الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ: انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: يَا حَارِثَةُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ - ثَلَاثًا " وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ: " أَمُومِنٌ أَنْتَ؟ قَالَ: الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فَوَاللهِ لَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا ".
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَزَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَمَلَةِ فَقَالَ: لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ الرِّفْعَةِ وَمَرَاقِي الْكَرَامَةِ، وَكَوْنُهَا عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى
وَذَكَرَهُ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِمْ تَنْبِيهٌ إِلَى عِظَمِ قَدْرِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْرِيمٌ لِأَهْلِهَا، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى فَضَّلَ بَعْضَ النَّاسِ وَرَفَعَهُمْ عَلَى بَعْضٍ دَرَجَةً أَوْ دَرَجَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الرَّبِّ عز وجل، وَهَذَا الْأَخِيرُ وَإِنْ كَانَ يَكُونُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ عِنْدَ الرَّبِّ، وَبِإِضَافَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَى أَصْحَابِ الدَّرَجَاتِ يَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ رِفْعَةٍ وَاخْتِصَاصٍ.
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَفْقَهَ مَعْنَى الدَّرَجَاتِ فِي التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ بَيَانِ تَسَاوِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْحُقُوقِ: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ (2: 228) وَهِيَ دَرَجَةُ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي فَضْلِ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
(4:
95 و96) وَهُنَا جَمَعَ بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَاتِ فَقِيلَ: الدَّرَجَةُ تَفْضِيلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: مَنْزِلَتُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَفْضِيلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى سِقَايَةِ الْحَاجِّ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (9: 20) إِلَخِ الْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ التَّفَاوُتِ وَالْبُعْدِ بَيْنَ مُتَّبِعِي رِضْوَانِهِ وَمُتَّبِعِي سُخْطِهِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (3: 163) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِنْدِيَّةَ هُنَا عِنْدِيَّةُ الْحُكْمِ أَوِ الْجَزَاءِ، لَا الْمَكَانَةِ ; لِأَنَّهَا مُحَاوَلَةٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ (2: 253) الْآيَةَ، قَالُوا: هَذِهِ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ عَقِبَ ذِكْرِ مُحَاجَّتِهِ لِقَوْمِهِ:
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ (6: 83) وَقَالَ فِي سِيَاقِ قِصَّةِ يُوسُفَ مَعَ إِخْوَتِهِ عَقِبَ ذِكْرِ أَخْذِهِ لِأَخِيهِ الشَّقِيقِ مِنْهُمْ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (12: 76) .
وَقَالَ فِي دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَهِيَ آخَرُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ (6: 165) وَقَالَ فِي دَرَجَاتِ الدَّارِ الْآخِرَةِ بَعْدَ بَيَانِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّزْقِ بَيْنَ الْكُفَّارِ مُرِيدِي الدُّنْيَا وَحْدَهَا وَالْمُؤْمِنِينَ مُرِيدِي الْآخِرَةِ: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (17: 21) .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْبَشَرَ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالْعُقُولِ وَالْأَعْمَالِ، وَاقْتَضَى ذَلِكَ بِنِظَامِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ دَرَجَاتٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَفِي الْمَكَانَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ عُلْيَا الدَّرَجَاتِ وَأَفْضَلُهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ مَعْنَاهُ: وَلَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ لِذُنُوبِهِمُ الْحَقِيقِيَّةِ الَّتِي سَبَقَتْ وُصُولَهُمْ إِلَى دَرَجَةِ الْكَمَالِ إِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً، وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَمِ، وَلِذُنُوبِهِمُ الْإِضَافِيَّةِ الَّتِي يُحَاسِبُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ بَعْدَ بُلُوغِ الْكَمَالِ كَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ حِينًا، وَتَرْكِ الْأَفْضَلِ إِلَى مَا دُونَهُ حِينًا آخَرَ، وَفَوْتِ بَعْضِ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْمُمْكِنَةِ أَحْيَانًا، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِ (حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ) ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالْكَرِيمُ يَصِفُ بِهِ الْعَرَبُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنٍ فِي بَابِهِ لَا قُبْحَ فِيهِ، وَلَا شَكْوَى مِنْهُ.
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ سُورَتِهَا أَنَّ سُنَّةَ الْقُرْآنِ فِي ذِكْرِ الْقِصَصِ وَالْوَقَائِعِ مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْهُودِ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ مِنْ سَرْدِهَا مُرَتَّبَةً كَمَا وَقَعَتْ، وَأَنَّ
سَبَبَ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّهُ لَا يَقُصُّ قِصَّةً، وَلَا يَسْرُدُ أَخْبَارَ وَاقِعَةٍ; لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ تَارِيخًا مَحْفُوظًا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ; لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَبَيَانِ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ. بُدِئَتْ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ بِأَمْرِ مُوسَى لِقَوْمِهِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، وَذَكَرَ فِي آخِرِهَا سَبَبَ ذَلِكَ خِلَافًا لِلتَّرْتِيبِ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَقْدِيمِ السَّبَبِ عَلَى مُسَبَّبِهِ كَتَقْدِيمِ الْعِلَّةِ عَلَى مَعْلُولِهَا، وَالْمُقَدِّمَاتِ عَلَى نَتِيجَتِهَا. وَلَكِنَّ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ الْبَدِيعَ أَبْلَغُ فِي بَابِهِ كَمَا بُسِطَ هُنَالِكَ.
وَهَاهُنَا بُدِئَتْ قِصَّةُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى الَّتِي كَانَتْ أَوَّلَ مَظْهَرٍ لِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِنَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِدَالَةِ لَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ مُجْرِمِي الْمُشْرِكِينَ، بِذِكْرِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ - وَيَالَهَا مِنْ بَرَاعَةِ مَطْلَعٍ - مَقْرُونًا بِبَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ كَمَا وَعَدَ النَّبِيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ حُكْمَ اللهِ وَقِسْمَةَ رَسُولِهِ فِي الْغَنَائِمِ - وَيَالَهَا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ لِلْفَوْزِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا - ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَرَاهَةُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِخُرُوجِهِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْإِذْعَانِ لِطَاعَتِهِ، وَالرِّضَاءِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَمَا يَحْكُمُ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَعَلَّ بَيَانَ هَذَا الشَّرْطِ، وَمَا وَلِيَهُ مِنْ بَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّ الْإِيمَانِ هُوَ أَهَمُّ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَثْرَةِ أَحْكَامِهَا وَحِكَمِهَا وَفَوَائِدِهَا الرُّوحِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ أَيْ: إِنَّ الْأَنْفَالَ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِالْحَقِّ، وَلِرَسُولِهِ يُقَسِّمُهَا بَيْنَ مَنْ جَعَلَ اللهُ لَهُمُ الْحَقَّ فِيهَا بِالسَّوِيَّةِ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَالَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلُهَا، فَهِيَ كَإِخْرَاجِ رَبِّكَ إِيَّاكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ لِلِقَاءِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الظَّاهِرِ، وَكَوْنِ تِلْكَ الطَّائِفَةِ هِيَ الْمُقَاتِلَةُ فِي الْوَاقِعِ، وَالْحَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ لِذَلِكَ; لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِتَالِ، أَوْ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
هَذَا مَا أَرَاهُ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ بَعْضَ كُتُبِ التَّفْسِيرِ فَرَأَيْتُ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا بِضْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا أَكْثَرُهَا مُتَكَلَّفٌ، وَبَعْضُهَا قَرِيبٌ، وَلَكِنَّ هَذَا أَقْرَبُ، وَقَدْ بَسَطَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِاعْتِبَارِ غَايَتِهِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَهُوَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا عَلَى قَوَاعِدِ الْإِعْرَابِ.
وَلَا يَظْهَرُ الْمَعْنَى تَمَامَ الظُّهُورِ فِي الْآيَاتِ إِلَّا بِبَيَانِ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَجْمَعُهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ - كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بِدْرٍ " قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا، فَانْتَدَبَ النَّاسَ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدِ اسْتَنْفَرَ حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ مَنْ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِغَيْرِكَ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ فَبَعَثَهُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ ذَفِرَانُ، فَخَرَجَ مِنْهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِهِ نَزَلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ رضي الله عنه فَقَالَ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ امْضِ لِمَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (5: 24) وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ - يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ - لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا بَرَاءٌ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَأَنْتَ فِي ذِمَامِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّفُ أَلَّا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نُصْرَتَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ
يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ غَيْرِ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: أَجَلْ. فَقَالَ: قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ مَا يَتَخَلَّفُ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ عِنْدَ الْحَرْبِ صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ ".
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهِيَ بِهِمْ أَلْيَقُ، وَلَكِنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ مِنْ هَفَوَاتِ بَعْضِهِمُ الَّتِي مَحَّصَهُمُ اللهُ بَعْدَهَا يُعَيِّنُ كَوْنَهَا فِيهِمْ وِفَاقًا لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ فِيهِ، وَفِي رَدِّ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمُشَايَعَةِ ابْنِ كَثِيرٍ لَهُ، وَذُكِرَ أَنَّ مُجَاهِدًا فَسَّرَ الْحَقَّ هُنَا بِالْقِتَالِ وَكَذَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَعَلَّلَ الْجِدَالَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: كَرَاهِيَةً لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِنْكَارًا لِمَسِيرِ قُرَيْشٍ حِينَ ذُكِرُوا لَهُمْ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي حَالِ ضَعْفٍ، فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنْ وَعَدَهُمُ اللهُ أَوَّلًا إِحْدَى طَائِفَتَيْ قُرَيْشٍ تَكُونُ عَلَى الْإِبْهَامِ، فَتَعَلَّقَتْ آمَالُهُمْ بِطَائِفَةِ الْعِيرِ الْقَادِمَةِ مِنَ الشَّامِ ; لِأَنَّهَا كَسْبٌ عَظِيمٌ لَا مَشَقَّةَ فِي إِحْرَازِهِ; لِضَعْفِ حَامِيَتِهِ، فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّهَا فَاتَتْهُمْ، وَأَنَّ طَائِفَةَ النَّفِيرِ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ بِكُلِّ مَا كَانَ عِنْدَ قُرَيْشٍ مِنْ قُوَّةٍ وَقَرُبَتْ مِنْهُمْ، وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ قِتَالُهَا، إِذْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ الطَّائِفَةُ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِذْ لَمْ يَبْقَ غَيْرَهَا، صَعُبَ عَلَى بَعْضِهِمْ لِقَاؤُهَا عَلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهَا، وَضَعْفِهِمْ وَقُوَّتِهَا، وَعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِتَالِ كَاسْتِعْدَادِهَا، وَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اعْتِذَارَاتٍ جَدَلِيَّةً بِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا لِلْعِيرِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ قِتَالًا فَيَسْتَعِدُّوا لَهُ، كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِثْبَاتَ أَنَّ مُرَادَ اللهِ تَعَالَى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْعِيرُ، بِدَلِيلِ عَدَمِ أَمْرِهِمْ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْقِتَالِ،
وَلَكِنَّ الْحَقَّ تَبَيَّنَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْجِدَالِ فِيهِ وَجْهٌ مَا - لَا بِأَنْ يُقَالَ إِنَّ طَائِفَةَ الْعِيرِ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا نَجَتْ وَذَهَبَتْ مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ الْبَحْرِ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُرَادَةَ لَمَا نَجَتْ، وَلَا بِأَنْ يُقَالَ إِنَّنَا لَمْ نُعِدَّ لِلْقِتَالِ عُدَّتَهُ فَلَا يُمْكِنُنَا طَلَبُ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ مَهْمَا تَكُنْ حَالُهَا فَلَا بُدَّ مِنَ الظَّفَرِ لِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَبْقَ لِجِدَالِهِمْ وَجْهٌ إِلَّا الْجُبْنُ وَالْخَوْفُ مِنَ الْقِتَالِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَيْ: كَأَنَّهُمْ مِنْ فَرْطِ جَزَعِهِمْ وَرُعْبِهِمْ يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ سَوْقًا لَا مَهْرَبَ مِنْهُ; لِظُهُورِ أَسْبَابِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ بِأَعْيُنِهِمْ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ حَالِهِمْ وَحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالْخَيْلِ وَالزَّادِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ الظَّفَرَ بِهِمْ، وَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الْمُوقِنِ، وَمَا تِلْكَ إِلَّا أَسْبَابٌ عَادِيَّةٌ كَثِيرَةُ التَّخَلُّفِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (2: 249) وَهَكَذَا أَنْجَزَ اللهُ وَعْدَهُ، وَكَانَ الظَّفَرُ التَّامُّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ كُلَّهُ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ تَوَلَّى اللهُ تَعَالَى إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْحَقِّ فِيمَا جَادَلُوا فِيهِ رَسُولَهُ بِالْبَاطِلِ، وَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْخِطَابُ لَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: وَاذْكُرُوا إِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ - الْعِيرَ أَوِ النَّفِيرَ - أَنَّهَا لَكُمْ، وَهَذَا التَّعْبِيرُ
