون على بصيرة من أمرك. قال رحمه الله: والتحقيق: أنّها كسائر الأفعال، نفيها نفي، وإثباتها إثبات؛ إلا أنّ معناها المقاربة، لا وقوع الفعل، فنفيها نفي لمقاربة الفعل، ويلزم منه نفي الفعل ضرورة؛ لأنّ من لم يقارب الفعل؛ لم يقع منه الفعل، وإثباتها إثبات لمقاربة الفعل، ولا يلزم من مقاربته
وقوعه، فقولك:«كاد زيد يقوم» معناها: قارب القيام. ولم يقم، ومنه قوله تعالى في سورة (النور) رقم [35]:{يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} أي: يقارب الإضاءة، إلا أنّه لم يضيء، وقولك:«لم يكد زيد يقوم» معناه: لم يقارب القيام، فضلا عن أن يصدر منه، ومنه قوله تعالى في سورة النور رقم [40]:{إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها} أي: لم يقارب أن يراها، فضلا عن أن يرى، وقوله تعالى في سورة (إبراهيم) -على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ} أي: لا يقارب إساغته فضلا عن أن يسيغه، وعلى هذا الزّجّاجي، وغيره.
وذهب قوم منهم ابن جنّي إلى أنّ نفيها يدلّ على وقوع الفعل ببطء؛ لآية: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} رقم [71] من سورة (البقرة)، فإنّهم فعلوا بعد بطء، والجواب: أنّها محمولة على وقتين، أي: فذبحوها بعد تكرار الأمر عليهم بذبحها، وما كادوا يذبحونها قبل ذلك، ولا قاربوا الذّبح، بل أنكروا أشدّ الإنكار؛ بدليل ما حكى الله عنهم:{قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟!} .
وقال ابن هشام في مغنيه: فالجواب: أنّه إخبار عن حالهم في أوّل الأمر، فإنّهم كانوا بعداء عن ذبحها، بدليل ما يتلى علينا من تعنّتهم، وتكرار سؤالهم. انتهى. وقوله مشابه لقول السيوطي المتقدّم. تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجلّ، وأكرم.
الإعراب: {أَيْنَما:} اسم شرط جازم مبني على السكون، وبعضهم يقول: مبني على الفتح في محل نصب على الظرفية المكانية، متعلّق بمحذوف خبر:{تَكُونُوا} مقدّم على نقصانه، ومتعلّق به على تمامه، و (ما): زائدة. {تَكُونُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، أو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. {يُدْرِكْكُمُ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، والكاف مفعول به.
{الْمَوْتُ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، والشرط ومدخوله كلام مستأنف لا محلّ له. ويحتمل: أنّه داخل في مقول القول المذكور في الآية السابقة، والمعنى: قل لهم: أينما تكونوا في الحضر، أو في السفر يدرككم الموت الذي تكرهون القتال لأجله. وقرئ شاذّا برفع الجواب وهو على حذف الفاء، أي: فهو يدرككم، واعتبر القرطبيّ-رحمه الله تعالى-قول عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت الأنصاري مثله، وهو الشاهد رقم [86] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط]
من يفعل الحسنات الله يشكرها
…
والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان
إذ التقدير: فالله يشكرها، والفرق بينهما واضح، فالآية حذف فيها الفاء، والمبتدأ، والبيت حذف فيه الفاء فقط، وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: أو على أنّه كلام مبتدأ، و {أَيْنَما} متّصل ب ({تُظْلَمُونَ}). انتهى. والمعنى لا يؤيّد الوجهين. {وَلَوْ:} الواو: واو الحال. (لو):
وصلية. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِي بُرُوجٍ:} متعلقان بمحذوف خبر (كان) الناقصة. {مُشَيَّدَةٍ:} صفة بروج، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الكاف الواقعة مفعولا به، والرابط الواو والضمير. هذا وإن اعتبرت ({لَوْ}) شرطية غير جازمة فجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ شرطها، ويكون الجواب محذوفا؛ لدلالة ما قبله عليه، التقدير: ولو كنتم
…
لأدرككم الموت. هذا؛ وقال الجمل: والجملة؛ أي: ({لَوْ}) ومدخولها: معطوفة على أخرى مثلها محذوفة، وقدّر كلاما لا داعي له، وأرى أنّ ({لَوْ}) ومدخولها معطوف على الجملة الشّرطية قبلها.
{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تُصِبْهُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والهاء مفعول به. {حَسَنَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {يَقُولُوا:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {هذِهِ:} الهاء:
حرف تنبيه لا محلّ له. (ذه): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {مِنْ عِنْدِ:}
متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، وجملة:{يَقُولُوا..} .
إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشّرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية، و «إذا» ومدخولها معطوف على ما قبله لا محلّ له مثله. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ..}. إلخ: معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق بينهما.
{قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {كُلٌّ:} مبتدأ، سوغ الابتداء به الإضافة المقدّرة. {مِنْ عِنْدِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، و {عِنْدِ} مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{فَمالِ هؤُلاءِ:} الفاء: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. اللام: حرف جر. الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل جرّ باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {الْقَوْمِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، ويقال:
صفة له. {لا:} نافية. {يَكادُونَ:} فعل مضارع ناقص مرفوع
…
إلخ، والواو اسمه.
{يَفْقَهُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {حَدِيثاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محلّ نصب خبر:{يَكادُونَ،} وجملة: {لا يَكادُونَ..} . إلخ في محلّ نصب حال من: (هؤلاء القوم) والرابط الضمير فقط، والعامل اسم الاستفهام، وقال الجمل: أو هو استئناف مبني على سؤال نشأ، فقيل:{لا يَكادُونَ..} . إلخ، والأوّل أقوى. انظر الآية رقم [75].
الشرح: {ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} أي: من خير، وصحة، ونعمة، وخصب، ونصر، وغنيمة.
{فَمِنَ اللهِ:} فمن كرم الله، وإحسانه، وجوده، وفضله تعالى يتفضّل به عليك. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد به أمّته. وقيل: إنّه عامّ، وتقديره: ما أصابك أيّها الإنسان. وإنّما كان من فضل الله؛ لأنّ كل ما يفعله الإنسان من الطاعات لا يكافئ نعمة الوجود، بل، ولا شربة ماء، فكيف يقضي غيره؟! ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أحد يدخل الجنّة إلاّ برحمة الله» . قيل: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا» . وفي رواية أخرى: «لن يدخل أحدا عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني الله بفضله، ورحمته. فسدّدوا، وقاربوا» .
أخرجه البخاريّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه.
{وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ:} قحط، وجدب، وهزيمة
…
إلخ. {فَمِنْ نَفْسِكَ} أي: فبما كسبت يداك من المعاصي، كما قال تعالى في سورة (الشّورى):{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} وهو لا ينافي قوله تعالى في الآية السابقة: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ:} فإنّ الكلّ منه تعالى إيجادا، وإيصالا؛ غير أنّ الحسنة إحسان، وامتحان، والسيئة مجازاة، وانتقام.
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لما نزلت آية الشّورى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده ما من خدش عود، ولا عثرة قدم، ولا اختلاج عرق إلاّ بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» . وقالت السّيدة عائشة-رضي الله عنها: «ما من مسلم يصيبه وصب، ولا نصب، حتّى الشّوكة يشاكها، وحتّى انقطاع شسع نعله إلاّ بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .
{وَأَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً} أي: أرسلناك يا محمد إلى النّاس كافّة رسولا؛ لتبلّغهم رسالتي، وما أرسلتك به، وليست رسالتك مقصورة على العرب، كما يقول اليهود اللّؤماء. {وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} أي: على أنّه أرسلك للناس كافّة، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك، واتّباعك، وهو عالم بما تبلّغهم إيّاه، وبما يردّون عليك من الحقّ كفرا، وعنادا.
بقي أن تعرف وجه الجمع بين قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ،} وبين قوله: {وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ،} فأمّا إضافة الأشياء إلى الله تعالى، فعلى الحقيقة؛ لأنّ الله-عز وجل-هو خالقها، وموجدها، وأمّا إضافة السيئة إلى فعل العبد، فعلى المجاز، تقديره: وما أصابك من سيئة؛ فمن الله بذنب نفسك عقوبة لك. وقيل: إضافة السيئة إلى فعل العبد على سبيل الأدب، فهو كقوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-:
{وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فأضاف المرض إلى نفسه على طريق الأدب. ولا شكّ: أنّ
الممرض هو الله تعالى، وانظر آية (الكهف) رقم [82]، وآية (الجن) رقم [10] تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَصابَكَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{ما؛} تقديره: هو، والكاف مفعول به. {مِنْ حَسَنَةٍ:} متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، و {مِنْ:} بيان لما أبهم في: {ما} . {فَمِنَ اللهِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (من الله): متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهي من الله، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو:
(ما) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت:{ما} اسما موصولا، فهي مبتدأ، والجملة بعدها صلتها، والجملة الاسمية:«فهي من الله» في محل رفع خبرها، ودخلت الفاء على الخبر زائدة؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم. {وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ..}. إلخ: هذه الجملة معطوفة على التي قبلها، لا محلّ لها مثلها، الأولى بالاستئناف، والثانية بالإتباع، وإعرابها مثلها.
هذا؛ وقد اعتبر أبو البقاء (ما) في الجملتين شرطية لا غير، وقال: ولا يحسن أن تكون بمعنى «الذي» لأنّ ذلك يقتضي أن يكون المصيب لهم ماضيا مخصصا، والمعنى على العموم، والشّرط أشبه، بينما اعتبرها مكيّ موصولة لا غير، فقال:(ما) فيهما، أي: في الجملتين بمعنى: «الذي» وليست للشرط؛ لأنّها نزلت في شيء بعينه، وهو الجدب، والخصب، والشّرط لا يكون إلا مبهما، يجوز أن يقع، ويجوز ألا يقع، وإنّما دخلت الفاء للإبهام الّذي في «الذي» مع أنّ صلته فعل. هذا؛ وقد أعربت (ما) في الجملتين على الوجهين اللّذين قالاهما حتى لا يبقى عليّ اعتراض لمعترض. والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
{وَأَرْسَلْناكَ:} الواو: واو الحال. ({أَرْسَلْناكَ}): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من كاف الخطاب على اعتباره مقصودا به الرّسول صلى الله عليه وسلم، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير «قد» قبلها، ومستأنفة على اعتبار الخطاب لكلّ إنسان. {لِلنّاسِ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{رَسُولاً} كان صفة
…
إلخ.
{رَسُولاً:} حال من كاف الخطاب مؤكّدة. وقيل: مفعول مطلق؛ أي: إرسالا، ولا وجه له {وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [70].
الشرح: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ..} . إلخ: طاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، كما رأيت في الآية رقم [59]، ومحبّة الرسول من محبّة الله عزّ، وجل-لما روي: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّني؛
فقد أحبّ الله، ومن أطاعني؛ فقد أطاع الله». فقال المنافقون: لقد قارف الشرك، وهو ينهى عنه، ما يريد إلا أن نتّخذه ربّا، كما اتخذت النّصارى عيسى ربّا. فنزلت الآية الكريمة.
{وَمَنْ تَوَلّى} أي: أعرض عن طاعته، وامتثال أمره؛ فقد خاب، وخسر. {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً:} تحفظ أعمالهم، وتحاسبهم عليها، بل كل أمرهم إلى الله، فإنّما عليك البلاغ، وعلينا الحساب. هذا؛ وحصل في الآية الكريمة التفات من الغيبة إلى الخطاب، انظر الالتفات في الآية رقم [64].
هذا؛ وقال القرطبيّ في غير هذا الموضع: وفي حديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فرّق بين ثلاث؛ فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة: من قال: أطيع الله، ولا أطيع الرّسول، والله يقول:
{أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ،} ومن قال: أقيم الصّلاة، ولا أوتي الزّكاة، والله يقول:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ،} ومن فرّق بين شكر الله، وشكر والديه، والله يقول:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ»} .
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُطِعِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} تقديره: هو. {الرَّسُولَ:} مفعول به. {فَقَدْ:}
الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَطاعَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} أيضا. {اللهَ:} منصوب على التّعظيم، والجملة الفعلية في محلّ جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو:{مَنْ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط.
وقيل: جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجّح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
({مَنْ}): اسم شرط جازم. {تَوَلّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف في محلّ جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما):
نافية. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {حَفِيظاً} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له
…
إلخ، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط، هذا في الظاهر، وعند التأمّل؛ يظهر لك: أنّ الجواب محذوف، التقدير: ومن تولّى؛ فلا يهمنّك أمره.
وعليه تكون جملة: (ما أرسلناك
…
) إلخ مفيدة للتعليل لا محلّ لها.
الشرح: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ:} نزلت في المنافقين، وذلك: أنّ المنافقين كانوا يقولون باللّسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: آمنا بك، وصدّقناك، فمرنا بما تريد، فأمرنا، وشأننا، وحالنا طاعة؛
أي: مطيعون لك. {فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ:} خرجوا من عندك. {بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} أي: زورت خلاف ما قلت لها، وما قالت لك من القبول، وضمان الطّاعة. والتبييت:
إمّا من البيتوتة؛ لأنّ الأمور تدبّر بالليل، أو من بيت الشّعر، أو البيت المبني؛ لأنّه يسوّى.
ويدبّر. انتهى. بيضاوي.
وعبارة الخازن: التبييت: كلّ أمر يفعل بالليل، يقال: هذا أمر مبيّت: إذا دبر بليل، وقضي بليل، قال تعالى في الآية رقم [108] الآتية:{إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ} . والمعنى: أنّهم قالوا، وقدروا أمرا باللّيل غير الذي أعطوك بالنّهار من الطّاعة. و {بَيَّتَ:} بدّل، وغيّر. قال الأسود بن عامر الطّائي:[المتقارب]
وبيّت قولي عبد الملي
…
ك قاتله الله عبدا كفورا
وإنّما خصّ الله طائفة من المنافقين بالتبييت في قوله: {مِنْهُمْ،} وكلمة (من) للتبعيض؛ لأنّه تعالى علم: أنّ منهم من يبقى على كفره، ونفاقه، ومنهم من يرجع عنه، ويتوب، فخصّ من يصرّ على النفاق بالذّكر. هذا؛ و {طائِفَةٌ:} جماعة من النّاس، لا واحد لها من لفظها، مثل: فريق، ورهط، ونفر، وجمعها: طوائف.
{وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ} أي: يسجّل في صحائفهم أعمالهم؛ ليجازيهم عليها، والمسجّل هم الملائكة الموكلون بهم يسجّلون أقوالهم، وأعمالهم، ونفاقهم، ومكرهم، وكيدهم. {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: لا تعاقبهم يا محمد، ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم، وخلّهم في ضلالتهم، فأنا منتقم منهم. وهذا قبل نزول قوله تعالى في سورتي (التوبة) و (التّحريم):{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..} . إلخ.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ:} فوض أمورك إلى الله كلّها سيما في شأن المنافقين. فإنّه يكفيك شرّهم، ويدفع عنك ضرّهم، وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام، وقد صدق الله وعده؛ حيث فضحهم، وأظهر خبثهم. اقرأ سورة (التوبة)؛ فإنّك تجد فيها العجب العجاب. {وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً} أي: ناصرا، ومعينا لك عليهم.
هذا؛ و «التوكل» تفويض الإنسان الأمر إلى من يملك أمره، ويقدر على نفعه، وضرّه.
وقالوا: التوكل: من إذا دهمه أمر؛ لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى. فعلى هذا: إذا وقع الإنسان في محنة، ثمّ سأل غيره خلاصه منها؛ لم يخرج عن حدّ التوكّل؛ لأنّه لم يحاول دفع ما نزل به عن نفسه بمعصية الله تعالى، وإنّما هو من تعاطي الأسباب في دفع المحنة. وخذ ما يلي:
فعن عمر-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله؛ لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا، وتروح بطانا» . أخرجه الترمذيّ. هذا؛ والفرق بين
التوكّل، والتسليم، والتفويض، فيقال: التوكّل: أن تسكن النفس إلى وعد الله، والتسليم: أن تكتفي بعلم الله تعالى، والتفويض: أن ترضى بحكم الله، عز وجل. وقيل: التوكل: ألا تعصي الله من أجل رزقك، ولا تطلب لنفسك ناصرا غيره، ولا لعملك شاهدا سواه. وخذ ما يلي:
فعن عمران بن حصين-رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفا بغير حساب» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟! قال: «هم الّذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون» . فقام عكّاشة بن محصن-رضي الله عنه-فقال:
يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أنت منهم» . فقام رجل آخر، فقال:
يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «سبقك بها عكّاشة» .
الإعراب: ({يَقُولُونَ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله.
{طاعَةٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: أمرنا، وشأننا طاعة، أو هو مبتدأ خبره محذوف، التقدير: منّا طاعة لك، وقرئ شاذّا بالنّصب على أنّه مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: نطيع لك طاعة، والجملة على الاعتبارين في محلّ نصب مقول القول، وجملة:{وَيَقُولُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {لا يَكادُونَ..} . إلخ في الآية رقم [78] وما بينهما اعتراض، والاستئناف ممكن. {فَإِذا:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبنيّ على السكون في محل نصب. {بَرَزُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور.
{مِنْ عِنْدِكَ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة. {بَيَّتَ:} فعل ماض.
{طائِفَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محلّ لها. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَةٌ} . {غَيْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة. {تَقُولُ:} فعل مضارع، والفاعل يحتمل أن يكون تقديره: أنت خطابا للرّسول صلى الله عليه وسلم، وأن يكون تقديره: هي يعود إلى طائفة، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها، والعائد محذوف. التقدير: الذي تقوله. و (إذا) ومدخولها كلام مفرّع، ومستأنف، لا محلّ لها.
{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {يَكْتُبُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
وإن اعتبرتها في محل نصب حال من: {طائِفَةٌ} فالرابط: الواو فقط، والأول أقوى. {ما:}
تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية؛ فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُبَيِّتُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة ({ما}) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يكتب الّذي، أو شيئا يبيتونه. وعلى اعتبارها مصدريّة تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محلّ نصب مفعول به، التّقدير: يكتب تبييتهم.
{فَأَعْرِضْ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدر؛ أي: فإذا كان هذا حالهم، وشأنهم؛ فأعرض. (أعرض): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب للشرط المقدّر ب «إذا» والتي بعدها معطوفة عليها. {وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [70] وهي مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ:} أي: يتفهّمونه، فيعلمون: أنّه من عند الله، ويعلمون ما أعدّ الله للّذين لم يتولّوا عن الإسلام من الخير الكثير، والفضل العميم. أو المعنى: يتفكرون في مواعظه، وزواجره. وتدبّر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الهمّ وقت تلاوته، ويشترط فيه تقليل الغذاء من الحلال الصّرف. والتدبير: أن يدبر الإنسان أمره، كأنّه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته. ودلّت هذه الآية، وقوله تعالى في سورة (محمّد صلى الله عليه وسلم:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} على وجوب التّدبّر في القرآن؛ ليعرف معناه، وكان في هذا ردّ على فساد قول من قال: لا يؤخذ من تفسيره إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأوّل على ما يسوغه لسان العرب، وهذا قول الروافض، وقول من يجري مجراهم، ويتّبع هواهم.
{وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ..} . إلخ؛ أي: لو كان القرآن من كلام البشر، كما يزعم الكفار؛ {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً:} تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه، وكان بعضه فصيحا، وبعضه ركيكا، وبعضه تصعب معارضته، وبعضه تسهل، ومطابقة بعض أخباره المستقبلة للواقع دون بعض، وموافقة الفعل لبعض أحكامه دون بعض؛ لنقصان القوّة البشرية عن الكمال.
قال العلماء: إنّ الله-عز وجل-احتجّ بالقرآن، والتدبّر فيه على صحّة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، والحجّة في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: فصاحته التي عجز الخلائق عن الإتيان بمثلها في أسلوبه. الثاني: إخباره عن الغيوب، وهو ما يطلع الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم على أحوال المنافقين، وما يخفونه من مكرهم، وكيدهم، فيفضحهم بذلك، لا يعلمها إلا الله تعالى. الثالث: سلامته من الاختلاف، والتناقض.
هذا؛ ولا يدخل في هذا اختلاف ألفاظ القراءات، وألفاظ الأمثال، والدّلالات، ومقادير السّور، والآيات، وإنّما أراد اختلاف التناقض، والتّفاوت، لذا أنزل الله-عز وجل-القرآن، وأمرهم بتدبّره؛ لأنّهم لا يجدون فيه اختلافا في وصف، ولا ردّا له في معنى، ولا تناقضا، ولا كذبا فيما يخبرون به من الغيوب، وما يسرّون.
هذا؛ والهمزة في قوله: {أَفَلا} للإنكار، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنّه حرف عطف، وكذا تقدّم على الواو، وثمّ، تنبيها على أصالتها في التصدير، نحو قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ..} . إلخ. {أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ..} .
إلخ، وأخواتها تتأخّر عن حروف العطف، كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة، نحو قوله تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ..} . إلخ، {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} . هذا مذهب سيبويه، والجمهور، وخالف في ذلك جماعة، أوّلهم الزمخشري، فزعموا: أنّ الهمزة في الآيات المتقدمة في محلّها الأصلي، وأنّ العطف على جملة مقدّرة بينها، وبين العاطف، فيقولون: التّقدير في: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا..} . إلخ، {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً،} {أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ:} أمكثوا، فلم يسيروا في الأرض؟ أنهملكم فنضرب عنكم؟ أتؤمنون في حياته فإن مات، أو قتل
…
إلخ؟ ويضعف قولهم ما فيه من التكلّف، وأنّه غير مطّرد في جميع المواضع.
انتهى. مغني اللبيب بتصرّف.
هذا؛ و (قرآن) مشتقّ من: قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، فكأنّه جمع فيه الحكم، والمواعظ، والآداب والقصص، والفروض، وجميع الأحكام، وكملت فيه جميع الفوائد الهادية إلى طريق الرّشاد، وخذ قول عمرو بن كلثوم في معلّقته رقم [12]:[الوافر]
ذراعي حرّة
(1)
…
أدماء بكر
هجان اللّون لم تقرأ جنينا
لم تقرأ جنينا: لم تضمّ، ولم تجمع في رحمها ولدا قطّ، وهو في اللّغة مصدر بمعنى:
الجمع، يقال: قرأت الشيء قرآنا: إذا جمعته، وبمعنى القراءة، يقال: قرأت الكتاب قراءة، وقرآنا، ثمّ نقل إلى هذا المجموع المقروء المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، المنقول عنه بالتواتر فيما بين الدّفتين، المتعبّد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاتحة، المختتم بسورة الناس. وهذا التعريف متفق عليه بين العلماء، والأصوليين. أنزله الله ليكون دستورا للأمة، وهداية للخلق أجمعين، وليكون آية دالّة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبرهانا ساطعا على نبوته، ورسالته، وحجة قائمة إلى يوم الدين. تشهد: أنّه تنزيل الحكيم الحميد، بل هو المعجزة الخالدة التي تهتدي بها الأجيال، والأمم على الأزمان، والدهور، ورحم الله أحمد شوقي؛ إذ يقول:[البسيط]
جاء النّبيّون بالآيات فانصرمت
…
وجئتنا بكتاب غير منصرم
آياته كلّما طال المدى جدد
…
يزينهنّ جمال العتق والقدم
وللقرآن أسماء عديدة، كلّها تدلّ على رفعة شأنه، وعلوّ مكانته، وعلى أنّه أشرف كتاب سماويّ على الإطلاق، فيسمّى: القرآن، والفرقان، والتّنزيل، والذّكر، والكتاب، والنّور،
1) وفي رواية: ذراعي عيطل.
والهدى
…
إلخ، كما وصفه الله بأوصاف عديدة، منها: نور، وهدى، ورحمة، وشفاء، وموعظة، وعزيز، ومبارك، وبشير، ونذير
…
إلى غير ذلك من الأوصاف الّتي تشعر بعظمته، وقدسيّته، ويحرم على المحدث حدثا أكبر قراءته، ومسّه، وحمله، وعلى المحدث حدثا أصغر حمله، ومسّه، ولا يمنع من قراءته عن ظهر غيب. قال تعالى:{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وقال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [106]: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً} وعلى اعتباره مصدرا جاء قول الشاعر مع اختلاف في قائله، والمراد به: عثمان-رضي الله عنه-وهو الشّاهد رقم [399] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [البسيط]
ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به
…
يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا
أي: قراءة. هذا؛ ولم يذكر بلفظه بسورة (البقرة) إلا في الآية رقم [185]، ولم يذكر في هذه السورة إلا في هذه الآية، ولم يذكر في سورة (آل عمران)، وإنّما يكثر ذكره بما ذكرت لك من أسمائه، وصفاته، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لا): نافية، {يَتَدَبَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {الْقُرْآنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها على الوجهين المعتبرين بالفاء. {وَلَوْ:} الواو: حرف عطف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى القرآن، تقديره: هو. {مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ،} و {عِنْدِ} مضاف، و {غَيْرِ:} مضاف إليه، وجملة:
{كانَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {لَوَجَدُوا:}
اللام واقعة في جواب ({لَوْ}). (وجدوا): فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب:(لو) لا محلّ لها. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الأول. {اِخْتِلافاً:} مفعول به ثان. {كَثِيراً:} صفة له. و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف، لا محلّ له على الاعتبارين.
الشرح: {وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ..} . إلخ، وذلك: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبعث البعوث، والسّرايا بالقتال للكفار، فإذا غلبوا، أو غلبوا؛ بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم، ثم يشيعونه،
ويتحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين المقيمين في المدينة، فأنزل الله الآية الكريمة، ومعنى:{أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ} جاءهم خبر بفتح، وغنيمة. {أَوِ الْخَوْفِ} يعني: القتل، والهزيمة. {أَذاعُوا بِهِ:} أفشوا ذلك الخبر، وأشاعوه بين النّاس، يقال: أذاع السّرّ، وأذاع به: إذا أشاعه، وأظهره، قال أبو الأسود الدّؤلي في وصف من هذه صفته:[الطويل]
أمنت على السّرّ امرأ غير حازم
…
ولكنّه في النّصح غير مريب
أذاع به في النّاس حتّى كأنّه
…
بعلياء نار أوقدت بثقوب
{وَلَوْ رَدُّوهُ} أي: الأمر الّذي تحدّثوا به، وأفشوه، وأذاعوه. {إِلَى الرَّسُولِ} صلى الله عليه وسلم حتى يتحدّث به هو، ويذيعه؛ لكان خيرا لهم في الدّنيا، والآخرة. {وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أي:
ردّوه إلى ذوي العقول، والرأي، والبصيرة بالأمور منهم، وهم كبار الصّحابة، كالصّديق، والفاروق، وعثمان، وعليّ، رضوان الله عليهم. وقيل: هم أمراء البعوث، والسّرايا، وإنّما قال:{مِنْهُمْ} على حسب الظاهر، ولأنّ المنافقين كانوا يظهرون الإيمان، فلذا قال:{وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجون تدبيره بذكائهم، وفطنتهم، وتجاربهم، ومعرفتهم بأمور الحرب، وما ينبغي لها، ومكايدها، وهم العلماء الذين علموا ما ينبغي أن يكتم من الأمور، وما ينبغي أن يذاع منها، و (النّبط): الماء الذي يخرج من البئر أوّل ما تحفر، واستنباطه: استخراجه، فاستعير لما يخرجه الرّجل بفضل ذكائه، وصفاء قريحته، وفطنته من المعاني، والتدبّر فيما يعضل، ويهمّ، يقال: استنبط الفقيه المسألة: إذا استخرجها باجتهاده، وفهمه.
وفي الآية دليل على جواز القياس، وأنّ من العلم ما يدرك بالنّصّ، وهو: الكتاب، والسنّة، ومنه ما يدرك بالاستنباط، وهو القياس عليهما. ومعنى الآية: ولو أنّ هؤلاء المنافقين، والمذيعين ردّوا الأمر من الأمن، والخوف إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإلى أولي الأمر، وطلبوا معرفة الحال فيهم من جهتهم؛ لعلموا حقيقة ذلك منهم، وأنّهم أولى بالبحث عنه، فإنّهم أعلم بما ينبغي أن يذاع، أو يكتم. ثمّ في هذه الآية تأديب لمن يحدّث بكلّ ما سمع، وكفى به كذبا، وافتراء، وزورا أن يحدّث الإنسان بما سمع قبل تمحيصه، والتأكّد من صحّته. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمع» . أخرجه مسلم في مقدّمة صحيحه عن أبي هريرة، رضي الله عنه.
وفي مختصر ابن كثير: ولنذكر هاهنا حديث عمر-رضي الله عنه-المتّفق على صحّته حين بلغه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلّق نساءه، فجاء من منزله حتّى دخل المسجد، فوجد النّاس يقولون ذلك، فلم يصبر؛ حتى استأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستفهمه: أطلقت نساءك؟! فقال: «لا!» فقلت:
الله أكبر، وذكر الحديث بطوله. وعند مسلم، فقلت: أطلقتهنّ؟! فقال: «لا!» فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية:{وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ..} . إلخ، فقال-رضي الله عنه: فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. انتهى. وانظر الآية رقم [59] ففيها بحث جيّد. وقد استنبط الإمام عليّ-رضي الله عنه-أنّ أقلّ مدّة الحمل ستة أشهر من آية (البقرة): {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ..} . إلخ، ومن آية (الأحقاف):{وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} .
{وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي: ولولا إحسانه، وكرمه ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن، ورحمته، وعنايته بالتوفيق، والهداية. {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ} أي: زخارفه، ووساوسه، وبقيتم على الكفر، والجهل، والضّلالة. وما كنتم عليه من عبادة الحجارة والأوثان. {إِلاّ قَلِيلاً:} اختلف في هذا الاستثناء وإلى ماذا يرجع؟ فأحسن ما قيل فيه: إنه راجع إلى اتّباع الشيطان، وهو قول الضحّاك، واختاره الزّجاج، ومعلوم: أنّ صرف الاستثناء إلى ما يليه، ويتّصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد. وتقديره: ولولا فضل الله عليكم، ورحمته؛ لاتبعتم الشّيطان إلا قليلا منكم، وهم قوم آمنوا، واهتدوا قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثل: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وقس بن ساعدة الإيادي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. ({إِذا}): انظر الآية رقم [81]. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، ومفعوله. {أَمْرٌ:} فاعله والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المرجوح المشهور. {مِنَ الْأَمْنِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {أَمْرٌ} . {أَوِ الْخَوْفِ:} معطوف على ما قبله. {أَذاعُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. وقيل: الباء زائدة، والضمير مجرور لفظا، منصوب محلاّ على أنّه مفعول به، والأصل: أذاعوه، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محلّ لها. و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ:} انظر إعراب مثله في الآية السابقة. {وَإِلى أُولِي:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكّر السالم، وحذفت النون للإضافة. و {أُولِي} مضاف. و {الْأَمْرِ:} مضاف إليه.
{مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {أُولِي الْأَمْرِ} . {لَعَلِمَهُ:} اللام: واقعة في جواب ({لَوْ}). (علمه): فعل ماض، ومفعوله. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعله، والجملة الفعلية جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها، و ({لَوْ}) ومدخولها معطوف على ({إِذا}) ومدخولها، لا محلّ له مثله. {يَسْتَنْبِطُونَهُ:} مضارع مرفوع، وفاعله ومفعوله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{وَلَوْلا:} الواو: حرف عطف. أو استئناف. ({لَوْلا}): حرف امتناع لوجود. {فَضْلُ:}
مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكُمْ:} جار
ومجرور متعلقان ب {فَضْلُ} . {وَرَحْمَتُهُ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، والخبر محذوف وجوبا، تقديره: موجود، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. {لاتَّبَعْتُمُ:} اللام: واقعة في جواب ({لَوْلا}). (اتبعتم): فعل وفاعل، والجملة الفعلية جواب ({لَوْلا}) لا محلّ لها، و ({لَوْلا}) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محلّ له على الاعتبارين. {إِلاّ:} أداة استثناء. {قَلِيلاً:} منصوب على الاستثناء.
الشرح: نزلت الآية الكريمة في مواعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان موسم بدر الصّغرى، بعد حرب أحد، وذلك في ذي القعدة، فلمّا بلغ الميعاد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، فكرهه بعضهم فأنزل الله الآية. وانظر تفصيل ذلك في الآية رقم [172] من سورة (آل عمران) وما بعدها؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
{فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ} أي: لإعلاء كلمته، ونصر دينه. {لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ} أي: لا تلزم فعل غيرك، ولا تؤاخذ به، بل جاهد في سبيل الله؛ ولو وحدك، فإنّ الله ناصرك بلا جنود، وقد وعدك النصر عليهم، وهو لا يخلف الميعاد. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا إلى بدر الصّغرى، فكفاهم الله القتال، ورجعوا سالمين، وعاتب الله من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على ترك الجهاد، والخروج معه. وفي الآية دليل على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس، وأعلمهم بأمور القتال، ومكايده؛ لأنّ الله تعالى أمره بالقتال، ولو لم يكن أشجع الناس؛ لما أمره بذلك، كيف لا؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:«والله لأقاتلنّهم حتّى تنفرد سالفتي» ؟! وموقفه في غزوة هوازن حينما هرب المسلمون، وثبت في مكانه، وهو يقول:«أنا النّبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» . وقد قال عليّ بن أبي طالب-رضي الله عنه: كنّا إذا اشتدّ البأس؛ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم. كلّ ذلك يشهد بشجاعته صلى الله عليه وسلم.
ولقد اقتدى به الصدّيق-رضي الله عنه-في قتال أهل الردّة من بني حنيفة الّذين منعوا الزّكاة، وارتدّ بعضهم عن الإسلام، فعزم على الخروج إلى قتالهم وحده، فقال: والله لو خالفني يميني؛ لجاهدتهم بشمالي.
{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} يعني: حضّهم على الجهاد، ورغّبهم في الثواب، وليس عليك في شأنهم إلا التّحريض، فحسب، لا التوبيخ، والتعنيف. هذا؛ والحرض: الفساد في البدن، وفي المذهب، وفي العقل، والرجل الفاسد: المريض، ومنه: الهزال بسبب همّ، وغمّ. قال تعالى
حكاية عن قول أولاد يعقوب لأبيهم: {قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ} . والحضّ، والتحريض: الحثّ على الشّيء بكثرة تزيينه، وتسهيله للإنسان. قال الله تعالى في سورة (الأنفال):{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ..} . إلخ.
{عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ..} . إلخ: أي: يكف بطش الكافرين، وشدّتهم، وهم قريش، وقد كفّ الله بأسهم بالرّعب، كما رأيت، فلم يخرجوا، و ({عَسَى}) في الأصل للترجّي، ولكنّها في جانب الله، وكرمه للتّحقيق، والتأكيد، وهي هنا مطمعة، والإطماع من الله عز وجل واجب، على أنّ الطّمع قد جاء في كلام الربّ على الوجوب، ومنه قوله تعالى في سورة (الشعراء) حكاية عن قول إبراهيم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقال ابن مقبل: [الكامل]
ظنّي بهم كعسى وهم بتنوفة
…
يتنازعون جوائز الأمثال
{وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً} أي: صولة، وأعظم سلطانا، وأشدّ انتقاما من أعدائه. {وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً:} عقوبة، وانتقاما، ونكّلت بالرّجل تنكيلا من النّكال، وهو اسم ما يجعل عبرة للغير، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [66]:{فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى في سورة (المائدة) رقم [38]: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ} .
انظر شرح الآيتين في محلهما.
خاتمة: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: إن قال قائل: نحن نرى الكفّار في بأس، وشدّة، وقلتم: إنّ ({عَسَى}) بمعنى اليقين، فأين ذلك الوعد؟ قيل له: قد وجد هذا الوعد، ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدّوام، فمتى وجد؛ ولو لحظة مثلا؛ فقد صدق الوعد، فقد كفّ الله بأس المشركين ببدر الصّغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوا الرّسول صلى الله عليه وسلم من الحرب، والقتال:
{وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} . ومثله ما حصل في غزوة الحديبية، وفي غزوة الأحزاب، وأخرج اليهود من ديارهم، وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم، مع أنّه قد دخل من اليهود والنصارى العدد الكثير والجمّ الغفير تحت الجزية صاغرين، وتركوا المحاربة داخرين، فكفّ الله بأسهم عن المؤمنين. والحمد لله رب العالمين. انتهى بتصرف. وأقول: إنّ الله يكف بأس الكافرين عن المؤمنين، وأمّا المسلمون المنافقون المزيّفون؛ فلا يكفّ عنهم بأس الكافرين.
بعد هذا: في الآية الكريمة حضّ على الجهاد، والقتال في سبيل الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في غزوة بدر، وهو يسوّي الصفوف:«قوموا إلى جنّة عرضها السّماوات والأرض» .
وقد وردت أحاديث كثيرة ترغّب في ذلك، فمن ذلك ما رواه البخاريّ عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آمن بالله ورسوله، وأقام الصّلاة، وآتى الزّكاة، وصام رمضان كان حقّا على الله أن يدخله الجنّة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه الّتي ولد
فيها». قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر النّاس بذلك؟ فقال:«إنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله؛ بين كلّ درجتين كما بين السّماء والأرض. فإذا سألتم الله؛ فاسألوه الفردوس، فإنّه وسط الجنّة، وأعلى الجنّة، وفوق عرش الرّحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنّة» .
الإعراب: {فَقاتِلْ:} الفاء: واقعة في جواب شرط مقدّر، وهي التي تسمّى الفصيحة، وتقدير الكلام: إذا كان الأمر كما ذكر من عدم طاعة المنافقين، وكيدهم، وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام؛ فقاتل أنت وحدك، غير مكترث بما فعلوا. وفي السّمين: أنّه معطوف على قوله: {فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ} . انتهى. جمل. (قاتل): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:
أنت، ومفعوله محذوف؛ إن لم تعتبره لازما. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {لا:} نافية. {تُكَلَّفُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره: أنت. وهو المفعول الأوّل. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَفْسَكَ:} مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{لا تُكَلَّفُ..} . إلخ في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الضمير فقط. {وَحَرِّضِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت.
والجملة معطوفة على جملة: (قاتل
…
) إلخ لا محلّ لها مثلها. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنّون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{عَسَى:} فعل ماض جامد مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو ناقص. {اللهِ:}
اسمه. {أَنْ يَكُفَّ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب خبر ({عَسَى}) وهو يؤوّل باسم الفاعل؛ أي: كافّا؛ لأنّه لا يخبر عن ({عَسَى}) بمصدر إلا بتأويله.
وفاعله يعود إلى (الله). {بَأْسَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:{كَفَرُوا} صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَاللهُ أَشَدُّ:}
مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل:{يَكُفَّ} المستتر، والرابط:
الواو، وإعادة اللفظ الكريم للتفخيم. {بَأْساً:} تمييز. {وَأَشَدُّ:} معطوف على ما قبله.
{تَنْكِيلاً:} تمييز. وجملة: {عَسَى..} . إلخ مفيدة للتعليل لا محلّ لها.
الشرح: (الشفاعة) هي التوسّل، وابتغاء الخير، والذي يكون منه التوسّل يسمّى: الشّفيع.
والشّفاعة الحسنة هي الّتي روعي فيها حقّ مسلم، ودفع بها عنه شرّ، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حدّ من حدود الله، ولا في
حقّ من حقوق العباد. والسّيّئة: ما كانت بخلاف ذلك. وقيل: الشفاعة الحسنة، هي الدعوة للمسلم؛ لأنّها في معنى الشفاعة إلى الله، فعن أم الدّرداء-رضي الله عنها-قالت: حدّثني سيدي: أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دعا الرّجل لأخيه بظهر الغيب قالت الملائكة: ولك بمثل ذلك» . رواه مسلم، وأبو داود.
وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فجاء رجل يسأل، فأقبل علينا بوجهه، وقال:«اشفعوا؛ تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» . متّفق عليه.
هذا؛ و (الكفل): النصيب، قال تعالى في آخر سورة (الحديد):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ..} . إلخ. والشّافع يؤجر فيما يجوز، وإن لم يشفّع؛ لأنّ الله تعالى قال:{مَنْ يَشْفَعْ،} ولم يقل: يشفّع، ورحم الله من قال في الشّكر على المعروف سلفا:[البسيط]
لأشكرنّك معروفا هممت به
…
إنّ اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يجره قدر
…
فالشّيء بالقدر المقدور مصروف
{وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} أي: قادرا مقتدرا، قال الزّبير بن عبد المطلب-ولم يدرك النبوة-:[الوافر]
وذي ضغن نفيت السّوء عنه
…
وكنت على إساءته مقيتا
أي: قديرا، فالمعنى: أنّ الله تعالى يعطي كلّ إنسان قوته، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:«كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقيت» وفي رواية: (من يقوت). رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-وأمّا قول السّموءل بن عادياء اليهودي:[الخفيف]
ألي الفضل أم عليّ إذا حو
…
سبت إنّي على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنّه من غير هذا المعنى المتقدّم، وإنّه بمعنى: الموقوف. هذا؛ وفي الآية الكريمة فن المقابلة، كما في الآية رقم [76] وهذه من المحسّنات البديعيّة، وهي أن يؤتى بمعنيين، أو أكثر، ثمّ يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَشْفَعْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} تقديره: هو. {شَفاعَةً:} مفعول مطلق.
{حَسَنَةً:} صفة: {شَفاعَةً} . {يَكُنْ:} فعل مضارع ناقص جواب الشرط مجزوم. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {يَكُنْ} مقدّم. {نَصِيبٌ:} اسمه مؤخّر. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان ب {نَصِيبٌ} أو بمحذوف صفة له، وجملة:{يَكُنْ..} . إلخ: لا محلّ لها؛ لأنّها
جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، أو «إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، والتي بعدها معطوفة عليها.
وإعرابها مثلها بلا فارق. {وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. (كان): فعل ماض ناقص. {اللهُ:}
اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: (مقيت). و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {مُقِيتاً:}
خبر (كان) والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ:} التحية: تفعلة من: حييت، فالأصل: تحيية، مثل: ترضية، وتسمية: فأدغموا الياء في الياء، والتحيّة: السّلام، وأصل التّحية: الدعاء بالحياة، والتحية:
الملك، قال عمرو بن معدي كرب الزّبيدي:[الوافر]
أؤمّ بها أبا قابوس حتّى
…
أنيخ على تحيّته بجندي
أراد على ملكه، وقال زهير بن جناب الكلبي:[مجزوء الكامل]
ولكلّ ما نال الفتى
…
قد نلته إلاّ التّحيّة
ونقل عن مالك، وأبي حنيفة-رحمهما الله تعالى-أنّهما قالا: المراد ب {حُيِّيتُمْ:} الهبة؛ لقوله تعالى: {أَوْ رُدُّوها} . والصحيح: أنّ التحية هنا السّلام، لقوله تعالى في سورة (المجادلة):{وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ،} وفي كثير من الآيات قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} وعلى هذا جماعة المفسرين، وإذا ثبت، وتقرّر؛ ففقه الآية أن يقال: أجمع العلماء على أنّ الابتداء بالسلام سنة مرغّب فيها، وردّه فريضة لقوله تعالى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} والمعنى: إذا سلم عليكم أحد بسلام؛ فردّوا بأحسن منه، يزيد الراد: وبركاته، وإن قال المسلّم:(السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته) لا يزيد الرادّ شيئا بل يرد هذا الكلام بعينه فقط. قال الله مخبرا عن البيت الكريم في سورة (هود) على نبينا وحبيبنا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ألف صلاة وألف سلام: {رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} . فإن انتهى بالسّلام غايته زدت في ردّك: الواو في أوّل كلامك، فقلت: وعليك السّلام ورحمة الله، وبركاته. والردّ بالمثل أن يقول لمن قال: السّلام عليك: عليك السّلام. إلا أنّه ينبغي أن يكون كلّه بلفظ الجماعة؛ وإن كان المسلّم عليه واحدا، ذكرا كان، أو أنثى، فإنّ معه الملائكة، وكذلك الردّ يكون بلفظ الجمع، وكذلك يرد السّلام بلفظ الجمع لمن قال له: فلان يقرئك السّلام، أو قرأ رسالة فيها لفظ السّلام عليكم؛ لأنّ الكتاب من الغائب كالسّلام من الحاضر. وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه كان يرى ردّ الكتاب واجبا، كما يرى ردّ السّلام.
بقي أن تعرف: أنّه اختلف العلماء في البدء بالسّلام على الكافر، والردّ عليه، فجوز بعضهم ذلك، فقال النّخعي-رحمه الله تعالى-إذا كانت لك حاجة عند يهوديّ، أو نصرانيّ، فابدأه بالسلام. فظهر بذلك: أنّ قول النبي صلى الله عليه وسلم، الّذي رواه أبو هريرة-رضي الله عنه:«لا تبدءوا اليهود والنّصارى بالسّلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق، فاضطرّوهم إلى أضيقه» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدءوهم بالسّلام من قضاء ذمام، أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة، أو جوار أو سفر
…
إلخ.
قال الطبري-رحمه الله تعالى-: وقد روي عن السّلف: أنّهم كانوا يسلّمون على أهل الكتاب. وفعل ابن مسعود-رضي الله عنه-بدهقان صحبه في طريقه، قال علقمة: فقلت له: يا أبا عبد الرحمن أليس يكره أن يبدءوا بالسلام؟ قال: نعم، ولكن حقّ الصحبة. وسئل الأوزاعيّ عن مسلم مرّ بكافر، فسلّم عليه؟ فقال: إن سلمت؛ فقد سلم الصّالحون قبلك، وإن تركت؛ فقد ترك الصّالحون قبلك. انتهى. قرطبي في غير هذا الموضع.
أقول: لم يتعرّض للكلام في الردّ عليهم أحد، وأذكر ما رواه أنس-رضي الله عنه-قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم» . رواه الستّة إلا النّسائي، وهذا يعني: أنّه لا يردّ عليهم السلام كاملا، ولكن في هذا العصر كثر الاختلاط بهم، وتغيّرت الأوضاع، كما هو معروف، ومعلوم، فإذا كان قد أجاز بعض العلماء بدأهم بالسّلام كما رأيت، فردّ السّلام عليهم كاملا؛ فهو جائز بالأحرى، ولا سيّما في هذا العصر الذي ضعفت فيه الرّوحانية الإسلاميّة عند كثير من المسلمين، وكذلك ما أصاب المسلمين من ضعف، وهوان في هذه الأيام، وإن أراد المسلم التبرئة من التّبعة؛ فلينو بالردّ عليهم، والسّلام عليهم الملائكة الّذين يكتبون أعمالهم، وتصرّفاتهم في جميع أحوالهم، وكذلك ينوي المسلمين من الجنّ الذين يكونون قريبا منهم. أقول هذا؛ والله وليّ التوفيق. وأضيف: أنّه لا يردّ عليهم بالرّحمة، والبركة، بل يكتفي بقوله: وعليكم السّلام.
وينبغي أن تعلم لفظ: (السّلام عليكم) تحية الإسلام، لم تعرفها العرب، ولا العالم كلّه، وتحيّة العرب كانت بألفاظ، مثل: أنعم صباحا، أنعم مساء، ونحو ذلك، ويروى: أنّ أبا ذر رضي الله عنه-لمّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: أنعم صباحا، فقال له-صلوات الله وسلامه عليه-:
«إنّ الله قد أبدلني ما هو خير منها» فقال أبو ذرّ: ما هي؟ قال: «السّلام عليكم» . ونهي الرّسول صلى الله عليه وسلم عن التشبّه باليهود، والنّصارى بالسّلام، فقد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منّا من تشبّه بغيرنا، لا تشبّهوا باليهود، ولا بالنّصارى، فإنّ تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وإنّ تسليم النّصارى بالأكفّ» . رواه الترمذيّ، والطبرانيّ. وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «السّلام: اسم من أسماء الله
تعالى وضعه في الأرض، فأفشوه بينكم، فإنّ الرّجل إذا مرّ بقوم، فسلّم عليهم، فردّوا عليه؛ كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إيّاهم، فإن لم يردّوا عليه؛ ردّ عليه من هو خير منهم». رواه الطبرانيّ والبزّار.
الإعراب: {وَإِذا:} انظر الآية رقم [81]. {حُيِّيتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح. {بِتَحِيَّةٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {فَحَيُّوا:} الفاء: واقعة في جواب ({إِذا}).
(حيوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب ({إِذا}) لا محلّ لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {بِأَحْسَنَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجرّ الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للصفة، ووزن أفعل. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان ب (أحسن). {أَوْ:} حرف عطف.
{رُدُّوها:} فعل، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة بأمر على جواب ({إِذا}) لا محلّ لها مثله. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{اللهَ} . {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب {حَسِيباً} و {كُلِّ:} مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {حَسِيباً:} خبر: {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.
الشرح: {اللهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} تقرير للوحدانية؛ لئلا يتوهم: أنّ في الوجود إلها آخر. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: نزلت في الذين شكّوا في البعث، والحشر بعد الموت.
{لَيَجْمَعَنَّكُمْ:} ليحشرنّكم بعد أن يخرجكم من قبوركم. {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ:} هو الذي يخرج الناس فيه من قبورهم للحساب والجزاء، وأصل القيامة: القوامة؛ لأنّها من قام يقوم؛ قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة مثل: الصّيام، والسّياط، ونحوهما. {لا رَيْبَ فِيهِ:} لا شكّ فيه، بل هو متحقق الوقوع، وتقول: رابني هذا الأمر، أي: أوقعني في ريبة، أي: في شكّ، وحقيقة الرّيبة: قلق النفس، واضطرابها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . أخرجه الترمذيّ، والنّسائيّ عن الحسن بن عليّ، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته-رضي الله عنهم. وقد يستعمل الريب في التهمة، قال جميل بن معمر العذري:[الطويل]
بثينة قالت يا جميل أربتني
…
فقلت كلانا يا بثين مريب
واستعمل أيضا في الحاجة، كما قال كعب بن مالك الأنصاري-رضي الله عنه:[الوافر]
قضينا من تهامة كلّ ريب
…
وخير ثمّ أجمعنا السّيوفا
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} أي: لا أحد أصدق من الله في إخباره، ووعده، ووعيده؛ لاستحالة الكذب عليه لقبحه؛ لكونه إخبارا عن الشّيء بخلاف ما هو عليه، فلا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
هذا؛ وقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} أي: للخلق أجمعين، وهذا في الأعيان، ويقال: أجمع الأمر: إذا عزم عليه، والأمر مجمع، ويقال أيضا: اجمع أمرك، ولا تدعه منتشرا. قال تعالى حكاية عن قول فرعون، وأشياعه:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} . ولا يقال: أجمع أعوانه، وشركاءه، وإنّما يقال: جمع أعوانه، وشركاءه، وهذا مبنيّ على قاعدة:«يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان» . هذا هو الأكثر، والمستعمل، وقد يستعمل كلّ واحد مكان الآخر، قال تعالى في سورة (طه):{فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى} والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {لا:} نافية للجنس تعمل عمل: «إنّ» . {إِلهَ:} اسم: {لا} مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر، لا محلّ له. {هُوَ:} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: كونه بدلا من اسم: {لا} على المحلّ؛ إذ محله الرّفع على الابتداء. وثانيها: كونه بدلا من: {لا} وما عملت فيه؛ لأنّها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. وثالثها: كونه بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، وهو الأقوى.
والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. {لَيَجْمَعَنَّكُمْ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم (يجمعنكم):
فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التّوكيد الثقيلة؛ التي هي حرف لا محلّ له، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب القسم المقدّر، والقسم، وجوابه كلام مستأنف لا محلّ له، أو هو في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، انظر آية الكرسي. {إِلى يَوْمِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من كاف الخطاب، التقدير: مفضين. و {يَوْمِ} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {لا:} نافية للجنس.
{رَيْبَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لا} . والجملة الاسمية في محل نصب حال من: {يَوْمِ الْقِيامَةِ} والرابط: الضمير فقط.
وقيل: في محل صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: جمعا لا ريب فيه. والجملة الاسمية:
{اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم استفهام مفيد للنفي مبني على السّكون في محل رفع مبتدأ. {أَصْدَقُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب {حَدِيثاً} أو بمحذوف حال منه، كان صفة، فلمّا قدّم عليه؛ صار حالا. {حَدِيثاً:} تمييز، وانظر الآية رقم [122] فهو مثله.
الشرح: اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية، فقد روى مسلم عن زيد بن ثابت-رضي الله عنه-قال: لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد؛ رجع ناس ممّن خرج معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فئتين، قال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا. فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنّها طيبة، وإنّها تنفي الخبث، كما تنفي النّار خبث الفضّة» . أخرجه البخاريّ، ومسلم. والمعنيّ بالمنافقين هنا عبد الله بن أبيّ، وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا. كما تقدّم في (آل عمران).
وذكر أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه: أنّها نزلت في قوم جاءوا إلى المدينة، وأظهروا الإسلام، فأصابهم وباء المدينة، وحمّاها. فأركسوا، فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فاجتويناها. فقالوا: أما لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة؟! فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة.
{وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا:} ردّهم إلى حكم الكفرة، أو نكسهم بأن صيّرهم إلى النار بسبب عنادهم، ومعاصيهم، وحكى الفرّاء: أركسهم، وركسهم؛ أي: ردّهم إلى الكفر، ونكّسهم، وقال النضر بن شميل، والكسائي: والركس، والنكس: قلب الشيء على رأسه، أو ردّا له على آخره، والمركوس: المنكوس. قال أمية بن أبي الصّلت-الذي آمن شعره، وأبى لسانه-في وصف أهل النّار:[البسيط]
فأركسوا في حميم النّار إنّهم
…
كانوا عصاة وقالوا الإفك والزّورا
{بِما كَسَبُوا} أي: بسبب ما اكتسبوا من الأعمال الخبيثة. وقيل: بما أظهروا من الارتداد بعد أن كانوا على النّفاق.
{أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ:} هذا خطاب للفئة الّتي دافعت عن المنافقين. والمعنى:
أتبتغون أيّها المؤمنون هداية هؤلاء المنافقين الّذين أضلّهم الله عن الهدى. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ} يعني: عن الهدى. {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً:} فلن تجد له طريقا إلى الهداية. وفي هذا ردّ على القدرية، والمعتزلة القائلين بأنّ العبد يخلق هدايته بنفسه، ولا تنس الالتفات من الغائب إلى الحاضر؛ أي: الخطاب.
هذا؛ والإضلال: خلق فعل الضّلال في العبد. والهداية: خلق فعل الاهتداء في العبد. هذا هو الحقيقة عند أهل السنة، وقد يعترض بعض الناس على خلق فعل الضّلال في العبد، فيقول:
إذا لا مؤاخذة على العبد! والجواب: أنّ معنى: خلق
…
إلخ. تقدير ضلاله، وهذا التقدير مبنيّ على علم الله الأزلي بأنّ هذا العبد لو ترك وشأنه؛ لم يختر سوى الكفر، والضلال، ولذا قدّره الله عليه. هذا بالإضافة إلى اختياره الضّلال، بعد أن بيّن الله الخير، والشر، والحسن، والقبيح، كما قال جلّ ذكره، وتعالى شأنه:{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بيّنا له طريق الخير، والشر. وانظر الآية رقم [29] من سورة (الأعراف) فإنّه جيد، والحمد لله!.
الإعراب: {فَما:} الفاء: حرف استئناف. (ما): اسم استفهام إنكاري توبيخي، مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {فِي الْمُنافِقِينَ} جار ومجرور متعلقان ب {فِئَتَيْنِ} أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلمّا قدّم عليه صار حالا على القاعدة المشهورة «نعت النكرة
…
إلخ». {فِئَتَيْنِ:} حال من الضّمير المستكنّ في: {لَكُمْ،} والعامل اسم الاستفهام لما فيه من معنى الفعل. هذا؛ وقد اعتبره الجلال خبر ل:
«صار» محذوفة، ولذا قدّر: ما شأنكم صرتم في المنافقين فئتين، والأوّل أقوى، وانظر الآية رقم [75] والجملة الاسمية: (ما لكم
…
) إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. ({اللهُ}): مبتدأ. {أَرْكَسَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({اللهُ}) والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محلّ لها. {بِما:} جار ومجرور متعلّقان بالفعل قبلهما. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فهي مبنيّة على السّكون في محل جرّ بالباء. {كَسَبُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء كسبوه. وعلى الثّالث تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جر بالباء، التّقدير: بكسبهم.
{أَتُرِيدُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. ({تُرِيدُونَ}): فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {تَهْدُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب مفعول به.
{مَنْ:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أن تهدوا الّذي، أو: شخصا أضلّه الله.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُضْلِلِ:} فعل مضارع فعل الشرط. {اللهُ:} فاعله، والمفعول محذوف؛ إن لم تعتبر اسم الشرط مفعولا مقدّما له، التقدير: يضلله الله. {فَلَنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(لن): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {تَجِدَ:} فعل مضارع منصوب ب (لن) والفاعل مستتر
تقديره: أنت. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {سَبِيلاً} كان صفة له
…
إلخ. {سَبِيلاً:} مفعول به، وجملة:(لن {تَجِدَ..}.) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه. فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب.
وقيل: الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين. والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ..} . إلخ؛ أي: تمنّى، وأحبّ المنافقون أن تكونوا مثلهم في الضّلالة. {فَتَكُونُونَ سَواءً} أي: مثلهم، ومساوين لهم في الكفر، والفساد، والإفساد. {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ..}. إلخ؛ أي: لا توالوهم، ولا تصادقوهم؛ حتّى يؤمنوا الإيمان الكامل، ويحقّقوا إيمانهم بالهجرة، والجهاد في سبيل الله. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الإيمان، والهجرة في سبيل الله.
{فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ..} . إلخ؛ أي: خذوهم أسارى، واقتلوهم إن شئتم في أيّ مكان وجدتموهم في حلّ، أو حرم. {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ..}. إلخ: تأكيد لما قبله، والمعنى: لا تستنصروهم، ولا تستنصحوهم، ولا تستعينوا بهم في أمر من الأمور، ولو بذلوا لكم الولاية، والنّصرة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
هذا؛ والهجرة على أنواع: الأولى: هجرة المؤمنين في أوّل الإسلام من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنورة. الثانية: هجرة من لم يهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله مخلصين محتسبين.
والهجرة الثالثة: هجرة المؤمنين ما نهى الله عنه، فقد قال سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم:
«والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» . وهناك هجرة الظالمين، والفاسدين المفسدين.
هذا؛ و: {سَواءً} مصدر بمعنى الاستواء، فلذا صحّ الإخبار به عن متعدّد. وقيل: هو بمعنى: مستو، وهو لا يثنّى، ولا يجمع. قالوا: هم، وهما سواء، فإذا أرادوا لفظ المثنّى قالوا: سيّان، وإن شئت قلت: سواءان، وفي الجمع: هم أسواء، وهذا كلّه ضعيف، ونادر.
وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان، ومتساوون. هذا؛ ويأتي بمعنى: الوسط، كما في قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [55]:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} . ويأتي بمعنى: العدل، كما في قوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [58]:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ}
{عَلى سَواءٍ} . و {سَواءَ السَّبِيلِ:} ما استقام منه، كما في قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [108]:
{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} وسواء الجبل: ذروته. وسواء الشيء:
غيره. قال الأعشى: [الطويل]
تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي
…
وما عدلت عن أهلها لسوائكا
هذا؛ وانظر الكلام على {حَيْثُ} في كتابنا: «فتح القريب المجيب» .
الإعراب: {وَدُّوا:} ماض، وفاعله، والألف للتّفريق. {لَوْ:} مصدرية تؤوّل مع ما بعدها بمصدر في محلّ نصب مفعول به، التقدير: ودوا كفركم. {تَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والمتعلق محذوف. {كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما):
مصدرية. {كَفَرُوا:} فعل ماض، وفاعله، والألف للتفريق. و (ما) والفعل:{كَفَرُوا} في تأويل مصدر في محل جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير: لو تكفرون كفرا مثل كفرهم، وانظر:{كَخَشْيَةِ اللهِ} في الآية رقم [77]{فَتَكُونُونَ:} فعل مضارع ناقص مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه. {سَواءً:} خبره، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة. (لا): ناهية. {تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَوْلِياءَ} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا. {أَوْلِياءَ:} مفعول به، وجملة:{فَلا تَتَّخِذُوا..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جواب شرط مقدّر ب «إذا» التقدير: إذا كان حالهم ما ذكر؛ فلا تتخذوا
…
إلخ.
{حَتّى:} حرف جر وغاية. {يُهاجِرُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد: {حَتّى} وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع، في تأويل مصدر في محل جر ب {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{فِي سَبِيلِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {تَوَلَّوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله في محل جزم فعل الشرط، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَخُذُوهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (خذوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، والتي بعدها معطوفة عليها. {حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب
متعلق بما قبله. {وَجَدْتُمُوهُمْ:} فعل ماض مبني على السكون، لاتصاله بتاء الفاعل المتحركة، والميم علامة جمع الذكور، وحرّكت بالضم لتحسين اللّفظ، فتولّدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محلّ جرّ بإضافة:{حَيْثُ} إليها. {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً:}
إعرابها مثل إعراب سابقتها، وهي مؤكّدة لها.
الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} إلخ: هذا الاستثناء يرجع إلى القتل، والأخذ، لا الموالاة، فإنّها لا تجوز بحال من الأحوال مع الإصرار على الكفر. والمعنى: إلا الذين يتّصلون، وينتهون إلى قوم قد حصل بينكم وبينهم معاهدة، ومهادنة، فإنّهم داخلون في عهدكم أيضا، واجعلوا حكمهم كحكمهم. واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فقيل: بنو مدلج، فعن الحسن البصري، قال: كان بينهم وبين قريش عقد، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد. وقال عكرمة: نزلت في هلال بن عويمر، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، كان بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد. وفي هذه الآية دليل على إثبات المهادنة، والموادعة بين المسلمين، والمشركين؛ إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين.
{أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ..} . إلخ: هؤلاء قوم آخرون من المستثنيين من الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى مواطن القتال، وهم حصرة صدورهم؛ أي: ضيقة صدورهم، مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم: لا لكم، ولا عليكم. {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ:} يذكر الله منّته على المسلمين بكف بأس المعاهدين، وذلك لما ألقى الرّعب في قلوبهم، وكفّهم عن قتالهم. ومعنى التسليط هنا: تقوية قلوبهم على قتال المسلمين، ولكن قذف الله الرّعب في قلوبهم، وكفّهم عن قتال المسلمين. وتسليط الكافرين على المسلمين: هو أن يقدرهم على ذلك، ويقوّيهم عليهم؛ إمّا عقوبة، ونقمة عند إشاعة المنكرات، وظهور المعاصي، كما قال تعالى في سورة (محمّد صلى الله عليه وسلم:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} وإمّا تمحيصا للذنوب، كما قال تعالى في سورة (آل عمران):{وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} . ولله أن يفعل ما يشاء، ويسلّط من يشاء على من يشاء إذا شاء.
{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ:} فإن لم يتعرّضوا لكم بقتال، وابتعدوا عنكم. {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: انقادوا، واستسلموا، ولم يتعرّضوا لكم بسوء. {فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}
يعني: بالقتل، والقتال. بعد هذا فوجه النظم، واتصال الكلام بما قبله: أي: اقتلوا المنافقين الّذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا، وإلا أن يتّصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون فيما دخلوا فيه، فلهم حكمهم، وإلا الّذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم، أو يقاتلوا قومهم، فدخلوا فيكم؛ لا تقتلوهم.
تنبيه: ما ورد في الآية الكريمة منسوخ بآية السيف الآمرة بقتالهم، سواء قاتلوا، أو لم يقاتلوا، وسواء التجئوا إلى المعاهدة، أو لا، وذلك لأنّ الله لمّا أعزّ الإسلام وأهله؛ أمر أن لا يقبل الرّسول صلى الله عليه وسلم من مشركي العرب إلا الإسلام، أو القتل، بل ولا يقبل منهم جزية. وقيل:
المراد بالّذين حصرت صدورهم: الجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين مكرهين، كالعبّاس-رضي الله عنه-ولهذا نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس، وأمر بأسره.
الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من الضمير المنصوب في قوله: (خذوهم {وَاقْتُلُوهُمْ}). {يَصِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِلى قَوْمٍ:} متعلقان بما قبلهما. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدّم، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَبَيْنَهُمْ:} ظرف مكان معطوف على سابقه، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِيثاقٌ:} مبتدأ، مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة {قَوْمٍ}. {أَوْ:} حرف عطف. {جاؤُكُمْ:} ماض وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصّلة، لا محلّ لها مثلها. {حَصِرَتْ:}
فعل ماض، والتاء للتأنيث. {صُدُورُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير «قد» قبلها.
وقيل: لا محلّ لها، وهي دعاء عليهم. وقيل غير ذلك، والمعتمد الحالية، ويؤيّده قراءة:
(«حصرة صدورهم»)، و (حصرات صدورهم). {أَنْ:} حرف مصدر، ونصب. {يُقاتِلُوكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: عن قتالكم، وعن قتال قومهم، أو المصدر في محل جرّ بإضافة مفعول لأجله محذوف، التقدير: كراهة قتالكم، وقتال قومهم.
{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {شاءَ اللهُ:}
ماض، وفاعله، ومفعوله محذوف، تقديره: شاء الله تسليطهم عليكم. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {لَسَلَّطَهُمْ:} اللام: واقعة في جواب ({لَوْ}). (سلطهم): فعل ماض، والهاء مفعوله، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والجملة الفعلية جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها، و ({لَوْ}) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:(لقاتلوكم): معطوفة على جواب ({لَوْ}) لا محلّ لها مثلها.
{فَإِنِ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {اِعْتَزَلُوكُمْ:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَلَمْ:} الفاء: حرف عطف.
(لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُقاتِلُوكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَأَلْقَوْا:} الواو: حرف عطف. ({أَلْقَوْا}): فعل ماض مبني على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع الواو التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {إِلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{السَّلَمَ:} مفعول به. {فَما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (ما): نافية. {جَعَلَ اللهُ:}
ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {سَبِيلاً} كان صفة له
…
إلخ. {سَبِيلاً:} مفعول به.
الشرح: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ..} . إلخ: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: هم بنو أسد، وغطفان، كانوا من حاضري المدينة، فتكلّموا بكلمة الإسلام رياء؛ وهم غير مؤمنين، وكان الرّجل منهم يقول له قومه: بماذا آمنت؟ يقول: آمنت بهذا القرد، والعقرب، والخنفساء. وإذا لقوا المسلمين؛ قالوا: إنا على دينكم، يريدون الأمن من الفريقين. وفي رواية أخرى عن ابن عباس: أنّها نزلت في بني عبد الدار، وكانوا بهذه الصّفة. وهذه رواية ضعيفة؛ لأنّ بني عبد الدار كانوا مقيمين في مكّة المكرمة، ولما آمنوا يوم الفتح؛ لم يظهر منهم نفاق. وانظر الآيات التي ذكرها الله في صدر سورة (البقرة) عن المنافقين، وأقوالهم، وأفعالهم، وخداعهم.
{كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ:} كلّما دعوا إلى الشّرك. {أُرْكِسُوا فِيها:} رجعوا إلى الشرك، وانقادوا إليه منكوسين على رءوسهم. وانظر {أَرْكَسَهُمْ} في الآية رقم [88]. {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} يعني: فإن لم يكفّوا عن إيذائكم، ويبتعدوا عنكم. {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: ينقادوا إليكم ظاهرا، وباطنا، ويخضعوا لأحكام دينكم، وشريعتكم. {وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} أي: عن قتالكم، وإيذائكم. {فَخُذُوهُمْ} أي: أسرى. {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ:} حيث وجدتموهم، وتمكّنتم منهم. ومثله في سورة (البقرة) رقم [190]. هذا؛ والثّقف في الأصل: الحذق في إدراك الشيء
علما كان، أو عملا، فهو يتضمّن معنى الغلبة، يقال: ثقف، يثقف ثقفا. ويقال: رجل ثقف لقف أي: خفيف حاذق، إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور، فالفعل من باب ظرف، يظرف، ويأتي من باب طرب. قال الشّاعر:[الوافر]
فإمّا تثقفوني فاقتلوني
…
فمن أثقف فليس إلى خلود
{وَأُولئِكُمْ:} الإشارة إلى المنافقين المخادعين. {جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً:} حجة واضحة لظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر، والغدر، وإضرارهم بالمسلمين، أو تسلطا ظاهرا؛ حيث أذنّا لكم في قتلهم. هذا؛ و (سلطان): تسلّط، وولاية، ويأتي بمعنى الحجّة، والبرهان كما هنا، وكما في قوله تعالى:{وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} . ويأتي بمعنى الكتاب، قال تعالى في سورة (الرّوم) رقم [35]:{أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} . وقال بعض المحقّقين: سمّيت الحجّة سلطانا؛ لأنّ صاحب الحجّة يقهر من لا حجّة له، كالسّلطان يقهر غيره بقوّته. وقال الزجّاج: السّلطان: هو الحجّة، وسمّي السلطان سلطانا؛ لأنّه حجّة الله في أرضه. ولا تنس ما قاله عثمان-رضي الله عنه:«إنّ الله ليزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن» . أي: يكفّ عن المعاصي، ويروّع. وجمعه بمعنى الحاكم:
سلاطين، ولا يجمع إذا كان بمعنى الحجّة، والبرهان. هذا؛ وزعم الفرّاء: أنّ العرب تؤنّث السّلطان، فتقول: قضت به عليك السّلطان، أمّا البصريّون؛ فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن الكريم، والتأنيث عندهم جائز؛ لأنّه بمعنى الحجّة. هذا؛ والسّلطان: ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرا يستوجب به عقوبة، كما قال تعالى حكاية عن قول سليمان-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-في حقّ الهدهد:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} رقم [21] من سورة (النّمل).
هذا؛ و ({مُبِينٍ}) اسم فاعل من: أبان الرّباعي، أصله: مبين، بسكون الباء، وكسر الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الباء بعد سلب سكونها؛ لأنّ الحرف الصّحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، ولا تنس: أنّ اسم الفاعل من: بان الثلاثي، بائن، أصله: باين، فقلبت الياء ألفا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ولم يعتدّ بالألف الزائدة؛ لأنّها حاجز غير حصين، فالتقى ساكنان: الألف الزائدة، والألف المنقلبة، فأبدلت الثانية همزة، فصار: بائن، وقل مثله في إعلال: قائل، وقائم.
هذا؛ وقال مكيّ بن أبي طالب القيسيّ-رحمه الله تعالى-في التركيب: {فَإِنْ لَمْ:} دخلت (إن) على: {لَمْ} ليرتدّ الفعل إلى أصله في لفظه، وهو الاستقبال؛ لأنّ ({لَمْ}) تردّ لفظ المستقبل إلى معنى المضي، و ({أَنْ}) تردّ الماضي إلى معنى الاستقبال، فلمّا صارت {لَمْ} ولفظ المستقبل بعدها بمعنى الماضي؛ ردّتها ({أَنْ}) إلى الاستقبال؛ لأنّ ({أَنْ}) تردّ الماضي إلى معنى الاستقبال في غير هذا الموضع.
الإعراب: {سَتَجِدُونَ:} السين: حرف تنفيس، واستقبال، وهو مفيد للتّحقيق هنا.
(تجدون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {آخَرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {يُرِيدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {أَنْ:}
حرف مصدري، ونصب. {يَأْمَنُوكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والمصدر المؤوّل من:{أَنْ} والفعل بعدها في محل نصب مفعول به، وجملة:{يُرِيدُونَ..} . إلخ في محل نصب صفة:
{آخَرِينَ} وإذا اعتبرنا {آخَرِينَ} صفة لموصوف محذوف، التقدير: قوما آخرين، فجملة:
{يُرِيدُونَ..} . إلخ تصلح لأنّ تكون صفة ثانية لهذا المحذوف، ولأن تكون حالا منه لوصفه ب {آخَرِينَ}. {وَيَأْمَنُوا:} فعل مضارع معطوف على ما قبله منصوب مثله، ومؤوّل مثله بمصدر.
{قَوْمَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{سَتَجِدُونَ..} . إلخ مستأنفة.
{كُلَّما:} انظر الآية رقم [56]. {رُدُّوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل {رُدُّوا} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت رد، وهذا التقدير وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل). {إِلَى الْفِتْنَةِ:} متعلقان بما قبلهما. {أُرْكِسُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب:{كُلَّما} لا محلّ لها.
{فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَعْتَزِلُوكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وهو فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، والفعلان:({يُلْقُوا}) و ({يَكُفُّوا}) معطوفان على فعل الشرط مجزومان مثله. {إِلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {أَيْدِيَهُمْ:}
مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {فَخُذُوهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(خذوهم): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وجملة:{وَاقْتُلُوهُمْ} معطوفة على ما قبلها. {حَيْثُ:} ظرف مكان مبني على الضم في محل نصب متعلّق بما قبله. {ثَقِفْتُمُوهُمْ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله، والميم علامة جمع الذكور، وحرّكت بالضم لتحسين اللّفظ، فتولّدت واو الإشباع، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{حَيْثُ} إليها، و (إن) ومدخولها كلام مفرّع عمّا قبله، ومستأنف لا محلّ له.
{وَأُولئِكُمْ:} الواو: حرف استئناف. ({أُولئِكُمْ}): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف: حرف خطاب لا محلّ له. {جَعَلْنا:} فعل وفاعل. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الأول. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما أيضا، ويجوز اعتبارهما متعلّقين بمحذوف حال من:{سُلْطاناً} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا، على القاعدة
…
إلخ {سُلْطاناً:} مفعول به. {مُبِيناً:} صفة له، وجملة:{جَعَلْنا..} .
إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:({أُولئِكُمْ..}.) إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: نزلت الآية الكريمة في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك: أنّه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمكّة قبل الهجرة، فأسلم، ثمّ خاف أن يظهر إسلامه لأهله، فخرج هاربا إلى المدينة، وتحصّن في أطم من آطامها. والأطم: الحصن، فجزعت أمّه لذلك جزعا شديدا، وقالت لابنيها: الحارث، وأبي جهل، وهما أخوا عيّاش لأمّه: والله لا يظلّني سقف، ولا أذوق طعاما، ولا شرابا حتى تأتياني به، فخرجا في طلبه، وخرج معهما الحارث بن زيد بن أنيسة، حتّى أتوا المدينة، فأتوا عياشا، وهو في الأطم، فقالوا له: انزل، فإنّ أمّك لم يؤوها سقف بعدك، وقد حلفت لا تأكل، ولا تشرب حتّى ترجع إليها، ولك عهد الله علينا ألا نكرهك على شيء يحول بينك وبين دينك! فلمّا ذكروا له جزع أمه، وأوثقوا له العهد بالله نزل إليهم.
فأخرجوه من المدينة، وأوثقوه بنسعة، وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة، ثم قدموا به على أمّه، فلمّا أتاها؛ قالت: لا أحلك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به! ثمّ تركوه موثقا في الشّمس ما شاء الله، فأعطاهم الّذي أرادوا، فأتاه الحارث بن زيد، فقال: يا عياش! أهذا الذي كنت عليه؛ لئن كان هدى؛ لقد تركت الهدى، ولئن كان ضلالة؛ لقد عكفت عليها، فغضب عيّاش-رضي الله عنه-من مقالته، وقال: والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك! ثمّ إنّ عيّاشا-رضي الله عنه-رجع إلى إسلامه، وهاجر، وأسلم الحارث بن زيد أيضا، وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعلم عيّاش بإسلامه، فبينما عياش-رضي الله عنه-يسير بظهر قباء؛ إذ لقي الحارث، فقتله، فقال له الناس:
ويحك يا عياش! أيّ شيء فعلت؟ إنّه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
يا رسول الله! إنّه كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، وإنّي لم أشعر بإسلامه؛ حتّى قتلته، فنزل قوله تعالى:{وَما كانَ..} . إلخ. وفي مختصر ابن كثير: أنّ عياشا-رضي الله عنه قتل الحارث يوم فتح مكّة.
{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ:} ما صحّ له، ولا استقام، وما ينبغي. والتعبير بهذين اللفظين ونحوهما معناه: الحظر، والمنع، فيجيء لحظر الشيء، والحكم بأنّه لا يجوز، كما في هذه الآية، ومثلها كثير، وربما كان امتناع ذلك الشّيء عقلا، كقوله تعالى في سورة (النّمل):{ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} . وربما كان العلم بامتناعه شرعا، كما في قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [79]، وقوله تعالى في سورة (الشّورى) رقم [51]:{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاّ وَحْياً..} . إلخ. وربما كان في المندوبات، كما تقول على سبيل التوبيخ: ما كان لك يا فلان أن تترك صلاة الصبح، والعشاء في الجماعة، ونحو ذلك. {أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} أي: عمدا بدون موجب لقتله. {إِلاّ خَطَأً} أي: في حال خطئه.
هذا؛ وقيل: الخطأ على أنواع: منها: أن يقصد الإنسان شيئا، كعصفور مثلا، فيصيب إنسانا، لا يقصد قتله. ومنها: أن يرمي كافرا، فيصيب مسلما. ومنها: أن يرمي شخصا يظنّه كافرا، فإذا هو مسلم، كالذي فعله عياش-رضي الله عنه. ومنها: أن يقتل صبيّ كبيرا. وألحق بعضهم بها شبه العمد، وهو أن يضربه بما لا يقتل غالبا. ومنها: نوم الأم على ولدها حتّى يموت، وهي لا تعلم بذلك، وحوادث السّيارات في هذه الأيام تعدّ من القتل خطأ
(1)
.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} أي: في أيّ نوع من الأنواع المذكورة: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ..} . إلخ: أي: يجب على الذي يقتل مؤمنا خطأ أن يعتق عبدا مؤمنا كفارة لما فعل، وذلك بعد دفع الدّية لأولياء القتيل. هذا؛ والتّحرير: الإعتاق، وعبّر بالرّقبة عن الإنسان من إطلاق الجزء على الكلّ، وانظر شرح (أهل) في الآية رقم [58].
{إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي: يعفو ورثة القتيل عن الدّية، أو عن بعضها، وانظر الآية رقم [178] من (سورة (البقرة)). هذا؛ والدّية على العاقلة
(2)
، أي: على أقرباء القاتل، وأمّا الكفارة فهي على القاتل نفسه. هذا؛ وتقسم دية القتيل على ورثته، كما تقسم أمواله، فقد ورّث النّبيّ صلى الله عليه وسلم
1) أقول: إن لم يكن السّائق قد خالف أنظمة المرور المعدّة للسلامة العامة، ويكون القتل في مثل هذا الحال شبه عمد لا خطأ.
2) الدّية في قتل الخطأ على العاقلة، أمّا في قتل شبه العمد فعلى القاتل نفسه مغلظة، وذلك عند بعض الفقهاء، وهو المرجّح. والله أعلم.
امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها-أي: ديته-و {يَصَّدَّقُوا} أصله: يتصدقوا، فقلبت التاء صادا، وأدغمت الصّاد في الصّاد.
هذا؛ وقد سمّى الله العفو عن الدّية، أو عن بعضها صدقة؛ حثّا عليه، وتنبيها على فضله.
هذا؛ والدّية: ما يجري عليها الاتفاق في العملة النّقدية المتداولة في كل قطر من أقطار الدّنيا، ولا يلتفت لمن يتبجّح، ويذكر أنّ الدية مائة جمل، فإنّه لا وجود لمائة جمل في هذه الأيام، ويضرب بفتواه عرض الحائط.
{فَإِنْ كانَ} أي: القتيل خطأ. {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ..} . إلخ: وهم كفرة، والمقتول مؤمن؛ فيجب على القاتل إعتاق عبد مؤمن، وهذا يحصل ويكون بإسلام حربيّ في بلاده، ولم يهاجر إلينا. فقتله مسلم خطأ، أي: لا يعرف إيمانه، فيجب فيه الكفارة بقتله للعصمة المؤثّمة، وهي الإسلام، ولا تجب الدّية؛ لأنّ العصمة المقومة بدخول دار المسلمين، ولم توجد. وسقطت الدية لوجهين: أحدهما: أنّ أولياء القتيل كفّار، فلا يصحّ أن تدفع إليهم الدّية، فيتقووا بها علينا. والثاني: أنّ حرمة هذا الذي آمن، ولم يهاجر قليلة، فلا دية له، لقوله تعالى في سورة (الأنفال) رقم [72]:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتّى يُهاجِرُوا} . ومن القتل الخطأ ما تراه في الآية رقم [94] الآتية وقصّة أسامة-رضي الله عنه-فيها.
{وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} أي: وإن كان المقتول ذمّيّا؛ أي: معاهدا، أو داخلا بأمان؛ فحكمه حكم المسلم في دفع الدية لورثته، والكفّارة. قاله ابن عباس، والشّعبيّ، والنّخعي، والشّافعيّ، واختاره الطبريّ، وأجمع العلماء على أنّ دية المرأة على النّصف من دية الرجل، من أجل أن لها نصف ميراث الرّجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا إنّما هو في دية الخطأ. وأمّا العمد؛ ففيه القصاص بين الرّجال، والنساء. انظر الآية رقم [178] من سورة (البقرة).
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} أي: لم يجد الرقبة، وهي في هذه الأيام مفقودة حسّا، وشرعا، {فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ} أي: فعليه، أو: فالواجب صيام شهرين متتابعين، فلو أفطر يوما في آخر الشهرين بغير عذر شرعيّ؛ استأنف الصيام. {تَوْبَةً مِنَ اللهِ} أي: قبولا من الله، ورحمة منه، أي: حيث خفّف بدفع الدية، ولم يشدّد عليكم بالقصاص. أو المعنى: جعل الله ذلك مغفرة لقاتل الخطأ، وإنّما مسّت حاجة المخطئ إلى التّوبة، والمغفرة؛ لأنّه لم يتحرّز، وكان من حقّه أن يتحفّظ، ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة):{عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ} .
{وَكانَ اللهُ:} ولا يزال في أزله، وأبده. {عَلِيماً:} بجميع المعلومات، وأمور العباد:
سرّها، وجهرها. {حَكِيماً:} فيما قضى، وحكم، وأوجب، وأبرم.
تنبيه: من وجبت عليه كفارة القتل، وعجز عن الصّوم؛ فهل ينتقل عنه إلى الإطعام، فيطعم ستين مسكينا؟ ففيه قولان: أحدهما: أنّه ينتقل إلى الإطعام، كما في كفارة الظّهار، والوطء في رمضان. والثاني: أنّه لا ينتقل؛ لأنّ الله تعالى لم يذكر له بدلا، فقال:{فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ} فنصّ على الصّوم، وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ، والله أعلم. انتهى خازن، وقرطبي.
أقول: وإذا انتقل إلى الإطعام، وهو الأولى؛ فليفهم معنى الإطعام، وقوله تعالى في كفارة اليمين في سورة المائدة:{مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} رقم [89]، ولا يأخذ بقول من يفتي بإعطاء المسكين مدّ قمح، فيعتبر المسكين حمامة، أو دجاجة، وقال تعالى:{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} فأين مدّ القمح في هذه الأيام من كسوة المسكين؟ فليتّق أولئك المشايخ الله، وليعملوا بنصّ الآيات القرآنية الصّريحة الواضحة.
بعد هذا و (دية) أصله: ودي؛ لأنّه من ودى يدي، فحذفت فاء المصدر، وعوض عنه التاء في الآخر، مثل: زنة، وعدة، و «عدو» ضدّ الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل:
صبور، وشكور. وما كان على هذا الوزن يستوي فيه المذكر، والمؤنث، والمفرد والمثنّى، والجمع، إلا لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا: هذه عدوة الله، قال تعالى:{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} الآية رقم [6] من سورة (فاطر) فقد عبّر به، عن مفرد، وفي هذه الآية عبّر به عن جمع، ومثل ذلك: صديق، أي: في إتيانه لفظ واحد للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وجمع عدو: أعداء، وأعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع، وفي القاموس المحيط: والعدا بالضمّ، والكسر: اسم الجمع. هذا؛ وسمّي العدو عدوا؛ لعدوه عليك عند أول فرصة تسنح له للإيقاع بك، والقضاء عليك، كما سمّي الصديق صديقا؛ لصدقه فيما يدّعيه لك من الألفة، والمحبّة، والمودّة.
أمّا «قوم» فإنّه اسم جمع، لا واحد له من لفظه، مثل: نفر، ورهط، ومعشر، فإنّ المفرد لهذه الأسماء: رجل، وجمعها: أقوام، وأنفار، وأراهط. هذا؛ و «قوم» يطلق على الرجال دون النساء، بدليل قوله تعالى في سورة (الحجرات):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ،} وقال زهير بن أبي سلمى: وهو الشاهد رقم [55] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الوافر]
وما أدري-وسوف إخال أدري-
…
أقوم آل حصن أم نساء
وربما دخل فيه النساء على سبيل التّبع للرّجال، كما في إرسال الرّسل لأقوامهم؛ إذ إنّ كلّ لفظ:(يا قوم) في القرآن الكريم، إنّما يراد به الرّجال، والنّساء جميعا، كما في هذه الآية الكريمة، وهو يذكّر، ويؤنث، قال تعالى في غير ما آية:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وتأنيثه باعتبار
المعنى، وهم أنّهم أمة، وطائفة، وجماعة، وسمّوا: قوما؛ لأنّهم يقومون مع داعيهم بالشّدائد، والمتاعب، إما بالمعاونة على كشفها، وإما بالمضايقة، والإيذاء؛ إن عارضوه، وهذا حال أعداء الخير، والإصلاح في كلّ زمان، ومكان.
هذا؛ وأمّا (صيام) ففعل المادة واويّ: صام، يصوم، ومصدره: صوم، وصيام، وقد قلبت الواو ياء في الثاني لمناسبة الكسرة، ومثله: قيام مصدر: قام: يقوم، فقد ذكر السّيوطي-رحمه الله تعالى-في كتابه:«همع الهوامع» في باب الإبدال ما يلي: تبدل الياء بعد كسرة من واو، هي عين مصدر لفعل معتل العين، موزون بفعال نحو: قام قياما، وعاد، عيادا، بخلاف عين غير المصدر كصوان وسواك، والمصدر المفتوح أوله، كرواج، أو المضموم، كقوار، أو المكسور أوله، الذي لم تعلّ عين فعله، ك «لاوذ، لواذا، وعاد، عوادا» أو الموزون، بفعل كالحول، وتبدل أيضا بعد كسرة من واو، هي جمع لواحد ساكن العين، أو معتلها، صحيح اللام موزون بفعال، كثوب، وثياب، وحوض، وحياض، ودار، وديار، وريح، ورياح، بخلاف عين المفرد.
انتهى.
وأمّا «الشهر» ففيه لأهل اللغة قولان: أشهرها: أنّه اسم لمدة الزّمان الذي يكون مبدؤها الهلال ظاهرا إلى أن يستتر، سمّي بذلك؛ لشهرته في حاجة النّاس إليه في المعاملات، وغيرها.
والثاني قاله الزجّاج: أنّه اسم للهلال نفسه، ويجمع على: أشهر، وشهور.
الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص.
{لِمُؤْمِنٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {أَنْ يَقْتُلَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} والمصدر المؤوّل منهما في محلّ رفع اسم: {كانَ} مؤخر. هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} تامة، فالمصدر يكون فاعلا بها، والجار والمجرور متعلقان بها. {مُؤْمِناً:} مفعول به. {إِلاّ:} حرف حصر. {خَطَأً:} حال من فاعل: {يَقْتُلَ} المستتر بمعنى: مخطئا، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا قتلا خطأ. وقال مكيّ-رحمه الله تعالى-: استثناء منقطع، وقال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: مفعول لأجله، وجملة:{وَما كانَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{وَمَنْ:} الواو حرف عطف، أو استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، {قَتَلَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محلّ جزم فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» . {مُؤْمِناً:} مفعول به. {خَطَأً:} صفة مفعول مطلق، أو حال من الفاعل المستتر. {فَتَحْرِيرُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (تحرير): مبتدأ خبره محذوف، التقدير:
فعليه تحرير، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب تحرير. و (تحرير) مضاف، و {رَقَبَةٍ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {مُؤْمِنَةٍ:} صفة رقبة،
والجملة الاسمية في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته لك مرارا. هذا؛ وإن اعتبرت (من) اسما موصولا، فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية: فعليه، أو: فالواجب تحرير رقبة في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على الخبر؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، والجملة الاسمية على الاعتبارين لا محلّ لها، إن اعتبرتها مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها. {وَدِيَةٌ:} معطوف على: (تحرير). {مُسَلَّمَةٌ:} صفة: (دية). {إِلى أَهْلِهِ:} متعلقان ب (مسلمة)، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {أَنْ يَصَّدَّقُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل منهما في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال؛ أي: عليه ما ذكر في كلّ حال إلا في حال تصدّق أهل القتيل، فلا يجب شيء. وقال مكي: استثناء منقطع؛ لأنّه ليس من جنس ما قبله. وقيل: المصدر المؤول في محلّ جرّ بإضافة «حين» إليه محذوفة، التقدير: إلا حين تصدقهم على القاتل، و «حين» على هذا متعلّقة ب {مُسَلَّمَةٌ} .
{فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع واستئناف. (إن): حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر يعود إلى القتيل. {مِنْ قَوْمٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} . {عَدُوٍّ:} صفة {قَوْمٍ} . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {عَدُوٍّ} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. ({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {مُؤْمِنٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من اسم كان المستتر، والرابط الواو والضمير، وإن اعتبرتها معترضة؛ فلا محلّ لها، وجملة:{فَتَحْرِيرُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط. وإعرابها مثل إعراب سابقتها بلا فارق، و (إن) ومدخولها كلام مفرّع عمّا قبله مستأنف لا محلّ له.
{وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ:} إعرابه مثل إعراب سابقه. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدّم، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَهُمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِيثاقٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جر صفة:{قَوْمٍ} .
هذا؛ وإن اعتبرت الظرف (بين) متعلقا بمحذوف صفة: {قَوْمٍ،} و {مِيثاقٌ} فاعلا بمتعلقه، فهو وجه صحيح لا غبار عليه. {فَدِيَةٌ..}. إلخ: إعرابه مثل إعراب سابقه بلا فارق مع ملاحظة التقديم والتأخير في الكلمات. و (إن) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله.
{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَجِدْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} وهو فعل
الشرط، والفاعل يعود إلى (من) والمفعول محذوف، التقدير: فعليه صيام، أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فالواجب صيام، والجملة في محلّ جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) على اعتباره شرطا، أو موصولا تقدّم مثله آنفا، و (صيام) مضاف، و {شَهْرَيْنِ:}
مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مُتَتابِعَيْنِ:} صفة: {شَهْرَيْنِ،} والجملة الاسمية: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ..} .
إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{تَوْبَةً:} حال من القاتل المكفّر عن فعله، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير:
فليتب توبة. وقال أبو البقاء، ومكيّ: مفعول لأجله. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب {تَوْبَةً} أو بمحذوف صفة لها، وجملة:{وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: نزلت الآية الكريمة في مقيس بن ضبابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشاما قتيلا في محلّة بني النجار، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فكتب له إليهم يقول: إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة؛ فادفعوه إلى أخيه مقيسة ليقتصّ منه، وإن لم تعلموه؛ فادفعوا إليه دية أخيه، وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل مع مقيس رجلا من بني فهر، فقال بنو النجار: سمعا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم قاتلا، ولكنّا نؤدي إليه دية أخيه، فأعطوه مائة من الإبل، وانصرف مقيس، والفهري راجعين نحو المدينة، فأتى الشيطان مقيسا، فوسوس إليه، فقال له:
تقبل دية أخيك لتكون عليك سبّة، اقتل الفهري الذي معك، فتكون نفس مكان نفس، وفضل الدية لك، فتغفل الفهري، فرماه بصخرة فقتله، ثم ركب بعيرا، وساق بقيتها راجعا إلى مكّة كافرا، وقال في ذلك:[الطويل]
قتلت به فهرا وحمّلت عقله
…
سراة بني النّجار أرباب فارع
حللت به وترى وأدركت ثورتي
…
وكنت إلى الأصنام أوّل راجع
فارع: حصن بالمدينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أؤمّنه في حلّ ولا حرم» وأمر بقتله يوم فتح مكة، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
هذا؛ والقتل ثلاثة أنواع: قتل الخطأ، وقد ذكر في الآية السابقة، وقتل شبه العمد، وهو متردّد متوسّط بين الخطأ والعمد، فالضرب مقصود والقتل غير مقصود به، فيسقط القود، وتغلّظ الدية، وتلزم الكفارة، وبمثل ذلك جاءت السنّة المطهّرة. فقد روى أبو داود من حديث عبد الله بن
عمرو-رضي الله عنهما-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إنّ دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسّوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» . وروى الدارقطني عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمّية بحجر، أو عصا، أو سوط، فهو دية مغلّظة في أسنان الإبل» . وروى أيضا من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عقل شبه العمد مغلّظ مثل العمد، ولا يقتل صاحبه» . وقال الإمام أحمد: العمّيّ: هو الأمر الأعمى للعصبية لا تستبين ما وجهه.
أمّا العمد بأن يقصد قتله بما يقتل غالبا، عالما بإيمانه، فيجب فيه القود، والكفارة في ماله على المتعمّد، وكان مالك، والشافعي-رضي الله عنهما-يريان على قاتل العمد الكفارة، كما في الخطأ، قال الشّافعي-رضي الله عنه: إذا وجبت الكفارة في الخطأ؛ فلأن تجب في العمد أولى، وقال: إذا شرع السّجود في السهو؛ فلأن يشرع في العمد أولى. وقيل: إنّ القاتل عمدا، إنّما تجب عليه الكفارة إذا عفي عنه فلم يقتل، فأمّا إذا قتل فلا تؤخذ من ماله، ومن قتل نفسه فعليه الكفارة في ماله، أقول: وهذا يحملنا حينئذ على الانتقال من الصّيام إلى الإطعام؛ لأنّ من قتل قودا، أو قتل نفسه تعذّر صيامه. وقد احتجّ من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
عن واثلة بن الأسقع-رضي الله عنه-قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم، فقالوا: إنّ صاحبا لنا قد أوجب: (أي: فعل فعلا يوجب له النار) فقال صلى الله عليه وسلم: «فليعتق رقبة يفدي الله بكلّ عضو منها عضوا منه من النّار» .
هذا واختلفوا في الجماعة يقتلون الرّجل خطأ، أو عمدا، أو شبه عمد، فقالت طائفة: على كلّ واحد منهم الكفارة، كذلك قال الحسن، وعكرمة، والنّخعي، والحارث العكلي، ومالك، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وقالت طائفة: عليهم كلّهم كفارة واحدة، ويتصوّر قتل الجماعة رجلا خطأ في الجماعة يرمون بالمنجنيق، فيقتلون رجلا، وأقول: لم يذكر أحد الواحد يقتل الجماعة خطأ، كما يقع في حوادث السّيارات في هذه الأيام، فأقول وبالله التوفيق: إنّه يجب كفارة لكلّ واحد، كما تجب دية لكلّ واحد.
بعد ما تقدّم فالآية الكريمة تذكر: أنّ جزاء قاتل غيره عمدا الخلود في جهنّم، وغضب الله عليه، ولعنة الله عليه، والعذاب العظيم المعدّ له يوم القيامة. وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذّنب العظيم، الذي هو مقرون بالشّرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، وأمّا الأحاديث الشّريفة في تحريم القتل؛ فكثيرة جدّا، فمن ذلك ما يلي:
عن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل ما يقضى بين النّاس يوم القيامة في الدّماء» . رواه الستّة إلا أبا داود.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السّبع الموبقات» قيل:
يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: «الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلاّ بالحقّ، وأكل مال اليتيم، وأكل الرّبا، والتّولّي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» .
رواه البخاريّ، ومسلم، وغيرهما.
وعن البراء بن عازب-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدّنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حقّ» . رواه ابن ماجة. وزاد الأصبهاني فيه: «ولو أنّ أهل سماواته، وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن؛ لأدخلهم الله النّار» .
وروى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول:«ما أطيبك، وما أطيب ريحك، ما أعظمك، وما أعظم حرمتك، والّذي نفس محمّد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك، ماله، ودمه» .
وعن أبي سعيد، وأبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو أنّ أهل السّماوات وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبّهم الله في النّار» . رواه الترمذيّ.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة؛ لقي الله مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة الله» . رواه ابن ماجة، والأصبهاني.
وعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنّة
(1)
، وإنّ ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما». رواه البخاري، وغيره.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل، فقتل نفسه فهو في نار جهنّم يتردّى فيها خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا، فقتل نفسه، فسمّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنّم خالدا مخلّدا فيها أبدا» . رواه الشيخان.
بعد هذا فهل لقاتل المؤمن عمدا توبة؟ فيه خلاف. والمعتمد: أنّ له توبة، وهو ما عليه الجمهور من سلف الأمة، وخلفها: أنّ القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، فإن تاب، وأناب، وخشع، وخضع، وعمل صالحا بدّل الله سيئاته حسنات، وعوّض المقتول من ظلامته، وأرضاه عن ظلامته، قال تعالى في سورة الفرقان:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً} وهذا خبر لا يجوز نسخه. وقال تعالى في سورة (الزّمر): {*قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ}
1) أي: لم يشمّ رائحة الجنة. (نهاية).
{اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ..} . إلخ، وهذا عامّ في جميع الذنوب، فكلّ من تاب؛ تاب الله عليه. وفي هذه السّورة قبل الآية التي الكلام فيها وبعدها قوله تعالى:{إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} . وثبت في الصّحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثمّ سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ والحديث مشهور مسطور، وإذا كان هذا في بني إسرائيل؛ فلأن يكون في هذه الأمّة التوبة مقبولة بطريقة الأولى والأحرى؛ لأنّ الله وضع عنا الآصار، والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحنيفيّة السّمحة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
تنبيه: تعلّقت المعتزلة، ومن يقول بقولهم بهذه الآية لصحّة مذهبهم على أنّ الفاسق مرتكب الكبائر يخلّد في النار، وأجاب أهل السنة بأنّ الآية نزلت في كافر قتل مسلما، فتكون الآية على هذا مخصوصة. وقيل: هذا لمن قتل مسلما مستحلاّ قتله، ومن استحلّ قتل مسلم فهو كافر، وهو مخلّد في النار. وقيل: إنّ الخلود كناية عن طول المكث. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَقْتُلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {مُؤْمِناً:}
مفعول به. {مُتَعَمِّداً:} حال من فاعل: {يَقْتُلْ} المستتر. {فَجَزاؤُهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (جزاؤه): مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {جَهَنَّمُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه. {خالِداً:} حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، وساغ ذلك؛ لأنّ المضاف قد عمل فيه، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-:[الرجز]
ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ماله أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
{فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِداً،} وقال أبو البقاء-رحمه الله تعالى-:
{خالِداً:} حال من محذوف، تقديره: يجزاها خالدا فيها، فإن شئت جعلته من الضمير المرفوع، وإن شئت جعلته من المنصوب، ولا يجوز أن يكون حالا من الهاء في:(جزاؤه) لوجهين: أحدهما: أنّه حال من المضاف إليه، والثاني: أنّه فصل بين صاحب الحال، والحال بخبر المبتدأ، وهو أجنبي، ونقل الجمل عن السّمين مثله.
أقول: الأول منتقض لكون المضاف عمل في المضاف إليه، والثاني ينتقض باعتبار الجملة المقدّرة حالا من الضمير نفسه، واعتبارها مستأنفة غير جيّد. {وَغَضِبَ اللهُ:} ماض وفاعله.
{عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل غضب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، تدلّ عليها الجملة الشرطية، التقدير: حكم الله بأنّ جزاءه ذلك، وغضب عليه. والجملتان بعدهما معطوفتان أيضا عليها، والجملة المقدّرة، وما عطف عليها كلّها في محل نصب حال مثل:{خالِداً فِيها} وهي على تقدير «قد» قبلها، والاستئناف ممكن.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [29]{إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ:} سافرتم، وذهبتم إلى الغزو في سبيل إعلاء كلمة الله. فقد استعير الضّرب للسّعي في قتال الأعداء، واستعير السّبيل له لدين الله. {فَتَبَيَّنُوا:} من التبيين، أي: فاطلبوا بيان الأمر، ولا تعجلوا فيه.
وقرئ: («فتثبتوا») من الثبات، وهو قريب من معنى الأول. {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً:} حيّاكم بتحية الإسلام، وتنفون إيمانه، وتقولون: قالها خوفا، وتقيّة من قتله.
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا:} تطلبون الغنيمة بقتله، الّتي هي من حطام الدنيا، سريعة النّفاد، والذّهاب.
{فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ:} هذه عدة من الله تعالى بما يأتي به في المستقبل على وجهه، ومن حله دون ارتكاب محظور، فلا تتهافتوا. {كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي: كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منهم على أنفسكم. {فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ} فتكرّم الله عليكم بإعزاز الدين، وغلبة المشركين حتّى أظهرتم. {فَتَبَيَّنُوا:} أعاد الأمر بالتّبيين للتّأكيد. {إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً:} تحذير من مخالفة أمر الله، أي: احفظوا أنفسكم، وجنّبوها الزّلل، والخطأ الموبق. وفي الآية الكريمة ردّ على المعتزلة، والقدرية، فإنّ الله عز وجل أخبر: أنّه منّ على المؤمنين من بين الخلائق حيث خصّهم بالتّوفيق، والهداية للإيمان، وخذ ما يلي:
قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية الكريمة في رجل من بني مرّة بن عوف، يقال له: مرداس بن نهيك، وكان من أهل فدك لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم، وكان على السرية رجل يقال له: غالب بن فضالة الليثي، فهربوا منه، وأقام ذلك الرّجل المسلم، فلمّا رأى الخيل؛ خاف ألا يكونوا مسلمين، فألجأ غنمه إلى سفح جبل، وصعد هو الجبل، فلمّا تلاحقت الخيل؛ سمعهم يكبّرون، فعرف: أنّهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبّر؛
ونزل، وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السّلام عليكم، فتغشّاه أسامة بن زيد-رضي الله عنه-بسيفه، فقتله، واستاق غنمه، ثمّ رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه الخبر، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا، وكان قد سبقهم الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أقتلتموه إرادة ما معه؟!» ، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة هذه الآية، فقال أسامة-رضي الله عنه: يا رسول الله استغفر لي! فقال: «كيف أنت بلا إله إلاّ الله؟!» يقولها ثلاث مرات. قال أسامة-رضي الله عنه:
فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرّرها حتى وددت أنّي لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«أعتق رقبة» ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردّ عليهم غنيماته. وفي الآية دليل على صحّة إيمان المكره، وأنّ المجتهد قد يخطئ، وأنّ خطأه مغتفر.
وروى أبو ظبيان عن أسامة-رضي الله عنه-قال: قلت: يا رسول الله! إنّما قالها خوفا من السّلاح، فقال صلى الله عليه وسلم:«أفلا شققت عن قلبه حتّى تعلم أقالها خوفا أم لا؟» . خازن.
وقال القرطبيّ رحمه الله تعالى: والذي عليه الأكثر، وهو في سيرة ابن إسحاق، ومصنف أبي داود، والاستيعاب لابن عبد البر: أنّ القاتل محلّم بن جثّامة، والمقتول عامر بن الأضبط، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على محلّم، فما عاش بعد ذلك إلا سبعا، ثم دفن؛ فلم تقبله الأرض، ثمّ دفن فلم تقبله، ثمّ دفن ثالثة فلم تقبله، فلمّا رأوا: أنّ الأرض لا تقبله ألقوه في بعض الشّعاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الأرض لتقبل من هو شرّ منه» .
هذا؛ وعرض الحياة الدنيا: حطامها الفاني، وإنّما سمّى سبحانه منافع الدنيا: عرضا؛ لأنّه لا ثبات له، ولا دوام. ومنه: الدّنيا عرض حاضر يأكل منه البرّ، والفاجر، فكأنّها تعرض، ثم تزول، بخلاف منافع الآخرة فإنّها دائمة لا انقطاع لها. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«ليس الغنى عن كثرة العرض، إنّما الغنى غنى النّفس» . وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى، فنظمه:[الطويل]
تقنّع بما يكفيك واستعمل الرّضا
…
فإنّك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنّما
…
يكون الغنى والفقر من قبل النّفس
ورحم الله من قال: [الطويل]
غنى النّفس ما يكفيك من سدّ خلّة
…
فإن زاد ما يكفيك عاد الغنى فقرا
و {عَرَضَ} بفتح العين والرّاء هنا، وهو بضم العين وسكون الراء: ناحية الشيء، من أي وجه جئته، وهو بفتح العين وسكون الراء: ضد الطول، وهو بكسر العين وسكون الراء: النفس، يقال: أكرمت عنه عرضي، أي: صنت عنه نفسي، وهو أيضا: رائحة الجسد، وغيره، طيبة كانت، أو خبيثة، يقال: فلان طيّب العرض، أو: منتن العرض.
{لَسْتَ:} حذف عينه لالتقاء السّاكنين: الياء والسين، إذ أصله: ليس بكسر الياء، ثم سكنت للتخفيف، ولم تقلب ألفا على القياس؛ لأنّ التّخفيف بالتّسكين في الجامد أسهل من القلب، فلمّا اتصل بضمير رفع متحرك؛ سكنت العين، فالتقى ساكنان: الياء والسين، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصار:{لَسْتَ} .
الإعراب: ({يا}): أداة نداء، تنوب مناب أدعو، أو أنادي. ({أَيُّهَا}): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب (يا). و (ها): حرف تنبيه، لا محلّ له، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه حينئذ يجب نصب المنادى.
{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع بدلا من: ({أَيُّهَا}). وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب.
{ضَرَبْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح. {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.
{فَتَبَيَّنُوا:} الفاء: واقعة في جواب: {إِذا} . (تبينوا): فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب:{إِذا} لا محلّ لها، و {إِذا} ومدخولها كلام متصل بالجملة الندائية لا محلّ له مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف.
(لا): ناهية جازمة. {تَقُولُوا:} فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها الآتي معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام. {أَلْقى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من) تقديره: هو، وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفتها. {إِلَيْكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{السَّلامَ:} مفعول به. {لَسْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون والتاء اسمها.
{مُؤْمِناً:} خبرها، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.
{تَبْتَغُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرّابط الضمير فقط.
{عَرَضَ:} مفعول به، وهو مضاف. و {الْحَياةِ:} مضاف إليه. {الدُّنْيا:} صفة:
{الْحَياةِ:} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر. {فَعِنْدَ:} الفاء:
أراها الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر؛ إذ التقدير: وإذا كنتم تبتغون عرض الحياة الدنيا؛ فعند الله
…
إلخ. (عند): ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدّم، و (عند) مضاف،
و {اللهِ:} مضاف إليه. {مَغانِمُ:} مبتدأ مؤخّر. {كَثِيرَةٌ:} صفة له، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب للشّرط المقدّر ب «إذا». {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلّقان بمحذوف خبر (كان) تقدّم عليها وعلى اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان ب {كُنْتُمْ} . و {قَبْلُ:} مبني على الضم في محلّ جرّ لقطعه من الإضافة لفظا، لا معنى. {فَمَنَّ:} الفاء: هي الفصيحة لأنّها تفصح عن شرط مقدّر. (تبيّنوا): فعل أمر وفاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب للشرط المقدّر.
{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى:{اللهِ} . {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب {خَبِيراً} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جرّ بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالّذي، أو: بشيء تعملونه، وعلى المصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جرّ بالباء، والجار والمجرور متعلقان ب:{خَبِيراً} التقدير: خبيرا بعملكم. {خَبِيراً:} خبر: {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للأمر، لا محلّ لها.
الشرح: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ} أي: عن الجهاد في سبيل الله. {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ:} المرض، أو العاهة من عمى، أو عرج، أو زمانة، ونحوها. {وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ..}. إلخ أي: لا يكونوا في منزلة واحدة عند الله، وعند رسوله. هذا؛ والفعل «يستوي» من الأفعال التي لا تكتفي بواحد، فلو قلت: استوى زيد؛ لم يصحّ، فمن هنا لزم العطف على الفاعل. أو تعدّده، فقد نفى الله التّساوي بين المجاهد، والقاعد بغير عذر-وإن كان معلوما عند كلّ إنسان-توبيخا للقاعد عن الجهاد، وتحريكا له عليه؛ ليرغّب فيه رفعا لرتبته، وأنفة عن انحطاط منزلته، ونحوه قوله تعالى في سورة (الزّمر):{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} فهو تحريك لطلب العلم، وتوبيخ على الرّضا بالجهل.
{وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ:} قدّم الله في هذه الآية وغيرها الجهاد بالمال على النّفس؛ لأنّ المال شقيق الرّوح، وقد يبذل الإنسان روحه، وحياته في سبيل المال، وقد يهدر
كرامته، وشرفه، ومروءته في سبيله، وكثير من النّاس يسبب لهم المال العذاب الأليم في نار الجحيم، وذلك حينما لم يراقبوا الله تعالى في جمعه، وإنفاقه.
{فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً} يعني: فضيلة، وكرامة في الآخرة. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: أراد بالقاعدين هنا: أولي الضرر، وفضّل الله المجاهدين عليهم درجة؛ لأنّ المجاهد باشر الجهاد بنفسه، وما أدراكم ما الدّرجة؟ هي كما بين السّماء، والأرض. وانظر الحديث في الآية رقم [84]، وخذ ما يلي: روى أبو هريرة-رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدّرجتين، كما بين السّماء والأرض» . أخرجه البخاريّ.
{وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى} أي: كلاّ من المجاهدين، والقاعدين وعده الله الجنة بإيمانه بربّه، وتصديقه بنبيّه صلى الله عليه وسلم. {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً:} المراد ب: {الْقاعِدِينَ:} الذين لا عذر لهم، ونكر {أَجْراً} لزيادة التعظيم، والتفخيم بمعنى: لا يعلمه إلا الله، ولا تنس الطّباق بين {الْمُجاهِدِينَ} و {الْقاعِدِينَ} وهو من المحسّنات البديعية.
هذا؛ و «المال» قال فيه ابن الأثير: المال في الأصل: كل ما يملك من الذهب، والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى، ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق عند العرب على الإبل؛ لأنّها كانت أكثر أموالهم، وقال الجوهري: ذكر بعضهم: أنّ المال يؤنّث، وأنشد لحسان-رضي الله عنه:[البسيط]
المال تزري بأقوام ذوي حسب
…
وقد تسوّد غير السّيّد المال
وعن الفضل الضّبّي: المال عند العرب الصّامت، والنّاطق، فالصّامت: الذهب، والفضّة، والجواهر، والناطق: البعير، والبقرة، والشاة، فإذا قلت عن بدويّ: كثر ماله؛ فهو الناطق. وإذا قلت عن حضريّ: كثر ماله؛ فهو الصامت. هذا؛ والنّشب يطلق على المال الثابت، كالضّياع، والدور، قال عمرو بن معدي كرب الزّبيدي-رضي الله عنه-في ذلك، وهو الشّاهد رقم [597] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» ، والشاهد رقم [485] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [البسيط]
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
…
فقد تركتك ذا مال وذا نشب
هذا؛ وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغنيّ لغناه؛ فقد ذهب ثلثا دينه» . وإنّما كان كذلك؛ لأنّ الإيمان متعلّق بثلاثة أشياء: المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان، فإذا تواضع بلسانه، وأعضائه، فقد ذهب الثّلثان، فإذا انضمّ إليها القلب فقد ذهب الكلّ.
و «غير» اسم شديد في الإبهام ك «مثل» لا يتعرّف بالإضافة لمعرفة، وغيرها، وهو ملازم للإضافة، ويجوز أن يقطع عنها، إن فهم المعنى، أو تقدّمت عليها كلمة «ليس». يقال: قبضت
عشرة ليس غير. وهو مبنيّ على الضم، أو على الفتح خلاف. وإن أردت الزيادة؛ فانظر بحثها في كتابنا:«فتح القريب المجيب» تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
أمّا «أولي» فهو بمعنى أصحاب، لا واحد له من لفظه، وإنّما واحده «ذي» المضاف إن كان مجرورا، و «ذا» المضاف إن كان منصوبا، و «ذو» المضاف إن كان مرفوعا.
وأمّا «الحسنى» فهي مؤنث: الأحسن الذي هو أفعل تفضيل، لا مؤنث: أحسن؛ المقابل لامرأة حسناء، والحسنى ضد السّوأى.
