الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ فِي تَفْسِيرِ: خَيْرُ الْمَاكِرِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ فِي نَفْسِهِ شَرٌّ: أَيْ إِنْ كَانَ فِي الْخَيْرِ
مَكْرٌ، فَمَكْرُهُ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى مُوَجَّهٌ إِلَى الْخَيْرِ وَمَكْرُهُمْ هُوَ الْمُوَجَّهُ إِلَى الشَّرِّ.
إِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ مَكْرُ اللهِ بِهِمْ ; إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ إِلَخْ، فَإِنَّ هَذِهِ بِشَارَةٌ بِإِنْجَائِهِ مِنْ مَكْرِهِمْ وَجَعْلِ كَيْدِهِمْ فِي نَحْرِهِمْ قَدْ تَحَقَّقَتْ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَ بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ، وَالتَّوَفِّي فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ وَافِيًا تَامًّا، وَمِنْ ثَمَّ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْإِمَاتَةِ قَالَ - تَعَالَى -: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [39: 42] وَقَالَ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [32: 11] فَالْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ: إِنِّي مُمِيتُكَ وَجَاعِلُكَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي مَكَانٍ رَفِيعٍ عِنْدِي، كَمَا قَالَ فِي إِدْرِيسَ عليه السلام: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [19: 57] وَاللهُ - تَعَالَى - يُضِيفُ إِلَيْهِ مَا يَكُونُ فِيهِ الْأَبْرَارُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ قَبْلَ الْبَعْثِ وَبَعْدَهُ كَمَا قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [3: 169] وَقَالَ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [54: 54،
55]
وَأَمَّا تَطْهِيرُهُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُوَ: إِنْجَاؤُهُ مِمَّا كَانُوا يَرْمُونَهُ بِهِ أَوْ يَرُومُونَهُ مِنْهُ وَيُرِيدُونَهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ. هَذَا مَا يَفْهَمُهُ الْقَارِئُ الْخَالِي الذِّهْنِ مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْأَقْوَالِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْعِبَارَةِ وَقَدْ أَيَّدْنَاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ حَوَّلُوا الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ لِيَنْطَبِقَ عَلَى مَا أَعْطَتْهُمُ الرِّوَايَاتُ مِنْ كَوْنِ عِيسَى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ بِجَسَدِهِ، وَهَاكَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ:
يَقُولُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُنَوِّمُكَ، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ بِرُوحِكَ وَجَسَدِكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ بَيَانٌ لِهَذَا التَّوَفِّي، وَبَعْضُهُمْ: إِنِّي أُنَجِّيكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَدِينَ، فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ قَتْلِكَ، وَأُمِيتُكَ حَتْفَ أَنْفِكَ ثُمَّ أَرْفَعُكَ إِلَيَّ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْجُمْهُورِ وَقَالَ: لِلْعُلَمَاءِ هَاهُنَا طَرِيقَتَانِ إِحْدَاهُمَا - وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ - أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا بِجِسْمِهِ وَرُوحِهِ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِشَرِيعَتِنَا ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللهُ تَعَالَى.
وَلَهُمْ فِي حَيَاتِهِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ طَوِيلٌ مَعْرُوفٌ، وَأَجَابَ هَؤُلَاءِ عَمَّا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ فِي تَقْدِيمِ الرَّفْعِ عَلَى التَّوَفِّي بِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُفِيدُ تَرْتِيبًا. أَقُولُ: وَفَاتَهُمْ أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ فِي الذِّكْرِ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ لَا يَأْتِي فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ إِلَّا لِنُكْتَةٍ، وَلَا نُكْتَةَ هُنَا لِتَقْدِيمِ التَّوَفِّي عَلَى الرَّفْعِ ; إِذِ الرَّفْعُ هُوَ الْأَهَمُّ
لِمَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِالنَّجَاةِ وَرِفْعَةِ الْمَكَانَةِ.
(قَالَ) : وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَأَنَّ التَّوَفِّيَ عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ الْإِمَاتَةُ الْعَادِيَّةُ، وَأَنَّ الرَّفْعَ يَكُونُ بَعْدَهُ وَهُوَ رَفْعُ الرُّوحِ، وَلَا بِدَعَ فِي إِطْلَاقِ الْخِطَابِ عَلَى شَخْصٍ وَإِرَادَةِ رُوحِهِ، فَإِنَّ الرُّوحَ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ، وَالْجَسَدُ كَالثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَتَغَيَّرُ، وَالْإِنْسَانُ إِنْسَانٌ لِأَنَّ رُوحَهُ هِيَ هِيَ. (قَالَ) : وَلِصَاحِبِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حَدِيثِ الرَّفْعِ وَالنُّزُولِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَخْرِيجَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَدِيثُ آحَادٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرٍ اعْتِقَادِيٍّ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْغَيْبِ، وَالْأُمُورُ الِاعْتِقَادِيَّةُ لَا يُؤْخَذُ فِيهَا إِلَّا بِالْقَطْعِيِّ ; لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الْيَقِينُ، وَلَيْسَ فِي الْبَابِ حَدِيثٌ مُتَوَاتِرٌ.
وَثَانِيهِمَا: تَأْوِيلُ نُزُولِهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَرْضِ بِغَلَبَةِ رُوحِهِ وَسِرِّ رِسَالَتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ مَا غَلَبَ فِي تَعْلِيمِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسِّلْمِ وَالْأَخْذِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ دُونَ الْوُقُوفِ عِنْدَ ظَوَاهِرِهَا وَالتَّمَسُّكِ بِقُشُورِهَا دُونَ لُبَابِهَا، وَهُوَ حِكْمَتُهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ ; فَالْمَسِيحُ عليه السلام لَمْ يَأْتِ لِلْيَهُودِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ، وَلَكِنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُزَحْزِحُهُمْ عَنِ الْجُمُودِ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِ شَرِيعَةِ مُوسَى عليه السلام، وَيُوقِفُهُمْ عَلَى فِقْهِهَا وَالْمُرَادِ مِنْهَا، وَيَأْمُرُهُمْ بِمُرَاعَاتِهِ وَبِمَا يَجْذِبُهُمْ إِلَى عَالَمِ الْأَرْوَاحِ بِتَحَرِّي كَمَالِ الْآدَابِ، أَيْ وَلَمَّا كَانَ أَصْحَابُ الشَّرِيعَةِ الْأَخِيرَةِ قَدْ جَمَدُوا عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا بَلْ وَأَلْفَاظِ مَنْ كَتَبَ فِيهَا مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُزْهِقًا لِرُوحِهَا ذَاهِبًا بِحِكْمَتِهَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِصْلَاحٍ عِيسَوِيٍّ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَرُوحَ الدِّينِ وَأَدَبَهُ الْحَقِيقِيَّ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَطْوِيٌّ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي حُجِبُوا عَنْهُ بِالتَّقْلِيدِ الَّذِي هُوَ آفَةُ الْحَقِّ وَعَدُوُّ الدِّينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ. فَزَمَانُ عِيسَى عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هُوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَأْخُذُ النَّاسُ فِيهِ بِرُوحِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِإِصْلَاحِ السَّرَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَقَيُّدٍ بِالرُّسُومِ وَالظَّوَاهِرِ.
هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَعَ بَسْطٍ وَإِيضَاحٍ، وَلَكِنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ تَأْبَاهُ، وَلِأَهْلِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَدْ نُقِلَتْ بِالْمَعْنَى كَأَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ، وَالنَّاقِلُ لِلْمَعْنَى يَنْقُلُ مَا فَهِمَهُ، وَسُئِلَ عَنِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَقَتْلِ عِيسَى لَهُ فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ رَمْزٌ لِلْخُرَافَاتِ وَالدَّجَلِ وَالْقَبَائِحَ الَّتِي تَزُولُ بِتَقْرِيرِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَالْأَخْذِ بِأَسْرَارِهَا وَحِكَمِهَا. وَإِنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ هَادٍ إِلَى هَذِهِ
الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ لِلْبَشَرِ إِلَى إِصْلَاحٍ وَرَاءَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ، وَسَنَعُودُ إِلَى مَبْحَثِ مَا جَرَى لِلْمَسِيحِ عليه السلام مَعَ الْمَاكِرِينَ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ بِالْأَخْذِ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ الْهُدَى فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِكَ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِكَ فَوْقِيَّةً رُوحَانِيَّةً دِينِيَّةً وَهِيَ كَوْنُهُمْ أَحْسَنَ أَخْلَاقًا وَأَكْمَلَ آدَابًا وَأَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالِاعْتِدَاءِ، أَوْ فَوْقِيَّةً دُنْيَوِيَّةً وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَكُونُونَ أَصْحَابَ السِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ لِأَشَدِّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لَهُ، بَلْ كَانُوا مَغْلُوبِينَ لِلْيَهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمَسِيحِ هُوَ عَيْنُ الْأَخْذِ بِتِلْكَ الْفَضَائِلِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي جَاءَ بِهَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي هَذَا. وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ فَوْقِيَّةَ الْفَضَائِلِ وَالْآدَابِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ وَسَتَبْقَى كَذَلِكَ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَقُولُ: فِيهِ الْتِفَاتٌ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ الْمَسِيحَ وَالْمُخْتَلِفِينَ مَعَهُ وَيَشْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَتْبَاعِهِ وَالْكَافِرِينَ بِهِ، وَاللهُ هُوَ الَّذِي يُبَيِّنُ لَهُمْ جَمِيعًا يَوْمَ الْحِسَابِ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِمَا يُزِيلُ شُبَهَ الْمُشْتَبِهِينَ وَرِيَاءَ الْجَاحِدِينَ.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وَكَذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ بِتَسْلِيطِ الْأُمَمِ عَلَيْهِمْ وَبِحُكْمِهَا فِيهِمْ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [41: 16] هُنَاكَ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُنْصَرُوا هُنَا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إِمَّا فِي الدَّارَيْنِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الْأُمَمِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ وَالْكُفْرِ بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُطَالِبُونَ النُّفُوسَ بِتَقْوِيمِهَا.
ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ خَبَرِ عِيسَى نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَبُّوتِكَ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ الَّذِي يُبَيِّنُ وُجُوهَ الْعِبَرِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْحِكَمِ فِي الْأَحْكَامِ، فَيَهْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِلَى لُبَابِ الدِّينِ وَفِقْهِ الشَّرِيعَةِ وَأَسْرَارِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ لِيَتَّعِظَ الْمُتَّعِظُونَ، وَيَصِلَ إِلَى مَقَامِ الْحِكْمَةِ الْعَارِفُونَ. وَلَيْسَ لَدَيْنَا عَنِ الْأُسْتَاذِ
الْإِمَامِ شَيْءٌ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ.
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
أَقُولُ: بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - خَلْقَ عِيسَى وَمَجِيئَهُ بِالْآيَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ فِي الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَشَفَ شُبْهَةَ الْمَفْتُونِينَ بِخَلْقِهِ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ الْمُعْتَادَةِ وَالْمُحَاجِّينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَرَدَّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ أَيْ إِنَّ شَبَهَ عِيسَى وَصِفَتَهُ فِي خَلْقِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ كَشَأْنِ آدَمَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ أَيْ قَدَّرَ أَوْضَاعَهُ وَكَوَّنَ جِسْمَهُ مِنْ تُرَابٍ مَيِّتٍ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَكَانَ طِينًا لَازِبًا ذَا لُزُوجَةٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ ثُمَّ كَوَّنَهُ تَكْوِينًا آخَرَ بِنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْعِبَارَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ هُنَا: (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَكَانَ) . وَلَكِنَّهُ قَالَ: فَيَكُونُ لِتَصْوِيرِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْمَعَانِي فِي وَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي أَحْيَانًا. وَخَطَرَ لِيَ الْآنَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ مَجْمُوعَ كُنْ فَيَكُونُ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ قَالَ لَهُ كَلِمَةَ التَّكْوِينِ الَّتِي هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِرَادَةِ إِلَى الشَّيْءِ وَوُجُودِهِ بِهَا حَالًا، وَيَظْهَرُ هَذَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ [6: 73] وَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ لِلتَّكْلِيفِ لَمْ يَظْهَرْ هَذَا ; لِأَنَّ قَوْلَ التَّكْلِيفِ مِنْ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَقَوْلَ التَّكْوِينِ مِنْ صِفَةِ الْمَشِيئَةِ، وَلَعَلَّ مَنْ تَأَمَّلَهُ حَقَّ
التَّأَمُّلِ لَا يَجِدُ عَنْهُ مُنْصَرَفًا. وَالْعَطْفُ بِـ (ثُمَّ) لِبَيَانِ التَّكْوِينِ الْآخَرِ يُفِيدُ تَرَاخِيهِ وَتَأَخُّرَهُ عَنِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، وَهَلْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا تَتَقَلَّبُ ذُرِّيَّتُهُ؟ اقْرَأْ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [71: 14] وَقَوْلَهُ عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [23: 12 - 16] فَالسُّلَالَةُ الْمُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْمُكَوِّنُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ الْآنَ بِـ " الْبُرُوتُوبْلَازْمَا "، وَمِنْهَا تَكَوَّنَ أَصْلُنَا فِي ذَلِكَ الطَّوْرِ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ: إِنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ تِلْكَ السُّلَالَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ التَّوَلُّدِ بِوَاسِطَةِ النُّطْفَةِ فِي الْقَرَارِ الْمَكِينِ وَهُوَ الرَّحِمُ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى طَوْرِ تَحَوُّلِ النُّطْفَةِ إِلَى عَلَقَةٍ وَالْعَلَقَةِ إِلَى مُضْغَةٍ وَالْمُضْغَةِ إِلَى هَيْكَلٍ مِنَ الْعِظَامِ يُكْسَى لَحْمًا، وَقَدْ عَدَّ هَذَا طَوْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَنْشَأَهُ خَلْقًا آخَرَ وَهُوَ الطَّوْرُ الْأَخِيرُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ طَوْرًا آخَرَ فِي الْمَوْتِ وَطَوْرًا آخَرَ فِي الْبَعْثِ وَهُوَ آخِرُ أَطْوَارِهِ، فَكُلُّ طَوْرٍ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي قَبْلَ الْمَوْتِ حَادِثٌ، وَحُدُوثُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِنَظِيرٍ وَلَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا، وَإِنَّمَا وُجِدَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَكْوِينِهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: كُنْ فَيَكُونُ فَهَلْ يَعِزُّ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَشِيئَةِ أَنْ يَخْلُقَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ؟ كَلَّا، وَلَا يُعْجِزُهُ أَنْ يَبْعَثَ النَّاسَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى كَالنَّشْأَةِ الْأُولَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: قُلْنَا إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ سِيقَتْ فِي مَعْرِضِ إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيَانِ أَنَّ لِلَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَصْطَفِيَ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ لِرِسَالَتِهِ، وَأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ فِي أَفْعَالِهِ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِ اصْطِفَائِهِ مُحَمَّدًا، وَقَدِ اصْطَفَى قَبْلَهُ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، ثُمَّ جَاءَ فِي السِّيَاقِ ذِكْرُ قِصَّةِ عِيسَى وَأُمِّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ كُفْرِ بَعْضِ قَوْمِهِ بِهِ وَرَمْيِ أُمِّهِ بِالزِّنَا، وَإِيمَانِ بَعْضٍ، وَهُنَاكَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ يَكْفُرْ بِعِيسَى وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إِيمَانًا صَحِيحًا بَلِ افْتُتِنَ بِهِ افْتِتَانًا لِكَوْنِهِ وُلِدَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ وُلِدَ بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - حَلَّ فِي أُمِّهِ، وَأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ تَجَسَّدَتْ فِيهِ فَصَارَ إِلَهًا وَإِنْسَانًا، فَضَرَبَ
لِلْكَافِرِينَ وَلِلْمَفْتُونِينَ مَثَلَ خَلْقِ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ أَعْجَبُ مَنْ خَلْقِ عِيسَى ; لِأَنَّ هَذَا خُلِقَ مِنْ حَيَوَانٍ مِنْ نَوْعِهِ وَذَاكَ قَدْ خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ، وَفِي الْكَلَامِ إِرْشَادُهُ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْخَلِيقَةِ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكُلُّهُ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا إِذَا تَفَكَّرْنَا فِي حَقِيقَتِهَا وَعِلَلِهَا، وَلَا شَيْءَ مِنْهُ بِغَرِيبٍ عِنْدَ الْمُوجِدِ الْمُبْدِعِ، أَمَّا الْقَوَانِينُ الْمَعْرُوفَةُ فِي عِلْمِ الْخَلِيقَةِ فَهِيَ قَدِ اسْتُخْرِجَتْ مِمَّا نَعْهَدُهُ وَنُشَاهِدُهُ، وَلَيْسَتْ قَوَانِينَ عَقْلِيَّةً قَامَتِ الْبَرَاهِينُ عَلَى اسْتِحَالَةِ مَا عَدَاهَا، كَيْفَ وَإِنَّنَا نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا يُخَالِفُهَا كَالْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا أَعْضَاءٌ زَائِدَةٌ وَالَّتِي تُولَدُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَتَرَوْنَ ذِكْرَ ذَلِكَ فِي الْجَرَائِدِ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَهُوَ إِنَّمَا خَالَفَ مَا نَعْرِفُ لَا مَا يَعْلَمُ اللهُ - تَعَالَى -، وَمَا يُدْرِينَا أَنَّ لِكُلِّ هَذِهِ الشَّوَاذِّ وَالْفَلَتَاتِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً مُحْكَمَةً لَمْ تَظْهَرْ لَنَا، وَكَذَلِكَ شَأْنُ خَلْقِ عِيسَى، فَكَوْنُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَعْهُودِ لَيْسَ مَزِيَّةً تَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ عَلَيْهِمْ، فَكَيْفَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إِلَهًا؟ وَإِذَا كَانَ عِيسَى قَدْ خُلِقَ مِنْ بَعْضِ جِنْسِهِ فَآدَمُ قَدْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْمَزِيَّةِ لَوْ كَانَتْ، وَبِالْإِنْكَارِ إِنْ صَحَّ، عَلَى أَنَّ مَا نَعْرِفُ مِنْ أَمْرِ الْخِلْقَةِ لَيْسَ لَنَا مِنْهُ إِلَّا الظَّاهِرُ، نَصِفُهُ وَنَقُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ نَعْقِلْهُ، وَمَاذَا نَعْقِلُ مِنَ الرَّابِطَةِ بَيْنَ الْحِسِّ وَالنُّطْقِ فِي الْإِنْسَانِ مَثَلًا؟ بَلْ مَاذَا نَعْقِلُ مِنْ أَمْرِ حَبَّةِ الْحِنْطَةِ فِي نَبْتِهَا وَاسْتِوَائِهَا عَلَى سُوقِهَا وَتَنَاسُبِ أَوْرَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ ذَلِكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ عِيسَى وَغَيْرَهُ وَبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَمْرِهِ، الْقَائِلِينَ فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَقَدْ جَاءَكَ عِلْمُ الْيَقِينُ.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا يُظْهِرُ عِلْمَكَ الْحَقَّ وَارْتِيَابَهُمُ الْبَاطِلَ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ يُقَالُ: ابْتَهَلَ الرَّجُلُ دَعَا وَتَضَرَّعَ، وَالْقَوْمُ تَلَاعَنُوا، وَفُسِّرَ الِابْتِهَالُ هُنَا بِقَوْلِهِ: فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وَتُسَمَّى هَذِهِ الْآيَةُ آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا نَصَارَى نَجْرَانَ لِلْمُبَاهَلَةِ فَأَبَوْا. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ: " أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَنَا لَا نَفْلَحُ أَبَدًا وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. فَقَالَ لَهُ: نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ،
فَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا
فَقَالَ: قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ: هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ " وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمُ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ، فَأَنْزَلَ اللهُ - تَعَالَى -: فَقُلْ تَعَالَوْا الْآيَةَ. فَقَالُوا: أَخِّرْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَهَبُوا إِلَى قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَاسْتَشَارُوهُمْ فَأَشَارُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصَالِحُوهُ وَلَا يُلَاعِنُوهُ، وَقَالُوا: هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ، فَصَالَحُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَلْفِ حُلَّةٍ فِي صَفَرٍ وَأَلْفٍ فِي رَجَبٍ وَدَرَاهِمَ " وَرُوِيَ فِي الصُّلْحِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُمْ صَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اخْتَارَ لِلْمُبَاهَلَةِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهِمَا عليهم السلام وَالرِّضْوَانُ -، وَخَرَجَ بِهِمْ وَقَالَ: إِنْ أَنَا دَعَوْتُ فَأَمِّنُوا أَنْتُمْ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سَعْدٍ قَالَ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقُلْ تَعَالَوْا دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَقَالَ: اللهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا الْآيَةَ: قَالَ: " فَجَاءَ بِأَبِي بَكْرٍ وَوَلَدِهِ وَبِعُمَرَ وَوَلَدِهِ وَبِعُثْمَانَ وَوَلَدِهِ وَبِعَلِيٍّ وَوَلَدِهِ " وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اخْتَارَ لِلْمُبَاهَلَةِ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَوَلَدَيْهِمَا وَيَحْمِلُونَ كَلِمَةَ وَنِسَاءَنَا عَلَى فَاطِمَةَ وَكَلِمَةَ وَأَنْفُسَنَا عَلَى عَلِيٍّ فَقَطْ، وَمَصَادِرُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الشِّيعَةُ وَمَقْصِدُهُمْ مِنْهَا مَعْرُوفٌ، وَقَدِ اجْتَهَدُوا فِي تَرْوِيجِهَا مَا اسْتَطَاعُوا حَتَّى رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَكِنَّ وَاضِعِيهَا لَمْ يُحْسِنُوا تَطْبِيقَهَا عَلَى الْآيَةِ فَإِنَّ كَلِمَةَ وَنِسَاءَنَا لَا يَقُولُهَا الْعَرَبِيُّ وَيُرِيدُ بِهَا بِنْتَهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَزْوَاجٌ وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ لُغَتِهِمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِأَنْفُسِنَا عَلِيٌّ - عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ -، ثُمَّ إِنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوا الْمُحَاجِّينَ وَالْمُجَادِلِينَ فِي عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَجْمَعُ هُوَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَبْتَهِلُونَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - بِأَنْ يَلْعَنَ الْكَاذِبَ فِيمَا يَقُولُ عَنْ عِيسَى، وَهَذَا الطَّلَبُ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَقِينِ صَاحِبِهِ وَثِقَتِهِ بِمَا يَقُولُ، كَمَا يَدُلُّ امْتِنَاعُ مَنْ دَعَوْا إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ سَوَاءٌ كَانُوا نَصَارَى نَجْرَانَ أَوْ غَيْرَهَمْ عَلَى امْتِرَائِهِمْ فِي
حِجَاجِهِمْ وَمُمَارَاتِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَ وَزِلْزَالِهِمْ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَكَوْنِهِمْ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَقِينٍ، وَأَنَّى لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ أَنْ يَرْضَى بِأَنْ يَجْتَمِعَ مِثْلُ هَذَا الْجَمْعِ مِنَ النَّاسِ الْمُحِقِّينَ وَالْمُبْطِلِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - فِي طَلَبِ لَعْنِهِ وَإِبْعَادِهِ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَيُّ جَرَاءَةٍ عَلَى اللهِ وَاسْتِهْزَاءٍ بِقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ أَقْوَى مِنْ هَذَا؟
قَالَ: أَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى يَقِينٍ مِمَّا يَعْتَقِدُونَ فِي عِيسَى
-
عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَحَسْبُنَا فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَالْعِلْمُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْيَقِينُ، وَفِي قَوْلِهِ: نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ إِلَخْ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْعُو الْآخَرَ، فَأَنْتُمْ تَدْعُونَ أَبْنَاءَنَا وَنَحْنُ نَدْعُو أَبْنَاءَكُمْ، وَهَكَذَا الْبَاقِي.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَدْعُو أَهْلَهُ، فَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ نَدْعُو أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا وَأَنْفُسَنَا وَأَنْتُمْ كَذَلِكَ، وَلَا إِشْكَالَ فِي وَجْهٍ مِنْ وَجْهَيِ التَّوْزِيعِ فِي دَعْوَةِ الْأَنْفُسِ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الشِّيعَةِ وَمَنْ شَايَعَهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْصِيصِ.