آكَدُ فِي الْوَعْدِ مِنْ مِثْلِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ أَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَكُمْ ; لِأَنَّ هَذَا إِثْبَاتٌ بَعْدَ إِثْبَاتٍ، إِثْبَاتٌ لِلشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، وَإِثْبَاتٌ لَهُ فِي بَدَلِهِ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ: وَتُحِبُّونَ وَتَتَمَنَّوْنَ أَنَّ الطَّائِفَةَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهِيَ الْعِيرُ تَكُونُ لَكُمْ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا أَرْبَعُونَ فَارِسًا. وَالشَّوْكَةُ الْحِدَّةُ وَالْقُوَّةُ، وَأَصْلُهَا وَاحِدَةُ الشَّوْكِ شَبَّهُوا بِهَا أَسِنَّةَ الرِّمَاحِ، ثُمَّ أَطْلَقُوهَا تَجُوَّزًا عَلَى كُلِّ حَدِيدٍ مِنَ السِّلَاحِ، فَقَالُوا: شَائِكُ السِّلَاحِ وَشَاكِي السِّلَاحِ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِهَذَا التَّعْبِيرِ; لِلتَّعْرِيضِ بِكَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَطَمَعِهِمْ فِي الْمَالِ، وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ أَيْ: وَيُرِيدُ اللهُ بِوَعْدِهِ غَيْرَ مَا أَرَدْتُمْ، يُرِيدُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ الَّذِي أَرَادَهُ بِكَلِمَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِهِ، أَيْ وَعْدَهُ لَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ
مُبْهَمَةً وَبَيَانُهَا لَهُ مُعَيَّنَةً مَعَ ضَمَانِ النَّصْرِ لَهُ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ الْمُعَانِدِينَ لَهُ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَأَعْوَانِهِمْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ شَأْفَتَهُمْ، وَمَحْقِ قُوَّتِهِمْ، فَإِنَّ دَابِرَ الْقَوْمِ آخِرُهُمُ الَّذِي يَأْتِي فِي دُبُرِهِمْ، وَيَكُونُ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَلَاكُ إِلَّا بِهَلَاكِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْجَيْشِ، وَهَكَذَا كَانَ الظَّفَرُ بِبَدْرٍ فَاتِحَةَ الظَّفَرِ فِيمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ قَطَعَ اللهُ دَابِرَ الْمُشْرِكِينَ بِفَتْحِ مَكَّةَ، وَمَا تَخَلَّلَ ذَلِكَ مِنْ نَيْلِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أُحُدٍ وَحُنَيْنٍ فَإِنَّمَا كَانَ تَرْبِيَةً عَلَى ذُنُوبٍ لَهُمُ اقْتَرَفُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأُولَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (3: 141) وَقَالَ فِي الثَّانِيَةِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (9: 25، 26) إِلَخْ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: يَعْنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ الْفَائِدَةَ الْعَاجِلَةَ وَسَفَاسِفَ الْأُمُورِ، وَأَلَّا تَلْقَوْا مَا يَرْزُؤُكُمْ فِي أَبْدَانِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللهُ عز وجل يُرِيدُ لَكُمْ مَعَالِيَ الْأُمُورِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى عِمَارَةِ الدِّينِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ وَعُلُوِّ الْكَلِمَةِ، وَالْفَوْزِ فِي الدَّارَيْنِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمُرَادَيْنِ: وَلِذَلِكَ اخْتَارَ لَكُمُ الطَّائِفَةَ ذَاتَ الشَّوْكَةِ، وَكَسَرَ قُوَّتَهُمْ بِضَعْفِكُمْ، وَغَلَبَ كَثْرَتَهُمْ بِقِلَّتِكُمْ، وَأَعَزَّكُمْ، وَأَذَلَّهُمْ، وَحَصَلَ لَكُمْ مَا لَا تُعَارِضُ أَدْنَاهُ الْعِيرُ وَمَا فِيهَا.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ أَيْ: وَعَدَ بِمَا وَعَدَ وَأَرَادَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ذَاتَ الشَّوْكَةِ لِيُحِقَّ الْحَقَّ، أَيْ يُقِرَّهُ وَيُثْبِتَهُ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ - وَهُوَ الْإِسْلَامُ - وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ أَيْ يُزِيلَهُ وَيَمْحَقَهُ - وَهُوَ الشِّرْكُ - وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أُولُو الِاعْتِدَاءِ وَالطُّغْيَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَإِحْقَاقُ الْحَقِّ وَإِبْطَالُ الْبَاطِلِ لَا يَكُونُ بِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْعِيرِ، بَلْ بِقَتْلِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ وَالطَّاغُوتِ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الْمُعَانِدِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ ; لِيَسْتَأْصِلُوكُمْ. وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْحَقَّ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا تَكْرَارَ فِيهِ، فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْقِتَالُ لِطَائِفَةِ النَّفِيرِ مَعَ ضَمَانِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَحْقِ الْكَافِرِينَ، وَالثَّانِي هُوَ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ، وَالْأَوَّلُ وَسِيلَةٌ لَهُ. وَهَذَا أَظْهَرُ مِمَّا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ رَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمَئِذٍ وَالْتَقَوْا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا وَأُسِرَ سَبْعُونَ " إِلَخْ.
وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ: " اللهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ " فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (54: 45) وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: " لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكَاثَرَهُمْ وَإِلَى الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَقَلَّهُمْ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ: اللهُمَّ لَا تُودِعْ مِنِّي، اللهُمَّ لَا تَخْذُلْنِي، اللهُمَّ لَا تَتِرَنِي، اللهُمَّ أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي " وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " اللهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ أَتَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي ".
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ مَا ظَهَرَ مِنْ خَوْفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ وَعْدِ اللهِ لَهُ بِالنَّصْرِ عَامًّا وَخَاصًّا وَمِنْ طُمَأْنِينَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ لَيْلَةَ الْغَارِ إِذْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم آمِنًا مُطْمَئِنًّا مُتَوَكِّلًا عَلَى رَبِّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ خَائِفًا وَجِلًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عز وجل: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (9: 40) .
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَوْثَقَ بِرَبِّهِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالِ، بَلِ الْحَامِلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَتَقْوِيَةُ قُلُوبِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَشْهَدٍ شَهِدُوهُ، فَبَالَغَ فِي التَّوَجُّهِ وَالدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ; لِتَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ وَسِيلَتَهُ مُسْتَجَابَةٌ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ مَا قَالَ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ اسْتُجِيبَ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فَلِهَذَا عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ انْتَهَى مُلَخَّصًا.
" وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، وَهُوَ أَكْمَلُ حَالَاتِ الصَّلَاةِ، وَجَازَ عِنْدَهُ أَلَّا يَقَعَ النَّصْرُ يَوْمَئِذٍ; لِأَنَّ وَعْدَهُ بِالنَّصْرِ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُجْمَلًا. هَذَا الَّذِي يَظْهَرُ، وَزَلَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الصُّوفِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَلَلًا شَدِيدًا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ الْخَطَّابِيَّ أَشَارَ إِلَيْهِ. اهـ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فَهُوَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَحْسَنَ مِنْهُ عَلَى سَعَةِ اطِّلَاعِهِ.
وَأَقُولُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَقَاصِدِهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدُّعَاءِ يَوْمَئِذٍ تَقْوِيَةُ قُلُوبِ
أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْيَوْمَ فِي أَنَّهَا أَحَدُ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِاسْتِجَابَةِ اللهِ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، فَعِلْمُهُ صلى الله عليه وسلم بِرَبِّهِ وَبِوَقْتِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُ أَقْوَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَهُ اسْتِنْبَاطًا مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه.
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمَئِذٍ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعَهُ سَبَبَهُ وَلَا كَوْنَهُ لَا يُنَافِي كَمَالَ تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَكَوْنَهُ فِيهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ صَاحِبِهِ بِدَرَجَاتٍ لَا يَعْلُوهَا شَيْءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (3: 160) وَهِيَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَنُعِيدُ الْبَحْثَ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ بِحَسَبِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِجْرَةِ قَدْ عَمِلَ مَعَ صَاحِبِهِ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُمَا مِنَ الْأَسْبَابِ لَهَا، وَهُوَ إِعْدَادُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَتَيْنِ وَالدَّلِيلِ وَالِاسْتِخْفَاءُ فِي الْغَارِ، لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمَا إِلَّا التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِمَعُونَتِهِ وَتَخْذِيلِ أَعْدَائِهِ صلى الله عليه وسلم لِكَمَالِ تَوَكُّلِهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ السَّكِينَةِ، وَأَيَّدَهُ بِهِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه لَمْ يَرْتَقِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَكَانَ خَائِفًا حَزِينًا مُحْتَاجًا إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُ.
وَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ الْخَوْفِ لَا مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الشَّرْعِيَّ بِالِاسْتِسْلَامِ لِعِنَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَحْدَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي كُلِّ حَالٍ بَعْدَ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ وَمِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (3: 159) مِنْ ذَلِكَ السِّيَاقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ أَنَّ أَسْبَابَ النَّصْرِ وَالْغَلَبِ فِي الْحَرْبِ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ كَالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالْغِذَاءِ وَالْعَتَادِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا، وَلَا مِنَ الْجِهَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلْقِتَالِ وَجِدَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ. وَلِهَذَا خَشِيَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُصِيبَ أَصْحَابَهُ تَهْلُكَةٌ عَلَى قَتْلِهِمْ، لِتَقْصِيرِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَوْقَ التَّقْصِيرِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ، فَكَانَ يَدْعُو بِأَلَّا يُؤَاخِذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَقْصِيرِ بَعْضِهِمْ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ عِقَابًا لَهُمْ، كَمَا عَاقَبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ذَلِكَ الْعِقَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) .
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ رَآهُ مُنْزَعِجًا خَائِفًا فَكَانَ هَمُّهُ تَسْلِيَتَهُ صلى الله عليه وسلم وَتَذْكِيرَهُ بِوَعْدِ رَبِّهِ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ، وَفِي الْغَارِ كَانَ خَائِفًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ رَآهُ مُطْمَئِنًّا فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَسْلِيَتِهِ، بَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُسَلِّي لَهُ لِمَا رَأَى مِنْ خَوْفِهِ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ أَلَمٌ أَوْ أَذًى.
فَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ: مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَسْبَابِ اتِّقَاءِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْهِجْرَةِ، وَمَقَامَ الْخَوْفِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلْقِتَالِ، وَمُجَادَلَتِهِمْ لَهُ فِيهِ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يُرِيدُهُ اللهُ تَعَالَى بِوَعْدِهِ إِيَّاهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. أَجَلْ، كَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَنَّ شُئُونَ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ كَسَائِرِ أَطْوَارِ الْعَالَمِ، لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا سُنَنٌ مُطَّرِدَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ وَلَا تَتَبَدَّلُ، كَمَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، ثُمَّ ذُكِرَ بِشَأْنِ الْقِتَالِ خَاصَّةً فِي الْكَلَامِ عَلَى غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمَدَنِيَّةِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا (3: 137) ثُمَّ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ الْمَدَنِيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَتِهَا الَّتِي تُسَمَّى غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ أَيْضًا. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ أَنَّ سُنَنَهُ تَعَالَى فِي الْقِتَالِ كَسَائِرِ سُنَنِهِ فِي أَنَّهَا لَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَلَا تَحْوِيلَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَدَنِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ نَزَلَتَا بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَلِذَلِكَ كَانَ خَوْفُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عَظِيمًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَقَدْ وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكَشَفَ لَهُ عَنْ مَصَارِعِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَإِذَا كَانَ قَدْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ وَعْدُهُ الْعَامُّ بِالنَّصْرِ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ - وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّهُ مِنْ سُنَنِهِ فِي رُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ - غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَأْتِي مِثْلُ هَذَا الْجَوَازِ فِي وَعْدِهِمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِيهَا وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ نَجَتْ - طَائِفَةُ الْعِيرِ، وَانْحَصَرَ الْوَعْدُ فِي طَائِفَةِ النَّفِيرِ، وَبَعْدَ أَنْ كَشَفَ تَعَالَى لَهُ عَنْ مَصَارِعِ الْقَوْمِ؟ .