خاتمة: اعلم: أنّ الجهاد ينقسم إلى: فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين: أن يدخل العدو دار قوم من المؤمنين، وبلادهم فيجب على كلّ مكلّف من الرّجال ممّن لا عذر له، ولا ضرر به من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوّهم دفعا عن أنفسهم، وعن أهليهم، وجيرانهم، سواء في ذلك الغني، والفقير، فيجب على الكافة، وهو في حقّ من بعد عنهم من المسلمين فرض كفاية، فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم العدو، فتجب مساعدتهم على من قرب منهم من المسلمين، أو بعد عنهم. انتهى. خازن.
هذا؛ وأمّا أهل الضّرر الذين ذكرهم الله في هذه الآية؛ فلهم أجرهم إن كانت نيّتهم الجهاد لولا الأعذار التي منعتهم من الخروج إلى الجهاد. فعن أنس بن مالك-رضي الله عنه، قال:
رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا، ولا واديا، إلاّ وهم معنا، حبسهم العذر» . رواه البخاري.
وعن أبي الدّرداء يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى فراشه؛ وهو ينوي أن يقوم يصلّي من اللّيل، فغلبته عيناه حتّى أصبح؛ كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربّه» . رواه النّسائيّ، وابن ماجة. وعن أبي موسى-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد، أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» . رواه البخاريّ، وأبو داود. ورحم الله من يقول:[البسيط]
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد
…
سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنّا أقمنا على عذر وعن قدر
…
ومن أقام على عذر فقد راحا
الإعراب: {لا:} نافية. {يَسْتَوِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء للثقل. {الْقاعِدُونَ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بمحذوف حال من:
{الْقاعِدُونَ} أو من الضمير المستتر فيه، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض من التنوين في الاسم المفرد. {غَيْرُ:} بالرّفع صفة: {الْقاعِدُونَ} أو بدل
منه، ويقرأ بالنّصب على الحال، أو الاستثناء من:{الْقاعِدُونَ،} ويقرأ بالجر على أنّه صفة للمؤمنين، أو بدل منه، و {غَيْرُ} مضاف، و {أُولِي:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولِي} مضاف، و {الضَّرَرِ:} مضاف إليه. {وَالْمُجاهِدُونَ} معطوف على: {الْقاعِدُونَ} مرفوع مثله. {فِي سَبِيلِ:}
متعلقان ب: ({الْمُجاهِدُونَ})، و {سَبِيلِ} مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه. {بِأَمْوالِهِمْ:} متعلقان ب ({الْمُجاهِدُونَ}) أيضا. {وَأَنْفُسِهِمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جرّ بالإضافة، وجملة:{لا يَسْتَوِي..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{فَضَّلَ اللهُ:} ماض، وفاعله. {الْمُجاهِدِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء، نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم
…
إلخ. {بِأَمْوالِهِمْ:} متعلقان ب: {الْمُجاهِدِينَ} . {وَأَنْفُسِهِمْ:}
معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {عَلَى الْقاعِدِينَ:} متعلقان بالفعل: {فَضَّلَ} .
{دَرَجَةً:} مفعول به ثان، أو هو منصوب بنزع الخافض؛ أي: بدرجة، أو هو مفعول مطلق؛ لأنّه دال على المرّة، وتضمّن معنى التفضيل. وقيل: هو حال بمعنى: ذوي درجة، وهو ضعيف.
وجملة: {فَضَّلَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
({كُلاًّ}): مفعول به أول مقدّم. {وَعَدَ اللهُ:} فعل وفاعل. {الْحُسْنى:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذّر. هذا؛ ويقرأ برفع («كل») على أنّه مبتدأ، أي: كلّهم، والجملة الفعلية خبره، والرابط محذوف، التقدير: وعده الله الحسنى، والجملة سواء أكانت فعلية، أم اسميّة معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها.
{فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ:} ماض، وفاعله، ومفعوله. {عَلَى الْقاعِدِينَ:} متعلقان بالفعل:
{فَضَّلَ} . {أَجْراً:} مفعول مطلق، عامله:{فَضَّلَ} لأنّه بمعنى: أجر، أو هو مفعول به ثان على تأويل:{فَضَّلَ} ب: «أعطى» وقيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: بأجر. وقيل: هو حال من: ({دَرَجاتٍ}) لأنّه كان صفة له
…
إلخ، وهو غير صحيح، وجملة:{وَفَضَّلَ اللهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، وهي مؤكّدة لها لفظا، ومعنى، وما بينهما اعتراض.
{دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)}
الشرح: {دَرَجاتٍ مِنْهُ:} منازل بعضها فوق بعض من الكرامة، هي من فضل الله، وكرمه على المجاهدين في سبيله. قيل: هي سبع. وقيل: سبعون. وقيل: سبعمائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء، والأرض. هذا والحكمة من ذكر {دَرَجَةً} في الآية السابقة، وذكر {دَرَجاتٍ} في هذه الآية، فإنّ الدّرجة الأولى لتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضّرر، والعذر، وأمّا الثّانية فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر، ولا عذر، فضّلوا عليهم
بدرجات كثيرة. وقيل: يحتمل أن تكون الأولى درجة المدح، والتعظيم، والدّرجات درجات الجنّة، ومنازلها. انتهى خازن بتصرّف. {وَمَغْفِرَةً} أي: لذنوبهم. {وَرَحْمَةً:} أي: من الله تنزل عليهم، وتعمّهم. {وَكانَ اللهُ غَفُوراً:} للذّنوب؛ وهي صيغة مبالغة. {رَحِيماً} أي: بعباده المؤمنين.
تنبيه: الآية الكريمة وسابقتها تحثّان المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، وترغّبان فيه، وتبيّنان ما أعدّه الله من الأجر العظيم للمجاهدين في سبيل الله. بعد هذا لا تنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حثّ على جهاد النّفس، وكبحها عن المعاصي، وترويضها على الطّاعات، واعتبر ذلك الجهاد الأكبر، فقد روى البيهقيّ بإسناد حسن صحيح: أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدموا من الجهاد، تلقّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لهم:«مرحبا بكم! قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قالوا: يا رسول الله! وما الجهاد الأكبر؟ قال: «جهاد النّفس» .
يضاف إلى ذلك السّعي في الدّنيا، والعمل لها ليكسب الإنسان قوته، وقوت زوجه، وأولاده فقد اعتبره المصطفى صلى الله عليه وسلم في سبيل الله. فعن كعب بن عجرة-رضي الله عنه-قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده، ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده صغارا؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها؛ فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء، ومفاخرة؛ فهو في سبيل الشّيطان» . رواه الطّبرانيّ. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [60] من سورة (الأنفال) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
وكذلك طلب العلم الشرعيّ
(1)
جهاد في سبيل الله؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلاّ لخير يتعلّمه، أو يعلّمه؛ فهو بمنزلة المجاهدين في سبيل الله، ومن جاء بغير ذلك؛ فهو بمنزلة الرّجل ينظر إلى متاع غيره» .
رواه ابن ماجة، والبيهقي.
وعن أنس-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتّى يرجع» . رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن.
وعن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غدا يريد العلم يتعلّمه لله؛ فتح الله له بابا إلى الجنّة، وفرشت له الملائكة أكنافها، وصلّت عليه ملائكة السّماوات، وحيتان البحر. وللعالم من الفضل على العابد كالقمر ليلة البدر على أصغر كوكب
1) العلم الشرعي: هو علوم الدين وكل علم يرضى عنه الشرع لما فيه من خير المسلمين والبشرية جمعاء.
في السّماء، والعلماء ورثة الأنبياء. إنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا، ولا درهما، ولكنّهم ورّثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظّه، وموت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسدّ، وهو نجم طمس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم». رواه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجة، وابن حبّان.
الإعراب: {دَرَجاتٍ:} بدل من: {أَجْراً} منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم. وقيل: هو حال. وقيل: منصوب بنزع الخافض. وقيل: هو توكيد ل ({أَجْراً}) وهو أضعفها، وأقواها الأول. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:
{دَرَجاتٍ} . {وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً:} معطوفان على: {دَرَجاتٍ} . وقيل: هما مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: غفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة. وحذف متعلّقها اكتفاء بمتعلّق:{دَرَجاتٍ} .
وجملة: {وَكانَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ..} . إلخ: نزلت الآية الكريمة في أناس تكلّموا بالإسلام، ولم يهاجروا: منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة، وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما، فلمّا خرج المشركون إلى بدر، خرجوا معهم، فقتلوا مع الكفار الذين قتلوا في بدر، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا على الخروج مع المشركين، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية الكريمة.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ:} يجوز أن يكون هذا الفعل ماضيا، وإنّما لم تلحقه علامة التأنيث للفصل بين الفعل وفاعله بالضّمير المنصوب، ولأنّ لفظ الملائكة من التأنيث المجازي، ولأنّه جمع تكسير، ويؤيد ذلك قراءة:(«توفتهم»)، ويجوز أن يكون مضارعا أصله: تتوفاهم، فحذفت منه إحدى التاءين، كما في قوله تعالى:{فَأَنْتَ لَهُ تَصَدّى} أصله: تتصدى، وهو كثير في كلام الله تعالى.
والتوفّي هنا فيه قولان: أحدهما: أنّه قبض أرواحهم. الثاني: أنّه حشرهم، وسوقهم إلى النّار. فعلى الثاني يكون المراد بالملائكة: الزّبانية؛ الذين يتولّون تعذيب الكفار. والمعتمد هنا الأوّل. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [11] من سورة (السّجدة) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك، ولولا الإطالة؛ لذكرته هنا بحذافيره.
{ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ:} المشركون ظالمون لأنفسهم بالشرك. وقيل: المراد: المسلمون الذين أقاموا في دار الشرك بعد إسلامهم مع قدرتهم على الهجرة؛ لأنّ الله لم يقبل الإسلام من أحد
بعد هجرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى يهاجر إليه، ثمّ نسخ ذلك بعد فتح مكة بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة» . أخرجاه في الصّحيحين.
{قالُوا:} أي: قالت الملائكة؛ الذين يتوفون أولئك المذكورين: {فِيمَ كُنْتُمْ} خطاب للمذكورين، وهو سؤال توبيخ، وتقريع. أي: أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مع المشركين؟ و {فِيمَ} كلمة مؤلفة من حرف، واسم، فالحرف «في» الجارة، والاسم:«ما» الاستفهامية، وقد حذفت ألفها، كما تحذف مع كلّ جارّ، نحو قوله تعالى:{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ،} {*عَمَّ يَتَساءَلُونَ،} {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} وذلك للفرق بين الموصولة، والاستفهامية. ويقال: للفرق بين الخبر، والاستخبار، ومن شواهدها الشّعرية قول الكميت، وهو الشاهد رقم [554] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل]
فتلك ولاة السّوء قد طال مكثهم
…
فحتّام حتّام العناء المطوّل؟
وأيضا قول عمرو بن معديكرب-رضي الله عنه، وهو الشّاهد رقم [250] من كتابنا المذكور-:[الطويل]
علام تقول الرّمح يثقل عاتقي
…
إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرّت؟
وقد ثبتت ألفها مع دخول الجار عليها في ضرورة الشّعر في قول حسّان بن ثابت-رضي الله عنه-يهجو رجلا من بني مخزوم، وهو الشاهد رقم [556] من الكتاب المذكور:[الوافر]
على ما قام يشتمني لئيم
…
كخنزير تمرّغ في دمان
{قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} أي: في مكّة. اعتذروا عن الهجرة، وموالاة الكفّار بعجزهم، وضعفهم. وهذا اعتذار غير صحيح؛ إذ كانوا يستطيعون الحيل، ويهتدون السبيل. {قالُوا} أي:
الملائكة موبخين، ومؤنّبين لهم. {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها} أي: فتخرجوا من مكة إلى بلد تكونون فيه أحرارا في عقيدتكم، وعبادتكم، كما فعل المؤمنون الصادقون؛ حيث هاجروا أولا إلى الحبشة، ثمّ إلى المدينة المنورة. ويفيد هذا السؤال، والجواب: أنّهم ماتوا مسلمين ظالمين لأنفسهم في تركهم الهجرة، وإلا فلو ماتوا كافرين؛ لم يقل لهم شيء من هذا.
{فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ:} أخبر الله تعالى: أنّهم في جهنّم لتقصيرهم، وتقاعسهم عن الهجرة.
{وَساءَتْ:} فعل ذمّ يجري مجرى: «بئس» . {مَصِيراً:} مقرّا، ومآلا، وكانت الهجرة واجبة على كلّ من أسلم، وانظر الآية رقم [89].
تنبيه: في الآية الكريمة دليل على أنّ الإنسان إذا كان في بلد، لا يتمكّن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب، والعوائق، أو علم: أنّه في غير بلده أقوم بحقّ الله، وأدوم على العبادة؛ حقّت عليه المهاجرة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا
من الأرض استوجبت له الجنّة، وكان رفيق إبراهيم، ونبيّه محمّد». عليهما ألف صلاة، وألف سلام.
{مَأْواهُمْ:} مستقرهم، وملجؤهم. {جَهَنَّمُ،} والفرق بين مأوى، ومثوى: أن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، وأمّا المأوى فهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان، ولو مؤقتا، وقدّم المأوى على المثوى في كثير من الآيات؛ لأنّه على الترتيب الوجودي، يأوي، ثم يثوي.
أمّا {كُنْتُمْ} فأصله: «كونتم» فقل في إعلاله: تحرّكت الواو، وانفتح ما قبلهما، فصار (كانتم) فالتقى ساكنان: الألف، وسكون النون، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار (كنتم) بفتح الكاف، ثمّ أبدلت الفتحة ضمّة لتدلّ على الواو المحذوفة، فصار {كُنْتُمْ} . وهناك إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل: كون، فلما اتصل به ضمير رفع متحرك؛ نقل إلى باب فعل، فصار: كونت، ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار: كونت فالتقى ساكنان: العين المعتلّة ولام الفعل، فحذفت عين الفعل، وهي الواو لعلّة الالتقاء، فصار: كنت، وهكذا قل في إعلال كلّ فعل أجوف، واوي، مسند إلى ضمير رفع متحرك. مثل: قام، وقال، ونحوهما.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم (إنّ). {تَوَفّاهُمُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، أو هو فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {الْمَلائِكَةُ:}
فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {ظالِمِي:} حال من الضمير المنصوب، منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، وهو مضاف، و {أَنْفُسِهِمْ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{فِيمَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان) مقدّم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ} والرابط محذوف، التقدير: قالوا لهم
…
إلخ. وقيل: إنّ الخبر محذوف، تقديره: هلكوا، فتكون جملة:{قالُوا..} . إلخ مبينة لتلك الجملة المحذوفة. وقيل: إنّ الخبر الجملة الاسمية: {فَأُولئِكَ..} . إلخ، ودخلت الفاء على الخبر زائدة؛ لأنّ الموصول يشبه الشّرط في العموم. والمعتمد الأوّل.
{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {مُسْتَضْعَفِينَ:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {قالُوا:} فعل، وفاعل، والألف للتفريق. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب،
وجزم. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب ({لَمْ}). {أَرْضُ:} اسمها. و {أَرْضُ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {واسِعَةً:} خبر: {تَكُنْ،} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {فَتُهاجِرُوا:} الفاء: للسببية. (تهاجروا): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيّد من الفعل السابق. {فِيها:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما.
{فَأُولئِكَ:} الفاء: حرف استئناف. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {مَأْواهُمْ:} مبتدأ ثان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة. {جَهَنَّمُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أولئك)، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. وقيل: في محل رفع خبر:
{إِنَّ} وهو ضعيف، كما قدمته. ({ساءَتْ}): فعل ماض جامد لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر، فسّره التمييز، وهو {مَصِيراً،} والمخصوص بالذّمّ محذوف، تقديره: هي، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ:} انظر شرح هذه الكلمات في الآية رقم [75]. {حِيلَةً:} هي الجدّ في تدبّر الأمور، وتقليب الفكر؛ حتّى يهتدي إلى المقصود، ومثلها: المحاولة. {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي: لا يعرفون طريقا إلى الهجرة حتى يهاجروا، ولا يملكون نفقة، ولا قوة لهم على الخروج من مكّة.
الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الْمُسْتَضْعَفِينَ:} مستثنى استثناء منقطعا لعدم دخوله في الموصول، وضميره، والإشارة إليه، فهو منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {مِنَ الرِّجالِ} متعلقان بالمستضعفين. وهما في محل رفع نائب فاعله. {وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ:} معطوفان على: {الرِّجالِ} .
{لا:} نافية. {يَسْتَطِيعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النّون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {حِيلَةً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الرّجال، وما عطف عليه، أو في محل جر صفة لهم؛ لأنّ «ال» التعريفية تصلح لأن تكون للجنس، وأن تكون للتّعريف، ومثل هذه الآية:[الكامل]
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني
…
فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
وقال تعالى في سورة (يس): {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ} وقال في سورة (الجمعة):
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً،} وجملة: ({لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}):
معطوفة عليها على الوجهين المعتبرين فيها، وقال مكيّ-رحمه الله تعالى-: جملة: {لا يَسْتَطِيعُونَ..} .
إلخ والتي بعدها: في موضع نصب على الحال من {الْمُسْتَضْعَفِينَ} والمعتمد ما قدّمته.
{فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)}
الشرح: {فَأُولئِكَ:} الإشارة إلى المستضعفين المذكورين في الآية السابقة. {عَسَى اللهُ:}
عسى هي مفيدة للتّحقيق والتأكيد، وإن كانت في كلام المخلوقين تفيد الرّجاء، والطّمع؛ لأنّ المخلوق هو الذي تعرض له الشّكوك، والظّنون، والله منزّه عن ذلك. انتهى. نقلا من كرخي.
وهو فعل جامد لا يأتي منه مضارع، ولا أمر. {أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ:} أن يصفح عنهم، ويغفر ذنوبهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، والفعل «يعفو» بهذا المعنى كثير في القرآن الكريم، كما يأتي «عفا» بمعنى الكثرة. قال تعالى في الآية رقم [95] من سورة (الأعراف):{ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتّى عَفَوْا} أي: حتى كثروا، ونموا في أنفسهم، وأموالهم، من قولهم: عفا النبات، وعفا الشّحم، والوبر: إذا كثر. قال الحطيئة: [الطويل]
بمستأسد الغربان عاف نباته
…
بأسؤق عافيات الشّحم كوم
وعفا المنزل، يعفو، عفاء: إذا انمحت آثاره، وذهبت معالمه، قال الأخطل التّغلبيّ-وهو الشاهد رقم [498] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
وبالصّريمة منهم منزل خلق
…
عاف تغيّر إلاّ النؤي والوتد
وعفو المال: ما يفضل عن النّفقة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [219]: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} والعافي: طالب المعروف، والإحسان، قال عروة بن الورد العبسي المعروف ب «عروة الصّعاليك»:[الطويل]
وإنّي امرؤ عافي إنائي شركة
…
وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
وجمع العافي: عفاة، قال الأعشى في مدح ممدوحه:[المتقارب]
تطوف العفاة بأبوابه
…
كطوف النّصارى ببيت الوثن
{وَكانَ اللهُ عَفُوًّا:} صيغة مبالغة من العفو. {غَفُوراً:} صيغة مبالغة أيضا. هذا؛ وانظر ما ذكرته في شرح (كان) في الآية رقم [1] من هذه السّورة.
{اللهُ:} علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به؛ أعطى، وإنّما تخلّفت الإجابة في بعض
الأحيان عن الدّعاء به لتخلّف شروط الإجابة، الّتي أعظمها أكل الحلال، ولم يسمّ به أحد سواه، قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي: هل تعلم أحدا تسمّى الله غير الله؟ وقد ذكر في القرآن الكريم في ألفين وثلاثمائة وستين موضعا، علما بأنّه لم يذكر في سورتي: الرّحمن، والواقعة.
الإعراب: {فَأُولئِكَ:} الفاء: حرف استئناف. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {عَسَى:} فعل ماض جامد مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، وهو ناقص هنا. {اللهُ:} اسم {عَسَى} . {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَعْفُوَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والفاعل يعود إلى: {اللهُ،} والمصدر المؤوّل من الفعل، وناصبه في محل نصب خبر ({عَسَى}) بعد تأويل المصدر باسم الفاعل، التقدير: عسى الله عافيا. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{عَسَى..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (أولئك
…
) إلخ مستأنفة لا محلّ لها، والجملة الفعلية:
{وَكانَ اللهُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً:} وهذا تحريض على الهجرة، وترغيب في مفارقة المشركين، وأنّ المؤمن حيثما ذهب؛ وجد عنهم مندوحة، وملجأ يتحصّن فيه. والمراغم:
مصدر؛ تقول العرب: راغم فلان قومه مراغما، ومراغمة، قال النابغة الجعدي:[المتقارب]
كطود يلاذ بأركانه
…
عزيز المراغم والمذهب
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المراغم: التّحوّل من أرض إلى أرض. وقيل: معناه:
إنّ الرّجل إذا خرج عن قومه؛ خرج مراغما لهم؛ أي: مغاضبا، ومقاطعا. وقال الفراء:
المراغم: المضطرب، والمذهب في الأرض، وأنشد الزجّاج في المعنى:[المتقارب]
إلى بلد غير داني المحل
…
بعيد المراغم والمضطرب
وقال مجاهد: يجد متزحزحا عمّا يكره. وقيل: المراغمة، والمهاجرة واحدة، يقال:
راغمت قومي، أي: هاجرتهم، وسمّيت المهاجرة مراغمة؛ لأنّه يهاجر قومه برغمهم، وهو مأخوذ من الرّغام، وهو التراب، يقال: رغم أنفه: إذا التصق بالتّراب، وذلك لأنّ الأنف عضو شريف، والتّراب ذليل حقير، فجعلوا قولهم:«رغم أنفه» كناية عن حصول الذّلّ له. {وَسَعَةً}
يعني: في الرزق، وسعة في الأرض الّتي يهاجر إليها، فمن ضاق رزقه في بلده؛ فليلتمسه في غيره، ورحم الله من قال:[الوافر]
بلاد الله واسعة فضاء
…
ورزق الله في الدّنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوان
…
إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
ورحم الله من قال أيضا: [الكامل]
وإذا رأيت الرّزق ضاق ببلدة
…
وخشيت فيها أن يضيق المكسب
فارحل فأرض الله واسعة الفضا
…
طولا وعرضا شرقها والمغرب
{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} قبل بلوغه مهاجره. {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ} أي: فقد وقع أجر هجرته على الله بإيجابه على نفسه بحكم الوعد، والتفضّل، والإحسان، والكرم، لا وجوب استحقاق، وتحتّم؛ لأنّ الله لا يجب عليه شيء لعباده. {وَكانَ اللهُ غَفُوراً:} للذنوب. {رَحِيماً:} بعباده. وهما صيغتا مبالغة، كما ذكرته مرارا.
تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لمّا نزلت الآية التي قبل هذه سمعها رجل من بني ليث، شيخ كبير، يقال له: جندع بن ضمرة، فقال: والله ما أنا ممّن استثنى الله عز وجل، وإنّي لأجد حيلة، ولي من المال ما يبلغني المدينة، وأبعد منها، والله لا أبيت اللّيلة بمكّة! أخرجوني! فخرجوا به يحملونه على سرير حتّى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت، فصفق بيمينه على شماله، ثمّ قال: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك. ثم مات، رضي الله عنه، وأرضاه، فبلغ خبره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقالوا: لو وافى المدينة؛ لكان أتمّ، وأوفى أجرا، وضحك المنافقون، والمشركون، وقالوا: ما أدرك ما طلب! فنزلت الآية الكريمة. انتهى. خازن، وقرطبي.
تنبيه: كلّ من خرج لطلب علم أو حجّ، أو جهاد، أو فرارا إلى بلد يزداد فيه طاعة، أو قناعة، أو زهدا، أو ابتغاء رزق طيّب-أي: حلال-فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه؛ فقد وقع أجره على الله. انتهى نسفي. وخذ ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج حاجّا، فمات؛ كتب له أجر الحاجّ إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا، فمات؛ كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا، فمات؛ كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» . أخرجه الحافظ أبو يعلى.
وعن عمر-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته
لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». رواه البخاريّ، ومسلم. والأحاديث بهذا المعنى كثيرة مشهورة، ومسطورة.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُهاجِرْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) تقديره: هو {فِي سَبِيلِ:} متعلقان بما قبلهما. و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {يَجِدْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، لم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {مُراغَماً:}
مفعول به. {كَثِيراً:} صفة له. {وَسَعَةً:} معطوف على ما قبله، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه.
{وَمَنْ يَخْرُجْ:} مثل سابقه في إعرابه ومحلّه. {مِنْ بَيْتِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {مُهاجِراً:} حال من فاعل: {يَخْرُجْ} المستتر. {إِلَى اللهِ:} متعلقان ب {مُهاجِراً؛} لأنّه اسم فاعل، وفاعله مستتر فيه. {وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يُدْرِكْهُ:} فعل مضارع معطوف على فعل الشّرط، مجزوم مثله. وقرأ الحسن البصري بالنّصب على إضمار «أن» . وقرأ النخعي، وغيره بالرّفع على إضمار مبتدأ، أي: ثم هو يدركه. والجملة الاسمية هذه معطوفة على الجملة الفعلية: {يَخْرُجْ..} .
إلخ، والهاء مفعول به. {الْمَوْتُ:} فاعله. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشّرط. (قد):
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {وَقَعَ:} فعل ماض. {أَجْرُهُ:} فاعله، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية:{فَقَدْ وَقَعَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحل محل المفرد. وبقيّة الكلام مثل سابقه بلا فارق، وجملة:{وَكانَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} انظر الآية رقم [94]. {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ:} إثم، ومؤاخذة.
{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} أي: من أربع ركعات إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر، والعصر، والعشاء. {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: يغتالكم، ويقتلكم الذين كفروا. {إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا} أي: ويكونون. {لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً:} انظر الآية رقم [91] و [92]. وسبب نزول الآية ذكره ابن جرير عن عليّ-رضي الله عنه-قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلّي؟ فأنزل الله عز وجل:{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ..} . إلخ.
استدلّ العلماء بهذه الآية على قصر الصلاة في السّفر، على اختلافهم في ذلك. فمن قائل:
لا بدّ أن يكون السفر سفر طاعة؛ من جهاد، أو حجّ، أو عمرة، أو طلب علم، أو زيارة رحم، ونحو ذلك. وذهب الشافعي، ومالك، وأحمد، والجمهور إلى أنّه يجوز القصر في كل سفر مباح. وذهب أبو حنيفة، والثوري، وداود إلى أنّه يجوز القصر لمطلق السفر، سواء أكان مباحا، أو محظورا، حتى لو خرج لقطع الطريق، وإخافة السبيل، وخالفهم الجمهور.
وقال داود الظّاهري: لا يجوز القصر إلا في حال الخوف، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى:
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لأنّ عدم الشّرط يقتضي عدم المشروط. وخالفه جمهور الأمّة، وقالوا: قد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، فإنّ مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة، بل كانوا لا ينهضون إلا إلى غزو عام، أو في سريّة خاصّة، وسائر الأحيان كانت حربا للإسلام وأهله. والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب، أو على حادثة خاصّة؛ فلا مفهوم له، كقوله تعالى في سورة (النّور):{وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً،} وكقوله تعالى في هذه السّورة: {وَرَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ} .
وقال الإمام أحمد: عن يعلى بن أميّة-رضي الله عنه، قال: سألت عمر-رضي الله عنه، قلت له: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر-رضي الله عنه: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:«صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» . أخرجه مسلم.
وعن أبي حنظلة الحذّاء؛ قال: سألت ابن عمر-رضي الله عنهما-عن صلاة السّفر، فقال:
ركعتان. فقلت: أين قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا؟} فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا؛ وأمّا المسافة التي يجوز فيها قصر الصّلاة؛ فمختلف فيها اختلافا كثيرا، والمفتى به في هذه الأيام أن تكون خمسة وثمانين كيلومترا إلى تسعين كيلومترا، كما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السّفر، فذهب مالك، وأبو حنيفة-رحمهما الله-إلى أنّ القصر في السفر واجب، ويدلّ عليه ما روي عن عائشة-رضي الله عنها: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين، ثمّ أتمّها في الحضر، وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى:
قالت: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر، والسفر، فأقرّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. أخرجاه في الصحيحين. وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السّفر، ولكن القصر أفضل، وهو مذهب الشّافعي، وأحمد، وهو رواية عن مالك أيضا، ويدلّ على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كلّ ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر، وأتم. وعنها: أنّها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكّة؛ حتّى إذا قدمت مكّة؛ قالت: يا رسول الله! بأبي أنت، وأمّي! قصرت، وأتممت، وصمت، وأفطرت. قال: «أحسنت
يا عائشة». وما عاب عليّ. أخرجه النّسائيّ. فأنت ترى: أنّ الروايتين عنها قد اختلفتا، وهذا يسمّى اضطراب الروايات.
هذا؛ ولا يقصر إلا بعد مجاوزة عمران بلده، وينتهي القصر بعوده إلى عمران بلده، والله الموفّق. كما اختلفوا في المدّة التي يقصر فيها في المكان الذي ذهب إليه، فقال مالك، والشافعيّ-رضي الله عنه: إذا نوى الإقامة أربعة أيام؛ أتمّ، وإن كان أقام لحاجة يتوقّع قضاءها يوما بعد يوم؛ قصر ثمانية عشر يوما. وقال أبو حنيفة-رضي الله عنه-وأصحابه: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة؛ أتمّ. وقال الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-: إذا عزم المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة؛ قصر. وإذا اقتدى بمقيم؛ أتمّ بالاتفاق.
هذا؛ ولم يتعرّض المفسّرون للجمع بين الصّلوات، فأجازه الشّافعي، ومالك، وأحمد بين العصرين، والعشاءين، تقديما، وتأخيرا، لما روى ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر، والعصر إذا كان على ظهر سفر، ويجمع بين المغرب، والعشاء. رواه البخاريّ، ومسلم.
وشروط التّقديم أربعة: البداءة بالأولى، ونيّة الجمع فيهما، ولو مع السّلام، والموالاة بينهما، ودوام السّفر إلى الإحرام بالثانية، ويشترط في التّأخير نيّته قبل خروج وقت الأولى، ولو بقدر ركعة، ودوام السّفر إلى تمامها، وإلا صارت الأولى قضاء.
فقد صحّ: أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل قبل الزّوال؛ أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل، فجمع بينهما، فإن زالت قبل ارتحاله صلاهما، ثمّ ركب. وأنّه كان إذا جدّ به السير؛ جمع بين المغرب، والعشاء، أي: في وقت العشاء. وأبو حنيفة-رحمه الله تعالى-لا يرى الجمع إلا في يوم عرفة تقديما، وليلة المزدلفة تأخيرا. وفائدة الجمع في السّفر ملموسة، وحكيمة، ونرشد من لا يرى إمامه الجمع أن يقلّد من يراه. والله الموفق.
أمّا الجمع في المطر في الحضر تقديما؛ فقد صحّ: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف، ولا سفر، فقال الشافعي كمالك-رضي الله عنهما: أرى ذلك بعذر المطر، ويؤيده جمع ابن عباس، وابن عمر-رضي الله عنهم-به، وأرى: أنّ شروط الجمع بالمطر غير متوفرة في هذه الأيام لتسهيل الطّرق، وتنويرها في اللّيل، وإن قال بعضهم بجوازها. والله الموفق، والمعين، وبه أستعين.
الإعراب: (إذا): ظرف لما يستقبل من الزّمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك مبني على السكون في محل نصب. {ضَرَبْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على القول المشهور المرجوح. {فِي الْأَرْضِ:} متعلّقان بما قبلهما. {فَلَيْسَ:}
الفاء: واقعة في جواب (إذا). (ليس): فعل ماض ناقص. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان
بمحذوف خبر (ليس) تقدّم على اسمها. {جُناحٌ:} اسمها مؤخر، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب.
{تَقْصُرُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ تَقْصُرُوا:} في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: في قصر الصلاة، والجار والمجرور متعلقان ب {جُناحٌ} أو بمحذوف صفة له. {مِنَ الصَّلاةِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{أَنْ:} حرف شرط جازم. {خِفْتُمْ:} فعل ماض مبني على السّكون في محلّ جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَفْتِنَكُمُ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والكاف مفعول به، والمصدر المؤول من {أَنْ} والفعل في محل نصب مفعول به. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلّق محذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن خفتم
…
فلا جناح
…
إلخ.
{أَنْ:} حرف مشبّه بالفعل. {الْكافِرِينَ:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه
…
إلخ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من:
{عَدُوًّا} كان صفة له
…
إلخ. {عَدُوًّا:} خبر (كان). {مُبِيناً:} صفة له، وجملة:{كانُوا..} .
إلخ في محل رفع خبر: {أَنْ،} وجملة: {أَنْ..} . إلخ مفيدة للتّعليل، لا محلّ لها.
الشرح: روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّ المشركين لمّا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قاموا إلى الظّهر يصلّون جميعا؛ ندموا، وتمنّوا أن لو كانوا أكبّوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم، وأمهاتهم-يعني: صلاة العصر-فإذا قاموا إليها؛ فشدّوا عليهم، فاقتلوهم. فنزل جبريل، عليه السلام، فقال: يا محمد!
إنّها صلاة الخوف، وإن الله عز وجل يقول:{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ..} . إلخ فعلّمه صلاة الخوف. وروي عن أبي عيّاش الزّرقي-رضي الله عنه-في سبب نزول الآية، قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلّينا الظهر، فقال المشركون:
لقد أصبنا غرّة، ولو حملنا عليهم، وهم في الصّلاة، فنزلت الآية بين الظّهر، والعصر.
وينبغي أن تعلم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة الخوف بكيفيات مختلفة، ولا يمكن فعل شيء منها في هذه الأيام إلا صلاة الخوف المذكورة في الآية رقم [239] من سورة (البقرة)؛ لأنّ وسائل الحرب قد تغيّرت، وأحوال المسلمين، وأوضاعهم قد انقلبت رأسا على عقب، لذا فإنّني أكتفي بشرح ألفاظ الآية وبيان معانيها، والله الموفق.
{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ..} . إلخ: خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقد تعلّق بمفهومه من خصّ صلاة الخوف بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكافة الفقهاء على أنّ الله علّمه كيفيتها؛ ليأتمّ به الأئمّة بعده، فإنّهم نواب عنه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون حضورهم كحضوره. {فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} أي: فاجعلهم طائفتين: إحداهما تصلّي معك، والأخرى تقف تجاه العدو. {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ:} هذا الأمر للطائفة المصلية مع الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل: للحارسة. وذكر الطائفة الأولى يدلّ عليهم. {فَإِذا سَجَدُوا} أي: المصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم. {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ} أي: ليكن غير المصلين من خلفكم يحرسونكم.
{وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا} أي: أول الصلاة. {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ:} آخر الصلاة.
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} أي: وليكونوا حذرين من عدوّهم متأهبين لقتالهم بحمل السلاح.
ظاهر هذا الكلام يدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى مرّتين؛ بكلّ طائفة مرّة، وهذا كان ببطن نخل، وإن أريد أن يصلي الإمام بكلّ ركعة-إن كانت الصلاة ركعتين-فكيفيتها أن يصلي بالأولى ركعة، وينتظر قائما حتّى يتمّوا صلاتهم منفردين، ويذهبوا إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى، فيتمّ بهم الركعة الثانية، ثم ينتظرهم قاعدا حتى يتمّوا صلاتهم، ويسلّم بهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرّقاع، وقد جعل الله-عز وجل-الحذر آلة يتحصّن بها المحارب، فجمع بين الحذر، وبين الأسلحة في وجوب الأخذ بالأسباب، كيف لا؟ والتيقظ، والتحرّز من كيد العدو أعظم من السّلاح.
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ..} . إلخ: تمنّى الكافرون أن ينالوا منكم غفلة في صلاتكم، فيشدّون عليكم شدّة واحدة، وهذا هو السبب في وجوب حمل السلاح، والتيقظ. وانظر الفعل:
«مال، يميل» في الآية رقم [27].
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ..} . إلخ، أي: لا حرج، ولا إثم في عدم حمل السّلاح إذا ثقل عليكم بسبب مطر، أو ضعف بسبب مرض، وهذا يؤيد: أنّ حمل السلاح في أثناء الصّلاة للوجوب دون الاستحباب. {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ:} تأكيد لسابقه.
{إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ..} . إلخ: هذا وعد من القويّ العزيز بالنّصر المبين على الكافرين بأنّه سيهزمهم بعد الأمر بالحذر، والتيقظ، ليقوّي قلوب المؤمنين، ويشدّ من عزيمتهم، وليعلموا: أنّ الأمر بذلك ليس لضعفهم، وغلبة عدوهم، بل لأنّ الواجب أن يحافظوا على مراسيم التيقّظ والتدبّر. فيتوكّلوا على الله. قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي:«اعقل وتوكّل» .
تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية الكريمة في النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنّه غزا بني محارب، وبني أنمار، فنزلوا منزلا، ولا يرون من العدو أحدا، فوضع المسلمون السّلاح، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة حتّى قطع الوادي، فحال السّيل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، فجلس تحت شجرة، فبصر به غورث بن الحارث المحاربي، فقال: قتلني الله إن لم أقتله! ثمّ انحدر من الجبل ومعه السّيف، ولم يشعر به النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وهو قائم على رأسه، وقد سلّ السّيف من غمده، وقال: يا محمد! من يمنعك مني الآن؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله عز وجل» ، ثم قال:
«اللهمّ اكفني غورث بن الحارث بما شئت!» فأهوى غورث بالسيف ليضرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكبّ لوجهه من زلقة زلقها، فبدر السّيف من يده. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ السّيف، وقال:«من يمنعك مني الآن يا غورث؟!» فقال: لا أحد! كن خير آخذ يا محمد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله؟» . قال: لا! ولكن أشهد: ألا أقاتلك أبدا، ولا أعين عليك عدوّا. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فقال: لأنت خير منّي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أجل أنا أحقّ بذلك منك» . فرجع إلى قومه، وقال لهم: جئتكم من عند خير النّاس، وذكر لهم حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه، وأخبرهم الخبر، وقرأ عليهم:{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ..} . إلخ.
الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. ({إِذا}): انظر الآية السابقة. {كُنْتَ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {فِيهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذا}) إليها على المشهور المرجوح. {فَأَقَمْتَ:} الفاء:
حرف عطف. (أقمت): فعل وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الصَّلاةَ:} مفعول به. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَةٌ} . {مَعَكَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل (تقم) والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَلْتَقُمْ..} . إلخ جواب ({إِذا}) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَلْيَأْخُذُوا:} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جواب ({إِذا}) لا محلّ لها مثله. {أَسْلِحَتَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {فَإِذا سَجَدُوا:} إعرابه واضح إن شاء الله. {فَلْيَكُونُوا:} الفاء: واقعة في جواب
({إِذا}). (ليكونوا): فعل مضارع ناقص مجزوم بلام الأمر
…
إلخ، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مِنْ وَرائِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَلْيَكُونُوا..} . إلخ جواب ({إِذا}) لا محلّ لها، و ({إِذا}) ومدخولها كلام مستأنف، لا محلّ له. {وَلْيَأْخُذُوا:} فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جواب ({إِذا}) لا محلّ لها مثله. {أَسْلِحَتَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محلّ جرّ بالإضافة.
{وَلْتَأْتِ:} الواو: حرف عطف. ({لْتَأْتِ}): فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {طائِفَةٌ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جواب ({إِذا}) لا محلّ لها أيضا. {أُخْرى:} صفة: {طائِفَةٌ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُصَلُّوا:}
فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ} .. إلخ والجملة الفعلية في محل رفع صفة ثانية ل {طائِفَةٌ} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها بما تقدّم، والجملتان:{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} معطوفتان على جواب ({إِذا}) لا محلّ لهما مثله، والإعراب واضح إن شاء الله.
{وَدَّ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل: {وَدَّ،} والجملة الفعلية تعليل للأمر، أو هي مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَوْ:} حرف مصدري. {تَغْفُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ والواو فاعله، و {لَوْ} والفعل في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: ودّوا غفلتكم. {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَأَمْتِعَتِكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة. وجملة:(يميلون عليكم) معطوفة على ما قبلها، فهي داخلة معها بالمصدرية. {مَيْلَةً:} مفعول مطلق.
{واحِدَةً:} صفة لها.
{وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» {جُناحَ:} اسم ({لا}) مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر ({لا})، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:
{كانَ} تقدّم على اسمها. {أَذىً:} اسم: {كانَ} مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المقصورة المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {مِنْ مَطَرٍ:}
متعلقان بمحذوف صفة {أُخْرى،} وجملة: {كانَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه،
و {إِنْ} ومدخولها كلام معترض بين {جُناحَ} ومتعلقه الآتي. {أَوْ:} حرف عطف. {كُنْتُمْ:}
فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مَرْضى:} خبر كان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية معطوفة على جملة فعل الشّرط، لا محلّ لها مثلها. {أَنْ تَضَعُوا:} فعل مضارع منصوب ب {إِنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من الفعل وناصبه في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:
في وضع أسلحتكم، والجار والمجرور متعلقان بما تعلّق به:{عَلَيْكُمْ} . {أَسْلِحَتِكُمْ:}
مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة.
{وَخُذُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {حِذْرَكُمْ:}
مفعول به، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:({لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ}) وهي مؤكّدة لها. وحصل في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب. {إِنْ:} حرف مشبه بالفعل.
{اللهَ:} اسمها. {أَعَدَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب {مُهِيناً} بعدهما. {عَذاباً:} مفعول به. {مُهِيناً:} صفة له، وجملة:{أَعَدَّ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنْ،} والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.
الشرح: {فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} أي: فرغتم، وانتهيتم من صلاة الخوف المذكورة.
{فَاذْكُرُوا اللهَ} يعني: بالتسبيح، والتحميد، والتّهليل، والتكبير، وأثنوا على الله في جميع أحوالكم، واسألوه النّصر لا سيما في حال القتال، كقوله تعالى في سورة (الأنفال):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فذكر الله مرغّب فيه في جميع الحالات، وهو في حالة الحرب، وبعد الفراغ من الحرب آكد.
{قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ} أي: اذكروا الله في جميع الحالات، وفي حالة الخوف والحرب آكد كما قدّمت. ويقال: المعنى: إذا صليتم في دار الحرب؛ فصلّوا كيفما قدرتم، وتمكّنتم، كما قال تعالى في سورة (البقرة):{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً} فيكون المراد بالذكر الصّلاة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [191] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
{اِطْمَأْنَنْتُمْ:} سكنت قلوبكم من الخوف. {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: فأتمّوها أربعا. فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة ترك السّفر، المعنى: إذا صرتم مقيمين في أوطانكم؛ فأقيموا الصلاة تامة أربعا من غير قصر. وقيل: المعنى: أقيموا لها ركوعها، وسجودها، وقيامها، وقعودها، وخشوعها. فعلى هذا يكون المراد بالطمأنينة: سكون القلب من الاضطراب، والأمن بعد الخوف.
{إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً} يعني: فرضا مؤقتا، والكتاب: هنا بمعنى المكتوب؛ يعني: مكتوبة مؤقّتة في أوقات محدودة، فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أيّ حال من خوف، أو أمن. وقيل: معناه: فرضا واجبا مقدّرا في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين.
وقال البيضاوي-رحمه الله تعالى-: وفي الآية دليل على أنّ المراد بالذكر: الصلاة، وأنّها واجبة الأداء حال المسايفة، والاضطراب في المعركة، وتعليل للأمر بالإتيان بها كيفما أمكن.
وقال أبو حنيفة-رحمه الله تعالى-: لا يصلّي المحارب حتى يطمئنّ. انتهى. هذا؛ وذكرت لك في الآية السابقة: أنّ الأوضاع قد تغيّرت، والأحوال قد انقلبت رأسا على عقب.
هذا؛ {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمر معناه الوجوب، وأصله:«أقوموا» فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها، فصار:«أقوموا» ثمّ قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها.
ومعنى: (أقيموا {الصَّلاةَ}): أدّوها في أوقاتها، وحافظوا على طهارتها، وأتمّوا لها ركوعها، وسجودها، وخشوعها، ومن لم يؤدّها على الوجه الأكمل يقال عنه: صلّى، ولا يقال: أقام الصلاة.
وهذا؛ والصّلاة في اللّغة: الدعاء، والتّضرّع، وهي في الشرع: أقوال، وأفعال مخصوصة، مبتدأة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، ولها شروط، وأركان، ومبطلات، ومندوبات، ومكروهات مذكورة في الفقه الإسلامي. هذا؛ وقد بيّن الله تعالى: أنّ أجود ما يستعان به على تحمّل المتاعب، والمصاعب الصّبر، والصلاة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [153]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصّابِرِينَ} . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر؛ فزع إلى الصلاة.
هذا؛ والصّلاة من العبد معناها: التضرّع، والدّعاء، ومن الملائكة على العبد معناها:
الاستغفار، وطلب الرّحمة له، ومن الله على عباده معناها: الرحمة، والمغفرة، وإنزال البركات، وقد جمعت الأنواع الثلاثة في قوله تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [56]:{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
تنبيه: قال الشيخ أبو منصور-رحمه الله تعالى-: «القضاء» يحتمل الحكم، كقوله تعالى:
{لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} أي: ليحكم ما قد علم أنّه يكون كائنا، أو ليتم أمرا كان قد أراده، وما أراد كونه، فهو مفعول لا محالة. انتهى.
هذا؛ والماضي: قضى، والمصدر: قضاء بالمد؛ لأنّ لام الفعل ياء؛ إذ أصل ماضيه:
«قضي» بفتح الياء، فقلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومصدره:«قضيا» فأبدلت الثانية همزة، فصار «قضاء» ممدودا، وجمع القضاء: أقضية. كعطاء، وأعطية، وهو في الأصل:
إحكام الشيء، وإمضاؤه، والفراغ منه، كما في الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، ومنه قول الشّاعر، وهو الشاهد رقم [179]: من كتابنا: «فتح القريب المجيب» : [الخفيف]
وجهك البدر لا بل الشّمس لو لم
…
يقض للشّمس كسفة أو أفول
وقال الشمّاخ في عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-يرثيه: [الطويل]
قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها
…
بوائق في أكمامها لم تفتّق
ويكون بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} وبمعنى العلم، تقول: قضيت كذا، أي: أعلمتك به، وبمعنى الفعل، قال تعالى حكاية عن قول السّحرة لفرعون:{فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ،} وبمعنى الإرادة، وهو كثير كقوله تعالى:{فَإِذا قَضى أَمْراً،} وبمعنى الموت، كقوله تعالى حكاية عن قول أهل النّار في دار القرار:{وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ..} . إلخ.
ويأتي القضاء بمعنى الكتابة، قال تعالى:{وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا} أي: مكتوبا في اللوح المحفوظ. وبمعنى الفصل، قال تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . وبمعنى الخلق، كقوله تعالى:{فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ} . وبمعنى بلوغ الأرب، والمراد، قال تعالى:
{فَلَمّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها} وبمعنى: وفاء الدين، تقول: قضى فلان ما عليه: إذا أوفى ذمّته، وأبرأها ممّا عليه من ديون. انتهى. قسطلاني شرح البخاري. وأضيف: أنّه يكون بمعنى:
أوحينا، كقوله تعالى:{وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ..} . إلخ.
قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: فإذا كان القضاء بهذه المعاني، فلا يجوز إطلاق القول بأنّ المعاصي بقضاء الله تعالى؛ لأنّه إن أريد به الأمر؛ فلا خلاف: أنّه لا يجوز ذلك؛ لأنّ الله لا يأمر بها، فإنّه لا يأمر بالفحشاء، وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن البصري، فقال: إنّه طلق امرأته ثلاثا، فقال: عصيت ربك، وبانت منك. فقال الرّجل: قضى الله عليّ؟ فقال الحسن، وكان فصيحا: ما قضى الله ذلك؛ أي: ما أمر به، وقرأ قوله تعالى:{وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ..} . إلخ.
بعد هذا؛ فقد جعل الله لكلّ طاعة، وعبادة أولا، وآخرا، إلا الذّكر، فإنّه لا أوّل له، ولا آخر، قال تعالى في سورة (الجمعة):{وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،} وقال تعالى في سورة (الأحزاب): {وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ} وقال فيها أيضا رقم [41]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً،} وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: لم يفرض الله-عز وجل-على عبادة فريضة إلا جعل لها حدّا معلوما، ثمّ عذر أهلها في حال العذر غير الذّكر، فإنّه لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلبا على عقله، وأمرهم به في جميع الأحوال كلّها،
وذكر الآية الكريمة التي نحن بصدد شرحها، وذكر آيتي (الأحزاب)، والمعنى: اذكروا الله في اللّيل، والنّهار، في البرّ، والبحر، في الصّحّة، والمرض، في السّرّ، والعلانية. وقيل: الذكر الكثير هو أن لا ينساه أبدا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [191] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
الإعراب: {فَإِذا:} الفاء: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [101]. {قَضَيْتُمُ:} فعل وفاعل. {الصَّلاةَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح. {فَاذْكُرُوا:} الفاء: واقعة في جواب (إذا). (اذكروا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب (إذا) لا محلّ لها. {اللهَ:}
منصوب على التعظيم، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {قِياماً وَقُعُوداً:} حالان من واو الجماعة، وهما مصدران بمعنى: قائمين، وقاعدين. {وَعَلى جُنُوبِكُمْ:} متعلقان بمحذوف حال معطوف على ما قبلهما، التقدير: ومضجعين على جنوبكم: والكاف في محل جر بالإضافة. {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ:} الإعراب مثل سابقه، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله.
{إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {الصَّلاةَ:} اسمها. {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، والتاء للتأنيث، واسمه ضمير مستتر تقديره:«هي» ، يعود إلى:{الصَّلاةَ} . {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {كانَتْ} . أو هما متعلقان ب {مَوْقُوتاً} بعدهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{كِتاباً:} خبر {كانَتْ} . {مَوْقُوتاً:} صفة له، صفة مؤكدة. وجملة:{كانَتْ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ} والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.
الشرح: سبب نزول هذه الآية الكريمة: أنّ أبا سفيان، وأصحابه لمّا رجعوا من غزوة أحد؛ بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّهم ينوون الرّجوع إلى المدينة، ليستأصلوا المسلمين، فندب الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين لملاقاتهم، فشكوا من ألم الجراحات الّتي أصابتهم في غزوة أحد، فأورد الله عليهم الحجّة في هذه الآية الكريمة، وألزمهم بها. وانظر الآية رقم [140]: ورقم [172]: من سورة (آل عمران) ففيهما الكفاية.
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ:} ولا تضعفوا، ولا تجبنوا في طلب المشركين، وملاقاتهم.
{إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ..} . إلخ؛ أي: إن كنتم تتألّمون من الجراح، والقتال؛ فإنّهم يتألّمون منه كما
تتألّمون. فهو مثل قوله في سورة (آل عمران) رقم [140]: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} .
{وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ} أي: أنتم وإيّاهم فيما يصيبكم من الجرح، والآلام سواء، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة، والنّصر، والتأييد، كما وعدكم في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق، وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فأنتم أجدر بالجهاد، والقتال منهم، وأنتم أحقّ في إقامة كلمة الله، وإعلانها. فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم، مع أنّكم أجدر بالصّبر منهم؟!
{وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} هو أعلم فيما يقدّره، ويقضيه، وينفذه، ويمضيه من أحكامه الكونية، والشّرعية، وهو المحمود على كلّ حال، وعلى كلّ لسان. والحمد لله!.
هذا؛ و ({تَرْجُونَ}) بمعنى: تؤمّلون؛ لأنّ أصل الرّجاء الأمل في الشّيء، والطّماعية فيه، قال الشاعر:[الوافر]
أترجو أمّة قتلت حسينا
…
شفاعة جدّه يوم الحساب
كما يأتي: «ما أرجو» بمعنى: ما أبالي، قال خبيب بن عديّ-رضي الله عنه وأرضاه-:[الطويل]
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما
…
على أيّ جنب كان في الله مصرعي
هذا؛ و «الرّجاء» يأتي بمعنى الخوف، قال تعالى في سورة (الفرقان):{وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا..} . إلخ، وقال في آخر سورة (الكهف):{فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً..} . إلخ، وهي لغة تهامة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي في صفة عسّال، أي: الذي يقطف عسل النّحل: [الطويل]
إذا لسعته الدّبر لم يرج لسعها
…
وخالفها في بيت نوب عواسل
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. ({لا}): ناهية. {تَهِنُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {فِي ابْتِغاءِ:} متعلقان بما قبلهما، و {اِبْتِغاءِ} مضاف، و {الْقَوْمِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {تَأْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{تَكُونُوا،} والجملة الفعلية هذه لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّه جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنَّهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّهم): حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وجملة:{يَأْلَمُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا
محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، و (أن) ومدخولها كلام مفيد لتعليل النهي، لا محلّ لها، هذا وقرئ بفتح همزة («أن») فتكون ناصبة، والمصدر المؤول منها، ومن الفعل بعده على هذا في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: لأن تكونوا، وهي قراءة شاذّة، وتكون الجملة:{فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} تعليلا للنهي أيضا بعد التعليل الأول.
{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية. {تَأْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع
…
إلخ، و (ما) المصدرية، والفعل:{تَأْلَمُونَ} في تأويل مصدر في محل جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: فإنّهم يألمون ألما مثل ألمكم. وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنّما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدّم، وليس هذا منها، وجملة:
{وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ:} معطوفة على جملة: {يَأْلَمُونَ،} فإنّ المعنى: وإنكم ترجون من الله.
{ما:} مفعول به، وهي موصولة، أو موصوفة. {لا:} نافية. {يَرْجُونَ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:
ويرجون من الله الذي، أو: شيئا لا يرجونه؛ أي: الكفار. {وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} إعرابها واضح، والجملة مستأنفة.
الشرح: {إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ:} الواضح الّذي لا خفاء فيه، ولا غموض، والمراد بالكتاب: القرآن الكريم. {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ:} بما عرّفك الله، وأوحى إليك. وإنّما سمّي العلم اليقيني: رؤية؛ لأنّه جرى مجراها في قوّة الظّهور. {وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ:} لأجل الخائنين. {خَصِيماً:} مخاصما عنهم، أي: مدافعا عنهم، ومعينا لهم.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة، وما بعدها في طعمة بن أبيرق من بني ظفر من الأنصار، وكان قد سرق درعا من جاره المسلم قتادة بن النّعمان-رضي الله عنه-في جراب فيه أثر دقيق، فجعل الدّقيق ينتثر من خرق فيه، وخبّأها عند رجل من اليهود، يقال له: زيد بن السّمين، فالتمست الدّرع عند طعمة بسبب أثر الدّقيق، فلم توجد، وحلف بالله ما أخذها، وما له بها من علم، فتركوه، واتبعوا أثر الدّقيق حتى انتهى إلى نزل اليهودي، فأخذوها، فقال: دفعها إليّ طعمة بن أبيرق، وشهد له ناس من اليهود، فقال بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا، فذهبوا، وقالوا: يا رسول الله! إن لم تفعل؛ هلك طعمة، وافتضح، وبرئ اليهوديّ! فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فنزل جبريل الأمين-عليه السلام-بهذه الآيات، ولمّا
سمع طعمة بذلك لحق بمكّة مرتدّا عن الإسلام، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد، فقال حسّان-رضي الله عنه-بيتين يعرّض فيه بها، وهما:[الطويل]
وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت
…
ينازعها جلد استها وتنازعه
ظننتم بأن يخفى الّذي قد صنعتم
…
وفينا نبيّ عنده الوحي واضعه
فلمّا بلغها ذلك، قالت له: إنّما أهديت إليّ شعر حسّان! وأخذت رحله، فطرحته خارج منزلها. ثمّ إنّ طعمة بن أبيرق عدا على الحجّاج بن علاط، فنقب عليه بيته، فسقط عليه حجر من الحائط، فلمّا أصبحوا، أخرجوه من مكّة، فلقي ركبا مسافرين. فعرض لهم، وقال: ابن سبيل، ومنقطع به، فحملوه معهم، حتى إذا جنّ الليل عدا عليهم، فسرقهم، وهرب، فركبوا في طلبه، فأدركوه، فرموه بالحجارة حتّى مات. ومن كانت هذه حاله كان كثير الخيانة، والإثم، فلذلك وصفه الله تعالى بالمبالغة في الخيانة، والإثم.