أَقُولُ: وَفِي الْآيَةِ مَا تَرَى مِنَ الْحُكْمِ بِمُشَارَكَةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ فِي الِاجْتِمَاعِ لِلْمُبَارَاةِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْمُنَاضَلَةِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَرْأَةِ كَالرَّجُلِ حَتَّى فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهَا، كَكَوْنِهَا لَا تُبَاشِرُ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا بَلْ يَكُونُ حَظُّهَا مِنَ الْجِهَادِ خِدْمَةَ الْمُحَارِبِينَ كَمُدَاوَاةِ الْجَرْحَى، وَقَدْ عَلِمْنَا مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ هِيَ إِظْهَارُ الثِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ وَالْيَقِينِ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ اللهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَاتِ عَلَى يَقِينٍ فِي اعْتِقَادِهِنَّ كَالْمُؤْمِنِينَ لَمَا أَشْرَكَهُنَّ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ حَالِ نِسَائِنَا الْيَوْمَ وَمِنَ اعْتِقَادِ جُمْهُورِنَا فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُنَّ عَلَيْهِ؟ لَا عِلْمَ لَهُنَّ بِحَقَائِقِ الدِّينِ وَلَا بِمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ غَيْرِنَا مِنَ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، وَلَا مُشَارَكَةَ لِلرِّجَالِ فِي عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ وَلَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَهَلْ فَرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى نِسَاءِ الْأَغْنِيَاءِ - لَا سِيَّمَا فِي الْمُدُنِ - أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَ التَّطَرُّسِ وَالتَّطَرُّزِ وَالتَّوَرُّنِ وَعَلَى نِسَاءِ الْفُقَرَاءِ - لَا سِيَّمَا فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي - أَنْ يَكُنَّ كَالْأُتُنِ الْحَامِلَةِ وَالْبَقَرِ الْعَامِلَةِ؟ وَهَلْ حَرَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ عِلْمَ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَالِاشْتِرَاكَ فِي شَيْءٍ مِنْ شُئُونِ الْعَالَمِينَ؟ كَلَّا بَلْ فَسَقَ الرِّجَالُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَوَضَعُوا النِّسَاءَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِحُكْمِ قُوَّتِهِمْ، فَصَغُرَتْ نُفُوسُهُنَّ، وَهَزُلَتْ آدَابُهُنَّ، وَضَعُفَتْ دِيَانَتُهُنَّ.
وَنَحُفَتْ إِنْسَانِيَّتُهُنَّ، وَصِرْنَ كَالدَّوَاجِنِ فِي الْبُيُوتِ، أَوِ السَّوَائِمِ فِي الصَّحْرَاءِ، أَوِ السَّوَانِي عَلَى السَّوَاقِي وَالْآبَارِ، أَوْ ذَوَاتِ الْحَرْثِ فِي الْحُقُولِ وَالْغَيْطَانِ، فَسَاءَتْ تَرْبِيَةُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَسَرَى الْفَسَادُ الِاجْتِمَاعِيُّ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فَعَمَّ الْأُسَرَ وَالْعَشَائِرَ وَالشُّعُوبَ وَالْقَبَائِلَ، لَبِثَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ الْفَاضِحِ أَحْقَابًا، حَتَّى قَامَ فِيهِمُ الْيَوْمَ مَنْ يُعَيِّرُهُمْ بِاحْتِقَارِ النِّسَاءِ وَاسْتِبْعَادِهِنَّ، وَيُطَالِبُونَهُمْ بِتَحْرِيرِهِنَّ وَمُشَارَكَتِهِنَّ فِي الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَشُئُونِ الْحَيَاةِ، مِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِهَذَا اتِّبَاعًا لِهَدْيِ الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُطَالِبُ بِهِ تَقْلِيدًا لِمَدَنِيَّةِ أُورُبَّا، وَقَدِ اسْتُحْسِنَتِ الدَّعْوَةُ الْأَوْلَى بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ، وَأُجِيبَتِ الدَّعْوَةُ الْأُخْرَى بِالْعَمَلِ عَلَى ذَمِّ الْأَكْثَرِينَ لَهَا بِالْقَوْلِ، فَأَنْشَأَ
الْمُسْلِمُونَ يُعَلِّمُونَ بَنَاتَهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ وَبَعْضَ اللُّغَاتِ الْأُورُوبِّيَّةِ وَالْعَزْفَ بِآلَاتِ اللهْوِ وَبَعْضَ أَعْمَالِ الْيَدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالتَّطْرِيزِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيمَ لَا يَصْحَبُهُ شَيْءٌ مِنَ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ وَلَا مِنْ إِصْلَاحِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ بَلْ هُوَ مِنْ عَامِلِ الِانْقِلَابِ الِاجْتِمَاعِيِّ الَّذِي تُجْهَلُ عَاقِبَتُهُ.
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فِي شَأْنِ الْمَسِيحِ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِينَ لَهُ إِنَّهُ وَلَدُ زِنًا، وَقَوْلُ الْغَالِينَ فِيهِ: إِنَّهُ اللهُ أَوِ ابْنُ اللهِ فَبَاطِلٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَأَيُّ مَعْنًى تَتَصَوَّرُونَ مِنْ مَعَانِي الْأُلُوهِيَّةِ فَهُوَ لَهُ وَحْدَهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَا يُسَاوِيهِ أَحَدٌ فِي عِزَّتِهِ فِي مُلْكِهِ، وَلَا يُسَامِيهِ مُسَامٍ فِي حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ فَيَكُونَ شَرِيكًا لَهُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، أَوْ نِدًّا فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَمَا الْوَلَدُ إِلَّا نُسْخَةٌ مِنَ الْوَالِدِ يُسَاوِيهِ فِي جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - فَوْقَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَفَوْقَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْأَوْضَاعِ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا وَلَمْ يُجِيبُوا الدَّعْوَةَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ وَلَمْ يَقْبَلُوا عَقِيدَةَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ لِعَقَائِدِ النَّاسِ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْبَاطِلِ تَقْلِيدًا مَحْضًا لَا بُرْهَانَ يُؤَيِّدُهُ وَلَا بَصِيرَةَ تُعَضِّدُهُ، وَإِفْسَادُ الْعَقَائِدِ إِفْسَادٌ لِلْعَقْلِ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ فَسَادٍ
قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ
لَمَّا بَيَّنَ - جَلَّ شَأْنُهُ - الْقَصَصَ الْحَقَّ فِي شَأْنِ عِيسَى وَالْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ وَأَقَامَ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى الْغَالِبِينَ فِيهِ بِجَعْلِهِ رَبًّا وَإِلَهًا، ثُمَّ أَلْزَمَهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْوِجْدَانِ أَوِ الضَّمِيرِ - كَمَا يُقَالُ - بِمَا دَعَاهُمْ
إِلَى الْمُبَاهَلَةِ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَأْمُرَ نَبِيَّهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ اتِّبَاعُهُ فِي الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْآيَةَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالرَّدِّ عَلَى الْمُنْكِرِينَ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ انْقِطَاعُ حِجَاجِ الْمُكَابِرِينَ، وَدَلَّ نُكُولُهُمْ عَنْهَا عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنَ اعْتِقَادِهِمْ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَفَاقِدُ الْيَقِينِ يَتَزَلْزَلُ عِنْدَمَا يُدْعَى إِلَى شَيْءٍ يَخَافُ عَاقِبَتَهُ، فَلَمَّا نَكَلُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَرُوحُهُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ دَعْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ سَوَاءٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَيْ عَدْلٌ وَوَسَطٌ لَا يَرْجَحُ فِيهِ طَرَفٌ آخَرَ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ أَقُولُ: الْمُرَادُ بِهَذَا تَقْرِيرُ وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُوَحِّدًا صِرْفًا، وَقَدْ كَانَ الْأَسَاسُ الْأَوَّلُ لِشَرِيعَةِ مُوسَى قَوْلُ اللهِ لَهُ:" إِنَّ الرَّبَّ إِلَهَكَ لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى. أَمَامِي لَا تَصْنَعُ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ، وَمِمَّا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتِ، وَمِمَّا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ " وَعَلَى هَذَا دَرَجَ جَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى الْمَسِيحُ - عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
، وَهُمْ لَا يَزَالُونَ يَنْقُلُونَ عَنْهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا قَوْلَهُ:((يَرَ 17: 3)) " وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الْإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ " وَغَيْرُ ذَاكَ مِنْ عِبَارَاتِ التَّوْحِيدِ، وَكَانَ يَحْتَجُّ عَلَى الْيَهُودِ بِعَدَمِ إِقَامَتِهِمْ نَامُوسَ مُوسَى (شَرِيعَتَهُ) وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ إِلَّا بَعْضَ الرُّسُومِ الظَّاهِرَةِ وَالتَّشْدِيدَاتِ فِي الْمُعَامَلَةِ، أَمَّا الْوَصَايَا الْعَشْرُ - وَرَأْسُهَا التَّوْحِيدُ وَالنَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ - فَلَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى أَنَّنَا نَحْنُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى اعْتِقَادٍ أَنَّ الْعَالَمَ مِنْ صُنْعِ إِلَهٍ وَاحِدٍ، وَالتَّصَرُّفَ فِيهِ لِإِلَهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ خَالِقُهُ وَمُدَبِّرُهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُنَا عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ مَا يُرْضِيهِ مِنَ الْعَمَلِ وَمَا لَا يُرْضِيهِ. فَتَعَالَوْا بِنَا نَتَّفِقُ عَلَى إِقَامَةِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَرَفْضِ الشُّبْهَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهَا، حَتَّى إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ فِيمَا جَاءَكُمْ مِنْ نَبَأِ الْمَسِيحِ شَيْئًا فِيهِ لَفْظُ ابْنِ اللهِ خَرَّجْنَاهُ جَمِيعًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ الثَّابِتَ الْعَامَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ. فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَ إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، قُلْنَا: هَلْ فَسَّرَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إِلَهٌ يُعْبَدُ؟ وَهَلْ دَعَا إِلَى عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ أَمْ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ؟ لَا شَكَّ أَنَّكُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ بِالتَّصْرِيحِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَأَقُولُ: إِنَّ كَلَامَهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ أَكْثَرُهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ أَوِ الْمَجَازِ، بَلْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَمَّيَاتِ وَالْأَلْغَازِ، حَتَّى إِنَّ تَلَامِيذَهُ لَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُوهُ إِلَّا بَعْدَ تَفْسِيرِهِ، وَلَقَدْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ يَتَأَخَّرُ أَحْيَانًا إِلَى أَمَدٍ بَعِيدٍ، وَلَفْظُ " ابْنِ اللهِ " أُطْلِقَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِ فَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا. أَمَّا هَذِهِ
النَّزَعَاتُ الْوَثَنِيَّةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى الدِّينِ فَقَدْ دَخَلَتْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ لِوَاضِعِيهَا سَنَدٌ مِنْ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا يُرَوِّجُونَهَا بِأَقْيِسَةٍ بَاطِلَةٍ جَرَى عَلَيْهَا كَثِيرٌ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ كَقَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى [39: 3] وَقَوْلِهِمْ: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ [10: 18] قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ قَرَّرَتْ وَحْدَانِيَّةَ الْأُلُوهِيَّةِ وَوَحْدَانِيَّةَ الرُّبُوبِيَّةِ، فَأَمَّا وَحْدَانِيَّةُ الْأُلُوهِيَّةِ فَهِيَ قَوْلُهُ: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَأَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَالْإِلَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي تُولَهُ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَتَدْعُوهُ وَتَصْمُدُ إِلَيْهِ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ السُّلْطَةَ الْغَيْبِيَّةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا وَحْدَانِيَّةُ الرُّبُوبِيَّةِ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَالرَّبُّ: هُوَ السَّيِّدُ الْمُرَبِّي الَّذِي يُطَاعُ فِيمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى، وَالْمُرَادُ هُنَا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّشْرِيعِ
وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ [9: 31] فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، فَقَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَيُحَرِّمُونَ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّونَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى. وَسُئِلَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه عَنِ الْآيَةِ؟ فَأَجَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْيَهُودُ مُوَحِّدِينَ وَلَكِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ هُوَ مَنْبَعُ شَقَائِهِمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَهُوَ اتِّبَاعُ رُؤَسَاءِ الدِّينِ فِيمَا يُقَرِّرُونَهُ وَجَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْكَامِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَجَرَى النَّصَارَى عَلَى ذَلِكَ وَزَادُوا مَسْأَلَةَ غُفْرَانِ الْخَطَايَا، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ حَتَّى ابْتَلَعَتْ بِهَا الْكَنَائِسُ أَكْثَرَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهَا وُلِدَتْ مَسْأَلَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا: هَلُمَّ بِنَا نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَابَ مِنْ دُونِ اللهِ وَنَأْخُذَ الدِّينَ مِنْ كِتَابِهِ لَا نُشْرِكَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ.
قَالَ - تَعَالَى -: فَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللهِ بِاتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ وُسَطَاءَ وَشُفَعَاءَ وَاتِّخَاذِ الْأَرْبَابِ الَّذِينَ يُحِلُّونَ لَهُمْ وَيُحَرِّمُونَ فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ نَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينُ لَا نَدْعُو سِوَاهُ وَلَا نَتَوَجَّهُ إِلَى غَيْرِهِ فِي طَلَبِ نَفْعٍ وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ، وَلَا نُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ وَلَا نُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ أَحَدٍ مَا لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى الْمَعْصُومِ. أَقُولُ: يَعْنِي فِي مَسَائِلِ الدِّينِ الْبَحْتَةِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، أَمَّا الْمَسَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ كَالْقَضَاءِ وَالسِّيَاسَةِ فَهِيَ مُفَوَّضَةٌ بِأَمْرِ اللهِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ رِجَالُ الشُّورَى مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَمَا يُقَرِّرُونَهُ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُنَفِّذُوهُ وَعَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَقْبَلُوهُ.
فَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَخْذِ بِآرَاءِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
هُوَ عَيْنُ مَا أَنْكَرَهُ كِتَابُ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَجَعَلَهُ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ، بَلْ جَعَلَ مُخَالَفَتَهُمْ فِيهِ هِيَ عَيْنَ الْإِسْلَامِ فَلْيَعْتَبِرِ الْمُعْتَبِرُونَ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسَاسُ الدِّينِ الْمَتِينِ وَأَصْلُهُ الْأَصِيلُ ; وَلِذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهَا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ
كَمَا ثَبَتَ فِي كُتُبِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَالْمُقَوْقِسِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذَا نَصُّ كِتَابِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ عَاهِلِ الرُّومِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.
" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا ".
فَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعَمُودُهُ لَمَا جَعَلَهَا آيَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ أَدْخَلَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا فَاتَّخَذَ لَهُ أَنْدَادًا يَدْعُوهُمْ لِكَشْفِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ زَاعِمًا أَنَّهُمْ وَسَائِطُ يُقَرِّبُونَهُ إِلَى زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَهَذَا عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالِاجْتِهَادِ الْبَاطِلِ، وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي يُشَبِّهُ بِهِ الْخَبِيرَ الْعَلِيمَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِالْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ وَالْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا قِيَاسَ فِي أَصْلِ الْإِيمَانِ، أَمْ هَلْ يُعْذَرُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَا إِذَا هُوَ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ أَرْبَابًا سَمَّاهُمُ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ، أَوِ الْأَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَجَعَلَ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَشَرْعًا مُتَّبَعًا فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْإِشْرَاكِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ هِدَايَةِ الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ الْمُؤَيَّدَةِ بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ [42: 20] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [16: 166] فَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ حَدَّ الْحُدُودَ وَبَيَّنَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِنَا غَيْرَ نِسْيَانٍ مِنْهُ عز وجل، وَنَهَانَا نَبِيُّهُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ وَأَنْ نَزِيدَ فِي الدِّينِ بِرَأْيِنَا وَاجْتِهَادِنَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَنَا الِاجْتِهَادَ لِاسْتِنْبَاطِ مَا تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُنَا فِي الدُّنْيَا، فَهَذَا هُوَ هَدْيُ الْآيَةِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ الْمُتَكَرِّرِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا نَصْرَانِيًّا، فَأَنْزَلَ اللهُ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ
لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ الْآيَةَ. كَذَا فِي لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَقُولُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِمُ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِإِجْلَالِهِمْ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَعَلَى آلِهِ - مَوْضِعَ إِجْلَالِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ لِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعَهْدِ الْعَتِيقِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تُجِلُّهُ وَتَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى دِينِهِ، فَأَرَادَ - تَعَالَى - أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ جَمِيعًا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ الَّذِي كَانُوا يُجِلُّونَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَقَالِيدِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدْعُوهُمْ هُوَ إِلَيْهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -، فَبَدَأَ بِالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ فَإِذَا كَانَ الدِّينُ الْحَقُّ لَا يَعْدُو التَّوْرَاةَ كَمَا تَقُولُونَ أَيُّهَا الْيَهُودُ، أَوْ لَا يَتَجَاوَزُ الْإِنْجِيلَ كَمَا تَقُولُونَ أَيُّهَا النَّصَارَى، فَكَيْفَ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْحَقِّ وَاسْتَوْجَبَ ثَنَاءَكُمْ وَثَنَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ! ! فَإِنْ خَطَرَ فِي بَالِكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّ عَلَى الْقُرْآنِ فَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعِي إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ.