قُلْنَا: أَمَّا كَشْفُ مَصَارِعِ الْقَوْمِ لَهُ فَالظَّاهِرُ الْمُتَعَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ عَقِبَ دُعَائِهِ وَاسْتِغَاثَتِهِ رَبَّهُ، وَلِذَلِكَ تَمَثَّلَ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (54: 45) وَزَالَ خَوْفُهُ وَصَارَ يُعَيِّنُ أَمْكِنَةَ تِلْكَ الْمَصَارِعِ. وَأَمَّا الْوَعْدُ فَسَيَأْتِي فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَأَمْثَلُ مَا يُقَالُ فِيهِ وَأَقْوَاهُ، مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كَثِيرٍ مِنْ وُعُودِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِالْجَزَاءِ عَلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْأُخْرَى مِنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَعْدَ الْمُطْلَقَ بِالنَّصْرِ لِلرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مُقَيَّدٌ بِمَا اشْتُرِطَ لَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ غَافِرٍ " الْمُؤْمِنِ " الْمَكِّيَّةِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (40: 51) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ الْمَكِّيَّةِ أَيْضًا: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (30: 47) وَمِثَالُ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى
فِي الْآيَاتِ الَّتِي أَذِنَ اللهُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقِتَالِ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ الْمَدَنِيَّةِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (22: 40) وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ أَوْ (مُحَمَّدٍ) : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (47: 7) وَقَدْ سَبَقَ لَنَا بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ الْمَغْرُورِينَ وَالْخُرَافِيِّينَ الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى الصُّلَحَاءِ الْمَيِّتِينَ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَبْدِيلِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، حَتَّى كَأَنَّ قُبُورَهُمْ مَعَامِلُ لِلْكَرَامَاتِ، يَتَهَافَتُ عَلَيْهَا الْأَفْرَادُ وَالْجَمَاعَاتُ، يَدْعُونَ أَصْحَابَهَا خَاشِعِينَ، مَا لَا يَدْعُو بِهِ الْمُوَحِّدُونَ إِلَّا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَجَمَاعَةُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الرَّسُولَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ كَانَ يَعْلَمُ بِإِعْلَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ لِلنَّصْرِ فِي الْقِتَالِ أَسْبَابًا حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً، وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا سُنَنًا مُطَّرِدَةً، وَأَنَّ وَعْدَ اللهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ مِنْهَا الْمُطْلَقُ وَمِنْهَا الْمُقَيَّدُ، وَأَنَّ الْمُقَيَّدَ يُفَسِّرُ الْمُطْلَقَ وَلَا يُعَارِضُهُ، وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا تَعَارُضَ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ يَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِنَايَةً وَتَوْفِيقًا يَمْنَحُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ فَيَنْصُرُ بِهِ الضُّعَفَاءَ عَلَى الْأَقْوِيَاءِ، وَالْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ عَلَى الْفِئَةِ الْكَثِيرَةِ بِمَا لَا يَنْقُضُ بِهِ سُنَنَهُ، وَأَنَّ لَهُ فَوْقَ ذَلِكَ آيَاتٍ يُؤَيِّدُ بِهَا رُسُلَهُ، فَلَمَّا عَرَفَ مِنْ ضَعْفِ الْمُؤْمِنِينَ وَقِلَّتِهِمْ مَا عَرَفَ، اسْتَغَاثَ اللهَ تَعَالَى وَدَعَاهُ; لِيُؤَيِّدَهُمْ بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَحُفَّهُمْ بِالْعِنَايَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْقُوَّةُ الرُّوحَانِيَّةُ، أَجْدَرُ بِالنَّصْرِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِدُعَائِهِ يُؤَمِّنُ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يَتَأَسَّوْنَ بِهِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ، فَيَسْتَغِيثُونَ رَبَّهُمْ كَمَا اسْتَغَاثَهُ، وَقَدْ أَسْنَدَ اللهُ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا بِقَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ الْآيَةَ، قِيلَ: إِنَّ هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ زَمَنَ الْوَعْدِ وَالِاسْتِغَاثَةِ وَالِاسْتِجَابَةِ وَاحِدَةٌ عَلَى اتِّسَاعٍ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَجَبْنَا عَنْهُ آنِفًا مِنْ أَصْلِهِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الِاسْتِغَاثَةَ وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَعْدِ، وَقَدْ وَجَّهُوا ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا بَيَانُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ أَوْ بِمَحْذُوفٍ عُلِمَ مِنَ السِّيَاقِ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى تَقْدِيرُهُ " اذْكُرْ " أَوِ " اذْكُرُوا " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ. وَالِاسْتِغَاثَةُ طَلَبُ الْغَوْثِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الْهَلَكَةِ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ هُوَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ، وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِهَا أَيْ قَائِلًا " إِنِّي مُمِدُّكُمْ " أَيْ نَاصِرُكُمْ وَمُغِيثُكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ قَرَأَ الْجُمْهُورُ مُرْدِفِينَ بِكَسْرِ الدَّالِّ مِنْ أَرْدَفَهُ إِذَا أَرْكَبَهُ وَرَاءَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَرْكَبُ وَرَاءَ غَيْرِهِ يَرْكَبُ عَلَى رِدْفِ الدَّابَّةِ غَالِبًا، وَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا احْتِمَالَاتٌ لَا يَخْتَلِفُ بِهَا الْمُرَادُ. أَيْ يُرْدِفُونَكُمْ
أَوْ يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتْبَعُهُ، أَوْ يُرْدِفُهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ غَيْرُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ
هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ (7: 202) مِنَ الْأَعْرَافِ مَعْنَى الْمَدَدِ وَالْإِمْدَادِ فِي اللُّغَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْإِمْدَادَ أَمْرٌ رُوحَانِيٌّ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ فَيَزِيدُ فِي قُوَّتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ فَقَالَ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى أَيْ: وَمَا جَعَلَ عَزَّ شَأْنُهُ هَذَا الْإِمْدَادَ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ بِأَنَّهُ يَنْصُرُكُمْ كَمَا وَعَدَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ أَيْ: تَسْكُنَ بَعْدَ ذَلِكَ الزِّلْزَالِ وَالْخَوْفِ الَّذِي عَرَضَ لَكُمْ فِي جُمْلَتِكُمْ مِنْ مُجَادَلَتِكُمْ لِلرَّسُولِ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ مَا كَانَ. فَتَلْقَوْنَ أَعْدَاءَكُمْ ثَابِتِينَ مُوقِنِينَ بِالنَّصْرِ، وَسَيَأْتِي فِي مُقَابَلَةِ هَذَا إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ كَالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ، فَهُوَ عز وجل الْفَاعِلُ لِلنَّصْرِ كَغَيْرِهِ مَهْمَا تَكُنْ أَسْبَابُهُ الْمَادِّيَّةُ أَوِ الْمَعْنَوِيَّةُ، إِذْ هُوَ الْمُسَخِّرُ لَهَا، وَنَاهِيكَ بِمَا لَا كَسْبَ لِلْبَشَرِ فِيهِ كَتَسْخِيرِ الْمَلَائِكَةِ تُخَالِطُ الْمُؤْمِنِينَ فَتَسْتَفِيدُ أَرْوَاحُهُمْ مِنْهَا الثَّبَاتَ وَالِاطْمِئْنَانَ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ لَا يَضَعُ شَيْئًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
وَفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ " مُرْدِفِينَ " بِالْمَدَدِ، وَبِقَوْلِهِ:" مَلَكٌ وَرَاءَ مَلَكٍ " وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ أَلْفًا مُرْدِفِينَ وَثَلَاثَةَ آلَافٍ مُنْزَلِينَ، فَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَهُمْ مَدَدُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثُغُورِهِمْ، وَعَنْ قَتَادَةَ مُتَتَابِعِينَ أَمَدَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَلْفٍ ثُمَّ بِثَلَاثَةٍ ثُمَّ أَكْمَلَهُمْ خَمْسَةَ آلَافٍ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ قَالَ: يَعْنِي نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عليهم السلام. (قَالَ) : وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: أَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَا نَشُكُّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عليهم السلام كَانُوا مَعَنَا، وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَاللهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ:" مُرْدِفِينَ " قَالَ: بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى قَالَ: إِنَّمَا جَعَلَهُمُ اللهُ يُسْتَبْشَرُ بِهِمْ. هَذَا جُمْلَةُ مَا جَمَعَهُ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنَ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَتَيْنِ. وَظَاهِرُ نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِمْدَادَ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ فَائِدَتُهُ مَعْنَوِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ. وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي أَنَّهُمْ قَاتَلُوا، وَسَيَأْتِي بَحْثُهَا. وَمَا قَالَهُ الشَّعْبِيُّ وَقَتَادَةُ مِنَ الْعَدَدِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ ; لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْغَيْبِ.
وَقَدْ خَلَطَتْ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُرْدِفِينَ الَّذِينَ أَيَّدَ اللهُ بِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُنْزَلِينَ وَالْمُسَوِّمِينَ الَّذِينَ ذُكِرَ خَبَرُهُمْ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَاتِ فِيهَا، وَاعْتَمَدْنَا فِي جُلِّهِ عَلَى تَحْقِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَذَكَرْنَا فِيهِ مَا جَاءَ هُنَا، وَجُمْلَتُهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَدَّ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَكَانَ قُوَّةً مَعْنَوِيَّةً لَهُمْ، وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَقَدْ حَدَّثَهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِمْدَادِ وَوَعَدَهُمْ بِهِ وَعْدًا مُعَلَّقًا عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى، وَلَكِنِ انْتَفَى الشَّرْطُ فَانْتَفَى الْمَشْرُوطُ. وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي [ص90 - 97 ج 4 ط الْهَيْئَةِ] . فَإِنَّهُ مُفِيدٌ فِي تَحْقِيقِ مَا هُنَا، وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ فِيهِ.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ هَذِهِ مِنَّةٌ أُخْرَى مِنْ مِنَنِهِ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، الَّتِي كَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ إِلْقَاؤُهُ تَعَالَى النُّعَاسَ عَلَيْهِمْ حَتَّى غَشِيَهُمْ - أَيْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ فَكَانَ كَالْغَاشِيَةِ تَسْتُرُ الشَّيْءَ وَتُغَطِّيهِ - تَأْمِينًا لَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ الَّذِي كَانَ يُسَاوِرُهُمْ مِنَ الْفَرْقِ الْعَظِيمِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. رَوَى أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَالَ:" مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي تَحْتَ شَجَرَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ " وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النُّعَاسُ لَا يَشْعُرُ بِالْخَوْفِ، كَمَا أَنَّ الْخَائِفَ لَا يَنَامُ، وَلَكِنْ قَدْ يَنْعَسُ، وَالنُّعَاسُ فُتُورٌ فِي الْحَوَاسِّ وَأَعْصَابِ الرَّأْسِ يَعْقُبُهُ النَّوْمُ، فَهُوَ يُضْعِفُ الْإِدْرَاكَ وَلَا يُزِيلُهُ كُلَّهُ فَمَتَى زَالَ كَانَ نَوْمًا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ أَوَّلُ النَّوْمِ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: وَأَوَّلُ النَّوْمِ النُّعَاسُ وَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى النَّوْمِ، ثُمَّ الْوَسَنُ وَهُوَ ثِقَلُ النُّعَاسِ، ثُمَّ التَّرْنِيقُ وَهُوَ مُخَالَطَةُ النُّعَاسِ لِلْعَيْنِ، ثُمَّ الْكَرَى وَالْغُمْضُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، ثُمَّ الْعَفْقُ وَهُوَ النَّوْمُ، وَأَنْتَ تَسْمَعُ كَلَامَ الْقَوْمِ، ثُمَّ الْهُجُودُ وَالْهُجُوعُ اهـ. وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْوَسَنَ وَالتَّرْنِيقَ دَرَجَتَانِ مِنْ دَرَجَاتِ النُّعَاسِ، وَأَنَّ الْكَرَى مَرْتَبَةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ أَيْضًا أَنَّ النُّعَاسَ اسْمُ مَصْدَرٍ لِنَعَسَ مِنْ بَابِ قَتَلَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ فَتَحَ فَهُوَ مِنَ الْبَابَيْنِ، وَضَعُوا اسْمَهُ بِوَزْنِ فُعَالٍ بِالضَّمِّ، كَأَنَّهُمْ عَدُّوُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ كَالسُّعَالِ وَالْفُوَاقُ وَالْكُبَادُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّهُمْ نَامُوا يَوْمَئِذٍ، وَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّهُمْ نَامُوا فِي اللَّيْلِ، وَالْمُتَبَادِرُ
أَنَّ نُعَاسَهُمْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَتَحْقِيقَ الْحَقِّ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ (3: 154) وَهُوَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَقُلْتُ هُنَالِكَ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ هَذَا النُّعَاسُ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْخَوْفِ; لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْخَطَرِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ السُّيُوفَ كَانَتْ تَسْقُطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ إِلَخْ، فَيَحْسُنُ مُرَاجَعَتُهُ فَفِيهِ الْكَلَامُ عَلَى النُّعَاسِ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْضًا وَهُوَ فِي [ص152، 153 ج 4 تَفْسِيرِ ط الْهَيْئَةِ] .
وَقَرَأَ الْأَكْثَرُونَ (يُغَشِّيكُمْ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّغْشِيَةِ وَهُوَ إِمَّا لِلتَّدْرِيجِ، وَإِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّغْطِيَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِغْشَاءِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (يَغْشَاكُمْ) مِنَ الثُّلَاثِيِّ وَرَفَعَ النُّعَاسَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ، وَهَذَا لَا يُخَالِفُ الْقِرَاءَتَيْنِ قَبْلَهُ، بَلْ هُوَ كَالْمُطَاوِعِ لَهُمَا، وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ النُّعَاسَ يَغْشَاكُمْ فَغَشِيَكُمْ، وَأَمَّا صِيَغُ الْفِعْلِ وَدَلَالَةُ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ عَلَى التَّدْرِيجِ أَوِ الْمُبَالَغَةِ دُونَ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فَيُحْمَلُ اخْتِلَافُهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ مَنْ غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ، فَهُوَ لَا يَكُونُ عَادَةً إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَيَكُونُ أَشَدَّ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَحْثَ صِيغَةِ (غ. ش. ي) فِي اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ وَهَذِهِ مِنَّةٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُ عز وجل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَانَ لَهَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي انْتِصَارِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، رَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ الْمُشْرِكِينَ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْمَاءِ فَظَمِئَ الْمُسْلِمُونَ وَصَلَّوْا مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ رِمَالٌ فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْحُزْنَ، وَقَالَ: أَتَزْعُمُونَ أَنَّ فِيكُمْ نَبِيًّا، وَأَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَتُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ مُحْدِثِينَ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي مَاءً فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا وَثَبَتَتْ أَقْدَامُهُمْ (أَيْ عَلَى الدَّهَاسِ أَوِ الرَّمْلِ اللَّيْنِ لِتَلَبُّدِهِ بِالْمَطَرِ) وَذَهَبَتْ وَسْوَسَتُهُ. هَذَا أَثْبَتُ وَأَوْضَحُ وَأَبْسَطُ مَا وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ عَنْ هَذَا الْمَطَرِ فِي بَدْرٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ النُّعَاسِ خِلَافًا لِظَاهِرِ التَّرْتِيبِ فِي الْآيَةِ، وَالْوَاوُ لَا تُوجِبُهُ.
وَلَوْلَا هَذَا الْمَطَرُ لَمَا أَمْكَنَ الْمُسْلِمِينَ الْقِتَالُ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَجَّالَةً لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا فَارِسٌ وَاحِدٌ هُوَ الْمِقْدَادُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَتِ الْأَرْضُ دَهَاسًا تَسِيخُ فِيهَا الْأَقْدَامُ أَوْ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهَا. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ: وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَطَرًا وَاحِدًا فَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَابِلًا شَدِيدًا مَنَعَهُمْ مِنَ التَّقَدُّمِ، وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَلًّا طَهَّرَهُمْ بِهِ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ رِجْسَ الشَّيْطَانِ، وَوَطَّأَ بِهِ الْأَرْضَ وَصَلَّبَ الرَّمْلَ، وَثَبَّتَ الْأَقْدَامَ، وَمَهَّدَ بِهِ الْمَنْزِلَ، وَرَبَطَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَسَبَقَ رَسُولُ اللهِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَاءِ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ شَطْرَ اللَّيْلِ وَصَنَعُوا الْحِيَاضَ، ثُمَّ غَوَّرُوا مَا عَدَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْحِيَاضِ، وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهَا عَلَى تَلٍّ مُشْرِفٍ عَلَى الْمَعْرَكَةِ، وَمَشَى فِي مَوْضِعِ الْمُعَارَكَةِ، وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ " هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى " فَمَا تَعَدَّى أَحَدٌ مِنْهُمْ مَوْضِعَ إِشَارَتِهِ اهـ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ مَسْأَلَةَ الْمَطَرِ بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا أَنْ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ؟ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ:" بَلْ هُوَ الْحَرْبُ وَالرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى تَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَتَنْزِلَهُ ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ - بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ قَلِيبٍ، وَهِيَ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ أَيْ غَيْرُ الْمَبْنِيَّةِ بِالْحِجَارَةِ - ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ " وَذَكَرَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ.