قال بعضهم: إذا عثرت من رجل على سيئة؛ فاعلم: أنّ لها أخوات. ويروى: أنّ عمر رضي الله عنه-أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمّه تبكي، وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها، فاعف عنه يا أمير المؤمنين! فقال: كذبت ما كان الله ليفضحه من أوّل مرة.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها للتّخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَنْزَلْنا:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{الْكِتابَ:} مفعول به. {بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من الكتاب؛ أي: ملتبسا بالحقّ.
{لِتَحْكُمَ:} فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل تقديره: أنت، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{أَنْزَلْنا} . {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {النّاسِ:}
مضاف إليه. {بِما:} جار، ومجرور متعلقان بالفعل:(تحكم)، و (ما) موصولة، أو موصوفة.
{أَراكَ:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذّر، والكاف مفعول به أوّل. {اللهُ:}
فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو:
بشيء أراكه الله. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية جازمة. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب ({لا}) واسمه ضمير مستتر تقديره: «أنت» . {لِلْخائِنِينَ:} متعلقان ب {خَصِيماً} بعدهما الّذي هو خبر: {تَكُنْ،} وجملة: {وَلا تَكُنْ..} . إلخ معطوفة على جملة محذوفة، يدل عليها النظم الكريم، كأنّه قيل: فاحكم به، ولا تكن
…
إلخ. ولا يعزب عن بالك: أنّ الفاء المقدّرة إنّما هي الفاء الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا؛ فاحكم
…
إلخ، والكلام كلّه لا محلّ له؛ لأنّه معطوف على الجملة الاسمية قبله.
{وَاِسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)}
الشرح: {وَاسْتَغْفِرِ اللهَ:} اطلب من الله المغفرة ممّا هممت به، أي: من القضاء على اليهوديّ بقطع يده، أو من جدالك عن طعمة.
تنبيه: قد تمسّك بهذه الآية من يرى صدور الذنب من الأنبياء، وقالوا: لو لم يقع من الرّسول صلى الله عليه وسلم ذنب؛ لما أمر بالاستغفار. والجواب عمّا تمسّكوا به: أنّ درجة الرّسول صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات، ومنصبه أشرف المناصب، فلعلوّ درجته، وشرف منصبه، وكمال معرفته بالله عز وجل فما يقع منه صلى الله عليه وسلم على وجه التأويل، أو الاجتهاد، كما في أسرى بدر، وإذنه للمنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، وغير ذلك من أمور الدّنيا، فإنّه ذنب بالنسبة إلى منصبه العظيم، وجاهه الكريم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وذلك بالنسبة إلى منازلهم العالية، ودرجاتهم الرّفيعة. والله أعلم، وانظر الآية رقم [43] من سورة (التوبة) تجد ما يسرّك.
الإعراب: {وَاسْتَغْفِرِ:} الواو: حرف عطف. ({اِسْتَغْفِرِ}): فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:
أنت. {اللهَ} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:({لا تَكُنْ..}.) إلخ، لا محلّ لها مثلها. {إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً:} تقدّم مثلها كثيرا وهي هنا مفيدة للتعليل، لا محلّ لها.
الشرح: {وَلا تُجادِلْ:} هذا الخطاب لسيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم. {عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ:} بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب. والاختيان: أبلغ من الخيانة، كالاكتساب، فإنّه أبلغ من الكسب، وسمّاه الله: خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، وكل عاص لله خائن لنفسه بتعريضها للعقاب، وتنقيص حقّها من الثواب، وألف {يَخْتانُونَ} مبدلة من واو؛ لأنّه من: خان، يخون. وتقول في الجمع: خونة، واسم الفاعل: خائن، وأصله: خاون، مثل: قائل أصله: قاول.
هذا؛ والمجادلة: المخاصمة من الجدل، وهو الفتل، ومنه: رجل مجدول الخلق، ومنه الأجدل للصّقر. وقيل: هو من الجدالة، وهي وجه الأرض، فكل واحد من الخصمين؛ يريد أن يلقي صاحبه عليها. ومنه قولهم: تركته مجدّلا؛ أي: مطروحا على الجدالة.
هذا؛ والجدل، والجدال، والمجادلة: المماراة، وهي مذمومة. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه، إلاّ أوتوا الجدل» ثم قرأ:
{ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً»} . رواه الترمذيّ، وابن ماجة. {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ} أي: يبغض؛ لأنّ معنى محبة الله للعبد: رضاه عنه، وغفر ذنوبه، وستر عيوبه، ومعنى عدم محبّته للعبد: طرده من جنّته، وإبعاده من رحمته. {مَنْ كانَ خَوّاناً:} صيغة مبالغة بمعنى: كثير الخيانة. {أَثِيماً:} صيغة مبالغة أيضا بمعنى كثير الإثم، والمراد به: طعمة.
بعد هذا قال العلماء: ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق عنهم؛ ليحموهم، ويدفعوا عنهم، فإنّ هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت الآيات، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد منه: الّذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين: أحدهما: أنّه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعده بقوله: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} والآخر: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه، ولا يعتذر هو إلى غيره، فدلّ: أنّ القصد لغيره. انتهى قرطبي بتصرف.
الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): ناهية. {تُجادِلْ:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. {عَنِ الَّذِينَ:} متعلقان بما قبلهما. {يَخْتانُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمه. {لا:} نافية.
{يُحِبُّ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{اللهَ} . {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة بمعنى شخص أو إنسان، مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{مَنْ} وهو العائد، أو الرابط. {خَوّاناً:} خبر: {كانَ} . {أَثِيماً:}
خبر ثان، والجملة الفعلية صلة:{مَنْ} أو صفتها، وجملة:{لا يُحِبُّ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل للنّهي لا محلّ لها.
الشرح: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ:} يستترون من الناس خوفا، وخجلا. والمراد بذلك بنو ظفر قوم طعمة بن أبيرق. {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ:} وهو أحقّ أن يستحيا منه. وأصل الاستخفاء:
الاستتار، وإنّما فسّر الاستخفاء بالاستحياء على المعنى؛ لأنّ الاستخفاء من الناس يوجب الاستتار منهم. {وَهُوَ مَعَهُمْ} بالعلم، والقدرة؛ أي: مطّلع عليهم، وعالم بأحوالهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. هذا؛ وبين الجملتين طباق السّلب، وهو من المحسّنات البديعية. {إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ:} أي: يدبرون، ويزوّرون الّذي لا يرضاه الله تعالى من عزمهم على
الحلف الكاذب، ونفي السرقة، ورمي اليهوديّ بها، وانظر ({بَيَّتَ}) في الآية رقم [81]:{وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} أي: عليما دقيقا، فلا يفوته شيء من عملهم، ولا يعجزونه.
هذا؛ و «محيط» أصله: «محوط» لأنّه من: أحاط، يحيط، أو من: حاط، يحوط، وهو أولى، فهو من الباب الأول، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علّة متحرّك، والحرف الصّحيح أولى بالحركة من حرف العلّة، فنقلت حركة الواو إلى الحاء قبلها، فصار:«محوط» ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها.
قال النّسفي-رحمه الله تعالى-: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلّة الحياء، وعدم الخشية من ربهم مع علمهم: أنّهم في حضرته، لا سترة، ولا غيبة عن علمه. وفي الآية دليل على أنّ الكلام هو المعنى القائم بالنّفس حيث سمّى التدبير: قولا. انتهى.
الإعراب: {يَسْتَخْفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها، ويجوز اعتبارها في محلّ نصب حال من واو الجماعة في:{يَخْتانُونَ} . {مِنَ النّاسِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}):
نافية، وجملة:({لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ}) معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.
{وَهُوَ:} الواو واو الحال. ({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ.
{مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ، والهاء في محل جرّ بالإضافة، والجملة الاسمية في محلّ نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير.
{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزّمان في الأصل، وهو هنا للحاضر، مبنيّ على السّكون في محل نصب متعلّق بالخبر المحذوف. {يُبَيِّتُونَ:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة ({إِذْ}) إليها. {ما:} موصولة، أو موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لا:} نافية. {يَرْضى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والفاعل يعود إلى {اللهِ} والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، وهو المفعول به؛ إذ التقدير: الّذي، أو: شيئا لا يرضاه. {مِنَ الْقَوْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، العائد على:{ما} . و {مِنَ:} بيان لما أبهم في: {ما} .
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. ({كانَ}): فعل ماض ناقص. {اللهِ:} اسمها. {بِما:}
جار ومجرور متعلقان ب {مُحِيطاً} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء يعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: بعملهم. {مُحِيطاً:} خبر: (كان) وجملة: {وَكانَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ..} . إلخ: خاصمتم، ودافعتم عنهم. والخطاب لقوم طعمة الذين حاولوا تبرئته من السّرقة، وإلصاقها باليهوديّ؛ أي: كما رأيت فيما تقدّم. {فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ:} فيه توبيخ، وتهديد، ووعيد. {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً:} محاميا يحميهم من عذاب الله تعالى يوم القيامة. وانظر الآية رقم [81].
تنبيه: هذه الآية الكريمة تقرع قلب كلّ من يدافع عن مجرم أثيم بالباطل: من قريب للمجرم، أو محام خبيث، وتصكّ آذانهم، وتأتي على بنيانهم من القواعد، فهلا عمل المجرم الأثيم وكالة لمحاميه الخبيث؛ ليدافع عنه أمام الله يوم القيامة؛ ليخلّصه من العقاب الشّديد، والعذاب الأليم.
الإعراب: {ها أَنْتُمْ:} (ها): حرف تنبيه لا محلّ له. ({أَنْتُمْ}): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {هؤُلاءِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني هؤلاء، أو هو مبني على الضمّ المقدّر على آخره في محل نصب ب (يا) النداء المحذوفة، وعليه فجملة:{جادَلْتُمْ عَنْهُمْ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة سواء أكانت فعلية، أم ندائية: معترضة بين المبتدأ، والخبر، لا محلّ لها من الإعراب، إلا أنّ هذا لا يجيزه سيبويه؛ لأنّ (أولاء) مبهم، ولا يحذف حرف النداء مع المبهم. هذا؛ ويعتبر الكوفيون: أنّ {هؤُلاءِ} اسم موصول هو الخبر، والجملة الفعلية بعده صلته. ولم يجزه البصريون؛ لأنّ {هؤُلاءِ} اسم إشارة، ولا يكون بمعنى الّذين. وهناك وجه ثالث، وهو: أنّ {هؤُلاءِ} خبر المبتدأ على تقدير مضاف محذوف، التقدير: ثمّ أنتم مثل هؤلاء، كقولك: أبو يوسف أبو حنيفة، فعلى هذا جملة:{جادَلْتُمْ} في محل نصب حال من: {هؤُلاءِ،} والعامل في الحال معنى التشبيه.
عكبري. في غير هذا الموضع. هذا؛ وأرى صحة وجه آخر، وهو أن يكون:{هؤُلاءِ} مبتدأ ثانيا، وجملة:{جادَلْتُمْ عَنْهُمْ} في محل رفع خبره. هذا؛ ومثل الآية الكريمة في بعض أوجه إعرابها قول ذي الرّمة-وهو الشّاهد رقم [1094] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [الطويل]
إذا هملت عيني لها قال صاحبي
…
بمثلك-هذا-لوعة وغرام
حيث قال الكوفيون: إنّ التقدير: يا هذا؛ ومثله الشاهد رقم [1095].
{جادَلْتُمْ:} فعل وفاعل، ويجب تقدير «قد» قبلها على اعتبارها حالا في بعض الوجوه.
{عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {فِي الْحَياةِ:} متعلقان بما قبلهما. {الدُّنْيا:}
صفة {الْحَياةِ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الاسمية:
{ها أَنْتُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها.
{فَمَنْ:} الفاء: حرف استئناف، وتفريع. (من): اسم استفهام بمعنى النفي مبنيّ على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُجادِلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (من)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلّق بالفعل قبله، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {أَمْ:} حرف عطف. {مَنْ:} مبتدأ مثل ما قبله.
{يَكُونُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه يعود إلى:{مَنْ} . {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {وَكِيلاً} بعدهما، وهو أولى من تعليقهما بالفعل:{يَكُونُ} . {وَكِيلاً:} خبره، وجملة:
{يَكُونُ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً} أي: عملا يسوء به غيره، كما فعل طعمة بالسّرقة من قتادة، وإنّما خصّ ما يتعدى إلى الغير باسم السّوء؛ لأنّ ذلك يكون في الأكثر إيصالا للضّرر إلى الغير. {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختصّ به، ولا يتعداه، وذلك كالشّرك، والحلف الكاذب. {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ:}
يطلب منه المغفرة. انظر الآية رقم [135] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة في ترغيب طعمة في التّوبة، وعرضها عليه. وقيل: نزلت في قومه الّذين جادلوا عنه. وقيل: هي عامّة في كلّ مذنب، ومسيء؛ لأنّ خصوص السبب لا يمنع التّعميم، وهو الأصحّ.
تنبيه: قال الخازن-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية دليل على حكمين: أحدهما: أنّ التوبة مقبولة من جميع الذّنوب: الكبائر، والصغائر؛ لأنّ قوله تعالى:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} عمّ الكلّ. والحكم الثاني: أنّ ظاهر الآية يقتضي: أنّ مجرّد الاستغفار كاف، وقال بعضهم: إنّه مقيد بالتّوبة؛ لأنّه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار. وهو المعتمد، فالمستغفر من الذّنب، وهو مصرّ عليه، كالمستهزئ بربّه، وقد بيّنته مرارا.
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْمَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {سُوءاً:} مفعول
به. {أَوْ:} حرف عطف. {يَظْلِمْ:} معطوف على: {يَعْمَلْ} مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا. {نَفْسَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {ثُمَّ:} حرف عطف.
{يَسْتَغْفِرِ:} معطوف على فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {يَجِدِ:} فعل جواب الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) أيضا. {اللهَ} منصوب على التعظيم مفعول به أول. {غَفُوراً:} مفعول به ثان. {رَحِيماً:} من تعدّد المفعول الثاني؛ لأنّ الأصل-وهو خبر المبتدأ-يتعدّد. وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه. وجملة: {يَجِدِ اللهَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشّرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية.
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)}
الشرح: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً} أي: يعمل ذنبا يأثم به. {فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ} يعني: إنّما يعود وبال كسبه عليه، والكسب عبارة عمّا يفيد جر منفعة، أو دفع مضرّة، فكأنّ الله تعالى يقول: يا أيها الإنسان! إنّ الذنب الذي ارتكبته إنّما عادت مضرّته عليك، فإني منزّه عن الضرّ، فأكثر من الاستغفار، ولا تيئس من قبول التّوبة. قال تعالى:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} وقال تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} . {وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} فلا يعاقب بالذّنب غير فاعله.
هذا؛ وقد فسّر الإثم في آية (الأعراف) رقم [32] بالخمرة، وهو قول الحسن، وعطاء. قال الجوهري: وقد تسمّى الخمرة: إثما، واستدلّ عليه بقول الشّاعر:[الوافر]
شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي
…
كذاك الإثم يذهب بالعقول
قال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي: أنّ تسمية الخمرة بالإثم صحيح؛ لأنّ شربها إثم.
وأنكر أبو بكر الأنباري تسمية الخمر بالإثم، قال: لأنّ العرب ما سمّته إثما قطّ لا في جاهلية، ولا في إسلام، ولكن قد يكون داخلا تحت الإثم لقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [219]:
{قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ} . والله أعلم بمراده.
الإعراب: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً:} مثل الآية السابقة. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنّما): كافة ومكفوفة. {يَكْسِبُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى (من). {عَلى نَفْسِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَإِنَّما يَكْسِبُهُ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشّرط.
وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان، وهو المرجّح عند المعاصرين. والجملة الاسمية معطوفة على مثلها في الآية السابقة، لا محلّ لها مثلها. {وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها، وهي مستأنفة.
الشرح: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً:} ذنبا صغيرا، أو ما لا عمد فيه. {أَوْ إِثْماً:} ذنبا كبيرا، وما فيه عمد. وقيل: هما بمعنى واحد، وكرّر لاختلاف اللفظ تأكيدا. وهذه الآية لفظها عام يشمل جميع الذنوب. {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي: بالإثم، أو بالخطيئة، أو بهما جميعا؛ لأنّهما بمعنى واحد كما قدمت، أو المعنى: ثمّ يرم بأحد الأمرين. هذا؛ وتجمع {خَطِيئَةً} على: خطايا، كما في الآية رقم [58] من سورة (البقرة)، وعلى: خطيئات، كما في الآية رقم [161] من سورة (الأعراف).
{فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً:} استعارة؛ إذ الذنوب ثقل، ووزر، فهي كالمحمولات، قال تعالى في سورة (العنكبوت) رقم [13]:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} . و (البهتان) من: البهت، وهو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب؛ وهو منه بريء؛ لأنّه يبهت عند ذلك، ويتحيّر. والبهتان:
الافتراء، والفعل منه: بهت، وبهت. وبهت: إذا انقطع، وسكت متحيّرا مدهوشا. وخذ ما يلي:
فقد روى مسلم-رحمه الله تعالى-عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«ذكرك أخاك فيما يكره» . قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول؛ فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول؛ فقد بهتّه» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
الإعراب: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً:} انظر إعراب مثله في الآية السّابقة. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَرْمِ:} فعل مضارع معطوف على فعل الشّرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل يعود إلى (من). {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بَرِيئاً:} مفعول به. {فَقَدِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط.
(قد): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {اِحْتَمَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {بُهْتاناً:} مفعول به، وجملة:{فَقَدِ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ.
{وَإِثْماً:} معطوف على سابقه. {مُبِيناً:} صفة: {إِثْماً} .
الشرح: {وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ:} كرمه، وجوده، وإنعامه. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد تكرّم الله عليه بإعلامه، وكشف ما أضمر، وبيّت طعمة، وقومه من المؤامرة، والخيانة؛ الّتي رأيتها فيما سبق. {لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ:} المراد بهم: بنو ظفر قوم طعمة، و (الطّائفة): الجماعة من
الناس، و (همّت) بمعنى: عزمت، وقرّرت، وأرادت. والهمّ: العزم على الشيء، والمقاربة من الفعل من غير دخول فيه، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) الصدّيق-على نبينا وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها} . وقال عمرو بن ضابئ البرجمي: [الطويل]
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
…
تركت على عثمان تبكي حلائله
و «الهم» أيضا: الحزن، ومثله: الغمّ. ويفرّق بينهما بأنّ الأول لأجل تحصيل شيء في المستقبل، والثاني لأجل فوات شيء، وفقدانه في الماضي، وبأنّ الأول يطرد النّوم، ويسبب الأرق، والثاني يجلب النّوم، ويسبّب الهدوء، والسكون، والهموم، والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان؛ أسرع فيه الشيب، وهزل جسمه. وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «الهمّ نصف الهرم» .
وقال أبو الطيّب المتنبّي: [الكامل]
والهمّ يخترم الجسيم نحافة
…
ويشيب ناصية الصّبيّ فيهرم
{لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} أي: يبعدوك عن الحقّ، والعدل مع علمهم بحقيقة الأمر. {وَما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ:} لأنّ وباله عليهم بسبب تعاونهم على الإثم، وبشهادتهم له:
أنّه بريء، فهم لمّا أقدموا على ذلك؛ رجع وباله عليهم. {وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} يعني: وإن بذلوا جهدهم في إلقائك في الباطل، فأنت ما وقعت فيه؛ لأنّ الله متولّي شئونك، وحافظك، وعاصمك من الزّلل، والخطأ في حياتك كلّها، وما هممت به كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر، لا ميلا في الحكم، وخروجا عن الحقّ.
{وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ:} القرآن. {وَالْحِكْمَةَ:} القضاء بهما، وانظر الآية رقم [54]، فكيف يضرّونك بتدليسهم، وخداعهم، وإلقائك في الشّبهات؟! {وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ:} من أحكام الشرع، وأمور الدين، وعلّمك من خفيات الأمور، وأطلعك على ضمائر القلوب، وعلّمك من أحوال المنافقين، وكيدهم ما لم تكن تعلم.
{وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} يعني: لم يزل فضل الله عليك يا محمد عظيما، فاشكره على ما أولاك من إحسان، ومنّ عليك بنبوّته، وعلّمك ما أنزل عليك من كتابه، وحكمته، وعصمك ممّن حاول إضلالك؛ فإنّ الله هو الذي تولاّك بفضله، وشملك بإحسانه، وكفاك غائلة من أرادك بسوء. ففي هذه الآية تنبيه من الله عز وجل، وتذكير لنبيه صلى الله عليه وسلم على ما حباه من ألطافه، وما شمله من فضله، وإحسانه؛ ليقوم بواجب حقّه. انتهى خازن.
بعد هذا: فالفعل «علم، وتعلم» في هذه الآية من المعرفة، لا من العلم اليقيني، والفرق بينهما: أنّ المعرفة تكتفي بمفعول واحد، قال ابن مالك-رحمه الله تعالى في ألفيته-:[الرجز]
لعلم عرفان وظنّ تهمه
…
تعدية لواحد ملتزمه
بخلافه من العلم اليقيني، فإنّه ينصب مفعولين، أصلهما مبتدأ، وخبر، وأيضا فالمعرفة تستدعي سبق جهل، وأنّ متعلقها الذوات، دون النّسب، بخلاف العلم، فإنّ متعلقه المعاني، والنسب. وتفصيل ذلك: أنّك إذا قلت: عرفت زيدا، فالمعنى: أنّك عرفت ذاته، ولم ترد: أنّك عرفت وصفا من أوصافه، فإذا أردت هذا المعنى؛ لم يتجاوز مفعولا واحدا؛ لأنّ العلم والمعرفة تناول الشيء نفسه، ولم يقصد إلى غير ذلك. وإذا قلت: عرفت زيدا فقيها؛ لم يكن المقصود: أن العلم تناول نفس زيد فحسب، وإنّما المعنى: أن العلم تناول كون زيد موصوفا بهذه الصفة.
الإعراب: (لولا) حرف امتناع لوجود. {فَضْلُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره: موجود. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالمصدر: {فَضْلُ} . {وَرَحْمَتُهُ:} معطوف على المبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، ومتعلقه محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، وقائمة مقام شرط (لولا). {لَهَمَّتْ:} اللام: واقعة في جواب (لولا).
(همت): فعل ماض، والتاء للتأنيث. {طائِفَةٌ:} فاعله. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {طائِفَةٌ} . {أَنْ:} حرف مصدري ونصب. {يُضِلُّوكَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والمصدر المؤوّل من الفعل وناصبه في محل نصب بنزع الخافض، التقدير:
بإضلالك، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{لَهَمَّتْ..} . إلخ جواب (لولا) لا محلّ لها. وقيل: إنّ جواب (لولا) محذوف، تقديره: لأضلوك، وجملة:{لَهَمَّتْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. والذي حمل القائل على هذا هو أنّ اللفظ يقتضي انتفاء همّهم بذلك؛ لأنّ «لولا» تقتضي انتفاء جوابها لوجود شرطها، وهمهم موجود. والجواب: أنّ المراد نفي تأثير همّهم فيه، لا نفيه أصلا. والجملة الاسمية: (لولا
…
) إلخ كلام مستأنف لا محلّ له.
{وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية. {يُضِلُّونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون.. إلخ، والواو فاعله. {إِلاّ:} أداة حصر. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، وهي في محل نصب حال مثلها. {مِنْ:}
حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة الجر الزائد.
{وَأَنْزَلَ اللهُ:} الواو: حرف عطف. ({أَنْزَلَ اللهُ}): ماض، وفاعله. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {الْكِتابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
{وَالْحِكْمَةَ:} معطوف على ما قبله. (علمك): فعل ماض، ومفعوله الأول، والفاعل يعود إلى:
{اللهِ} . {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} واسمه ضمير مستتر تقديره: أنت. {تَعْلَمُ:} فعل مضارع، وفاعله تقديره: أنت، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:{تَكُنْ،} ومفعول الفعل محذوف للتعميم، والجملة الفعلية صلة {ما،} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، إذ التقدير: الذي، أو: شيئا لم تكن تعلمه، وجملة:
{وَعَلَّمَكَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.
{وَكانَ:} الواو: حرف عطف. (كان) فعل ماض ناقص. {فَضْلُ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلّقان ب {فَضْلُ،} {عَظِيماً:} خبر (كان). والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها.
الشرح: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ:} أراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق، وما دبّروه لتخليص مجرمهم من حدّ السرقة، وذكروه للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو عام في كلّ مناجاة لا تكون بطاعة الله؛ لأنّ خصوص السبب لا يمنع التعميم. هذا؛ والنّجوى: حديث المسارة بين اثنين، وأكثر، وهي مشتقّة من: نجوت الشيء، أنجوه: إذا خلّصته، وأفردته. والنّجوة من الأرض: المرتفع، لانفراده عمّا حوله، والنّجوى: مصدر، وقد تسمى به الجماعة، وبه قيل في قوله تعالى:{وَإِذْ هُمْ نَجْوى} رقم [47] من سورة (الإسراء)، كما يقال: قوم عدل، ورضا. وخذ ما يلي:
فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة؛ فلا يتناج اثنان دون الآخر، حتّى يختلطوا بالنّاس؛ من أجل أن ذلك يحزنه» رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-أيضا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينتجي اثنان دون الثّالث، فإنّ ذلك يحزنه» . رواه أبو داود. وانظر ما ذكرته في سورة (المجادلة) فإنّه جيّد، والحمد لله!.
{إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ:} حثّ النّاس، ورغّبهم في إنفاق المال في وجوه الخير، وفي سبيل الله.
{أَوْ مَعْرُوفٍ:} المعروف: لفظ يعمّ أعمال البرّ كلّها؛ أي: ونهى عن منكر. هذا؛ والمعروف:
كل ما يستحسنه الشّرع، والعقول السليمة تضافرت على استحسانه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كلّ معروف صدقة، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» . وقال صلى الله عليه وسلم: «المعروف كاسمه، أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة المعروف، وأهله» . وقال عليّ-رضي الله عنه: لا يزهدنّك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشّاكر بأضعاف جحود الكافر. وقال الحطيئة:[البسيط]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
…
لا يذهب العرف بين الله والنّاس
وأنشد الرّياشي: [الوافر]
يد المعروف غنم حيث كانت
…
تحمّلها كفور أو شكور
ففي شكر الشّكور لها جزاء
…
وعند الله ما كفر الكفور
وقال الماورديّ-رحمه الله تعالى-: فينبغي لمن قدر على إسداء المعروف أن يعجّله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم: أنّه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بقدرة فاتت، فأعقبت ندما، ومعوّل على مكنة زالت، فأورثت خجلا، كما قال الشاعر:[البسيط]
ما زلت أسمع كم من واثق خجل
…
حتّى ابتليت فكنت الواثق الخجلا
ولو فطن لنوائب دهره، وتحفّظ من عواقب مكره؛ لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «من فتح عليه باب من الخير؛ فلينتهزه، فإنّه لا يدري متى يغلق عنه» . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «لكلّ شيء ثمرة، وثمرة المعروف السّراح» أي: التعجيل، ورحم الله من قال:[الوافر]
إذا هبّت رياحك فاغتنمها
…
فإنّ لكلّ خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها
…
فما تدري السّكون متى يكون؟
وقال العباس-رضي الله عنه: لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره، وستره.
فإذا عجلته؛ هنأته، وإذا صغرته؛ عظمته، وإذا سترته؛ أتممته. وقال بعض الشعراء:[الرمل]
زاد معروفك عندي عظما
…
أنّه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند النّاس مشهور خطير
ومن شرط المعروف: ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله؛ لما فيهما من إسقاط الشكر، وإحباط الأجر.
{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النّاسِ:} عام في الدّماء، والأموال، والأعراض، وفي كلّ شيء يقع به التداعي، والاختلاف فيه بين المسلمين، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب-رضي الله عنه: «ألا
أدلّك على صدقة يحبّها الله ورسوله: تصلح بين النّاس؛ إذا تفاسدوا، وتقرّب بينهم؛ إذا تباعدوا». رواه الطبرانيّ.
وعن أبي الدّرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام، والصّلاة، والصّدقة؟» قالوا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين هي الحالقة» . رواه أبو داود، والترمذي. وقال الترمذيّ أيضا: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «هي الحالقة، لا أقول تحلق الشّعر، ولكن تحلق الدّين» .
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ} أي: الأمور المتقدّم ذكرها. {اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ:} يعني: طلب رضاه؛ لأنّ الإنسان إذا فعل ذلك خالصا لوجه الله؛ نفعه، وإن فعله رياء، وسمعة؛ لم ينفعه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما الأعمال بالنّيّات
…
» الحديث. {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} يعني: في الآخرة إذا فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله. {أَجْراً عَظِيماً:} لا حدّ له؛ لأنّ الله سمّاه عظيما، وإذا كان كذلك؛ فلا يعلم قدره إلا الله. هذا؛ ويقرأ الفعل:«نؤتيه» بالياء والنون.
الإعراب: {لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {خَيْرَ:} اسم: {لا} مبني على الفتح في محل نصب. {فِي كَثِيرٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {لا} أو هما متعلّقان ب {خَيْرَ،} أو بمحذوف صفة له، وعليهما فالخبر محذوف، تقديره: موجود، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {مِنْ نَجْواهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب {كَثِيرٍ} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر كسرة مقدّرة على الألف للتعذر، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {إِلاّ:}
أداة استثناء، أو حرف حصر. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على الاستثناء، وهي على حذف مضاف، التقدير: إلا نجوى من. وقيل: هو على الاستثناء المنقطع، التقدير: لكن من
…
إلخ، وهذا يعني: أنّ {إِلاّ} بمعنى: (لكن)، وعلى تفسير «نجوى» بقوم، أو جماعة، فالاستثناء متّصل، ولا حذف، ولا تقدير، أو هو بدل من:{نَجْواهُمْ} بدل بعض من كل؛ لأنّ الكلام منفي، وعلى اعتبار {إِلاّ} بمعنى: لكن يجوز أن تكون {مِنْ} في موضع رفع مبتدأ، والخبر محذوف، التقدير: لكن من أمر
…
ففي نجواه خير، وعليه فالجملة الاسمية في محل نصب على الاستثناء من الكلام السابق، وجملة:{أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ} صلة: {مِنْ} أو صفتها، والعائد أو الرابط رجوع الفاعل إليها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلّق ب {إِصْلاحٍ} أو بمحذوف صفة له، و {بَيْنَ:} مضاف، و {النّاسِ:} مضاف إليه.
({مِنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَفْعَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مِنْ}). {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {اِبْتِغاءَ:} مفعول لأجله، وهو مضاف، و {مَرْضاتِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، و {مَرْضاتِ}
مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله أيضا، وفاعله محذوف أيضا.
{فَسَوْفَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (سوف): حرف استقبال، وهي مفيدة للتحقيق، والتوكيد هنا. {نُؤْتِيهِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل تقديره: نحن، والهاء مفعول به أول. {أَجْراً:} مفعول به ثان. {عَظِيماً:} صفة له، وجملة: (سوف
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، وخبر المبتدأ مختلف فيه كما ذكرته لك مرارا وتكرارا، والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: نزلت الآية الكريمة، والتي بعدها بسبب طعمة بن أبيرق السّارق لمّا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع يده، وهرب إلى مكّة، وارتدّ عن الإسلام، كما رأيته فيما سبق، ومعنى:{يُشاقِقِ الرَّسُولَ} صلى الله عليه وسلم: يخالفه، ويخرج عن طاعته. هذا؛ وللشّقاق ثلاثة معان انظرها في الآية رقم [35].
هذا؛ والفعل {يُشاقِقِ} بالفكّ هنا، وقرئ بسورة (الأنفال) رقم [13]، وسورة (الحشر) رقم [4] بالفكّ، والإدغام، وقد ذكرت هناك: أنّهما قراءتان، والقراءة توقيفية، والقواعد النحوية تجيز في المضارع المضعّف المجزوم بجازم: الفكّ، والإدغام.
{مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى:} ظهر له الحق. هذا؛ ويقال: تبين الشيء، وبان، وأبان، واستبان، كلّه بمعنى واحد، وهو لازم، وقد يستعمل بعضها متعديا، يقال: استبان الشّيء، واستبنته. {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ:} غير ما هم عليه من اعتقاد، أو عمل. وهو دليل على: أنّ الإجماع حجّة شرعية لا يجوز مخالفتها، كما لا تجوز مخالفة الكتاب، والسنة؛ لأنّ الله تعالى جمع بين اتّباع غير سبيل المؤمنين، وبين مشاقّة الرّسول في الشّرط، وجعل جزاءه الوعيد الشديد، فكان اتّباعهم واجبا كموالاة الرّسول صلى الله عليه وسلم. انتهى نسفي.
{نُوَلِّهِ ما تَوَلّى:} نجعله واليا لما تولى من الضّلال، وندعه وما اختاره في الدّنيا لنفسه.
أي: إذا سلك الطّريق المعوجّة؛ جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره، ونزينها له استدراجا له، كما قال تعالى:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ،} وقال تعالى:
{فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} . {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ:} ندخله في الآخرة جهنم جزاء إعراضه عن متابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وطريق المؤمنين في الدنيا. {وَساءَتْ مَصِيراً:} ساء: فعل ذم يجري مجرى:
«بئس» . {مَصِيراً:} مقرّا، ومآلا.
روي: أنّ الشافعي-رضي الله عنه-سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدلّ على أنّ الإجماع حجّة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرّة حتّى استخرج هذه الآية. انتهى خازن.
الإعراب: ({مَنْ يُشاقِقِ}): إعرابه مثل إعراب ما قبله، والفاعل يعود إلى (من). {الرَّسُولَ:}
مفعول به. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من المصدر المفهوم من الفعل السابق. {ما:} مصدرية. {تَبَيَّنَ:} فعل ماض. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْهُدى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الألف للتعذر.
و {ما} والفعل: {تَبَيَّنَ} في تأويل مصدر في محل جر بإضافة: {بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد تبيين الهدى له. {وَيَتَّبِعْ:} معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى (من) أيضا. {غَيْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {سَبِيلِ} مضاف إليه، و {سَبِيلِ} مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {نُوَلِّهِ:} جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره:
نحن، والهاء مفعول به أول. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {تَوَلّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من) أيضا، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيئا تولاه. {وَنُصْلِهِ:} معطوف على: {نُوَلِّهِ} مجزوم مثله، وجملة:{نُوَلِّهِ..} . إلخ جواب الشرط، لا محلّ لها؛ لأنّها لم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيته في الآية رقم [111].
تنبيه: يجوز في العربية نصب: ({يَتَّبِعْ})، ونصب:({نُصْلِهِ}) ورفعه، وهذا يعتمد على قاعدة، وهي أنّه: إذا عطف مضارع بالواو، أو بالفاء على فعل الشرط جاز نصبه على إضمار «أن» وجزمه بالعطف على فعل الشرط، وإذا عطف مضارع على جواب الشرط بالواو وبالفاء، يجوز جزمه بالعطف على جواب الشرط، ونصبه على إضمار «أن» ورفعه على الاستئناف، ولكن لم يقرأ في هذه الآية بغير الجزم. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته في عوامل الجزم:[الرجز]
والفعل من بعد الجزا إن يقترن
…
بالفا أو الواو بتثليث قمن
وجزم أو نصب لفعل إثر فا
…
أو واو ان بالجملتين اكتنفا
الشرح: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ..} . إلخ: انظر شرحها في الآية رقم [48]. {ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً:}
خرج عن جادة الحقّ، وابتعد عن الصراط المستقيم، وإن الشّرك أعظم أنواع الضلالة، وأبعدها
عن الصّواب، والاستقامة، وانظر الآية رقم [60] ورقم [88]. وإنّما ذكر سبحانه في الآية الأولى:
{فَقَدِ افْتَرى} لأنّها متصلة بقصّة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم نوع افتراء، وهو دعوى التبنّي.
تنبيه: نزلت الآية الأولى في حقّ وحشي قاتل الحمزة-رضي الله عنه، وهي متّصلة بالكلام على أهل الكتاب، فهي ترغّبهم في الإيمان. ونزلت هذه الآية في ترغيب طعمة بن أبيرق بالتّوبة، والرّجوع إلى الإيمان، فلا تكرار في الكلام.
هذا؛ وقيل: جاء شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنّي شيخ منهمك في الذنوب، والمعاصي، إلا أنّي لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته، وآمنت به، ولم أتّخذ من دونه وليّا، ولم أقع في المعاصي جراءة على الله، ولا مكابرة له، وما توهّمت طرفة عين أنّي أعجز الله هربا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله تعالى؟ فنزلت الآية الكريمة. وسبق إعراب مثل هذه الآية.
{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً (117)}
الشرح: {إِنْ يَدْعُونَ:} ما يعبدون؛ أي: الكفار. {مِنْ دُونِهِ:} من دون الله. {إِلاّ إِناثاً:} المراد بها: الأصنام المسمّاة باللات، والعزى، ومناة، ونحوها، كان لكلّ حيّ صنم يعبدونه، ويسمّونه: أنثى بني فلان، وذلك لتأنيث أسمائها، أو لأنّه كانت جمادات، والجمادات تؤنّث من حيث ضاهت الإناث لانفعالها، أي: لخلقها، ومن حقّ المعبود أن يكون خالقا.
وقيل: أنّثت؛ لأنّهم كانوا يقولون في أصنامهم: هنّ بنات الله. وقيل: لأنّهم كانوا يلبسونها أنواع الحلي، ويزيّنوها على هيئات النّساء.
{شَيْطاناً مَرِيداً:} لأنّه هو الذي أمرهم بعبادتها، فكانت طاعته في ذلك عبادة له. ونظيره في المعنى قول الله عز وجل في سورة (التوبة):{اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ} أي: أطاعوهم فيما أمروهم به، لا أنهم عبدوهم. وانظر شرح «الشيطان» في الآية رقم [76]. هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: لكلّ صنم شيطان يدخل في جوفه، ويتراءى للسّحرة، والكهنة، ويكلّمهم: فلذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً} .
هذا؛ و (مريد) هو الذي بلغ النهاية في الشرّ، والفساد، يقال:«مرد» من بابي: نصر، وظرف: إذا عتا، وتجبر؛ فهو مارد، ومريد. هذا؛ وأصل (دون) من الدّون، وهو: القرب، ومثله: أدنى، قال تعالى في الآية رقم [4]:{ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا} ومنه تدوين الكتب؛ لأنّه إدناء؛ أي: تقريب البعض من البعض، ثمّ استعير للرّتب، فيقال: زيد دون عمرو؛ أي: في الشرف، والسيادة، ثم اتّسع فيهما، فاستعملا في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ، وتخطّي حكم إلى حكم، قال تعالى في سورة (آل عمران) رقم [28]:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: لا يتجاوز وقاية المؤمنين إلى الكافرين، وقال أميّة بن أبي الصّلت:[البسيط]
يا نفس ما لك دون الله من واق
…
ولا لسبع بنات الدّهر من راق
أي: إذا تجاوزت وقاية الله، ولم تناليها لم يقك غيره. ويأتي (دون) بمعنى قدّام، قال الأعشى:[الطويل]
تريك القذى من دونها وهي دونه
…
إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق
و (دون) نقيض: فوق، وهو تقصير عن الغاية، ويكون اسم فعل أمر، كقولك: دونك الدّرهم؛ أي: خذه، ويكون ظرفا، وهو الأصل فيه، والدون: الحقير، الخسيس، قال الشاعر:[المتقارب]
إذا ما علا المرء رام العلا
…
ويقنع بالدّون من كان دونا
الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى «ما» . {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.
{مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر.
{إِناثاً:} مفعول به، وجملة:{وَإِنْ يَدْعُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها.
وقال الجمل: الجملتان بمنزلة التّعليل لما قبلهما. تأمّل، وتدبّر، وربّك أعلم، وأجل، وأكرم.
{لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)}
الشرح: {لَعَنَهُ اللهُ:} أبعده من رحمته، وطرده من جنّته، وانظر الآية رقم [52].
{وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ:} أي: لأجعلنّ لي. {مِنْ عِبادِكَ:} (عباد) جمع: عبد، وهو الإنسان حرّا كان أو رقيقا، ويقال للملوك: عبد قن، وله جموع كثيرة، أشهرها عبيد، وعباد، وعبدان، وعبدة، والإضافة في نحو قوله تعالى:{قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ إضافة تشريف، وتكريم، وذكر العبودية مقام عظيم، ولو كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم اسم أشرف منه، وأعظم؛ لسمّاه به حينما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى حيث قال جلّ ذكره:{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} .
وفي معناه أنشدوا: [السريع]
يا قوم قلبي عند زهراء
…
يعرفه السّامع والرّائي
لا تدعني إلاّ بيا عبدها
…
فإنّه أشرف أسمائي
{نَصِيباً:} حظّا مقطوعا واجبا لي، وهذا النصيب المقطوع هم الذين يتبعون خطواته، ويقبلون وساوسه، وهم تسعمائة وتسعة وتسعون من كل ألف، فيدخل الجنّة من كلّ ألف واحد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ما أنتم فيمن سواكم إلاّ كالشّعرة البيضاء في جلد الثّور الأسود» . ويعضده قوله
تعالى لآدم يوم القيامة: «يا آدم! أخرج من ذرّيتك بعث النّار، فيقول: يا ربّ! وما بعث النّار؟ فيقول الله تعالى: أخرج من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعند ذلك تشيب الأطفال من شدّة الهول» . أخرجه مسلم. فنصيب الشّيطان هو بعث النّار، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [17] من سورة المزمّل؛ تجد ما يسرك.
الإعراب: {لَعَنَهُ:} فعل ماض ومفعوله. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل {شَيْطاناً} في الآية السابقة، أو في محل نصب حال منه بعد وصفه بما تقدّم، وجوّز «الجمل» فيها الاستئناف، وقال: إمّا إخبار بذلك، وإما دعاء عليه. (قال): فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{شَيْطاناً} . {لَأَتَّخِذَنَّ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف، والنون حرف لا محلّ له، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنا، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف، والقسم وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب صفة مثلها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المنصوب، وهي على تقدير «قد» قبلها، والرابط: الواو، والضمير، وجوّز اعتبارها مستأنفة. {مِنْ عِبادِكَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محلّ نصب مفعول به ثان، والكاف في محل جر بالإضافة. {نَصِيباً:} مفعول به. {مَفْرُوضاً:} صفة له.
الشرح: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} أي: لأبعدنّهم عن طريق الحقّ. والمراد: التّزيين، والوسوسة، وإلا؛ فليس له من الإضلال شيء. قال بعضهم: لو كانت الضلالة إلى إبليس؛ لأضلّ جميع الخلق. {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد تسويف التوبة، وتأخيرها. وقال الكلبيّ-رحمه الله تعالى-: أي: الأماني الباطلة، كطول الحياة، وأن لا بعث، ولا حساب، ولا عقاب، ولا جنّة، ولا نار. انتهى. والأماني لا تنحصر؛ لأنّ كل واحد في نفسه إنّما يمنّيه بقدر رغبته، وقرائن أحواله. {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ} أي: يقطّعونها، ويشعرونها، وهو ما كانوا يفعلونه بالبحيرة، والسّائبة، والوصيلة من الحيوانات المذكورة في سورة (المائدة) رقم [103]، والبتك: شقّ الأذن، وهو أيضا: القطع. {الْأَنْعامِ:} مأكولة اللّحم من: بقر، وغنم، وإبل، وما عز.
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} أي: عن وجهه صورة، أو صفة، ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي، وخصاء العبيد، والوشم، والوشر، والوسم في الوجه، واللّواط، والسّحاق
ونحو ذلك، وعبادة الشمس، والقمر، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام، ويلحق به تغيير الشيب بالسّواد، والتّخنّث والخنسة، وغير ذلك.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمّاد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: إنّي خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشّياطين، فاجتالتهم عن دينهم، فحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانا، وأمرتهم أن يغيّروا خلقي» .
وعن ابن مسعود-رضي الله عنه: أنّه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات، والمستوشمات، والمتنمّصات، والمتفلّجات للحسن؛ المغيّرات خلق الله» . فقالت له امرأة في ذلك، فقال: وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وفي كتاب الله قال الله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . أخرجه السّتّة.
{وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ} يعني: يتّخذه ربّا يطيعه فيما يأمره. {فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً:} حيث استبدل طاعة الشّيطان بطاعة الله تعالى، والفساد بالصّلاح، والعقاب بالثّواب. هذا؛ وقيل في تفسير (الخسران): أنّه جعل لكلّ واحد من بني آدم منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل الكفار الّتي في الجنة، وجعل للكفار منازل المؤمنين التي في النّار، فذلك هو الخسران، وأيّ خسران أعظم من هذا الخسران!! وفي سنن ابن ماجة عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد، إلاّ وله منزلان: منزل في الجنّة، ومنزل في النّار، فإذا مات، فدخل النّار؛ ورث أهل الجنّة منزله» . فذلك قوله تعالى في سورة (المؤمنون): {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} .
تنبيه: قد يرد سؤال: من أين لإبليس العلم بالعواقب حتّى يقول ما قاله الله تعالى عنه:
{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ..} . إلخ، وقال تعالى في سورة (الأعراف) حكاية عنه:{وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ} وفي (الإسراء): {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً،} وأكّد ذلك ما حكاه الله من قوله في سورة (ص):
{قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وما يشبه في سورة (الحجر)؟ والجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ إبليس-لعنه الله-ظنّ: أنّ هذه الأمور التي يريدها تقع منهم، فحصل له ما ظنّه، ويدلّ على ذلك قوله تعالى في سورة (سبأ):{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} .
الوجه الثّاني: قال ابن الأنباري: المعنى: لأجتهدن، ولأحرصنّ في ذلك، لا أنّه كان يعلم الغيب.
الوجه الثالث: قال الماوردي: من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من الله تعالى: أنّ أكثر الخلق لا يؤمنون.
تنبيه: النصيب المفروض: هو الشيء القليل، وهو ما ذكرته آية (الإسراء)؛ فكيف الجمع بينه وبين حديث:«بعث النار» ؟ والجواب: أنّ الكفار الذين هم حزب الشّيطان، وإن كانوا أكثر
من المسلمين في العدد؛ لكنّهم أقلّ من المؤمنين في الفضل، والشرف، وعلوّ الدّرجة عند الله، والمؤمنون وإن كانوا أقلّ من الكفار؛ لكنّهم أكثر منهم؛ لأنّ لهم الفضل، والشرف، والسّؤدد، والغلبة في الدّنيا، وعلو الدّرجة في الآخرة. وأنشد بعضهم في هذا المعنى، فقال:[الكامل]
وهم الأقلّ إذا تعدّ عشيرة
…
والأكثرون إذا يعدّ السّؤدد
بعد هذا؛ فأصل: {فَلَيُغَيِّرُنَّ:} يغيّرون، فلمّا اتّصلت به نون التوكيد؛ صار: ليغيّروننّ، فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فصار: ليغيّرونّ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة على الراء قبلها؛ لتدلّ عليها، فصار:(ليغيّرنّ)، وقل مثله في إعلاله:{فَلَيُبَتِّكُنَّ،} وكلّ مضارع من الأفعال الخمسة فاعله واو الجماعة، واتصلت به نون التّوكيد.
الإعراب: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ:} الواو: حرف عطف. ({لَأُضِلَّنَّهُمْ}): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة؛ الّتي هي حرف لا محلّ له، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنا، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها في الآية السابقة، لا محلّ لها مثلها، والجملتان:{وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ} معطوفتان عليها، وإعرابهما مثلها بلا فارق، والمتعلق محذوف. {فَلَيُبَتِّكُنَّ:} الفاء: حرف عطف. (ليبتكن): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، وواو الجماعة المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع فاعل، والنون حرف توكيد لا محلّ له. {آذانَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْأَنْعامِ:} مضاف إليه، واللام واقعة في جواب قسم محذوف مثل ما قبلها.
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ:} إعرابهما مثل إعراب ما قبلهما. {خَلْقَ:} مفعول به، وهو مضاف.
و {اللهِ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَتَّخِذِ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {الشَّيْطانَ:} مفعول به أول. {وَلِيًّا:} مفعول به ثان. {مِنْ دُونِ:} متعلقان ب {وَلِيًّا} أو بمحذوف صفة له.
و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد):
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {خَسِرَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من).
{خُسْراناً:} مفعول مطلق. {مُبِيناً:} صفة له، وجملة:{فَقَدْ..} . إلخ في محلّ جزم جواب الشرط
…
إلخ، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما ذكرته مرارا، وتكرارا.
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (120)}
الشرح: {يَعِدُهُمْ} أي: الشّيطان الوعود الكاذبة، وترّهاته من طول العمر، وبأنّه لا بعث، ولا حساب، ولا جنّة، ولا نار، ويوهمهم الفقر؛ حتّى لا ينفقوا في الخير. {وَيُمَنِّيهِمْ} الأماني
الباطلة ممّا لا ينالون. وانظر الآية رقم [32]. {وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً} أي: خديعة. قال ابن عرفة-رحمه الله تعالى-: الغرور: ما رأيت له ظاهرا تحبّه، وهو إمّا بالخواطر الفاسدة، أو بألسنة أوليائه. ولا تنس الطباق بين السّلب، والإيجاب.
الإعراب: {يَعِدُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى «الشّيطان» والهاء مفعول به أوّل، والثاني محذوف، تقديره: طول العمر، ونحوه. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
{وَيُمَنِّيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الياء للثّقل، والفاعل يعود إلى {الشَّيْطانُ} أيضا، والهاء مفعول به أوّل، والثاني محذوف، انظر المعنى والشرح، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية.
{يَعِدُهُمْ:} فعل مضارع، ومفعوله الأول. {الشَّيْطانُ:} فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر.
{غُرُوراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط:
الواو، وإعادة {الشَّيْطانُ} بلفظه، وكان حقّه الإضمار، فأعاده لزيادة التّحقير، والتّحذير منه.
وإن اعتبرت الجملة مستأنفة؛ فلا محلّ لها.
{أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)}
الشرح: {أُولئِكَ:} الإشارة لأولياء الشّيطان، المتّبعون وساوسه، وزخارفه. {مَأْواهُمْ:}
مقرّهم، ومصيرهم، ومآلهم. {وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً:} مهربا، ومفرّا.
الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {مَأْواهُمْ:} مبتدأ ثان مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {جَهَنَّمُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَلا:} الواو: واو الحال.
({لا}): نافية. {يَجِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {عَنْها:}
جار، ومجرور متعلّقان ب {مَحِيصاً} بعدهما. {مَحِيصاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، أو من:{جَهَنَّمُ} والرابط على الاعتبارين:
الواو، والضمير.
الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ..} . إلخ: انظر الآية رقم [57] ففيها الكفاية.
وأضيف هنا: أنّ الأبد عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له، ولا يتجزّأ، كما يتجزأ
غيره من الأزمنة؛ لأنّه لا يقال: أبد كذا، كما يقال: زمن كذا، وفي قوله تعالى:{خالِدِينَ فِيها أَبَداً} دليل على أنّ الخلود لا يفيد التأبيد، والدّوام؛ لأنّه لو أفاد ذلك؛ لزم التّكرار، وهو خلاف الأصل، فعلم من ذلك: أنّ الخلود عبارة عن طول الزّمان، لا على الدّوام، فلمّا أتبع الخلود بالأبد؛ علم: أنّه يراد به الدّوام؛ الّذي لا ينقطع.
{وَعْدَ اللهِ حَقًّا:} يعني: وعد الله ذلك الذي ذكر وعدا حقّا. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً:}
أصله: قولا؛ بكسر القاف، وسكون الواو، فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، والقيل:
والقال، والقول بمعنى واحد. والمقصود من الآية الكريمة معارضة المواعيد الشّيطانية الكاذبة لأوليائه بوعد الله الصادق لأصفيائه، والمبالغة في توكيده، ترغيبا للعباد في تحصيله. وانظر الآية رقم [87] فهو جيّد. هذا؛ ولا تنس المقابلة بين هذه وما تضمّنت من الوعد وبين ما قبلها، وانظر شرح المقابلة في الآية رقم [85].
الإعراب: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً:} انظر الآية رقم [57] ففيها الكفاية. {وَعْدَ:} مفعول مطلق مؤكّد لمضمون (ندخلهم) لأنّه وعد من العزيز الحكيم، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله. {حَقًّا:}
مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: حقّ ذلك حقّا، والجملة الفعلية هذه صفة وعد الله، وجوّز اعتبارها حالا من المصدر قبله، وهو ضعيف.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مِنْ}): اسم استئناف بمعنى النفي مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَصْدَقُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب {أَصْدَقُ،} أو هما متعلقان ب {قِيلاً} لأنّه مصدر أيضا. {قِيلاً:} تمييز، وانظر الآية رقم [87].
الشرح: {لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ:} الخطاب للمؤمنين، والمعنى: ليس الأمر على شهواتكم، وأمانيكم أيّها المسلمون. {وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ:} وليس الأمر على شهوات أهل الكتاب:
اليهود، والنصارى. هذا؛ و ({أَمانِيِّ}) جمع: أمنية بتشديد الياء، وتخفيفها فيهما، قال أبو حاتم- رحمه الله تعالى-: كلّ ما جاء من هذا النحو واحد، مشدّد، فلك فيه التّشديد، والتخفيف، مثل:
أثافي، وأغاني، وأماني، ونحوه. وهذا من قولهم: مان الرجل في حديثه مينا، وتمنّى، تمنيا، أي: كذب، ومنه قول عثمان بن عفان-رضي الله عنه: ما تمنّيت مذ أسلمت؛ أي: ما كذبت.
أو هي جمع: أمنية من التمنّي، وهو طلب شيء محبوب، لا يرجى حصوله لكونه مستحيلا:
أو بعيد الوقوع. وإذا كان متوقّع الحصول؛ فإنّ ترقّبه يسمّى ترجيا، وعليه: فالأماني التي يتمنّاها
سفلة اليهود، ويعدهم بها رؤساؤهم مواعيد فارغة؛ من أنّ الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأنّ النّار لن تمسّهم إلا أياما معدودة، وأنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وأنّهم أبناء الله، وأحباؤه
…
إلى غير ما هنالك من الأماني الفارغة. هذا؛ وأصلها: «أمنوية» على وزن «أفعولة» فقل في إعلالها: اجتمعت الواو والياء، والأوّل ساكن، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، ثمّ قلبت ضمّة النّون كسرة لمناسبة الياء، فصار: أمنية، وانظر (تمنى) في الآية رقم [32].
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} أي: من المشركين، وأهل الكتاب، والمسلمين، فمات عليه من غير توبة يجز به النّار، وهو قول الجمهور، ولفظ الآية عام، فالكافر، والمؤمن، مجازى بعمله السّوء، فأمّا مجازاة الكافر؛ فالنّار لأنّ كفره أوبقه، وأمّا مجازاة المؤمن؛ فبنكبات الدنيا، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة-رضي الله عنه، قال: لمّا نزلت الآية بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قاربوا، وسدّدوا، ففي كلّ ما يصاب به المسلم كفّارة له، حتّى النّكبة ينكبها، والشّوكة يشاكها» .
وعن أبي بكر الصدّيق-رضي الله عنه-قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية الكريمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ؟» . قلت: بلى يا رسول الله! قال: فأقرأنيها، فلا أعلم أنّي وجدت انقصاما في ظهري، فتمطّأت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما شأنك يا أبا بكر؟!» قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي! وأيّنا لم يعمل سوءا؟! وإنا لمجزيّون بأعمالنا؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أنت يا أبا بكر، والمؤمنون فتجزون بذلك في الدّنيا، حتّى تلقوا الله؛ وليس عليكم ذنوب، وأمّا الآخرون، فيجتمع ذلك لهم حتّى يجزوا به يوم القيامة» . أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث غريب. وفي رواية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تمرض، أو يصيبك بلاء؟» قال: بلى يا رسول الله! قال: «هو ذلك» .
{وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ..} . إلخ هذا في حقّ الكافر، فأمّا المؤمن؛ فله وليّ، ونصير. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: فإن حملت الآية على الكافر؛ فليس له غدا ولي، ولا نصير، وإن حملت على المؤمن؛ فليس له وليّ، ولا نصير دون الله.