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مَا، وَهُوَ خَبَرُ عِيسَى فَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي الْإِفْرَاطِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ إِلَهٌ، وَمِنْكُمْ مَنْ غَلَا فِي التَّفْرِيطِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ دَعِيٌّ كَذَّابٌ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُكُمُ الْقَلِيلُ بِهِ عَاصِمًا لَكُمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَهُوَ كَوْنُ إِبْرَاهِيمَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا! أَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَبَّعُوا فِيهِ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا أَيْ مَائِلًا عَنْ كُلِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ مُسْلِمًا وَجْهَهُ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - وَحْدَهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَالطَّاعَةَ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْحُنَفَاءَ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَهَذَا مِنَ الِاحْتِرَاسِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَدْعُونَ الْعَرَبَ بِالْحُنَفَاءِ، حَتَّى صَارَ الْحَنِيفُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الْوَثَنِيِّ الْمُشْرِكِ، فَلَمَّا وَافَقَهُمُ الْقُرْآنُ عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَنِيفِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، احْتَرَسَ عَمَّا يُوهِمُهُ
الْإِطْلَاقُ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَهُمْ، فَصَارَ مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْمُتَّفَقَ عَلَى إِجْلَالِهِ وَادِّعَاءِ دِينِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمِلَلِ الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلَّةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ كَانَ مَائِلًا عَنْ مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ وَالتَّقَالِيدِ مُسْلِمًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُسْلِمًا أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ - مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ مِنْ بَعْدِهِ كَمَا كَانَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنْ بَعْدِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ مُتَحَقِّقًا بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ [3: 19] وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَسْتَطِيعُ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهُ ; فَإِنَّ مَا فِي كُتُبِهِمْ عَنْ إِبْرَاهِيمَ لَا يَعْدُوهُ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَدْعُوهُمْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَقَدْ نَسِيَ أَكْثَرُ
الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ مَعْنَى الْإِسْلَامِ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الْقُرْآنُ، وَجَمَدُوا عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ لَهُ فَجَعَلُوهُ جِنْسِيَّةً غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً رُوحِيَّةً، وَمَا كَانَ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُ كَذَلِكَ.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ أَيْ أَجْدَرَهُمْ بِوِلَايَتِهِ وَأَحْرَاهُمْ بِمُوَافَقَتِهِ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي عَصْرِهِ وَأَجَابُوا دَعْوَتَهُ فَاهْتَدَوْا بِهَدْيِهِ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ الْمُخْلَصِ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ اتِّخَاذُ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا التَّوَسُّلُ بِالْوُسَطَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَأَهْلُ الْإِخْلَاصِ فِي الْأَعْمَالِ الَّذِي لَا يُبْطِلُهُ شِرْكٌ وَلَا رِيَاءٌ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الْإِسْلَامِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِيمَانِ، فَمَنْ فَاتَهُ فَقَدَ فَاتَهُ الدِّينُ كُلُّهُ لَا تُغْنِي عَنْهُ التَّقَالِيدُ وَالرُّسُومُ وَلَا تَنْفَعُهُ الْوُسَطَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [26: 88، 89] بِأَخْذِهِ بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي شُرِعَ لِتَنْقِيَةِ الْقُلُوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَإِعْدَادِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الْأُخْرَى وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ فِي كَشْفِ ضُرٍّ وَلَا طَلَبِ نَفْعٍ فَهُوَ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ وَيُصْلِحُ شُئُونَهُمْ، وَيَتَوَلَّى إِثَابَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ تَأْثِيرِ الْإِسْلَامِ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. فَنَسْأَلُهُ - تَعَالَى - أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْجُمُودِ عَلَى التَّقَالِيدِ الظَّاهِرَةِ الْغَافِلِينَ عَنْ رُوحِ الْإِسْلَامِ الْمَفْتُونِينَ بِاتِّخَاذِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ هَذَا وَلَيْسَ عِنْدَنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ شَيْءٌ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قُلْنَاهُ مُوَافِقٌ لِطَرِيقَتِهِ.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَعْدَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَالْأَنْبِيَاءُ لِبَيَانِ حَالِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْيَهُودَ دَعَوْا مُعَاذًا وَحُذَيْفَةَ وَعَمَّارًا إِلَى دِينِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ سَوَاءٌ دَعَوْا بَعْضَ الصَّحَابَةِ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ لَا، وَلَيْسَ الْإِضْلَالُ خَاصًّا بِالدَّعْوَةِ، بَلْ كَانُوا يُلْقُونَ ضُرُوبًا مِنَ الشَّكِّ فِي النُّفُوسِ لِيَصُدُّوهَا عَنِ الْإِسْلَامِ، مِنْ أَغْرَبِهَا مَا فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ (72) وَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مُسْتَمِرًّا وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وَقْتِ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ حَالِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُضِلَّةِ: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ بِتَوَجُّهِهِمْ إِلَى الْإِضْلَالِ وَاشْتِغَالِهِمْ بِهِ يَنْصَرِفُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي طُرُقِ الْهِدَايَةِ وَمَا أُوتِيَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا هَادِيًا، فَهُمْ يَعْبَثُونَ بِعُقُولِهِمْ وَيُفْسِدُونَ فِطْرَتَهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ إِنَّ مَعْنَى إِضْلَالِ أَنْفُسِهِمْ هُوَ كَوْنُ عَاقِبَتِهِ شَرًّا عَلَيْهِمْ وَوَبَالًا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُحَاجَّةِ وَبَيَانِ
اعْوِجَاجِ طَرِيقَةِ الْمُضِلِّينَ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْإِضْلَالِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ هُنَا فِي الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ إِنْذَارٌ لِغَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالنَّذِيرِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
أَقُولُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الرَّازِيُّ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَوَجْهًا ثَالِثًا هُوَ: أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَهَدُوا فِي إِضْلَالِ الْمُؤْمِنِينَ - ثُمَّ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِمْ - صَارُوا خَائِبِينَ خَاسِرِينَ، حَيْثُ اعْتَقَدُوا شَيْئًا وَلَاحَ لَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا تَصَوَّرُوهُ. وَلَكِنْ يُنَافِي هَذَا قَوْلَهُ: وَمَا يَشْعُرُونَ وَهُمْ قَدْ شَعَرُوا بِخَيْبَتِهِمْ فِي الْإِضْلَالِ، وَلَكِنَّهُمْ لِانْهِمَاكِهِمْ فِيهِ لَمْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَارِفًا لَهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْهُدَى ; لِأَنَّ الْمُنْهَمِكَ فِي الشَّيْءِ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِعَوَاقِبِهِ وَآثَارِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ - تَعَالَى - نَادَاهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ حَقِيقَةَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ لَعَلَّهُمْ يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَنْفُسِهِمُ الَّتِي شُغِلُوا عَنْهَا بِمُحَاوَلَةِ إِضْلَالِ غَيْرِهِمْ فَقَالَ: يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ذَهَبَ الرَّازِيُّ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى الطَّائِفَةِ الْعَارِفَةِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَا قَبْلَهَا مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ الْعَارِفِينَ بِذَلِكَ، فَآيَاتُ اللهِ عَلَى هَذَا هِيَ الْبِشَارَاتُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ وَمِثْلُهَا بِشَارَاتُ الْإِنْجِيلِ، وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ، وَالْكُفْرُ بِهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْخِطَابَ هُنَا مُوَجَّهٌ إِلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْآيَاتُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَقِّيَّةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَشْهَدُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعْنًى وَحِسًّا، وَفِي الِاسْتِفْهَامِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهُمْ وَالنَّعْيِ عَلَيْهِمْ مَا يَلِيقُ بِمَنْ يُكَابِرُ الْوُجُودَ وَيَجْحَدُ الْمَشْهُورَ.
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أَيْ تَخْلِطُونَ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللهِ وَحْدَهُ وَعَمَلُ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ وَالْبِشَارَةِ بِنَبِيٍّ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُعَلِّمُ النَّاسَ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، لِمَ تَخْلِطُونَ هَذَا بِالْبَاطِلِ الَّذِي أَلْحَقَهُ بِهِ أَحْبَارُكُمْ وَرُهْبَانُكُمْ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ وَالْآرَاءِ، وَتَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَيُحْسَبُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى تَأْتِي: وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ [3: 78] فَلُبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، وَقِيلَ هُوَ خَاصٌّ بِالْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ. وَقَوْلُهُ: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ خَاصٌّ بِالْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا عَامٌّ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُمُونَ بَعْضَ
الْأَحْكَامِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، فَيَجْعَلُونَ الْكِتَابَ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا، وَيَأْكُلُونَ بِذَلِكَ السُّحْتَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَالْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْحَشْوِيَّةِ الْمُقَلِّدِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَخْلِطُونَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ بِآرَاءِ النَّاسِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ ذَلِكَ دِينًا سَمَاوِيًّا وَشَرْعًا إِلَهِيًّا.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّيْفِ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ غُدْوَةً وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيَّةً حَتَّى نُلَبِّسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ فَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
أَقُولُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ لِبَعْضٍ: " أَعْطُوهُمُ الرِّضَا بِدِينِهِمْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُصَدِّقُوكُمْ، وَيَعْلَمُوا أَنَّكُمْ قَدْ رَأَيْتُمْ فِيهِ مَا تَكْرَهُونَ، وَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ دِينِهِمْ " وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: " كَانَ أَحْبَارُ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَيْ عَشَرَ حَبْرًا فَقَالُوا لِبَعْضِهِمْ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ وَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ فَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ فَمَا بَالُهُمْ "؟ فَأَخْبَرَ اللهُ عز وجل رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَ حَدِّ الْقَوْلِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " يَهُودٌ صَلَّتْ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَكَفَرُوا آخِرَ النَّهَارِ مَكْرًا مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاسَ أَنْ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ مِنْهُ الضَّلَالَةُ بَعْدَ أَنْ كَانُوا اتَّبِعُوهُ ".
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا النَّوْعُ الَّذِي تَحْكِيهِ الْآيَةُ مِنْ صَدِّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ طَبِيعِيَّةٍ فِي الْبَشَرِ، وَهِيَ أَنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْحَقِّ أَلَّا يَرْجِعَ عَنْهُ مَنْ يَعْرِفُهُ، وَقَدْ فَقِهَ هَذَا
هِرَقْلُ صَاحِبُ الرُّومِ فَكَانَ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ أَبَا سُفْيَانَ مِنْ شُئُونِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَمَا دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ: " هَلْ يَرْجِعُ عَنْهُ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا " وَقَدْ أَرَادَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ أَنْ تَغُشَّ النَّاسَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ لِيَقُولُوا: لَوْلَا أَنْ ظَهَرَ لِهَؤُلَاءِ بُطْلَانُ الْإِسْلَامِ لَمَا رَجَعُوا عَنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلُوا فِيهِ، وَاطَّلَعُوا عَلَى بَاطِنِهِ وَخَوَافِيهِ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَيَرْغَبَ عَنْهُ بَعْدَ الرَّغْبَةِ فِيهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ رَغْبَةً لَا حِيلَةً وَمَكِيدَةً كَمَا كَادَ هَؤُلَاءِ. فَمَاذَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ رَغْبَةً فِيهِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ وَخَابَ ظَنُّهُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِلَّا لِتَخْوِيفِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يُدَبِّرُونَ الْمَكَايِدَ لِإِرْجَاعِ النَّاسِ عَنِ الْإِسْلَامِ بِالتَّشْكِيكِ فِيهِ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَكَايِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَثَرٌ فِي نُفُوسِ الْأَقْوِيَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَصَلُوا فِيهِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَخْدَعُ الضُّعَفَاءَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْوَثَنِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَ أَنْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ بِالْإِيمَانِ، كَالَّذِينِ كَانُوا يُعْرَفُونَ بِالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ; وَبِهَذَا يَتَّفِقُ الْحَدِيثُ الْآمِرُ بِذَلِكَ مَعَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لِلْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْمُنْكِرَةِ لَهُ - فِيمَا أَرَى - وَقَدْ أَفْتَيْتُ بِذَلِكَ كَمَا يَظْهَرُ لِي وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْكَائِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَآمَنَ لَهُ: صَدَّقَهُ وَسَلَّمَ لَهُ مَا يَقُولُ. قَالَ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [29: 26] وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [12: 17] .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ إِذَا أُرِيدَ بِالتَّصْدِيقِ الثِّقَةَ وَالرُّكُونَ، كَقَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [9: 61] أَيْ فَيَكُونُ تَصْدِيقًا خَاصًّا تَضَمَّنَ مَعْنًى زَائِدًا.
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ حَصَرُوا الثِّقَةَ بِأَنْفُسِهِمْ لِزَعْمِهِمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِيهِمْ، بَلْ غَلَوْا فِي التَّعَصُّبِ وَالْغُرُورِ حَتَّى حَقَّرُوا جَمِيعَ النَّاسِ فَجَعَلُوا كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَسَنًا وَمَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِمْ قَبِيحًا، وَهَذَا مِنَ الِانْتِكَاسِ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ، وَإِنَّنَا نَرَى مِنَ النَّاسِ الْيَوْمَ مَنْ يُحَاوِلُ تَغْرِيرَ قَوْمِهِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ يُحَقِّرُونَ كُلَّ مَا لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ،
وَعَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ هَؤُلَاءِ بِمَا رَدَّ اللهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذْ قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ لَا هُدَى شَعْبٍ مُعَيَّنٍ هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - يُبَيِّنُ هُدَاهُ عَلَى لِسَانِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لَا تَتَقَيَّدُ مَشِيئَتُهُ بِأَحَدٍ وَلَا بِشَعْبٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ وَقَدْ قَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ " أَآنَ " بِهَمْزَتَيْنِ مَعَ تَلْيِينِ الثَّانِيَةِ، وَالْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا حَكَاهُ - تَعَالَى - مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ، وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مَا سَبَقَهُ. وَالْمَعْنَى: وَلَا تُصَدِّقُوا غَيْرَ مَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ بِأَنَّ أَحَدًا يُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَوْ يُقِيمُوا عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ عِنْدَ رَبِّكُمْ، أَيْ لَا تَعْتَرِفُوا أَمَامَ الْعَرَبِ - مَثَلًا - بِأَنَّكُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْعَثَ نَبِيٌّ مِنْ غَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَخْ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ جَوَازَ بِعْثَةِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ مُكَابَرَةً وَعِنَادًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا اعْتِقَادًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَرِّحُونَ بِاعْتِقَادِهِمُ الْمُسْتَكِنِّ فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا لِمَنْ آمَنُوا لَهُ مِنْ قَوْمِهِمْ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْمُخَادَعَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ. هَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَهُوَ نَحْوُ مَا جَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ كَمَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَالَ: أَيْ وَلَا تُظْهِرُوا إِيمَانَكُمْ بِأَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ إِلَّا لِأَهْلِ دِينِكُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَرَادُوا: أَسِرُّوا تَصْدِيقَكُمْ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أُوتُوا مِنْ كُتُبِ اللهِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُفْشُوهُ إِلَّا إِلَى أَشْيَاعِكُمْ وَحْدَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَزِيدَهُمْ ثَبَاتًا، وَدُونَ الْمُشْرِكِينَ لِئَلَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. (قَالَ) : أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عَطْفٌ عَلَى أَنْ يُؤْتَى وَالضَّمِيرُ فِي يُحَاجُّوكُمْ لِأَحَدٍ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، بِمَعْنَى: وَلَا تُؤْمِنُوا لِغَيْرِ أَتْبَاعِكُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُحَاجُّونَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَقِّ وَيُغَالِبُونَكُمْ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - بِالْحُجَّةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى الِاعْتِرَاضِ؟ قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ مَنْ شَاءَ أَنْ يَلْطُفَ بِهِ حَتَّى يُسْلِمَ أَوْ يَزِيدَ ثَبَاتُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ كَانَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْ كَيْدُكُمْ وَحِيَلُكُمْ وَزَيْفُكُمْ تَصْدِيقُكُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ يُرِيدُ الْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أَيْ فَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِلِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ، أَوْ هُوَ اعْتِرَاضٌ آخَرُ يَجِيءُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ.
كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [27: 34] بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا.
قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ إِنَّ جِدَّ الْقَوْمِ فِي حِفْظِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْ قَبُولِ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَعْظَمَ مِنْ جِدِّهِمْ فِي حِفْظِ غَيْرِ أَتْبَاعِهِمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْإِقْرَارِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَانِبِ؟ فَالْجَوَابُ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّهْيَ بِإِفْشَاءِ هَذَا التَّصْدِيقِ فِيمَا بَيْنَ أَتْبَاعِهِمْ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ إِنِ اتَّفَقَ مِنْكُمْ تَكَلُّمٌ بِهَذَا فَلَا يَكُنْ إِلَّا عِنْدَ خُوَيِّصَتِكُمْ وَأَصْحَابِ أَسْرَارِكُمْ، عَلَى أَنْ يُحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَائِعًا، وَلَكِنَّ الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكِتْمَانِ عَنْ غَيْرِهِمْ. هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِيمَانِ إِظْهَارُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ عَنِ تَصْدِيقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ ; أَيْ الِاعْتِرَافُ لَهُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قَالَ لَكُمْ قَائِلٌ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَى غَيْرُكُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ فَكَذِّبُوهُ وَلَا تُؤْمِنُوا لَهُ، وَالْمَفْهُومُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَهُوَ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ، فِيهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْأُصُولِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَإِذَا قُلْنَا بِهِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِأَنْ يُؤْمِنُوا لِبَعْضِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِذَا قَالُوا بِهَذَا الْجَوَازِ كَالْمُتَّفِقِينَ مَعَهُمْ عَلَى
الْمُكَابَرَةِ وَالْمُكَايَدَةِ لِلتَّنْفِيرِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَهْلُ الْجَحُودِ وَالْكَيْدِ لَا يُكَابِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا هُوَ حُجَّةٌ لِلْمُخَالِفِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا يُكَابِرُونَ الْمُخَالِفِينَ.
ثُمَّ قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ: فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَقَعَ قَوْلُهُ: قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ بَيْنَ جُزْئَيْ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ؟ قُلْتُ: قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامًا أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ عِنْدَمَا وَصَلَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، كَأَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلًا بَاطِلًا لَا جَرَمَ، أَدَّبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُقَابِلَهُ بِقَوْلٍ حَقٍّ ثُمَّ يَعُودَ إِلَى حِكَايَةِ تَمَامِ كَلَامِهِمْ ; كَمَا إِذَا حَكَى الْمُسْلِمُ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ قَوْلًا فِيهِ كُفْرٌ فَيَقُولُ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ: آمَنْتُ بِاللهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَوْ تَعَالَى اللهُ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى تِلْكَ الْحِكَايَةِ. اهـ.
أَقُولُ: وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمَحْذُوفَةُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى لِلسَّبَبِيَّةِ وَيَكُونَ الْمَعْنَى: آمِنُوا وَجْهَ النَّهَارِ مُخَادَعَةً وَاكْفُرُوا آخِرَهُ مُكَايَدَةً، وَلَا تُؤْمِنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا ثَابِتًا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَأَقَرَّكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِسَبَبِ إِتْيَانِ أَحَدٍ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ، أَوْ بِسَبَبِ مَا يُخْشَى مِنْ مُحَاجَّتِهِ
لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَالسَّبَبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِالنَّهْيِ، أَيْ لَا يَكُنْ إِتْيَانُ مُحَمَّدٍ بِدِينٍ حَقٍّ وَشَرْعٍ إِلَهِيٍّ كَالَّذِي أُوتِيتُمُوهُ عَلَى لِسَانِ مُوسَى سَبَبًا فِي الْإِيمَانِ لَهُ.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ بِالِاسْتِفْهَامِ: فَأَقْرُبُ مَا تُفَسَّرُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ - أَيْ وَجْهِ كَوْنِ الْكَلَامِ حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ - أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ وَالْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى: أَإِتْيَانُ أَحَدٍ بِمِثْلِ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْ دِينَكُمْ؟ أَيْ إِنَّ هَذَا مُنْكَرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا وَلَا مَا قَبْلَهُ لِأَحَدٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ مِنْ كَلَامِ اللهِ - تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّ حِكَايَةَ كَلَامِ الْيَهُودِ قَدِ انْتَهَتْ بِقَوْلِهِ: دِينَكُمْ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ أَظْهَرَ. وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا: أَتَكِيدُونَ هَذَا الْكَيْدَ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مَا أُوتِيتُمْ؟ أَوْ: أَإِيتَاءُ أَحَدٍ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَحْمِلُكُمْ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ؟ وَيُحْتَمَلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بِمَعْنَى حَتَّى يُحَاجُّوكُمْ، إِذْ وَرَدَتْ (أَوْ) بِمَعْنَى " حَتَّى " أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا قِيلَ. أَوِ التَّقْدِيرُ: أَلِأَجْلِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَمَّا يَتَّصِلْ بِذَلِكَ مُحَاجَّتُكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ كِدْتُمْ ذَلِكَ الْكَيْدَ؟ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ يَجُوزُ حَذْفُهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِلَحْنِ الْقَوْلِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ. وَيَجُوزُ فِيهَا وُجُوهٌ أُخْرَى أَظْهَرُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: قُلْ إِنَّ الْهُدَى الَّذِي هُوَ هُدَى اللهِ هُوَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ وَذَلِكَ جَائِزٌ دَاخِلٌ فِي مَشِيئَةِ اللهِ فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ ; وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ فَالْكَلَامُ كُلُّهُ رَدٌّ عَلَيْهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -.
وَأَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّ الْهُدَى إِلَى آخِرِ الْآيَةِ
رَدٌّ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ يُؤْتَى اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَتَفْعَلُونَ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ عَنْ غَيْرِ أَبْنَاءِ دِينِكُمْ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ. . . إِلَخْ. وَعِنْدِي أَنَّ فِي الْكَلَامِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا وَهُوَ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوا هُوَ سَبَبُ كَيْدِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَرْجِعُوا وَكَرَاهَتُهُمْ أَنْ يُحَاجَّهُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ هُوَ سَبَبُ كِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ عَمَّنْ لَمْ يَتْبَعْ
دِينَهُمْ أَوْ عَدَمِ الْإِيمَانِ لَهُمْ إِذَا هُمُ ادَّعَوْهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْأَخِيرِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْهُمْ: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [2: 76] هَذَا مَا فَتَحَ اللهُ عَلَيَّ بِهِ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَمَا عَدَا هَذَا مِمَّا أَكْثَرُوا فِيهِ فَانْتِزَاعٌ بَعِيدٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ إِلَّا بِاسْتِكْرَاهٍ وَتَكَلُّفٍ، وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ لِبَيَانِ سِعَةِ فَضْلِهِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِالْمُسْتَحِقِّ لَهُ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْيَهُودَ قَدْ ضَيَّقُوا بِزَعْمِهِمْ حَصْرَ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ - هَذَا الْفَضْلُ الْوَاسِعُ - وَجَهِلُوا كُنْهَ هَذَا الْعِلْمِ الْمُحِيطِ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ فَضْلَهُ الْوَاسِعَ وَرَحْمَتَهُ الْعَامَّةَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ لَا لِوَسَاوِسِ الْمَغْرُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ حَجَرُوهُمَا بِجَهْلِهِمْ فَقَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فَهُوَ يَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ نَبِيًّا وَيَبْعَثُهُ رَسُولًا، وَمَنِ اخْتَصَّهُ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا يَخْتَصُّهُ بِمَحْضِ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ لَا بِعَمَلٍ قَدَّمَهُ، وَلَا لِنَسَبٍ شَرَّفَهُ وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ - تَعَالَى - يُحَابِي الْأَفْرَادَ أَوِ الشُّعُوبَ بِذَلِكَ وَبِغَيْرِهِ، - تَعَالَى - اللهُ عَنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
هَذَا بَيَانُ حَالٍ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، تُمَثِّلُهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى تَخُونُ الْأَمَانَةَ وَتَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ غُرُورًا فِي الدِّينِ وَتَأْوِيلًا لِلْكِتَابِ. وَهِيَ قَدْ جَاءَتْ فِي مُقَابِلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ لِيَرْجِعُوا
عَنْ دِينِهِمْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَخْ. هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ بِبَعْضِ التَّفْصِيلِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ غُرُورِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْخَاصِّ، وَأَنَّ الدِّينَ وَالْحَقَّ مِنْ خَصَائِصِهِمْ. وَابْتِدَاؤُهَا بِالْعَطْفِ يُشْعِرُ بِمَعْطُوفٍ مَحْذُوفٍ حُذِفَ إِيجَازًا، لِأَنَّ السِّيَاقَ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَهُ وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ [3: 113] إِلَخْ. فَكَأَنَّهُ هَاهُنَا يَعْطِفُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، أَيْ مِنْهُمْ كَذَا وَمِنْهُمْ كَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ: كَأَنَّهُ؛ لِأَنَّ آيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. . . إِلَخْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَعَلَّ جَعْلَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ أَقْرَبُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ طَائِفَةٌ تَكِيدُ لِلْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ أَكْلَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ آنِفًا وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَمْ يَبْتَدِئِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ:" وَمِنْهُمْ " - وَالْكَلَامُ فِيهِمْ - لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِاسْمِ الْكِتَابِ الَّذِي حَرَّفُوا نَهْيَهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَنْهَهُمْ إِلَّا عَنْ خِيَانَةِ إِخْوَتِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْقِنْطَارِ (آيَةُ 14) وَقَوْلُهُ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا مَعْنَاهُ إِلَّا مُدَّةَ دَوَامِكَ أَيُّهَا الْمُؤْتَمِنُ لَهُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ تُلِحُّ بِالْمُطَالَبَةِ، أَوْ تَلْجَأُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْمُحَاكَمَةِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أَيْ ذَلِكَ التَّرْكُ لِلْأَدَاءِ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَكْلِ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ أَيِ الْعَرَبِ تَبِعَةٌ وَلَا ذَنْبٌ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اسْتِحْلَالَ هَذِهِ الْخِيَانَةِ جَاءَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ بِشَعْبِهِمْ وَالْغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ احْتِقَارَ الْمُخَالِفِ احْتِقَارًا يُهْضَمُ بِهِ حَقُّهُ الثَّابِتُ فِي الْمُعَامَلَةِ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ شَعْبِ اللهِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ فَهُوَ سَاقِطٌ مِنْ نَظَرِ اللهِ وَمَبْغُوضٌ عِنْدَهُ، فَلَا حُقُوقَ لَهُ وَلَا حُرْمَةَ لِمَا لَهُ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ مَتَى أَمْكَنَ، وَقَدْ رَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَزَاعِمَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فَهُوَ مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِ وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ الَّتِي عِنْدَهُمْ إِبَاحَةُ خِيَانَةِ الْأُمِّيِّينَ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ الدِّينَ مِنَ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا لَجَئُوا إِلَى التَّقْلِيدِ فَعَدُّوا كَلَامَ أَحْبَارِهِمْ دِينًا يَنْسُبُونَهُ إِلَى اللهِ،
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي الدِّينِ بِآرَائِهِمْ وَيُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ لِيُؤَيِّدُوا بِذَلِكَ أَقْوَالَهُمْ، فَكُلُّ هَذِهِ الدَّوَاهِي جَاءَتْهُمْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ، نَاحِيَةِ التَّقْلِيدِ وَالْأَخْذِ بِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ فِيهِ إِلَّا بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ. وَانْظُرْ كَيْفَ أَنْصَفَهُمُ الْكِتَابُ فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمُ الْوَفِيَّ وَالْخَائِنَ، وَلَا يَكُونُ أَفْرَادُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ خَائِنِينَ، وَنَاهِيكَ بِأُمَّةٍ مِنْهَا السَّمَوْأَلُ.
أَقُولُ: وَفِي خَبَرِ هَؤُلَاءِ الْمُحَرِّفِينَ مِنَ الْعِبْرَةِ لَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَا فِيهِ، فَإِنَّ فِينَا مَنْ يَقُولُ الْآنَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَكْلُ أَمْوَالِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ بَلِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُفَسِّرُونَ دَارَ الْحَرْبِ - كَمَا يَشَاءُونَ - حَتَّى رَأَيْتُ بَعْضَ النَّاسِ يُحِلُّونَ لِعُمَّالِ مَرْكَبَاتِ التِّرَامِ بِمِصْرَ أَنْ يَخُونُوا أَصْحَابَهَا بِبَيْعِ تَذْكِرَةِ الرُّكُوبِ فِيهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَيُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنِ اسْتَلْزَمَتْ مُسَاعَدَتُهُمُ الْكَذِبَ، فَهُمْ بِهَذَا يُحِلُّونَ الْخِيَانَةَ وَالسَّرِقَةَ وَالْكَذِبَ وَهِيَ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دِينٍ، وَيَتَنَاوَلُهُمْ وَعِيدُ الْيَهُودِ فِي الْآيَةِ وَوَعِيدُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [16: 116، 117] وَمَا جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا سُوءُ التَّقْلِيدِ لِلْفُقَهَاءِ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ أَكْلِ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالرِّبَا وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءَ لَا يُحِلُّونَ الْغِشَّ وَلَا الْخِيَانَةَ وَلَا السَّرِقَةَ وَلَا الْكَذِبَ وَالِاحْتِيَالَ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ يَجُوزُ أَكْلُ مَالِهِ بِرِضَاهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْعُقُودِ، عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافِيَّةٌ لَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَيْهَا. فَلْيَنْظُرِ الْمُسْلِمُ الصَّادِقُ الْمُسْتَنِيرُ بِالدَّلِيلِ إِلَى سُوءِ مَغَبَّةِ التَّقْلِيدِ وَكَيْفَ أَنَّهُ اسْتَلْزَمَ الِاجْتِهَادَ الْبَاطِلَ إِذْ صَارَ الْجَاهِلُونَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَقِيسُونَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ عَلَى أَكْلِهِ بِالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مَعَ التَّرَاضِي، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ عَظِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى - فِي بَيَانِ الْحَقِّ فِي الْمُعَامَلَةِ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الْعَهْدُ: مَا تَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِهِ لِغَيْرِكَ، فَإِذَا اتَّفَقَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَقُومَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ بِشَيْءٍ مُقَابَلَةً وَمُجَازَاةً يُقَالُ: إِنَّهُمَا تَعَاهَدَا، وَيُقَالُ: عَاهَدَ فُلَانٌ فُلَانًا عَهْدًا فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعُقُودُ الْمُؤَجَّلَةُ وَالْأَمَانَاتُ، فَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقْرَضَكَ مَالًا إِلَى
أَجَلٍ أَوْ بَاعَكَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَجَبَ عَلَيْكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءُ حَقِّهِ إِلَيْهِ فِي وَقْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُلْجِئَهُ إِلَى التَّقَاضِي وَالْإِلْحَاحِ فِي الطَّلَبِ، بِذَلِكَ تَقْتَضِي الْفِطْرَةُ وَتُحَتِّمُهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِثَالُ الْعَهْدِ مَعَ النَّاسِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ لِلرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَمْ يَجْعَلُوا الْعَهْدَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَجَبَ الْوَفَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ إِسْرَائِيلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيٍّ فَلَا عَهْدَ لَهُ وَلَا حَقَّ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْإِطْلَاقِ عَهْدُ اللهِ - تَعَالَى - وَهُوَ مَا يَلْتَزِمُ الْمُؤْمِنُ الْوَفَاءَ لَهُ بِهِ مِنَ اتِّبَاعِ دِينِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَعَهِدَ لِلنَّاسِ الْعَمَلَ بِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْيَهُودِ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُوفُونَ بِهَذَا الْعَهْدِ مَعَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلَوْ أَوْفَوْا بِهِ لَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا أَوْصَاهُمُ اللهُ وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عليه السلام.
وَلَفْظُ (بَلَى) جَاءَ لِإِثْبَاتِ مَا نَفَوْهُ فِي قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَهُوَ يَقُولُ: بَلَى عَلَيْكُمْ سَبِيلٌ وَأَيُّ سَبِيلٍ ; إِذْ فُرِضَ عَلَيْكُمُ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَالتَّقْوَى، ثُمَّ ذَكَرَ جَزَاءَ أَهْلِ الْوَفَاءِ
وَالتَّقْوَى فَقَالَ: مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللهَ أَوِ النَّاسَ وَاتَّقَى الْإِخْلَافَ وَالْغَدْرَ وَالِاعْتِدَاءَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّهُ فَيُعَامِلُهُ الْمَحْبُوبُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ وُرُودَ الْجَوَابِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَفَادَنَا قَاعِدَةً عَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَهِيَ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعُهُودِ وَاتِّقَاءَ الْإِخْلَافِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا هُوَ الَّذِي يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ رَبِّهِ وَيَجْعَلُهُ أَهْلًا لِمَحَبَّتِهِ لَا كَوْنُهُ مِنْ شَعْبِ كَذَا، وَمِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يُعْلَمُ خَطَأُ الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَفِيهِ التَّعْرِيضُ بِأَنَّ أَصْحَابَ هَذَا الرَّأْيِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الرَّكِينُ لِكُلِّ دِينٍ قَوِيمٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ - تَعَالَى - جَزَاءَ أَهْلِ الْغَدْرِ وَالْإِخْلَافِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ الَّذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَشْعَثَ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: " أَحْلِفُ "
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَنْ يَحْلِفُ فَيَذْهَبُ مَالِي، فَأَنْزَلَ اللهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنْ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَةً لَهُ فِي السُّوقِ فَحَلَفَ بِاللهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِعَ فِيهَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّزُولَ كَانَ بِالسَّبَبَيْنِ مَعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ وَحَلَفُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ وَلَكِنَّ الْعُمْدَةَ فِي ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ تُذْكَرُ عِنْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْوَقَائِعِ فَيَظُنُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهَا وَهِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مُتَمِّمَةٌ لَهُ، وَالْأَيْمَانُ فِيهَا جَمْعُ يَمِينٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْيَدِ الَّتِي تُقَابِلُ الشِّمَالَ ثُمَّ سَمَّى الْحَلِفَ وَالسَّقَمَ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَالِفَ فِي الْعَهْدِ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِ مَنْ يُعَاهِدُهُ عِنْدَ الْحَلِفِ لِتَأْكِيدِ الْعَهْدِ وَتَوْثِيقِهِ، حَتَّى إِنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَهْدِ نَفْسِهِ، وَقَدْ أَضَافَ الْعَهْدَ هَاهُنَا إِلَى اللهِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - عَهِدَ إِلَى النَّاسِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ بِمَا يَتَعَاهَدُونَ وَيَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا كَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَتَّقُوهُ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، فَعَهْدُ اللهِ يَشْمَلُ كُلَّ ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ النَّاكِثُ لِلْعَهْدِ لَا يَنْكُثُ إِلَّا لِمَنْفَعَةٍ يَجْعَلُهَا بَدَلًا مِنْهُ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ وَمُبَادَلَةٌ، وَسَمَّى الْعِوَضَ ثَمَنًا قَلِيلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يَنْكُثُونَ الْعَهْدَ فِي الْأُمُورِ الْكَبِيرَةِ إِلَّا إِذَا أُوتُوا عَلَيْهِ أَجْرًا كَبِيرًا وَثَمَنًا كَثِيرًا لِأَجْلِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤْخَذُ بَدَلًا مِنْ
عَهْدِ اللهِ فَهُوَ قَلِيلٌ لَا سِيَّمَا إِذَا أُكِّدَ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّ الْعُهُودَ إِذَا خُزِيَتِ اخْتَلَّ أَمْرُ الدِّينِ إِذِ الْوَفَاءُ آيَتُهُ الْبَيِّنَةُ، بَلْ مِحْوَرُهُ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُهُ، وَفَسَدَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا إِذْ تَبْطُلُ ثِقَةُ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَالثِّقَةُ رُوحُ الْمُعَامَلَاتِ وَسِلْكُ النِّظَامِ وَأَسَاسُ الْعُمْرَانِ ; لِأَجْلِ هَذَا كَانَ الْوَعِيدُ عَلَى نَكْثِ الْعَهْدِ - وَلَوْ لِأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ - أَشَدَّ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَأَغْلَظَهُ، وَأَيُّ عِقَابٍ أَشَدُّ مِنْ عِقَابِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ فِيهَا، وَلَا يُكَلِّمُهُ اللهُ كَلَامَ إِعْتَابٍ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ عَطْفٍ وَرَحْمَةٍ، وَلَا يُزَكِّيهِ بِالثَّنَاءِ
عَلَى عَمَلٍ لَهُ صَالِحٍ، أَوْ لَا يُطَهِّرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ؟ لَمْ يَكْتَفِ - تَعَالَى - بِحِرْمَانِ بَائِعِي الْعَهْدِ بِالثَّمَنِ مِنَ النَّعِيمِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى بَيَّنَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي دَرَكَةٍ مِنَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ لَا تُرْجَى لَهُمْ فِيهَا رَحْمَةٌ وَلَا يَسْمَعُونَ مِنْهُ - تَعَالَى - كَلِمَةَ عَفْوٍ وَلَا مَغْفِرَةٍ، فَعَدَمُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ وَمُنْتَهَى الْغَضَبِ الَّذِي لَا رَجَاءَ مَعَهُ وَلَا أَمَلَ.
إِنَّ الزِّنَا وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرَ وَالرِّبَا وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَمْ يَتَوَعَّدْ مُرْتَكِبِي هَذِهِ الْمُوبِقَاتِ بِمِثْلِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ نَاكِثِي الْعُهُودِ وَخَائِنِي الْأَمَانَاتِ ; لِأَنَّ مَفَاسِدَ النَّكْثِ وَالْخِيَانَةِ أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي حُرِّمَتْ لِأَجْلِهَا تِلْكَ الْجَرَائِمُ، فَمَا بَالُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ يَدَّعُونَ التَّدَيُّنَ وَيَتَّسِمُونَ بِسِمَةِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِالْعُهُودِ وَلَا يَحْفَظُونَ الْأَيْمَانَ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ صَغِيرًا مِنْ حَيْثُ يُكَبِّرُونَ أَمْرَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَوَّدُوهَا. الْإِيمَانُ بِاللهِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْخِيَانَةِ وَالنَّكْثِ فِي نَفْسٍ، وَقَدْ عَدَّ - تَعَالَى - أَخَصَّ وَصْفٍ لِزُعَمَاءِ الْكُفْرِ يُبِيحُ قِتَالَهُمْ كَوْنَهُمْ لَا وَفَاءَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ إِذْ قَالَ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [9: 12] وَقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ - وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ - إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَقَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ بَيَانٌ لِحَالِ طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَرِيقِ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ التَّشْنِيعُ عَلَيْهِمْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى
شَاكِلَتِهِمْ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ. وَيَرْوُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدِ زُعَمَائِهِمُ الْمُلِحِّينَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيذَائِهِ وَالْإِغْرَاءِ بِهِ، غَيَّرُوا التَّوْرَاةَ وَكَتَبُوا كِتَابًا بَدَّلُوا فِيهِ صِفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَتْ قُرَيْظَةُ مَا كَتَبُوهُ فَخَلَطُوهُ بِالْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُمْ وَجَعَلُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِقِرَاءَتِهِ ; يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ يُنْبِئُ بِفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِمْسَاكِهِمْ بِكِتَابِهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الدِّينَ جِنْسِيَّةً وَصَارَ الِانْتِصَارُ لَهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمْ إِلَى مَا جَاءَ فِي كِتَابِهِمْ، بَلْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَنْ كِتَابِهِمْ وَيُحَرِّفُونَهُ لِمُقَاوَمَةِ الْغَرِيبِ، وَيُعِدُّونَ ذَلِكَ انْتِصَارًا لَهُ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ أَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ، فَقَدْ يَعُدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ وَالْمُتَعَصِّبِينَ لَهُ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِعَقَائِدِهِ وَأُصُولِهِ وَلَا بِفُرُوعِهِ إِلَّا مَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنِ الْعَامَّةِ، وَلَا هُوَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يَعُدُّونَهُ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ عَادَى مَنْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِسَبَبٍ سِيَاسِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، بَلْ يُعِدُّونَ مِنْ أَنْصَارِ الدِّينِ مَنْ يَطْعَنُ فِي بَعْضِ الْمُصْلِحِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمُخَالَفَتِهِمْ مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ وَالْمُقَلِّدُونَ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوهُ لَا لِأَنَّ كِتَابَ اللهِ جَاءَ بِهِ. وَقَدْ يُحَرِّفُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّأْوِيلِ لِتَأْيِيدِ تَقَالِيدِهِمْ وَبِدَعِهِمْ أَوْ يُعْرِضُونَ عَنْهُ اعْتِذَارًا بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُطَالَبِينَ بِأَخْذِ دِينِهِمْ مِنْهُ بَلْ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ.
أَمَّا لَيُّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ فَهُوَ فَتْلُهُ لِلْكَلَامِ وَتَحْرِيفُهُ لَهُ بِصَرْفِهِ عَنْ مَعْنَاهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ وَقَدْ وَصَفَ - تَعَالَى - بِهِ الْيَهُودَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ [4: 46] فَهَذَا مِثَالٌ مِنْ لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكَلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكِتَابِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَضَعُوا كَلِمَةَ غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكَانَ جُمْلَةِ " لَا أُسْمِعْتَ مَكْرُوهًا " الدِّعَائِيَّةِ الَّتِي تُقَالُ عَادَةً عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاعِ. وَكَلِمَةَ رَاعِنَا مَكَانَ كَلِمَةِ " انْظُرْنَا " الَّتِي يَقُولُهَا النَّاسُ لِمَنْ يَطْلُبُونَ مَعُونَتَهُ وَمُسَاعَدَتَهُ وَإِنَّمَا قَالُوا: غَيْرَ مُسْمَعٍ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِمَعْنَى " لَا سَمِعْتَ " وَقَالُوا: رَاعِنَا لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عِبْرَانِيَّةٌ أَوْ سُرْيَانِيَّةٌ كَانُوا يَتَسَابُّونَ
بِهَا - كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَحَلِّهِ - وَمِثْلُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُضْغِمُونَ كَلِمَةَ السَّلَامِ فَيُخْفُونَ اللَّامَ قَائِلِينَ " السَّامُ عَلَيْكُمْ " غَيْرَ مُفْصِحِينَ بِالْكَلِمَةِ، وَالسَّامُ: الْمَوْتُ، فَاللَّيُّ وَالتَّحْرِيفُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْهُمْ أَحْيَانًا بِتَغْيِيرٍ فِي اللَّفْظِ وَأَحْيَانًا بِصَرْفِهِ إِلَى غَيْرِ
الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقَارِئُ شَيْئًا بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا الْكِتَابَ مِنْ جَرْسِ الصَّوْتِ وَطَرِيقَةِ النَّغَمِ وَإِظْهَارِ الْخُشُوعِ لِيَحْسَبَهُ السَّامِعُ مِنَ الْكِتَابِ فَيَقْبَلُهُ، وَلَا أَذْكُرُ أَنَّ أَحَدًا نَبَّهَ عَلَيْهِ. وَلَفْظُ اللَّيِّ يَتَنَاوَلُهُ وَهُوَ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى أَذْهَانِ الْمُوهَمِينَ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِنَ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَأْتِيهِ مَازِحًا بِأَنْ يَقْرَأَ مِنْ كِتَابٍ مَا جَمُلًا بِالتَّجْوِيدِ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْقُرْآنَ لِيُوهِمَ الْجَاهِلَ أَوْ يَخْتَبِرَهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَوْهَمَ امْرَأَتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُصَدَّقُ عَلَى صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ مِثْلِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا اللَّيُّ هُوَ أَنْ يُعْطِيَ النَّاطِقُ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ غَيْرَ الْمَعْنَى الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُ. مِثَالُ ذَلِكَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ سَيِّدِنَا عِيسَى عليه السلام كَكَلِمَةِ ابْنِ اللهِ وَتَسْمِيَةِ اللهِ أَبًا لَهُ وَأَبًا لِلنَّاسِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا، وَلَوَاهُ بَعْضُهُمْ فَنَقَلَهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَسِيحِ وَحْدَهُ أَيْ فَهُمْ يُفَسِّرُونَ لَفْظًا بِغَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ فِي الْكِتَابِ يُوهِمُونَ النَّاسَ أَنَّ الْكِتَابَ جَاءَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ كَاذِبُونَ.