ذَكَرَ تَعَالَى لِذَلِكَ الْمَطَرِ أَرْبَعَ مَنَافِعَ: (الْأُولَى) تَطْهِيرُهُمْ بِهِ، أَيْ تَطْهِيرًا حِسِّيًّا بِالنَّظَافَةِ الَّتِي تَشْرَحُ الصَّدْرَ وَتُنَشِّطُ الْأَعْضَاءَ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَشَرْعِيًّا بِالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْوُضُوءِ مِنْ
الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ. (الثَّانِيَةُ) إِذْهَابُ رِجْزِ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ. وَالرِّجْزُ وَالرِّجْسُ وَالرِّكْسُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْمُسْتَقْذَرِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى. وَالْمُرَادُ هُنَا وَسْوَسَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَأْثُورِ. (الثَّالِثَةُ) الرَّبْطُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ تَثْبِيتِهَا وَتَوْطِينِهَا عَلَى الصَّبْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا
عَلَى قَلْبِهَا (28: 10) وَتَأْثِيرُ الْمَطَرِ فِي الْقُلُوبِ تُفَسِّرُهُ الْمَنْفَعَةُ. (الرَّابِعَةُ) وَهُوَ تَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ بِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ فِي أَرْضٍ تَسُوخُ فِيهَا قَدَمُهُ كُلَّمَا تَحَرَّكَ وَهُوَ قَدْ يُقَاتِلُ فَارِسًا لَا رَاجِلًا لَا يَكُونُ إِلَّا وَجِلًا مُضْطَرِبَ الْقَلْبِ.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الظَّرْفُ هُنَا غَيْرُ بَدَلٍ مِنْ " إِذْ " فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهُ وَلَا مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِـ " يُثَبِّتُ " وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُثَبِّتُ الْأَقْدَامَ بِالْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْكِفَاحِ، الَّذِي يُوحِي رَبُّكَ فِيهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ آمِرًا لَهُمْ أَنْ يُثَبِّتُوا بِهِ الْأَنْفُسَ بِمُلَابَسَتِهِمْ لَهَا وَاتِّصَالِهِمْ بِهَا، وَإِلْهَامِهَا تَذَكُّرَ وَعْدِ اللهِ لِرَسُولِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي مَعَكُمْ مَعِيَّةُ الْإِعَانَةِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (8: 46) .
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الرُّعْبُ بِوَزْنِ قُفْلٍ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ رَعَبَهُ (وَتُضَمُّ عَيْنُهُ) وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْخَوْفُ الَّذِي يَمْلَأُ الْقَلْبَ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَلْءِ يُقَالُ: رَعَبْتُ الْحَوْضَ أَوِ الْإِنَاءَ أَيْ مَلَأْتُهُ، وَرَعَبَ السَّيْلُ الْوَادِي. وَقِيلَ: أَصْلُ مَعْنَاهُ الْقَطْعُ إِذْ يُقَالُ رَعَبْتُ السَّنَامَ وَرَعَبْتُهُ تَرْعِيبًا إِذَا قَطَعْتُهُ طُولًا، وَفَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِمَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَالَ: الرُّعْبُ الِانْقِطَاعُ مِنِ امْتِلَاءِ الْخَوْفِ اهـ. وَيُقَالُ: رَعَبْتُهُ (مِنْ بَابِ فَتَحَ) وَأَرْعَبْتُهُ، وَأَبْلَغُ مِنْهُ تَعْبِيرُ التَّنْزِيلِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ، وَبِقَذْفِ الرُّعْبِ فِي الْقَلْبِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ يُصَبُّ فِي الْقُلُوبِ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ - أَيْ: فَاضْرِبُوا الْهَامَ وَافْلِقُوا الرُّءُوسَ أَوِ اضْرِبُوا عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَقَطِّعُوا الْأَيْدِيَ ذَاتَ الْبَنَانِ الَّتِي هِيَ أَدَاةُ التَّصَرُّفِ فِي الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي حَالِ هُجُومِ الْفَارِسِ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى الرَّاجِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ هَذَا إِلَى قَطْعِ يَدِهِ قَطَعَ ذَاكَ رَأْسَهُ. وَالْبَنَانُ جَمْعُ بَنَانَةٍ وَهُوَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ بَعْضِ الْمَغَازِيِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَمُرُّ بَيْنَ الْقَتْلَى بِبَدْرٍ - أَيْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَعْرَكَةِ - وَيَقُولُ: " نَفْلِقُ هَامًا " فَيُتِمُّ الْبَيْتَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَهُوَ
نَفْلِقُ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ
…
عَلَيْنَا، وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا
وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَلَمِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ مِنَ الضَّرُورَةِ الَّتِي اضْطَرَّتْهُمْ إِلَى قَتْلِ صَنَادِيدِ قَوْمِهِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ فِي " أَعَقَّ وَأَظْلَمَ " هُنَا عَلَى غَيْرِ بَابِهِ مُرَاعَاةً لِلظَّاهِرِ
فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَقُّوهُ صلى الله عليه وسلم وَظَلَمُوهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، حَتَّى
أَخْرَجُوهُمْ مِنْ وَطَنِهِمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا ثُمَّ تَبِعُوهُمْ إِلَى دَارِ هِجْرَتِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوْصَى بِنَفَرٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ آلِهِ خَرَجُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَرْهًا أَلَّا يُقْتَلُوا، كَانَ مِنْهُمْ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ.
مُقْتَضَى السِّيَاقِ أَنَّ وَحْيَ اللهِ لِلْمَلَائِكَةِ قَدْ تَمَّ بِأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ بِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ عَنْ إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى إِلَخْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ إِلَخْ. بَدْءُ كَلَامٍ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ تَتِمَّةً لِلْبُشْرَى، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُؤْمِنِينَ قَطْعًا، وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ الَّذِينَ جَزَمُوا بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تُقَاتِلْ يَوْمَ بَدْرٍ تَبَعًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِمَّا أُوحِيَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتَأَوَّلَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُلْقُوا هَذَا الْمَعْنَى فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِلْهَامِ، كَمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُهُمْ، وَيُلْقِي فِي قُلُوبِهِمْ ضِدَّهُ بِالْوَسْوَاسِ. وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِلَّا إِذَا كَانَ الْخِطَابُ قَدْ وُجِّهَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَالسُّورَةُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَهُ - ; لِأَنَّ نُزُولَ السُّورَةِ بِنَظْمِهَا وَتَرْتِيبِهَا بَعْدَهُ لَا يُنَافِي حُصُولَ مَعَانِيهَا قَبْلَهُ وَفِي أَثْنَائِهِ، فَإِنَّ الْبِشَارَةَ بِالْإِمْدَادِ بِالْمَلَائِكَةِ وَمَا وَلِيَهُ قَدْ حَصَلَ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، ثُمَّ ذَكَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بِإِنْزَالِ السُّورَةِ بِرُمَّتِهَا تَذْكِيرًا بِمِنَنِهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَمْ تَكُنْ لِلْبِشَارَةِ تِلْكَ الْفَائِدَةُ، وَالْخِطَابُ فِي السِّيَاقِ كُلِّهِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِيهَا وَحْيَهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ بِمَا ذَكَرَ عَرَضًا. وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الْأَلُوسِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي قِتَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ وَرَدَتْ رِوَايَاتٌ ضَعِيفَةٌ تَدُلُّ عَلَى قِتَالِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَعْبَأِ الْإِمَامُ ابْنُ جَرِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَمْ يَجْعَلْهَا حَقِيقَةً أَنْ تُذْكَرَ، وَلَوْ لِتَرْجِيحِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا.
وَمَا أَدْرِي أَيْنَ يَضَعُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عُقُولَهُمْ عِنْدَمَا يَغْتَرُّونَ بِبَعْضِ الظَّوَاهِرِ وَبَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي يَرُدُّهَا الْعَقْلُ، وَلَا يُثْبِتُهَا مَا لَهُ قِيمَةٌ مِنَ النَّقْلِ. فَإِذَا كَانَ تَأْيِيدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتَّأْيِيدَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي تُضَاعِفُ الْقُوَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ، وَتَسْهِيلُهُ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الْحِسِّيَّةَ كَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا لِنَصْرِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ سَبْعِينَ وَأَسْرِ سَبْعِينَ حَتَّى كَانَ أَلْفٌ - وَقِيلَ آلَافٌ - مِنَ
الْمَلَائِكَةِ يُقَاتِلُونَهُمْ مَعَهُمْ فَيَفْلِقُونَ مِنْهُمُ الْهَامَ، وَيَقْطَعُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ كُلَّ بَنَانٍ، فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِأَهْلِ بَدْرٍ فُضِّلُوا بِهَا عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ غَزَوْا بَعْدَهُمْ، وَأَذَلُّوا الْمُشْرِكِينَ وَقَتَلُوا مِنْهُمُ الْأُلُوفَ؟ ! وَبِمَاذَا اسْتَحَقُّوا قَوْلَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ رضي الله عنه:" وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ عز وجل اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ؟ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي كُتُبِ السِّيَرِ وَصْفٌ لِلْمَعْرَكَةِ عُلِمَ مِنْهُ الْقَاتِلُونَ وَالْآسِرُونَ لِأَشَدِّ الْمُشْرِكِينَ بَأْسًا - فَهَلْ تُعَارَضُ هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ بِرِوَايَاتٍ لَمْ يَرَهَا شَيْخُ الْمُفَسِّرِينَ ابْنُ جَرِيرٍ حَرِيَّةً بِأَنْ تُنْقَلَ. وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْهَا إِلَّا قَوْلَ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " كَانَ
النَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قُتِلُوا بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ، وَعَلَى الْبَنَانِ، مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ قَدْ أُحْرِقَ بِهِ " وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الرَّبِيعُ بِهَذِهِ الدَّعْوَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي رُؤِيَ مِنَ الْقَتْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟ وَكَمْ عَدَدُ مَنْ قَتَلَ الْمَلَائِكَةُ مِنَ السَّبْعِينَ، وَعَدَدُ مَنْ قَتَلَ أَهْلُ بَدْرٍ غَيْرَ مَنْ سُمُّوا وَقَالُوا قَتَلَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ كَفَانَا اللهُ شَرَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي شَوَّهَتِ التَّفْسِيرَ وَقَلَبَتِ الْحَقَائِقَ، حَتَّى إِنَّهَا خَالَفَتْ نَصَّ الْقُرْآنِ نَفْسَهُ، فَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ تَقُولُ بَلْ جَعَلَهَا مُقَاتَلَةً، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُمْ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ أَلْفٍ أَوْ أُلُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ أَسْبَابِ النُّصْرَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ! .
أَلَا إِنَّ فِي هَذَا مِنْ شَأْنِ تَعْظِيمِ الْمُشْرِكِينَ، وَرَفْعِ شَأْنِهِمْ، وَتَكْبِيرِ شَجَاعَتِهِمْ، وَتَصْغِيرِ شَأْنِ أَفْضَلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ، وَأَشْجَعِهِمْ مَا لَا يَصْدُرُ عَنْ عَاقِلٍ إِلَّا وَقَدْ سُلِبَ عَقْلُهُ لِتَصْحِيحِ رِوَايَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا يَصِحُّ لَهَا سَنَدٌ، وَلَمْ يُرْفَعْ مِنْهَا إِلَّا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ وَغَيْرُهُ بِغَيْرِ سَنَدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ بَدْرٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، فَرِوَايَاتُهُ عَنْهَا حَتَّى فِي الصَّحِيحِ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَأَمْثَالِهِ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَهُ كُلَّهُ مِنْ تَأْيِيدِهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَخِذْلَانِهِ لِلْمُشْرِكِينَ ; بِسَبَبِ أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ أَيْ عَادُوهُمَا، فَكَانَ
كُلٌّ مِنْهُمَا فِي شِقٍّ غَيْرِ الَّذِي فِيهِ الْآخَرُ فَاللهُ هُوَ الْحَقُّ وَالدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ، وَرَسُولُهُ هُوَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ الْحَقَّ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُورِ وَالْخُرَافَاتِ وَمِنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ أَيْ: فَإِنَّ عِقَابَ اللهِ شَدِيدٌ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِهِ الْمُشَاقُّونَ لَهُ بِإِيثَارِ الشِّرْكِ، وَعِبَادَةِ الطَّاغُوتِ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَبِالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَوَّلًا بِمُحَاوَلَةِ رَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ثُمَّ اتِّبَاعِهِمْ إِلَى مَهْجَرِهِمْ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ.