تنبيه: روي: أنّ المسلمين، وأهل الكتاب تفاخروا، فقال اليهود: نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، فنبيّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على كتابكم. فنزلت الآية الكريمة، وقرّرت: أنّ الجزاء من جنس العمل، وأنّ الإيمان ليس بالتمنّي.
قال الحسن البصري-رحمه الله تعالى-: ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل، إنّ قوما ألهتهم الأماني حتّى خرجوا من الدّنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظنّ بالله تعالى، كذبوا، لو أحسنوا الظنّ؛ لأحسنوا العمل.
هذا؛ ومن أماني أهل الكتاب قولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى} .
وقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً} . وقيل: الخطاب للمشركين؛ حيث قالوا: لا بعث، ولا حساب
…
إلخ، والله أعلم.
الإعراب: {لَيْسَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر، ولم يتقدّم له ذكر؛ أي: ليس الأمر الذي ادعيتموه، أو: ليس ذلك، أو: ليس ثواب الله. {بِأَمانِيِّكُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ؛} أي: منوطا بأمانيّكم، والكاف في محل جر بالإضافة. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي. {أَمانِيِّ:} معطوف على سابقه، وهو مضاف، و {أَهْلِ:}
مضاف إليه، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه، وجملة:{لَيْسَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَعْمَلْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} . {سُوءاً:} مفعول به. {يُجْزَ:} فعل مضارع مبني للمجهول جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها. ونائب الفاعل يعود إلى:{مَنْ} أيضا، وهو المفعول الأوّل. {بِهِ:}
جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء ولا ب:«إذا» الفجائية، وخبر المبتدأ الذي هو:{مَنْ} مختلف فيه، كما رأيته مرارا، والجملة الاسمية مستأنفة. وقيل: تعليل للنّفي، لا محلّ لها على الاعتبارين. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يَجِدْ:} معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وقرئ بالرفع على الاستئناف، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} أيضا. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلّقان ب {نَصِيراً} بعدهما. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، هما مفعوله الأول، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه.
{وَلِيًّا:} مفعول به ثان. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي. {نَصِيراً:}
معطوف على ما قبله.
الشرح: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ} أي: بعضها، فإنّ {مَنْ} للتبعيض هنا؛ لأنّ كل واحد لا يستطيع القيام بجميعها، وليس مكلّفا بها كلّها. {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى:} هذا بيان من العليّ القدير: أنّ الأنثى مثل الذّكر في الثّواب، والعقاب، والمسئولية أمام الله، وما أكثر الآيات التي تبيّن، وتصرّح بهذا. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: بالله، ورسوله، واليوم الآخر، والإسلام،
والقرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا يسمّى في البلاغة: احتراسا؛ إذ لولاه؛ لدخل الجنّة كلّ من عمل صالحا في الدّنيا، من مسلم، ويهوديّ، ونصرانيّ، لكن هذا الشّرط يخرج غير المسلمين، ويحرمهم من دخول الجنّة. {فَأُولئِكَ} أي: الذين يعملون الصالحات، وهم مؤمنون. {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً:} بنقص شيء من الثّواب، ولا بزيادة شيء من العقاب؛ لأنّ المجازي أحكم الحاكمين، ولا يظلم أحدا بمثقال ذرّة، كما رأيت في الآية رقم [40] وانظر شرح «النّقير» في شرح الآية رقم [49]. هذا؛ وروعي لفظ ({مَنْ}) في أوّل الآية، وروعي معناه في آخرها.
الإعراب: {وَمَنْ يَعْمَلْ:} انظر الآية السابقة. {مِنَ الصّالِحاتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {مِنْ ذَكَرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل: {يَعْمَلْ} المستتر، و ({مَنْ}) بيان لما أبهم في:({مَنْ}). {أَوْ أُنْثى:} معطوف على: {ذَكَرٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {وَهُوَ مُؤْمِنٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر أيضا، والرابط: الواو، والضمير. {فَأُولئِكَ:} الفاء:
واقعة في جواب الشّرط. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {يَدْخُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (أولئك
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، وانظر تتمة الكلام في الآية السابقة. {الْجَنَّةَ:} منصوب على الظرفية المكانية عند بعض النّحاة، وفي مقدّمتهم سيبويه، والمحقّقون، وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسّع في الكلام بإجراء اللازم مجرى المتعدّي، ومثل ذلك قل في:«دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام» وأيضا قوله تعالى: {اِهْبِطُوا مِصْراً} وهذا إذا كان الفعل ثلاثيّا، وأمّا إذا كان رباعيّا؛ فانظره في الآية رقم [57].
{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): نافية. {يُظْلَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعله. {نَقِيراً:} مفعول به ثان، وهو على تقدير مضاف؛ أي: لا يظلمون بمقدار النّقير. وقيل: هو تمييز، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ} أي: لا أحد أحسن دينا ممّن انقاد لأمر الله، وشرعه، وأخلص عمله لله تعالى، وأقبل بكلّيته عليه. وخصّ الوجه بالذّكر؛ لأنّه أشرف الأعضاء الظّاهرة، وفيه أكثر الحواس، ولأنّه موضع السجود، ومظهر آثار الخشوع، والخضوع، وفيه يظهر العزّ، والإذلال، والفرح، والحزن، والسّرور، والغمّ، وغير ذلك، والعرب تخبر
بالوجه عن جملة الشيء، قال الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} رقم [20] من سورة (آل عمران)، وإذا جاء العبد بوضع وجهه على الأرض في السّجود؛ فقد جاء بجميع أعضائه، فقال زيد بن عمرو بن نفيل، وهو من الذين تفرقوا في البلدان في الجاهلية يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم-عليه السلام:[المتقارب]
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
…
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
…
له المزن تحمل عذبا زلالا
يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته الأرض والمزن.
{وَهُوَ مُحْسِنٌ:} أي: في عمله. فله شرطان: أحدهما: أن يكون خالصا لله تعالى، والثاني: أن يكون صوابا موافقا للشريعة التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم. فمتى اختلّ شرط منهما؛ كان العمل غير مقبول قطعا.
هذا؛ و (الدين) اسم لجميع ما يتعبّد به الله تعالى، والدّين: الملة، والشّريعة، ومنه قوله تعالى في سورة (يوسف) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام:{ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} . ويوم الدين: يوم الجزاء، والحساب. هذا؛ ويطلق الدّين على العادة، والشأن، والحال، ومنه قول امرئ القيس في معلّقته:[الطويل]
كدينك من أمّ الحويرث قبلها
…
وجارتها أمّ الرّباب بمأسل
هذا؛ والدّين بفتح الدّال: الدّين المؤجل، وجمع الأوّل: أديان، وجمع الثاني: ديون وأدين، والدّينونة: القضاء، والحساب، والدّيانة: اسم لجميع ما يتعبّد به الله تعالى.
{وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً:} ملّة إبراهيم: دينه، وطريقته، وهي بكسر الميم، وهي بفتح الميم: الرّماد الحار، و ({حَنِيفاً}) مائلا عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ. قال الشاعر:[الوافر]
ولكنّا خلقنا إذ خلقنا
…
حنيفا ديننا عن كلّ دين
ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، قالت أمّ الأحنف بن قيس:[الرجز]
والله لولا حنف برجله
…
ما كان في فتيانكم من مثله
وقال قوم: الحنف: الاستقامة، فسمّي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته، وسمّي المعوجّ الرّجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للّديغ: سليم، وللهلكة: مفازة، والعرب تسمي كلّ من حجّ، أو اختتن: حنيفا، تنبيها على أنّه على دين إبراهيم. وخذ قول سيدنا الرّسول صلى الله عليه وسلم:
{وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً:} لقد ذكرت أسباب كثيرة لاتخاذ الله إبراهيم خليلا، أكتفي بأمرين من ذلك:
1 -
روي: أنّ إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بعث غلمانه إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت النّاس بشدّة؛ ليمتاروا منه، فقال خليله للغلمان: لو كان إبراهيم يريد الطّعام لنفسه؛ لفعلت، ولكن يريده للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب النّاس من الشدّة، فرجع غلمانه بدون ميرة، فمرّوا في طريقهم ببطحاء من الرملة سهلة، فملئوا الغرائر منها؛ لئلا يرى النّاس: أنّهم رجعوا بدون ميرة، فلما أخبروا إبراهيم بذلك ساءه الخبر، فغلبته عيناه فنام، وقامت سارة-عليها السلام-إلى غرارة منها، ففتحتها فإذا هي ملأى بأجود دقيق، فأمرت الخبّازين، فخبزوا، وأطعموا النّاس، فاستيقظ إبراهيم-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-فوجد ريح الخبز، فقال: يا سارة! من أين لكم هذا؟ فقالت: من عند خليلك المصري. فقال: بل هذا من عند خليلي الله. قال: فيومئذ اتّخذه الله خليلا.
2 -
روى الطّبرانيّ عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تبارك وتعالى بعث حبيبي جبريل-عليه الصلاة والسلام-إلى إبراهيم عليه السلام، فقال له:
يا إبراهيم! إنّي لا أتّخذك خليلا على أنّك أعبد عباد لي، ولكن اطّلعت على قلوب المؤمنين، فلم أجد قلبا أسخى من قلبك».
هذا؛ وقد اتّخذ الله محمّدا صلى الله عليه وسلم خليلا، كما اتّخذ إبراهيم خليلا، فقد ثبت في الصّحيحين عن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه قال: «لو كنت متّخذا خليلا غير ربّي؛ لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكنّه أخي، وصاحبي، وقد اتّخذ الله صاحبكم خليلا» . أخرجه مسلم.
فقد ثبت بهذين الحديثين الخلّة ل (إبراهيم) عليه السلام، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم، وزاد على إبراهيم-عليه السلام-بالمحبّة، فمحمّد خليل الله، وحبيبه، فقد جاء في حديث عن ابن عباس-رضي الله عنهم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وأنا حبيب الله، ولا فخر! وأنا أوّل شافع، وأوّل مشفّع؛ ولا فخر! وأنا أوّل من يحرّك حلقة الجنّة، فيفتح الله، ويدخلنيها؛ ومعي فقراء المؤمنين؛ ولا فخر! وأنا أكرم الأوّلين، والآخرين يوم القيامة؛ ولا فخر!» . أخرجه الترمذيّ بأطول من هذا.
بعد ما تقدّم فالخلّة بين الآدميين: الصّداقة، مشتقّة من تخلّل الأسرار بين المتخالّين. وقيل:
هي من الخلّة، فكل واحد من الخليلين يسدّ خلّة صاحبه. هذا؛ والخليل: هو الصديق الذي صفت مودّته، فتجد من خلاله مثل ما يجد من خلالك، ويسعى لمصلحتك كما يسعى لمصلحته، بل قد يؤثرك على نفسه، ويبذل روحه من أجلك، كما قال ربيعة بن مقروم الضبّي:[الوافر]
أخوك أخوك من تدنو وترجو
…
مودّته وإن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
…
وزاد سلاحه منك اقترابا
وهو معدوم في هذا الزّمن؛ الّذي فسد أهله، وصاروا خلّا، ودودا، كما قال القائل:[الوافر]
سألت النّاس عن خلّ ودود
…
فقالوا: النّاس من خلّ ودود
فقلت أليس فيهم ذو وفاء
…
فقالوا: كان ذلك في الجدود
احفظ البيتين، ولا تنس ما فيهما من الجناس التّام، لذا فإنّه لا وجود للصّديق بالمعنى الحقيقي، بل صار وجوده مستحيلا، كما قال القائل:[الكامل]
قد قيل إنّ المستحيل ثلاثة
…
الغول والعنقاء والخلّ الوفي
وقال الآخر: [الوافر]
سألت النّاس عن خلّ وفيّ
…
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظفرت بذيل حرّ
…
فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل
وممّا هو جدير بالذّكر: أنّ كل صداقة لا تكون على أساس من التّقوى، تنقلب عداوة في الدّنيا، والآخرة، خذ قوله تعالى في سورة الزّخرف:{الْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ،} وانظر نتيجة صداقة إبليس اللّعين في سورة (إبراهيم) رقم [22] وفي سورة (ق) أيضا. وفي مصنّف أبي داود عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الرّجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل» . ولقد أحسن من قال: [السريع]
من لم تكن في الله خلّته
…
فخليله منه على خطر
الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَحْسَنُ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {دِيناً:} تمييز.
{مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان ب {أَحْسَنُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة؛ فهي مبنية على السكون في محل جر ب (من). {أَسْلَمَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: رجوع الفاعل إليها. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل: {أَسْلَمَ،} أو هما متعلّقان بمحذوف حال من: {وَجْهَهُ،} والجملة الاسمية: ({هُوَ مُحْسِنٌ}) في محل نصب حال من فاعل:
{أَسْلَمَ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، وإن اعتبرتها معترضة؛ فلا محلّ لها، والاعتراض يزيد الكلام تقوية، وتسديدا. (اتّبع): فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من). {مِلَّةَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {إِبْراهِيمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {حَنِيفاً:} حال من: {إِبْراهِيمَ} وقيل: هو حال من فاعل: (اتّبع) المستتر، وهو ضعيف، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأنّ المضاف كجزء منه، قال ابن مالك رحمه الله تعالى في ألفيته:[الرجز]
ولا تجز حالا من المضاف له
…
إلاّ إذا اقتضى المضاف عمله
أو كان جزء ما له أضيفا
…
أو مثل جزئه فلا تحيفا
وجملة: {وَاتَّبَعَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {أَسْلَمَ..} . إلخ على الوجهين المعتبرين فيها.
{وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً:} فعل ماض، وفاعله، ومفعولاه. وقيل:{خَلِيلاً:} حال من:
{إِبْراهِيمَ،} ولا وجه له. والجملة الفعلية معترضة في آخر الكلام، لا محلّ لها من الإعراب.
قال الزمخشري، كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم:«والحوادث جمّة»
(1)
الشّاهد رقم [717] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وقال: فائدتها تأكيد وجوب اتّباع ملّته؛ لأنّ من بلغ الزّلفى عند الله بأن اتّخذه خليلا؛ كان جديرا بأن تتّبع ملّته، وطريقته، ولو جعلتها معطوفة على الجملة قبلها؛ لم يكن لها معنى. انتهى كشاف.
{وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)}
الشرح: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ..} . إلخ: ملكا، وخلقا، وعبيدا، والمعنى: أنّ الله اتّخذ إبراهيم بحسن طاعته، لا لحاجته إلى مخالّته، ولا للتكثير به، والاعتضاد بقوّته، كيف، وله ما في السموات وما في الأرض؟! وإنّما أكرمه لامتثاله لأمره، واجتنابه لنهيه. وفيه تغليب غير العقلاء على العقلاء. {وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً:} انظر الآية رقم [108] ففيها الكفاية.
الإعراب: {وَلِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {فِي السَّماواتِ:} متعلّقان بمحذوف صلة الموصول. {وَما:} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (كان): فعل ماض ناقص. {اللهُ:} اسمها.
{بِكُلِّ:} متعلقان ب: {مُحِيطاً} بعدهما، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {مُحِيطاً:}
خبر (كان)، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، لا محلّ لها.
الشرح: نزلت الآية الكريمة بسبب سؤال قوم من الصّحابة عن أمر النساء، وأحكامهن في
1) البيت بتمامه: [الكامل] يا ليت شعري والحوادث جمّة هل مرّة أغدو وأمري مجمع
الميراث، وغير ذلك، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول:{اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي: يبيّن لكم حكم ما سألتم عنه. وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السّورة من أمر النساء، وكانوا قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها، فسألوا، فقيل لهم:{اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} .
وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت في بنات أم كجّة، وقد تقدّمت قصّتهنّ في الآية رقم [7] من هذه السّورة. وقالت عائشة-رضي الله عنها: هي اليتيمة تكون في حجر الرّجل، وهو وليّها، فيرغب في نكاحها، إذا كانت ذات جمال، ومال بأقلّ من سنّة صداقها، وإذا كانت غير مرغوب فيها لقلّة الجمال، والمال؛ تركها. وانظر الآية رقم [3] من هذه السورة. هذا؛ والاستفتاء: طلب الفتوى، وهو إظهار ما أشكل من الأحكام الشّرعية، وكشفه، وتبيينه.
قال المفسّرون: والذي استفتوه فيه هو ميراث النّساء، وذلك: أنّهم كانوا لا يورّثون النّساء، ولا الصّغار من الأولاد، فلمّا نزلت آيتا الميراث رقم [11 و 12] قالوا: يا رسول الله! كيف نورّث المرأة، والصغيرة؟ فأجابهم بهذه الآية:{قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} . {وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} المعنى: الله يفتيكم في النّساء بما أنزل في كتابه عليكم. {فِي يَتامَى النِّساءِ:} قيل:
معناه: في النّساء اليتامى. وقيل: في اليتامى أولاد النساء؛ لأنّ الآية نزلت في يتامى أمّ كجّة.
{اللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ} يعني: ما فرض لهنّ من الميراث، وهذا على قول من يقول: إنّ الآية نزلت في ميراث اليتامى الصغار. وعلى القول الآخر: معناه: ما كتب لهنّ من الصّداق.
{وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} التقدير: في أن، أو: عن أن تنكحوهن، فإنّ أولياء اليتامى كانوا يرغبون في نكاحهن إذا كنّ جميلات، ويأكلون مالهنّ، وإلا فيرغبون عن نكاحهنّ إن كنّ غير جميلات، ويعضلوهنّ عن الزّواج بغيرهم، انظر الآية رقم [3] من هذه السّورة.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ:} فهو معطوف على ما قبله، أي: داخل في المبهم المطلوب بيانه في الفتوى؛ لأنّ العرب لم يكونوا يورّثون من لم يقاتل من النّساء، والولدان. {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ} انظر الآيتين رقم [2 و 3] فالبحث فيهما كاف ضاف. {وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ..} .
إلخ: هذا وعد من الكريم لمن آثر الخير في ذلك، وفعله، وقد حذف مقابله اكتفاء به، فإنّ التقدير: وما تفعلوا من شرّ
…
إلخ.
تنبيه: روي: أنّ عيينة بن حصن أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرنا أنّك تعطي الابنة النصف، والأخت النصف، وإنّا كنّا لا نورّث إلا من يشهد القتال، ويحوز الغنيمة! فقال صلى الله عليه وسلم: بذلك أمرت. ونزلت الآية الكريمة.
تنبيه: رأيت: أنّ الفعل «يرغب» تغيّر معناه بتغيّر الجار الذي تعلّق به، وهذا أحد الأفعال التي يتغيّر معناها بتغيّر الجار، كما رأيت في الآية رقم [27] والآية رقم [135] الآتية، لذا كان قول القائل -وهو الشّاهد رقم [925] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -محتملا للمدح والذّمّ: [الطويل]
ويرغب أن يبني المعالي خالد
…
ويرغب أن يرضى صنيع الألائم
هذا؛ و (نساء) اسم جمع لا واحد له من لفظه؛ لأنّ مفرده: امرأة، وجمعها في القلّة:
نسوة، وفي الكثرة: نساء، وتجمع أيضا على نسوان، ونسون، ونسنين، وهذه الجموع كلّها مأخوذة من النّسيان، فهي مطبوعة عليه، إمّا إهمالا، وإما كذبا، ويقال لكلّ واحد من هذه الجموع: اسم جمع، لا واحد له من لفظه، أما «المرأة» فهي مأخوذة من «المرء» وهو الرّجل، فلذا سميت بذلك، والأم الأولى حوّاء-عليها السلام-سمّيت بذلك؛ لأنّها مأخوذة من: حي، وهو آدم، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {وَيَسْتَفْتُونَكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {فِي النِّساءِ:}
متعلّقان به. {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {اللهُ:} مبتدأ. {يُفْتِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به. {فِيهِنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والنون حرف دالّ على جماعة الإناث، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{وَما:} موصولة، أو موصوفة، ومحلّها يحتمل الجرّ، والنصب، والرفع، فالجرّ بالعطف على الضّمير المجرور ب (في) من غير إعادة الجار والمجرور على مذهب الكوفيين، والنصب على تقدير فعل محذوف، التقدير: ونبيّن لكم ما يتلى. والرفع-وهو المختار-وفي ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: هو معطوف على ضمير الفاعل في: {يُفْتِيكُمْ،} وساغ ذلك لوجود الفاصل بالجار والمجرور. والثاني: هو معطوف على ({اللهُ}) الواقع فاعلا. والثالث: هو مبتدأ، خبره: الجار، والمجرور:{فِي الْكِتابِ} . وقيل: هو محذوف، التقدير:{وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ} يبيّن لكم. {يُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، ونائب الفاعل يعود إلى ({ما}). {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي الْكِتابِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، وتقدّم وجه ثالث، انظره. وجملة:{يُتْلى..} . إلخ صلة (ما) أو صفتها. {فِي يَتامَى:} بدل من:
{فِي الْكِتابِ} بدل اشتمال، وهناك مضاف محذوف، أي: في حكم يتامى. أو هما متعلقان بالفعل: {يُتْلى} أو هما بدل من قوله: {فِيهِنَّ،} أو هما متعلقان ب {الْكِتابِ} نفسه: أي: فيما كتب في حكم يتامى. أو هما متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل، و {يَتامَى} مضاف، و {النِّساءِ:} مضاف إليه. {اللاّتِي:} اسم موصول مبني على السّكون في محل جر صفة: {يَتامَى النِّساءِ} . {لا:} نافية. {تُؤْتُونَهُنَّ:} فعل مضارع، وفاعله، ومفعوله الأول، والنّون حرف دالّ على جماعة الإناث، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {ما:} اسم موصول، أو
نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان. {كُتِبَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى:{ما} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة:{ما} أو صفتها. {لَهُنَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والنون حرف دالّ على جماعة الإناث.
{وَتَرْغَبُونَ:} مضارع وفاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها، أو هي في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: وأنتم ترغبون. والجملة الاسمية هذه في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والمصدر المؤول من الفعل وناصبه في محلّ جرّ بحرف جرّ محذوف، انظر الشرح، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ:} معطوف على: {يَتامَى النِّساءِ} أو على الضمير بقوله: {فِيهِنَّ} وقيل:
منصوب بفعل محذوف، التقدير: ويبيّن حال المستضعفين. {مِنَ الْوِلْدانِ:} متعلقان ب ({الْمُسْتَضْعَفِينَ}) أو بمحذوف حال منه، والمصدر المؤول من:({أَنْ تَقُومُوا..}.) إلخ معطوف على: {فِيهِنَّ} من غير إعادة الجار على مذهب الكوفيين، أو هو معطوف على:{يَتامَى النِّساءِ} أو هو معطوف على محل {فِيهِنَّ،} والتقدير: ويبيّن الله لكم أن تقوموا
…
إلخ.
{وَما:} الواو: حرف استئناف. ({ما}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدّم لفعل شرطه. {مِنْ خَيْرٍ:} متعلقان بمحذوف حال من (ما)، و {مِنَ} بيان لم أبهم فيها. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{اللهُ} . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {عَلِيماً:} خبر {كانَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والجملة الشرطية بكاملها مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {وَإِنِ امْرَأَةٌ:} جمعها من غير لفظها كما رأيت في الآية السابقة. {خافَتْ:}
توقّعت، ورأت. وقيل: علمت. والعلاقة بينهما: أنّ الإنسان لا يخاف شيئا حتّى يعلم: أنّه ممّا يخاف منه، فهو من باب التعبير عن السّبب بالمسبّب. ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [229]:{إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ} . هذا؛ وأمّا التخوّف؛ فهو التنقّص، كما في قوله تعالى في سورة (النّحل) رقم [47]:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ}
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. يروى: أنّ عمر-رضي الله عنه-قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى:
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ} فسكتوا، فقام شيخ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخوّف: التنقّص. قال:
فهل تعرف العرب هذا في أشعارهم؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير الهذليّ:[البسيط]
تخوّف الرّحل منها تامكا قردا
…
كما تخوّف عود النّبعة السّفن
فقال عمر-رضي الله عنه: أيّها النّاس عليكم بديوانكم لا تضلّوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإنّ فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم. هذا؛ وأصل الخوف: انزعاج في الباطن، يحصل من توقع مكروه يقع في المستقبل. وأصل «خاف»:«خوف» فقل في إعلاله:
تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا.
{مِنْ بَعْلِها} أي: زوجها سمّي الزوج بعلا؛ لعلوّه على الزوجة بما قد ملكه من زوجيتها، ومنه قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [125]:{أَتَدْعُونَ بَعْلاً،} والبعل: المستعلي على غيره، ولمّا كان الزوج مستعليا على المرأة، قائما بأمرها؛ سمّي بعلا، ويقال للمرأة أيضا: بعل، وبعلة، كما يقال لها: زوج، وزوجة، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في: الحزونة، والسهولة.
{نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً:} الفرق بينهما: أنّ النّشوز: التباعد. والإعراض: أن لا يكلمها، ولا يأنس بها. فالأول هو التّجافي عنها، والترفّع عن محبّتها، كراهة لها، ومنعا لحقوقها، أو إيذاء لها بسبّ، أو ضرب. وانظر نشوز المرأة في الآية رقم [34]. هذا؛ و (النّشوز) في الأصل الترفع، وهو مأخوذ من النّشز، وهو المرتفع من الأرض. و (الإعراض) بأن يقلّ مجالستها، ومحادثتها، ومؤانستها بسبب كبر، أو دمامة، أو سوء خلق، أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك.
{فَلا جُناحَ عَلَيْهِما:} فلا مؤاخذة، ولا إثم عليهما. {أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما:} وفي قراءة:
(«يصّالحا») بتشديد الصّاد، وأصله: يتصالحا، فقلبت التاء صادا، ثم أدغمت الصّاد في الصّاد.
وقرئ: («يصطلحا») بإبدال التاء طاء، والمصالحة بينهما تكون بحطّ بعض المهر، أو القسم، أو بإسقاط بعض النّفقة. {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} أي: من الفرقة، أو سوء العشرة، والخصومة. ويجوز ألا يراد به التفضيل، بل بيان: أنّه من الخير، كما أنّ الخصومة من الشرور.
{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} أي: جعلت الأنفس حاضرة للشّح، مطبوعة عليه، فلا تسمح المرأة بالإعراض عنها، والتقصير في حقّها، والرّجل لا يسمح بأن يوفّيها حقّها كاملا، ويمسكها عنده، وكلّ واحد منهما يتشدّد فيما يطلب، ويريد. وانظر نشوز المرأة في الآية رقم [34].
{وَإِنْ تُحْسِنُوا:} إلى المرأة بالصّحبة الصّالحة، والعشرة الطّيّبة مراعاة لحقّ الصحبة الماضية. {وَتَتَّقُوا:} الله، وتخافوه، أي: أن تجعلوا بينكم وبين النّشوز، والإعراض عن
المرأة، وما يؤدّي إلى الخصومة والشرّ، والفساد وقاية تمنعكم من ذلك. {فَإِنَّ اللهَ كانَ} ولا يزال كائنا {بِما تَعْمَلُونَ:} من سوء العشرة، ومن حسنها. {خَبِيراً:} فيثيبكم خير الجزاء.
وخذ ما يلي:
عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: نزلت الآية في المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها، يريد طلاقها، ويتزوّج غيرها، فتقول له: أمسكني، لا تطلّقني، ثم تزوّج غيري، وأنت في حل من النفقة عليّ، والقسمة لي. فذلك قوله تعالى:{فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . متّفق عليه.
تنبيه: كان عمران الخارجي من أقبح بني آدم، وكانت امرأته من أجملهم، فنظرت إليه يوما، وقالت: الحمد لله، على أنّي، وإيّاك من أهل الجنّة! قال: كيف؟! قالت: لأنّك رزقت مثلي، فشكرت، ورزقت مثلك، فصبرت، والجنّة موعودة للشّاكرين، والصّابرين.
عن عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما-قال: خشيت سودة-رضي الله عنها-أن يطلّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلّقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة. ففعل. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها، ويوم سودة. أخرجه الترمذيّ.
هذا؛ وروى مالك عن ابن شهاب عن رافع بن خديج-رضي الله عنه: أنّه تزوّج خولة.
وقيل: اسمها عمرة بنت محمد بن مسلمة-رضي الله عنهما-فكانت عنده حتى كبرت، فتزوّج عليها فتاة شابة، فآثر الشابّة عليها، فناشدته الطّلاق، فطلّقها واحدة، ثم أهملها حتّى إذا كانت تحلّ؛ راجعها، ثم عاد، فآثر عليها الشّابة، فناشدته الطّلاق، فطلّقها واحدة، ثمّ راجعها، فآثر الشّابة عليها، فناشدته الطّلاق، فقال: إنّما بقيت لك واحدة، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة، وإن شئت فارقتك؟ قالت: بل أستقرّ على الأثرة، فأمسكها على ذلك، ولم ير رافع رضي الله عنه-إثما حين استقرّت عنده على الأثرة.
قال أبو عمر بن عبد البر-رحمه الله تعالى-: قوله والله أعلم: «فآثر الشابة عليها» يريد في ميل نفسه إليها، والنشاط لها، لا أنّه آثرها عليها في مطعم، وملبس، ومبيت؛ لأنّ هذا لا ينبغي أن يظنّ بمثل رافع، والله أعلم.
بعد هذا: أضيف الشّحّ إلى الأنفس: لأنّه غريزة فيها. والشحّ في كلام العرب: البخل مع الحرص، وقد فرّق العلماء بين البخل، والشح، فقالوا: البخل نفس المنع، والشحّ الحالة النفسانيّة، التي تقتضي ذلك المنع. وقد ذكرت لك البخل، والشح، وإضرارهما في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، وأكتفي هنا بما يلي:
عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إيّاكم والظلم؛ فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، وإيّاكم والفحش، والتّفحّش، وإيّاكم والشّحّ، فإنّما هلك من كان
قبلكم بالشّحّ، أمرهم بالقطيعة، فقطعوا، وأمرهم بالبخل، فبخلوا، وأمرهم بالفجور، ففجروا».
رواه أبو داود، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وخذ ما يلي:
قال القرطبيّ-رحمه الله تعالى-: وقد روي: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: من سيّدكم؟ قالوا: الجدّ بن قيس على بخل فيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأيّ داء أدوى من البخل؟!» قالوا: وكيف ذاك يا رسول الله؟! قال: «إنّ قوما نزلوا بساحل، فكرهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم، فقالوا:
ليبعد الرّجال منّا عن النّساء حتّى يعتذر الرّجال إلى الأضياف ببعد النّساء، ويعتذر النّساء ببعد الرّجال، ففعلوا، وطال ذلك بهم، فاشتغل الرّجال بالرّجال، والنّساء بالنّساء». ذكره الماورديّ.
انتهى.
الإعراب: {وَإِنِ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنِ}): حرف شرط جازم. {اِمْرَأَةٌ:} فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور بعده، وهذا مذهب سيبويه، والبصريين. وقال الكوفيّون: هو مبتدأ خبره الجملة الفعلية بعده، والمعتمد الأول. {خافَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محلّ له، والفاعل يعود إلى المرأة، والجملة الفعلية مفسّرة، لا محلّ لها. {مِنْ بَعْلِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما بمحذوف حال من:{نُشُوزاً} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا، و (ها): في محل جر بالإضافة. {نُشُوزاً:} مفعول به. {أَوْ إِعْراضاً:} معطوف على سابقه.
{فَلا:} الفاء، واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» {جُناحَ:} اسمها مبني على الفتح في محل نصب. {عَلَيْهِما:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الاسمية في محلّ جزم جواب الشرط عند الجمهور.
والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محلّ المفرد، و ({إِنِ}) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.
{أَنْ يُصْلِحا:} فعل مضارع منصوب ب {إِنِ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والألف فاعله، والمصدر المؤول من الفعل وناصبه في محلّ جرّ بحرف جر محذوف، التقدير: في الصّلح، والجار والمجرور متعلقان بما تعلّق فيه ما قبلهما. {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل: متعلق بمحذوف حال من: {صُلْحاً،} والهاء في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {صُلْحاً:} مفعول مطلق، أو هو مفعول به على حسب القراءات. {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية معترضة، لا محلّ لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من ألف الاثنين؛ فلا بأس به، ويكون التقدير: والصلح خير لهما.
{وَأُحْضِرَتِ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث. {الْأَنْفُسُ:} نائب فاعل، وهو المفعول الأول. {الشُّحَّ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية في محل نصب حال من ألف الاثنين، وهي على إضمار «قد» قبلها، والرابط: الواو فقط. وقيل: معترضة لا محلّ لها، والأوّل أقوى.
{وَإِنِ:} الواو: حرف عطف. ({إِنِ}): حرف شرط جازم. {تُحْسِنُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {وَتَتَّقُوا:}
معطوف على ما قبله مجزوم مثله، ومفعولاهما محذوفان. {فَإِنَّ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. ({إِنِ}): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى:{اللهَ} . {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {خَبِيراً} بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى المصدرية تؤوّل مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالباء، التقدير: بعملكم. {خَبِيراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط.
هذا في الظاهر، وعند التأمّل يظهر لك: أنّ الجواب محذوف، التقدير: وإن تحسنوا، وتتقوا الله؛ فهو يثيبكم على ذلك. أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إيّاهم عليها؛ الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة للسّبب مقام المسبّب، وعليه فالجملة الاسمية: (إن الله
…
) إلخ مفيدة للتعليل، والشرط، ومدخوله معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله.
الشرح: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا..} . إلخ: أخبر الله تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك من ميل الطبع في المحبّة، والجماع، والحظّ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر، وأنّهم بحكم الخلقة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض في حال تعدّدهنّ حتى لا يقع ميل البتة، فتمام العدل أن يسوي بينهنّ في المبيت، والنفقة، والتعهد، والنّظر، والإقبال، والمفاكهة، وغيرهما، والمحبّة، والمودّة، وهذا متعذّر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه في كلّ شيء، فيعدل، ويقول:«اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك، ولا أملك» . أخرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن عبد الله بن يزيد عن عائشة-رضي الله عنها، فهو صلى الله عليه وسلم يريد القلب. هذا؛ والتسوية بين الضرائر واجبة في المأكل، والملبس، والمسكن، والبيتوتة، أما في الجماع؛ فلا؛ لأنّ ذلك يدور على النّشاط، وميل القلب، وليس ذلك إليه.
{فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} أي: فإذا ملتم إلى واحدة منهنّ؛ فلا تبالغوا في الميل بالكليّة. {فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: لا هي ذات زوج، ولا مطلقة، كالشيء المعلّق لا هو في السّماء، ولا هو في الأرض. وفي الجملة تشبيه مرسل
مجمل، فقد روى الإمام أحمد، وأصحاب السنن عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط» .
وعند أبي داود: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل» .
{وَإِنْ تُصْلِحُوا:} أعمالكم بالعدل بين النساء بعد الجور. {وَتَتَّقُوا} أي: الجور، أو تخافوا الله في الجور. {فَإِنَّ اللهَ..}. إلخ؛ أي: يغفر لكم ما مضى من الجور، أو يغفر لكم الميل القلبي.
بعد هذا: فإنّ بعض جهلة علماء السّوء في هذا الزّمن يستدلّون بهذه الآية، وفي الآية رقم [3] من هذه السّورة على وجوب الاقتصار على زوجة واحدة، وهو استدلال باطل محض تردّه الشريعة الغرّاء، والسنة النبوية المطهّرة. فويل لهم ممّا يأفكون، ويفترون.
الإعراب: {وَلَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَنْ}): حرف نفي، ونصب، واستقبال.
{تَسْتَطِيعُوا:} فعل مضارع منصوب ب ({لَنْ}) وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {أَنْ تَعْدِلُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ..} . إلخ، والمصدر المؤول منهما في محل نصب مفعول به. {بَيْنَ:}
ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {النِّساءِ:} مضاف إليه. {وَلَوْ:} الواو: واو الاعتراض. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {حَرَصْتُمْ:} فعل وفاعل، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب ({لَوْ}) محذوف، تقديره: لما استطعتم، و ({لَوْ}) ومدخولها بمنزلة الاعتراض؛ لأنّه أعطى الكلام تقوية، وتسديدا.
{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن شرط مقدّر؛ إذ التقدير: وإذا كان العدل غيرممكن كلية؛ فلا
…
إلخ. (لا): ناهية. {تَمِيلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {كُلَّ:} نائب مفعول مطلق، و {كُلَّ} مضاف، و {الْمَيْلِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب للشرط المقدر ب «إذا» والشرط ومدخوله معطوف على ما قبله لا محلّ له مثله. {فَتَذَرُوها:} الفاء:
تحتمل العطف، والسببية. (تذروها): فعل مضارع مجزوم بسبب العطف، أو هو منصوب ب «أن» مضمرة بعد الفاء، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون، وعلى نصبه تؤوّل «أن» المضمرة مع الفعل بمصدر معطوف بالفاء على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لا يكن منكم ميل وترك
…
إلخ. و (ها): مفعول به. {كَالْمُعَلَّقَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من الهاء، وإن اعتبرت الكاف اسما بمعنى «مثل» فتكون حالا، أو مفعولا ثانيا؛ لأنّ (تذر) بمعنى: تترك، وهو ينصب مفعولين. {وَإِنْ تُصْلِحُوا..}. إلخ: انظر الآية السّابقة، فهي مثلها في إعرابها جملة، وإفرادا.
{وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (130)}
الشرح: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا:} وقرئ: («يتفارقا») أي: إن لم يصطلح الزّوجان على شيء ممّا تقدّم في الآية رقم [128]: وحصلت الفرقة بينهما بالخلع، أو بتطليقه إيّاها، وإعطائها حقوقها كاملة من مهر، ونفقة، وغير ذلك. {يُغْنِ اللهُ..}. إلخ؛ أي: يغني الله كلّ واحد من الزوجين من فضله، أي: بأن يرزق كلّ واحد زوجا خيرا من زوجه، وعيشا أهنأ من عيشه. {واسِعاً} أي:
واسع الفضل، والرّحمة. وقيل: واسع القدرة، والعلم، والرزق. وقيل: هو الغني الذي وسع جميع مخلوقاته غناه. انتهى. خازن. {حَكِيماً:} فيما قضى، وحكم؛ حيث رخّص بالفرقة بين الزوجين إذا اشتدّ الخصام بينهما، وساءت عشرتهما مع بعضهما. وقد أدرك الأجانب حكمة الطلاق، والفرقة بين الزوجين، فأقرّوه في محاكمهم بعد تشدّدهم في منعه عشرين قرنا من الزّمن. فلله الحمد، والمنّة على ما شرع لنا من تعاليم؛ النّاس كلّهم بحاجة إليها.
روي: أنّ رجلا شكا إلى جعفر الصّادق بن محمّد الباقر الفقر، فأمره بالنّكاح، فذهب الرّجل، وتزوّج، ثمّ جاء إليه، وشكا إليه الفقر، فأمره بالطّلاق، فسئل عن ذلك، فقال: أمرته بالنكاح لعلّه يكون من أهل هذه الآية: {إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} فلمّا لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق، فقلت: لعلّه من أهل هذه الآية: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا..} . إلخ.
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {يَتَفَرَّقا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، وألف الاثنين فاعله، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {يُغْنِ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية، لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب «إذا» الفجائية. {كُلاًّ:} مفعول به. {مِنْ سَعَتِهِ} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، و ({إِنْ}) ومدخولها كلام معطوف على مثله في الآية السابقة لا محلّ له مثله، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} انظر الآية [126]. {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} أي: اليهود، والنصارى، ومن قبلهم، والمراد ب {الْكِتابَ:} جميع الكتب السماوية،
التي أنزلت على الأنبياء. ومعنى: {أُوتُوا:} أعطوا، وأصله: أوتيوا، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان: الياء، والواو، فحذفت الياء، فصار:({أُوتُوا}) ثمّ قلبت الكسرة ضمة لمناسبة الواو، فصار:{أُوتُوا} .
{أَنِ اتَّقُوا اللهَ:} وحّدوه، وامتثلوا أوامره، ونواهيه. والمعنى: أنّ الأمر بتقوى الله شريعة قديمة، أوصى الله بها جميع الأمم السّالفة في كتبهم. هذا؛ والتقوى: حفظ النفس من العذاب الأخروي بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه؛ لأنّ أصل المادة من الوقاية، وهي الحفظ، والتحرّز من المهالك دنيا، وأخرى.
{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ..} . إلخ؛ أي: فإنّ الله مالك الملك كلّه، لا يتضرّر بكفركم ومعاصيكم، كما لا ينتفع بشكركم، وطاعتكم، وتقواكم، وإنّما أوصاكم بذلك رحمة بكم. لا لحاجته لذلك، وهذا كما في الحديث القدسي، الّذي رواه مسلم عن أبي ذرّ-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه عز وجل: أنّه قال: «يا عبادي! لو أنّ أوّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أنّ أوّلكم، وآخركم، وإنسكم، وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئا» .
{وَكانَ اللهُ غَنِيًّا:} عن الخلق، وعن عبادتهم. {حَمِيداً:} محمودا على كلّ حال من الخير، والشر، والتعذيب، والإثابة، وهو سبحانه مستحقّ للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة، وتنطق ذرات المخلوقات بحمده.
هذا؛ والفعل: (وصّى) حكمه حكم الأمر في معناه، وتصرّفه، يقال: وصيت زيدا بأن يفعل كذا، كما تقول: أمرته بأن يفعل كذا، ومنه قول الشاعر:[الوافر]
وذبيانيّة وصّت بنيها
…
بأن كذب القراطق والقروف
يصف امرأة وصّت بنيها بحفظ القراطق، جمع القرطق، وهي القطعة المخملية، والقروف:
أوعية من أدم. ومنه قوله تعالى في سورة (البقرة): {وَوَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} بكلمة التوحيد، وأمرهم بها.
الإعراب: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} انظر الآية رقم [126] ففيها الكفاية، والكلام مستأنف لا محل له. {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. واللام: واقعة في جواب القسم. {وَصَّيْنَا:} فعل وفاعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {أُوتُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو
المفعول الأول. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان. {مِنْ قَبْلِكُمْ:} متعلقان بأحد الفعلين، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، وجملة:({لَقَدْ..}.) إلخ جواب القسم، لا محلّ لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محلّ له. {وَإِيّاكُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب معطوف على: {الَّذِينَ} . {أَنِ:} مفسرة، وجملة:{اِتَّقُوا اللهَ} لا محلّ لها؛ لأنّها مفسرة لمعنى: {وَصَّيْنَا،} وهو بمعنى: قلنا. هذا؛ وبعضهم يعتبر {أَنِ} مصدرية، ويؤوّلها مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جرّ محذوف، التقدير: وصينا
…
إلخ بتقوى الله، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{وَصَّيْنَا،} وأعتمد الأول.
{وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({أَنِ}): حرف شرط جازم. {تَكْفُرُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنَّ:}
الفاء: واقعة في جواب الشرط. ({أَنِ}): حرف مشبه بالفعل. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر:
({أَنِ}) تقدم على اسمها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم ({أَنِ}) مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله، والجملة الاسمية: (إن لله
…
) إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور
…
إلخ، وهو في الظاهر، وعند التأمّل يتبيّن لك: أنّ جواب الشرط محذوف، التقدير: إن تكفروا؛ فلا تضروا الله شيئا، وعليه فالجملة الاسمية:({فَإِنَّ لِلّهِ..}.) إلخ مفيدة للتعليل. والشرط ومدخوله في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقلنا لهم: إن تكفروا
…
إلخ، والجملة الفعلية على هذا التقدير معطوفة على جملة:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا..} . إلخ لا محلّ لها مثلها، وجملة:{وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً} مستأنفة لا محلّ لها، وإعرابها واضح.
{وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (132)}
الشرح: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} انظر شرح هذا الكلام وإعرابه في الآية رقم [126]. {وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً:} انظر إعراب هذه الجملة في الآية رقم [81].
تنبيه: في تكرير: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ..} . إلخ تقرير لما هو موجب تقواه؛ لأنّ الخلق لمّا كان كلّه له، وهو خالقهم، ومالكهم؛ فحقّه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصي، وأنّه تعالى متّصف بجميع الكمالات، وله القدرة التّامة على خلقه
…
إلخ.
وقال الخازن-رحمه الله تعالى-: الفائدة في ذلك: أنّ لكلّ آية معنى تختصّ به، أمّا الآية الأولى؛ فمعناها: فإنّ لله ما في السموات وما في الأرض، وهو يوصيكم بتقوى الله، فاقبلوا وصيته. وقيل: لمّا قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} بيّن أنّ الله له ما في السموات وما في الأرض، وأنّه قادر على إغناء جميع الخلائق، وهو المستغني عنهم.
وأمّا الآية الثانية؛ فإنّه تعالى قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} والمراد: أنّه تعالى منزّه عن طاعات الطائعين، وعن ذنوب العاصين، وأنّه لا يزداد جلاله بالطّاعات، ولا ينقص بالمعاصي. وقيل: لمّا بيّن: أنّه له ما في السموات وما في الأرض، وقال بعد ذلك:{وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً} فالمراد منه: أنّه تعالى هو الغنيّ، وله الملك، فاطلبوا منه ما تطلبون، فهو يعطيكم؛ لأنّ له ما في السموات وما في الأرض.
وأمّا الثالثة؛ فقال تعالى: {وَلِلّهِ ما فِي السَّماواتِ..} . إلخ؛ أي: فتوكّلوا عليه، ولا تتوكّلوا على غيره، فإنّه المالك لما في السموات وما في الأرض. وقيل: تكريرها تعديد لما هو موجب تقواه، أي: تتقوه، وتطيعوه، ولا تعصوه؛ لأنّ التقوى، والخشية أصل كلّ خير.
هذا؛ وكرّر السّماوات، والأرض، وخصّهما في الذّكر هنا، وفي كثير من الآيات؛ لأنّهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وجمع السّماوات دون الأرض، وهي مثلهنّ سبعا؛ بدليل قوله تعالى في سورة (الطّلاق) [12]:{اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} لأنّ صفاتها مختلفة بالذّات، متفاوتة في الصفات، والآثار، والحركات، وقدّمها لعلوّ مكانها، وشرفها، وتقدّم وجودها، ولأنّها متعبّد الملائكة، ولم يقع فيها معصية كما في الأرض، وأيضا: لأنّها كالذّكر، فنزول المطر من السّماء على الأرض كنزول المني من الذّكر في المرأة، ولأنّ الأرض تنبت، وتخضرّ بالمطر، ووحّد الأرض؛ لأنّها بجميع طبقاتها جنس واحد، وهو التّراب. هذا؛ وأطلق الله (ما) على من في السموات والأرض، وفيهما من يعقل، ومن لا يعقل، وذلك من باب التّغليب، كما تطلق (من) على ما فيهما أيضا.
الشرح: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ:} يفنيكم جميعا بالموت، والإهلاك. {أَيُّهَا النّاسُ:} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد المشركين؛ والمنافقين. وقيل: الآية عامّة، وهو أولى.
{وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يعني: بغيركم، أي: يخلق أطوع لله منكم، وهو مثل قوله تعالى في سورة (محمد) صلى الله عليه وسلم:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} وقال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} .
قال الكلبي: هم كندة، والنخع من عرب اليمن. وقال الحسن: هم العجم. وقال عكرمة:
هم فارس، والرّوم، وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا..} . إلخ، فقالوا: ومن يستبدل منّا يا رسول الله؟! قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان الفارسي-رضي الله عنه-ثمّ قال: «هذا، وأصحابه» . أخرجه الترمذي، وقال: حديث
غريب، وفي إسناده مقال، وله رواية أخرى عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل إن تولينا، استبدلوا منا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: وكان سلمان-رضي الله عنه-بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذ سلمان، فقال:«هذا، وأصحابه، والّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثّريّا؛ لتناوله رجال من فارس» . ولهذا الحديث طريق في الصحيح.
{وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً} أي: الإعدام، والاستبدال. {قَدِيراً:} بليغ القدرة، لا يعجزه شيء، وفي هذه الآية تقرير أيضا لغناه تعالى، وكمال عزته، وعظمته، وفيها تهديد، ووعيد لمن عصاه، وخالف أوامره. والقدرة: صفة أزلية، لا تتناهى مقدّرات الله، كما لا تتناهى معلوماته.
والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد، والمعنى: كان، ولا يزال كائنا قادرا مقتدرا.
الإعراب: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ:} الإعراب واضح إن شاء الله تعالى. {وَيَأْتِ:} فعل مضارع معطوف على جواب الشّرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله وما قبله يعود إلى الله تعالى، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [115]. {بِآخَرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و {إِنْ} مدخولها كلام مستأنف لا محلّ له. {وَكانَ اللهُ..} . إلخ: الإعراب واضح.
{أَيُّهَا:} نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب ب «يا» المحذوفة، و (ها): حرف تنبيه لا محل لها، وأقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه، ولا يقال: ضمير في محل جر بالإضافة؛ لأنّه يجب حينئذ نصب المنادى. {النّاسُ:} بعضهم يعرب هذا، وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل: أنّ الاسم الواقع بعد «أي» واسم الإشارة إن كان مشتقا؛ فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا؛ فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع-أعني:«أي» أو اسم الإشارة-منصوب محلاّ، وكذا التابع أعني:{النّاسُ} فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللّفظية، وإنّما أتبعت ضمة البناء مع أنّها لا تتبع؛ لأنّها وإن كانت ضمة بناء، لكنّها عارضة، فأشبهت ضمّة الإعراب، فلذا جاز إتباعها. أفاده العلامة الصبّان؛ لأنّه قال: والمتّجه وفاقا لبعضهم: أنّ ضمة التابع إتباع، لا إعراب، ولا بناء. وقيل: إنّ رفع التابع المذكور إعراب، واستشكل بعدم المقتضى للرّفع، وأجيب بأنّ العامل يقدّر من لفظ عامل المتبوع مبنيّا للمجهول نحو: يدعى، وهو مع ما فيه من التكلّف يؤدّي إلى قطع المتبوع. وقيل: إنّ رفع التابع المذكور بناء؛ لأنّ المنادى في الحقيقة هو المحلّى بال، ولكن لمّا لم يمكن إدخال حرف النداء عليه؛ توصّلوا إلى ندائه ب «أي» أي: مع قرنها بحرف التنبيه، وردّه بعضهم بأنّ المراعى في الإعراب اللّفظ، وأنّ الأوّل منادى، والثاني تابع له، والإعراب السّائد الآن أن تقول: مرفوع تبعا للفظ.
الشرح: {مَنْ كانَ..} . إلخ؛ أي: من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة؛ آتاه الله ذلك في الآخرة. ومن كان يطلب بعمله ثواب الدّنيا، أي: حطامها الفاني، كالمجاهد للغنيمة، أو للسّمعة، والمحمدة، وكذا المتصدّق، ونحوه، قال تعالى في سورة (الشّورى):{مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} .
{فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} أي: عند الله خير الدّنيا، والآخرة، فما له يطلب أخسّها؟! أي: يؤثر الفاني الخسيس على الباقي النّفيس، فليطلبهما معا، كمن يقول:{رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} . والأولى أن يطلب أشرفهما، وهو ثواب الآخرة، فإنّ من جاهد خالصا لله؛ لم تخطئه الغنيمة، وله في الآخرة من النّعيم المقيم ما هو في جنبه كلا شيء.
وفي هذا ترغيب في إخلاص العمل لوجه الله تعالى، وأنّه ينبغي للمؤمن أن يطلب الآخرة الباقية. {وَكانَ اللهُ سَمِيعاً} أي: لأقوالكم. {بَصِيراً} بأعمالكم، عارفا بالنيات والمقاصد، فيجازي كلّ واحد بحسب قصده، ونيّته.
نزلت الآية الكريمة في مشركي العرب، وذلك: أنّهم كانوا يقرّون بأنّ الله تعالى خالقهم، ولا يقرّون بالبعث يوم القيامة، فكانوا يتقرّبون إلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرّها.
وقيل: نزلت في المنافقين؛ لأنّهم كانوا لا يصدّقون بيوم القيامة، وإنّما كانوا يطلبون بجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عاجل الدنيا، وهو ما ينالونه من الغنيمة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر يعود إلى:{مَنْ} تقديره: هو. {يُرِيدُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى:{مَنْ} أيضا. {ثَوابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الدُّنْيا:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذّر، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان) وجواب الشرط محذوف، تقديره: فله ذلك، أو:
فهو مخطئ، ونحو ذلك. وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه كما ذكرته مرارا، هذا وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا؛ فهي مبتدأ، والجملة بعدها صلتها، والجملة المقدّرة خبر المبتدأ. {فَعِنْدَ:} الفاء: حرف تعليل. (عند): ظرف مكان متعلّق بمحذوف خبر مقدّم.
و (عند): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {ثَوابَ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف. و {الدُّنْيا:}
مضاف إليه. {وَالْآخِرَةِ:} معطوف على {الدُّنْيا،} والجملة الاسمية: {فَعِنْدَ اللهِ..} . إلخ مستأنفة على جميع الاعتبارات، والجملة الفعلية:{وَكانَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [29] فإنّه جيد، والحمد لله!. {كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ:} مجتهدين في إقامة العدل. مواظبين عليه، و {قَوّامِينَ:} صيغة مبالغة مثله في الآية رقم [34]، و (القسط): العدل، قال تعالى في سورة (الحجرات):{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
{شُهَداءَ لِلّهِ} معناه: شهداء بالحقّ لذات الله، ولوجهه، ولمرضاته، وثوابه. {وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} أي: ولو كانت الشّهادة على أنفسكم بأن تقرّوا بها، وتؤدّوها على الوجه الأكمل؛ لأنّ الشهادة بيان للحقّ؛ سواء أكانت عليه، أو على غيره، ولا يظهر الحقّ إلا بأدائها على الوجه الأكمل.
{أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} أي: ولو كانت الشّهادة على الوالدين، والأقربين من ذوي رحمه، أو أقاربه. فالمعنى: أدّوا الشهادة، وأقيموها لله تعالى، ولا تحابوا قريبا لقرابته، ولا غنيّا لغناه، ولا فقيرا لفقره، فذلك قوله تعالى:{إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما} أي: أرحم بهما منكم، والمعنى: كلوا أمرهم إلى الله تعالى، فهو أعلم بهم، وبحالهم، وإنّما قال:{بِهِما} على التثنية؛ لأنّه ردّ الضمير إلى المعنى دون اللّفظ، يعني: فالله أولى بالغني، وبالفقير؛ أي: الله أولى بكلّ واحد منهما. وقيل: إنّما قال: بهما؛ لأنّه تقدّم ذكرهما، كما قال تعالى في الآية رقم [12]:{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ،} وانظر شرح «الفقير» في الآية رقم [6].
{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى:} يقصر، ويمدّ، والمراد بالأول: العشق؛ والغرام، وهو أيضا محبة الإنسان للشيء، وغلبته على قلبه، وهو ما في الآية الكريمة، ومنه قوله تعالى في سورة (النازعات):{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} أي: نهاها عن شهواتها، وما تدعو إليه من معاصي الله تعالى، ويراد بالممدود: ما بين السّماء والأرض، وقد جاء «الهواء» بمعنى العشق ممدودا في الشّعر، ومنه قول الشاعر:[الطويل]
وهان على أسماء إن شطّت النّوى
…
نحنّ إليها والهواء يتوق
وإليك هذين البيتين إنّهما من النّكت الحسان: [الكامل]
جمع الهواء مع الهوى في مهجتي
…
فتكاملت في أضلعي ناران
فقصّرت بالممدود عن نيل المنى
…
ومدّدت بالمقصور في أكفاني
وقال أبو عبيدة-رحمه الله تعالى-: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر؛ لأنّه لا يقال: فلان يهوى الخير، بل يقال: فلان يحبّ الخير، وجمعه: أهواء، وجمع الممدود: أهوية. وقال الشعبيّ
-رحمه الله تعالى-: إنّما سمّي الهوى هوى؛ لأنّه يهوي بصاحبه إلى النار. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه، وذكر آياته الكثيرة، وقال عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» . والأحاديث في ذلك كثيرة، وقال الأصمعي-رحمه الله تعالى-: سمعت رجلا يقول: [الكامل]
إنّ الهوان هو الهوى قلب اسمه
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وسئل ابن المقفّع عن الهوى، فقال: هوان سرقت نونه، فأخذه شاعر، فنظمه:[الكامل]
نون الهوان من الهوى مسروقة
…
فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك، فإن خالفته، فدواؤك، وللعلماء في هذا الباب في ذمّ الهوى ومخالفته كتب، وأبواب أشرنا إلى ما فيه كفاية منه، وحسبك قوله تعالى:
{أَنْ تَعْدِلُوا} أي: لأن تعدلوا عن الحقّ، أو كراهة أن تعدلوا. من العدل. والأول بمعنى:
أن تميلوا، وهو أحد الأفعال التي يتغيّر معناها بتغير الجار، تقول: عدلت عنه بمعنى: أعرضت عنه، وتقول: عدلت إليه بمعنى: أقبلت عليه. وانظر الآيتين رقم [27 و 127] والفعل «تعدل» جاء هنا محتملا لمعنى الميل، والمعنى العدل، وقد يجيء محتملا لمعنى الميل، ومعنى التّسوية، فذلك كما في قوله تعالى في أول سورة (الأنعام):{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فإن جعلت الجار والمجرور: {بِرَبِّهِمْ} متعلقين ب {يَعْدِلُونَ} كان المعنى: إنّ الكفار يسوّون الأصنام بربهم، وإن جعلتهما متعلقين بالفعل:{كَفَرُوا} كان: {يَعْدِلُونَ} بمعنى: يميلون، والمعنى:
إنّ الكفار يميلون، وينحرفون عن إفراد الله تعالى بالوحدانية. وانظر (المائدة) رقم [8].