أَكَّدَ الْخَبَرَ بِتَعَمُّدِهِمُ التَّحْرِيفَ وَسَجَّلَ الْكَذِبَ الصَّرِيحَ عَلَيْهِمْ ; كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُمْ لَا يُعَرِّضُونَ وَلَا يُوَرُّونَ وَإِنَّمَا يُصَرِّحُونَ بِالْكَذِبِ تَصْرِيحًا لِفَرْطِ جَرَاءَتِهِمْ وَعَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - لِأَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُمْ رَسْمٌ ظَاهِرٌ وَجِنْسِيَّةٌ هِيَ مَصْدَرُ الْغُرُورِ ; إِذْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ جَمِيعُ مَا يَجْتَرِمُونَ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ، وَمِنْ سُلَالَةِ أُولَئِكَ النَّبِيِّينَ، وَهَكَذَا حَالُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سُنَنَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ إِنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتْمًا، مَهْمَا كَانَتْ سِيرَتُهُ سَيِّئَةً وَعَمَلُهُ قَبِيحًا.
فَإِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ الشَّفَاعَاتُ أَدْرَكَتْهُ الْمَغْفِرَةُ، وَيَعْنُونَ بِالْمُسْلِمِ مَنِ اتَّخَذَ الْإِسْلَامَ جِنْسًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، بَلْ صَدَقَ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي وَصْفِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ.
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى؟ قَالَ: مَعَاذَ اللهِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ إِلَى قَوْلِهِ: مُسْلِمُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَمَا يُسَلِّمُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، أَفَلَا نَسْجُدُ لَكَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَكْرِمُوا نَبِيَّكُمْ وَاعْرِفُوا الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ اللهِ فَأَنْزَلَ اللهُ مَا كَانَ لِبَشَرٍ الْآيَتَيْنِ. ذَكَرَ ذَلِكَ السُّيُوطِيُّ فِي (لُبَابِ النُّقُولِ) . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ طَلَبَ أَنْ يَسْجُدُوا لِلرَّسُولِ هُوَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَقِ اللهُ الْمُسْلِمِينَ شَرَّهًا وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْقُرْآنِ. فَإِنَّ الْآيَةَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِبْطَالٌ لِمَا ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ - تَعَالَى - ابْنًا أَوْ أَبْنَاءً حَقِيقَةً، وَأَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَثْبَتَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ. وَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِمَّا يَدْخُلُ فِي لَيِّ اللِّسَانِ بِالْكِتَابِ وَتَحْرِيفِهِ بِالتَّأْوِيلِ. وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ رَدًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الدَّعْوَى ابْتِدَاءً مُسْتَأْنَفًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ النَّفْسَ تَتَشَوَّفُ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ فِرَقِ الْيَهُودِ إِلَى بَيَانِ حَالِ النَّصَارَى وَمَا يَدَّعُونَ فِي الْمَسِيحِ فَجَاءَتِ الْآيَتَانِ فِي ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ نَفْيٌ لِلشَّأْنِ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْوُقُوعِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلْوُقُوعِ مَعَ بَيَانِ السَّبَبِ وَالدَّلِيلِ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ بِهِ وَالْعَمَلَ بِإِرْشَادِهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْحُكْمُ: الْحِكْمَةُ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ، وَوَافَقَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَائِلًا: إِنَّ عِبَارَاتِ الْكِتَابِ رُبَّمَا تَذْهَبُ
النَّفْسُ فِيهَا مَذَاهِبَ التَّأْوِيلِ، فَالْعَمَلُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ الْحَقَّ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْهُ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ بِفِقْهِ الْكِتَابِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَالنُّبُوَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُقَالُ إِنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي الْعِبَادُ جَمْعُ عَبْدٍ بِمَعْنَى عَابِدٍ، وَالْعَبِيدُ جَمْعٌ لَهُ بِمَعْنَى مَمْلُوكٍ أَيْ بِأَنْ تَتَّخِذُونِي إِلَهًا أَوْ رَبًّا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ كَائِنِينَ لِي مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ كُونُوا عَابِدِينَ لِي مِنْ دُونِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَجَاوِزِينَ اللهَ - تَعَالَى - أَيْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ. وَقَطَعَ أَبُو السُّعُودِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَصْدُقُ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا. وَلَهُ عِنْدِي وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا خَلُصَتْ لَهُ وَحْدَهُ فَلَمْ تَشُبْهَا شَائِبَةٌ مَا مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ: قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [39: 14] وَقَالَ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [98: 5] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
فَمَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ فَقَدْ دَعَا النَّاسَ إِلَى أَنْ يَكُونُوا عَابِدِينَ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ، بَلْ وَإِنْ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ، وَمَنْ جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ وَاسِطَةً فِي الْعِبَادَةِ
كَالدُّعَاءِ فَقَدْ عَبَدَ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ مِنْ دُونِ اللهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ تُنَافِي الْإِخْلَاصَ لَهُ وَحْدَهُ.
وَمَتَى انْتَفَى الْإِخْلَاصُ انْتَفَتِ الْعِبَادَةُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [39: 2 - 3] الْآيَةَ فَلَمْ يَمْنَعْ تَوَسُّلُهُمْ بِالْأَوْلِيَاءِ إِلَيْهِ - تَعَالَى - أَنْ يَقُولَ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " قَالَ اللهُ - تَعَالَى -: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ - فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، هُوَ لِلَّذِي عَمِلَ لَهُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: إِذَا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ يَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى غَيْرِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَى أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ وَمُقَرِّبٌ مِنْهُ وَشَفِيعٌ عِنْدَهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالنَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، فَتَوَجُّهُهُ هَذَا إِلَيْهِ عِبَادَةٌ لَهُ مُقَدَّرَةٌ بِقَدْرِهَا فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنَ
التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ مِنْ دُونِ اللهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِأَنَّ النُّصُوصَ مُؤَيِّدَةٌ لَهُ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ أَجَازُوا لِلْعَامَّةِ اتِّخَاذَ أَوْلِيَاءَ يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ تَوَسُّلًا بِهِمْ إِلَى اللهِ إِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ وَتَلَا صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [40: 60] الْآيَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أَيْ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُمُ النَّبِيُّ الَّذِي أُوتِيَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ بِأَنْ يَكُونُوا مَنْسُوبِينَ إِلَى الرَّبِّ مُبَاشَرَةً مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِهِ هُوَ وَلَا التَّوَسُّلِ بِشَخْصِهِ وَإِنَّمَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الْوَسِيلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ تَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَدِرَاسَتُهُ، فَبِعِلْمِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ يَكُونُ الْإِنْسَانُ رَبَّانِيًّا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - ; فَالْكِتَابُ هُوَ وَاسِطَةُ الْقُرْبِ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالرَّسُولُ هُوَ الْوَاسِطَةُ الْمُبَلِّغَةُ لِلْكِتَابِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [42: 48] فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِشَخْصِ الرَّسُولِ بَلْ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ 31) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَالْآيَاتُ الْمُقَرِّرَةُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مُفَصَّلًا: أَفَادَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ رَبَّانِيًّا بِعِلْمِ الْكِتَابِ وَدَرْسِهِ وَبِتَعْلِيمِهِ لِلنَّاسِ وَنَشْرِهِ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَمَلِ بِالْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لَا يَبْعَثُ إِلَى الْعَمَلِ لَا يُعَدُّ عِلْمًا صَحِيحًا ; لِأَنَّ الْعِلْمَ الصَّحِيحَ مَا كَانَ صِفَةً لِلْعَالِمِ وَمَلَكَةً رَاسِخَةً فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ آثَارُ الصِّفَاتِ وَالْمَلَكَاتِ، وَالْمُعَلِّمِ يُعَبِّرُ عَمَّا رَسَخَ فِي نَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يُحَصِّلْ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ إِلَّا صُوَرًا وَتَخَيُّلَاتٍ تَلُوحُ فِي الذِّهْنِ وَلَا تَسْتَقِرُّ فِي النَّفْسِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا لَهُ يُفِيضُ الْعِلْمَ عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ كَمَا ثَبَتَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ، أَيْ فِي نَحْوِ الْعُلُومِ الْفَنِّيَّةِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنَ الْهَنْدَسَةِ إِلَّا بَعْضَ
الِاصْطِلَاحَاتِ وَالْمَسَائِلِ النَّاقِصَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مُهَنْدِسًا بِالْفِعْلِ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُعَلِّمًا لِلْهَنْدَسَةِ، وَمُرَادُ الْأُسْتَاذِ أَنَّ الْعِلْمَ لَمَّا كَانَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالْعَمَلِ كَمَا يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعِلْمِ عِنْدَمَا يُعَلَّقُ الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَمَلَ الصَّحِيحَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ
فَتَارَةً يُذْكَرُ الْمَلْزُومُ وَتَارَةً يُذْكَرُ اللَّازِمُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ " يَأْمُرَكُمْ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى (ثُمَّ يَقُولَ) وَ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي يُجَاءُ بِهَا لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ السَّابِقِ. وَهُوَ هُنَا قَوْلُهُ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِاخْتِلَاسِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَهُ. تُنْقَلُ عِبَادَةُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَاتَّخَذَ بَعْضُ الْيَهُودِ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنًا لِلَّهِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمَسِيحِ أَنْ يَأْمُرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ بِعِبَادَتِهِ بَعْدَ إِذْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ بِمُقْتَضَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُوسَى، وَحَمَلَهُ أَكْثَرُ مَنْ عَرَفْنَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى جَوَابِ مَنْ طَلَبَ السُّجُودَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ هُمُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ نَسُوا هُنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ هُوَ دِينُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا أَنَّهُ دِينُ الْفِطْرَةِ (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ 19) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ.
وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَعْدِيدُ تَقْرِيرِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ
صلى الله عليه وسلم،
قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ وَإِظْهَارًا لِعِنَادِهِمْ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا ذَكَرَهُ اللهُ -
تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِأَنَّهُمْ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ آمَنُوا بِهِ وَنَصَرُوهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَبِلُوا ذَلِكَ. وَحَكَمَ بِأَنَّ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الْفَاسِقِينَ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا رُجُوعٌ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ الَّذِي افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِتَقْرِيرِهِ وَهُوَ التَّنْزِيلُ، وَكَوْنُ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ وَاحِدًا، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَسَائِرُ النَّبِيِّينَ، وَكَوْنُ اللهِ - تَعَالَى - مُخْتَارًا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضَ خَلْقِهِ مِنْ مَزِيَّةٍ أَوْ نُبُوَّةٍ وَقَدْ سَبَقَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ لِإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِزَالَةِ شُبْهَاتِ مَنْ أَنْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْثَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ وَاسْتَتْبَعَ ذَلِكَ مُحَاجَّتَهُمْ وَبَيَانَ خَطَئِهِمْ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُقَرِّرُهَا هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْحُجَجِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِمْ لِدَحْضِ مَزَاعِمِهِمْ وَهِيَ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ بِأَنَّ مَا يُعْطُونَهُ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ - وَإِنْ عَظُمَ أَمْرُهُ - فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَنْ يُرْسَلُ مِنْ بَعْدِهِمْ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ مِنْهُ وَأَنْ يَنْصُرُوهُ. أَيْ فَالْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الْمَوْضُوعِ.
أَمَّا أَخْذُ الْمِيثَاقِ مِنَ الْمَرْءِ، وَهُوَ الْعَهْدُ الْمُوَثَّقُ الْمُؤَكَّدُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ الْمُعَاهِدُ (بِكَسْرِ الْهَاءِ) يَلْتَزِمُ لِلْآخِذِ وَهُوَ الْمُعَاهَدُ (بِفَتْحِ الْهَاءِ) أَنْ يَفْعَلَ كَذَا مُؤَكِّدًا ذَلِكَ بِالْيَمِينِ أَوْ بِلَفْظٍ مِنَ الْمُعَاهَدَةِ أَوِ الْمُوَاثَقَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَجْهَانِ ; أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: " الْمِيثَاقَ مِنَ النَّبِيِّينَ ". فَالنَّبِيُّونَ هُمُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُكْمُهُ سَارِيًا عَلَى أَتْبَاعِهِمْ بِالْأَوْلَى، كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ إِضَافَةَ مِيثَاقٍ إِلَى النَّبِيِّينَ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحَابُهُ فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْمُوثِقِ لَا إِلَى الْمُوثَقِ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُ اللهِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ مَسْكُوتًا عَنْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى أُمَمِهِمْ، أَوِ الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَعْنَى: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ عَلَيْكُمْ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِكُمْ. أَوِ التَّقْدِيرُ: " مِيثَاقَ أُمَمِ النَّبِيِّينَ "، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالثَّانِي مِنْ آلِ الْبَيْتِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ قَالَ: هُوَ عَلَى حَدِّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [65: 1] . فَالْخِطَابُ فِيهِ لِلنَّبِيِّ وَالْمُرَادُ أَمَتُّهُ عَامَّةً.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ أَوِ الطَّرِيقَيْنِ فِي تَفْسِيرِ الْعِبَارَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ
عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي أُوتِيَتِ الْكِتَابَ إِذَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِمِيثَاقِ اللهِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ أَوْ مِيثَاقِهِ عَلَيْهِمْ أَنْفُسِهِمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَمَا آتَيْتُكُمْ لَامُ التَّوْطِئَةِ لِأَخْذِ الْمِيثَاقِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ أَيْ أَنَّ الْمِيثَاقَ بِمَعْنَى الْقَسَمِ، فَأَخْذُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ وَ " مَا " الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ هِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِمَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْنَى: مَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَاللَّامُ فِي لَتُؤْمِنُنَّ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ
وَجَعَلُوا لَتُؤْمِنُنَّ سَادًّا مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ وَجَوَابِ الشَّرْطِ جَمِيعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً وَالْعَائِدُ حِينَئِذٍ مَحْذُوفٌ أَيْ: لَمَا آتَيْتُكُمُوهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ " لِمَا " بِكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَ " مَا " عَلَى هَذِهِ مَوْصُولَةٌ حَتْمًا. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لِأَجْلِ مَا ذَكَرَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ " آتَيْنَاكُمْ " بِالْإِسْنَادِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: لَفْظُ " رَسُولٍ " فِيهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِشْكَالٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِيثَاقَ قَدْ أُخِذَ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ مَا جَاءَ فِي عَصْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَكَانَ اللهُ - تَعَالَى - يَعْلَمُ ذَلِكَ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ عِلْمَهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِيثَاقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْضِ أَيْ إِذَا فُرِضَ أَنْ جَاءَكُمْ وَجَبَ عَلَيْكُمُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ.
أَقُولُ: وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانَ مَرْتَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ النَّبِيِّينَ إِذَا فُرِضَ أَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ الرَّئِيسَ الْمَتْبُوعَ لَهُمْ ; فَمَا قَوْلُكُ إِذًا فِي أَتْبَاعِهِمْ لَا سِيَّمَا بَعْدَ زَمَنِهِمْ؟ وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم هَذَا الِاخْتِصَاصُ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي يَجِيءُ بِالْهُدَى الْأَخِيرِ الْعَامِّ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ الْبَشَرُ بَعْدَهُ إِلَى شَيْءٍ مَعَهُ سِوَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَاسْتِقْلَالِ أَفْكَارِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي يَجِيئُونَ بِهَا هِدَايَةً مَوْقُوتَةً خَاصَّةً بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بِحُجَجٍ مِنْهَا حَدِيثُ وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِيثَاقَ أُخِذَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ إِرْسَالِهِمْ وَاحِدًا وَجَبَ أَنْ يَكُونُوا مُتَكَافِلِينَ مُتَنَاصِرِينَ إِذَا جَاءَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ آخَرَ آمَنَ بِهِ وَنَصَرَهُ بِمَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَتِهِ، كَمَا آمَنَ لُوطٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَأَيَّدَ دَعْوَتَهُ إِذْ كَانَ فِي زَمَنِهِ.
وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ سَبَبًا لِلْخِلَافِ وَالنِّزَاعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْكَيْدِ لَهُ فَكَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ فَلَا يَلْقَى مِنْهُمْ إِلَّا الْخِلَافَ وَالشَّحْنَاءَ.
وَسُئِلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ عَنْ إِيمَانِ نَبِيٍّ بِنَبِيٍّ آخَرَ يُبْعَثُ فِي عَصْرِهِ هَلْ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَسْخَ الثَّانِي لِشَرِيعَةِ الْأَوَّلِ؟ فَقَالَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَا يُنَافِيهِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَصْدِيقُ دَعْوَتِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مَنْ يُؤْذِيهِ وَيُنَاوِئُهُ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ شَرِيعَةُ الثَّانِي نَسْخَ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ وَجَبَ التَّسْلِيمُ لَهُ وَإِلَّا صَدَّقَهُ بِالْأُصُولِ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ دِينٍ، وَيُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ أُمَّتِهِ أَعْمَالَ عِبَادَتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا وَتَفَرُّقًا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يَأْتِي فِي
الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ كَأَنْ يُؤَدِّي شَخْصَانِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَوْ غَيْرِهَا بِغَيْرِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْآخَرُ هَذَا بِالصِّيَامِ وَذَاكَ بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ اخْتِلَافُ حَالِ الشَّخْصَيْنِ فَأَدَّى كُلٌّ وَاحِدٍ مَا سَهُلَ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَلَنَا أَنْ نَضْرِبَ لِلْمَسْأَلَةِ مِثْلَ عَامِلَيْنِ يُرْسِلُهُمَا الْمَلِكُ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ إِلَى وِلَايَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ مُتَجَاوِرَتَيْنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْدِيقُ الْآخَرِ وَنَصْرُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْأُصُولِ الْعَامَّةِ لِلسَّلْطَنَةِ أَوْ مَا يُعَبِّرُ عَنْهُ أَهْلُ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقَانُونِ الْأَسَاسِيِّ، وَمَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوِلَايَتَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي طِبَاعِ الْأَهَالِي وَاسْتِعْدَادِهِمْ وَحَالُ الْبِلَادِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ كَأَنْ تَكُونَ الضَّرَائِبُ قَلِيلَةً فِي إِحْدَاهُمَا كَثِيرَةً فِي الْأُخْرَى، وَكُلٌّ مِنَ الْعَامِلَيْنِ يُؤْمِنُ لِلْآخَرِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعَمَلِهِ، وَكَذَلِكَ يُؤْمِنُ كُلٌّ مِنَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الْآخَرُ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْأُصُولِ دُونَ جَمِيعِ الْفُرُوعِ. وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يُنْسَخَ مَا جَاءَ بِهِ الْأَوَّلُ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ آخَرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ. وَأَمَّا إِذَا بُعِثَ الرَّسُولَانِ فِي أُمَّةٍ
وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُمَا يُكُونَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَنْسَ مُوسَى وَهَارُونَ عليهما السلام، وَأَمَّا مَجِيءُ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ مُعْظَمَ فُرُوعِ شَرْعِهِ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ مَعْنَى تَصْدِيقِ نَبِيِّنَا بِالْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَلِمَنْ جَاءُوا بِهَا مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ التَّفْصِيلِيُّ مُوَافِقًا لِشَرَائِعِهِمْ، وَلَا أَنْ يُقِرَّ أَقْوَامَهُمْ عَلَى مَا دَرَجُوا عَلَيْهِ.
قَالَ - تَعَالَى - لِمَنْ أَخَذَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمِيثَاقَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ أَيْ قَبِلْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الْمُصَدِّقِ لِمَا مَعَكُمْ وَنَصْرِهِ إِصْرِي أَيْ عَهْدِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أَيْ فَلْيَشْهَدْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَنَا مَعَكُمْ شَاهِدٌ عَلَيْكُمْ جَمِيعًا لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِي شَيْءٌ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَلْيَشْهَدْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَ: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [7: 172] وَقِيلَ مَعْنَاهُ فَبَيِّنُوا هَذَا الْمِيثَاقَ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَاعْلَمُوا ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، كَالْعِلْمِ بِالْمُشَاهَدِ بِالْبَصَرِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالشَّهَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ إِنَّ الْعَهْدَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أُمَمِهِمْ بِذَلِكَ وَهُوَ - سُبْحَانَهُ - مَعَهُمْ شَهِيدٌ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةَ وَقَعَتْ وَهَذِهِ الْأَقْوَالَ قِيلَتْ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا تَقْرِيرُ الْمَعْنَى وَتَوْكِيدُهُ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ.