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُنْكَسِرِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، أَيْ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَسْرَى وَالْمَهْزُومِينَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ: بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمَعْنَى الْأَمْرُ ذَلِكُمْ - أَيْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُبَيَّنَ آنِفًا وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ يُشَاقُّهُ وَرَسُولَهُ - فَذُوقُوا هَذَا الْعِقَابَ الشَّدِيدَ، وَهُوَ الِانْكِسَارُ وَالِانْهِزَامُ مَعَ الْخِزْيِ وَالذُّلِّ أَمَامَ فِئَةٍ قَلِيلَةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَالْأَمْرُ الْمُقَرَّرُ مَعَ هَذَا الْعِقَابِ الدُّنْيَوِيِّ أَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَمَنْ أَصَرَّ مِنْكُمْ عَلَى كُفْرِهِ عُذِّبَ هُنَالِكَ فِيهَا، وَهُوَ شَرُّ الْعَذَابَيْنِ وَأَدْوَمُهُمَا، وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلْكُفَّارِ آيَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
نَبْدَأُ بِتَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْآيَاتِ فَنَقُولُ: (الزَّحْفُ) مَصْدَرُ زَحَفَ إِذَا مَشَى عَلَى بَطْنِهِ كَالْحَيَّةِ، أَوْ دَبَّ عَلَى مَقْعَدِهِ كَالصَّبِيِّ، أَوْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَأَقْبَلْتُ زَحْفًا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ
…
فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرُّ
وَالْمَشْيُ بِثِقَلٍ فِي الْحَرَكَةِ وَاتِّصَالٍ وَتَقَارُبٍ فِي الْخَطْوِ كَزَحْفِ الدَّبَى (صِغَارُ الْجَرَادِ قَبْلَ طَيَرَانِهَا) قَالَ فِي الْأَسَاسِ: وَزَحَفَ الْبَعِيرُ وَأَزْحَفَ: أَعْيَا حَتَّى جَرَّ فِرْسِنَهُ، وَزَحَفَ الشَّيْءَ جَرَّهُ جَرًّا ضَعِيفًا، وَزَحَفَ الْعَسْكَرُ إِلَى الْعَدُوِّ: مَشَوْا إِلَيْهِمْ فِي ثِقَلٍ لِكَثْرَتِهِمْ، وَلَقُوهُمْ زَحْفًا، وَتَزَاحَفَ الْقَوْمُ وَزَاحَفْنَاهُمْ، وَأَزْحَفَ لَنَا بَنُو فُلَانٍ صَارُوا لِقِتَالِنَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَالزَّحْفُ الْجَيْشُ، وَيُجْمَعُ عَلَى زُحُوفٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ، وَ (الْأَدْبَارُ) جَمْعُ دُبُرٍ (بِضَمَّتَيْنِ) وَهُوَ الْخَلْفُ، وَمُقَابِلُهُ الْقُبُلُ بِوَزْنِهِ وَهُوَ الْقُدَّامُ ; وَلِذَلِكَ يُكَنَّى بِهِمَا عَنِ السَّوْأَتَيْنِ، وَتَوْلِيَةُ الدُّبُرِ وَالْأَدْبَارِ عِبَارَةٌ عَنِ الْهَزِيمَةِ ; لِأَنَّ الْمُنْهَزِمَ يَجْعَلُ خَصْمَهُ مُتَوَلِّيًا وَمُتَوَجِّهًا إِلَى دُبُرِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَذَلِكَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى قَتْلِهِ إِذَا أَدْرَكَهُ وَ (الْمُتَحَرِّفُ) لِلْقِتَالِ أَوْ غَيْرِهِ هُوَ الْمُنْحَرِفُ عَنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، وَأَصْلُهُ فِي الْحَرْفِ وَهُوَ الطَّرَفُ، وَصِيغَةُ التَّفْعِيلِ تُعْطِيهِ مَعْنَى التَّكَلُّفِ أَوْ مُعَانَاةِ الْفِعْلِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَوْ بِالتَّدْرِيجِ، وَفِي مَعْنَاهُ (الْمُتَحَيِّزُ)
وَهُوَ الْمُنْتَقِلُ مِنْ حَيِّزٍ إِلَى آخَرَ. وَالْحَيِّزُ الْمَكَانُ، وَمَادَّتُهُ الْوَاوُ، فَالْحَوْزُ الْمَكَانُ يُبْنَى حَوْلَهُ حَائِطٌ، قَالَ فِي الْأَسَاسِ: انْحَازَ عَنِ الْقَوْمِ: اعْتَزَلَهُمْ، وَانْحَازَ إِلَيْهِمْ وَتَحَيَّزَ انْضَمَّ. وَذَكَرَ جُمْلَةَ الْآيَةِ وَ (الْفِئَةُ) الطَّائِفَةُ مِنَ النَّاسِ وَ (الْمَأْوَى) الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَيَنْضَمُّ وَ (مُوهِنُ) الشَّيْءِ مُضْعِفُهُ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَوْهَنَهُ أَيْ أَضْعَفَهُ، وَمِثْلُهُ وَهَنَهُ وَهْنًا وَوَهَّنَهُ تَوْهِينًا. وَ (الْكَيْدُ) التَّدْبِيرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ فَتَسُوءُ غَايَتُهُ الْمَكِيدِيَّةُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 183 مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَ " الِاسْتِفْتَاحُ " طَلَبُ الْفَتْحِ وَالْفَصْلِ فِي الْأَمْرِ، كَالنَّصْرِ فِي الْحَرْبِ.
وَالْمَعْنَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا أَيْ: إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ حَالَ كَوْنِهِمْ زَاحِفِينَ لِقِتَالِكُمْ، كَمَا كَانَتِ الْحَالُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الَّذِينَ زَحَفُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَثَقِفُوهُمْ فِي بَدْرٍ فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ
أَيْ: فَلَا تُوَلُّوهُمْ ظُهُورَكُمْ وَأَقْفِيَتَكُمْ مُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْكُمْ عَدَدًا وَعِدَدًا، وَإِذَا كَانَ التَّزَاحُفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كَانَ الزَّحْفُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَحْرِيمُ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ أَوْلَى، وَلَفْظُ " لَقِيتُمُوهُمْ زَحْفًا " يَصْلُحُ لِلْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَرُجِّحَ الْأَوَّلُ هُنَا بِقَرِينَةِ الْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا الْآيَةُ، وَكَوْنِ النَّهْيِ عَنِ التَّوَلِّي وَالْفِرَارِ إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْمَزْحُوفِ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لَهُ، وَيَلِيهِ مَا إِذَا كَانَ التَّزَاحُفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَأَمَّا الزَّاحِفُ الْمُهَاجِمُ فَلَيْسَ مَظِنَّةً لِلتَّوَلِّي وَالِانْهِزَامِ فَيُبْدَأُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْهُ أَقْبَحُ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ عَبَّرَ بِلَفْظِ تَوْلِيَةِ الدُّبُرِ فِي وَعِيدِ كُلِّ فَرْدٍ، كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي نَهْيِ الْجَمَاعَةِ لِتَأْكِيدِ حُرْمَةِ جَرِيرَةِ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ وَكَوْنِ الْفَرْدِ فِيهَا كَالْجَمَاعَةِ، وَآثَرَ هَذَا اللَّفْظَ مُفْرَدًا وَجَمْعًا عَلَى لَفْظِ الظُّهُورِ وَالظَّهْرِ أَوِ الْقَفَا وَالْأَقْفِيَةِ زِيَادَةً فِي تَشْنِيعِهَا ; لِأَنَّهُ لَفْظٌ يُكْنَى بِهِ عَنِ السَّوْأَةِ، أَيْ وَكُلُّ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَ إِذْ تَلْقُونَهُمْ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَيْ: إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِمَكَانٍ مِنْ أَمْكِنَةِ الْقِتَالِ رَآهُ أَحْوَجَ إِلَى الْقِتَالِ فِيهِ - أَوْ مُتَحَرِّفًا لِضَرْبٍ مِنْ ضُرُوبِهِ رَآهُ أَبْلَغَ فِي النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ، كَأَنْ يُوهِمَ خَصْمَهُ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ مِنْهُ لِيُغْرِيَهُ بِاتِّبَاعِهِ فَيَنْفَرِدَ عَنْ أَشْيَاعِهِ فَيَكِرَّ عَلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ أَيْ: مُتَنَقِّلًا إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَيِّزٍ غَيْرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ لِيَنْصُرَهُمْ عَلَى عَدُوٍّ تَكَاثَرَ جَمْعُهُ عَلَيْهِمْ، فَصَارُوا أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِمَّنْ كَانَ فِي حَيِّزِهِمْ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ أَيْ: فَقَدْ رَجَعَ مُتَلَبِّسًا بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ عَلَيْهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَمَأْوَاهُ الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ دَارُ الْعِقَابِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ جَهَنَّمُ. كَأَنَّ الْمُنْهَزِمَ أَرَادَ أَنْ يَأْوِيَ إِلَى مَكَانٍ يَأْمَنُ فِيهِ مِنَ الْهَلَاكِ فَعُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ عَاقِبَتِهِ الَّتِي يَصِيرُ إِلَيْهَا دَارَ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ الدَّائِمِ أَيْ جُوزِيَ بِضِدِّ غَرَضِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ الْفِرَارِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي التَّنْزِيلِ التَّعْبِيرُ عَنْ جَهَنَّمَ وَالنَّارِ بِالْمَأْوَى، وَهُوَ إِمَّا مِنْ قَبِيلِ مَا هُنَا، وَإِمَّا لِلتَّهَكُّمِ الْمَحْضِ، فَإِنَّكَ إِذَا رَاجَعْتَ اسْتِعْمَالَ هَذَا الْحَرْفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّنْزِيلِ تَجِدُهُ لَا يُذْكَرُ إِلَّا فِي مَقَامِ النَّجَاةِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ شِدَّةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (18: 10) وَقَوْلِهِ: أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (11: 80)
وَقَوْلِهِ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ (11: 43) وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا (8: 72) إِلَخْ.
وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنْ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ
بِذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ أَصَحُّهَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ - أَيِ الْمُهْلِكَاتِ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْكَفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَدَّ بَعْضُهُمُ الْآيَةَ مَنْسُوخَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا (8: 66) الْآيَةَ وَسَتَأْتِي. وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُسَمِّي التَّخْصِيصَ نَسْخًا كَالْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فَلَقُوا ضِعْفَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوا إِلَّا مُتَحَرِّفِينَ لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزِينَ إِلَى فِئَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُمْ أَنْ يُوَلُّوا، وَلَا يَسْتَوْجِبُونَ السُّخْطَ عِنْدِي مِنَ اللهِ لَوْ وَلَّوْا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ، وَرَوَى هُوَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَمْ يَفِرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي بَصْرَةَ وَعِكْرِمَةَ وَنَافِعٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ تَحْرِيمَ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَاصٌّ بِيَوْمِ بَدْرٍ - قِيلَ: إِنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يُرَادُ بِهِ يَوْمُ بَدْرٍ، وَلَكِنَّ هَذَا خِلَافُ قَاعِدَةِ: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَيُؤَيِّدُهُ نُزُولُ الْآيَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْغَزْوَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ " يَوْمِ بَدْرٍ " وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِتَنْوِينِ يَوْمَئِذٍ مَا فُهِمَ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، أَيْ يَوْمَ لِقَائِهِمْ زَحْفًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْيَوْمُ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا قَدْ يَتَّجِهُ بِنَاءُ التَّخْصِيصِ عَلَى قَرِينَةِ الْحَالِ لَوْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ اشْتِبَاكِ الْقِتَالِ - خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ - مَعَ مَا لِغَزْوَةِ بَدْرٍ مِنَ الْخَصَائِصِ كَكَوْنِهَا أَوَّلَ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، لَوِ انْهَزَمَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ لَكَانَتِ الْفِتْنَةُ كَبِيرَةً، وَتَأْيِيدُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَهُمْ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى بِنَصْرِهِمْ، وَإِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ - فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَجْمُوعِ الْخَصَائِصِ، وَقَرِينَةِ الْحَالِ فِي النَّهْيِ، اتَّجَهَ كَوْنُ التَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِي الْآيَةِ خَاصًّا بِهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَحَنَ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم بِالتَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ خَاصًّا بِهَا، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى امْتَحَنَ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم بِالتَّوَلِّي وَالْإِدْبَارِ فِي الْقِتَالِ مَرَّتَيْنِ مَعَ وُجُودِهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ: يَوْمَ أُحُدٍ، وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ
مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (3: 155) وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِيهِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
(9: 25، 26) إِلَخْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ التَّوَلِّي حَرَامًا وَمِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ تَوَلٍّ لِغَيْرِ السَّبَبَيْنِ الْمُسْتَثْنَيَيْنِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ يَبُوءُ صَاحِبُهُ بِغَضَبٍ عَظِيمٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ دُونَ ذَلِكَ، وَيَتَقَيَّدُ بِآيَةِ رُخْصَةِ الضَّعْفِ الْآتِيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَبِالنَّهْيِ عَنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ مِنْ حَيْثُ عُمُومِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، - فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا، ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا نُفُوسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ وَإِلَّا ذَهَبْنَا. فَأَتَيْنَاهُ قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ فَخَرَجَ فَقَالَ: مَنْ، الْفَرَّارُونَ؟ . فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. قَالَ: بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ أَنَا فِئَتُكُمْ وَفِئَةُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ فَقُلْنَا: نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَنَبِيتُ فِيهَا لِنَذْهَبَ، وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ، فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ ذَهَبْنَا، فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ إِلَخْ ". تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ بِتَوَسُّعٍ فِي مَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْوَعِيدِ مَعْنًى، وَلَا لِللُّغَةِ حُكْمٌ، وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ أَقُولُ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، ضَعَّفَهُ الْكَثِيرُونَ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ صَدُوقًا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَبِرَ سَاءَ حِفْظُهُ وَتَغَيَّرَ فَوَقَعَتِ الْمَنَاكِيرُ فِي حَدِيثِهِ، فَمَنْ سَمِعَ مِنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ فَسَمَاعُهُ صَحِيحٌ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا وَزْنَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا مَتْنًا وَلَا سَنَدًا، وَفِي مَعْنَاهُ أَثَرٌ عَنْ عُمَرَ هُوَ دُونَهُ فَلَا يُوضَعُ فِي مِيزَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ فَهُوَ وَصْلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ التَّوَلِّي بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى جَدَارَتِهِمْ بِالِانْتِهَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ الَّتِي قَبْلَهُ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْقِتَالِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ كَسَائِرِ السُّورَةِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَوَجْهُ الْوَصْلِ بِالْفَاءِ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَا تُوَلُّوا الْكُفَّارَ ظُهُورَكُمْ فِي الْقِتَالِ أَبَدًا، فَأَنْتُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ ثُمَّ بِنَصْرِ اللهِ تَعَالَى، فَهَا أَنْتُمْ أُولَاءِ قَدِ انْتَصَرْتُمْ عَلَيْهِمْ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعُدَدِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ
بِتَأْيِيدِ اللهِ تَعَالَى لَكُمْ، وَرَبْطِهِ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَتَثْبِيتِ أَقْدَامِكُمْ، فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ذَلِكَ الْقَتْلَ الذَّرِيعَ بِمَحْضِ قُوَّتِكُمْ وَاسْتِعْدَادِكُمُ الْمَادِّيِّ، وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ بِأَيْدِيكُمْ بِمَا كَانَ مِنْ تَثْبِيتِ قُلُوبِكُمْ بِمُخَالَطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمُلَابَسَتِهَا لِأَرْوَاحِكُمْ، وَبِإِلْقَائِهِ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ عز وجل: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ (9: 14) الْآيَةَ، وَالْمُؤْمِنُ أَجْدَرُ بِالصَّبْرِ الَّذِي هُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِلنَّصْرِ مِنَ الْكَافِرِ ; لِأَنَّهُ أَقَلُّ حِرْصًا عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَأَعْظَمُ رَجَاءً بِاللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ (4: 104) وَقَالَ حِكَايَةً لِرَدِّ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الرَّجَاءِ، عَلَى الْخَائِفِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (2: 249) .
ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقَاتِلِينَ بِأَيْدِيهِمْ، وَالْمُجَنْدِلِينَ لِصَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِسُيُوفِهِمْ إِلَى خِطَابِ قَائِدِهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الْمُؤَيَّدُ مِنْهُ تَعَالَى بِالْآيَاتِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَمَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ قَائِلًا:" شَاهَتِ الْوُجُوهُ " فَأَعْقَبَتْ رَمْيَتُهُ هَزِيمَتَهُمْ، رُوِيَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ بِالْمَعْنَى. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ فِي اسْتِغَاثَتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ:" يَا رَبِّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا. قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَارْمِ بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ - فَفَعَلَ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ " وَرَوَى السُّدِّيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَلَبَ مِنْ عَلِيٍّ أَنْ يُعْطِيَهُ حَصَبًا مِنَ الْأَرْضِ، فَنَاوَلَهُ حَصَبًا عَلَيْهِ تُرَابٌ فَرَمَاهُمْ بِهِ إِلَخْ. وَعَنْ عُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ فِي رَمْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَدْرٍ. فَإِذَا لَمْ تَكُنْ رِوَايَةٌ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَصَلَتْ إِلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ فَمَجْمُوعُهَا
مَعَ الْقَرِينَةِ حُجَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِيَ مِثْلُ هَذِهِ الرَّمْيَةِ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، فَحَمَلَ الْآيَةَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ شَاذٌّ، وَحَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى رَمْيِهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ بِالْحَرْبَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَقَتَلَهُ وَهُوَ شَاذٌّ أَيْضًا، فَالْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَالْمَعْنَى وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ إِلَخْ. وَمَا رَمَيْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي رَمَيْتَ فِيهِ تِلْكَ الْقَبْضَةَ مِنَ التُّرَابِ، بِإِلْقَائِهَا فِي الْهَوَاءِ فَأَصَابَتْ وُجُوهَهُمْ، فَإِنَّ مَا أُوتِيتَهُ كَأَمْثَالِكَ مِنَ الْبَشَرِ مِنِ اسْتِطَاعَةٍ عَلَى الرَّمْيِ لَا يَبْلُغُ هَذَا التَّأْثِيرَ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوحَةِ لَهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وُجُوهَهُمْ كُلَّهُمْ بِمَا أَوْصَلَ التُّرَابَ الَّذِي أَلْقَيْتَهُ فِي الْهَوَاءِ إِلَيْهَا مَعَ قِلَّتِهِ، أَوْ بَعْدَ تَكْثِيرِهِ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، وَحُذِفَ مَفْعُولِ الرَّمْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، كَمَا قَدَّرْنَا فِيهِمَا وِفَاقًا لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي - وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُتَبَادِرِ مِنَ اللَّفْظِ بِغَيْرِ تَكَلُّفِ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ
الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَيْنَ رَمْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِالتُّرَابِ الَّذِي لَيْسَ بِسَبَبٍ لِشِكَايَةِ أَعْيُنِهِمْ وَشَوْهَةِ وُجُوهِهِمْ لِقَتْلِهِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ رَامِيهِ، وَكَوْنِهِمْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِينَ كُلِّهِمْ لَهُ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْفَرْقِ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْقَتْلِ مُثْبَتًا وَمَنْفِيًّا - وَهُوَ ضَمِيرُ الْمُشْرِكِينَ - فَنَفَى الْقَتْلَ الْمَحْسُوسَ مُطْلَقًا، وَأَثْبَتَ الْمَعْقُولَ مُطْلَقًا; لِعَدَمِ تَعَارُضِهِمَا، فَالْمُرَادُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ظَاهَرٌ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ، وَلَوْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْقَتْلَ مَعَ نَفْيِهِ عَنْهُمْ بِأَنْ قَالَ: إِذْ قَتَلْتُمُوهُمْ - لَكَانَ تَنَاقُضًا ظَاهِرًا يَخْفَى وَجْهُهُ جَعَلَ الْمُثْبَتَ مِنْهُ غَيْرَ الْمَنْفِيِّ. وَقَتْلُهُمْ لَهُمْ مُشَاهَدٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ مِنْ حَيْثُ كَانَ سَبَبًا نَاقِصًا، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِ نَقْصِهِ وَعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِالسَّبَبِيَّةِ، ثُمَّ بَيَانِ مَا لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ إِعَانَةُ اللهِ وَنَصْرُهُ.
وَأَمَّا رَمْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِوُجُوهِ الْقَوْمِ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا عَادِيًّا لِإِصَابَتِهِمْ وَهَزِيمَتِهِمْ، لَا مُشَاهَدًا كَضَرْبِ أَصْحَابِهِ لِأَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَا غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ لَا يُوهِمُ التَّنَاقُضَ لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ السَّبَبِيَّةِ. وَلَمْ يُذْكَرْ مَفْعُولُ الرَّمْيِ بِأَنْ يُقَالَ:" وَمَا رَمَيْتَ وُجُوهَهُمْ " إِذْ لَا شُبْهَةَ هُنَا فِي عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِهَذَا اسْتِقْلَالًا بِكَسْبِهِ الْعَادِيِّ، وَأَمَّا هُنَالِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ كَسْبِهِمُ الِاسْتِقْلَالِيِّ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ لَوْلَا تَأْيِيدُ اللهِ تَعَالَى وَنَصْرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانَهُ لَمَا وَصَلَ كَسْبُهُمُ الْمَحْضُ إِلَى
هَذَا الْقَتْلِ، وَقَدْ عَلِمْنَا مَا كَانَ مِنْ خَوْفِهِمْ وَكَرَاهَتِهِمْ لِلْقِتَالِ وَمُجَادَلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (8: 6) فَلَوْ ظَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ لَكَانَ مُقْتَضَى الْأَسْبَابِ أَنْ يَمْحَقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مَحْقًا.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ فِعْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ وَفِعْلِهِ فِي الرَّمْيِ. فَالْأَوَّلُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى لَهُمْ أَسْبَابَ الْقَتْلِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي جَمِيعِ كَسْبِ الْبَشَرِ وَأَعْمَالِهِمُ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ كَوْنِهَا لَا تَسْتَقِلُّ فِي حُصُولِ غَايَاتِهَا إِلَّا بِفِعْلِ اللهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُمْ وَلِلْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا كَسْبُهُمْ عَادَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا (56: 63 - 65) إِلَخْ. فَالْإِنْسَانُ يَحْرُثُ الْأَرْضَ، وَيُلْقِي فِيهَا الْبَذْرَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِنْزَالَ الْمَطَرِ، وَلَا إِنْبَاتَ الْحَبِّ وَتَغْذِيَتَهُ بِالتُّرَابِ الْمُخْتَلِفِ الْعَنَاصِرِ، وَلَا دَفْعَ الْجَوَائِحِ عَنْهُ، وَلَا يَسْتَقِلُّ إِيجَادُ الزَّرْعِ وَبُلُوغُ ثَمَرَتِهِ وَصَلَاحِهَا بِكَسْبِهِ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِدُونِ كَسْبٍ عَادِيٍّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَأْثِيرِهِ، فَالرَّمْيُ مِنْهُ كَانَ صُورِيًّا لِتَظْهَرَ الْآيَةُ عَلَى يَدِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، فَمَثَلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ أَخِيهِ مُوسَى عليه السلام فِي إِلْقَائِهِ الْعَصَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20: 20) فَخَافَ مِنْهَا أَوَّلًا كَمَا وَرَدَ فِي سُورَتَيْ طه وَالنَّمْلِ.
هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظْمُ الْكَلَامِ بِلَا تَكَلُّفٍ، وَلَا حَمْلٍ عَلَى الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ الْحَادِثَةِ مِنْ كَلَامِيَّةٍ
وَتَصَوُّفِيَّةٍ وَغَيْرِهَا، فَالْجَبْرِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى سَلْبِ الِاخْتِيَارِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ كَالرِّيشَةِ فِي الْهَوَاءِ، وَالِاتِّحَادِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى وَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَكَوْنِ الْعَبْدِ هُوَ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ، وَالْأَشْعَرِيُّ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَخَلْقِ الرَّبِّ بِإِسْنَادِ الرَّمْيِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى الْخَالِقِ عز وجل. وَهُوَ يُغْنِي عَنْ إِسْنَادِ الْقَتْلِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَوْلَى، وَالْقُرْآنُ فَوْقَ الْمَذَاهِبِ وَقَبْلَهَا، غَنِيٌّ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَنْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (30: 32) وَكَلَامُ اللهِ فَوْقَ مَا يَظُنُّونَ.
وَأَمَّا مَوْقِعُ " الْفَاءِ " فِي أَوَّلِ الْآيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ عَلَيْهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْقِتَالِ تَحْرِيضًا عَلَيْهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هِيَ لِمُجَرَّدِ رَبْطِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِهَا بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، وَوَصْلِهَا بِمَا قَبْلَهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ
عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النَّهْيِ عَنِ الْهَزِيمَةِ، وَأَوْلَى مِنْهُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نُزُولِ مَا قَبْلَهَا فِي ضِمْنِ السُّورَةِ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ مُسْتَفَادٍ مِمَّا قَبْلَهُ، أَيْ أَنَّهُ فَعَلَ مَا ذَكَرَ لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِ، وَتَأْيِيدِ رَسُولِهِ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا بِالنَّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَحُسْنِ السُّمْعَةِ. وَالْبَلَاءُ: الِاخْتِبَارُ بِالْحَسَنِ أَوْ بِالسَّيِّئِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ (7: 168) وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِالتَّفْصِيلِ. وَخَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَهُوَ تَعْلِيلٌ مُسْتَأْنَفٌ لِلْبَلَاءِ الْحَسَنِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَا كَانَ مِنِ اسْتِغَاثَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّسُولِ رَبَّهِمْ وَدُعَائِهِمْ إِيَّاهُ وَحْدَهُ، عَلِيمٌ بِصِدْقِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ، وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ مِنْ تَأْيِيدِ الْحَقِّ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَخِذْلَانِ الشِّرْكِ، كَمَا أَنَّهُ سَمِيعٌ لِكُلِّ نِدَاءٍ وَكَلَامٍ، عَلِيمٌ بِالنِّيَّاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ، وَالْعَوَاقِبِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهُ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَبَيْنَ أَهْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَجَزَائِهِمَا عَلَيْهِمَا قَالَ: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ أَيْ: الْأَمْرُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَفَائِدَتُهُمْ مِمَّا تَقَدَّمَ هُوَ ذَلِكُمُ الَّذِي سَمِعْتُمْ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ تَعْلِيلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ، أَيْ مُضْعِفُ كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمُحَاوَلَتِهِمُ الْقَضَاءَ عَلَى دَعْوَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِصْلَاحِ قَبْلَ أَنْ تَقْوَى وَتَشْتَدَّ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ (مُوهِّنٌ) بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ (كَيْدَ) وَالتَّشْدِيدُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَهَنِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالْإِضَافَةِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّصْبِ.
وَقَدْ صَرَّحَ التَّنْزِيلُ بِجَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ فِي تَعْلِيلٍ آخَرَ فِي عَاقِبَةِ الْحَرْبِ، قَالَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
(3: 140، 141) .