{وَإِنْ تَلْوُوا} أي: ألسنتكم عن شهادة الحقّ، فلا تؤدّونها كما ينبغي. هذا ويقرأ بضم اللام، وإسكان الواو من الولاية، بمعنى: وإن وليتم إقامة الشّهادة فأدّوها على وجهها. {أَوْ تُعْرِضُوا} أي: عن أدائها؛ إذا دعيتم إلى أدائها. وهو حرام قطعا، قال تعالى في آخر سورة (البقرة):{وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} انظر شرحها هناك؛ فإنّه جيد، والحمد لله!.
{فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ} من الجور في الشّهادة، أو من أدائها على وجهها. {خَبِيراً:}
بأقوالكم، وأفعالكم. ففي الآية تهديد، ووعيد شديدان.
تنبيه: قال السّدّيّ-رحمه الله تعالى-: إنّ فقيرا، وغنيّا اختصما إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان صغوه، واستماعه للفقير أكثر، يرى: أنّ الفقير لا يظلم الغنيّ، فأنزل الله هذه الآية، وأمر بالقيام بالقسط مع الفقير، والغني. وقيل: إنّ هذه الآية متعلقة بقصّة طعمة بن أبيرق المذكورة في الآية رقم [105] وما بعدها، فهي خطاب لقومه الّذين جادلوا عنه، وشهدوا بالباطل. والأولى التّعميم لحكمها في كلّ زمان، ومكان.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية التالية. {كُونُوا:} فعل أمر ناقص مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة التي هي اسمه، والألف للتفريق. {قَوّامِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {بِالْقِسْطِ:} متعلقان ب {قَوّامِينَ} . {شُهَداءَ:} خبر ثان للفعل الناقص أو هو نعت ل: {قَوّامِينَ} . أو هو حال من الضمير المستتر ب {قَوّامِينَ} . {لِلّهِ:} متعلقان ب {شُهَداءَ} أو بمحذوف صفة له.
{وَلَوْ:} الواو: حرف عطف. ({لَوْ}): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {عَلى أَنْفُسِكُمْ:}
متعلقان بمحذوف خبر «كان» محذوفة مع اسمها. انظر الشّرح، والجملة المقدّرة، لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {أَوِ:} حرف عطف. {الْوالِدَيْنِ:} معطوف على ما قبله مجرور مثله. {وَالْأَقْرَبِينَ:} معطوف أيضا فهو مجرور، وعلامة الجرّ فيهما الياء؛ لأنّ الأول مثنى، والثاني جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لا تكتموها، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله. هذا؛ وإن اعتبرت (لو) وصليّة؛ فلا جواب لها، وتكون الجملة المقدّرة في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرّابط: الواو فقط.
{إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَكُنْ:} فعل مضارع ناقص فعل الشرط، واسمه محذوف مفهوم من المقام، التقدير: إن يكن المشهود عليه. وقيل: التقدير: إن يكن الخصمان. مراعاة لمعنى: {أَوِ} . {غَنِيًّا:} خبر: {يَكُنْ} . {أَوْ فَقِيراً:} معطوف على ما قبله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {فَاللهُ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (الله) مبتدأ. {أَوْلى:} خبره مرفوع، وعلامة رفعه ضمّة مقدّرة على الألف للتعذّر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدّسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد، وهذا في الظّاهر، وعند التأمّل يظهر لك: أنّ الجواب محذوف. التقدير: فلا تمتنعوا عن إقامة الشّهادة لله، وعليه فالجملة الاسمية تعليل للنّهي المقدّر. {بِهِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَوْلى} والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الشرطية فيها معنى التعليل لإقامة الحق، والعدل.
{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر ب «إذا» (لا): ناهية. {تَتَّبِعُوا:}
فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية وعلامة جزمه حذف النّون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتّفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب للشّرط المقدّر ب «إذا» ، التقدير: وإذا كان الأمر كما ذكر؛ فلا
…
إلخ، وهذا الكلام معطوف على ما قبله.
{الْهَوى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر.
والمصدر المؤول من: {أَنْ تَعْدِلُوا} في محل جرّ بحرف جر محذوف عند الكوفيين، التقدير: لئلا تعدلوا عن الحقّ. وعند البصريّين، التقدير: كراهة العدول عن الحق، فهو في محل جر بإضافته لمفعول لأجله محذوف، وهذا؛ إن كان الفعل بمعنى: تميلوا، وأمّا إن كان الفعل على ظاهره بمعنى العدل؛ فالمصدر في محل جرّ بحرف جرّ محذوف، التقدير: للعدل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا..}. إلخ: انظر إعراب مثل هذا الكلام مفصلا في الآية رقم [128].
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر الآية رقم [29] فإنّه جيد. {آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ:} هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى: اثبتوا على الإيمان، ودوموا عليه. {وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ} يعني: القرآن الّذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم. {وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} أي: جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من كتب. {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ..} . إلخ. أي: ومن يكفر بشيء من ذلك؛ {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً:} انظر الآية رقم [60].
هذا؛ وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية الكريمة في عبد الله بن سلام، وأصحابه-رضي الله عنهم: فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب، والرّسل، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: بل آمنوا بالله، وبرسوله محمد، والقرآن، وبكلّ كتاب كان قبله، فأنزل الله تعالى الآية. وقيل: الخطاب للمنافقين، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم، ولم تؤمن قلوبهم، آمنوا بقلوبكم حتى ينفعكم الإيمان؛ لأنّ الإيمان باللّسان لا ينفع من غير مواطأة القلب. وقيل:
هو خطاب للمؤمنين. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا في الماضي، والحال آمنوا في المستقبل، ودوموا، واثبتوا على الإيمان.
هذا؛ وقد قال تعالى في حق القرآن: {نَزَّلَ،} وقال في حقّ الكتب السّابقة: {أَنْزَلَ؛} لأنّ الأول يفيد التكثير مرّة بعد مرّة، وهو ممّا اتصف به القرآن الكريم؛ لأنّه نزل مفرقا في ثلاث وعشرين سنة على حسب الوقائع، ومقتضيات الأحوال على ما نرى عليه الشعر، والخطابة، بخلاف التوراة، والإنجيل؛ فإنّهما نزلا دفعة واحدة. ونزول القرآن مفرّقا كان ممّا يريب الكافرين، كما حكى الله عنهم بقوله:{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً}
واحِدَةً. فبيّن الله سبحانه الحكمة من ذلك بقوله: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً} الآية رقم [32] من سورة (الفرقان).
هذا؛ والكتاب في اللغة: الضم، والجمع، وسمّيت الجماعة من الجيش: كتيبة؛ لاجتماع أفرادها على رأي واحد، وخطّة واحدة، كما سمّي الكاتب كاتبا؛ لأنّه يضم الكلام بعضه إلى بعض، ويجمعه، ويرتّبه. وهو في الاصطلاح: اسم لجملة مختصّة من العلم، مشتملة على أبواب، وفصول، ومسائل غالبا، وقد أكثر الشعراء في مدح الكتاب.
وبالجملة فالكتاب هو نعم الذّخر، والعدّة، والشّغل، والحرفة، جليس لا يضرّك، ورفيق لا يملّك، يطيعك باللّيل طاعته بالنهار. ويطيعك في السّفر طاعته في الحضر، إن ألفته على الأيام؛ خلّد ذكرك، وإن درسته؛ رفع بين النّاس قدرك. وإن أردت الزّيادة فانظر سورة (البقرة) رقم [101].
وأمّا الكفر: فهو ضدّ الإيمان، وهو المراد في الآية، وقد يكون بمعنى جحود النّعمة، والإحسان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في النّساء، في حديث الكسوف:«ورأيت النّار، فلم أر منظرا كاليوم قطّ أفظع، ورأيت أكثر أهلها النّساء» قيل: بم يا رسول الله؟! قال: «بكفرهنّ» قيل:
أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدّهر كلّه، ثمّ رأت منك شيئا؛ قالت: ما رأيت منك خيرا قطّ» . أخرجه البخاريّ، وغيره. ويروى بأطول من هذا من رواية أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه. وأصل الكفر في كلام العرب السّتر، والتغطية. قال لبيد-رضي الله عنه-في معلّقته في وصف بقرة وحشية:[الكامل]
يعلو طريقة متنها متواتر
…
في ليلة كفر النّجوم غمامها
وسمّي الزارع: كافرا؛ لأنّه يلقي البذر في الأرض، ويغطّيه، ويستره بالتّراب. قال تعالى في تشبيه حال الدنيا في سورة (الحديد) رقم [20]:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ} ويسمّى الليل:
كافرا؛ لأنّه يستر كلّ شيء بظلمته. قال لبيد-رضي الله عنه: [الكامل]
حتّى إذا ألقت يدا في كافر
…
وأجنّ عورات الثّغور ظلامها
كما يطلق الكافر على النّهر، قال المتلمّس حين ألقى الصّحيفة في النّهر:[الطويل]
وألقيتها بالثّني من جنب كافر
…
كذلك ألقي كلّ رأي مضلّل
رضيت لها بالماء لمّا رأيتها
…
يجول بها التّيّار في كلّ جدول
هذا؛ وكفر فلان النّعمة، يكفرها، كفرا، وكفورا، وكفرانا: إذا جحدها، وسترها، وأخفاها. قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} وقال القطامي-وهو الشاهد رقم [531] من كتابنا: «فتح ربّ البريّة» -: [الوافر]
أكفرا بعد ردّ الموت عنّي
…
وبعد عطائك المئة الرّتاعا
هذا؛ والإيمان الصحيح هو: الإقرار باللّسان، والتّصديق بالجنان، والعمل بالأركان. ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، قال:«الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشرّه من الله تعالى» . والإيمان يزيد، وينقص على المعتمد، كما بينته في الآية رقم [2] من سورة (الأنفال) وله شعب كثيرة، وفروع عديدة، وهي سبع وسبعون أعلاها:«لا إله إلا الله» وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. وهو بفتح الهمزة جمع: يمين بمعنى الحلف بالله. أو بصفة من صفاته، أو باسم من أسمائه، قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [224]:{وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النّاسِ} . واليمين أيضا: اليد اليمنى، وتجمع أيضا على: أيمان، كما في قوله تعالى في كثير من الآيات:{أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} . ولا يجمع بالمعنى الأوّل؛ لأنّه مصدر، والمصدر لا يثنى، ولا يجمع. (اليوم الآخر): هو آخر أيام الدّنيا، فيه الحشر، والنّشر، والحساب، والجزاء، ودخول أهل الجنّة الجنّة بالفضل الإلهيّ، ودخول أهل النّار النّار بالعدل الربّاني.
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [133]. {آمَنُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرَسُولِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {وَالْكِتابِ:} معطوف أيضا. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة (الكتاب). {نَزَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والعائد محذوف، التقدير: الذي نزله، وعلى قراءته بالبناء للمجهول، فنائب الفاعل يعود على:{الَّذِي} وهو العائد. {عَلى رَسُولِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله بلا فارق. {مِنْ قَبْلُ:} متعلقان بما قبلهما، وبني:{قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى.
{وَمَنْ} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَكْفُرْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى (من). {بِاللهِ:} متعلّقان بما قبلهما. {وَمَلائِكَتِهِ..} . إلخ: هذه الأسماء معطوفة على لفظ الجلالة. {الْآخِرِ:} صفة (اليوم).
{فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.
{ضَلَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (من). {ضَلالاً:} مفعول مطلق. {بَعِيداً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، وخبر المبتدأ؛ الذي هو (من) مختلف فيه كما ذكرته مرارا، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية الكريمة في اليهود آمنوا بموسى.
{ثُمَّ كَفَرُوا} بعبادتهم العجل. {ثُمَّ آمَنُوا} بعد ذلك، {ثُمَّ كَفَرُوا} بعيسى، والإنجيل، {ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً} بمحمّد صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في المنافقين وذلك: أنّهم كفروا بعد الإيمان، {ثُمَّ آمَنُوا} يعني: بألسنتهم، وهو إظهارهم الإيمان؛ لتجري عليهم أحكام المؤمنين، {ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً} بموتهم على الكفر. والمعتمد الأوّل.
{لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ذنوبهم إذا أقاموا على الكفر، وماتوا عليه؛ لأنّ الله تعالى أخبر: أنّه يغفر الكفر؛ إذا تاب منه بقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} يعني:
من كفرهم، الآية رقم [38] من سورة (الأنفال). {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً:} طريقا إلى الجنة. وقيل:
لا يخصّهم بالتوفيق كما يخصّ أولياءه، وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر، والمعتزلة بأنّ الله تعالى بيّن: أنّه لا يهدي الكافرين طريق خير؛ ليعلم العبد: أنّه إنّما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم: {إِنَّ} . {آمَنُوا:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والجمل بعدها معطوفة عليها. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُنِ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} .
{اللهُ:} اسمه. {لِيَغْفِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد لام الجحود، والمصدر المؤول منهما في محل جر بلام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر:{يَكُنِ} التقدير: لم يكن الله مريدا لغفران ذنوبهم. والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ} . {لَهُمْ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي. {لِيَهْدِيَهُمْ:} مثل إعراب ما قبله، والجار والمجرور بعد التأويل معطوفان على ما قبلها. {سَبِيلاً:} مفعول به ثان.
{بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)}
الشرح: {بَشِّرِ:} أمر من البشارة، وهي الإخبار بما يسرّ المخبر به، سمّي بشارة؛ لأنّ الخبر السار يظهر سرورا في البشرة؛ أي: ظاهر الجلد. والإنذار: الخبر الشاقّ على النّفس، ففي
الكلام استعارة تصريحيّة تبعيّة، وقد تستعمل بالشرّ، وبما يسوء على سبيل التهكم، والاستهزاء، كما في هذه الآية، وكثير غيرها. ثمّ إنّ الغالب في الشرّ أن يستعمل مقيدا منصوصا على المبشّر به على سبيل التهكّم، كما ذكرت، قال تعالى في سورة (النحل) رقم [58]:{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى} . وهذا التهكّم كثير في الشعر العربيّ، ومنه قول أبي الشّعراء الضبّي:[الطويل]
وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا
…
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وأيضا قول عمرو بن كلثوم في معلّقته، وهو الشاهد رقم [48] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الوافر]
نزلتم منزل الأضياف منّا
…
فعجّلنا القرى أن تشتمونا
الإعراب: {بَشِّرِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره: أنت. {الْمُنافِقِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين. {بِأَنَّ:}
الباء: حرف جر. (أنّ): حرف مشبه بالفعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:
(أنّ) مقدّم. {عَذاباً:} اسمها مؤخر. {أَلِيماً:} صفة له، والمصدر المؤوّل من (أنّ) واسمها، وخبرها في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلّقان بالفعل قبلهما، التقدير: بشر المنافقين بالعذاب الأليم.
الشرح: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ:} هم المنافقون اتّخذوا اليهود الذين كانوا يساكنون المسلمين في المدينة أنصارا، وأعوانا. {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ:} فكانوا يلوذون بهم، ويؤمّلون منهم المنعة، والنّصرة، ويقولون: لا يتم أمر محمد. هذا هو كلام ابن أبيّ ابن سلول، ومن معه من المنافقين؛ الّذين حالفوا بني قينقاع من اليهود. انظر سورة (المائدة) رقم [52] وما بعدها، فإنّه جيد، بحمد الله!.
{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ:} يطلبون عندهم القوّة، والمنعة، فإنّ العزّة لله جميعا: يعزّ بها، ويكرم بها عباده المؤمنين، كما قال تعالى في سورة (فاطر) رقم [11]:{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً،} وقال في سورة (المنافقون): {وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} . والمقصود من هذا: التهييج على طلب العزّة، والقوة من جناب الله، والإقبال على عبوديته، والانتظام في جملة عباده؛ الّذين لهم النّصرة في الحياة الدّنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
وفي الصحيح عن عائشة-رضي الله عنها: أنّ رجلا من المشركين لحق النبيّ صلى الله عليه وسلم يريد أن يقاتل معه، فقال له:«ارجع فإنّا لا نستعين بمشرك» . وانظر ما ذكرته في الآية رقم [28] من سورة (آل عمران) فإنّه جيّد، والحمد لله!.
الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر صفة المنافقين، أو هو بدل منه، أو في محل نصب على الذمّ بفعل محذوف، التقدير: أذمّ، أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هم الذين، وجملة:{يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ} لا محلّ لها صلة الموصول.
{مِنْ دُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و {دُونِ} مضاف. و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور
…
إلخ. {أَيَبْتَغُونَ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. ({يَبْتَغُونَ}): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.
{عِنْدَهُمُ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {الْعِزَّةَ:} مفعول به. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف عطف. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل. {الْعِزَّةَ:} اسمها. {لِلّهِ:}
متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {جَمِيعاً:} حال من الضمير المستتر في الجار، والمجرور:
{لِلّهِ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ:} الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن، ومنافق؛ لأنّه إذا أظهر الإيمان؛ فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله، كما قال تعالى في سورة (الأنعام) [68]:{وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فالآية هنا مدنيّة تنهى المسلمين عن مجالسة المنافقين، واليهود، وآية (الأنعام) مكيّة تنهى المسلمين عن مجالسة المشركين في مكّة. هذا؛ والفعل:{نَزَّلَ} يقرأ بالبناء للفاعل، وللمفعول.
{إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ:} انظر ({آياتِ}) في الآية رقم [56] والمراد بها هنا: آيات القرآن، وما شرعه الله، وبيّنه من أحكام، وتعاليم. {يُكْفَرُ بِها} أي: لا يصدّق بها الكافرون. {وَيُسْتَهْزَأُ بِها:} يستهزئ بها المنافقون، ويسخرون منها، فأوقع السّماع على الآيات، والمراد سماع الكفر، والاستهزاء، كما تقول: سمعت عبد الله يلام، أي: سمعت اللّوم فيه. {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ:} فلا تجالسوهم. {حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: حتى يأخذوا في حديث غير حديث الاستهزاء بآيات الله. هذا؛ والخوض: الدّخول في الشيء كالماء، ونحوه، فاستعير هنا للحديث بالباطل، والبهتان، والاستهزاء.
{إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} أي: في الإثم، والوزر إذا قعدتم معهم؛ لأنّكم قادرون على الإعراض عنهم، والإنكار عليهم. وهذا يدلّ على أنّ الرّضا بالمعصية معصية، كالّذي يجالس شاربي الخمر، ولاعبي القمار، ونحو ذلك، والمعاصي، والمنكرات. {إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ..}. إلخ: أي: كما أشركوهم في الكفر، والرّضا بالباطل، وقعدوا معهم، وجالسوهم، كذلك يشارك الله بينهم في العذاب في نار جهنّم، ويجمع بينهم في دار العقوبة، والنّكال، والقيود، والأغلال، وشراب الحميم، والغسلين
…
إلخ؛ لأنّ المرء مع من أحبّ، كما هو صريح قول الرّسول صلى الله عليه وسلم.
الإعراب: {وَقَدْ:} الواو: حرف استئناف. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال.
{نَزَّلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى ({اللهِ}) والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ:} جارّان، ومجروران متعلّقان بما قبلهما. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفّف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنّه. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السّكون في محل نصب.
{سَمِعْتُمْ:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {آياتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، و {آياتِ:} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {يُكْفَرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{آياتِ اللهِ} والرابط: الضمير المجرور بالباء فقط، وجملة:{وَيُسْتَهْزَأُ بِها:} معطوفة عليها، وهي مثلها في إعرابها، وفي محلها.
{فَلا:} الفاء: واقعة في جواب: {إِذا} . (لا): ناهية. {تَقْعُدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية جواب:{إِذا} لا محلّ لها، و {إِذا} ومدخولها في محلّ رفع خبر:
{أَنْ} المخففة من الثقيلة، و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به للفعل:{نَزَّلَ} على بنائه للفاعل، وفي محل رفع نائب فاعله، على بنائه للمفعول.
{مَعَهُمْ:} ظرف مكان متعلّق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {يَخُوضُوا:} فعل مضارع منصوب ب «أن» المضمرة بعد (حتى) وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتّفريق، و «أن» المضمرة، والفعل:{يَخُوضُوا} في تأويل مصدر في محل جر ب: {حَتّى،} والجار والمجرور متعلّقان بالفعل: {تَقْعُدُوا} . {فِي حَدِيثٍ:} متعلّقان بما قبلهما. {غَيْرِهِ:} صفة: {حَدِيثٍ،} والهاء في محل جرّ بالإضافة.
{إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {إِذا:} حرف جواب وجزاء، مهمل لا عمل له. {مِثْلُهُمْ:} خبر (إنّ) والهاء في محل جر بالإضافة، ويقرأ بفتح اللام، فيكون مبنيّا على الفتح
في محل رفع خبر المبتدأ، مثل قوله تعالى في سورة (الذاريات):{إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ،} ومنه قول الفرزدق-وهو الشاهد رقم [128] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» -: [البسيط]
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم
…
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
والجملة الاسمية: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ:} تعليل للنهي، لا محلّ لها. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهِ:} اسمها. {جامِعُ:} خبرها، وهو مضاف، و {الْمُنافِقِينَ:} مضاف إليه من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالْكافِرِينَ:} معطوف على سابقه بالواو العاطفة. {فِي جَهَنَّمَ:} متعلقان ب {جامِعُ،} وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {جَمِيعاً:} حال من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور، والجملة الاسمية:{أَنْ..} . إلخ تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، فهو تعليل للتّعليل.
الشرح: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ:} أي: ينتظرون وقوع أمر بكم يغمّكم، ويحزنكم. والخطاب للمؤمنين. {فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ:} نصر، وغنيمة، وغلبة على المشركين. {قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} أي: معاونين لكم في الحرب، ونحن على دينكم، فأعطونا من الغنيمة. {وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ} أي: حظ من الغلبة على المسلمين، كالذي حصل في غزوة أحد. {قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ:} ألم نغلبكم، ونتمكّن من قتلكم، ولكنّنا أبقينا عليكم. أو المعنى: ألم نغلب عليكم حتّى هابكم المسلمون، وذلك بتثبيطنا لهم، وتقاعدنا عن مشاركتهم في الحرب، كالّذي حصل في غزوة أحد حين انخزل المنافقون عن المؤمنين. هذا؛ وقد سمّى الله ظفر المسلمين بالكافرين: فتحا تعظيما لشأنهم، وعلوّ قدرهم؛ لأنّه أمر عظيم تفتح له أبواب السّماء. وسمّى ظفر الكافرين: نصيبا، تحقيرا لحظّهم؛ لأنّه لحظة من الدّنيا يصيبونها، أمّا الاستحواذ؛ فهو:
الاستيلاء، يقال: استحوذ على كذا؛ أي: استولى، وغلب عليه، وهذا الفعل جاء على الأصل، ولو أعلّ؛ لكان: ألم نستحذ، والفعل على الإعلال: استحاذ، يستحيذ. وانظر سورة المجادلة رقم [19] فالكلام فيها جيد، وجيّد، والحمد لله!.
{فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ..} . إلخ يعني: بين المؤمنين، والمنافقين. والمعنى: إنّ الله وضع السيف عن المنافقين في الدّنيا، لا لإكرامهم، بل أخّر عذابهم إلى الآخرة؛ ليضاعفه لهم، كما ستقف عليه في آية تالية.
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ..} . إلخ في هذا أقوال:
أحدها: وهو قول عليّ، وابن عبّاس-رضي الله عنهم: أنّ المراد به يوم القيامة بدليل عطفه على ما قبله.
الثاني: أنّ هذا في الدنيا، والمعنى: أنّ حجّة المؤمنين غالبة في الدّنيا على الكافرين.
الثالث: معناه: إنّ الله لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بأن يمحو دولة المؤمنين بالكلّية؛ حتى يستبيحوا بيضتهم، فلا يبقى أحد من المؤمنين، كما في صحيح مسلم-رحمه الله تعالى-من حديث ثوبان-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«وإنّي سألت ربّي ألاّ يهلك أمّتي بسنة عامة، وألاّ يسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنّ ربّي قال: يا محمّد! إنّي قضيت قضاء، فإنّه لا يردّ، وإنّي أعطيتك لأمتك ألاّ أهلكهم بسنة عامة، وألاّ أسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا» .
الرابع: إنّ شريعة الإسلام باقية إلى يوم القيامة، ولا تتغلب عليها شريعة ما.
الخامس: إنّ الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا إلا أن يتركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويتركوا أوامر الله تعالى، ويهملوا سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى:{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . والأحاديث الشريفة كثيرة في ذلك، وأكتفي بما يلي:
عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ-وأعوذ بالله أن تدركوهنّ-: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ؛ حتّى يعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطّاعون، والأوجاع الّتي لم تكن في أسلافهم؛ الّذين مضوا.
ولم ينقصوا المكيال، والميزان إلاّ أخذوا بالسّنين، وشدّة المئونة، وجور السّلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلاّ منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم؛ لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله إلاّ سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم يحكم أئمّتهم بكتاب الله تعالى، ويتخيّروا فيما أنزل الله إلاّ جعل بأسهم بينهم». رواه ابن ماجة، والبيهقيّ.
ويتفرّع عما تقدّم مسائل؛ منها: أنّ الكافر لا يرث المسلم. ومنها: أنّ الكافر لا يتزوّج مسلمة. واستئجار الكافر المسلم لعمل فيه أمر، ونهي مكروه.
الإعراب: {الَّذِينَ:} انظر مثله في الآية رقم [139]. والجملة الفعلية: {يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {فَإِنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. {كانَ:} فعل ماض ناقص
مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:
{كانَ} تقدّم على اسمها. {فَتْحٌ:} اسم كان مؤخر. {مِنَ اللهِ:} متعلقان ب: {فَتْحٌ؛} لأنّه مصدر، أو بمحذوف صفة له، وجملة: و {كانَ..} . إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال:
لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم في محل جزم جواب الشرط، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع مقولها لا محلّ لها؛ لأنّها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف مفرّع عمّا قبله، لا محلّ له. {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام وتقرير. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {نَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: ({لَمْ}) واسمه ضمير مستتر تقديره: نحن.
{مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر: {نَكُنْ} والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ..}. إلخ: إعراب هذا الكلام مثل إعراب سابقه بلا فارق. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به.
و (إن) ومدخولها معطوف على ما قبله، لا محلّ له مثله.
{وَنَمْنَعْكُمْ:} فعل مضارع معطوف على: {نَسْتَحْوِذْ} مجزوم مثله، والفاعل مستتر تقديره:
نحن، وقرئ بنصبه على إضماره «أن» بعد الواو في جواب الاستفهام، كما يجوز في العربية رفعه على إضمار مبتدأ كما ذكرته مرارا. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. {فَاللهُ:} الفاء: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {يَحْكُمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها. {بَيْنَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، والكاف في محل جر بالإضافة.
{يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله أيضا، و {يَوْمَ:} مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه.
{وَلَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({لَنْ}): حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَجْعَلَ:} فعل مضارع منصوب ب ({لَنْ}). {اللهِ:} فاعله. {لِلْكافِرِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الأول. {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{سَبِيلاً} كان صفة له
…
إلخ. {سَبِيلاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية:{وَلَنْ يَجْعَلَ..} . إلخ مستأنفة.
الشرح: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ:} الخداع، والمخادعة: أن يوهم المرء صاحبه خلاف ما يريد من المكروه؛ ليوقعه فيه من حيث لا يشعر، أو يوهمه المساعدة على ما يريد هو به؛
ليغترّ بذلك. وكلام المعنيين مناسب للمقام، فإنّهم كانوا يريدون أن يطلعوا على أسرار المؤمنين، فيذيعونها إلى المنابذين، وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائر الكفرة. وانظر سورة (البقرة) رقم [9] إن أردت الزيادة في ذلك، والخداع، والمخادعة من مكايد الحرب، وهي ممدوحة فيه، قال الرسول المعظم صلى الله عليه وسلم:«الحرب خدعة» والمراد بخداعهم الله: خداع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء.
{وَهُوَ خادِعُهُمْ} أي: هو مجازيهم على أعمالهم، وذكر لفظ الخداع للمشاكلة، كما في قوله تعالى:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} وإن الله فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع؛ حيث تركهم في الدنيا معصومين الدماء، والأموال، وأعدّ لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار.
وقيل: يعطون على الصراط نورا، كما يعطى المؤمنون، فيمضون بنورهم، ثم يطفأ نورهم، ويبقى نور المؤمنين، فينادون المؤمنين:{اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} انتهى جمل. {كُسالى:} قرئ بضم الكاف وفتحها، مثل: سكارى، وقرئ:(«كسلى») مثل: سكرى، وهو جمع كسلان. هذا؛ والكسل: الفتور، والتواني، وانحطاط الجسم.
{يُراؤُنَ النّاسَ:} من المراءاة، وهي مفاعلة من الرؤيا، ومعناها: أنّ المرائي يري النّاس عمله حسنا، ولا يراقب الله في هذا الحسن. والرياء: شرك، كما صرّحت به الأحاديث الشّريفة الكثيرة، وخذ ما يلي:
عن جندب بن عبد الله-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمّع؛ سمّع الله به، ومن يرائي؛ يرائي الله به» . رواه البخاريّ، ومسلم.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«من تزيّن بعمل الآخرة، وهو لا يريدها، ولا يطلبها؛ لعن في السّماوات، والأرض» . رواه الطّبرانيّ في الأوسط.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تحبّب إلى النّاس بما يحبّون، وبارز الله بما يكرهون؛ لقي الله؛ وهو عليه غضبان» رواه الطّبرانيّ في الأوسط.
وعن ابن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحسن الصّلاة حيث يراه النّاس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربّه تبارك وتعالى» . رواه أبو يعلى.
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصّلاة، فتقام، ثمّ آمر رجلا، فيصلّي بالنّاس، ثمّ أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصّلاة، فأحرّق عليهم بيوتهم» . رواه البخاريّ، ومسلم. وانظر الإخلاص في الآية [146].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الْمُنافِقِينَ:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{يُخادِعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {اللهَ:} منصوب على التعظيم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية مستأنفة، أو مبتدأة لا محلّ لها على الاعتبارين. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {خادِعُهُمْ:} خبره، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير على الاعتبارين. وقيل: معطوفة على خبر: {إِنَّ} وقيل:
مستأنفة، والحالية أقوى. (إذا): انظر الآية رقم [140]، وجملة:{قامُوا إِلَى الصَّلاةِ} في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجملة:{قامُوا كُسالى} جواب (إذا) لا محلّ لها، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على جملة:{يُخادِعُونَ اللهَ} الواقعة خبرا ل: {إِنَّ؛} فهي في محل رفع مثلها. {كُسالى:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر، وجملة:{يُراؤُنَ النّاسَ} في محل نصب حال ثانية من واو الجماعة. وقيل: من الضمير المستتر في: {كُسالى} . وقيل: إنّها مستأنفة. وقيل: إنّها بدل من: {كُسالى} وهذان ضعيفان، وجملة:{وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ} معطوفة على ما قبلها على جميع الوجوه المعتبرة فيها.
{إِلاّ:} حرف حصر. {قَلِيلاً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: إلا ذكرا قليلا. وقيل:
صفة ل: «زمان» محذوف، التقدير: إلا زمانا قليلا. والأول أقوى.
الشرح: {مُذَبْذَبِينَ:} متحيّرين، متردّدين بين الإيمان، والكفر، وهو بفتح الذال من:
الذبذبة، وهي الاضطراب، ومنه قول النابغة الذبياني يخاطب به النّعمان بن المنذر:[الطويل]
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة
…
ترى كلّ ملك دونها يتذبذب
وقرئ بكسر الذال، بمعنى: يذبذبون قلوبهم، أو دينهم، ومنه قول البعيث بين حريث:[الطويل]
خيال لأمّ السّلسبيل ودونها
…
مسيرة شهر للبريد المذبذب
وقرئ بالدّال بمعنى: أخذ تارة في دبّة، وتارة في دبّة، وهي الطريقة. ومنه ما روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: اتبعوا دبّة قريش، أي: طريقتهم، وملتهم، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء؛ أي: لا منسوبين إلى المؤمنين، ولا إلى الكافرين. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً:}
انظر الآية رقم [88] ففيها الكفاية، وخذ ما يلي:
عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المنافق كمثل الشّاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّة، وإلى هذه مرّة» . متفق عليه.
الإعراب: {مُذَبْذَبِينَ:} حال من واو الجماعة، أو هو منصوب على الذم بفعل محذوف، وعلامة نصبه الياء؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق به، و {بَيْنَ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {لا:} نافية. {إِلى:}
حرف جر. {هؤُلاءِ:} الهاء: حرف تنبيه لا محلّ له. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر ب: {إِلى} والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في:
{مُذَبْذَبِينَ} انظر الشرح. {وَمَنْ يُضْلِلِ..} . إلخ: انظر الآية رقم [88] ففيها الكفاية.
الشرح: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:} انظر مثل هذا النداء في الآية رقم [29] فإنّه جيد والحمد لله! {لا تَتَّخِذُوا:} ينهى الله المؤمنين في هذه الآية عن موالاة الكافرين لقرابة، أو صداقة، ونحوهما؛ حتى لا يكون حبّهم، وبغضهم إلا لله، كما ينهى عن الاستعانة بهم في الغزو، وسائر الأمور الدّينية، والدنيوية، وإنّما يجب الحبّ للمؤمنين خاصّة، والمعاونة والمساعدة لهم، وبهم، ومثل هذه الآية رقم [28] من سورة (آل عمران):{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} والآية رقم [51] من سورة (المائدة): {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى..} . إلخ، وقوله تعالى في أول سورة (الممتحنة):{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي..} . إلخ، وكل هذه الآيات تنهى المؤمنين الصادقين عن أن يكونوا مثل المنافقين؛ الذين ذكرهم الله في الآية رقم [139].
{أَتُرِيدُونَ:} أيها المؤمنون {أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً:} حجّة، وبرهانا قاطعا على نفاقكم، حتى يعاقبكم في الآخرة، كما يعاقب المنافقين. وتقدّم شرح الكلمات، وإعلال بعضها في الآية [3] و [6] من سورة (البقرة). وانظر الآية رقم [89].
الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} انظر الآية رقم [133] ففيها الكفاية. {لا:} ناهية.
{تَتَّخِذُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها كالجملة الندائية قبلها؛ لأنّها ابتدائية. {الْكافِرِينَ:} مفعول به أوّل. {أَوْلِياءَ:} مفعول به ثان. {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب:{أَوْلِياءَ،} أو بمحذوف صفة له، و {دُونِ}
مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {أَتُرِيدُونَ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. ({تُرِيدُونَ}): فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.
{أَنْ تَجْعَلُوا:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق والمصدر المؤوّل من الفعل وناصبه في محل نصب مفعول به. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به ثان تقدّم على الأوّل. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{سُلْطاناً} كان صفة له
…
إلخ. {سُلْطاناً:} مفعول به. {مُبِيناً:} صفة له.
{إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)}
الشرح: {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّارِ:} المراد به: الطبقة التي في قعر جهنّم.
وإنّما كان عقابهم كذلك؛ لأنّهم أخبث الكفرة، ضمّوا إلى الكفر استهزاء بالإسلام، وخداعا للمؤمنين. هذا؛ ودركات النار: منازل أهلها؛ إذ النّار دركات، والجنّة درجات، فالدّرك إلى أسفل، والدّرج إلى أعلى، ودركات النّار: طبقاتها، وهي سبع: العليا لعصاة المسلمين، وهي جهنّم، تكون بعد خروجهم منها خرابا، لا نار فيها، والثانية: لظى للنّصارى، والثالثة:
الحطمة: لليهود، والرّابعة: السّعير للصابئين، والخامسة: سقر للمجوس، والسادسة: الجحيم لأهل الشّرك، والسّابعة: الهاوية، وهي الدّرك الأسفل للمنافقين، وقد يسمّى جميعها باسم جهنّم، ويطلق عليها لفظ النّار جميعا. هذا؛ و {الدَّرْكِ} يقرأ بسكون الراء، وفتحها. {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً:} ناصرا ينصرهم، ويمنعهم من عذاب الله تعالى.
هذا؛ ودرجات الجنّة ثمان، وهي: دار الجلال، ودار السّلام، وجنّة عدن، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة الفردوس، وجنّة النّعيم، ودار الكرامة، وهي المعبّر عنها بدار المقامة، بقوله تعالى في سورة (فاطر) رقم [35] حكاية عن قول المؤمنين:{الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ..} . إلخ.
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {الْمُنافِقِينَ:} اسمها منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِي الدَّرْكِ:} متعلّقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} التقدير: مقيمون في الدّرك. {الْأَسْفَلِ:} صفة له.
{مِنَ النّارِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الدَّرْكِ،} أو من الضمير المستتر في: {الْأَسْفَلِ} .
والجملة الاسمية: {إِنَّ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَلَنْ:} الواو: حرف عطف. ({لَنْ}):
حرف ناصب. {تَجِدَ:} فعل مضارع منصوب ب: ({لَنْ}) والفاعل مستتر تقديره: أنت. {لَهُمْ:}
جار ومجرور، متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الأول، وتعليقهما ب:
{نَصِيراً} بعدهما ممكن، والمعنى لا يأباه، والجملة الفعلية:{وَلَنْ تَجِدَ..} . إلخ معطوفة على خبر: {إِنَّ} وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محلّ لها.
الشرح: {إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا:} رجعوا عن النفاق. {وَأَصْلَحُوا:} أي: سرائرهم، وأحوالهم بأن طهّروها من النّفاق. {وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ:} وثقوا به، وتمسّكوا بدينه. وانظر الآية رقم [103] من سورة (آل عمران) فإنّه جيد، والحمد لله! {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ} أي: لا يريدون بعملهم غير وجه الله تعالى. {فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: إن فعلوا ما تقدّم؛ فيكونون مع المؤمنين في الدّارين، ورفاقهم في أعلى عليّين. {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} أي: ثوابا في الآخرة كثيرا، لا يعلم قدره إلا الله تعالى.
تنبيه: المنافق أخطر على الإسلام، والمسلمين من الكافر، ولهذا كان عذابه أشدّ من عذاب الكافر، كما رأيت في الآية السابقة، وقد شرط تعالى للتّوبة على الكافر الانتهاء عن الكفر فقط، قال تعالى في سورة الأنفال رقم [38]:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ،} وأمّا المنافق؛ فقد شرط الله عليه للتوبة أربعا: التوبة من النفاق، وإصلاح العمل، والاعتصام بالله، وإخلاص الدّين له.
هذا؛ و: (الإخلاص) رأس العبادات في التّوحيد، واتّباع الأوامر، واجتناب النّواهي، كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة (الزمر) رقم [3]:{أَلا لِلّهِ الدِّينُ الْخالِصُ} أي: من الشرك، والرياء، والنّفاق. وقال جلّ ذكره في سورة (غافر) رقم [14]:{فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ،} وقال تعالت كلمته في سورة (البينة): {وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وخذ من قول الرّسول صلى الله عليه وسلم ما يلي:
فعن أنس-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الدّنيا على الإخلاص لله وحده، لا شريك له، وأقام الصّلاة، وآتى الزّكاة؛ فارقها والله عنه راض» . رواه ابن ماجة، والحاكم.
وعن ثوبان-رضي الله عنه-عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى، تنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء» . رواه البيهقيّ، وعن ابن عبّاس-رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أخلص لله أربعين يوما؛ ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» . رواه ابن حبان. وحذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الرّياء، وبالإضافة لما ذكرته في الآية رقم [142] فخذ هنا ما يلي:
فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج في آخر الزّمان رجال يختلون
(1)
الدّنيا بالدّين، يلبسون للنّاس جلود الضّأن من اللّين، ألسنتهم أحلى من السّكّر، وقلوبهم قلوب الذّئاب» يقول الله عز وجل: «أبي يغترّون، أم عليّ يجترئون؟! فبي حلفت:
لأبعثنّ على أولئك منهم فتنة تدع الحليم حيرانا!». رواه الترمذيّ برقم [2406] والأحاديث في ذلك كثيرة مسطورة.
الإعراب: {إِلاَّ:} أداة استثناء. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب على الاستثناء من: {الْمُنافِقِينَ} أو: من الضمير المجرور محلاّ باللام، أو هو في محل رفع مبتدأ. {تابُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، التقدير: تابوا من النفاق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها، والجملتان بعدها معطوفتان عليها. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {دِينَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {لِلّهِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{دِينَهُمْ} .
(أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {مَعَ:} ظرف مكان متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ. و {مَعَ:} مضاف، و {الْمُؤْمِنِينَ} مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والجملة الاسمية مستأنفة على الوجه الأول في:{الَّذِينَ} وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، وزيدت الفاء في خبره؛ لأنّ الموصول يشبه الشرط في العموم، ومضمون الجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ مستثنى من الكلام السّابق، واعتبار المفرد الموصول مستثنى من الكلام السابق يجعل الجملة الاسمية: (أولئك
…
) إلخ غير مرتبطة بما قبلها إعرابا مع كونها مرتبطة بها معنى، وانظر الآية رقم [160] من سورة (البقرة).
{وَسَوْفَ:} الواو: حرف استئناف. ({سَوْفَ}): حرف تسويف، واستقبال. {يُؤْتِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {الْمُؤْمِنِينَ:} مفعول به أول منصوب
…
إلخ. {أَجْراً:} مفعول به ثان.
{عَظِيماً:} صفة له.
{ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (147)}
الشرح: {ما يَفْعَلُ اللهُ..} . إلخ؛ أي: لا غاية لله في عذابكم؛ لأنّه لا يشفي غيظا، ولا يدفع ضرّا، ولا يجلب نفعا، فهو الغني المتعالي عن النّفع، والضرّ، وهذا إن شكرتم، وآمنتم،
1) أي: يطلبون الدنيا بعمل الآخرة.
وإلاّ؛ فهو سبحانه يعاقب المصرّ على كفره، ونفاقه، وعصيانه. {وَكانَ اللهُ:} ويكون، ولا يزال كائنا. {شاكِراً عَلِيماً:} قد قدّم الله الشكر على الإيمان في الآية؛ لأنّ العاقل ينظر إلى ما عليه من النّعمة العظيمة في خلقه، وتعريضه للمنافع، فيشكر شكرا مبهما، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم؛ آمن به، ثمّ شكره شكرا مفصلا، فكان الشكر مقدّما على الإيمان.
هذا؛ والفعل منه يتعدّى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرته، و: شكرت له، كما تقول:
نصحته، و: نصحت له، وباللام أفصح. هذا؛ ومن أسماء الله تعالى: الشّكور، ومعناه: هو الذي يجازي على يسير الطّاعات كثير الدّرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة. وخذ في معنى الشّكر لله ما يلي:
قال سهل بن عبد الله-رحمه الله تعالى-: الشكر هو: الاجتهاد في بذل الطّاعة مع الاجتناب للمعصية في السرّ، والعلانية. وقالت طائفة أخرى: الشّكر: هو الاعتراف في تقصير الشّكر للمنعم، ولذلك قال الله تعالى:{اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً،} فقال داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-: كيف أشكرك يا رب، والشّكر نعمة منك علي؟! فقال تعالى: الآن شكرتني، وعرفتني؛ إذ قد عرفت: أنّ الشكر منّي نعمة عليك. وقال موسى-عليه السلام:
كيف أشكرك يا رب! وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك، لا يجازي بها عملي كلّه؟! فأوحى إليه: يا موسى! الآن شكرتني. وقال ذو النّون المصري-رحمه الله تعالى-: الشكر لمن فوقك بالطّاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان، والإفضال.
هذا؛ وشكر الله يستوجب المزيد من النعم، قال تعالى في سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} . وجحودها يستوجب سلبها، وذهابها، قال تعالى في الآية نفسها رقم [7]:{وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ} لذا قيل:
إنّ الشكر قيد النعمة الموجودة، وبه تنال النعمة المفقودة. وينبغي أن تعلم: أنّ فائدة الشكر، تعود على الشّاكر نفسه، قال تعالى في سورة (النّمل) رقم [40]:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ،} وقال تعالى في سورة (لقمان) رقم [12]: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} .
هذا؛ والشّكر مطلوب لكلّ منعم، ومحسن؛ ولو كان من البشر، لذا فقد ندبنا الله ورسوله على أن نشكر من أحسن إلينا من النّاس، لذا قال الله تعالى:{اُشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} .
وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطي عطاء، فوجد؛ فليجز به، فإن لم يجد؛ فليثن، فإنّ من أثنى؛ فقد شكر، ومن كتم؛ فقد كفر، ومن تحلّى بما لم يعط؛ كان كلابس ثوبي زور» . أخرجه الترمذيّ.
وعن أسامة بن زيد-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا؛ فقد أبلغ في الثّناء» .
وعن النّعمان بن بشير-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر القليل؛ لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر النّاس؛ لم يشكر الله. والتّحدّث بنعمة الله شكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» . قال الخطابي-رحمه الله تعالى-: هذا الكلام يتأول على معنيين: أحدهما: أنّ من كان طبعه كفران نعمة النّاس، وترك الشكر لمعروفهم؛ كان من عادته كفران نعم الله، عز وجل، وترك الشكر له. والمعنى الثاني: أنّ الله تعالى لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه؛ إذا كان العبد لا يشكر إحسان النّاس إليه، ويكفر معروفهم، لاتصال أحد الأمرين بالآخر. ورحم الله من قال:[الطويل]
ومن لم يؤدّ الشّكر للنّاس لم يكن
…
لإحسان ربّ النّاس يوما بشاكر
الإعراب: {ما:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. وقيل:
({ما}) نافية. {يَفْعَلُ اللهُ:} فعل مضارع وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها.
{بِعَذابِكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والباء زائدة في المفعول به على اعتبار (ما) نافية، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {شَكَرْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. {وَآمَنْتُمْ:} معطوف على ما قبله جملة، وإفرادا، ومتعلقه محذوف، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن شكرتم الله، وآمنتم به؛ فما يفعل الله
…
إلخ، وجملة:{وَكانَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {لا يُحِبُّ اللهُ..} . إلخ: أي: لا يرضى ربّنا أن يجهر المسلم بالقول السيّئ إلا المظلوم، فإنّه يجوز له أن يجهر بظلمه، فيقول: فلان ظلمني، أو سرقني، أو شتمني، ونحو ذلك، كما فسّر بدعاء المظلوم على الظالم، فإنّه يجوز له أن يدعو على ظالمه سرّا، وجهرا.
وقيل: نزلت الآية في الضّيف إذا نزل بقوم، فلم يقروه، ولم يحسنوا ضيافته؛ فله أن يشكو، ويذكر ما صنع به.
وقال مقاتل-رحمه الله تعالى-: نزلت في أبي بكر الصديق-رضي الله عنه-وذلك: أنّ رجلا نال منه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم حاضر، فسكت عنه أبو بكر-رضي الله عنه-مرارا، ثم ردّ عليه، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم من مجلسه، فقال الصدّيق: يا رسول الله! شتمني الرّجل، فلم تقل له شيئا؛ حتّى إذا رددت عليه؛ قمت! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ ملكا كان يجيب عنك، فلمّا رددت عليه؛ ذهب الملك، وجاء الشّيطان، فقمت» . ونزلت الآية الكريمة.
هذا؛ وقرئ: («إلاّ من ظلم») بفتح الظّاء، واللام. والمعنى عليه: إلا من ظلم في فعل، أو في قول فاجهروا له بالسّوء من القول. ففيه معنى النهي عن فعله القبيح، والتوبيخ له، والردّ عليه، فإنّه يقال للمنافق: ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدّرك الأسفل من النّار؟! وقال قوم: معنى الكلام: لكن من ظلم، فإنّه يجهر بالسوء ظلما، وعدوانا، وهذا شأن كثير من الظّلمة، ودأبهم، فإنّهم مع ظلمهم يستطيلون على الناس بألسنتهم، وينالون من عرض مظلومهم ما حرّم الله عليهم. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
{وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً:} تحذير للظّالم حتّى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدّى الحدّ في الانتصار. وخذ قوله تعالى في سورة (الشورى):{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} . وقوله جلّ ذكره فيها أيضا: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المستبّان ما قالا، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم» . أخرجه أبو داود برقم: [4894]، ومسلم برقم [2587]، وعن عياض بن حمار-رضي الله عنه-قال: قلت: يا نبي الله! الرجل يشتمني، وهو دوني، أعليّ من بأس أن أنتصر منه؟ قال:«المستبّان شيطانان يتهاتران يتكاذبان» . رواه ابن حبّان في صحيحه.
الإعراب: {لا:} نافية. {يُحِبُّ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها. {الْجَهْرَ:} مفعول به. {بِالسُّوءِ:} متعلقان ب {الْجَهْرَ} لأنّه مصدر، فهما في محل نصب مفعول به. {مِنَ الْقَوْلِ:} متعلقان بمحذوف حال من (السوء). {إِلاّ:} حرف حصر. أو أداة استثناء. {مِنَ:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بإضافة اسم محذوف إليه، التقدير: إلاّ جهر من. وهذا المحذوف بدل من: {الْجَهْرَ،} أو هو مستثنى منه. والأول أقوى؛ لأنّ الكلام تامّ منفي، و {مِنَ} تحتمل الموصولة، والموصوفة. {ظُلِمَ:} فعل ماض مبني للمجهول، أو للمعلوم، ونائب الفاعل، أو الفاعل يعود إلى:{مِنَ،} والجملة الفعلية صلة:
{مِنَ} أو صفتها، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً..} . إلخ؛ أي: إن أظهرتم أيّها النّاس عمل الخير، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمّن أساء إليكم. والخير في هذه الآية يشمل جميع أعمال البرّ من طاعة الله، ومن إحسان، ومعروف لأي مخلوق يدبّ على وجه الأرض. والعفو يشمل التّجاوز عن كلّ إيذاء، وإساءة، ومضرّة من أيّ مخلوق. {فَإِنَّ اللهَ كانَ..}. إلخ. يعني: لم يزل ذا عفو مع قدرته على الانتقام، فاعفوا أنتم عمّن ظلمكم، واقتدوا بسنّة الله، ورسوله؛ يعف عنكم يوم القيامة؛ لأنّه أهل للتّجاوز، والعفو عنكم.
روى ابن المبارك؛ قال: حدّثني من سمع الحسن؛ يقول: إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين؛ نودي: ليقم من أجره على الله! فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا عن المسيئين. ويصدقه قوله تعالى في سورة (الشّورى): {فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ} . هذا؛ وبين: {تُبْدُوا} و (تخفوا) طباق، وهو من المحسّنات البديعية.
الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تُبْدُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {خَيْراً:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، والجملتان بعدها معطوفتان عليها، وإعرابهما مثلها، وجواب الشّرط محذوف، تقديره: فهو أولى لكم من تركه، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محلّ له.
{فَإِنَّ:} الفاء: حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى:{اللهَ} تقديره: «هو» . {عَفُوًّا قَدِيراً} خبران ل:
{كانَ} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية لا محلّ لها؛ لأنّها تعليلية.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ..} . إلخ: نزلت الآية الكريمة في اليهود، والنّصارى جميعا، وذلك: أنّ اليهود آمنوا بموسى، والتوراة، وكفروا بعيسى، والإنجيل، وبمحمد، والقرآن. والنصارى آمنوا بعيسى، والإنجيل، وكفروا بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقرآن. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ} أي: بين الإيمان بالله، والإيمان برسله. فنصّ الله سبحانه وتعالى: أنّ التفريق بين الله، ورسله كفر، وإنّما كان كفرا؛ لأنّ الله تعالى فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرّسل. فإذا جحدوا الرّسل؛ ردّوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية؛ الّتي أمروا بالتزامها لله تعالى.
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ:} هو ما ذكرته مفصلا من إيمان اليهود، وإيمان النصارى آنفا. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً} أي: بين الإيمان بالبعض دون البعض يتّخذون مذهبا يذهبون إليه، ودينا وسطا بين الإسلام، واليهودية يدينون به، ولا دين وسط لله تعالى؛ إذ الحقّ لا يختلف، فإنّ الإيمان بالله لا يتمّ إلا بالإيمان برسله، وتصديقهم فيما بلّغوا تفصيلا، وإجمالا، فالكافر ببعض كالكافر بالكلّ في الضّلال، كما قال جلّ ذكره:{فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} .
تنبيه بل فائدة: {ذلِكَ} إشارة إلى الإيمان، والكفر، ولم يقل: بين ذينك؛ لأنّ ذلك تقع للواحد، وللاثنين، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [86]:{إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} . ومن شواهدها الشّعرية قول عبد الله بن الزّبعرى-وهو الشاهد رقم [367] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» والشاهد رقم [184] من كتابنا: «فتح رب البريّة» -: [الرمل]
إنّ للخير وللشّرّ مدى
…
وكلا ذلك وجه وقبل
(1)
وقال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته مشيرا إلى ذلك في (الإضافة): [الرجز]
لمفهم اثنين معرّف بلا
…
تفرّق أضيف كلتا وكلا
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبّه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محلّ نصب اسم ({إِنَّ}). {يَكْفُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محلّ لها، والجملة بعدها معطوفة عليها، لا محلّ لها مثلها. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرُسُلِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {وَيُرِيدُونَ:} فعل مضارع، وفاعله. {أَنْ يُفَرِّقُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {إِنَّ} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤول من الفعل، وناصبه في محلّ نصب مفعول به. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله. و {بَيْنَ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَرُسُلِهِ:} معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَيَقُولُونَ:} مضارع، وفاعله. {نُؤْمِنُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره: نحن، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِبَعْضٍ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، أو هو متعلّق بمحذوف حال من:{سَبِيلاً} كان صفة له
…
إلخ. و {بَيْنَ} مضاف، و {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالإضافة، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {سَبِيلاً:} مفعول به.
{أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)}
الشرح: {أُولئِكَ} أي: المذكورون في الآية السابقة. {هُمُ الْكافِرُونَ} أي: الكاملون في الكفر؛ لأنّه لا اعتبار بإيمانهم. {حَقًّا:} تأكيد يزيل التوهّم في إيمانهم حين وصفهم الله بأنهم يقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} . وإذا كفروا ببعض الرّسل، فقد كفروا بالله-عز وجل
1) أي: طريق واضح.
كفرا محقّقا، وكفروا بكلّ رسول مبشّر بمحمد صلى الله عليه وسلم. {وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ..}. إلخ أي: كما استهانوا بمن كفروا به من الرّسل. يعذبهم في الآخرة عذابا شديدا يهينهم به جزاء كفرهم، واستهانتهم برسل الله محمد، وعيسى، عليهما ألف صلاة، وألف سلام.
الإعراب: {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محلّ رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {هُمُ:} ضمير فصل لا محلّ له. {الْكافِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
هذا؛ وإن اعتبرت الضّمير مبتدأ ثانيا، و {الْكافِرُونَ} خبره؛ فالجملة الاسمية تكون في محلّ رفع خبر الأول، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ} إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ} في الآية السابقة، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {حَقًّا:} مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: حقّ ذلك حقّا، والجملة في محلّ نصب حال مؤكدة لمضمون الجملة الاسمية، أو هو حال صريحة مؤكّدة لمضمون الجملة الاسمية، ومثله قول سالم بن دارة اليربوعي-وهو الشاهد رقم [385] من كتابنا:«فتح رب البريّة» -: [البسيط]
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي
…
وهل بدارة يا للنّاس من عار؟!