أَقُولُ: وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ قَرَّ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ وَلَزِمَ قَرَارُهُ مَكَانَهُ، زِيدَتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ، فَقِيلَ أَقَرَّ الشَّيْءَ إِذَا أَثْبَتَهُ، وَأَقَرَّ بِهِ إِذَا نَطَقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ. وَالْأَخْذُ التَّنَاوُلُ، وَفَسَّرْنَاهُ هُنَا بِالْقَبُولِ وَهُوَ غَايَتُهُ ; لِأَنَّ آخِذَ الشَّيْءِ يَقْبَلُهُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ كَذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ قَالَ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [2: 48]
ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [2: 123] فَقَالَ مَرَّةً إِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَمَرَّةً لَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَ " الْإِصْرُ " فِي الْأَصْلِ عَقْدُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ بِقَهْرِهِ، وَالْمَأْصِرُ مَحْبِسُ السَّفِينَةِ، وَفُسِّرَ الْإِصْرُ فِي وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [7: 157] بِمَا يَحْبِسُهُمْ عَنِ الْخَيْرِ وَيُقْعِدُهُمْ عَنْ عَمَلِ الْبِرِّ. وَعَلَى هَذَا قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا: إِنَّ الْإِصْرَ هُوَ الْعَهْدُ الْمُؤَكَّدُ الَّذِي يُثَبِّطُ نَاقَضَهُ عَنِ الثَّوَابِ
وَالْخَيْرَاتِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي يَحْبِسُ صَاحِبَهُ وَيَمْنَعُهُ مِنَ التَّهَاوُنِ فِيمَا الْتَزَمَهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الشَّهَادَةِ فِي آيَةِ شَهِدَ اللهُ [3: 18] إِلَخْ.
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيْ إِنَّ مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ أَنَّ دِينَ اللهِ وَاحِدٌ وَأَنَّ دُعَاتَهُ مُتَّفِقُونَ مُتَّحِدُونَ فَمَنْ تَوَلَّى - بَعْدَ الْمِيثَاقِ عَلَى ذَلِكَ - عَنْ هَذِهِ الْوَحْدَةِ وَاتَّخَذَ الدِّينَ آلَةً لِلتَّفْرِيقِ وَالْعُدْوَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ الْمُتَأَخِّرِ الْمُصَدِّقِ لِمَنْ تَقَدَّمَهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ كَأُولَئِكَ الَّذِينَ كَانُوا يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَيُؤْذُونَهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَيِ الْخَارِجُونَ مِنْ مِيثَاقِ اللهِ النَّاقِضُونَ لِعَهْدِهِ وَلَيْسُوا مِنْ دِينِهِ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ. أَقُولُ: وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمِيثَاقَ مَأْخُوذٌ عَلَى الْأُمَمِ.
وَلَمَّا بَيَّنَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّ دِينَهُ وَاحِدٌ وَأَنَّ رُسُلَهُ مُتَّفِقُونَ فِيهِ قَالَ فِي مُنْكِرِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَبْغُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى " غَيْرِ " عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَطْفُ وَعَيَّنَهُ الْكَلَامُ السَّابِقُ. وَالْمَعْنَى: أَيَتَوَلَّوْنَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ فَيَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللهِ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ قَدْ خَضَعُوا لَهُ - تَعَالَى - وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ طَائِعِينَ وَكَارِهِينَ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَيَانِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْوِينِ وَالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ لَا بِالتَّكْلِيفِ، أَيْ إِنَّهُ - تَعَالَى - هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِمْ وَهُمُ الْخَاضِعُونَ الْمُنْقَادُونَ لِتَصَرُّفِهِ وَقَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَعْنَى الطَّوْعِ وَالْكُرْهِ وَكَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ مَا يَحِلُّ بِالْعُقَلَاءِ مِنْ تَصَارِيفِ الْأَقْدَارِ، مِنْهُ مَا يَصْحَبُهُ اخْتِيَارُهُمْ عَنْ رِضًا وَاغْتِبَاطٍ فَيَكُونُونَ خَاضِعِينَ لَهُ طَوْعًا، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَحِلُّ بِهِمْ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [17: 44] .
وَيُقَابِلُ هَذَا: أَنَّ الْإِسْلَامَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّكْلِيفِ وَالدِّينَ فَقَطْ. وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يُفَسِّرُ إِسْلَامَ الْكُرْهِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ الْمُلْجِئَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [31: 32]
وَقَالَ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29: 65] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّ إِسْلَامَ الْكُرْهِ مَا يَكُونُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْآيَاتِ كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ مُوسَى، وَقِيلَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ السَّيْفِ، وَقِيلَ مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمَوْتِ إِذْ يُشْرِفُ الْكَافِرُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ إِسْلَامٌ لَا يَنْفَعُهُ.
وَهُنَاكَ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ أَعَمُّ مِنْ إِسْلَامِ التَّكْلِيفِ وَإِسْلَامِ التَّكْوِينِ فَهُوَ يَشْمَلُ مَا يَكُونُ بِالْفِطْرَةِ وَمَا يَكُونُ بِالِاخْتِيَارِ. وَفِي هَذَا الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ قَالَ الْحَسَنُ: الطَّوْعُ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَهْلُ الْأَرْضِ فَبَعْضُهُمْ بِالطَّوْعِ وَبَعْضُهُمْ بِالْكُرْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ الْخَلْقِ مُنْقَادُونَ لِإِلَهِيَّتِهِ طَوْعًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [31: 25] وَمُنْقَادُونَ لِتَكَالِيفِهِ وَإِيجَادِهِ لِلْآلَامِ كُرْهًا. وَقِيلَ: الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ طَوْعًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ وَيَنْقَادُونَ لَهُ كُرْهًا فِيمَا يُخَالِفُ طِبَاعَهُمْ مِنَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَالْمَوْتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْكَافِرُونَ فَهُمْ يَنْقَادُونَ لِلَّهِ كُرْهًا عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي التَّكْلِيفِ وَالتَّكْوِينِ. وَهَذِهِ وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا طَوْعًا لَهُمُ اخْتِيَارٌ فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا كُرْهًا فَهُمُ الَّذِينَ فُطِرُوا عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْكُرْهِ يُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الِاخْتِيَارَ وَيَقْهَرُهُ ; فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدِ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّكْوِينِ: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا [41: 11] فَأَطْلَقَ الْكَرْهَ وَأَرَادَ بِهِ لَازِمَهُ وَهُوَ عَدَمُ الِاخْتِيَارِ. أَقُولُ: وَهَذَا سَهْوٌ فِيمَا يَظْهَرُ لِي وَكُنْتُ - فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ - أُرَاجِعُهُ فِي مِثْلِهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوِ الطَّبْعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ تَتِمَّةَ الْآيَةِ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِمُقْتَضَى الْفِطْرَةِ مِنْ قِسْمِ إِسْلَامِ الطَّوْعِ. وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ بِالِاخْتِيَارِ فَمِنْهُ مَا يُفْعَلُ طَوْعًا وَمَا يُفْعَلُ كَرْهًا. وَكَذَا مَا يَقَعُ بِهِمْ مِنْهُ مَا يَكُونُونَ كَارِهِينَ لَهُ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُونَ رَاضِينَ بِهِ. فَإِذَا كَانَ مُرَادًا فِي الْآيَةِ فَالطَّوْعُ فِيهِ بِمَعْنَى الرِّضَا. وَصَفْوَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ هُوَ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ -
تَعَالَى - وَالْإِخْلَاصُ فِي الْخُضُوعِ لَهُ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أُمَمِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ نَقَضُوهُ، فَجَاءَهُمُ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ بِذَلِكَ قَدِ ابْتَغَوْا غَيْرَ دِينِهِ الَّذِي زَعَمُوهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، قَرَأَ حَفْصٌ يَرْجِعُونَ بِالْيَاءِ كَمَا قَرَأَ يَبْغُونَ وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ " تَبْغُونَ " بِالتَّاءِ كَالْجُمْهُورِ فَهُوَ قَدْ جَعَلَ الْخِطَابَ أَوَّلًا لِلْيَهُودِ وَجَعَلَ الْكَلَامَ فِي الْمَرْجِعِ عَامًّا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " تَرْجِعُونَ " وِفَاقًا لِقِرَاءَتِهِمْ " تَبْغُونَ ".
قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
كَمَا خَتَمَ - تَعَالَى - آيَةَ دَعْوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [3: 64] جَاءَ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ تَوْلِيَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَأْمُرُنَا بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلْ آمَنَّا بِاللهِ أَيْ آمَنْتُ أَنَا وَمَنْ مَعِي بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكَمَالِهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِهِ بِالتَّفْصِيلِ وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [2: 136] إِلَخْ وَقَدْ عُدِّيَ الْإِنْزَالُ هُنَاكَ بِـ " إِلَى " الدَّالَّةِ عَلَى الْغَايَةِ وَالِانْتِهَاءِ، وَهُنَا بِـ " عَلَى " الَّتِي لِلِاسْتِعْلَاءِ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، كَمَا قَالَ فِي الْكَشَّافِ رَامِيًا بِالتَّعَسُّفِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّعَدِّيَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورِ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَتَيْنِ إِذْ هُوَ هُنَاكَ الْمُؤْمِنُونُ وَهَاهُنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِـ " إِلَى " وَرَدَتْ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ، وَالتَّعْدِيَةَ بِـ " عَلَى " وَرَدَتْ فِي خِطَابِ غَيْرِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى. وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ وَالْوَحْيُ فَرْعٌ لَهُ، إِذْ هُوَ وَحْيُهُ - تَعَالَى - إِلَى رُسُلِهِ.
وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ أَيْ وَآمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى هَؤُلَاءِ بِالْإِجْمَالِ أَيْ صَدَّقْنَا بِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ وَحْيًا لِهِدَايَةِ أَقْوَامِهِمْ، وَأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فِي أَصْلِهِ وَجَوْهَرِهِ وَالْقَصْدِ مِنْهُ أَخْبَرَنَا
اللهُ - تَعَالَى - فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [87: 14] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ [35: 36، 37] إِلَخْ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [4: 163] إِلَخْ. وَأَمَّا عَيْنُ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ فِي أَيْدِي الْأُمَمِ شَيْءٌ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى مِنَ التَّوْرَاةِ لِلْأَوَّلِ وَالْإِنْجِيلِ لِلثَّانِي، (وَ) مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ كَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَقُصَّ اللهُ عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ عَلَيْنَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصُصْهُ، فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ نَبِيًّا ظَهَرَ فِي الْهِنْدِ أَوِ الصِّينِ قَبْلَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ نُؤْمِنُ بِهِ. وَارْجِعْ إِلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي اسْتِبَانَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّعْبِيرِ بِالْإِنْزَالِ وَالتَّعْبِيرِ بِالْإِتْيَانِ، قَالَ
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَقَدْ قُدِّمَ الْإِيمَانُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا عَلَى الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا مَعَ كَوْنِهِ أُنْزِلَ قَبْلَهُ فِي الزَّمَنِ ; لِأَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ وَالْمُثْبِتُ لَهُ وَلَا طَرِيقَ لِإِثْبَاتِهِ سِوَاهُ ; لِانْقِطَاعِ سَنَدِ تِلْكَ وَفَقْدِ بَعْضِهَا وَوُقُوعِ الشَّكِّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. فَمَا أَثْبَتَهُ كِتَابُنَا مِنْ نُبُوَّةِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نُؤْمِنُ بِهِ إِجْمَالًا فِيمَا أُجْمِلَ وَتَفْصِيلًا فِيمَا فُصِّلَ، وَمَا أَثْبَتَهُ لَهُمْ مِنَ الْكُتُبِ كَذَلِكَ، نُؤْمِنُ بِأَنَّ أُصُولَ مَا جَاءُوا بِهِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَإِسْلَامُ الْقُلُوبِ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الْإِخْلَاصِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ أَصِلٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا كَذَلِكَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا أَصْلٌ لِلْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كَمَا يُفَرِّقُ أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُؤْمِنُونَ بِبَعْضٍ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، وَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ فِي الدِّينِ، فَنَقُولُ: بَعْضُهُمْ عَلَى حَقٍّ وَبَعْضُهُمْ عَلَى بَاطِلٍ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا عَلَى الْحَقِّ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْأُصُولِ وَالْمَقَاصِدِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْوُلَاةِ الصَّادِقِينَ يُرْسِلُهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ مُتَعَاقِبِينَ لِعِمَارَةِ الْوِلَايَةِ وَإِصْلَاحِ أَهْلِهَا، وَمَا يَكُونُ مِنَ التَّغْيِيرِ فِي بَعْضِ قَوَانِينِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِحَسْبِ حَالِ الْوِلَايَةِ وَأَهْلِهَا، وَالْمَقْصِدُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعُمْرَانُ وَالْإِصْلَاحُ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مُنْقَادُونَ بِالرِّضَا وَالْإِخْلَاصِ مُنْصَرِفُونَ عَنْ أَهْوَائِنَا وَشَهَوَاتِنَا فِي الدِّينِ لَا نَتَّخِذُهُ جِنْسِيَّةً لِأَجْلِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا نَبْتَغِي بِهِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - بِإِصْلَاحِ النُّفُوسِ وَإِخْلَاصِ الْقُلُوبِ وَالْعُرُوجِ بِالْأَرْوَاحِ، إِلَى سَمَاءِ الْكَرَامَةِ وَالْفَلَاحِ.
افْتَتَحَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ وَخَتَمَهَا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ فِي
كَمَالِهِ ثَمَرَتُهُ وَغَايَتُهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الدِّينِيُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لِأَنَّ الدِّينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِسْلَامَ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا فَمَا هُوَ إِلَّا رُسُومٌ وَتَقَالِيدُ يَتَّخِذُهَا الْقَوْمُ رَابِطَةً لِلْجِنْسِيَّةِ، وَآلَةً لِلْعَصَبِيَّةِ وَوَسِيلَةً لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْقُلُوبَ فَسَادًا، وَالْأَرْوَاحَ إِظْلَامًا. فَلَا يَزِيدُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عُدْوَانًا، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَّا خُسْرَانًا وَلِذَلِكَ قَالَ: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ هُنَالِكَ خَاسِرًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ إِذْ لَمْ يُزَكِّهَا بِالْإِسْلَامِ لِلَّهِ، وَإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ لَهُ جَلَّ عُلَاهُ.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [7: 53] فِي الدِّينِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنَاطُ النَّجَاةِ وَوَسِيلَةُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ ; إِذْ يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْعَدُوا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُلُوكِ سُبُلِ الشَّقَاءِ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [39: 14 - 15] وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ نَبَّهَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خُسْرَانِ الْآخِرَةِ
هُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ، وَلَا نَبَّهَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، بَلْ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئًا لِظُهُورِ مَعْنَاهَا.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ هَاهُنَا إِشْكَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَإِذْ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [49: 14] يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِسْلَامِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ اهـ. كَلَامُهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُبْهَمٌ وَقَدْ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُولَى الْآيَةَ الَّتِي تُفَسِّرُهَا وَبِالثَّانِيَةِ قَالَتِ الْأَعْرَابُ وَالْمَعْنَى
أَنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يُسْلِمُوا الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ وَإِنَّمَا انْقَادُوا لِأَهْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ مَا نَصُّهُ:
(الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ) الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مَعَ هَذَا؟ نَقُولُ: بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَرْقٌ، فَالْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِسْلَامُ أَعَمُّ لَكِنَّ الْعَامَّ فِي صُورَةِ الْخَاصِّ مُتَّحِدٌ مَعَ الْخَاصِّ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ غَيْرَهُ. مِثَالُهُ: الْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ لَكِنَّ الْحَيَوَانَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ أَمْرًا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْعُمُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْوُجُودِ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51: 35 - 36] .
وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَاتَيْنِ مَا نَصُّهُ: " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ ظَاهِرَةٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِطْلَاقُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ. فَإِذَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُسْلِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَفْهُومَيْهِمَا فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: أَخْرَجْنَا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا الْأَعَمَّ مِنْهُمْ إِلَّا بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِغَيْرِهِ: مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ النَّاسِ؟ فَيَقُولُ لَهُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَحَدٌ غَيْرُ زَيْدٍ فَيَكُونُ مُخْبِرًا لَهُ بِخُلُوِّ الْبَيْتِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ غَيْرِ زَيْدٍ " اهـ.
أَقُولُ: وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ فِي كَلَامِهِ اضْطِرَابًا وَسَبَبُهُ تَزَاحُمُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْإِطْلَاقَاتِ اللُّغَوِيَّةِ فِي ذِهْنِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ مَفْهُومَيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ مُتَبَايِنَانِ فَالْإِسْلَامُ: الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْحَرْبِ وَعَلَى السَّلَامَةِ وَالْخُلُوصِ وَعَلَى الِانْقِيَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ كَأَنْ يَقُولَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَتَعْتَقِدَ صِدْقَهُ. وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ كَأَنَّ نَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ، وَقَدْ أُطْلِقَ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
فِي الْقُرْآنِ عَلَى إِيمَانٍ خَاصٍّ جُعِلَ هُوَ الْمُنْجِي عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - وَإِسْلَامٍ خَاصٍّ هُوَ دِينُهُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ التَّصْدِيقُ
الْيَقِينِيُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَكَمَالِهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْوِجْدَانِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [49: 15] وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الْإِخْلَاصُ لَهُ - تَعَالَى - فِي التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا هَدَى إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى دِينُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ. فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَنَاوَلُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارٍ ; وَلِذَلِكَ عُدَّا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَنِ إِيمَانِ الْأَعْرَابِ وَإِسْلَامِهِمْ فِي (49: 15) ثُمَّ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [49: 16 - 17] فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ وَالْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ وَهُمَا الْمَطْلُوبَانِ لِأَجْلِ السَّعَادَةِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمَا ظَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ نِفَاقٍ. فَمِنَ الْأَوَّلِ الشِّقُّ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [2: 62] الْآيَةَ فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهَذَا الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ وَقَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ إِلَخْ هُوَ الْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ النَّجَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا أَيْ دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ الَّذِي هُوَ مُسَالَمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا حَرْبًا لَهُ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِخْلَاصَ وَالِانْقِيَادَ مَعَ الْإِذْعَانِ وَإِلَّا لَمَا نَفَى إِيمَانَ الْقَلْبِ. هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
أَمَّا إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ عَقَائِدَ وَتَقَالِيدَ وَأَعْمَالٍ فَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ " الدِّينُ مَا عَلَيْهِ الْمُتَدَيِّنُونَ " فَالْبُوذِيَّةُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ الْمَعْرُفُونَ بِالْبُوذِيَّةِ، وَالْيَهُودِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْبُ
الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْيَهُودِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا نَصَارَى وَهَكَذَا. وَهَذَا هُوَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ سَمَاوِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ فَيَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ حَتَّى يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ أَصْلِهِ فِي قَوَاعِدِهِ وَمَقَاصِدِهِ، وَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُهُ لَا بِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ، وَتَحَوُّلُ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى جِنْسِيَّةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَدَّ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ بَيَانِ رُوحِ دِينِ اللهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ
شَرَائِعِهِمْ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَالْإِسْلَامُ مَعْنًى بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللهِ الْمَرْضِيِّ، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ بَاغِيًا لِغَيْرِ دِينِ اللهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَحْدُثُ لِأَهْلِهَا مِنَ التَّقَالِيدِ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ مُبَايِنٌ لِلْإِسْلَامِ الْعُرْفِيِّ ; لِذَلِكَ جَرَيْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى إِنْكَارِ جَعْلِ الْإِسْلَامِ جِنْسِيَّةً عُرْفِيَّةً مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً إِلَهِيَّةً. نَعَمْ إِنَّهُ لَوْ أُقِيمَ عَلَى أَصْلِهِ وَاسْتَتْبَعَ مَعَ ذَلِكَ رَابِطَةَ الْجِنْسِيَّةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرَّابِطَةُ إِلَّا رَابِطَةَ خَيْرٍ لِأَهْلِهَا غَيْرَ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ لِبِنَائِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَكِنَّ جَعْلَ الْجِنْسِيَّةِ هُوَ الْأَصْلُ مُفْسِدٌ لِلدِّينِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
رَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ أَرْسِلُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ فَأَسْلَمَ. وَأَخْرَجَ مُسَدَّدٌ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّازِقِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ كَفَرَ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِثُ: إِنَّكَ وَاللهِ - مَا عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَأَصْدَقُ مِنْكَ، وَإِنَّ اللهَ لَأَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ اهـ. (مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ) .
وَفِي رُوحِ الْمَعَانِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رَأَوْا نَعْتَ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِهِمْ وَأَقَرُّوا وَشَهِدُوا أَنَّهُ حَقٌّ، فَلَمَّا بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَسَدُوا الْعَرَبَ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرُوهُ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِقْرَارِهِمْ حَسَدًا لِلْعَرَبِ حِينَ بُعِثَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِثْلَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمْ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ وَالْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا رَجَعُوا عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَحِقُوا بِقُرَيْشٍ، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ: هَلْ لَنَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ: قَالَ الْأَلُوسِيُّ: وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَلَى هَذَا وَفِي التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ:
(1)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ كَانُوا آمَنُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ ثُمَّ أَخَذُوا يَتَرَبَّصُونَ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونَ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ تَابَ فَاسْتَثْنَى التَّائِبَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا.
(2)
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودِ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ، كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَكَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ فَلَمَّا بُعِثَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ كَفَرُوا بَغْيًا وَحَسَدًا.
(3)
نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَتَقَدَّمَ خَبَرُهُ.
أَقُولُ: إِنَّ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ مِنْ أَحَدٍ ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِهِ وَجَزَاءَهُمْ وَأَحْكَامَهُمْ وَقَدْ رَآهَا أَصْحَابُ أُولَئِكَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا صَادِقَةً عَلَى مَنْ قَالُوا إِنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ فَذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ. وَأَظْهَرُ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ وَأَشَدُّهَا الْتِئَامًا مَعَ السِّيَاقِ رِوَايَةُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ: إِنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ مَعَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فَهُوَ اسْتِبْعَادٌ
لِهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَإِيئَاسٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ، وَفَسَّرَتِ الْمُعْتَزِلَةُ الْهِدَايَةَ بِالْإِلْطَافِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ أَوْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ: بِخَلْقِ الْمَعْرِفَةِ. قَالَهُمَا الرَّازِيُّ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ. وَفَسَّرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ، فَأَمَّا الْإِرْشَادُ فَقَدْ أُوتُوهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ، وَلَوْلَاهُ لَمَا كَانَ لِإِيمَانِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ مَعْنًى، وَالصَّوَابُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى اسْتِبْعَادُ هِدَايَتِهِمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ وَإِيئَاسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِيمَانِهِمْ. وَوَجْهُ الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ - تَعَالَى - فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْحَقِّ هِيَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمُ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَعَ عَدَمِ الْمَوَانِعِ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى طَلَبِ الْمَطْلُوبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِهَؤُلَاءِ ; وَلِذَلِكَ آمَنُوا مِنْ قَبْلُ: وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ كَفَرُوا مُكَابَرَةً لِأَنْفُسِهِمْ وَمُعَانَدَةً لِلرَّسُولِ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا عَلَيْهِ. أَوِ الْمَعْنَى: بِأَيِّ كَيْفِيَّةٍ تَكُونُ هِدَايَةُ مَنْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا لِغَلَبَةِ الْعِنَادِ وَالِاسْتِكْبَارِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَانُوا بِذَلِكَ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِاسْتِحْبَابِ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَيْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ مُهْتَدِيًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ طَرِيقَتَانِ، إِحْدَاهُمَا شَهَادَتُهُمْ بِأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ: هِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا عَازِمِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا جَاءَ فِي زَمَنِهِمْ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِ الْعَلَامَاتُ وَظَهَرَتْ فِيهِ الْبِشَارَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهِ وَعَانَدُوهُ بَعْدَ مَجِيئِهِ بِالْبَيِّنَاتِ لَهُمْ وَظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى يَدَيْهِ، وَاللهُ لَا يَهْدِي أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْجَانِينَ عَلَيْهَا. وَوَضَعَ الْوَصْفَ الظَّالِمِينَ مَكَانَ الضَّمِيرِ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَجِبُ سُلُوكُهُ لِأَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ، فَذَكَرَهُ مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ بَعْدَ ادِّعَائِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَنَكُّبِ هَؤُلَاءِ بِاخْتِيَارِهِمْ لِطَرِيقِ الْحَقِّ وَهُوَ الْعَقْلُ وَهُدَى النُّبُوَّةِ بَعْدَ مَا عَرَفُوهُ بِالْبَيِّنَاتِ هُوَ نِهَايَةُ الظُّلْمِ. (قَالَ) : وَالْهِدَايَةُ هُنَا هِيَ الَّتِي أُمِرْنَا بِطَلَبِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَهِيَ الْإِيصَالُ إِلَى الْحَقِّ ;
لِأَنَّ سَائِرَ مَعَانِي الْهِدَايَةِ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ.
وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ - فَالرَّسُولُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلْجِنْسِ - وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ وَذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الرُّسُلُ مِنَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ حُظُوطِ النَّفْسِ وَأَهْوَائِهَا فِي الدِّينِ وَاسْتِبْدَالِهِمْ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ مَا وَضَعُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْبِدَعِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ: كَيْفَ تَرْجُو يَا مُحَمَّدُ هِدَايَةَ هَؤُلَاءِ الْمُعَانِدِينَ لَكَ ظَنًّا أَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ جَعَلَتْهُمْ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ مَا جِئْتَ بِهِ بَعْدَمَا عَلِمْتَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِحَقِيقَةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ بِنَقْضِهِمُ الْمِيثَاقَ وَتَحْرِيفِهِمُ الْكَلِمَ. أَقُولُ: وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَهِ الطَّرِيقَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُمَّةِ كَالشَّخْصِ لِتَكَافُلِهَا كَمَا قَرَّرَهُ مِرَارًا، فَالْمُرَادُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كُفْرُ مَجْمُوعِ الْحَاضِرِينَ وَأَمْثَالِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِ مَجْمُوعِ سَلَفِهِمْ لَا أَنَّ كَلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ مُؤْمِنًا ثُمَّ كَفَرَ.
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَعْنَةُ اللهِ عِبَارَةٌ عَنْ سُخْطِهِ، وَلَعْنَةُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِمَّا سُخْطُهُمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا وَإِمَّا الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَالَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُمْ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّ مَعْنَى اللَّعْنَةِ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ فَفِي حَقِيقَةِ الْأَسَاسِ " لَعَنَهُ أَهْلُهُ: طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ وَهُوَ لَعِينٌ طَرِيدٌ " وَبِذَلِكَ فَسَّرْنَا الْكَلِمَةَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ [2: 88] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ ذُكِرَ فِيهَا اللَّعْنُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الْعِبَارَةِ هُنَاكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَمَا قَالَهُ هُنَا هُوَ التَّفْسِيرُ بِطْرِيقِ اللُّزُومِ ; فَإِنَّ الطَّرِيدَ لَا يُطْرَدُ إِلَّا وَهُوَ مَسْخُوطٌ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ: " اللَّعْنُ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ. وَذَلِكَ مِنَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ وَفِي الدُّنْيَا انْقِطَاعٌ مِنْ قَبُولِ رَحْمَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَمِنَ الْإِنْسَانِ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ قَالَ:
أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [11: 18] وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ [24: 7] . اهـ. وَقَوْلُهُ دُعَاءٌ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ بِالطَّرْدِ لِأَنَّهُ هُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ فِي الْأَصْلِ. وَالْجُمْهُورُ يُفَسِّرُونَ لَعْنَ اللهِ لِمَنْ يَلْعَنُهُ بِطَرْدِهِ مِنْ جَنَّتِهِ أَوْ مِنْ رَحْمَتِهِ أَيِ الْخَاصَّةِ - إِذِ الرَّحْمَةُ الْعَامَّةُ مَبْذُولَةٌ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ -
وَيُفَسِّرُونَ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ مِنْهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَدُلُّ فِي الْبَشَرِ عَلَى الِانْفِعَالَاتِ تُفَسَّرُ بِآثَارِهَا الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ، وَلَكِنَّ السَّلَفِيِّينَ يُعِدُّونَ هَذَا تَأْوِيلًا، وَيَقُولُونَ: إِنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ كَغَيْرِهَا شُئُونٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يُدْرِكُ الْبَشَرُ كُنْهَهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي فُسِّرَتْ بِهَا آثَارُهَا، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ كَانَ سَلَفِيَّ الْعَقِيدَةِ فِي سِنِيهِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي عَرَفْنَاهُ فِيهَا، فَلَا يُبَالِي بِإِمْضَاءِ جَمِيعِ الْأَوْصَافِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ التَّنْزِيهِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ تَفْسِيرَ مِثْلِ " عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ " بِعَلَيْهِ السُّخْطُ أَقْرَبُ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِعَلَيْهِ الطَّرْدُ، فَمَا قَالَهُ أَقْرَبُ إِلَى الذَّوْقِ الصَّحِيحِ فِي أُسْلُوبِ الْكَلَامِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [16: 106] فَعَبَّرَ عَنْ وُقُوعِ الْغَضَبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ بِعَلَى، وَعَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ بِاللَّامِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَنْ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ لَا يَلْعَنُونَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ النَّاسِ يَلْعَنُونَهُمْ مَتَى عَرَفُوا حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مَجْلَبَةٌ لِلَّعْنَةِ بِطَبْعِهَا مِنْ كُلِّ مَنْ عَرَفَهَا، وَصَحَّحَ الرَّازِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ النَّاسِ مِنْ لَعْنِ الْكَافِرِ وَالْمُبْطِلِ، وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: لَهُ أَنْ يَلْعَنَهُ إِنْ كَانَ لَا يَلْعَنُهُ، كَأَنَّهُ يُفَسِّرُ اللَّعْنَ بِاسْتِحْقَاقِهِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [29: 25] وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنُونَ.
خَالِدِينَ فِيهَا أَيْ فِي اللَّعْنَةِ أَيْ يَكُونُونَ مَطْرُودِينَ، أَوْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِمْ إِلَى الْأَبَدِ، أَوْ فِي أَثَرِهِ، وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا ; لِأَنَّ عِلَّتَهُ مَا تَكَيَّفَتْ بِهِ نُفُوسُهُمُ الظَّالِمَةُ، وَهِيَ مَعَهُمْ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالشَّيْءُ يَدُومُ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مِنَ الْإِنْظَارِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْإِمْهَالُ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ ذَنْبِهِمْ وَتَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الظُّلْمِ الَّذِي
دَنَّسُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ فَتَرَكُوهُ مُسْتَقْبِحِينَ لَهُ نَادِمِينَ عَلَى مَا أَصَابُوا مِنْهُ وَأَصْلَحُوا أَعْمَالَهُمْ بِمَا صَارَ لِلْإِيمَانِ الرَّاسِخِ مِنَ السُّلْطَانِ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَالتَّصْرِيفِ لِإِرَادَتِهِمْ، أَوْ أَصْلَحُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَمُدُّ الْإِيمَانَ وَتُغَذِّيهِ وَتَمْحُو مِنْ لَوْحِ الْقَلْبِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ وَتُثْبِتُ فِيهِ أَضْدَادَهَا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَيَنَالُهُمْ مِنْ مَغْفِرَتِهِ مَا يُزَكِّي نُفُوسَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ، وَيُصِيبُهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مَا يُؤَهِّلُهُمْ لِدُخُولِ جَنَّتِهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا مِثَالُهُ: عَطَفَ الْإِصْلَاحَ عَلَى التَّوْبَةِ ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْعَمَلِ لَا شَأْنَ لَهَا وَلَا قِيمَةَ فِي نَظَرِ الدِّينِ، وَلِذَلِكَ جَرَى الْقُرْآنُ عَلَى عَطْفِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا أَوْ وَصْفِهَا بِالنَّصُوحِ، وَتَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُظْهِرُونَ التَّوْبَةَ بِالنَّدَمِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُونَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى مَا كَانُوا تَابُوا عَنْهُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّوْبَةِ أَثَرٌ فِي نُفُوسِهِمْ يُنَبِّهُهُمْ إِذَا غَفَلُوا كَيْ لَا يَعُودُوا إِلَى مَا اقْتَرَفُوا، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى اتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِإِصْلَاحِ شَأْنِهِمْ وَتَقْوِيمِ أَمْرِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ - تَعَالَى - مَا هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ لِلتَّائِبِينَ مَنْ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهَادَتِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَإِيذَاءِ الرَّسُولِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِالْكَيْدِ وَالتَّشْكِيكِ وَبِالْحَرْبِ وَالْكِفَاحِ، أَوِ الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَخْتَصُّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ، فَازْدِيَادُ الْكُفْرِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُنَمِّيهِ وَيُقَوِّيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَاوَمُ بِهَا الْإِيمَانُ، فَالْكُفْرُ يَزْدَادُ قُوَّةً وَاسْتِقْرَارًا وَتَمَكُّنًا بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ يُعِدُّونَهُ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ، إِذْ هُوَ مُخَالِفٌ فِي الظَّاهِرِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ وَلِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [42: 25] فَقَالَ الْقَاضِي
وَالْقَفَّالُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ مَنْ كَفَرَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلُ اللَّعْنَةِ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ كَفَرَ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ تِلْكَ التَّوْبَةِ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْأُولَى تَصِيرُ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. اهـ. مِنَ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ بِتَصَرُّفٍ. وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَلْيَقُ بِالْآيَةِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ مُطَّرِدٌ فِي الْآيَةِ سَوَاءٌ حُمِلَتْ عَلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ كِنَايَةٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَتُوبُونَ،
أَوْ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا إِذَا أَشْفَوْا عَلَى الْهَلَاكِ، فَكَنَّى عَنْ عَدَمِ تَوْبَتِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِهَا تَغْلِيظًا فِي شَأْنِهِمْ وَإِبْرَازِ حَالِهِمْ فِي صُورَةِ الْآيِسِينَ مِنَ الرَّحْمَةِ أَوْ لِأَنَّ تَوْبَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا نِفَاقًا لِارْتِدَادِهِمْ وَزِيَادَةِ كُفْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُدْخِلِ الْفَاءَ فِيهِ. اهـ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْكَلَامَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ التَّوْبَةُ عَنِ الذُّنُوبِ، فَهِيَ لَا تَنْفَعُهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ وَقَالَ عَنْ هَذَا الَّذِي قُلْنَا إِنَّهُ اخْتَارَهُ: إِنَّهُ أَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ (قَالَ) : وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّوَابِ ; لِأَنَّ الْآيَاتِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِيهِمْ نَزَلَتْ، فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هِيَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا إِذَا كَانَتْ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ مِنْ حُكْمِ اللهِ فِي عِبَادِهِ أَنَّهُ قَابِلُ تَوْبَةِ كُلِّ تَائِبٍ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَكَانَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ أَحَدَ تِلْكَ الذُّنُوبِ الَّتِي وَعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عُلِمَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الَّذِي تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالَّذِي لَا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ مِنْهُ هُوَ الِازْدِيَادُ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْكُفْرِ لَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَةَ صَاحِبِهِ مَا أَقَامَ عَلَى كُفْرِهِ ; لِأَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا مَا أَقَامَ عَلَى شِرْكِهِ وَضَلَالِهِ.
فَأَمَّا إِنْ تَابَ مِنْ شِرْكِهِ وَكُفْرِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. اهـ. ثُمَّ بَيَّنَ ضَعْفَ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ حَتَّى رِوَايَةَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوْبَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَجَزَمَ:(أَيِ ابْنُ جَرِيرٍ) بِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِطَرْفَةِ عَيْنٍ فَإِنَّ إِيمَانَهُ يَكُونُ مَقْبُولًا وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ،
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَهِيَ أَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى وَقْتِ التَّوْبَةِ وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّنْبِ الَّذِي تِيبَ عَنْهُ، وَلِلْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ وَجْهٌ يَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ التَّوْبَةِ وَكَيْفِيَّتِهَا. فَقَدْ ذُكِرَ فِي الدَّرْسِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ ازْدَادُوا كُفْرًا قَدْ يَحْدُثُ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَلَمٌ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْحَقِّ وَقَدْ يَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ الْأَلَمُ عَلَى تَرْكِ بَعْضِ الذُّنُوبِ وَالشُّرُورِ. قَالَ: فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا لَمْ يُصْلِحُوا أَمْرَهُمْ وَيُخْلِصُوا لِلَّهِ فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَنُصْرَتِهِ، فَالتَّوْبَةُ الَّتِي يَزْعُمُونَهَا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْمُحِقِّينَ لَا يَقْبَلُهَا اللهُ - تَعَالَى - ; يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ نَوْعٌ مِنَ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ مُطَهِّرًا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَمِيعِ مَا لَصِقَ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالْأَوْزَارِ، وَلَيْسَ هَذَا عَيْنُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَوْبَتَهُمْ هَذِهِ الَّتِي لَا تُقْبَلُ هِيَ تَوْبَةٌ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَبِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْيٌّ لِلتَّوْبَةِ وَهَذَا إِثْبَاتٌ لَهَا، بَلْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَنَّ النُّفُوسَ قَدْ تُوغِلُ فِي الشَّرِّ وَتَتَمَكَّنُ فِي الْكُفْرِ حَتَّى تُحِيطَ بِهَا خَطِيئَتُهَا وَتَصِلَ إِلَى مَا عَبَّرَ عَنْهُ الْقُرْآنُ بِالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى الْقُلُوبِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ قَدْ جَحَدَ الْحَقَّ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا وَضَلَّ عَلَى عِلْمٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالتَّوْبَةِ وَأَنْ يُحَاوِلَهَا وَلَكِنْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ وَالْحَوَائِلِ دُونَ قَبُولِهَا لِلْخَيْرِ
وَالْحَقِّ مَا يَكُونُ هُوَ السَّبَبُ لِعَدَمِ قَبُولِهَا فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ الْمُسْتَلْزِمَ لِمَغْفِرَةِ ذَنْبِ التَّائِبِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْعَطَاءِ الْجُزَافِ وَالْأَمْرِ الْأُنُفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِمُوَافَقَةِ سُنَنِ اللهِ فِي الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ أَنْ يُحْدِثَ لَهَا الْعِلْمُ بِقُبْحِ الذَّنْبِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ أَلَمًا يَحْمِلُهَا عَلَى تَرْكِهِ وَمَحْوِ أَثَرِهِ الْمُدَنِّسِ لَهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ يُحْدِثُ فِيهَا أَثَرًا مُضَادًّا لِذَلِكَ الْأَثَرِ. وَبِهَذَا تَكُونُ التَّوْبَةُ مُعِدَّةً صَاحِبَهَا وَمُؤَهِّلَةً لَهُ لِلْمَغْفِرَةِ الَّتِي هِيَ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الذَّنْبِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَحْوِ سَبَبِهِ وَهُوَ تَدْنِيسُ النَّفْسِ وَتَدْسِيَتُهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [91: 9، 10] فَإِذَا بَلَغَتِ التَّدْسِيَةُ مِنْ بَعْضِهَا مَبْلَغًا تَتَعَذَّرُ مَعَهُ التَّزْكِيَةُ عَلَى مُرِيدِهَا أَوْ مُحَاوِلِهَا صَحَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ صَاحِبِ هَذِهِ النَّفْسِ. مِثَالُ ذَلِكَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّاصِعُ يُصِيبُهُ لَوَثٌ فَيَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ
صَاحِبُهُ فَيَغْسِلُهُ فَيَنْظُفُ، فَإِذَا كَانَ اللَّوَثُ قَلِيلًا وَبَادَرَ إِلَى غَسْلِهِ بُعَيْدَ طُرُوئِهِ يُرْجَى أَنْ يَزُولَ حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ. وَلَكِنَّ هَذَا الثَّوْبَ إِذَا دُسَّ فِي الْأَقْذَارِ سِنِينَ كَثِيرَةً حَتَّى تَخَلَّلَتْ جَمِيعَ خُيُوطِهِ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا فَاصْطَبَغَ بِهَا صِبْغَةً جَدِيدَةً ثَابِتَةً تَعَذَّرَ تَنْظِيفُهُ وَإِعَادَتُهُ إِلَى نَصَاعَتِهِ الْأُولَى. وَبَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الطَّرَفَيْنِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [4: 17، 18] تِلْكَ حَالَةُ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْهَازِئِينَ بِالدِّينِ الْمُتَقَلِّبِينَ فِي الْكُفْرِ الْعَرِيقِينَ فِي الشَّرِّ ; وَلِذَلِكَ سَجَّلَ عَلَيْهِمُ الرُّسُوخَ فِي الضَّلَالِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ أَوِ الْحَصْرِ فَقَالَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ الْمُتَمَكِّنُونَ مِنَ الضَّلَالِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَحْصُورٌ فِيهِمْ، وَحَسْبُكَ بِضَالٍّ لَا تُرْجَى هِدَايَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَاتِ، فَالْأَوَّلُ مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً مَقُبُولَةً مِنَ الْكُفْرِ وَيَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فَيَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ. وَالثَّانِي مَنْ يَتُوبُونَ تَوْبَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ إِمَّا لِفَسَادِهَا فِي نَفْسِهَا وَإِمَّا لِأَنَّهَا تَوْبَةٌ عَنْ بَعْضِ أَعْمَالِ الْكُفْرِ مَعَ الْبَقَاءِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا، أَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ عَلَى الْكُفْرِ وَأَعْمَالِهِ حَتَّى يُدْرِكَهُمُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا إِذَا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ يُحْبِطُ كُلَّ عَمَلٍ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25: 23] فَهُوَ لَا يُفِيدُ فِي نَجَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ تَرْتَقِ رُوحُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى دَرَجَةِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهَا لَا تَرْتَقِي فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْهَاوِيَةِ الَّتِي تُسَمَّى النَّارَ وَالْجَحِيمَ إِلَى دَرَجَةٍ مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا الَّتِي تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ
عَلَى فَرْضِ أَنْ يَمْلِكَهُ بِأَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ جَزَاءَ نَجَاتِهِ وَالْعَفْوَ عَنْهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ مَعَ الْحُكَّامِ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ أَيْضًا. قَالَ - تَعَالَى - فِي وَعِيدِ الْمُنَافِقِينَ: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ
فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [57: 15] بَلْ لَا تُقْبَلُ الْفِدْيَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا، كَمَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى عَامَّةٍ، وَلَيْسَتْ عِلَّةُ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنْ كَوْنِ اللهِ - تَعَالَى - غَنِيًّا عَنِ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُفْتَدَى بِهِ، فَإِنَّهُ - تَعَالَى - غَنِيٌّ أَيْضًا عَنْ إِيمَانِ النَّاسِ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْ أَمْرَ نَجَاةِ النَّاسِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَلَا أَمْرَ فَوْزِهِمْ بِنَعِيمِهَا مِمَّا يَكُونُ بِالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ كَمَالٌ يُبْذَلُ وَعَظِيمٌ يَنْفَعُ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْرًا مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ دَاخِلِيٍّ، مُتَعَلِّقًا بِجَوْهَرِ النَّفْسِ، فَمَنْ زَكَّاهَا بِالْإِيمَانِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَفْلَحَ وَمَنْ دَسَّاهَا بِالْكُفْرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ خَابَ وَخَسِرَ - رَاجِعْ تَفْسِيرَ وَاتَّقُوا يَوْمًا [2: 48، 123] إِلَخْ - وَتَفْسِيرَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [2: 254] إِلَخْ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْآيَةِ: الْكَلَامُ فِي هَذَا الْجَزَاءِ مِنَ التَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلَى الذَّهَبِ وَلَا إِلَى إِنْفَاقِهِ، لِأَنَّ الْأَشْقِيَاءَ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْأَوْلِيَاءُ فِي غِنًى بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ عَمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلِافْتِدَاءِ لَوْ أُرِيدَ. لَيْسَ عِنْدَنَا عَنْهُ غَيْرُ هَذَا.
أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ بِدَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَوْ إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَصِيرًا مَا، كَمَا تُفِيدُهُ (مِنْ) الدَّالَّةُ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ وَيُسَمُّونَهَا زَائِدَةً ; لِأَنَّهَا لَا مُتَعَلِّقَ لَهَا فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ لَا لِأَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا فِي الْكَلَامِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَلَنْ يُقْبَلَ وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: لَنْ تُقْبَلَ بِغَيْرِ فَاءٍ، وَقَدْ بَيَّنَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ النُّكْتَةَ فِي ذَلِكَ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ فِيهَا، قَالَ:" قَدْ أُوذِنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْكَلَامَ بُنِيَ عَلَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَأَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ قَبُولِ الْفِدْيَةِ هُوَ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ، وَبِتَرْكِ الْفَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى التَّسَبُّبِ، كَمَا تَقُولُ: الَّذِي جَاءَنِي لَهُ دِرْهَمٌ، لَمْ تَجْعَلِ الْمَجِيءَ سَبَبًا فِي اسْتِحْقَاقِ الدِّرْهَمِ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: فَلَهُ دِرْهَمٌ " أَيْ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الدِّرْهَمَ جَزَاءً لِمَجِيئِهِ، وَالنُّكْتَةُ فِي غَايَةِ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ. فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ تَوْبَةِ أُولَئِكَ لَيْسَ مُسَبَّبًا عَنْ كَوْنِهِمْ كَفَرُوا، وَلَا عَنْ كَوْنِهِمُ ازْدَادُوا كُفْرًا ; لِأَنَّ الْكَافِرَ وَمَنِ ازْدَادَ كُفْرًا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمَا إِذَا صَحَّتْ، وَقَدْ عُلِمَ سَبَبُهُ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْقِعِ الْوَاوِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوِ افْتَدَى بِهِ عَلَى ظُهُورِهِ فِيمَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ قَوْلُ الزَّجَاجِ النَّحْوِيِّ: إِنَّهَا لِلْعَطْفِ وَالتَّقْدِيرُ لَوْ تَقَرَّبَ إِلَى اللهِ بِمَلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ. قَالَ الرَّازِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. قَالَ: وَهَذَا أَوْكَدُ فِي التَّغْلِيظِ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ
الْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
أَقُولُ: وَمَا قَدَّرْنَاهُ أَظْهَرُ وَبِالنَّظْمِ أَلْيَقُ. قَالَ الرَّازِيُّ بَعْدَ إِيرَادِ رَأْيِ الزَّجَّاجِ: (الثَّانِي) الْوَاوُ دَخَلَتْ لِبَيَانِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الْكَثِيرَةَ، فَنَصَّ عَلَى نَفْيِ الْقَبُولِ بِجِهَةِ الْفِدْيَةِ. أَقُولُ: وَلَوْ قَالَ التَّخْصِيصَ بَعْدَ التَّعْمِيمِ لَكَانَ أَظْهَرَ، لِأَنَّ ذِكْرَ وَاحِدٍ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ أَوْ يَحْتَمِلُهُ الْمُجْمَلُ لَيْسَ تَفْصِيلًا لَهُ. ثُمَّ قَالَ:(الثَّالِثُ) وَهُوَ وَجْهٌ خَطَرَ بِبَالِي وَهُوَ أَنَّ مَنْ غَضِبَ عَلَى بَعْضِ عَبِيدِهِ فَإِذَا أَتْحَفَهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِتُحْفَةٍ وَهَدِيَّةٍ لَمْ يَقْبَلْهَا أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَقْبَلُ الْفِدْيَةَ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ الْفِدْيَةَ أَيْضًا كَانَ ذَلِكَ غَايَةَ الْغَضَبِ، وَالْمُبَالَغَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ، فَحَكَمَ اللهُ - تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ كَانَ وَاقِعًا عَلَى سَبِيلِ الْفِدَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَبِأَلَّا يَكُونَ مَقْبُولًا مِنْهُ بِسَائِرِ الطُّرُقِ أَوْلَى. اهـ. وَفِي الْكَشَّافِ: هُوَ كَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَنْ تُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فِدْيَةٌ وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَلَوِ افْتَدَى بِمِثْلِهِ - وَأَوْرَدَ لِذَلِكَ شَوَاهِدَ وَأَمْثِلَةً ثُمَّ قَالَ - وَأَنْ يُرَادَ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أَيْضًا لَمْ يُقْبَلْ. اهـ.
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ
ذَكَرَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِبَيَانِ مَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُقْبَلُ مِنْهُمْ إِثْرَ بَيَانِ مَا لَا يَنْفَعُ الْكَافِرِينَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ
الْخِطَابَ لَا يَزَالُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ. ذَلِكَ أَنَّ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَقْرِنَ الْكَلَامَ فِي الْإِيمَانِ بِذِكْرِ آثَارِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَأَدَلُّهَا عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَمَّا حَاجَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي دَعَاوِيهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَكَوْنِهِمْ شَعْبَ اللهِ الْخَاصَّ وَكَوْنِ النُّبُوَّةِ مَحْصُورَةً فِيهِمْ، وَكَوْنِهِمْ لَا تَمَسُّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ خَاطَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآيَةِ الْإِيمَانِ وَمِيزَانِهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمَرْجُوحُ وَالرَّجِيحُ، وَهُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمَحْبُوبَاتِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُدَّعُونَ لِتِلْكَ الدَّعَاوِي وَالْمُفْتَخِرُونَ بِالْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَاتِّصَالِ حَبْلِ النَّسَبِ بِالنَّبِيِّينَ قَدْ أُحْضِرَتْ أَنْفُسُكُمُ الشُّحُّ وَآثَرْتُمْ شَهْوَةَ الْمَالِ عَلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَإِذَا أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مَا فَإِنَّمَا يُنْفِقُ مِنْ أَرْدَأِ مَا يَمْلِكُ وَأَبْغَضِهِ إِلَيْهِ وَأَكْرَهِهِ عِنْدَهُ ; لِأَنَّ
مَحَبَّةَ كَرَائِمِ الْمَالِ فِي قَلْبِهِ تَعْلُو مَحَبَّةَ اللهِ - تَعَالَى -، وَالرَّغْبَةَ فِي ادِّخَارِهِ تَفُوقُ لَدَيْهِ الرَّغْبَةَ فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِ مِنَ الرِّضَى وَالْمَثُوبَةِ، وَلَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ فَتُعَدُّوا مِنَ الْأَبْرَارِ الَّذِينَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ، حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فَحَذَفَ ذِكْرَ الْإِيمَانِ اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِ أَكْبَرِ آيَاتِهِ وَأَوْضَحِ دَلَالَتِهِ، وَهِيَ إِنْفَاقُ الْمَحْبُوبَاتِ وَبَذْلُ الْمُشْتَهَيَاتِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنَ الْإِنْفَاقِ هُنَا هُوَ الْمَالُ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ عِنْدَ النُّفُوسِ عَظِيمٌ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَسْهِلُّ بَذْلَ رُوحِهِ لِأَجْلِ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهِ أَوِ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ. أَقُولُ: وَتُؤَيِّدُهُ آيَةُ (2: 177) الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَالَ يَعُمُّ النَّقْدَيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ، وَشَرْطُ الْبِرِّ بَذْلُ بَعْضِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الطَّعَامِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [76: 8] أَيْ عَلَى حُبِّهِمْ إِيَّاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللهِ - تَعَالَى -، أَيْ لِأَجْلِ حُبِّهِ - تَعَالَى - وَالْمَالُ يَجْمَعُ جَمِيعَ الْمَحْبُوبَاتِ وَيُوَصِّلُ إِلَيْهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرِّ الْمُرَادِ هُنَا الَّذِي لَا يَنَالُهُ الْمَرْءُ - أَيْ يُصِيبُهُ وَيُدْرِكُهُ - إِلَّا إِذَا أَنْفَقَ مِمَّا يُحِبُّ فَقِيلَ: هُوَ بِرُّ اللهِ - تَعَالَى - وَإِحْسَانُهُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: الْجَنَّةُ، وَقِيلَ: هُوَ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَارًّا وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2: 177] الْآيَةَ، وَفِيهَا وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى إِلَخْ. وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
جَعَلَ إِيتَاءَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ شُعْبَةً مِنْ شُعَبِ الْبِرِّ، كَمَا جَعَلَ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ إِطْعَامَ الطَّعَامِ عَلَى حُبِّهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْأَبْرَارِ، وَلَكِنَّهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا جَعَلَ الْإِنْفَاقَ مِمَّا يُحِبُّ غَايَةً لَا يَنَالُ الْبِرَّ إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَيْهَا. وَقَدْ فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مِمَّا يُحِبُّ كَانَ بَرًّا وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِسَائِرِ شُعَبِ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالصَّبْرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، وَلَيْسَ مَا فُهِمَ بِصَوَابٍ، إِنَّمَا الصَّوَابُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ بَارًّا بِالْقِيَامِ بِهَذِهِ الْخِصَالِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى هَذِهِ الْخَصْلَةِ - الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ - وَمَا جَعَلَهَا غَايَةً إِلَّا وَهِيَ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْحُصُولِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ - تَعَالَى - وَوَهَبَهُ الْكَمَالَ.
وَهَذَا الْإِنْفَاقُ غَيْرُ الزَّكَاةِ، خِلَافًا لِمَا نُقِلَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ عُدَّتْ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ شُعَبِ الْبِرِّ وَأَرْكَانِهِ بَعْدَ ذِكْرِ إِيتَاءِ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الزَّكَاةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُحِبُّ الْمُؤَدِّي، بَلْ وَرَدَ أَمْرُ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا بِاتِّقَاءِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَمِنْ فَضْلِ اللهِ - تَعَالَى - عَلَيْنَا أَنِ اكْتَفَى مِنَّا فِي نَيْلِ الْبِرِّ بِأَنْ نُنْفِقَ مِمَّا نُحِبُّ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْنَا أَنْ نُنْفِقَ جَمِيعَ مَا نُحِبُّ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ هَلْ هُوَ مَحْبُوبٌ
لَدَيْكُمْ أَوْ مَزْهُودٌ فِيهِ، وَهَلْ أَنْتُمْ مُخْلِصُونَ فِي إِنْفَاقِهِ أَمْ أَنْتُمْ مُرَاءُونَ طَالِبُونَ لِلشُّهْرَةِ وَالْجَاهِ، فَهُوَ عز وجل يُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تُنْفِقُونَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ نِيَّتِكُمْ وَمِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِكُمْ، وَقَدْرِ مَا تَرْتَقِي بِذَلِكَ أَرْوَاحُكُمْ، فَرُبَّ مُنْفِقٍ مِمَّا يُحِبُّ لَا يَسْلَمُ مِنَ الرِّيَاءِ وَرُبَّ فَقِيرٍ لَا يَجِدُ مَا يُحِبُّ فَيُنْفِقُ مِنْهُ وَلَكِنَّ قَلْبَهُ يَفِيضُ بِالْبِرِّ حَتَّى لَوْ وَجَدَ مَا أَحَبَّ لَأَوْشَكَ أَنْ يُنْفِقَهُ كُلَّهُ.
وَيَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ جَعْلِ مَا يُحِبُّونَ لِلَّهِ - تَعَالَى -. ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ رِوَايَتِهِ وَنَقَلَ غَيْرُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ بَعْضَ الْوَقَائِعِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ نَخْلًا بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةً الْمَسْجِدَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ
مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ، إِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ بِحَيْثُ أَرَاكَ اللهُ - تَعَالَى -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بَخٍ بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ. فَقَالَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ " وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ " فَجَعَلَهَا بَيْنَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ:" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِفَرَسٍ يُقَالُ لَهَا سُبُلٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، فَقَالَ: وَهِيَ صَدَقَةٌ فَقَبِلَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَمَلَ عَلَيْهَا ابْنَهُ أُسَامَةَ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي وَجْهِ زَيْدٍ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَبِلَهَا مِنْكَ " وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ " فَكَأَنَّ زَيْدًا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَمَا إِنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَهَا " وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ آيَاتِ سِيَاسَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْقُلُوبِ. رَأَى أَنَّ زَيْدًا وَأَبَا طَلْحَةَ قَدْ خَرَجَا بِعَاطِفَةِ الْإِيمَانِ عَنْ أَحَبِّ أَمْوَالِهِمَا إِلَيْهِمَا عَلَى تَعَلُّقِ الْقُلُوبِ بِكَرَائِمِ الْأَمْوَالِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَقْرَبِينَ مِنْهُمَا لِيُثَبِّتَ قُلُوبَهُمَا فَلَا يَكُونُ لِلشَّيْطَانِ سَبِيلٌ إِلَى الْوَسْوَسَةِ لَهُمَا بِالنَّدَمِ أَوْ الِامْتِعَاضِ إِذَا رَأَيَا ذَلِكَ فِي أَيْدِي الْغُرَبَاءِ، وَقَدْ يَمْتَعِضُ الْمَرْءُ بَعْدَ فَقْدِ الْمَحْبُوبِ وَإِنْ فَارَقَهُ مُخْتَارًا مُرْتَاحًا لِعَاطِفَةٍ أَوْ أَرْيَحِيَّةٍ طَارِئَةٍ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يُعَاوِدَهُ مِنَ الْحَنِينِ إِلَيْهِ مَا لَا يُعَاوِدُهُ إِلَى مَا هُوَ أَغْلَى مِنْهُ ثَمَنًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَرَائِمِ الْمَحْبُوبَةِ ; وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ عُمَّالَ الصَّدَقَةِ بِاتِّقَاءِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي ذَلِكَ أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي: أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَةُ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ إِلَخْ فَذَكَرْتُ مَا أَعْطَانِي اللهُ - تَعَالَى - فَلَمْ أَجِدْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ مَرْجَانَةَ - جَارِيَةٍ لِي رُومِيَّةٍ - فَقُلْتُ: هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ - تَعَالَى -، فَلَوْ أَنِّي أَعُودُ فِي شَيْءٍ جَعَلْتُهُ
لِلَّهِ - تَعَالَى - لَنَكَحْتُهَا فَأَنْكَحْتُهَا نَافِعًا " فَانْظُرْ كَيْفَ رَاوَدَتْهُ نَفْسُهُ بَعْدَ عِتْقِهَا أَنْ يَسْتَبْقِيَهَا لِنَفْسِهِ وَلَا يُفَارِقَهَا لَوْلَا أَنْ كَانَ مِمَّا تَرَبَّتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْعَالِيَةُ أَلَّا يَعُودَ فِي شَيْءٍ جَعَلَهُ لِلَّهِ، وَانْظُرْ كَيْفَ خَصَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَوْلَاهُ نَافِعًا الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ كَوَلَدِهِ.
وَمِمَّا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: " كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ جَلُولَاءَ يَوْمَ فُتِحَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى فِي قِتَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فَأَعْتَقَهَا عُمَرُ ".
وَآثَارُ السَّلَفِ فِي الْإِيثَارِ وَبَذْلِ الْمَحْبُوبَاتِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَثِيرَةٌ " نَزَلَ بِالرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم ضَيْفٌ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَ أَهْلِهِ شَيْئًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - هُوَ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ - فَذَهَبَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الطَّعَامَ وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ بِإِطْفَاءِ السِّرَاجِ، فَقَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُهُ فَأَطْفَأَتْهُ، وَجَعَلَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ كَأَنَّهُ يَأْكُلُ وَلَا يَأْكُلُ حَتَّى أَكَلَ الضَّيْفُ وَبَقِيَ هُوَ وَعِيَالُهُ مَجْهُودِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ عَجِبَ اللهُ عز وجل مِنْ صَنِيعِكُمُ اللَّيْلَةَ إِلَى ضَيْفِكُمْ وَنَزَلَتْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [59: 9] رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَاشْتَهَى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ سَمَكَةً، وَكَانَ قَدْ نَقِهَ مِنْ مَرَضٍ فَالْتُمِسَتْ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ تُوجَدْ حَتَّى وُجِدَتْ بَعْدَ مُدَّةٍ وَاشْتُرِيَتْ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ فَشُوِيَتْ وَجِيءَ بِهَا عَلَى رَغِيفٍ فَقَامَ سَائِلٌ بِالْبَابِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْغُلَامِ لُفَّهَا بِرَغِيفِهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ فَأَبَى الْغُلَامُ فَرَدَّهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: كُلْ هَنِيئًا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ أَعْطَيْتُهُ دِرْهَمًا وَأَخَذْتُهَا، فَقَالَ لُفَّهَا وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَلَا تَأْخُذْ مِنْهُ الدِّرْهَمَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً فَرَدَّ شَهْوَتَهُ وَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ غُفِرَ لَهُ أَوْ غَفَرَ اللهُ لَهُ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الضُّعَفَاءِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: " أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَ شَاةٍ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي فُلَانًا كَانَ أَحْوَجَ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا أَحْوَجُ مِنِّي إِلَيْهِ فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى تَدَاوَلَهُ سَبْعَةُ أَبْيَاتٍ وَرَجَعَ إِلَى الْأَوَّلِ " نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ فِي الْقُوتِ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ. وَيُشْبِهُ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَنْطَاكِيِّ الصُّوفِيِّ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ نَفْسًا وَنَيِّفٌ وَكَانُوا فِي قَرْيَةٍ بِقُرْبِ الرَّيِّ وَلَهُمْ أَرْغِفَةٌ مَعْدُودَةٌ لَا تُشْبِعُ جَمِيعَهُمْ، فَكَسَرُوا الرُّغْفَانَ وَأَطْفَئُوا السِّرَاجَ وَجَلَسُوا لِلطَّعَامِ وَأَوْهَمَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ، فَلَمَّا رُفِعَ إِذَا الطَّعَامُ بِحَالِهِ لَمْ يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْهُ شَيْئًا.
وَفِي الْإِحْيَاءِ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ رضي الله عنه خَرَجَ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَلَى نَخِيلِ قَوْمٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ يَعْمَلُ فِيهِ، إِذْ أَتَى الْغُلَامُ بِقُوتِهِ فَدَخَلَ الْحَائِطَ كَلْبٌ وَدَنَا مِنَ الْغُلَامِ، فَرَمَى إِلَيْهِ الْغُلَامُ بِقُرْصٍ فَأَكَلَهُ، ثُمَّ رَمَى إِلَيْهِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ فَأَكَلَهُمَا وَعَبْدُ اللهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ كَمْ قُوتُكَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: مَا رَأَيْتَ، قَالَ: فَلِمَ آثَرْتَ هَذَا الْكَلْبَ؟ فَقَالَ: مَا هِيَ بِأَرْضِ كِلَابٍ، إِنَّهُ جَاءَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ جَائِعًا فَكَرِهْتُ رَدَّهُ، قَالَ: فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ الْيَوْمَ؟ قَالَ: أَطْوِي يَوْمِي هَذَا. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أُلَامُ عَلَى السَّخَاءِ؟ إِنَّ هَذَا لَأَسْخَى مِنِّي. فَاشْتَرَى الْحَائِطَ (أَيْ بُسْتَانَ النَّخْلِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ) وَالْغُلَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآلَاتِ فَأَعْتَقَ الْغُلَامَ وَوَهَبَهُ لَهُ.
وَفِي هَذِهِ الْآثَارِ وَأَمْثَالِهَا مَا يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَيَنْتَمِي إِلَى أُولَئِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.