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ، ذَكَرَ خِذْلَانَهُمْ وَإِضْعَافَ كَيْدِهِمْ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْهُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى اسْتِنْصَارِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَعُرْوَةُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ " أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَقْطَعَ لِلرَّحِمِ، وَأَتَى بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ. فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ " رَوَاهُ عَنْهُ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْرٍ أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَنْصَرُوا اللهَ وَقَالُوا: اللهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْنِ، فَقَالَ اللهُ: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ يَقُولُ: قَدْ نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم " وَفِي رِوَايَةٍ " أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ: اللهُمَّ رَبَّ دِينِنَا الْقَدِيمِ وَدِينِ مُحَمَّدٍ الْحَدِيثِ، فَأَيُّ الدِّينَيْنِ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْ أَهْلَهُ الْيَوْمَ " فَالْفَتْحُ هُوَ نَصْرُ النَّبِيِّ وَدِينِهِ وَأَتْبَاعِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ مَغْرُورًا بِشِرْكِهِ وَاثِقًا بِدِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ أَكَابِرِ مُجْرِمِي مَكَّةَ كَذَلِكَ، بَلْ كَانَ كُفْرُهُمْ عَنْ كِبْرٍ وَعُلُوٍّ وَحَسَدٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ: إِنْ تَنْتَهُوا عَنْ عَدَاوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِتَالِهِ فَالِانْتِهَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ; لِأَنَّكُمْ لَا تَكُونُوا إِلَّا مَغْلُوبِينَ مَخْذُولِينَ كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (3: 12) وَالْخَيْرِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعُدْوَانِ وَالْقِتَالِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الِانْتِهَاءُ عَنِ الشِّرْكِ فَتَكُونُ الْخَيْرِيَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَكَمَالِهَا وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى مُقَاتَلَتِهِ نَعُدْ لِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْفَتْحِ لَهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى يَجِيءَ الْفَتْحُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَذِلُّ فِيهِ شِرْكُكُمْ، وَتُدُولُ الدَّوْلَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ: وَلَنْ تَدْفَعَ عَنْكُمْ جَمَاعَتُكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَيْئًا مِنْ بَأْسِ اللهِ وَبَطْشِهِ وَلَوْ كَثُرَتْ عَدَدًا فَالْكَثْرَةُ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنَّصْرِ، إِلَّا إِذَا تَسَاوَتْ مَعَ الْقِلَّةِ فِي الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَالثِّقَةِ بِاللهِ عز وجل وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَعُونَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ فَلَا تَضُرُّهُمْ قِلَّتُهُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَأَنَّ) وَحَفْصٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ: وَلِأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
كَانَ الْأَمْرُ مَا ذَكَرَهُ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَسَابِقَهِ وَلَاحِقِهِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا رَبَّكُمْ وَتَسْتَغِيثُوهُ عِنْدَ شُعُورِكُمْ بِالضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّكَاسُلِ فِي الْقِتَالِ
وَالرَّغْبَةِ عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ الرَّسُولُ، وَمُجَادَلَتِهِ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. وَإِنْ تَعُودُوا إِلَيْهِ نَعُدْ عَلَيْكُمْ بِالْإِنْكَارِ أَوْ تَهْيِيجِ الْعَدُوِّ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إِذَا لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ، فَهَا نَحْنُ أُولَاءِ قَدْ نَصَرْنَاكُمْ عَلَى قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ. هَذَا أَقْوَى مِنْ كُلِّ مَا رَأَيْنَاهُ فِي تَصْوِيرِ الْمَعْنَى، فَأَكْثَرُ مَا قَالُوهُ ظَاهِرُ التَّكَلُّفِ، وَلَوْلَا السِّيَاقُ لَكَانَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَرْجَحَ; لِأَنَّهُ أَظْهَرُ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ كَانَتِ السُّورَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا فِي قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، إِلَّا أَنَّهَا افْتُتِحَتْ بَعْدَ بَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ - وَهُوَ السُّؤَالُ عَنِ الْغَنَائِمِ - بِالْمَقْصِدِ مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ وَطَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَوَصْفُ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ، وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى مُقَدِّمَاتِ الْغَزْوَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ فِيهَا بِالْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ انْتَقَلَ هُنَا أَوْ فِيمَا قَبْلَهُ إِلَى نِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَتَوْجِيهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي إِلَيْهِمْ فِي مَقَاصِدِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ - وَيَنْتَهِي هَذَا بِالْآيَةِ 29 ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى شُئُونِ الْكُفَّارِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ لَهُمْ وَلِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَكَيْدِهِمْ لَهُ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَفِتْنَةِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ - وَمِنْهُ إِلَى الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ وَحِكْمَتِهِ، ثُمَّ يَعُودُ الْكَلَامُ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ حِكَمٍ وَسُنَنٍ وَأَحْكَامٍ وَتَشْرِيعٍ، وَهَذَا يَدْخُلُ فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهُوَ آيَةُ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ (41) إِلَخْ.
قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ذُكِرَتْ هَذِهِ الطَّاعَةُ فِي
الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأُعِيدَتْ هُنَا لِيُعْطَفَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أَيْ: وَلَا تَتَوَلَّوْا وَتُعْرِضُوا عَنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلَامَ اللهِ الْمُصَرِّحَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَنَصْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاعِ هُنَا سَمَاعُ الْفَهْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْإِذْعَانِ، الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ دَأْبُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (2: 285) وَالْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ عز وجل: فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (39: 17، 18)
ثُمَّ قَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيَّنَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَهْمُ فَرِيقَانِ: (الْأَوَّلُ) الْكُفَّارُ الْمُعَانِدُونَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (4: 46) وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ، وَوَرَدَ فِيهِمْ آيَاتٌ سَيُذْكَرُ بَعْضُهَا هُنَا. (الثَّانِي) الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِي بَعْضِهِمْ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا (47: 16) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النَّارِ فِي الدُّنْيَا: وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا (7: 179) مَعَ آيَاتٍ أُخْرَى، وَالْمُرَادُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَاعْتِبَارٍ يَتْبَعُهُ الِانْتِفَاعُ وَالْعَمَلُ.
ثُمَّ عَلَّلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ الدَّوَابُّ جَمْعُ دَابَّةٍ، وَهِيَ كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ: وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ (24: 45) الْآيَةَ، وَقَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا يَغْلِبُ فِي الْحَشَرَاتِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَهُوَ هُنَا يُشْعِرُ بِالِاحْتِقَارِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرَّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فِي حُكْمِ اللهِ الْحَقِّ هُمُ الْأَشْرَارُ مِنَ الْبَشَرِ " الصُّمِّ " الَّذِينَ لَا يُلْقُونَ السَّمْعَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالِاعْتِبَارِ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَكَانُوا بِفَقْدِ
مَنْفَعَةِ السَّمْعِ كَالَّذِينَ فَقَدُوا حَاسَّتَهُ " الْبُكْمِ " الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ، كَأَنَّهُمْ فَقَدُوا قُوَّةَ النُّطْقِ. " الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ " أَيْ فَقَدُوا فَضِيلَةَ الْعَقْلِ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِذْ لَوْ عَقَلُوا لَطَلَبُوا، وَلَوْ طَلَبُوا لَسَمِعُوا وَمَيَّزُوا، وَلَوْ سَمِعُوا لَنَطَقُوا وَبَيَّنُوا، وَتَذَكَّرُوا وَذَكَرُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (50: 37) فَهُمْ لِفَقْدِهِمْ مَنْفَعَةَ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَالنُّطْقِ كَالْفَاقِدِينَ لِهَذِهِ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى، بِأَنْ خُلِقُوا خِدَاجًا أَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِمْ آفَاتٌ ذَهَبَتْ بِمَشَاعِرِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَشَاعِرَ وَالْقُوَى خُلِقَتْ لَهُمْ فَأَفْسَدُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا خَلَقَهَا اللهُ تَعَالَى لِأَجْلِهِ فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ ثُمَّ التَّكْلِيفِ. فَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا لِمَكْرُمَةٍ
…
فَكَأَنَّهُمْ خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا
رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا سَمَاحَ يَدٍ
…
فَكَأَنَّهُمْ رُزِقُوا وَمَا رُزِقُوا
وَإِذَا أَرَدْتَ فَهْمَ الْآيَةِ فَهْمًا تَفْصِيلِيًّا فَارْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (7: 179) وَلَمْ يَصِفْهُمْ هُنَا بِالْعَمَى كَمَا
وَصَفَهُمْ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ وَآيَتَيِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ هُنَا مَقَامُ التَّعْرِيضِ بِالَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِسَمَاعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ.
وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ أَيْ: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمُ اسْتِعْدَادًا لِلْإِيمَانِ وَالْهُدَى بِبَقِيَّةٍ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ، لَمْ تُطْفِئْهَا مَفَاسِدُ التَّرْبِيَةِ وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، لَأَسْمَعَهُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَعِنَايَتِهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَتَدَبُّرٍ، وَلَكِنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ; لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ، وَخُتِمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ وَقَدْ عَلِمَ أَنْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ (لَتَوَلَّوْا) عَنِ الْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ لِمَا فَهِمُوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ - كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ - كَرَاهَةً وَعِنَادًا لِلدَّاعِي إِلَيْهِ وَلِأَهْلِهِ، لَا تَوَلِّيًا عَارِضًا مُؤَقَّتًا، وَفَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ التَّوَلِّي الْعَارِضِ لِصَارِفٍ مُؤَقَّتٍ، وَتَوَلِّي الْإِعْرَاضِ وَالْكَرَاهَةِ الَّذِي فَقَدَ صَاحِبُهُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْحَقِّ، وَقَبُولَ الْخَيْرِ فَقْدًا تَامًّا، وَمَنِ اضْطَرَبَ فِي فَهْمِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ
فَقَدْ جَهِلَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ الْفَارِقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَالِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا بَيَّنَهُ الْإِمَامُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، وَالْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسْمِعْهُمْ، أَيْ لَمْ يُوَفِّقْهُمْ لِلسَّمَاعِ النَّافِعِ ; لِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَيْهِ هُوَ مَا فِي الْفِطْرَةِ مِنْ نُورِ الْحَقِّ الْمُحَبِّبِ لِلنَّفْسِ فِي الْخَيْرِ، وَقَدْ فَقَدُوا ذَلِكَ بِإِفْسَادِهِمْ لِفِطْرَتِهِمْ، وَإِطْفَائِهِمْ لِنُورِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ الَّذِي يُذَكِّيهِ سَمَاعُ الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، فَصَارُوا مِمَّنْ وَصَفَهُمْ فِي سُورَةِ الْمُطَفِّفِينَ بِقَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (83: 14) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (2: 81) وَوَصَفَهُمْ فِيهَا بِقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (2: 18) وَضَرَبَ الْمَثَلَ لِسَمَاعِهِمْ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْهَا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (2: 171) يَعْنِي أَنَّهُمْ كَسَارِحَةِ النَّعَمِ تَسْمَعُ الصُّرَاخَ النَّاعِقَ فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى، فَإِذَا سَكَتَ عَادَتْ إِلَى رَعْيِهَا كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ:
نَحْنُ وَلَا كُفْرَانَ لِلَّهِ كَمَا
…
قَدْ قِيلَ فِي السَّارِبِ أَخْلَى فَارْتَعَى
إِذَا أَحَسَّ نَبْأَةً رِيعَ وَإِنْ
…
تَطَامَنَتْ عَنْهُ تَمَادَى وَلَهَا
وَفِي الْآيَتَيْنِ 42 و43 مِنْ سُورَةِ يُونُسَ (10) إِيئَاسُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِسْمَاعِ هَؤُلَاءِ الصُّمِّ، وَهِدَايَةِ هَؤُلَاءِ الْعُمْيِ، وَقَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (10: 44) فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ تَحْثُو التُّرَابَ فِي فِي مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِي كُفْرِهِ وَإِيمَانِهِ، كَمَا أَنَّهَا تُسَجِّلُ الْجَهْلَ بِاللُّغَةِ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ فِيهَا إِشْكَالًا فِي النَّظْمِ بِجَوَازِ تَقْدِيرِ: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَنَقُولُ: إِنَّ تَقْدِيرَهُ هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ; لِأَنَّهُ نَقِيضُ مَا أَفَادَتْهُ
"
لَوْ " مِنْ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ فَهُوَ لَا يُنْتِجُ إِلَّا بَاطِلًا، وَعَفَا اللهُ عَمَّنْ صَوَّرُوا هَذَا الْإِشْكَالَ الْوَهْمِيَّ بِالِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ الْفَلْسَفِيِّ وَأَطَالُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الشَّاغِلَةِ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
أَلَمْ يَكُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَذْلَقَةِ اللَّفْظِيَّةِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْقُرْآنِ، تَوْجِيهُ قَلْبِ سَامِعِهِ لِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ، وَدَرَجَةِ حَظِّهِ مِنْهُ؟ فَإِنَّ لِلسَّمَاعِ دَرَجَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَا يُطَالِبُهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ: أَسْفَلُهَا أَنْ يَتَعَمَّدَ مَنْ يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَلَّا يَسْمَعَهُ
مُبَارَزَةً لَهُ بِالْعَدَاوَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، خَوْفًا مِنْ سُلْطَانِهِ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ يَغْلِبَهُمْ عَلَيْهَا كَالَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (41: 26) وَيَلِيهَا مَنْ يَسْتَمِعُ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَنْ يَفْهَمَ وَيَعْلَمَ كَالْمُنَافِقِينَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي آيَةِ الْقِتَالِ (47: 16) وَذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَيَلِيهَا مَنْ يَسْتَمِعُ لِأَجْلِ الْتِمَاسِ شُبْهَةٍ لِلطَّعْنِ وَالِاعْتِرَاضِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْمُعَانِدُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَمَا يَفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُرْتَزِقَةُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ إِذَا اسْتَمَعُوا لِلْقُرْآنِ أَوْ نَظَرُوا فِيهِ - وَيَلِيهَا أَنْ يَسْمَعَ لِيفْهَمْ، وَيَعْلَمَ ثُمَّ يَحْكُمَ لِلْكَلَامِ أَوْ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ كُلُّهَا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالْمُنْصِفُ مِنْهُمُ الْفَرِيقُ الْأَخِيرُ، وَكَمْ آمَنَ مِنْهُمْ مَنْ تَأَمَّلَ وَفَهِمَ. نَظَرَ طَبِيبٌ إِفْرِنْسِيٌّ مُعَاصِرٌ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ فَرَأَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهُ - كَالطَّهَارَةِ وَالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ - مُوَافِقٌ لِأَحْدَثِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا رَأْيُ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَرَغَّبَهُ ذَلِكَ فِي تَأَمُّلِهِ كُلِّهِ فَأَسْلَمَ. وَنَظَرَ (مِسْتَر بَرَاوِن) وَهُوَ رُبَّانُ بَارِجٍ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ فِي تَرْجَمَةِ مِسْتَر سَايِلْ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ لَهُ فَاسْتَقْصَى فِيهِ الْكَلَامَ عَنِ الْبِحَارِ وَالرِّيَاحِ فَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ أَكْبَرِ رُبَّانِي الْمَلَّاحِينَ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ الْبَحْرَ قَطُّ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَا تَلَقَّى عَنْ أَحَدٍ دَرْسًا، (قَالَ) : فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُ حَقَائِقُ لَمْ يَعْلَمْهَا مِنِ اخْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِتَلَقِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَبِرِينَ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَأَكْثَرَهُمُ الْيَوْمَ يَسْمَعُونَ الْقَارِئَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فَلَا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى سَمَاعِهِ، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ لَهُ وَيُنْصِتُونَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّلَذُّذِ بِتَجْوِيدِهِ، وَتَوْقِيعِ التِّلَاوَةِ عَلَى قَوَاعِدِ النَّغَمَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ بِسَمَاعِهِ التَّبَرُّكَ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ الْحُفَّاظَ لِتِلَاوَتِهِ عِنْدَهُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَكَابِرِ الْوُجَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ التِّلَاوَةُ فِي حُجْرَةِ الْبَوَّابِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَدَمِ، وَإِذَا سَمِعْتَ بَعْضَ السَّامِعِينَ لِلتِّلَاوَةِ يَقُولُ: اللهُ اللهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ مُرَكَّبَةٍ أَوْ صَوْتٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ إِعْجَابًا بِنَغْمَةِ التَّالِي، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَنْطِقُونِ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ.