وقيل: {حَقًّا} صفة لمصدر محذوف، التقدير: الكافرون كفرا حقّا. {وَأَعْتَدْنا:} فعل، وفاعل. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان ب {مُهِيناً} بعدهما. {عَذاباً:}
مفعول به. {مُهِيناً:} صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها، أو هي معترضة بين المتعاطفتين.
الشرح: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} يعني بذلك أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّهم يؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله، وبكلّ رسول بعثه الله تعالى، كما قال الله تعالى في آخر سورة (البقرة):{آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ..} . إلخ، والآية رقم [84] من سورة (آل عمران):
{قُلْ آمَنّا بِاللهِ..} . إلخ. {وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ} أي: بالإيمان، وأمّا بالتّفضيل فهو موجود، كما ذكرته مرارا. {أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} فهذا وعد من الجليل بالثّواب الجزيل، والعطاء الجميل، و {سَوْفَ:} هنا بحقّ الله تعالى للتّحقيق، والتّأكيد، {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ؟!} {وَكانَ اللهُ:} ولا يزال كائنا. {غَفُوراً} لذنوب عباده. {رَحِيماً} بهم.
بعد هذا فإنّ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} يقابل قوله جلّ ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ} . وقوله جلّ شأنه: {وَلَمْ يُفَرِّقُوا} يقابل قوله تعالت قدرته: {وَيُرِيدُونَ أَنْ}
يُفَرِّقُوا
…
إلخ. وأما قوله تعالت حكمته: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا..} . إلخ؛ فداخل فيما قبله، فتمّت المقابلة.
قال النّسفي-رحمه الله تعالى-: والآية تدلّ على بطلان قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة؛ لأنّ الله أخبر: أنّ من آمن بالله، ورسله
…
إلخ يؤتيه أجره، ومرتكب الكبيرة ممّن آمن بالله ورسوله، ولم يفرّق بين أحد منهم، فيدخل تحت هذا الوعد.
هذا؛ و (أحد) أصله: وحد؛ لأنّه من الوحدة، فأبدلت الواو همزة، وهذا قليل في المفتوحة، وإنّما يحسن في المضمومة، والمكسورة، مثل قولهم في: وجوه: أوجه، وفي وساءة: إساءة. وهو مرادف للواحد في موضعين: أحدهما: وصف الباري جلّ علاه، فيقال:
هو الواحد، وهو الأحد. والثاني: أسماء العدد، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون، وفي غير هذين الموضعين يفرق بينهما في الاستعمال، فلا يستعمل أحد إلا في النفي، وهو كثير في الكلام، أو في الإثبات مضافا، كما في قوله تعالى:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بخلاف الواحد، وقولهم: ما في الدّار أحد. وهو اسم لمن يعقل، ويستوي فيه الواحد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، ولذا صحّت إضافة (بين) إليه، قال تعالى في سورة (الأحزاب) رقم [32]:{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ} . وقال جلّ ذكره في سورة (الحاقة) رقم [47]: {فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ} وإن أردت الزيادة؛ فانظر الآية رقم [26] من سورة (الجن) تجد ما يسرّك ويثلج صدرك.
الإعراب: ({الَّذِينَ}): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} صلة الموصول، لا محلّ لها. ({لَمْ}): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يُفَرِّقُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: ({لَمْ})، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محلّ لها مثلها. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلّق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَحَدٍ:} مضاف إليه. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:
{أَحَدٍ} .
{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محلّ له. {سَوْفَ:} حرف تسويف، واستقبال، وهو هنا للتّحقيق. {يُؤْتِيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ،} والهاء مفعول به أوّل. {أُجُورَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ الأوّل، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ آمَنُوا..} . إلخ معطوفة على الجملة السابقة الواقعة خبرا ل: (إنّ) فهي في محل رفع مثلها. {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً:} إعراب هذه الجملة واضح، وهي مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ..} . إلخ؛ أي: سألك يا محمد أهل الكتاب من اليهود، وذلك: أنّ كعب بن الأشرف، وفنحاص بن عازوراء، وغيرهما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت نبيّا؛ فائتنا بكتاب من السماء جملة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة. وكان هذا السؤال من اليهود سؤال تعنّت، واقتراح، لا سؤال استرشاد، وانقياد، والله عز وجل لا ينزل الآيات على اقتراح العباد، ولأنّ معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد تقدّمت، وظهرت، فكان طلب الزيادة من باب التعنّت.
{فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ} أي: أعظم من الّذي سألوك يا محمد! ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتوبيخ، وتقريع لليهود؛ حيث سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنّت. والمعنى: لا تعظمنّ عليك مسألتهم يا محمد! فإنّهم من فرط جهلهم، واجترائهم على الله لو أتيتهم بكتاب من السماء؛ لما آمنوا بك. وإنّما أسند السؤال إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن وجد هذا السّؤال من آبائهم الذين كانوا في زمن موسى-عليه الصلاة والسلام-لأنّهم كانوا على مذهبهم، وراضين بسؤالهم، ومشاكلين لهم في التعنّت. وما أكثر مثل هذا التوبيخ للموجودين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم الأوّلون في سورة (البقرة). انظر الآية رقم [55] وما بعدها.
{فَقالُوا:} يعني أسلاف اليهود. {أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً:} أرناه نره عيانا. وذلك: أنّ سبعين من بني إسرائيل خرجوا مع موسى-عليه الصلاة والسلام-إلى الجبل ليعتذر إلى الله من عبادة العجل، انظر الآية رقم [55] من سورة (البقرة).
{فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} أي: بسبب ظلمهم، وسؤالهم الرؤية. والصّاعقة: الصيحة، وهي صوت هائل سمعوه من جهة السّماء. وقيل: هي نار. وفي سورة (الأعراف) رقم [155]:
{فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ:} وهي الزلزلة، ويمكن الجمع بأنّهم حصل لهم الجميع، انظر الآية [55] من سورة (البقرة) والآية [152] من سورة (الأعراف).
{ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} يعني: إلها، وهم الذين خلّفهم موسى مع أخيه هارون حين خرج إلى ميقات ربّه ليأتيهم بالتّوراة؛ التي وعدهم بها. {مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ:} المعجزات الواضحات الدّالة على صدق موسى، وهي: العصا، واليد، وفلق البحر، وغير ذلك من المعجزات الباهرة.
هذا؛ وأصل (اتخذ) ائتخذ من الأخذ، وزنه: افتعل؛ سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين، فصار:«ايتخذ» فاضطربت الياء في التّصريف. فجاءت ألفا في: «ياتخذ» وواوا في: «موتخذ»
فبدّلت بحرف ثابت من جنس ما بعدها، وهي التاء، ثم أدغمت التاء في التاء، ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق بها، وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير، كقوله تعالى في سورة (البقرة) رقم [80]:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً} فاستغني عن ألف الوصل بألف التّقرير، ومثله قول ذي الرّمّة:[البسيط]
أستحدث الرّكب عن أشياعهم خبرا
…
أم راجع القلب من أطرابه طرب؟
ومثل ذلك كلّه قوله تعالى في سورة (مريم) رقم [78]: {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟،} وقوله تعالى في سورة (الصّافات) رقم [153]: {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟،} وقوله تعالى في سورة (ص) رقم [75]: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟،} وقوله تعالى في سورة (المنافقون) رقم [6]: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} . انظر شرح هذه الآيات في محالّها.
{فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ} أي: عن ذلك الذنب العظيم، فلم نستأصل عبدة العجل. والمقصود من هذا تسلية النبيّ صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أنّ هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء إنّما يطلبونه عنادا، ولجاجا، فإنّي قد أنزلت التّوراة جملة على موسى، وآتيته من المعجزات الباهرات، والآيات البينات ما فيه كفاية، ثمّ إنّهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد، وعبدوا العجل، وكلّ ذلك يدلّ على جهلهم، وأنّهم مجبولون على العناد، واللّجاج، وفي قوله تعالى:{فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ} استدعاء إلى التّوبة، والمعنى: أنّ أولئك الذين أجرموا لمّا تابوا؛ عفونا عنهم، فتوبوا أنتم؛ نعف عنكم
…
انتهى خازن.
الإعراب: {يَسْئَلُكَ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به أول. {أَهْلُ:} فاعله، و {أَهْلُ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه. {أَنْ تُنَزِّلَ:} فعل مضارع منصوب ب {أَنْ} والمصدر المؤول منهما في محل نصب مفعول به ثان، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {كِتاباً:} مفعول به. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة:
{كِتاباً،} والجملة الفعلية: {يَسْئَلُكَ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها.
{فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب شرط مقدّر، التقدير: إن تعجبت من سؤالهم؛ فقد سأل آباؤهم أعظم من ذلك. وهذا قول البيضاوي، والنّسفي تبعا للزّمخشري. وأرى: أنّ الفاء للتعليل، التقدير: لا تستغرب، ولا تتعجّب من سؤالهم؛ لأنّهم سألوا موسى
…
إلخ. (قد):
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {سَأَلُوا:} ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مُوسى:} مفعول به أوّل منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدّرة على الألف للتعذر. {أَكْبَرَ:} مفعول به ثان. {مِنْ ذلِكَ:} متعلقان ب: {أَكْبَرَ،} واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له، وجملة:{فَقَدْ سَأَلُوا..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط على رأي البيضاوي
…
إلخ، ولا محلّ لها على تقديري. والكلام برمّته مستأنف لا محلّ له.
{فَقالُوا:} الفاء: حرف تفسير، مثل: توضأ، فغسل وجهه
…
إلخ. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {أَرِنَا:} فعل أمر، والتماس، مبني على حذف حرف العلّة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر تقديره: أنت، و (نا): مفعول به.
{اللهَ:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة: (قالوا
…
) إلخ مفسرة لسؤالهم موسى لا محلّ لها. {جَهْرَةً:} مفعول مطلق نوعي؛ لأنّ الجهر بعض الرؤية.
وقيل: حال من الفاعل المستتر، أو من لفظ الجلالة. وقيل: مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: جهرتم جهرة. {فَأَخَذَتْهُمُ:} الفاء: حرف عطف. (أخذتهم): فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء مفعول به. {الصّاعِقَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:
(قالوا
…
) إلخ لا محلّ لها مثلها. {بِظُلْمِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِتَّخَذُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {الْعِجْلَ:} مفعول به أول، والثاني محذوف، التقدير: اتخذوا العجل إلها، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {مِنْ بَعْدِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة «إلها» المقدّر. {ما} مصدرية. {جاءَتْهُمُ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث، والهاء: مفعول به. {الْبَيِّناتُ:} فاعله، و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بإضافة:{بَعْدِ} إليه، التقدير: من بعد مجيء البينات.
{فَعَفَوْنا:} الفاء: حرف عطف. (عفونا): فعل، وفاعل. {عَنْ ذلِكَ:} متعلقان بما قبلهما، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَآتَيْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسى:} مفعول به أول. {سُلْطاناً:} مفعول به ثان. {مُبِيناً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ:} هذه الجملة تفسّر معنى قوله تعالى في سورة الأعراف رقم [70]: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} و {الطُّورَ} يطلق في الأصل على كلّ جبل، والمراد به هنا: جبل مخصوص في سيناء من أرض فلسطين، كان موسى -على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-يناجي ربّه عليه كلّما أراد مناجاته، ومخاطبته.
والميثاق: العهد، وأصله: الموثاق، قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة قبلها، والجمع: مواثيق، فهو من: وثق، يثق، ومثله في كلّ ذلك: ميعاد، وميقات، وميزان
وكان سبب رفع الجبل فوقهم: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من عند ربّه ليحكم بينهم فيه، فسأل ربّه، فأعطاه التّوراة، فلمّا رأوا ما فيها من التكاليف الشّاقّة؛ كبرت
عليهم، فأبوا قبولها، فأمر الله جبريل، عليه السلام، فقلع جبل الطّور من مكانه، وكان على قدر عسكرهم، وفوق رءوسهم قدر قامتهم كالظّلّة. وقيل لهم: إن لم تقبلوا التوراة؛ وإلا أنزلته عليكم! فقبلوها مكرهين، وسجدوا على أنصاف وجوههم اليسرى، وجعلوا يلاحظون الجبل بأعينهم اليمنى، وهم سجود، فصار ذلك سنّة في سجود اليهود، لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، وقالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله، ورحم بها عباده، فلمّا رفع عنهم الجبل؛ رجعوا إلى عنادهم، وكفرهم.
{وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً} والطور فوق رءوسهم. والمراد به: باب بيت المقدس، أو باب أريحا، انظر شرح هذا؛ وتفصيله في الآيتين رقم [58 و 59] من سورة (البقرة). {وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ:} انظر الآية رقم [47] تجد ما يسرّك. {وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً} أي: مؤكّدا، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة. وانظر شرح (نا) في الآية رقم [33] ففيها الكفاية.
الإعراب: ({رَفَعْنا}): فعل، وفاعل. {فَوْقَهُمُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من {الطُّورَ} والهاء في محل جر بالإضافة. {الطُّورَ:} مفعول به. {بِمِيثاقِهِمْ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وقال أبو البقاء: هما في محل نصب مفعول به، ولا أراه قويّا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين، والهاء في محل جرّ بالإضافة. من إضافة المصدر لفاعله. ({قُلْنا}): فعل، وفاعل. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اُدْخُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْبابَ:}
انظر إعراب الجنّة في الآية رقم [124]. {سُجَّداً:} حال من واو الجماعة، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقُلْنا} إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {وَقُلْنا لَهُمُ:} مثل ما قبله. {لا:} ناهية جازمة. {تَعْدُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: {لا} الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِي السَّبْتِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:
{وَقُلْنا..} . إلخ: معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها أيضا. {وَأَخَذْنا:} فعل، وفاعل. {مِنْهُمْ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به أول. {مِيثاقاً:} مفعوله الثاني. {غَلِيظاً:} صفة له، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها أيضا.
الشرح: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ} أي: بسبب نقضهم العهود، وخلفهم الوعود؛ التي قطعوها على أنفسهم بأنّهم يقبلون الكتاب؛ الذي يأتيهم به موسى. {وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ} أي: وبجحودهم
المعجزات؛ التي جاء بها موسى، ثمّ كفرهم بعيسى، والإنجيل، وكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن سخطنا عليهم، ولعناهم، وطردناهم من رحمتنا. هذا؛ و «النقض» يستعمل في الشيء المحسوس كالجدار، والحبل، ونحوهما، وقد استعير هنا لشيء معنوي، وهو الميثاق، ونقضه. {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي: بغير استحقاق، فقد قتلوا زكريا، ويحيى، وغيرهم كثيرين، كما ذكرته لك فيما تقدّم، وقتل الأنبياء لا يكون حقّا؛ لأنّهم لا يفعلون ما يستوجب القتل، لعصمتهم من الكبائر، بل ومن الصّغائر.
{وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ:} جمع أغلف، أي: مغطاة بأغطية، فلا تعي ما تقول يا محمد! فهم يريدون: أنّها خلقت مغشّاة بأغطية خلقية، فهي لا تعي ما جئت به، وهو مستعار من الأغلف، الذي لم يختن، واستعار الغلاف بمعنى الغطاء لعدم الفهم والإدراك، وقرئ بسكون اللام وضمها مثل: رسل، ونحوه، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: أي: قلوبنا ممتلئة علما، لا تحتاج إلى علم محمّد صلى الله عليه وسلم، ولا غيره، ومثل هذه الآية رقم [88] من سورة (البقرة) والآية رقم [5] من سورة (فصلت)، ونصها:{وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ} .
{بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ:} جعلها محجوبة عن العلم، أو خذلها، ومنعها التوفيق للتدبّر في الآيات، والتذكر في المواعظ. {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً} أي: إلا إيمانا قليلا لا قيمة له.
وقيل: المراد بالقليل عبد الله بن سلام، وأصحابه؛ الّذين آمنوا بمحمّد صلى الله عليه وسلم إيمانا صحيحا.
هذا؛ و «الطبع» الختم، وهو التأثير في الطّين، ونحوه، فاستعير هنا، وفي كثير من الآيات لعدم فهم القلوب ما يلقى عليها، وإذا طبع على قلب إنسان؛ فلا تؤثّر فيه حينئذ الموعظة، ولا تجدي معه النصيحة، كما قال تعالى في كثير من الآيات:{فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} .
هذا؛ والطّبع: السّجية، والخلق الذي طبع عليه الإنسان، والطّبيعة مثله، وجمع الأول: طباع، وجمع الثاني: طبائع، والطّبع: تدنس العرض، وتلطّخه، يقال: طبع السيف، إذا دخله الجرب من شدّة الصدأ، وطبع الرجل: إذا أتى عيبا، يقال: نعوذ بالله من طمع يدني إلى طبع، أي: إلى دنس، قال ثابت بن قطنة:[البسيط]
لا خير في طمع يدني إلى طبع
…
وغفّة من قوام العيش تكفيني
الإعراب: {فَبِما نَقْضِهِمْ:} الفاء: حرف استئناف، وهو أقوى من العطف على الآية السّابقة.
(بما {نَقْضِهِمْ}): (ما) مقحمة بين الجار والمجرور. وقيل: (ما): نكرة موصوفة في محل جر بالباء و {نَقْضِهِمْ:} بدل منها، وهو ضعيف. وهما متعلقان على رأي الزمخشري، والبيضاوي بمحذوف، تقديره: فخالفوا، ونقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا بسبب نقضهم. وقالا: يجوز تعليقهما بالفعل الآتي: (حرمنا)، وصحّح الجمل تبعا للجلال تعليقهما بمحذوف تقديره:«لعناهم» ، وذلك لأنّه صرّح به في قوله تعالى:{فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ} الآية رقم [13] من سورة
(المائدة) والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله، ومثله ما بعده من الضّمائر.
{مِيثاقَهُمْ:} مفعول به للمصدر، والهاء في محل جر بالإضافة، والميم في الكلّ حرف دالّ على جماعة الذكور. {وَكُفْرِهِمْ:} معطوف على ما قبله
…
إلخ. {بِآياتِ:} متعلقان بما قبلهما.
و (آيات): مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه. {بِغَيْرِ:} متعلقان بالمصدر: (قتل)، و (غير) مضاف، و {حَقٍّ:} مضاف إليه.
{وَقَوْلِهِمْ:} معطوف على ما قبله أيضا. {قُلُوبُنا:} مبتدأ. (نا): في محل جر بالإضافة.
{غُلْفٌ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول للمصدر:({قَوْلِهِمْ}).
{بَلْ:} حرف إضراب تبتدأ بعده الجمل. {طَبَعَ اللهُ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {عَلَيْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {بِكُفْرِهِمْ:} متعلقان به أيضا، والهاء في محل جر بالإضافة
…
إلخ. {فَلا:} الفاء: حرف عطف. (لا): نافية. {يُؤْمِنُونَ:}
فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون
…
إلخ. والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف استثناء.
{قَلِيلاً:} مستثنى ب: {إِلاّ،} على أنّ المراد به عبد الله بن سلام، فيكون استثناء متصلا، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، على التفسير الثّاني.
قال الجمل: يحتمل كونه نعتا لزمان محذوف، أي: إلا زمانا قليلا، وقال: ولا يجوز نصبه على الاستثناء من فاعل: {يُؤْمِنُونَ؛} لأنّ الضمير في: (لا {يُؤْمِنُونَ}) عائد على المطبوع على قلوبهم، ومن طبع على قلبه بالكفر؛ فلا يقع منه إيمان! أي: فيكون الاستثناء من غير جنسه.
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)}
الشرح: {وَبِكُفْرِهِمْ} أي: بعيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. {وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ..} . إلخ حين رموها بالزنى، وذلك: أنّهم أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب، ومنكر قدرة الله كافر، فالمراد بقوله:{وَبِكُفْرِهِمْ} هو إنكارهم قدرة الله تعالى، والمراد بقولهم:{عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً} هو رميهم إيّاها بالزنى، وإنّما سمّاه بهتانا عظيما؛ لأنّه ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدلّ على براءتها من ذلك، وانظر شرح البهتان في الآية رقم [112] وانظر تكريمها، وتشريفها، وتفضيلها في سورة (آل عمران).
الإعراب: {وَبِكُفْرِهِمْ:} معطوفان على ما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة من إضافة المصدر لفاعله. {وَقَوْلِهِمْ:} معطوف على ما قبله، والهاء
…
إلخ. {عَلى مَرْيَمَ:} متعلقان بالمصدر قبلهما، أو هما متعلقان ب {بُهْتاناً؛} لأنّه مصدر أيضا، أو بمحذوف حال منه، كان صفة له، فلما قدّم عليه؛ صار حالا. وعلامة الجرّ الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والتأنيث. {بُهْتاناً:} مفعول به للمصدر قبله، فإنّه متضمن معنى كلام كثير، نحو: قلت
خطبة، وشعرا. وقيل: منصوب على نوع المصدر، كقولهم: قعد القرفصاء. وقيل: صفة لمصدر محذوف، التقدير: قولا بهتانا. وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: مباهتين، وإنّي أعتمد الأوّل، فهو جدير بالاعتبار.
الشرح: {وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا..} . إلخ؛ أي: بزعمهم. وهناك مقدّر محذوف، بدليل ما بعده، أي: وصلبناه. ففيه اكتفاء. {الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ:} انظر شرح هذه الكلمات في سورة (المائدة).
{رَسُولَ اللهِ:} قد يقال: إنّهم كفروا به وسبّوه، وسبّوا أمه. وقالوا: ساحر، وابن ساحرة، فكيف يقولون فيه: رسول الله؟ والجواب: أنّهم قالوا ذلك تهكّما على حدّ قول المشركين في حقّ محمد صلى الله عليه وسلم: {وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ،} وقول فرعون فيما حكاه الله عنه: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} . وأجيب أيضا بأنّ هذا من كلام الله تعالى لمدحه، وتنزيهه عن مقالتهم فيه.
{وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ} هذا ردّ لما ادّعاه اليهود من قتل عيسى-عليه السلام-وصلبه، وتكذيب النّصارى الذين صدّقوا اليهود في دعواهم قتله، وصلبه، فقد روي: أنّ رهطا من اليهود سبّوا عيسى، وسبّوا أمّه-عليهما السلام-فدعا عليهم بقوله: اللهم أنت ربّي، وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبّني، وسبّ والدتي! فمسخ الله من سبّهما قردة، وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنّه يرفعه إلى السّماء، ويطهّره من صحبة اليهود الخبثاء، فذلك قوله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [55]:{إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ..} . إلخ. انظر شرحها هناك فإنّه جيد. والحمد لله! فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي، فيقتل، ويصلب، ويكون رفيقي في الجنّة؟ فقال رجل منهم: أنا يا روح الله! فألقى الله عليه شبهه، وصلب، ورفع عيسى على نبيّنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام من البيت إلى السّماء. وقيل:
كان رجل ينافق عيسى، عليه السلام، فلمّا أرادوا قتله؛ قال: أنا أدلّكم عليه، فدخل بيت عيسى، ورفع عيسى، وألقى الله شبهه على ذلك، فدخلوا عليه، وقتلوه، وهم يظنّون: أنّه عيسى. وجاز هذا على قوم متعنّتين حكم الله بأنّهم لا يؤمنون. وقيل: دخل طيطايوس اليهودي بيتا كان فيه عيسى، فلم يجده، وألقى الله عليه شبهه، فلمّا خرج؛ ظنّوا: أنّه عيسى، فأخذ،
وصلب، وأمثال ذلك من خوارق العادات؛ التي لا تستبعد في زمان النبوّة. وإنّما ذمّهم الله تعالى بما دلّ عليه الكلام من جراءتهم على الله، وقصدهم قتل المؤيّد بالمعجزات الباهرة.
{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي: اليهود، واختلفوا في شأن عيسى، على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام، حيث قال بعضهم: إنّ الوجه المصلوب وجه عيسى، والبدن بدن صاحبنا، وقال بعضهم: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وقال بعضهم: قد قتلناه حقّا، وقال قوم: صلب النّاسوت، وصعد اللاهوت. كما اختلفوا في شأنه، وذاته، فقالت فرقة منهم: كان الله فينا ما شاء الله، ثمّ صعد إلى السماء. وهؤلاء هم اليعقوبية. وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثمّ رفعه الله إليه. وهؤلاء هم النّسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثمّ رفعه الله إليه، وهؤلاء هم المسلمون منهم الموحّدون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة الموحّدة، فغلبوها، وقتلوها، فلم يزل التوحيد طامسا حتى بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم. وانظر ما ذكرته في سورة (التوبة) رقم [30] بشأن «بولص» لتتعرّف على الحقيقة، والله أعلم.
{لَفِي شَكٍّ مِنْهُ:} أي: في تردّد، وتحيّر في شأن عيسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، والشك كما يطلق على تساوي الطرفين يطلق على مطلق التردّد، وعلى ما يقابل العلم. {ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ} أي: إنّ اختلافهم في شأن عيسى، وأقوالهم المذكورة، كلّ ذلك ظنّ من غير علم. {وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي: وما قتلوه متيقنين: أنّه عيسى، بل شاكّين متوهّمين. وقال ابن عباس، والسّدّي: المعنى: ما قتلوا ظنّهم يقينا، كقولك: قتلته علما: إذا علمته علما تامّا، فالهاء عائدة على الظنّ. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
الإعراب: {وَقَوْلِهِمْ:} معطوف على ما قبله، فهو مجرور أيضا، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. حذفت نونها وبقيت الألف دليلا عليها. {قَتَلْنَا:} فعل، وفاعل. {الْمَسِيحَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول للمصدر:({قَوْلِهِمْ}).
{عِيسَى:} بدل، أو عطف بيان من:{الْمَسِيحَ} . {اِبْنَ:} صفة: {عِيسَى،} وهو مضاف.
و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والتأنيث المعنوي. {رَسُولَ:} بدل، أو عطف بيان من:{الْمَسِيحَ،} أو هو منصوب بفعل محذوف، تقديره: أعني، أو أمدح، ويجوز في العربية رفعه على الابتداء، التقدير: هو رسول، و {رَسُولَ:} مضاف. و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَما:} الواو: واو الحال. ({ما}): نافية.
{قَتَلُوهُ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْمَسِيحَ،} والرّابط: الواو، والضمير، والّتي بعدها معطوفة عليها. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. ({لكِنْ}):
حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {شُبِّهَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى
{الْمَسِيحَ} . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال أيضا، ورجّح الزمخشري اعتبار:{لَهُمْ} نائب فاعل: {شُبِّهَ} .
{وَإِنَّ:} الواو: واو الحال. ({إِنَّ}): حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسمها، وجملة:{اِخْتَلَفُوا فِيهِ} صلة الموصول، لا محلّ لها. {لَفِي شَكٍّ:} اللام: هي المزحلقة. (في {شَكٍّ}): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان ب {شَكٍّ} أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب حال من: {عِيسَى} والرابط: الواو، والضمير. {ما:} نافية. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر مقدّم. {بِهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مِنْ:} حرف جر صلة. {عِلْمٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{ما لَهُمْ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها، وجوّز أبو البقاء اعتبارها في محل جرّ صفة:{شَكٍّ} وهو ضعيف. {إِلاَّ:} أداة استثناء. {اِتِّباعَ} مستثنى منقطع. هذا؛ ويجوز في العربية رفعه على اعتباره بدلا من محل: {عِلْمٍ} وأنشد سيبويه قول جران العود-وهو الشاهد رقم [418] من كتابنا: «فتح رب البرية» -: [الرجز]
وبلدة ليس بها أنيس
…
إلاّ اليعافير وإلاّ العيس
هذا؛ و: {اِتِّباعَ} مضاف، و {الظَّنِّ:} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. {وَما:} الواو: حرف عطف. ({ما}): نافية. {قَتَلُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها لا محلّ لها مثلها. {يَقِيناً:} صفة مفعول مطلق محذوف، التقدير: وما قتلوه قتلا يقينا، أو هو حال بمعنى: متيقنين.
{بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)}
الشرح: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ} أي: رفع الله عيسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-إلى ملكوته الواسع إلى؛ حيث لا حكم فيه إلا لله تعالى. {وَكانَ اللهُ عَزِيزاً:} ولا يزال كائنا قويّا لا يغلب على ما يريده. {حَكِيماً} أي: في فعله، وفي خلقه، وفيما دبّر لعيسى عليه السلام، وانظر الآية السابقة، والآية رقم [55] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
تنبيه: صرحت الآيات القرآنية على أنّ الله تعالى نجّى رسوله عيسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-من كيد اليهود الخبثاء، فلم يقتل، ولم يصلب، وإنّما صلبوا
شخصا غيره ظنّوه عيسى، وهو الذي ألقى الله شبه عيسى عليه. وهذا ما نعتقده نحن المسلمين بتوفيق الله وفضله؛ حيث بيّن لنا في قرآنه ذلك، وأبطل معتقد النّصارى، وخرافاتهم، فيعتقدون:
أنّه صلب، وأن اليهود أهانوه، ووضعوا القذر، والشّوك على رأسه، وأنّه تضرّع، وبكى مع زعمهم: أنّه هو الله، ولقد أحسن من قال:[المتقارب]
أعبّاد عيسى لنا عندكم
…
سؤال عجيب فهل من جواب؟
إذا كان عيسى على زعمكم
…
إلها قديرا عزيزا يهاب
فكيف اعتقدتم أنّ اليهود
…
أذاقوه بالصّلب مرّ العذاب
وكيف اعتقدتم بأنّ الإله
…
يموت ويدفن تحت التّراب
ولقد أحسن من قال: [الوافر]
إذا صلب الإله بفعل عبد
…
يهوديّ فما هذا الإله؟
وبعضهم يزعمون: أنّه ابن الله جاء ليخلّص البشرية من أوزارها إلى غير ما هنالك من التناقض العجيب الغريب، ولقد أحسن من قال:[الخفيف]
عجبا للمسيح بين النّصارى
…
وإلى أيّ والد نسبوه؟
أسلموه إلى اليهود وقالوا:
…
إنّهم بعد ضربه صلبوه
فإذا كان ما يقولون حقّا
…
وصحيحا فأين كان أبوه؟
فلئن كان راضيا بأذاهم
…
فاحمدوهم لأنّهم عذّبوه
ولئن كان ساخطا فاتركوه
…
واعبدوهم لأنّهم غلبوه
والعجب العجاب بأنّ اليهود يقولون عن مريم: إنّها زانية، وإنّ عيسى ابن زنى، وفعلوا بعيسى ما فعلوا من القتل والصلب، بزعمهم، والإسلام، ونبي الإسلام، وقرآن الإسلام ينزه مريم وابنها من كلّ مفتريات اليهود، ويعظّمون عيسى برفعه إلى ملكوت الله، ويصفون اليهود بالخيبة واللعنة، ومع ذلك فالنصارى يدعمون اليهود ماديّا، ومعنويّا، ويحاربون الإسلام، والمسلمين ماديّا ومعنويّا، فلا حول، ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم!!
الإعراب: {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب، تبتدأ بعده الجمل. {رَفَعَهُ:} ماض، والهاء مفعول به. {اللهُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {إِلَيْهِ:} متعلقان بما قبلهما، وجملة:{وَكانَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ} المراد: اليهود، والنصارى. {إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ:} ليعترفنّ بعيسى: أنّه عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته. {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: موت الأحد المقدّر كما ستعرفه في الإعراب، والمعنى: ما من أحد من اليهود، والنصارى إلا ليعترف عند خروج روحه بأنّ عيسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-عبد الله، ورسوله، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان، وهذا كالوعيد لهم، والتّحريض على معاجلة الإيمان قبل أن يضطروا إليه، ولم ينفعهم إيمانهم ساعتئذ. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: معناه: إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه، سواء احترق، أو تردّى من شاهق، أو سقط عليه جدار، أو أكله سبع، أو مات فجأة، فقيل له: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلّم به في الهواء. فقيل له: أرأيت إن ضربت عنقه؟ قال: يتلجلج به لسانه. وقال شهر بن حوشب-رحمه الله تعالى-: إنّ اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه، ودبره، وقالوا: يا عدو الله! أتاك عيسى نبيّا، فكذّبت به. فيقول: آمنت: أنّه عبد الله، ورسوله. وتقول للنّصراني: أتاك عيسى نبيّا، فزعمت:
أنّه الله، وابن الله، فيقول: آمنت: أنّه عبد الله، فأهل الكتابين يؤمنون إيمانا حقيقيّا عند الموت، ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان.
هذا؛ وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أنّ الضميرين يعودان إلى عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وهذا يكون في آخر الزمان حينما ينزل عيسى-عليه السلام-من السّماء، ويخرج الدّجّال، فيقتله عيسى-عليه السلام-بالمعاونة مع المهدي، عليه السلام، فلا يبقى يهوديّ، ولا نصرانيّ إلا آمن به إيمانا صحيحا، حتى تكون الملّة واحدة، وهي ملّة الإسلام، وسيعمّ السّلام، والأمان الدّنيا في عهده، ويمكث في الأرض أربعين سنة، يتزوّج، ويولد له ولدان، يسمّيهما موسى، وأحمد، ثم يموت موتته المقدرة على كلّ حي، فيصلي عليه المسلمون، ويدفنونه في الحجرة الشّريفة بجوار أخيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويدلّ على ذلك ما يلي:
عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والّذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم، حكما مقسطا، فيكسر الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، لا يقبله أحد، وحتّى تكون السّجدة الواحدة خيرا من الدّنيا وما فيها» . أخرجه البخاري، ومسلم.
ومعنى: يضع الجزية: لا يقبلها من أحد من أهل الأديان الكافرة، بل لا يقبل إلا الإسلام، أو السّيف. وكان أبو هريرة-رضي الله عنه-يقول: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..} .
إلخ. علما بأنّه يحكم بالقرآن، ويكون من أتباع الرّسول محمد صلى الله عليه وسلم، وواحدا من أمته.
وسيعمّ الأمان، والسّلام الدّنيا في عهده، وسيرعى الأسد مع الإبل، والنّمر مع البقر، والذّئب مع الغنم، وتلعب الصّبيان بالعقارب، والحيات، فلا يؤذي مخلوق مخلوقا، وسيكون الناس كالملائكة يمشون في الأرض مطمئنّين، وستعمّ الرّحمة، والعدالة جميع الكائنات. وخذ ما يلي من الأحاديث الشريفة:
فقد روى ابن ماجة في سننه عن أبي أمامة-رضي الله عنه-قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أكثر خطبته حديثا حدّثناه عن الدجال، وحذّرناه، فكان من قوله أن قال صلى الله عليه وسلم: «لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم-عليه السلام-أعظم من فتنة الدّجال، وإنّ الله-عز وجل لم يبعث نبيّا إلا حذّر أمّته الدجال، وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم؛ فأنا حجيج كلّ مسلم، وإن يخرج بعدي؛ فكلّ حجيج نفسه، وإنّ الله خليفتي على كلّ مسلم، وإنّه يخرج من خلّة بين الشام، والعراق، فيعيث يمينا، ويعيث شمالا، ألا يا عباد الله! أيها الناس فاثبتوا، وإنّي أصفه لكم صفة لم يصفها إيّاه نبيّ قبلي: إنّه يبدأ، فيقول: أنا نبيّ-ولا نبيّ بعدي-ثم يثنّي فيقول: أنا ربّكم-ولا ترون ربكم حتى تموتوا-وإنه أعور-وإن ربكم عز وجل ليس بأعور-وإنّه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كلّ مؤمن كاتب، أو غير كاتب، وإنّ من فتنته: أنّ معه جنّة، ونارا، فناره جنة، وجنته نار، فمن ابتلي بناره؛ فليستغث بالله، وليقرأ فواتح سورة (الكهف) فتكون عليه بردا وسلاما، كما كانت بردا وسلاما على إبراهيم.
وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أمك، وأباك أتشهد أني ربك؟ فيقول:
نعم، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه، وأمّه، فيقولان: يا بنيّ اتبعه، فإنّه ربّك. وإن من فتنته أن يسلّط على نفس واحدة، وينشرها بالمنشار حتى يلقى شقّين، ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإنّي أبعثه الآن، ثم يزعم: أنّ له ربّا غيري، فيبعثه الله، فيقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول:
ربّي الله، وأنت عدوّ الله أنت الدّجال، والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم.
وإنّ من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر، فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحيّ، فيكذبونه، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت، وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحيّ، فيصدّقونه، فيأمر السّماء أن تمطر، فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت، وأعظمه، وأمدّه خواصر، وأدرّه ضروعا. وإنّه لا يبقى شيء من الأرض، إلا وطئه، وظهر عليه، إلا مكّة، والمدينة، فإنّه لا يأتيهما من نقب من نقابها إلا لقيته الملائكة بالسّيوف صلتة حتى ينزل عند الظّريب الأحمر عند منقطع السّبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق، ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبث منها، كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص».
فقالت أم شريك بنت أبي العكر-رضي الله عنها: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ قال: «هم قليل، وجلّهم يومئذ ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح، فبينما إمامهم قد تقدّم يصلّي بهم الصبح؛ إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم، عليه السلام، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى-عليه السلام-يصلّي بالناس، فيضع عيسى يده على كتفيه، ثم يقول:
تقدّم، فصلّ، فإنّها لك أقيمت. فيصلي بهم إمامهم، فإذا انصرف؛ قال عيسى: افتحوا الباب، فيفتح، ووراءه الدّجال معه سبعون ألف يهوديّ، كلّهم ذو سيف محلّى، وساج، فإذا نظر إليه الدّجال؛ ذاب، كما يذوب الملح في الماء، وينطلق هاربا، فيقول عيسى-عليه السلام: إنّ لي فيك ضربة لن تسبقني بها، فيدركه عند باب اللّدّ الشرقي، فيقتله، ويهزم اليهود، فلا يبقى شيء ممّا خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، لا حجر، ولا شجر، ولا حائط، ولا دابة-إلا الغرقدة؛ فإنّها من شجرهم لا تنطق-إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهوديّ، تعال فاقتله». انتهى. بعض حديث ابن ماجه.
وفي مسلم عن النّواس بن سمعان-رضي الله عنه-قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدّجال ذات غداة. وفيه: قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: «أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيّامه كأيّامكم» قلنا: يا رسول الله! وذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؛ قال:«لا، اقدروا له قدره» . انتهى بعض حديث مسلم. وفي مختصر ابن كثير الكثير الكثير من ذلك.
{وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: يكون عيسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-شاهدا على اليهود: أنّهم كذّبوه، وطعنوا فيه، وفي أمّه، وعلى النّصارى: أنّهم اتخذوه ربّا، وأشركوا به، ويشهد على تصديق من صدّقه منهم، وآمن به. وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: معناه: أنه يكون شهيدا يوم القيامة: أنّه قد بلّغ رسالة ربه، وأقرّ على نفسه بالعبودية، كما حكى عنه قوله في سورة (مريم):{قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} .
الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف نفي بمعنى (ما). {مِنْ أَهْلِ:}
متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف مؤخر، التقدير: وما من أهل الكتاب أحد، و {أَهْلِ} مضاف، و {الْكِتابِ:} مضاف إليه. {إِلاّ:} حرف حصر. {لَيُؤْمِنَنَّ:} اللام: واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير: وعزتي، وجلالي. والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره:
أقسم. (يؤمننّ): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محلّ له، والفاعل يعود إلى «أحد» المقدر. هذا؛ ويقرأ بضم النون فيكون مرفوعا، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية جواب القسم لا محلّ لها، والقسم المحذوف
وجوابه في محل رفع صفة «أحد» المحذوف. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الصافات) رقم [164]: {وَما مِنّا إِلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ} وانظر الآية رقم [46]، والجملة الاسمية:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محلّ لها. {قَبْلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، و {قَبْلَ:} مضاف، و {مَوْتِهِ} مضاف إليه، والهاء في محل جرّ بالإضافة.
{وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف. ({يَوْمَ}): ظرف زمان متعلق ب: {شَهِيداً} بعده، و (يوم) مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {يَكُونُ:} فعل مضارع ناقص، واسمه ضمير مستتر، تقديره:
هو، يعود إلى عيسى. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان ب {شَهِيداً} الذي هو خبر: {يَكُونُ} والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا} أي: فبسبب ظلم منهم. {حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} يعني: ما حرمنا عليهم الطيّبات التي كانت حلالا لهم؛ إلا بظلم عظيم ارتكبوه، وذلك الظلم هو ما ذكره الله من نقضهم الميثاق، وما عدد عليهم من أنواع الكفر، والكبائر العظيمة، مثل قولهم:
اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وكقولهم: أرنا الله جهرة، وكعبادتهم العجل، وأكلهم الربا، وأكلهم أموال الناس بالباطل، فبسبب هذه الأمور، وكثير غيرها حرّم الله عليهم طيبات كانت حلالا لهم، وهي ما ذكره الله في الآية رقم [146] من سورة (الأنعام):{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ..} . إلخ. وقال الطبريّ-رحمه الله تعالى-في معنى الآية: فحرمنا على اليهود- الذين نقضوا ميثاقهم؛ الذي واثقوا به ربّهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه-طيبات في المآكل، وغيرها؛ التي كانت حلالا لهم، عقوبة لهم بظلمهم، الّذي أخبر الله عنه في كتابه.
هذا؛ وقال الواحدي: فأمّا وجه تحريم الطّيبات عليهم: كيف، ومتى كان، وعلى لسان من حرّم عليهم
…
؟ فلم أجد فيه شيئا أنتهي إليه، فتركته. ولقد أنصف الواحدي-رحمه الله تعالى- فيما قال، فإنّ هذه الآية في غاية الإشكال، وبيانه: أنّ الله تعالى، لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه، وقد ذكر المفسّرون في معنى الظّلم المذكور في الآية مما تقدّم ذكره، وكلّها ذنوب في المستقبل بعد التّحريم.
فإن قلت: علم الله تعالى وقوع هذه الذنوب قبل وقوعها، فحرّم عليهم ما حرّم من الطّيّبات؛ التي كانت لهم حلالا عقوبة لهم على ما سيقع منهم، قلت: جوابه ما تقدّم، وهو: أنّ الله تعالى
لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه، ولهذا لم يذكر الإمام فخر الدين في تفسير هذه الآية ما ذكره المفسّرون، بل ذكر تفسيرا إجماليا، فقال: اعلم: أنّ أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظّلم للخلق، والإعراض عن الدّين الحقّ. أمّا ظلم الخلق، فإليه الإشارة بقوله:{وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ،} ثم إنّهم في غاية الحرص على طلب المال، فتارة يحصّلونه بطريق الرّبا مع أنّهم قد نهوا عنه، وتارة يحصّلونه بطريق الرشا، وهو المراد بقوله تعالى:{وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ؛} فهذه الأربعة هي الذنوب التي شدّد الله عليهم بسببها في الدّنيا والآخرة، أمّا التشديد في الدنيا، فهو ما تقدّم من تحريم الطّيبات عليهم، وأمّا التّشديد في الآخرة، فهو المراد بقوله تعالى:{وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً} قال المفسّرون: إنّما قال:
منهم؛ لأنّ الله علم: أنّ قوما منهم سيؤمنون، فيأمنون من العذاب. انتهى خازن.
الإعراب: {فَبِظُلْمٍ:} الفاء: حرف استئناف. (بظلم): متعلقان بالفعل: {حَرَّمْنا} بعدهما.
وقال الزجّاج: هذا بدل من: {فَبِما نَقْضِهِمْ} قاله القرطبيّ، ولا وجه له قطعا. {مِنَ الَّذِينَ:}
متعلقان ب (ظلم) أو بمحذوف صفة له. {هادُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {حَرَّمْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية مع متعلّقاتها مستأنفة لا محلّ لها. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلّقان بما قبلهما. {طَيِّباتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم. {أُحِلَّتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث، ونائب الفاعل يعود إلى:{طَيِّباتٍ} . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{طَيِّباتٍ} . {وَبِصَدِّهِمْ:} معطوفان على (بظلم) فهما متعلقان حكما بالفعل: {حَرَّمْنا،} والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان بالمصدر: «صد» ، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {كَثِيراً:} صفة لمفعول به محذوف، التقدير: بصدهم ناسا كثيرا. وقيل: صفة لمصدر مفعول مطلق محذوف. وقيل: صفة لزمان محذوف: أي: زمانا كثيرا، والمعتمد الأوّل.
الشرح: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ:} كان الربا محرّما عليهم، كما حرّم علينا، وكانوا يتعاطونه. {وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النّاسِ بِالْباطِلِ} أي: بالرّشا، وسائر الوجوه المحرّمة. {وَأَعْتَدْنا:} هيأنا، والاعتداد التهيئة من العتاد، وهو العدّة. وقيل: أصله: أعددنا، فأبدلت الدال الأولى تاء.
هذا؛ و {النّاسِ} اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط
…
إلخ، واحده:
إنسان، وإنسانة من غير لفظه، وتصغيره نويس، وناس، وإنسان، وأناسيّ، وإنس من مادة
واحدة، وهو يطلق على الإنس، والجن، لكن غلب استعماله في الإنس، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله:
الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم، بهذا الأصل ولكن بدون لام التعريف، قال تعالى في سورة (الإسراء) رقم [71]:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} وقال تعالى في سورة (البقرة) رقم [60]: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} وقيل: إنّ أصله النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنّما قلبت الواو ألفا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها.
هذا؛ وقيل: «الناس» مأخوذ من النّوس، وهو الحركة، يقال: ناس، ينوس: إذا تحرّك.
وقيل: أصله من نسي، فأصل ناس: نسي، قلب فصار نيس، وتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثمّ دخلت الألف واللام، فقيل: الناس. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نسي آدم عهد الله، فسمّي إنسانا، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«نسي آدم فنسيت ذرّيّته» ، وقال تعالى في سورة (طه) رقم [115]:{وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} وعلى هذا فالهمزة زائدة، قال الشاعر:[الكامل]
لا تنسين تلك العهود فإنّما
…
سمّيت إنسانا لأنّك ناسي
وقال آخر: [البسط]
فإن نسيت عهودا منك سالفة
…
فاغفر فأوّل ناس أوّل النّاس
وقيل: سمّي: إنسانا؛ لأنسه. وقيل: لأنسه بربّه، قال الشاعر:[الطويل]
وما سمّي الإنسان إلاّ لأنسه
…
ولا القلب إلاّ أنّه يتقلّب
الإعراب: {وَأَخْذِهِمُ:} معطوف على (بظلم) والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {الرِّبَوا:} مفعول به للمصدر منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر.
{وَقَدْ:} الواو: واو الحال. ({قَدْ}): حرف تحقيق يقرّب الماضي من الحال. {نُهُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، أو من ({الرِّبَوا}) وعلى الاعتبارين فالرابط: الواو، والضمير. {وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النّاسِ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله. {بِالْباطِلِ:} متعلقان بالمصدر، أو بمحذوف حال من الضمير المجرور محلاّ بالإضافة، أو بمحذوف حال من:{أَمْوالَ النّاسِ} . ({أَعْتَدْنا}): فعل، وفاعل. {لِلْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بما بعدهما. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب (الكافرين)، أو بمحذوف صفة له. {عَذاباً:} مفعول به. {أَلِيماً:} صفة له، وجملة:{وَأَعْتَدْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: (حرمنا
…
) إلخ في الآية السابقة، لا محلّ لها مثلها.
الشرح: {لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ:} المراد: عبد الله بن سلام، وأصحابه؛ الذين أسلموا من أهل الكتاب-رضي الله عنهم، وذلك: أنّ اليهود الخبثاء، أنكروا ما تقدّم، وقالوا:
إنّ هذه الأشياء كانت حراما في الأصل، وأنت تحلّها، ولم تكن حرّمت بظلمنا، فنزلت الآية الكريمة. انتهى قرطبي.
هذا؛ و: {الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} أي: المبالغون في علم الكتاب، الثابتون، وهم الذين أتقنوا علمهم بحيث لا يدخل في علمهم شكّ، والرسوخ: الثبوت في الشّيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام: أن يرسخ الجبل، والشّجر، ونحوهما في الأرض، قال الشاعر:[الطويل]
لقد رسخت في الصّدر منّي مودّة
…
لليلي أبت آياتها أن تغيّرا
هذا؛ وقال ابن أبي حاتم بسنده: حدّثنا عبيد الله بن يزيد-وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنسا، وأبا أمامة، وأبا الدّرداء-رضي الله عنهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّاسخين في العلم، فقال:«من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، وعفّ بطنه، وفرجه؛ فذلك من الرّاسخين في العلم» . وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد: {الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ:}
المتواضعون لله، المتذلّلون في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم.
هذا؛ وفي قوله تعالى: {الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} استعارة، والمراد بها المتمكّنون في العلم، تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوّارة. وهذا أبلغ من قوله: الثابتون في العلم. هذا؛ والرّاسخ في العلم من وجد في علمه أربعة أشياء: التقوى فيما بينه وبين الله تعالى، والتّواضع فيما بينه وبين النّاس، والزّهد فيما بينه وبين الدّنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النّفس.
{وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: منهم، والمؤمنون من المهاجرين، والأنصار. {يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ} أي:
يصدقون بالقرآن الذي أنزل عليك يا محمد! {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ:} المراد به: الكتب السماوية المنزلة على الرّسل السابقين: التوراة، والإنجيل، والزّبور، والصحف الّتي أنزلت على إبراهيم وغيره، صلوات الله، وسلامه على نبينا، وعليهم أجمعين. {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ:} انظر الآية رقم [103]. {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ:} التي فرضها الله عليهم في أموالهم. {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ:} هو آخر أيام الدنيا، فيه: البعث، والحشر، والحساب، وإدخال أهل الجنّة الجنّة بالفضل الربّاني، وإدخال أهل النّار النّار بالعدل الإلهي.
{أُولئِكَ:} الإشارة إلى المذكورين في هذه الآية. {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} يعني: سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله، وامتثال أمره ثوابا عظيما، لا يعلم مقداره إلا الله تعالى. وفي الآية التفات من الغيبة إلى التكلم، انظر الالتفات في الآية رقم [64].
الإعراب: {لكِنِ:} حرف استدراك مهمل، مفيد للاستثناء. {الرّاسِخُونَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمّة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {فِي الْعِلْمِ:} متعلقان ب: {الرّاسِخُونَ} . {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في: {الرّاسِخُونَ} . {وَالْمُؤْمِنُونَ:} معطوف على: {الرّاسِخُونَ} مرفوع مثله.
{يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، وما عطف عليه. وقيل: هي في محل نصب حال من: ({الْمُؤْمِنُونَ}). وقيل: هي معترضة بين المبتدأ وخبره الآتي. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة. {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى (ما) وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها. {إِلَيْكَ:}
جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ:} معطوف على ما قبله، وإعرابه مثله.
{وَالْمُقِيمِينَ:} منصوب على المدح بفعل محذوف. وهو قول سيبويه، رحمه الله تعالى.
وقيل: معطوف على (ما) المجرورة بالباء، التّقدير: وبالمقيمين، فيكون المراد بهم الأنبياء والرّسل، الإيمان بهم واجب كما لا يخفى، وذكر مكي أقوالا كثيرة أيضا، وكلّها ضعيفة لا يعتدّ بشيء منها؛ لأنّ مثل هذا وارد في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل في سورة (البقرة) رقم [136]:{وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} ومنه قول ابن خياط: [البسيط]
وكلّ قوم أطاعوا أمر سيّدهم
…
إلاّ نميرا أطاعت أمر غاويها
الظّاعنين، ولمّا يظعنوا أحدا
…
والقائلون لمن دار نخلّيها
المعنى: يخافون من عدوهم لقلّتهم، وذلّهم، فيظعنون، ولا يخاف منهم عدوّهم، فيظعن عن دارهم خوفا منهم، وقالت خرنق بنت عفاف من بني قيس، تصف قومها بالظّهور على العدوّ، ونحر الجزر للأضياف، واللازمة للحرب، والعفة عن الفواحش:[السريع]
لا يبعدن قومي الّذين همو
…
سمّ العداة وآفة الجزر
النّازلين بكلّ معترك
…
والطّيّبون معاقد الأزر
الشاهد في البيتين الأولين قوله: «الظاعنين» وفي الآخرين قولها: «النّازلين» . هذا وقد قرئ: («والمقيمون») عطفا على: {الرّاسِخُونَ} أو على الضمير في: {يُؤْمِنُونَ} أو على أنه مبتدأ خبره ما يأتي. {الصَّلاةَ:} مفعول به ل: (المقيمين). {وَالْمُؤْتُونَ:} يجوز في ما ذكرته في
سابقه في حالة رفعه، وتكون جملة:«أمدح المقيمين» معترضة لا محلّ لها. {وَالْمُؤْمِنُونَ:}
معطوف على: ({الْمُؤْتُونَ}). {بِاللهِ:} متعلقان ب: ({الْمُؤْمِنُونَ}). {وَالْيَوْمِ} معطوف على ما قبله.
{الْآخِرِ} صفة: ({الْيَوْمِ}).
{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب. لا محلّ له. {سَنُؤْتِيهِمْ:} السين: حرف تنفيس، واستقبال. (نؤتيهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره: نحن، والهاء مفعول به أوّل. {أَجْراً:}
مفعول به ثان. {عَظِيماً:} صفة له، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو {الرّاسِخُونَ} على وجه مرّ ذكره، أو في محل رفع خبر:(المقيمون) على رواية رفعه، وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية السّابقة.
الشرح: {إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ:} أصل الوحي: الإشارة السّريعة، وهو: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل: موسى، وعيسى، ومحمد، صلّى الله عليهم أجمعين. والوحي أيضا: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك. وتسخير الطير لما خلق له إلهام، والوحي إلى النّحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام. واختلف في الوحي إلى أمّ موسى، فقيل: كان في المنام. وقيل: كان إلهاما. وقيل: كان يكلّمها جبريل، عليه السلام. قال تعالى في سورة (طه) حكاية عمّا أجاب به موسى فرعون:{قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى} والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر كيف يأتي الوحي للرّسول صلى الله عليه وسلم في الآية رقم [44] من سورة (آل عمران).
{كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ:} المراد: هود، وصالح، فإنّهما كانا بين نوح، وإبراهيم.
{وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [33] من سورة (آل عمران) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} قدّم إسماعيل على إسحاق في الذّكر لسببين: أولهما: أنّه أسبق منه في الولادة بأربع عشرة سنة، وثانيهما: أنّه جدّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فاستحقّ التقديم لذلك.
{وَيَعْقُوبَ:} هو ابن إسحاق. {وَالْأَسْباطِ:} أولاد يعقوب الاثنا عشر، فتفرّع عنهم قبائل بني إسرائيل، فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب من بني إسماعيل، والسّبط: ولد الولد، وهو الحافد، والحفيد، ومنه قيل للحسن، والحسين: سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ:} كلّهم من ذرية إبراهيم، على نبيّنا، وحبيبنا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً:} هو اسم للكتاب الذي أنزل على داود، عليه السلام، وهو مائة وخمسون سورة، ليس فيها حكم تشريع، ولا حلال، ولا حرام، بل فيها تسبيح، وتقديس، وتحميد، وثناء على الله، عز وجل، ومواعظ وكان داود عليه السلام يخرج إلى البريّة، فيقوم، ويقرأ الزّبور، وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه، ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجنّ خلف الناس، والشّياطين خلف الجنّ، وتجيء الدوابّ التي في الجبال، فيقمن بين يديه، وترفرف الطّيور على رءوس الناس، وهم يستمعون لقراءة داود، ويتعجّبون منها، فلمّا قارف الذّنب؛ زال عنه ذلك. وقيل له:«كان ذلك أنس الطاعة، وهذا ذلّ المعصية» . انتهى.
خازن. وأضيف: أنّ داود-عليه السلام-كان حسن الصوت، وفي الآخرة يقرأ القرآن في الجنّة، فيجتمع عليه أهل الجنّة، فيستمعون لقراءته، فلا يكون شيء ألذّ عندهم من الاستماع إليه. والله أعلم، وأجل، وأكرم.
عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رأيتني البارحة، وأنا أستمع لقراءتك، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» . متفق عليه. قال الحميدي: زاد البرقاني: قلت: يا رسول الله! لو علمت: أنّك تسمع قراءتي؛ لحبّرتها لك تحبيرا. التّحبير:
تحسين الصوت بالقراءة.
هذا؛ وقال بعض العلماء: إنّما لم يذكر موسى في هذه الآية؛ لأنّ الله أنزل عليه التوراة جملة واحدة، وكأنّ المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية: أنّ الله لم ينزل على أحد منهم كتابا جملة واحدة، فلهذا لم يذكر موسى عليه السلام.
تنبيه: نزلت الآية الكريمة جوابا لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السّماء، واحتجاجا عليهم بأنّ شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء الذين ذكروا في هذه الآية، وقد خصّ بالذكر الرّسل المذكورين مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم. وقال المفسّرون: وإنّما بدأ الله عز وجل بذكر نوح عليه السلام لأنّه أول رسول بعث بشريعة بعد آدم، وأوّل نذير على الشّرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وكان أول من عذّبت أمته لردّهم دعوته، وأهلك الله أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام، وكان أطول الأنبياء عمرا، عاش ألفا وخمسين سنة. وقيل: ألفا ومائتين، ولم تنقص قوّته، ولم يشب، ولم تسقط له سنّ، وصبر على أذى قومه طول عمره، وبشريعته غيّرت بعض أحكام شريعة آدم، ولا سيّما تحريم زواج الأخوات.
الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا) اسمها، حذفت نونها للتخفيف، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل
رفع خبر (إنّ) والجملة الاسمية: {إِنّا..} . إلخ مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها. {كَما:}
الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): مصدرية، تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جرّ بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: أوحينا إليك إيحاء مثل إيحائنا، وهو قول أبي البقاء، وغيره في مثل هذا التّركيب. ومذهب سيبويه في مثله النصب على الحال من المصدر المفهوم من الفعل المتقدّم على طريق الاتساع، فيكون التقدير: أوحينا إليك على مثل هذه الحالة. هذا؛ وجوز اعتبار (ما) موصولة بمعنى «الذي» فتكون الكاف اسما بمعنى «مثل» مفعولا به، وهي مضاف، و (ما) في محل جرّ بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: كالذي أوحيناه. {إِلى نُوحٍ:} متعلّقان بما قبلهما.
{وَالنَّبِيِّينَ:} معطوف على نوح مجرور، وعلامة جره الياء
…
إلخ. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من: ({النَّبِيِّينَ}) والهاء في محل جر بالإضافة.
{وَأَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل. {إِلى إِبْراهِيمَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. والأسماء بعده معطوفة على إبراهيم مجرورة مثله. {وَآتَيْنا:} فعل، وفاعل. {داوُدَ:} مفعول به أوّل. {زَبُوراً:}
مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.
الشرح: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ:} القصص: مصدر: قصّ فلان الحديث، يقصّه، قصّا، وقصصا، وأصله تتبّع الأثر، يقال: فلان خرج يقصّ أثر فلان، أي: يتتبّعه؛ ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى في سورة (القصص):{وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: اتّبعي أثره، ومعنى:
{قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ:} سميناهم في القرآن، وعرّفناك أخبارهم من قبل نزول هذه السّورة، أو قبل اليوم. {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ:} لم نذكرهم في القرآن. {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً} أي: بلا واسطة. وتكليم الله موسى-عليه السلام-منتهى مراتب الوحي، خصّ به موسى من بين المرسلين، وقد فضّل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم، وكلّمه في ليلة الإسراء، والمعراج بلا واسطة.
هذا؛ والنبيّون: جمع نبيّ، يقرأ بالهمز، وبدونه، وهو مأخوذ من النّبأ، وهو الخبر؛ لأنّ النبي يخبر عن ربّه. وقيل: بل هو مأخوذ من النّبوة، وهو: الارتفاع؛ لأنّ رتبة النّبيّ ارتفعت عن رتب الخلق. هذا؛ والنبيّ غير الرسول، بدليل عطفه في قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [52]:
{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..} . إلخ.
وقيل: هو أعمّ منه؛ لأنّ كلّ رسول نبيّ، وليس كلّ نبيّ رسولا. أمّا تعريفهما؛ فالرّسول:
ذكر حرّ من بني آدم، سليم عن منفّر طبعا، أوحي إليه بشرع، يعمل به، ويؤمر بتبليغه، فإن لم يؤمر بالتّبليغ؛ فهو نبيّ، وليس رسولا، فنبينا صلى الله عليه وسلم صار نبيّا بنزول سورة (اقرأ) عليه، وبعد ستّة أشهر من نزولها صار رسولا بنزول صدر سورة (المدثر) عليه.
هذا؛ ويروى: أنّ أبا ذرّ-رضي الله عنه-سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدد الأنبياء، فقال:«مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قال: كم عدد الرّسل؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر، أوّلهم آدم، وآخرهم نبيّكم» . أخرجه الإمام أحمد، وفي بعض ألفاظه اختلاف بسيط. هذا؛ وأربعة منهم من العرب:
هم صالح، وهود، وشعيب، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام مستعرب لسكناه مكّة مع قبيلة جرهم، وتزوّجه بامرأتين منهم، والمذكور من الرّسل في القرآن بأسمائهم خمسة وعشرون، ومعرفتهم بأسمائهم واجبة على كلّ مسلم، ومسلمة من المكلّفين، وأعني بمعرفتهم: أنّه لو عرض اسم رسول منهم على مسلم؛ فيجب أن يعرف أهو من المرسلين، أم لا؟ هذا؛ وقال تعالى في سورة (غافر) رقم [78] كما في هذه الآية التي بين أيدينا:
هذا؛ وقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنّه قال: كلّ الرسل من بني إسرائيل إلا عشرة: نوحا، وشعيبا، وهودا، وصالحا، ولوطا، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، ومحمدا، صلوات الله عليهم جميعا. وذكروا من أنبياء العرب: حنظلة بن صفوان بعث إلى أصحاب الرّسّ، وخالد بن سنان العبسي. انظر أصحاب الرّس، في الآية رقم [38] من سورة (الفرقان) فإنّه جيد، والحمد لله!.
هذا؛ وقد ذكر الله في آيات (الأنعام) رقم [83] وما بعدها ثمانية عشر رسولا بأسمائهم من غير ترتيب، لا بحسب الزّمان، ولا بحسب الفضل؛ لأنّ الواو العاطفة لا تقتضي التّرتيب، وبقي منهم سبعة لم يذكروا في سورة (الأنعام) وقد ذكروا في غيرها، وهم: إدريس، وشعيب، وصالح، وهود، وذو الكفل، وهو ابن أيوب الذي ذكر في سورة الأنبياء، وآدم، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وسلّم تسليما كثيرا، فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولا، الّذين يجب الإيمان بهم، ومعرفتهم تفصيلا، وقد نظموا في قول بعضهم:[البسيط]
حتم على كلّ ذي التّكليف معرفة
…
بأنبياء على التّفصيل قد علموا
في ({تِلْكَ حُجَّتُنا
…
) منهم ثمانية}
من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا
…
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
ويعني بقوله: في ({تِلْكَ حُجَّتُنا}) آيات الأنعام [83] وما بعدها. وينبغي أن تعلم: أنّ هؤلاء الرسل ليسوا بدرجة واحدة من الفضل، بل أرفعهم درجة، وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم، وهم
خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسيد الجميع، وأفضل الخلق قاطبة محمّد، صلى الله عليهم جميعا، وسلم تسليما. والأنبياء-صلوات الله، وسلامه عليهم أجمعين-تجوز عليهم الأعراض البشرية، فهم يأكلون، ويشربون، ويصحّون، ويمرضون، وينكحون النّساء، ويمشون في الأسواق، وتعتريهم الأعراض البشرية، من ضعف، وشيخوخة، إلا أنّهم يمتازون بخصائص كريمة عالية، ويتّصفون بصفات عظيمة جليلة، هي بالنسبة لهم من ألزم اللوازم، وهي ما يلي: الصّدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة، والعصمة من المعاصي قبل النبوة، وبعدها، والسّلامة من العيوب المنفّرة. ويستحيل عليهم ضدّها.
{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً} أي: تكليما حقيقيّا، وهو يدل على بطلان من يقول: خلق لنفسه كلاما في شجرة، فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما. هذا؛ وقال وهب بن منبه: إنّ موسى-عليه السلام-قال: يا ربّ! بم اتّخذتني كليما؟ -طلب العمل الّذي أسعده الله به ليكثر منه-فقال الله تعالى له: أتذكر؛ إذ ندّ من غنمك جدي، فاتّبعته أكثر النّهار، وأتعبك، ثمّ أخذته، وقبّلته، وضممته إلى صدرك، وقلت له: أتعبتني، وأتعبت نفسك.
ولم تغضب عليه. من أجل ذلك اتّخذتك كليما.
الإعراب: {وَرُسُلاً:} الواو: حرف عطف. ({رُسُلاً}): مفعول به لفعل محذوف، التقدير:
أرسلنا، أو: بعثنا، وقرئ:(«ورسل») فيكون مبتدأ خبره محذوف، التقدير: ومنهم رسل. {قَدْ:}
حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {قَصَصْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة ({رُسُلاً}). {عَلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ قَبْلُ:}
متعلقان بالفعل قبلهما، وبني:{قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى، وجملة:
B» أَرْسَلْنا رُسُلاً..}. إلخ» معطوفة على جملة: {وَأَوْحَيْنا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.
({رُسُلاً}): مفعول به لفعل محذوف أيضا، والجملة الفعلية المقدرة معطوفة على ما قبلها. {لَمْ:}
حرف نفي، وقلب، وجزم. {نَقْصُصْهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب {لَمْ،} والفاعل مستتر تقديره:
نحن، والجملة الفعلية صفة:({رُسُلاً}) أيضا. {عَلَيْكَ:} متعلقان بما قبلهما. {وَكَلَّمَ:} فعل ماض. {اللهُ:} فاعله. {مُوسى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف.
{تَكْلِيماً:} مفعول مطلق مؤكد لفعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. وقيل: هي في محل نصب حال على إضمار «قد» ولا أراه قويّا.
الشرح: {رُسُلاً:} جمع رسول، وهو بضم الرّاء، والسين، ويجوز تسكين السين، قال عيسى بن عمر-رحمه الله تعالى-: كلّ اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، وأوسطه ساكن،
فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقّله، وذلك مثل: عسر، ويسر، ورحم
…
إلخ. {مُبَشِّرِينَ} المطيعين بالجنّة، والرّضا، والرضوان. ({مُنْذِرِينَ}) أي: مخوّفين العاصين من النار، وغضب الواحد القهار. {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي: فيقولون: لولا أرسلت إلينا رسولا، فيوقظنا من غفلتنا، وينبهنا إلى ما يجب الانتباه له، ويعلّمنا ما يلزمنا في ديننا، ودنيانا ممّا سبيل معرفته السّمع، كالعبادات، والشرائع. أعني: في حقّ مقاديرها، وأوقاتها، وكيفياتها، دون أصولها، فإنّها ممّا يعرف بالعقل. انتهى. نسفي بتصرف. وفيه دليل على أنّ الله لا يعذّب الخلق قبل بعثة الرّسل، كما قال تعالى في سورة (الإسراء):{وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وفيه دليل أيضا لمذهب أهل السنة على أنّ معرفة الله تعالى لا تثبت إلا بالسمع؛ لأنّ صريح الآية يدلّ على أنّ قبل بعثة الرسل تكون لهم الحجّة في ترك الطّاعات، والعبادات.
هذا؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (طه): {وَلَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى} . ومثل ذلك الآية رقم [47] من سورة (القصص).
وعن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه-قال: قال سعد بن عبادة-رضي الله عنه: لو رأيت رجلا مع امرأتي؛ لضربته بالسّيف غير مصفح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أتعجبون من غيرة سعد، فو الله لأنا أغير منه، والله أغير منّي، ومن أجل غيرة الله حرّم الله الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، ولا أحدا أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث المنذرين، والمبشّرين، ولا أحدا أحبّ إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنّة» . متفق عليه. ويروى باختلاف الألفاظ في الصّحيحين عن ابن مسعود-رضي الله عنه. {وَكانَ اللهُ عَزِيزاً:} قويّا غالبا في انتقامه ممّن خالف أمره، وعصى رسله. {حَكِيماً:} فيما قضى، وقدّر، وحكم.
الإعراب: {رُسُلاً:} منصوب على المدح بفعل محذوف، أو بتقدير: أرسلنا رسلا، أو على الحال من الضمير المنصوب أو على البدلية من:({رُسُلاً}) حالا في الآية السابقة. {مُبَشِّرِينَ:}
صفة: {رُسُلاً} أو حال من الضمير المنصوب في الآية السابقة، فيكون:{رُسُلاً} حالا موطئة على وجه فيه. ({مُنْذِرِينَ}): معطوف على سابقه منصوب مثله، وعلامة النصب فيها الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
{لِئَلاّ:} اللام: حرف تعليل، وجر. (أن): حرف مصدري، ونصب. (لا): نافية.
{يَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب: (أن). {لِلنّاسِ:} متعلّقان بمحذوف خبر: {يَكُونَ} تقدّم على اسمه. {عَلَى اللهِ:} متعلّقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {حُجَّةٌ} كان صفة له، وهو غير مسلّم، وأرى جواز تعليقهما ب:{حُجَّةٌ} لأنّه مصدر، خلافا لمن منع ذلك؛ لأنّ الظروف
يتوسّع فيها ما لا يتوسع في غيرها. {حُجَّةٌ:} اسم: {يَكُونَ} مؤخر. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق ب: {حُجَّةٌ} أو بمحذوف صفة له، و {بَعْدَ} مضاف، و {الرُّسُلِ:} مضاف إليه، وهناك محذوف؛ إذ التقدير: بعد إرسال الرّسل، فلما حذف المضاف حلّ المضاف إليه محلّه، و (أن) والفعل:({يَكُونَ}) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان ب:{مُبَشِّرِينَ} أو ب: ({مُنْذِرِينَ}) على اختلاف بين البصريين والكوفيين، وهو على التنازع. وقيل: متعلقان بفعل محذوف، التقدير: أرسلناهم لعدم كون حجّة للناس باقية على الله، وتكون الجملة الفعلية في محل نصب حال من:{رُسُلاً} بعد وصفه بما تقدّم، أو هي صفة ثانية له. {وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً:} إعراب هذه الجملة واضح، وهي مستأنفة لا محلّ لها. تأمّل وتدبّر، ربّك أعلم وأجلّ، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمّد، وعلى آله، وصحبه، وسلم.
الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود، فقال لهم:«إنّي والله أعلم أنّكم لتعلمنّ أنّي رسول الله» فقالوا: لا نعلم ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
وفي رواية ثانية عن ابن عباس: أنّ رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد! إنا سألنا اليهود عنك، وعن صفتك في كتابهم، فزعموا: أنّهم لا يعرفونك، فأنزل الله الآية الكريمة:
{لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ..} . إلخ؛ المعنى: إن جحدك اليهود يا محمد، وكفروا بما أوحينا إليك، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء؛ فقد كذبوا بما ادّعوا، فإنّ الله يشهد لك بالنبوّة، ويشهد بما أنزل إليك من كتابه، ووحيه.
{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي: الخاص به؛ الّذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه على نظم يعجز عنه كلّ بليغ، وأنزله بعلم تامّ، وحكمة بالغة. أو: أنزله بعلمه بحال من أنزل عليه، واستعداده لاقتباس نوره، والأخذ بهديه.
{وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} بأنّ الله أنزله عليك، ويشهدون بتصديقك، وبنبوّتك، ورسالتك، وإنّما عرفت شهادة الملائكة؛ لأنّ الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة بذلك الشّيء، قال تعالى في سورة (آل عمران):{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ} . وقد ثبت: أنّ الله يشهد بأنّه أنزله بعلمه، فلذلك الملائكة يشهدون بذلك. {وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً} أي:
وحسبك يا محمد: أنّ الله يشهد لك، وإن لم يشهد معه أحد غيره. ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة أهل الكتاب له، والله أعلم بمراده.
الإعراب: {لكِنِ:} حرف استدراك مهمل لا محلّ له. {اللهُ:} مبتدأ. {يَشْهَدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة ب {لكِنِ} على الكلام المقدّر قبلها، والذي رأيته في الشّرح. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. و (ما) تحتمل الموصولة والموصوفة، فهي مبنيّة على السكون في محل جر بالباء. {أَنْزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: يشهد بالذي، أو: بشيء أنزله إليك، وجملة:{أَنْزَلَهُ} مفسرة للجملة قبلها، محلّها مثلها، وإن اعتبرتها بدلا منها؛ فلا بأس به. {بِعِلْمِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، أي:
معلوما بعلمه، أو من الفاعل المستتر؛ أي: عالما به، والهاء في محلّ جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية:{وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} معطوفة على الجملة الاسمية السّابقة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)}
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: جحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. {وَصَدُّوا} منعوا الناس عن الدخول في الإسلام بكتمهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم الموجود في التوراة، وانظر:{يَصُدُّونَ} في الآية رقم [61]. {عَنْ سَبِيلِ اللهِ} عن دين الله الذي ارتضاه للناس، وانظر الآية رقم [74]. {قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً} انظر الآيتين رقم [60 و 88].
الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم: {إِنَّ} . {كَفَرُوا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَصَدُّوا:} ماض، وفاعله، ومفعوله محذوف، والجملة معطوفة على ما قبلها. {عَنْ سَبِيلِ:} متعلقان به، و {سَبِيلِ} مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {قَدْ:} حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {ضَلُّوا:}
ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {ضَلالاً:} مفعول مطلق. {بَعِيداً:} صفة له، والجملة الفعلية:{قَدْ ضَلُّوا..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا..} .
إلخ مبتدأة، أو مستأنفة، لا محلّ لها على الاعتبارين.
الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا:} مثل سابقه. {وَظَلَمُوا} أي: ظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوّته، وظلموا النّاس بصدهم عما فيه صلاحهم في الدنيا، وخلاصهم من عذاب الله في الآخرة، وظلموا أنفسهم بإدخالها نار الجحيم، وإذاقتها العذاب الأليم، والمراد: اليهود بلا ريب.
{لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ..} . إلخ: نفي المغفرة لهم إذا ماتوا على كفرهم، وعنادهم، وأمّا إذا آمنوا؛ فالإيمان يجبّ ما قبله. هذا؛ و «الهداية»: دلالة بلطف، وانظر الآية رقم [68].
الإعراب: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا:} انظر الآية السابقة. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُنِ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} . {اللهُ:} اسمه. {لِيَغْفِرَ:} اللام: لام الجحود. (يغفر): فعل مضارع منصوب ب «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و «أن» المضمرة والفعل:(يغفر) في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر:{يَكُنِ،} التقدير:
لم يكن الله مريدا لغفران ذنوبهم، وجملة:{لَمْ يَكُنِ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية بمنزلة التوكيد لما قبلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): صلة لتأكيد النفي. {لِيَهْدِيَهُمْ:} إعرابه مثل إعراب {لِيَغْفِرَ،} والجار والمجرور الناتجان معطوفان على ما نتج من: {لِيَغْفِرَ،} وقد نصب الفعل هنا مفعولين.
{إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (169)}
الشرح: {إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} أي: الطريق المؤدي إلى جهنّم؛ لقضائه المبرم، ووعده المحتوم على أنّ من مات على كفره؛ فهو خالد في النار، أي: لا يخرج منها أبدا، وانظر «الأبد» في الآية [122]. {ذلِكَ} أي: جعلهم خالدين في جهنّم. {عَلَى اللهِ يَسِيراً:} سهلا؛ لأنّه تعالى لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء.
الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {طَرِيقَ:} مستثنى ب ({إِلاّ}) وهو مضاف، و {جَهَنَّمَ:}
مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصّرف للعلمية، والعجمة. {خالِدِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء
…
إلخ، وفاعله مستتر فيه. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان ب {خالِدِينَ} . {أَبَداً:} ظرف زمان متعلق به أيضا.
{وَكانَ:} الواو: حرف استئناف. ({كانَ}): فعل ماض ناقص. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم ({كانَ})، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محلّ له. {عَلَى اللهِ:} متعلقان ب {يَسِيراً} الذي هو خبر ({كانَ})، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محلّ لها.
الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمُ..} . إلخ: لمّا قرّر الله أمر نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وبيّن الطريق الموصل إلى العلم، وقرّر وعيد من أنكرها، وجحدها؛ خاطب النّاس عامّة بالدّعوة إليها.
والوعد بالإجابة إليها، والوعيد على جحدها وإنكارها. و {بِالْحَقِّ:} دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده. وقيل: جاءكم بالقرآن الذي هو الحق. {فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} أي: فآمنوا، وصدقوا بما جاءكم به محمّد صلى الله عليه وسلم يكن الإيمان بذلك خيرا لكم من الكفر الذي أنتم عليه. {وَإِنْ تَكْفُرُوا} أي:
تجحدوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وتكذبوا بما جاءكم به من الحقّ من عند ربكم.
{فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:} ملكا، وخلقا، وعبيدا، ومن كان كذلك لم يكن محتاجا إلى شيء، وهو القادر على ما يشاء، ويريد، وانظر الآيتين رقم [131 و 132] تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. {وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} تقدّم مثلها كثيرا.
هذا؛ و (خير): أفضل، فهو أفعل تفضيل، أصله: أخير. نقلت حركة الياء إلى الخاء قبلها؛ لأنّ الحرف الصّحيح أولى بالحركة من حرف العلة، ثمّ حذفت الهمزة استغناء عنها بحركة الخاء، ومثله قل في: حبّ، وشرّ اسمي تفضيل، إذ أصلهما: أحبب، وأشرر، فنقلت حركة الباء الأولى والراء الأولى إلى ما قبلهما، ثم أدغم الحرفان المتماثلان في بعضهما، ثم حذفت الهمزة من أولهما استغناء بحركة الخاء، والشين، وقد يستعمل: خير، وشر على الأصل، كقراءة بعضهم قوله تعالى في سورة (القمر):{(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذّابُ الْأَشِرُ)} ونحو قول رؤبة بن العجاج: [الرجز]
يا قاسم الخيرات وابن الأخير
…
ما ساسنا مثلك من مؤمّر
وخير، وشر، وحب يستعملن بصيغة واحدة للمذكر، وللمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر الآية رقم [133] ففيها الكفاية، والجملة الندائية ابتدائية، لا محلّ لها. {قَدْ:} حرف تحقيق، يقرّب الماضي من الحال. {جاءَكُمُ:} ماض، ومفعوله.
{الرَّسُولُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{النّاسُ،} والرابط: الضمير فقط، والعامل في الحال أداة النداء؛ لأنّها بمعنى: أدعو، ووقوع الحال من المنادى مستعمل عربية، كما في قول الشاعر:[البسيط]
يا أيّها الرّبع مبكيّا بساحته
{بِالْحَقِّ:} متعلقان بمحذوف حال من: {الرَّسُولُ} . أو هما متعلّقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلّقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:(الحق) فتكون حالا متداخلة، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.
{فَآمِنُوا:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنّها تفصح عن شرط مقدّر. (آمنوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط
غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا حقيقة؛ فآمنوا، والمتعلّق محذوف، انظر الشرح.
{خَيْراً:} مفعول به لفعل محذوف عند سيبويه، التقدير: ائتوا خيرا، وصفة لمفعول مطلق محذوف عند الفرّاء، التقدير: فآمنوا إيمانا خيرا، وخبر ل «كان» محذوفة مع اسمها، التقدير:
فآمنوا يكن الإيمان خيرا. وهذا ضعيف؛ لأنّ «كان» لا تحذف مع اسمها إلا بعد: «إن» و «لو» الشرطيتين. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب {خَيْراً} .
{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. ({إِنْ}): حرف شرط جازم. {تَكْفُرُوا:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون
…
إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلّق محذوف، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائيّة. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فهو غني عنكم. {فَإِنَّ:} الفاء: حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبّه بالفعل. {لِلّهِ:} متعلّقان بمحذوف خبر: (إنّ) تقدّم على اسمها. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب اسم: (إنّ) مؤخر. {فِي السَّماواتِ:} متعلّقان بمحذوف صلة الموصول. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:(إنّ {لِلّهِ..}.) إلخ مفيدة للتعليل، لا محلّ لها، وجملة:{وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً:} مستأنفة لا محلّ لها، وإعرابها واضح.
الشرح: {يا أَهْلَ الْكِتابِ:} نزلت هذه الآية في النصارى، وذلك: أنّ الله تعالى لمّا أجاب عن شبه اليهود فيما تقدّم؛ أتبع ذلك بإبطال ما تعتقده النّصارى في عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وأصناف النّصارى أربعة: اليعقوبية، والملكانية، والنّسطورية والمرقوسية. أمّا اليعقوبية، والملكانية، فقالوا في عيسى: إنّه الله. وقال النّسطورية: إنّه ابن الله، وقالت المرقوسية: ثالث ثلاثة. وقيل: إنّهم يقولون: إنّ عيسى جوهر واحد، وثلاثة أقانيم:
أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وإنّهم يريدون بأقنوم الأب: الذات، وبأقنوم الابن: عيسى عليه السلام، وبأقنوم روح القدس: الحياة الحالّة فيه، فتقديره عندهم: الإله ثلاثة. وقيل: يقولون في عيسى: ناسوتية، وألوهية، فناسوتيته من قبل الأم، وألوهيته من قبل الأب. تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا! يقال: إنّ الذي أظهر للنّصارى هذا رجل من اليهود، يقال له: بولص، تنصر، ودسّ هذا في دين النّصارى؛ ليضلّهم بذلك، انظر الآية رقم [30] من سورة التّوبة؛ تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك.
وقيل: يحتمل أن يكون المراد بأهل الكتاب: اليهود، والنصارى جميعا، فإنّهم غلوا في أمر عيسى، على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. فأمّا اليهود؛ فإنّهم بالغوا في التقصير في حرمته؛ حتّى حطّوه عن منزلته؛ حيث جعلوه مولودا من الزنى. وغلت النّصارى في رفعه عن منزلته، ومكانته؛ حيث جعلوه ممّا وصفته، فقال الله تعالى ردّا عليهم جميعا:{يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} .
وأصل «الغلو» مجاوزة الحد، وهو في الدّين حرام. والمعنى: لا تفرّطوا في أمر عيسى، ولا تحطّوه عن منزلته، ولا ترفعوه فوق قدره، ومنزلته، فالإفراط، والتقصير كلّه سيئة، وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله-رحمه الله تعالى-: الحسنة بين سيئتين، وقال الشاعر:[الطويل]
وأوف ولا تستوف حقّك كلّه
…
وصافح فلم يستوف قطّ كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد
…
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال آخر: [الطويل]
عليك بأوساط الأمور فإنّها
…
نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النّصارى عيسى، وقولوا: عبد الله، ورسوله» .
أخرجه البخاريّ عن عمر-رضي الله عنه. وانظر الآية رقم [77] من- سورة (المائدة) فإنّه جيد، والحمد لله!.
{وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} أي: لا تقولوا: إن لله شريكا، أو ابنا. ولمّا منعهم الله من الغلوّ في دينهم؛ أرشدهم إلى طريق الحق في أمر عيسى، عليه السلام، فقال جلّ ذكره:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ} المعنى: إنّ المسيح هو عيسى ابن مريم، ليس له نسب غير هذا، وهو رسول الله، فمن زعم غير هذا؛ فقد كفر، وأشرك. {وَكَلِمَتُهُ} هي قوله تعالى:
{كُنْ،} فكان بشرا من غير أب، ولا واسطة. {أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} أي: أوصلها إلى مريم.
{وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: كسائر الأرواح التي خلقها الله تعالى، وإنّما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف، والتكريم، كما يقال: بيت الله، وناقة الله، وهذه نعمة من الله. وقيل: الرّوح هو الذي نفخ فيه جبريل عليه السلام في جيب درع مريم، فحملت منه بإذن الله، وكان ذلك النفخ بمنزلة اللّقاح بين الذّكر، والأنثى. وانظر ما ذكرته عن الواقدي في الآية رقم [45] من سورة (آل عمران) فإنّه جيد، والحمد لله! وفيها شرح {الْمَسِيحُ} أيضا.
{فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} أي: فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله، وأنّه لا ولد له، وصدقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله، وصدّقوا بأنّ عيسى من رسل الله، فآمنوا به، ولا تجعلوه إلها. {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي: ولا تقولوا: إنّ الآلهة ثلاثة. وذلك: أنّ النصارى يقولون: أب،
وابن، وروح القدس. وهو ما قدّمته آنفا، وهو محض الكفر. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [73] من سورة (المائدة).
{اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} أي: يكن الانتهاء عن القول بالتثليث خيرا لكم. {إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ} لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. {سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي: تنزيها عن أن يكون له ولد؛ لأنّ الولد جزء من الأب، وتنزه الله عن التجزئة، وعن صفات الحدوث، ولأنّ الولد يشبه الأب، ولا شبيه لله، عز وجل. {ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} وما فيهما خلقا، وعبيدا، وملكا، وعيسى، وأمّه من جملة ما فيهما، فهما ملكه، وعبيده، فإذا كانا عبدين له، فكيف يعقل مع هذا أن يكون له زوجة، وولد، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. {وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً:}
انظر الآية رقم [81]، وانظر شرح (سبحان) في الآية رقم [191] من سورة (آل عمران).
الإعراب: ({يا}): أداة نداء تنوب مناب: أدعو. ({أَهْلَ}): منادى، وهو مضاف، و {الْكِتابِ:}
مضاف إليه. {لا:} ناهية. {تَغْلُوا:} فعل مضارع مجزوم ب ({لا}) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {فِي دِينِكُمْ:} متعلّقان بالفعل قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَلا تَقُولُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها، وإعرابها مثلها.
{عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْحَقَّ:} مفعول به.
{إِنَّمَا:} كافة، ومكفوفة. {الْمَسِيحُ:} مبتدأ. {عِيسَى:} بدل من {الْمَسِيحُ} أو: عطف بيان عليه {اِبْنُ:} صفة عيسى، وهو مضاف، و {مَرْيَمَ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنّه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، هذا وأجيز اعتبار:{عِيسَى} مبتدأ، و ({اِبْنُ}) خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{الْمَسِيحُ} . {رَسُولُ:} خبر أوّل، أو: خبر ثان، وهو مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَكَلِمَتُهُ:} معطوف على: {رَسُولُ اللهِ} والهاء في محل جرّ بالإضافة. {أَلْقاها:} فعل ماض مبني على فتح مقدّر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى:{اللهِ،} والهاء: مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:(كلمته) والرابط الضمير فقط، و «قد» قبلها مقدّرة. {إِلى مَرْيَمَ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرُوحٌ} معطوف على {رَسُولُ اللهِ} . وقيل: معطوف على فاعل: {أَلْقاها} المستتر. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان ب (روح) أو بمحذوف صفة له، والجملة الاسمية:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ..} . إلخ مفيدة للتعليل.
{فَآمِنُوا} انظر إعراب مثله في الآية السابقة. {بِاللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَرُسُلِهِ:}
معطوف على ما قبله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة: (آمنوا
…
) إلخ لا محلّ لها؛ لأنّها جواب لشرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا، وواقعا، فآمنوا بالله ورسله.
{وَلا تَقُولُوا:} إعرابه مثل إعراب سابقه. {ثَلاثَةٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الآلهة ثلاثة.
وقال أبو علي الفارسي: التقدير: هو ثالث ثلاثة فحذف المبتدأ، والمضاف، وعلى الاعتبارين فالجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلا تَقُولُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محلّ لها مثلها. {اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ:} إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} في الآية السابقة، والجملة الفعلية هنا مبتدأة، أو مستأنفة لا محلّ لها.
{إِنَّمَا:} كافة ومكفوفة. {اللهِ:} مبتدأ. {إِلهٌ:} خبره. {واحِدٌ:} صفته، والجملة الاسمية مفيدة للتعليل، لا محلّ لها. {سُبْحانَهُ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، أو لمفعوله، والجملة الناتجة منه ومن فعله المحذوف مستأنفة لا محلّ لها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَكُونَ:}
فعل مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ} . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر {يَكُونَ} مقدم. {وَلَدٌ:} اسمه مؤخر، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: من كونه له ولد، والجار والمجرور متعلقان ب {سُبْحانَهُ} .
{لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية تعليلية، لا محلّ لها. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله وإعرابه مثله. {وَكَفى:}
الواو: حرف استئناف. ({كَفى}): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذّر. {بِاللهِ:}
(الباء): حرف جر صلة. (الله): فاعله مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {وَكِيلاً:} تمييز، والجملة الفعلية مستأنفة؛ لا محلّ لها.
الشرح: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ} أي: لن يتكبّر، ويترفّع عيسى-على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أن يكون عبدا لله، وكيف لا يستنكف، وأول كلمة نطق بها، وهو في المهد:{إِنِّي عَبْدُ اللهِ..} . إلخ سورة (مريم). {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} أي: فإنّهم لا يأنفون، ولا يترفّعون أن يكونوا عبيدا لله، مع كونهم لا أب لهم، ولا أمّ؛ أي:
فإنّه أجدر ألا يستنكف أن يكون عبدا لله. {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ..} . إلخ: فيه وعيد، وتهديد للمستكبرين عن عبادة الله، مع العلم: أنّ الحشر، والحساب يكونان للمطيعين، والمتكبّرين على السّواء، فيجازي كلاّ بما يستحقّ من الثّواب، أو العقاب، وهو ما تفيده الآية التالية. ولا تنس: أنّ الاستكبار دون الاستنكاف.
تنبيه: روي: أنّ وفد نجران الّذين مرّ ذكرهم في الآية رقم [59] من سورة (آل عمران) وما بعدها قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إنّك تعيب صاحبنا، فتقول: إنّه عبد الله، فقال صلى الله عليه وسلم:«إنّه ليس بعار على عيسى أن يكون عبدا لله» . فنزلت الآية الكريمة.
تنبيه: لقد استدلّ بالآية الكريمة من يقول بتفضيل الملائكة على البشر، وجه الدّليل: أنّ الله ارتقى من ذكر عيسى عليه السلام إلى ذكر الملائكة الكرام، ولا يرتقى إلا من الأدنى إلى الأعلى. والجواب عنه: أنّ الله تعالى لم يقل ذلك رفعا لمقامهم على مقام البشر، بل قاله ردّا على من يقول: إنّ الملائكة بنات الله، أو: أنّهم آلهة، كما ردّ على النّصارى قولهم: إنّ المسيح ابن الله. وصفوة القول عند أهل السنة، والجماعة: أنّ خواص البشر، وهم الأنبياء-عليهم الصّلاة والسّلام-أفضل من خواصّ الملائكة، وهم العشرة المقرّبون: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، ورقيب، وعتيد، ومنكر، ونكير، ورضوان، ومالك. وخواصّ الملائكة أفضل من عوامّ البشر، أي: المؤمنين منهم. وعوامّ المؤمنين من البشر أفضل من عوامّ الملائكة.
والدليل على تفضيل البشر على الملائكة ابتداء؛ أنّهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى، مع أنّهم جبلوا عليها، فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة في العصمة، وتفضّلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية، والدّواعي الجسدية، فكانت طاعتهم أشقّ؛ لكونها مع الصوارف بخلاف طاعة الملائكة؛ لأنّهم جبلوا عليها، فكانت أزيد ثوابا بالحديث. انتهى خازن، ونسفي بتصرف.
الإعراب: {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {يَسْتَنْكِفَ:} فعل مضارع منصوب ب {لَنْ} . {الْمَسِيحُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب، واستقبال. {يَكُونَ:} فعل مضارع ناقص منصوب ب {أَنْ} واسمه ضمير مستتر يعود إلى: {الْمَسِيحُ} . {عَبْداً:} خبره، والمصدر المؤول منه، ومن ناصبه في محل جرّ بحرف جرّ محذوف، التقدير: من كونه عبدا، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {عَبْداً} . {وَلا:} الواو: حرف عطف. ({لا}): زائدة لتأكيد النفي.
{الْمَلائِكَةُ:} معطوف على: {الْمَسِيحُ} . {الْمُقَرَّبُونَ:} صفة: {الْمَلائِكَةُ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنّه جمع مذكر سالم، والنّون عوض عن التنوين في الاسم المفرد.
هذا؛ ولم يسوغ الجمل تبعا للجلال العطف على: {الْمَسِيحُ} وقال الجمل: إذ لا يصح الإخبار عن الملائكة ب {عَبْداً؛} لأنّه مفرد، واعتبراه مبتدأ، وخبره محذوفا، التقدير: ولا الملائكة المقرّبون عند الله يستنكفون أن يكونوا عبيدا لله، فتكون الجملة الفعلية هذه في محل رفع خبر:{الْمَلائِكَةُ} وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية، لا محلّ لها.
{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. ({مَنْ}): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَسْتَنْكِفَ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {عَنْ عِبادَتِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَيَسْتَكْبِرْ:} معطوف على فعل الشرط مجزوم مثله، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}). {فَسَيَحْشُرُهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط، والسين: حرف استقبال وتسويف، وهي هنا للتّحقيق. (يحشرهم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى ({مَنْ}) والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. وخبر المبتدأ الذي هو ({مَنْ}) مختلف فيه.
فقيل: جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: الجملتان وهو المرجّح عند المعاصرين.
هذا؛ وإن اعتبرت الجواب محذوفا، التقدير: فهو يجازيه. فتكون الجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {جَمِيعاً:} حال من الضّمير المنصوب.
الشرح: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} أي: الأعمال الصّالحات على اختلاف مراتبها، ودرجاتها، من فعل مأمورات، وترك منهيّات، وعطف:({عَمِلُوا}) على: {آمَنُوا} يشير إلى أنّ الإيمان وحده لا يكفي للنّجاة من النار. وأنت إذا تأمّلت في آيات القرآن؛ قلّما تجد ذكر الإيمان، إلا ويعطف عليه الأعمال الصالحات، ويؤيّد ذلك ما ورد من قول الرّسول الأعظم صلى الله عليه وسلم:«الإيمان والعمل قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه» .
{فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ:} يعطيهم ثواب أعمالهم الصالحة كاملا غير منقوص. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: يمنحهم من فضله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقيل: المراد بالزيادة: الشّفاعة فيمن وجبت له النار ممّن صنع إليهم المعروف في دنياهم.
والأولى: أنّ الزيادة المراد بها: النظر إلى وجهه الكريم، قال تعالى في سورة (يونس) على نبينا وحبيبنا وعليه ألف صلاة وألف سلام:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} . وقال عز وجل في سورة (ق): {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ} .
{وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا..} . إلخ: هذا مقابل ل: {الَّذِينَ آمَنُوا؛} لأنّه قد جرت سنة الله في كتابه أن لا يذكر العمل الصّالح إلا ويذكر العمل السيئ، ولا يذكر الإيمان إلا ويذكر الكفر، والضّلال، ولا يذكر الجنة إلا ويذكر النار؛ ليكون العبد راغبا في الخير، خائفا من الشر. {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا:} يلي أمورهم، ويدبّر مصالحهم. {وَلا نَصِيراً:} ينصرهم من الله تعالى، وينجّيهم من عذابه.
تنبيه: التفضيل في هذه الآية غير مطابق للمفضّل في الآية السابقة؛ لأنّ التفضيل اشتمل على الفريقين كما رأيت، والمفضّل على فريق واحد. وجوابه: أنّه حذف أحد الفريقين في المفضّل لدلالة التفضيل عليه، ولأنّ ذكر أحدهما يدلّ على ذكر الثاني، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله تعالى بعد هذا:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} . ويجاب أيضا بأن الإحسان إلى غيرهم بما يفهم، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم، فكأنّه قيل:{وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين، وبما يصيبه من عذاب الله تعالى. انتهى. نسفي بتصرف كبير.
الإعراب: {فَأَمَّا:} الفاء: حرف تفريع عما سبق. (أمّا): أداة شرط، وتوكيد، وتفصيل.
أمّا كونها أداة شرط؛ لأنّها قائمة مقام أداة الشرط، وفعله بدل لزوم الفاء بعدها؛ إذ الأصل: مهما يك من شيء؛ فالذين آمنوا
…
إلخ، فأنيبت (أمّا) مناب:«مهما يك من شيء» فصار: (أما {الَّذِينَ آمَنُوا}).
وأمّا كونها أداة تفصيل؛ فلأنّها في الغالب تكون مسبوقة بكلام مجمل، وهي تفصله. ويعلم ذلك من تتبّع مواقعها.
وأمّا كونها أداة توكيد؛ فلأنّها تحقّق الجواب، وتفيد: أنّه واقع لا محالة؛ لأنّها علّقته على أمر متعين. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محلّ لها. {وَعَمِلُوا:} فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة؛ التي هي فاعله، والألف للتفريق، والجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنّه جمع مؤنث سالم، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: الأعمال الصالحات. {فَيُوَفِّيهِمْ:}
الفاء: واقعة في جواب (أمّا). (يوفيهم): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله) المفهوم من المقام، والهاء مفعول به أوّل. {أُجُورَهُمْ} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الّذي هو {الَّذِينَ:} هذا، وأجيز اعتبار الجملة الفعلية خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يوفيهم، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو يوفيهم، وعليه فالجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو:{الَّذِينَ} والجملة الاسمية مفرعة عمّا قبلها، ومستأنفة لا محلّ لها، وجملة:{وَيَزِيدُهُمْ} مع المفعول الثاني معطوفة على ما قبلها فهي في محل رفع مثلها. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ:} إعراب هذا الكلام مثل إعراب سابقه بلا فارق. {عَذاباً:} مفعول مطلق. {أَلِيماً:} صفة له. {وَلا:} الواو: حرف عطف.
(لا): نافية. {يَجِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الأول، وتعليقهما ب {وَلِيًّا} أو ب {نَصِيراً} فلا بأس به، وذلك على التنازع. وقيل:
متعلقان بمحذوف حال من أحدهما، كان صفة له، فلما قدّم عليه؛ صار حالا. على القاعدة:
«نعت النكرة إذا تقدّم عليها؛ صار حالا» . {مِنْ دُونِ:} متعلقان بما تعلق به قبلهما، و {دُونِ:}
مضاف، و {اللهِ:} مضاف إليه. {وَلِيًّا:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا):
زائدة لتأكيد النفي. {نَصِيراً:} معطوف على ما قبله، وجملة:{وَلا يَجِدُونَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها.
الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ..} . إلخ: لمّا قرّر الله عبودية عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام، وقرّر وعيد من اعتقد فيه غير ذلك من بنوّة، أو ألوهية؛ خاطب النّاس عامّة، وبيّن لهم الطّريق السّوي الذي من سلكه نجا في الدنيا، والآخرة. {بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم. قاله الثّوري، وسمّاه برهانا؛ لأنّ معه البرهان، وهو المعجزات الباهرات، وقال مجاهد هاهنا: الحجّة، والمعنى متقارب، فإنّ المعجزات حجّته صلى الله عليه وسلم. والنّور المنزل هو القرآن الكريم، وسمّاه الله نورا لأنّ به تتبين الأحكام، ويهتدى به من الضّلالة. وفحوى الكلام: قد جاءكم دلائل العقل، وشواهد النقل، ولم يبق لكم عذر، ولا حجّة تدفعون بها عقاب الله السرمديّ.
الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ} انظر الآية رقم [133 و 170]{مِنْ رَبِّكُمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف صفة:{بُرْهانٌ} والكاف في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَأَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها، و «قد» قبلها مقدرة. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نُوراً:} مفعول به. {مُبِيناً:} صفة له.
الشرح: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ:} صدّقوا بوحدانيته، ونزّهوه عمّا لا يليق به من ولد، وصاحبة، وشريك في الذّات، أو في الصّفات، أو في الأفعال. {وَاعْتَصَمُوا بِهِ:} وثقوا به، وتمسّكوا بدينه، وتوكّلوا عليه. {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ:} في ثواب قدّره بإزاء عمله، وإيمانه رحمة منه تعالى، لا قضاء لحق واجب عليه. {وَفَضْلٍ:} إحسان زائد على الأجر، والثّواب،
ولعلّه النظر إلى وجهه الكريم في الجنّة لأحاديث شريفة وردت في ذلك. {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً} . انظر الآية رقم [68] ففيها الكفاية، والمعنى هنا: يدلّهم إلى ما يوصلهم إلى ذلك الخير الموعود بسبب التثبيت على الإيمان، والطاعة.
تنبيه: قد ذكر الله في هذه الآية أصحاب الإيمان، وثوابهم، ولم يذكر الكفر، وأهله إشارة إلى إهمالهم؛ لأنّهم في حيز الطّرح. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [173].
الإعراب: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ:} انظر الآية رقم [173] ففيها الكفاية.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب (أمّا) والسين: حرف استقبال، وتسويف، وهي هنا للتحقيق. (يدخلهم): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله) والهاء مفعول به أول. {فِي رَحْمَةٍ:}
متعلّقان بما قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ {الَّذِينَ} .
هذا؛ وأجيز اعتبار الجملة خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: فهو سيدخلهم
…
إلخ، وعليه؛ فالجملة الاسمية في محل رفع خبر:{الَّذِينَ،} والجملة الاسمية: {فَأَمَّا الَّذِينَ..} . إلخ مفرعة عمّا قبلها، لا محلّ لها. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان ب {رَحْمَةٍ} أو بمحذوف صفة له.
{وَفَضْلٍ:} معطوف على: {رَحْمَةٍ} .
{وَيَهْدِيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدّرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى (الله) والهاء مفعول به أول. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {صِراطاً} كان صفة له، فلما قدّم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدّم عليها. صار حالا» . {صِراطاً:} مفعول به ثان. وقيل: مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ويعرّفهم صراطا. وقيل: هو حال. وقيل: منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. وقيل: الجملة في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف؛ أي: وهو يهديهم، وعليه فالجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها.
الشرح: {يَسْتَفْتُونَكَ:} يطلبون منك الفتوى في ميراث الكلالة، فحذف المتعلق لذكره في الجواب. {قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ:} يبيّن لكم حكم الكلالة. والإفتاء: تبيين المبهم من
الأمور. والكلالة: هو الذي لا ولد له، ولا والد، رجلا كان أو امرأة. وتفسيرها بهذا هو المعتمد. وقيل: الكلالة: الورثة. وقيل: المال الموروث، واشتقاقها من الكلال، وهو ذهاب القوّة من الإعياء، فكأنّ الميراث يصير للوارث بعد إعياء، وذلك لعدم أصول، وفروع للميّت، وخذ قول الأعشى:[الطويل]
إليك أبيت اللّعن كان كلالها
…
إلى الماجد القرم الجواد المحمّد
وقوله أيضا في قصيدته التي مدح بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: [الطويل]
فآليت لا أرني لها من كلالة
…
ولا من وجى حتّى تلاقي محمّدا
{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ:} مات، قال تعالى في آخر سورة (القصص):{كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} أي: كل شيء يفنى، ولا يبقى إلا الله، عز وجل. هذا؛ وأصل «امرئ» المرء، ولمّا كثر استعمالهم لها حتّى أصبحت تستعمل للدّلالة على الإنسان، وعلى الحيوان مجازا، وكان الهمز في آخرها ثقيلا بعد السكون خفّفوها بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الرّاء، فقالوا: المر، وبذلك أشبهت الرّاء منها من:(ابن) في تلقى حركات الإعراب، ولإعلالهم هذه الكلمة كثيرا بحذف الهمز، شبّهوها بما حذف آخره، نحو:(اسم، ابن، است) فجبروه بهمزة وصل في حالة التنكير، ثم ردّوا إليها الهمزة، فقالوا: امرؤ، وبذلك أصبحت تعرب من مكانين، فتظهر حركات الإعراب فيها على الرّاء والهمزة، فتقول: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، ومررت بامرئ، قال تعالى:
{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ،} {ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ،} {كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} .
ومثل «امرئ» كلمة: (ابن) إذا زيدت في آخرها (ما) فإنّ حركة الإعراب تظهر على النون والميم، فتقول: حضرا ابنم، ورأيت ابنما، ومررت بابنم. ولا ثالث لهما في اللغة العربية، فاحفظه؛ فإنّه جيد، والحمد لله.
{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أي: ابن، بخلافه في الآية رقم [12] فإنّه يطلق على الابن، والبنت، وليس له والد أيضا، وإنّما فسر الولد بالابن الذّكر هنا؛ لأنّه يسقط الأخت، ولا تسقطها البنت، بل ترث معها؛ لأنّها تصير معها عصبة، كما هو مقرّر في المواريث.
{وَلَهُ أُخْتٌ} أي: لأب، أو لأبوين معا، أما الأخت، والإخوة لأم فإنّهم من الأرحام، وقد تقرّر حكمهم في الآية رقم [12]. {فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ:} يرث كلّ مالها عند عدم وجود الابن لها، وما يبقى بعد فرض البنت إن وجدت لها، وكذا بعد فرض الزّوج إن وجد، وانظر شرح:(إن لم) في الآية رقم [91].
{فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ} أي: فإن كانت الأختان اثنتين، أو أكثر. {فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ:} وإنّما ثنّى الضّمير، ولم يتقدّم إلا ذكر واحدة؛ لأنّه محمول على المعنى؛ لأنّ تقديره عند الأخفش:
فإن كان من ترك اثنتين، ثم ثنّى الضمير على معنى (من) وانظر شرح (اثنتين) في الآية رقم [11] فإنّه جيد، والحمد لله!.
{وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً:} لأب، أو لأبوين. {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} انظر الآية رقم [11]. {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا:} أي يبيّن الله لكم أحكام دينه من مواريث وغيرها؛ لأن لا تضلوا؛ أي: تحيدوا، وتخرجوا عن جادة الحقّ، والصّواب. {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي:
خبير بمصالح العباد في الحياة، والممات. فهو صيغة مبالغة.
تنبيه: عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: مرضت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين، فأغمي عليّ، فتوضّأ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ صبّ عليّ من وضوئه، فأفقت، فقلت:
يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟ وفي بعضها قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: «يا جابر لا أراك ميّتا من وجعك هذا» . وقد عاش جابر-رضي الله عنه-بعد مرضه هذا طويلا، ويقال: إنّه آخر من مات من الصّحابة في المدينة المنورة. ويروى: أنّه توفي-رضي الله عنه-عن أخوات.
تنبيه: اشتملت السّورة الكريمة على ثلاث آيات في المواريث: الأولى برقم [11] وقد تضمّنت بيان إرث الأصول، والفروع، والثانية برقم [12] وقد تضمّنت بيان إرث الزّوجين، والإخوة، والأخوات لأم، والثّالثة، وهي الخاتمة لهذه السّورة الكريمة، وقد تضمّنت بيان إرث الإخوة والأخوات الأشقّاء، أو من الأب فقط، وأمّا أولو الأرحام فمذكورون في آخر سورة (الأنفال). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
الإعراب: {يَسْتَفْتُونَكَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والمتعلّق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية مستأنفة لا محلّ لها. {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره: أنت. {اللهُ:} مبتدأ.
{يُفْتِيكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{اللهُ} والكاف مفعول به. {فِي الْكَلالَةِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية:{قُلِ اللهُ..} .
إلخ: مستأنفة لا محلّ لها.
{إِنِ:} حرف شرط جازم. {اِمْرُؤٌ:} فاعل لفعل محذوف يفسّره المذكور بعده، وهذا مذهب سيبويه، والبصريّين، وقال الكوفيون: هو مبتدأ خبره الجملة الفعلية بعده، والمعتمد الأول.
{هَلَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{اِمْرُؤٌ} والجملة الفعلية مفسّرة، لا محلّ لها. {لَيْسَ:}
فعل ماض ناقص. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {لَيْسَ} تقدّم على اسمه.
{وَلَدٌ:} اسم ليس مؤخر، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{اِمْرُؤٌ،} وجوز اعتبارها حالا من فاعل: {هَلَكَ} المستتر، والرابط الضمير فقط. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر
مقدم. {أُخْتٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها.
{فَإِنْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لها): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم.
{نِصْفُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محلّ لها؛ لأنّها لم تحلّ محل المفرد، و {نِصْفُ} مضاف. و {ما} مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، وهي تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {تَرَكَ:} فعل ماض:
والفاعل يعود إلى: {اِمْرُؤٌ} والجملة الفعلية صلة: {ما} أو صفتها، والعائد أو الرابط محذوف، التقدير: لها نصف الذي، أو شيء تركه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤوّل مع الفعل بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: لها نصف تركته، والجملة الشرطية:{إِنِ امْرُؤٌ..} . إلخ مفسرة للكلالة.
وقيل: مستأنفة لا محلّ لها، والأوّل أقوى، وأولى.
{وَهُوَ:} الواو: واو الحال. ({هُوَ}): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ {يَرِثُها:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر تقديره: هو، و (ها): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:{أُخْتٌ} أو من فاعل:
{تَرَكَ} المستتر، والرابط على الاعتبارين: الواو، والضمير. وقيل: مستأنفة. والأول أقوى، وأولى. {إِنِ:} حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب {لَمْ} وهو فعل الشرط. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبره مقدّم.
{وَلَدٌ:} اسمه مؤخر، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية. ويقال: لأنّها جملة شرط غير ظرفي. والجملة المقدرة: «هلك امرؤ» مثلها، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير:«فهو يرثها» ، والجملة الشرطية مستأنفة لا محلّ لها.
{فَإِنْ:} الفاء: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {كانَتَا:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محلّ جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث، وحرّكت بالفتح لالتقائها ساكنة مع ألف الاثنين الّتي هي اسمه. {اِثْنَتَيْنِ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنّه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محلّ لها؛ لأنّها ابتدائية، ويقال
…
إلخ. {فَلَهُمَا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لهما): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {الثُّلُثانِ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنّه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط
…
إلخ، والجملة الشرطية مستأنفة لا محلّ لها. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {الثُّلُثانِ،} و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية مثل سابقتها، وجملة:{تَرَكَ} صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف
…
إلخ. {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. ({إِنِ}): حرف شرط جازم.
{كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم في محل جزم فعل الشرط، والواو اسمه، والألف للتفريق. {إِخْوَةً:} خبر: {كانُوا} . {رِجالاً:} بدل بعض من: {إِخْوَةً} . {وَنِساءً:} معطوف عليه. {فَلِلذَّكَرِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (للذكر): متعلقان بمحذوف خبر مقدّم.
{مِثْلُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {حَظِّ:} مضاف إليه، و {حَظِّ} مضاف، و {الْأُنْثَيَيْنِ:}
مضاف إليه مجرور
…
إلخ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، والجملة الشرطية:
{وَإِنْ كانُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلهما.
{يُبَيِّنُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما.
{إِنِ:} حرف مصدري، ونصب. {تَضِلُّوا:} فعل مضارع منصوب ب ({إِنِ}) وعلامة نصبه حذف النون لأنّه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمصدر المؤوّل من الفعل وناصبه فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنّه مفعول به للفعل قبله، التقدير: يبين الله لكم ضلالكم؛ أي:
إذا تركتم وشأنكم. والثاني: أنّ المصدر المؤوّل في محل جر بإضافة مفعول لأجله محذوف، التقدير: مخافة، أو كراهة ضلالكم. وهذا عند البصريّين. والثالث: أنّ التقدير: لئلا تضلّوا، فحذفت اللام الجارة، و (لا) النافية من هذا عند الكوفيين، ويكون التقدير: يبين الله لكم الحقّ لعدم ضلالكم، أو مخافة ضلالكم، فيكون مفعول:{يُبَيِّنُ} على هذين الوجهين محذوفا. وقد بيّن ابن هشام-رحمه الله-هذين الوجهين في كتابه: مغني اللبيب، وذكر قول عمرو بن كلثوم التّغلبي في معلقته-وهو الشاهد رقم [48] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الوافر]
نزلتم منزل الأضياف منّا
…
فعجّلنا القرى أن تشتمونا
وجملة: {يُبَيِّنُ..} . إلخ مستأنفة لا محلّ لها. {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله):
مبتدأ. {بِكُلِّ:} متعلقان ب {عَلِيمٌ} بعده، و (كل) مضاف، و {شَيْءٍ:} مضاف إليه. {عَلِيمٌ:}
خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة لا محلّ لها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.
انتهت سورة النّساء شرحا، وإعرابا بحمد الله تعالى، وتوفيقه، وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلّم.