المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَعْبِيرَ الْإِسْكَافِيِّ فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَوْسَعُ مِنَ - تفسير المنار - جـ ٩

[محمد رشيد رضا]

الفصل: وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَعْبِيرَ الْإِسْكَافِيِّ فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَوْسَعُ مِنَ

وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ تَعْبِيرَ الْإِسْكَافِيِّ فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ أَوْسَعُ مِنَ التَّعْبِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِشْكَالِ، فَقَدْ قَالَ هُوَ: إِنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِيهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْفِعْلِ وَإِدْنَائِهِ مِنَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِجَعْلِ الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ حَقِيقَةً أَوْ بِجَعْلِ مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ قَرِيبًا جِدًّا حَتَّى كَأَنَّهُ حَالٌ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا

يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِمْ: تَخْلِيصُ مَعْنَى الْمُضَارِعِ لِلْحَالِ، وَجَوَابُهُمْ عَنِ الْآيَتَيْنِ يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِمْ كَمَا يَظْهَرُ فِي تَعْبِيرِهِ هُوَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ مَا.

ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِدْقِ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (فَلَسَوْفَ) مِنْ كَوْنِ فِرْعَوْنَ ذَكَرَ فِي وَعِيدِهِمُ الْمُسْتَقْبَلِ أَنَّهُ قَرِيبٌ، وَأَنَّهُ قَطْعِيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ، سَوَاءٌ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِيضَاحِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْارَكِ، وَرُبَّ جُمْلَةٍ أَوْ جُمَلٍ طَوِيلَةٍ تُؤَدَّى فِي الْقُرْآنِ بِجُمْلَةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ كَلِمَةٍ أَوْ حَرْفٍ فِي كَلِمَةٍ كَاللَّامِ هُنَا، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْلَفْظِيَّةِ فِي غَيْرِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ، وَكُلُّهَا دُونَ إِعْجَازِهِ فِي بَيَانِ حَقَائِقِ الشَّرْعِ وَالْعِلْمِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ بِالتَّرْجَمَةِ؟ وَمِثْلُهُ فِي هَذَا مَا سَبَقَ، وَمَا يَأْتِي مِنْ تَتِمَّةِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ.

(وَمِنْهَا) - أَيْ: مَبَاحِثُ الْمُقَابَلَةِ وَالتَّنْظِيرِ بَيْنَ السُّوَرِ - أَنَّهُ قَالَ هُنَا: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَقَالَ فِي (طَهَ: 71) وَ (الشُّعَرَاءِ: 49) وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْعَاطِفَيْنِ فَإِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ بِالتَّعْقِيبِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " الْفَاءُ " بِالتَّرَاخِي الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ " ثُمَّ " وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَحَدِهِمَا، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَفَادَ بِـ " ثُمَّ " مَعْنًى خَاصًّا، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ التَّرَاخِي فِي الزَّمَنِ أَوِ الرُّتْبَةِ، وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفَادَ بِقَوْلِهِ:(فَلَسَوْفَ)(26: 49) وَقَوْلِهِ: (فَلَأُقَطِّعَنَّ)(20: 71) أَنَّ الْوَعِيدَ سَيُنَفَّذُ حَالًا فِي الْمَجْلِسِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ مِنْ خِلَافٍ - أَفَادَ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ (7:‌

‌ 124)

أَنَّ التَّصْلِيبَ نَوْعٌ آخَرُ، وَمَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ مِنَ التَّنْكِيلِ بِهِمْ، أَوْ سَيَتَأَخَّرُ عَنِ التَّقْطِيعِ فِي الزَّمَنِ بِأَنْ يَظَلُّوا بَعْدَهُ مَطْرُوحِينَ عَلَى الْأَرْضِ إِهَانَةً لَهُمْ، ثُمَّ يُعَلَّقُونَ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَكَوْنُ التَّصْلِيبِ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فَائِدَةٌ أُخْرَى زَادَهَا فِي سُورَةِ طَهَ، وَتَخْصِيصُهَا بِهَا مُنَاسِبٌ لِنَظْمِهَا، وَلَعَلَّكَ تُدْرِكُ ذَلِكَ بِالذَّوْقِ كَمَا تُدْرِكُ بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ بُحُورِ الشِّعْرِ.

وَأَوْرَدْنَا هَذَا الْبَحْثَ الْفَنِّيَّ وَأَمْثَالَهُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى اجْتِنَابِنَا لِلِاصْطِلَاحَاتِ الْفَنِّيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ فِي الْغَالِبِ لِثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ: (1) أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، وَلَمْ نَرَ لَهَا بَيَانًا فِي التَّفَاسِيرِ الْمُتَدَاوَلَةِ حَتَّى الَّتِي تَمْتَازُ بِالْعِنَايَةِ بِمِثْلِهَا.

(2)

بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الدِّقَّةِ فِي تَحْدِيدِ الْمَعَانِي، وَغَرَائِبِ الْإِيجَازِ وَالِاتِّفَاقِ فِي مَظِنَّةِ الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ الْمَعْهُودُ فِي كُلِّ مَوْضُوعٍ طَوِيلٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (4: 82) إِذْ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَةِ بَشَرٍ أَنْ يَحْكِيَ قِصَّةً كَقِصَّةِ مُوسَى

ص: 65

بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ بِمِثْلِ هَذَا التَّحْدِيدِ لِلْمَعَانِي مَعَ

سَلَامَتِهَا كُلِّهَا مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، وَإِنْ كَتَبَ ذَلِكَ كِتَابَةً، وَقَابَلَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مُنَقِّحًا لَهُ وَمُصَحِّحًا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ يَرْتَجِلُ الْكَلَامَ ارْتِجَالًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتْلُو الْقُرْآنَ كَالْمُرْتَجِلِ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَلَقَّاهُ فَيُؤَدِّيهِ كَمَا تَلَقَّاهُ، فَيَعْجَلُ بِهِ خَائِفًا أَنْ يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى لُقِّنَ فِيهِ نَبَأَ عِصْمَتِهِ مِنْ نِسْيَانِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى كَفَلَ حِفْظَهُ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (87: 6) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (75: 16، 17) وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ (20: 114) وَتِلْكَ ضُرُوبٌ مِنْ إِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ، وَلِضُرُوبِ إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ أَكْبَرُ.

(3)

إِثْبَاتُ عَجْزِ الْبَشَرِ عَنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَةٍ أُخْرَى تُؤَدِّي مَعَانِيهِ كُلَّهَا، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُتَعَذَّرِ أَدَاؤُهَا بِمِثْلِهَا مِنْ لُغَتِهَا، فَتَرْجَمَتُهَا بِلُغَةٍ أُخْرَى أَوْلَى.

وَقَدْ تَصَدَّى بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِتَرْجَمَتِهِ بِاللُّغَةِ التُّرْكِيَّةِ الْفَقِيرَةِ الْمُلَفَّقَةِ مِنْ عِدَّةِ لُغَاتٍ لِأَجْلِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْمَلَاحِدَةُ مِنْ زُعَمَاءِ التُّرْكِ عَلَى مَا يَبْتَغُونَ مِنْ سَلِّ الشَّعْبِ التُّرْكِيِّ مِنَ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ عَنْ كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (26: 195) كَمَا ثَبَتَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ.

فَإِنِ انْخَدَعَ هَذَا الشَّعْبُ الْمُسْلِمُ بِهَذَا، سَهُلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَإِنَّهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، ثُمَّ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَمَا كَتَبَهُ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّفْسِيرِ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَبَعْدَ هَذَا يَتَحَكَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ بِمَا شَاءُوا، وَيُورِدُونَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْإِسْلَامِ الْمُشَوَّهِ الْمَأَخُوذِ مِنْ تَرْجَمَتِهِمُ الْقَابِلَةِ لِذَلِكَ - وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ لَهُمْ مَا يُرِيدُونَ مِنْ جَعْلِ التُّرْكِ أُمَّةً لَا دِينِيَّةَ، وَلَكِنْ لَنْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَالشَّعْبُ التُّرْكِيُّ رَاسِخٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَتَى عَرَفَ كَيْدَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُضِلِّينَ فَإِنَّهُ يَنْبِذُهُمْ نَبْذَ النَّوَاةِ.

تَتِمَّةُ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ

وَهَاهُنَا يَرِدُ سُؤَالٌ: مَاذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ السَّحَرَةِ عِنْدَمَا سَمِعُوا هَذَا التَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَبِمَ أَجَابُوا ذَلِكَ الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ؟ وَجَوَابُهُ هُنَا: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَنَوْا بِقَوْلِهِمْ هَذَا أَنْفُسَهُمْ وَحْدَهَا، وَأَرَادُوا أَنَّهُمْ

لَا يُبَالُونَ مَا يَكُونُ مِنْ قَضَائِهِ فِيهِمْ وَقَتْلِهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى رَبِّهِمْ، رَاجُونَ مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَعْجِيلُ قَتْلِهِمْ سَبَبًا لِقُرْبِ لِقَائِهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِحُسْنِ جَزَائِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ عَنَوْا أَنْفُسَهُمْ وَفِرْعَوْنَ جَمِيعًا، وَأَرَادُوا: إِنَّنَا وَإِيَّاكَ سَنَنْقَلِبُ إِلَى رَبِّنَا، فَلَئِنْ قَتَلْتَنَا فَمَا أَنْتَ بِخَالِدٍ بَعْدَنَا، وَسَيَحْكُمُ عز وجل بِعَدْلِهِ بَيْنَكَ وَبَيْنَنَا

ص: 66

وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِكَذِبِهِ فِي دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَصْرِيحُ وَإِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (26: 50، 51) وَهُوَ يُؤَيِّدُ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ، وَلَا يُنَافِي الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْأَوَّلَ.

وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا قَالَ الرَّاغِبُ: نَقِمْتُ الشَّيْءَ وَنَقَمْتُهُ أَيْ - مِنْ بَابَيْ فَرِحَ وَضَرَبَ - إِذَا أَنْكَرْتُهُ إِمَّا بِاللِّسَانِ وَإِمَّا بِالْعُقُوبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ (9: 74)، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ (85: 8) هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا (5: 59) الْآيَةَ. وَالنِّقْمَةُ: الْعُقُوبَةُ، قَالَ: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (7: 136) إِلَخْ. وَتَفْسِيرُهُ هَذَا لِـ " نَقَمَ " أَدَقُّ وَأَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ: وَنَقِمْتُ مِنْهُ كَذَا: أَنْكَرْتُهُ وَعِبْتُهُ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إِلَّا الْقَوْلِيَّ مِنْهُ، وَقَدِ اسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا (85: 8) وَهُوَ فِي أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، وَكَانَ النَّقْمُ مِنْهُمْ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَنْسَى وَلَا يَغْفُلُ. وَمَا ذَكَرَهُ السَّحَرَةُ مِنْ نَقْمِ فِرْعَوْنَ مِنْهُمْ كَانَ بِالْقَوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِنْكَارُ التَّوْبِيخِيُّ لِإِيمَانِهِمْ، وَالتُّهْمَةُ فِيهِ وَالْوَعِيدُ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَفَّذَ الْوَعِيدَ بِالِانْتِقَامِ بِالْفِعْلِ، وَاسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا لَغَالِبُونَ (28: 35) أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَنْفِيذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَفِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَنِهَايَتِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِنَتِيجَتِهَا، وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِيهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ فِي قِصَّتِهِ الَّتِي مَرَّتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَوْلِهِ قَبْلَهُ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مِنْهَا: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ عَامَّةً بَعْدَ ذِكْرِ تَكْذِيبِ قَوْمِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم:

كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (10: 39) وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِمَنِ اتَّبَعَ مُوسَى وَهَارُونَ قَوْمُهُمَا خَاصَّةً، وَهُمُ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ مُوسَى بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ بَعْدَ وَعِيدِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ عَقِبَ خَبَرِ السَّحَرَةِ، وَهُوَ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ قَدْ بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: فَأَخَذْنَاهُ يَعْنِي فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (28: 40)، وَقَدْ خَتَمَ تَعَالَى مَا قَصَّهُ هُنَا مِنْ كَلَامِ السَّحَرَةِ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَنَذْكُرُهُ تَالِينَ دَاعِينَ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ أَيْ: رَبَّنَا هَبْ لَنَا صَبْرًا وَاسِعًا تُفِيضُهُ وَتُفْرِغُهُ عَلَيْنَا إِفْرَاغًا بِتَثْبِيتِكَ إِيَّانَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَتَأْيِيدِنَا بِرُوحِكَ فِيهِ كَمَا يُفْرَغُ الْمَاءُ مِنَ الْقِرَبِ، حَتَّى لَا يَبْقَى

ص: 67

فِي قُلُوبِنَا شَيْءٌ مِنْ خَوْفِ غَيْرِكَ، وَلَا مِنَ الرَّجَاءِ فِيمَا سِوَى فَضْلِكَ وَنَوَالِكَ. وَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ حَالَ كَوْنِنَا مُسْلِمِينَ لَكَ مُذْعِنِينَ لِأَمْرِكَ وَنَهْيِكَ، مُسْتَسْلِمِينَ لِقَضَائِكَ، غَيْرَ مَفْتُونِينَ بِتَهْدِيدِ فِرْعَوْنَ، وَغَيْرِ مُطِيعِينَ لَهُ فِي قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ. جَمَعُوا بِدُعَائِهِمْ هَذَا بَيْنَ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.

يَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ كَمَالِ الصَّبْرِ - تَنْكِيرُهُ وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِيتَائِهِ بِالْإِفْرَاغِ، وَهُوَ صَبُّ الْمَاءِ الْكَثِيرِ مِنَ الدَّلْوِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا تَصْوِيرُنَا لِحُصُولِ ذَلِكَ بِقُوَّةِ الْإِيمَانِ فَمَأْخَذُهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالتَّجَارِبِ: أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ قُوَّةٍ فِيهَا عَلَى احْتِمَالِ الْآلَامِ وَالْمَكَارِمِ بِغَيْرِ تَبَرُّمٍ وَلَا حَرَجٍ يَحْمِلُهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مِنْ تَرْكِ الْحَقِّ أَوِ اجْتِرَاحِ الْبَاطِلِ، وَلَا شَيْءَ كَالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ يُقَوِّي هَذِهِ الصِّفَةَ فِي النَّفْسِ، وَمَأْخَذُهُ مِنَ النَّقْلِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَوَجَبَتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (29: 59) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (103: 3) وَمِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ قَوْلُهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (3: 175) .

وَلَدَيْنَا مِنْ نُقُولِ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، وَقَدْ صَرَّحَ الَّذِينَ كَتَبُوا أَخْبَارَ الْحُرُوبِ الْأَخِيرَةِ بِعِلَلِهَا وَفَلْسَفَتِهَا: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ جَمِيعِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ شَجَاعَةً، وَأَشَدُّ صَبْرًا عَلَى مَشَاقِّ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ يَحْرِصُ أَوْسَعُ النَّاسِ عِلْمًا بِسُنَنِ الْخَلْقِ، وَأَشَدُّهُمْ عِنَايَةً بِفُنُونِ الْحَرْبِ - كَالشَّعْبِ الْأَلْمَانِيِّ - عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ فِي جَيْشِهِمْ، وَلِلْبِرِنْسِ بِسْمَارْكَ مُؤَسِّسِ وَحْدَتِهِمْ،

وَوَزِيرِهِمِ الْأَعْظَمِ بَلْ أَكْبَرُ سَاسَةِ أُورُبَّةَ - كَلِمَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَثْبَتْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنَارِ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِ (وَقَائِعِ بِسْمَارْكَ وَمُذَكِّرَاتِهِ) الَّتِي نَشَرَهَا كَاتِمُ سِرِّهِ مِسْيُو بُوش بَعْدَ مَوْتِهِ نَكْتَفِي مِنْهَا هُنَا بِقَوْلِهِ:

" جَلَسَ الْبِرِنْسُ بِسْمَارْكُ عَلَى مَائِدَةِ الطَّعَامِ فَرَأَى بُقْعَةً مِنَ الدُّهْنِ عَلَى غِطَاءِ الْمَائِدَةِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كَمَا تَنْتَشِرُ هَذِهِ الْبُقْعَةُ فِي النَّسِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا كَذَلِكَ يَنْفُذُ الشُّعُورُ بِاسْتِحْسَانِ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ فِي أَعْمَاقِ قُلُوبِ الشَّعْبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَمَلٌ فِي الْجَزَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ (أَيْ فِي الدُّنْيَا) ذَلِكَ لَمَا اسْتَكَنَّ فِي الضَّمَائِرِ مِنْ بَقَايَا الْإِيمَانِ - ذَلِكَ لِمَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَنَّ وَاحِدًا مُهَيْمِنًا يَرَاهُ وَهُوَ يُجَالِدُ وَيَمُوتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِدُهُ يَرَاهُ.

فَقَالَ بَعْضُ الْمُرْتَابِينَ: أَتَظُنُّ سَعَادَتُكُمْ أَنَّ الْعَسَاكِرَ يُلَاحِظُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةَ؟

فَأَجَابَهُ الْبِرِنْسُ: لَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْمُلَاحَظَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ شُعُورٌ وَوِجْدَانٌ، هُوَ بَوَادِرُ تَسْبِقُ الْفِكْرَ، هُوَ مَيْلٌ فِي النَّفْسِ وَهَوًى فِيهَا، كَأَنَّهُ غَرِيزَةٌ لَهَا؛ وَلَوْ لَاحَظُوا لَفَقَدُوا ذَلِكَ الْمَيْلَ، وَأَضَلُّوا ذَلِكَ الْوِجْدَانَ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّنِي لَا أَفْهَمُ كَيْفَ يَعِيشُ قَوْمٌ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يَقُومُوا بِتَأْدِيَةِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ؟ أَوْ كَيْفَ يَحْمِلُونَ غَيْرَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ

ص: 68

إِيمَانٌ بِدِينٍ جَاءَ بِهِ وَحْيٌ سَمَاوِيٌّ، وَاعْتِقَادٌ بِإِلَهٍ يُحِبُّ الْخَيْرَ، وَحَاكِمٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْفَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ؟ ".

ثُمَّ أَطَالَ فِي ذَلِكَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَوْلَا عَقِيدَتُهُ الدِّينِيَّةُ لَمَا خَدَمَ سُلْطَانَهُ وَعَاهِلَهُ (الْإِمْبِرَاطُورَ) سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فَيُرَاجَعُ فِي مَحَلِّهِ.

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ

أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خَافَ مَلَأُ فِرْعَوْنَ عَاقِبَةَ تَرْكِهِ لِمُوسَى حُرًّا مُطْلَقًا فِي مِصْرَ، فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللهُ تَعَالَى بِمَا قَالُوهُ لَهُ، وَمَا أَجَابَهُمْ بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ جَوَابِهِ فِي مُوسَى وَقَوْمِهِ مِنْ نُصْحِهِ لَهُمْ، وَمَا دَارَ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ؟ أَيْ: قَالُوا لَهُ: أَتَتْرُكُ مُوسَى وَقَوْمَهُ أَحْرَارًا آمِنِينَ لِتَكُونَ عَاقِبَتَهُمْ أَنْ يُفْسِدُوا قَوْمَكَ عَلَيْكَ فِي أَرْضِ مِصْرَ بِإِدْخَالِهِمْ فِي دِينِهِمْ، أَوْ جَعْلِهِمْ تَحْتَ سُلْطَتِهِمْ وَرِيَاسَتِهِمْ، وَيَتْرُكَكَ مَعَ آلِهَتِكَ كَالشَّيْءِ اللَّقَا، فَيَظْهَرُ لِلْمِصْرِيِّينَ عَجْزُكَ وَعَجْزُهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ إِيمَانِ السَّحَرَةِ - إِذِ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ بَعْدَ قِصَّةِ السَّحَرَةِ - وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَرْكِهِ وَآلِهَتِهِ: عَدَمُ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَتِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ:(وَإِلَاهَتَكَ) أَيْ: عِبَادَتَكَ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ التَّارِيخِ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْعَادِيَاتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ أَنَّهُ كَانَ

ص: 69

لِلْمِصْرِيِّينَ آلِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الشَّمْسُ، وَاسْمُهَا فِي لُغَتِهِمْ (رَعْ) وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ فِي لَقَبِ فِرْعَوْنَ فَهُوَ عِنْدَهُمْ سَلِيلُ الشَّمْسِ وَابْنُهَا، وَسَنَنْقُلُ بَعْدَ جَوَابِهِ لَهُمْ أَثَرًا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَيُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ هَذِهِ الْآلِهَةِ.

قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أَيْ: قَالَ مُجِيبًا لِلْمَلَأِ: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَ قَوْمِهِ تَقْتِيلًا مَا تَنَاسَلُوا - فَتَعْبِيرُهُ بِالتَّقْتِيلِ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ وَالتَّدْرِيجِ - وَنَسْتَبْقِي نِسَاءَهُمْ أَحْيَاءً كَمَا كُنَّا نَفْعَلُ مِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهِ حَتَّى يَنْقَرِضُوا وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وَإِنَّا مُسْتَعْلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْغَلَبَةِ وَالسُّلْطَانِ، قَاهِرُونَ لَهُمْ كَمَا كُنَّا مِنْ قَبْلُ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِفْسَادًا فِي أَرْضِنَا، وَلَا خُرُوجًا مِنْ حَظِيرَةِ تَعْبِيدِنَا، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (40: 26) وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لَدَيْهِ مَنْ يُدَافِعُ عَنْ مُوسَى مِمَّنْ آمَنَ بِهِ سِرًّا، وَمِمَّنْ كَانَ يُحِبُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي (20: 39) وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا كَانَ لَهُ فِي أَنْفُسِ

الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالِاحْتِرَامِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى لَنَا دِفَاعَ وَاحِدٍ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ فَقَالَ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (40: 28) .

وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْعَادِيَاتِ الْمِصْرِيَّةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى هُوَ الْمَلِكُ (مِنْفِتَاحُ) وَكَانَ يُلَقَّبُ بِسَلِيلِ الْإِلَهِ (رَعْ) وَقَدْ جَاءَ فِي آخِرِ الْأَثَرِ الْمِصْرِيِّ الْوَحِيدِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ (وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِرَقْمِ 34025 الْمَحْفُوظُ فِي مَتْحَفِ مِصْرَ) أَنَّ مِصْرَ هِيَ السَّلِيلَةُ الْوَحِيدَةُ لِلْمَعْبُودِ (رَعْ) مُنْذُ وُجُودِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ " مِنْفِتَاحَ " سَلِيلَةٌ أَيْضًا، وَهُوَ الْجَالِسُ عَلَى سُدَّةِ الْمَعْبُودِ " شُو " وَأَنَّ الْإِلَهَ " رَعْ " الْتَفَتَ إِلَى مِصْرَ فَوَلَدَ " مِنْفِتَاحَ " مَلِكَ مِصْرَ، وَشَيْءٌ لَهُ أَنْ يَكُونَ مُنَاضِلًا عَنْهَا فَتَخَنَّعَ لَهُ الْوُلَاةُ، وَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنَ الْبَدْوِ رَأْسَهُ، فَخَضَعَ لَهُ الْقَيْرَوَانِيُّونَ وَالْحَيْثِيُّونَ وَالْكَنْعَانِيُّونَ وَعَسْقَلَانُ وَجِزَالُ وَيَنْعِمَامُ.

وَفِيهِ: وَانْفَكَّ الْإِسْرَائِيلِيُّونَ فَلَا بَزْرَ لَهُمْ، وَأَصْبَحَتْ فَلَسْطِينُ خَلِيَّةً لِمِصْرَ وَالْأَرَاضِي كُلُّهَا مَضْمُومَةٌ فِي حِفْظِهِ، وَكُلُّ اسْمٍ وَعَفَهُ " أَضْعَفَهُ وَأَذَلَّهُ " الصَّيْدَنُ لَقَبُ (مِنْفِتَاحَ) سَلِيلِ الشَّمْسِ مُعْطَى الْمَعِيشَةِ كُلَّ نَهَارٍ مِثْلَ الشَّمْسِ اهـ، وَمَا ذُكِرَ لَا يُنَافِي ادِّعَاءَهُ الِانْفِرَادَ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ الْعُلْيَا بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: فَلَا بَزْرَ لَهُمْ، هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِنَا: انْقَطَعَ دَابِرُهُمْ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَفِي الْمَجَازِ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَآلِ.

ص: 70

وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنْ يَخَافَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هَذَا الْوَعِيدَ، وَأَنْ يُطَمْئِنَهُمْ مُوسَى عليه السلام، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ: اطْلُبُوا مَعُونَةَ اللهِ تَعَالَى، وَتَأْيِيدَهُ لَكُمْ عَلَى مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الْوَعِيدِ وَاصْبِرُوا، وَلَا تَجْزَعُوا، فَإِنْ سَأَلْتُمْ لِمَاذَا وَإِلَى مَتَى؟ أَقُلْ لَكُمْ: إِنَّ الْأَرْضَ - جِنْسَهَا، أَوِ الْأَرْضَ الَّتِي وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ إِيَّاهَا، وَهِيَ فَلَسْطِينُ - لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لَا لِفِرْعَوْنَ، فَهِيَ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى دُوَلٌ، وَالْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي يَنْتَهِي

إِلَيْهَا التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأُمَمِ لِلْمُتَّقِينَ، أَيِ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللهَ بِمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي أَسْبَابِ إِرْثِ الْأَرْضِ كَالِاتِّحَادِ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْحَقِّ، وَإِقَامَةِ الْعَدْلِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هَدَى إِلَيْهِ وَحَيُّهُ، وَأَيَّدَتْهُ التَّجَارِبُ، وَمُرَادُهُ عليه السلام أَنَّ الْعَاقِبَةَ سَتَكُونُ لَكُمْ بِإِرْثِ الْأَرْضِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ لَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ شَرْعِهِ، وَالسَّيْرِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَتَوَهَّمُونَ وَيَتَوَهَّمُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَقَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى قُوَّتِهِ، وَالضَّعِيفِ عَلَى ضَعْفِهِ، أَوْ أَنَّ الْآلِهَةَ الْبَاطِلَةَ ضَمِنَتْ لِفِرْعَوْنَ بَقَاءَ مُلْكِهِ، عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ وَظُلْمِهِ.

مَاذَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ وَصِيَّةِ مُوسَى عليه السلام لِقَوْمِهِ؟ وَهَلْ فَهِمُوهَا وَقَدَّرُوهَا قَدْرَهَا؟ وَبِمَ أَجَابُوهُ؟ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا يَعْنُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ إِرْسَالِهِ لِإِنْقَاذِهِمْ مِنْ ظُلْمِ فِرْعَوْنَ شَيْئًا، فَهُوَ يُؤْذِيهِمْ وَيَظْلِمُهُمْ بَعْدَ إِرْسَالِهِ كَمَا كَانَ يُؤْذِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِ أَوْ أَشَدُّ، وَهَذَا الْإِيذَاءُ مُبَيَّنٌ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنَ التَّوْرَاةِ، فَفِيهِ أَنَّ مُوسَى وَهَارُونَ لَمَّا طَلَبَا مِنْ فِرْعَوْنَ إِطْلَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِكَيْ يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ لَهُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَذْبَحُوا لَهُ، قَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا تُعَطِّلَانِ الشَّعْبَ عَنْ أَعْمَالِهِ؟ وَأَمَرَ فِرْعَوْنُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسَخِّرِي الشَّعْبَ وَمُدَبِّرِيهِ أَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ إِعْطَائِهِ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُ إِيَّاهُ لِيَعْمَلَ بِهِ اللَّبَنَ (الطُّوبَ النَّيَّ) الَّذِي كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ كُلَّ يَوْمٍ، وَأَنْ يُكَلِّفُوهُ جَمْعَ التِّبْنِ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَا يَنْقُصُوا مِنْ عَدَدِ اللَّبَنِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَتَفَرَّقَ الشَّعْبُ فِي جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ؛ لِيَجْمَعُوا جُذَامَهُ عِوَضَ التِّبْنِ، فَعَجَزُوا عَنْ تَمَامِ الْمِقْدَارِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّبَنِ، وَالْمُسَخَّرُونَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ: أَكْمِلُوا فَرِيضَةَ كُلِّ يَوْمٍ كَمَا كَانَتْ عِنْدَمَا كُنْتُمْ تُعْطُونَ التِّبْنَ، فَجَاءَ مُدَبِّرُو بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عَلَيْهِمُ الْمُسَخَّرُونَ لَهُمْ مِنْ قِبَلِ فِرْعَوْنَ، وَاسْتَغَاثُوا فِرْعَوْنَ نَفْسَهُ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَصْنَعُ (15) بِعَبِيدِكَ هَكَذَا؟ (16) إِنَّهُ لَا يُعْطَى لِعَبِيدِكَ تِبْنٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ لَنَا: اعْمَلُوا لَبَنًا، وَهَا أَنَّ عَبِيدَكَ يُضْرَبُونَ وَشَعْبَكَ يُعَامَلُونَ كَمُذْنِبِينَ (17) قَالَ: إِنَّمَا أَنْتُمْ مُتَرَفِّهُونَ، وَلِذَلِكَ تَقُولُونَ نَمْضِي وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ (18) وَالْآنَ فَامْضُوا اعْمَلُوا، وَتِبْنٌ لَا يُعْطَى لَكُمْ، وَمِقْدَارُ اللَّبَنِ تُقَدِّمُونَهُ (19) فَرَأَى مُدَبِّرُو بَنِي إِسْرَائِيلَ نُفُوسَهُمْ فِي شَقَاءٍ.

ص: 71

إِذْ قِيلَ: لَا تَنْقُصُوا

مِنْ لَبِنِكُمْ شَيْئًا بَلْ فَرِيضَةُ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهَا (20) وَصَادَفُوا مُوسَى وَهَارُونَ وَهُمَا وَاقِفَانِ لِلِقَائِهِمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ عِنْدِ فِرْعَوْنَ (21) فَقَالُوا لَهُمَا: يَنْظُرُ الرَّبُّ وَيَحْكُمُ عَلَيْكُمَا كَمَا أَفْسَدْتُمَا أَمْرَنَا عِنْدَ فِرْعَوْنَ وَعِنْدَ عَبِيدِهِ، وَجَعَلْتُمَا فِي أَيْدِيهِمْ سَيْفًا لِيَقْتُلُونَا " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.

قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أَيْ: قَالَ مُوسَى عليه السلام: إِنَّ الْمَرْجُوَّ مِنْ فَضْلِ رَبِّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمُ الَّذِي سَخَّرَكُمْ وَآذَاكُمْ بِظُلْمِهِ، وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَكُمْ إِيَّاهَا، وَيَمْنَعَكُمْ فِرْعَوْنُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا، فَيَنْظُرَ سُبْحَانَهُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ بَعْدَ اسْتِخْلَافِهِ إِيَّاكُمْ فِيهَا؛ هَلْ تَشْكُرُونَ النِّعْمَةَ أَمْ تَكْفُرُونَ؟ وَهَلْ تُصْلِحُونَ فِي الْأَرْضِ أَمْ تُفْسِدُونَ؟ لِيُجَازِيَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَا تَعْمَلُونَ.

وَقَدْ عَبَّرَ بِـ " عَسَى " وَلَمْ يَقْطَعْ بِالْوَعْدِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا وَيَتْرُكُوا مَا يَجِبُ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ لِئَلَّا يُكَذِّبُوهُ لِضَعْفِ أَنْفُسِهِمْ بِمَا طَالَ عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ وَالِاسْتِخْذَاءِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِمُلْكِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي التَّوْرَاةِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ.

جَاءَ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ بَعْدَ مَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا مَا نَصُّهُ: (22) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ، وَقَالَ يَا رَبِّ: لِمَاذَا ابْتَلَيْتَ هَؤُلَاءِ الشَّعْبَ لِمَاذَا بَعَثْتَنِي؟ (23) فَإِنِّي مُنْذُ دَخَلْتُ عَلَى فِرْعَوْنَ؛ لِأَتَكَلَّمَ بِاسْمِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ الشَّعْبِ وَأَنْتَ لَمْ تُنْقِذْ شَعْبَكَ ".

وَفِي أَوَّلِ الْفَصْلِ السَّادِسِ مِنْهُ فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: " الْآنَ تَرَى مَا أَصْنَعُ بِفِرْعَوْنَ، إِنَّهُ بِيَدٍ قَدِيرَةٍ سَيُطْلِقُهُمْ، وَبِيَدٍ قَدِيرَةٍ سَيَطْرُدُهُمْ مِنْ أَرْضِهِ " - وَأَعْلَمَهُ بِأَنَّهُ أَعْطَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ عَهْدًا بِأَنْ يُعْطِيَهُمْ أَرْضَ كَنْعَانَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ أَنِينَ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ اسْتَعْبَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ فَذَكَرَ عَهْدَهُ - ثُمَّ قَالَ:(6) لِذَلِكَ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَا الرَّبُّ لِأُخْرِجَكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ، وَأُخَلِّصَكُمْ مِنْ عُبُودِيَّتِهِمْ، وَأَفْدِيَكُمْ بِذِرَاعٍ مَبْسُوطَةٍ، وَأَحْكَامٍ عَظِيمَةٍ، (7) وَأَتَّخِذَكُمْ لِي شَعْبًا، وَأَكُونَ لَكُمْ إِلَهًا، وَتَعْلَمُونَ أَنَّنِي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمُ الْمُخْرِجُ لَكُمْ مِنْ تَحْتِ أَثْقَالِ الْمِصْرِيِّينَ (8) وَسَأُدْخِلُكُمُ الْأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي مُقْسِمًا أَنْ أُعْطِيَهَا لِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فَأُعْطِيهَا لَكُمْ مِيرَاثًا، أَنَا الرَّبُّ (9) فَكَلَّمَ مُوسَى بِذَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمْ يَسْمَعُوا لِمُوسَى لِضِيقِ أَرْوَاحِهِمْ وَعُبُودِيَّتِهِمُ الشَّاقَّةِ " انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.

وَهُوَ مِنْ تَرْجَمَةِ الْيَسُوعِيِّينَ

كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَيَلِيهِ عَوْدَةُ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ، وَمُطَالَبَتُهُ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَامْتِنَاعِهِ، وَإِظْهَارِ الرَّبِّ الْآيَاتِ لَهُ وَاحِدَةٌ بَعْدَ أُخْرَى كَمَا يَأْتِي مُجْمَلًا فِي الْآيَاتِ التَّالِيَةِ.

(فَإِنْ قِيلَ) : ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ هُنَا يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمُرَاجَعَةَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَقَعَتْ بَعْدَ قِصَّةِ السَّحَرَةِ، وَسِيَاقُ التَّوْرَاةِ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِهَا قَبْلَهَا، وَبَعْدَ تَبْلِيغِ أَصْلِ الدَّعْوَةِ - فَهَلْ يَجِبُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ ظَاهِرَ السِّيَاقِ هُنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ بِالْوَاوِ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ - أَعْنِي قَوْلَهُ: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ

ص: 72

إِلَخْ؛ لِيُوَافِقَ التَّوْرَاةَ، وَتَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ؟ كَمَا قَالَ لَهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا (11: 49) وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ؟

(قُلْنَا) : إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حُجَجٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَمِنْ غَيْرِهِ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ عَلَى مَثَلِهِ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْقَارِئِينَ الْكَاتِبِينَ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ كَمَا قَالَ مُصَدِّقًا لِكَوْنِ تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى - أَيْ: فِي الْأَصْلِ، قَدْ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ أَهْلَ التَّوْرَاةِ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهَا، وَنَسُوا حَظًّا وَنَصِيبًا آخَرَ، وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا بَعْضَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَأَنَّهُ هُوَ - أَيِ: الْقُرْآنُ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهَا، فَمَا أَقَرَّهُ مِنْهَا فَهُوَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَمَا صَحَّحَهُ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَهُمْ فَهُوَ الصَّحِيحُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِيرَادِهِ مُخَالِفًا لِمَا فِيهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَكَوْنِ مُوسَى هُوَ الَّذِي أَلْقَى الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ، وَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ لَا هَارُونَ كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَوْ دَلَّتْ قَوَاعِدُهُ أَوْ نُصُوصُهُ عَلَى امْتِنَاعِهِ كَمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ أَنَّ الرَّبَّ جَعَلَ مُوسَى إِلَهًا لِفِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ أَخُوهُ هَارُونَ نَبِيَّهُ! ! فَأُصُولُ الْقُرْآنِ وَكَذَا التَّوْرَاةِ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عليه السلام قَدْ فُقِدَتْ، وَأَنَّ عَزْرَا الْكَاتِبَ هُوَ الَّذِي كَتَبَ الْأَسْفَارَ الْمُقَدَّسَةَ بَعْدَ السَّبْيِ الْبَابِلِيِّ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَهُوَ الَّذِي اسْتَبْدَلَ الْحُرُوفَ الْكِلْدَانِيَّةِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، عَلَى أَنَّ مَا كَتَبَهُ عَزْرَا قَدْ فُقِدَ أَيْضًا، وَلَكِنَّ جَمِيعَ نُسَخِ التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ مُسْتَمَدَّةٌ مِمَّا كَتَبَهُ، وَفِيهَا تَحْرِيفٌ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ

مِنَ الْأَصْلِ، وَيُسَمُّونَهُ مُشْكِلَاتٍ يَتَكَلَّفُونَ الْأَجْوِبَةَ عَنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا نَمُوذَجًا مِنْهَا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْهَا أَنَّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الْأَخِيرُ مِنَ التَّوْرَاةِ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ وَفَاةُ مُوسَى عليه السلام، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ يَشُوعَ هُوَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى أَنَّ فِيهِ ذِكْرَ يَشُوعَ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ مُعْجِزَةَ الْقُرْآنِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ التَّوْرَاةِ وَيُؤَكِّدُهَا خَطَأُ الْمُفَسِّرِينَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ بَعْضِهِ، وَتَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ؛ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى مَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهَا، وَمِنْ سَائِرِ كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ وَالْعَادِيَاتِ الْمُتَسْخَرَجَةِ مِنْ آثَارِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ، وَإِنَّمَا كَانَ جُلُّ مَا يَعْرِفُونَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا سَمِعُوهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَمَا كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِحَفِيظٍ عَلِيمٍ، وَلَا بِصَادِقٍ أَمِينٍ. ثُمَّ مَا أَخَذُوهُ عَنْ كُتُبٍ تَارِيخِيَّةٍ غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِهَا، فَكَانَ أَكْثَرُ مَا كَتَبُوهُ فِي التَّفْسِيرِ مِنْهَا مُشَوَّهًا لَهُ، وَحُجَّةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَيْنَا - فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ عُلَمَائِنَا فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْعُلُومِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَيْفَ حَالُ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كِتَابٌ يُقْرَأُ، وَلَا أَحَدَ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ، قِيلَ: إِلَّا سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ التُّجَّارِ كَانُوا

ص: 73

مِمَّنْ يُقَالُ فِيهِمُ الْيَوْمَ " يَفُكُّونَ الْخَطَّ " فَأَنَّى لِمَنْ كَانَ أَبْعَدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الدَّقَائِقَ الْمُفَصَّلَةَ السَّالِمَةَ مِنَ الشَّوَائِبِ الَّتِي لَا يُصَدِّقُهَا الْعَقْلُ، أَوْ لَا تَتَّفِقُ مَعَ تَوْحِيدِ الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَائِلِهِمْ لَوْلَا مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ؟ !

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمُقَدِّمَاتِ الْهَلَاكِ الْمَوْعُودِ بِهِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَإِنْجَازُ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ.

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ صُدِّرَتِ الْجُمْلَةُ بِالْقَسَمِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ لَامُهُ؛ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِهَا وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِ، وَكَيْفَ لَا؟

وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ آيَاتِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى تَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْإِدَالَةِ لِلْمَظْلُومِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ الظَّالِمِينَ، وَقَدْ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ مَادَّةِ " الْأَخْذِ " فِي الْعَذَابِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذْ أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (11: 102) فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (54: 42) فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (73: 16) يَعْنِي فِرْعَوْنَ مُوسَى فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (69: 10) وَآلُ فِرْعَوْنَ: قَوْمُهُ، كَمَا أَطْلَقَهُ الْمُفَسِّرُونَ، أَوْ خَاصَّتُهُ وَأَعْوَانُهُ فِي أُمُورِ الدَّوْلَةِ، وَهُمُ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَثُرَ ذِكْرُهُمْ فِي قِصَّتِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُذْنِبُونَ الْمُعَانِدُونَ لِمُوسَى، وَإِنَّمَا وُقُوعُ الْعَذَابِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّبَعِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُوَافِقِينَ وَمُقِرِّينَ لَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً (8: 25) وَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنٍ الِاجْتِمَاعِ الْعَامَّةِ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

وَأَصْلُ اللُّغَةِ أَنَّ آلَ الرَّجُلِ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ يُضَافُونَ إِلَى اسْمِهِ، وَهُوَ لَا يُضَافُ إِلَّا إِلَى أَعْلَامِ شُرَفَاءِ قَوْمِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَطْلَقَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ بِهِمْ أَوْ وَجَمِيعِ أَتْبَاعِهِمْ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ آلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ أَتْبَاعِهِ، وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ عَلَى آلِ النَّبِيِّ فِي التَّشَهُّدِ وَغَيْرِهِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْآلُ

ص: 74

قِيلَ: مَقْلُوبٌ عَنِ الْأَهْلِ، وَيُصَغَّرُ عَلَى أُهَيْلٍ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَعْلَامِ النَّاطِقِينَ دُونَ النَّكِرَاتِ، وَدُونَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ. يُقَالُ: آلُ فُلَانٍ، وَلَا يُقَالُ: آلُ رَجُلٍ، وَلَا آلُ زَمَانِ كَذَا أَوْ مَوْضِعِ كَذَا، وَلَا يُقَالُ: آلُ الْخَيَّاطِ، بَلْ يُضَافُ إِلَى الْأَشْرَفِ الْأَفْضَلِ، يُقَالُ: آلُ اللهِ وَآلُ السُّلْطَانِ، وَالْأَهْلُ يُضَافُ إِلَى الْكُلِّ، يُقَالُ: أَهْلُ اللهِ وَأَهْلُ الْخَيَّاطِ، كَمَا يُقَالُ: أَهْلُ زَمَنِ كَذَا وَبَلَدِ كَذَا. وَقِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ الشَّخْصِ، وَيُصَغَّرُ أُوَيْلًا، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ يَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ اخْتِصَاصًا ذَاتِيًّا إِمَّا بِقِرَابَةٍ قَرِيبَةٍ أَوْ بِمُوَالَاةٍ قَالَ عز وجل: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ (3: 33) وَقَالَ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ 40: 46) قِيلَ: وَآلُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَقَارِبُهُ، وَقِيلَ: الْمُخْتَصُّونَ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الدِّينِ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ مُتَخَصِّصٌ بِالْعِلْمِ الْمُتْقَنِ وَالْعَمَلِ الْمُحْكَمِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: آلُ النَّبِيِّ وَأُمَّتُهُ، وَضَرْبٌ يَخْتَصُّونَ بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وَلَا يُقَالُ لَهُمْ: آلُهُ، فَكُلُّ آلٍ لِلنَّبِيِّ أُمَّةٌ لَهُ، وَلَيْسَ كُلُّ أُمَّةٍ لَهُ آلَهُ. وَقِيلَ لِجَعْفَرٍ الصَّادِقِ ـ رَضِيَ اللهُ

عَنْهُ ـ: النَّاسُ يَقُولُونَ: الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ آلُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَذَبُوا وَصَدَقُوا، فَقِيلَ: مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: كَذَبُوا فِي أَنَّ الْأُمَّةَ كَافَّتَهُمْ آلُهُ، وَصَدَقُوا فِي أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا بِشَرَائِطِ شَرِيعَتِهِ آلُهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (40: 28) أَيْ: مِنَ الْمُخْتَصِّينَ بِهِ وَبِشَرِيعَتِهِ وَجَعَلَهُ مِنْهُمْ مَنْ حَيْثُ النَّسَبُ أَوِ الْمَسْكَنُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ تَقْدِيرُ الْقَوْمِ أَنَّهُ عَلَى شَرِيعَتِهِمْ اهـ.

بَعْدَ هَذَا نَقُولُ: إِنَّ آلَ فِرْعَوْنَ أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ خَاصَّةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُمْ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُحْتَمِلٍ لِغَيْرِهِمْ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا (28: 8) وَالثَّانِي قَوْلُهُ: وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (40: 28) وَأُطْلِقَ كَثِيرًا بِمَعْنَى مَلَئِهِ، وَخَاصَّةً أَتْبَاعُهُ أَوْ جُمْلَتُهُمْ كَقَوْلِهِ: وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (2: 50) أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (40: 46) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ (2: 49) وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (40: 45) وَلَقَدْ جَاءَ آلُ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (54: 41) كَذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُ مَلَأِ فِرْعَوْنَ فِي إِرْسَالِ مُوسَى إِلَيْهِمْ، وَمَا دَارَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْمَلَأِ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَرِجَالُ دَوْلَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْلَا أَنْ وَرَدَ ذِكْرُ قَوْمِهِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ لَحَمَلْنَا الْآلَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَفِي أَمْثَالِهَا عَلَيْهِمْ دُونَ سَائِرِ قَوْمِهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ قِصَّةِ مُوسَى مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (26: 10، 11) وَقَالَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (44: 17) إِلَخْ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ عَامَّةَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ يَنَالُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْأَخْذِ بِالسِّنِينَ وَنَقْصِ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يَنَالُ

ص: 75