دُعِيتُ مَرَّةً إِلَى حَفْلَةِ عُرْسٍ فَإِذَا أَنَا بِقَارِئٍ يَتْلُو بِالنَّغَمِ وَالتَّطْرِيبِ، وَبَعْضُ
الْحَاضِرِينَ يَهْتَزُّ وَيَنْطِقُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَادَةِ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ، وَيَسْتَعِيدُونَ بَعْضَ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ كَمَا يَسْتَعِيدُونَ الْمَغْنَى عَلَى سَوَاءٍ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَتْلُو تِلْكَ الْوَصَايَا الصَّادِعَةَ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَتَوْبِيخِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (17: 41) إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (17: 45، 47) .
فَلَمَّا سَمِعْتُ مُكَاءَ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ وَأَصْوَاتَهُمُ الْمُنْكَرَةَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْحِكَمِ الرَّوَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ الصَّوَادِعِ، لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ صِحْتُ فِيهِمْ صَيْحَةً مُزْعِجَةً، وَوَقَفْتُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي كُنْتُ جَالِسًا عَلَيْهِ وَوَبَّخْتُهُمْ تَوْبِيخًا شَدِيدًا، مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلَا سِيَّمَا أَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (59: 21) فَسَكَنُوا وَسَكَتُوا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ يَهْتَزُّ مُتَخَشِّعًا، وَيُهَمْهِمُ مُعْتَبِرًا مُتَدَبِّرًا.
وَلِيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ لِفَهْمِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ دَرَجَاتٍ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ وَإِبْهَامٍ بِحَسَبِ مَا تُفَسَّرُ بِهِ الْمُفْرَدَاتُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ، أَوْ مَعَ الْمُرَكَّبَاتِ بِحَسَبِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ، كَكَوْنِ لَفْظَيِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ هُنَا مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ مَثَلًا، وَهَذَا الْفَهْمُ قَاصِرٌ لَا يَتَّسِعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَهْمُهُ تَفْصِيلِيًّا يَنْتَقِلُ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، وَيَعْدُو الْمَفْهُومَاتِ الذِّهْنِيَّةَ إِلَى الْمَاصَدَقَاتِ، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمَعْزِلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَتَصَوَّرُ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ لِغَيْرِهِ وَفِي غَيْرِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، لَا فِي أَمْثَالِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا تَنْهَى عَنْهُ وَتَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَصَاحِبُهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ،
وَإِنَّمَا الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا لِلسَّمَاعِ أَنْ تَسْمَعَ فَتَفْقَهَ، وَتَعْقِلَ وَتَتَدَبَّرَ فَتَعْتَبِرَ وَتَعْمَلَ، حَتَّى لَا تَقُولَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (67: 10)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُقَالُ دَعَاهُ فَأَجَابَهُ وَاسْتَجَابَهُ وَاسْتَجَابَ لَهُ، وَكَثُرَ الْمُتَعَدِّي فِي التَّنْزِيلِ، وَيَقُولُ الرَّاغِبُ: إِنَّ أَصْلَ الِاسْتِجَابَةِ التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْإِجَابَةِ فَحَلَّ مَحَلَّهَا، أَقُولُ: وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْفَهْمِ قَلْبُ هَذَا وَعَكْسُهُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ هِيَ الْإِجَابَةُ بِعِنَايَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَتَكُونُ زِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِمَّا قَالُوهُ فِي مَعَانِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَرِّي أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ فِيمَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ (3: 195) فَقَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ مَعْنَاهُ إِذَا عَلِمْتُمْ مَا فَرَضْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ، وَشَأْنُ سَمَاعِ التَّفَقُّهِ مِنَ الْهِدَايَةِ، وَقَدْ دَعَاكُمُ الرَّسُولُ بِالتَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى لِمَا يُحْيِيكُمْ، فَأَجِيبُوا الدَّعْوَةَ بِعِنَايَةٍ وَهِمَّةٍ، وَعَزِيمَةٍ وَقُوَّةٍ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ (2: 63) وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ هُنَا حَيَاةُ الْعِلْمِ بِاللهِ تَعَالَى وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَأَحْكَامِ شَرْعِهِ وَالْحِكْمَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَكْمُلُ بِهَا الْفِطْرَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ فِي الدُّنْيَا، وَتَسْتَعِدُّ لِلْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ هُنَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ ; لِأَنَّهُ سَبَبُ الْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَالسُّلْطَانِ - وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجِهَادَ يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ هُوَ الْحَيَاةَ الْمَطْلُوبَةَ، بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ لِتَحَقُّقِهَا وَسِيَاجٌ
لَهَا بَعْدَ حُصُولِهَا، وَقِيلَ: هِيَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ يَتَجَدَّدُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَثَمَرَتُهُ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَبِمَا فِي الِاسْتِجَابَةِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْإِجَابَةِ، وَإِلَّا فَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: هِيَ الْقُرْآنُ، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَنْبُوعُهَا الْأَعْظَمُ، الْهَادِي إِلَى سَبِيلِهَا الْأَقْوَمِ، مَعَ بَيَانِهِ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ الَّذِي أَمَرَنَا بِأَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اقْتِرَانُ طَاعَتِهِ بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا دَعَا شَخْصًا وَهُوَ يُصَلِّي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ
الصَّلَاةَ اسْتِجَابَةً لَهُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِإِجَابَتِهِ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى مَا كَانَ صَلَّى وَيُتِمَّ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ - أَوْ قَالَ: فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ ثُمَّ أَتَيْتُهُ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ:" أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ؟ الْحَدِيثَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم دَعَا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ " وَذَكَرَ نَحْوًا مِمَّا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَصَحَّحَهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ فِي بَابِ فَضَائِلِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ ذِكْرِ فِقْهِ الْحَدِيثِ: وَفِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَاتَبَ الصَّحَابِيَّ عَلَى تَأْخِيرِ إِجَابَتِهِ، وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ أَنَّ حُكْمَ لَفْظِ الْعُمُومِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى جَمِيعِ مُقْتَضَاهُ، وَأَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ إِذَا تَقَابَلَا كَانَ الْعَامُّ مُنَزَّلًا عَلَى الْخَاصِّ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ حَرَّمَ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْعُمُومِ ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهَا إِجَابَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ (وَفِيهِ) أَنَّ إِجَابَةَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ - هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ إِجَابَتُهُ وَاجِبَةً مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَاطَبُ مُصَلِّيًا أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ، أَمَّا كَوْنُهُ يَخْرُجُ لِإِجَابَتِهِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ لَا يَخْرُجُ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَسْتَلْزِمُهُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الْإِجَابَةُ، وَلَوْ خَرَجَ الْمُجِيبُ مِنَ الصَّلَاةِ وَإِلَى ذَلِكَ جَنَحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى آخِرِ مَا أَوْرَدَهُ، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَا يَدْعُو الْمَرْءَ إِلَيْهِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ لِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ كَانَ صلى الله عليه وسلم دَعَا سَعِيدًا هَذَا لِيُعَلِّمَهُ فَضْلَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَفِي مَتْنِ الْحَدِيثِ شَيْءٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم عَمَلٌ.
وَأَحَقُّ مِنْ هَذَا بِالْبَيَانِ أَنَّ طَاعَتَهُ صلى الله عليه وسلم وَاجِبَةٌ فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيُعْلَمُ
أَنَّهُ دَعَا إِلَيْهِ دَعْوَةً عَامَّةً مِنْ أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ، كَبَيَانِهِ لِصِفَةِ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدِهَا وَالْمَنَاسِكِ وَلَوْ بِالْفِعْلِ، مَعَ قَوْلِهِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَقَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ وَمَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ السُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَكَذَا أَقْوَالُهُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي أُمِرَ بِتَبْلِيغِهَا فِيمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً - وَأَمَّا غَيْرُ الْقَطْعِيِّ رِوَايَةً وَدَلَالَةً مِنْ سُنَنِهِ فَهُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْهَا بِبَحْثِهِ أَوْ بَحْثِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَمْرِ الدِّينِ، فَيَنْبَغِي لَهُ الِاهْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِحَسَبِهَا - الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْحُرْمَةُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ - ; لِأَنَّ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ الِاجْتِهَادِيَّةَ يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ فِي الدَّلِيلِ وَفِي دَلَالَتِهِ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْعَلَ اجْتِهَادَهُ تَشْرِيعًا عَامًّا يُلْزِمُهُ غَيْرَهُ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ مُخَالَفَتَهُ أَوْ مُخَالَفَةَ مَنْ قَلَّدَهُ هُوَ فِيهِ، إِلَّا الْأَئِمَّةَ أُولِي الْأَمْرِ، فَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ إِذَا حَكَمُوا بِهَا لِإِقَامَةِ الشَّرْعِ وَصِيَانَةِ
النِّظَامِ الْعَامِّ - وَعَلَى هَذَا كُلِّهِ جَرَى السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: إِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا، وَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا مُعَيَّنًا فِي دِينِهِ، وَلَكِنْ مَنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ يَسْتَفْتِي فِيهِ مَنْ يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ لِعِلْمِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَأْخُذُ بِفَتْوَاهُ إِذَا اطْمَأَنَّ لَهَا. وَقَدِ امْتَنَعَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنْ إِجَابَةِ الْمَنْصُورِ ثُمَّ الرَّشِيدِ إِلَى مَا عَرَضَاهُ عَلَيْهِ مِنْ إِلْزَامِ النَّاسِ الْعَمَلَ بِكُتُبِهِ، حَتَّى الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ سُنَنٌ وَاطَأَهُ جُلُّ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهَا.
أَمَّا مَنْ يَقُولُونَ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا كَانَتْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي عَهْدِهِ، وَلَا يُجِبُ الْعَمَلُ بَعْدَهُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ، فَهُمْ زَنَادِقَةٌ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ يُرِيدُونَ هَدْمَ الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى الْإِسْلَامِ، بَلْ تَجِبُ طَاعَةُ الرَّسُولِ كَمَا أَطْلَقَهَا اللهُ تَعَالَى، وَيَجِبُ التَّأَسِّي بِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّنَا نَهْتَدِي بِخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَأَئِمَّةِ أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَعُلَمَاءِ أَصْحَابِهِ الْعَامِلِينَ، وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، يُهْتَدَى بِهِمْ فِي آدَابِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمُ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَلَا نُسَمِّي شَيْئًا مِنْهَا دِينًا نَدِينُ لِلَّهِ بِهِ إِلَّا
مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَأَمَّا السُّنَنُ وَالْإِرْشَادَاتُ النَّبَوِيَّةُ فِي أُمُورِ الْعَادَاتِ كَاللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ فَلَمْ يَعُدَّهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا عُلَمَاءِ الْخَلَفِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَتَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا دِينًا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ; لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ تَعَالَى، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي غَيْرِهِ مِنْ مَقَالَاتِ الْمَنَارِ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ هَذَا تَنْبِيهٌ لِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَمَرَنَا اللهُ أَنْ نَعْلَمَهُمَا عِلْمًا يَقِينًا إِذْعَانِيًّا لِمَا لَهُمَا مِنَ الشَّأْنِ فِي مَقَامِ الْوَصِيَّةِ بِالِاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَةِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(الْأَوَّلُ) أَنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، الَّذِي هُوَ مَرْكَزُ الْوِجْدَانِ وَالْإِدْرَاكِ، ذِي السُّلْطَانِ عَلَى إِرَادَتِهِ وَعَمَلِهِ، وَهَذَا أَخْوَفُ مَا يَخَافُهُ الْمُتَّقِي عَلَى نَفْسِهِ، إِذَا غَفَلَ عَنْهَا، وَفَرَّطَ فِي جَنْبِ رَبِّهِ، كَمَا أَنَّهُ أَرْجَى مَا يَرْجُوهُ الْمُسْرِفُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَوْحِ اللهِ فِيهَا، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْجَبُ جُمَلِ الْقُرْآنِ، وَلَعَلَّهَا أَبْلَغُهَا فِي التَّعْبِيرِ، وَأَجْمَعُهَا لِحَقَائِقِ عِلْمِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَعِلْمِ الصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَعِلْمِ التَّرْبِيَةِ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي تُعْرَفُ دَقَائِقُهَا بِمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَبَيْنَا زَيْدٌ يَسِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى، وَيَتَّقِي بُنَيَّاتِ طُرُقِ الضَّلَالَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى مَهَاوِي الرَّدَى، إِذَا بِقَلْبِهِ قَدْ تَقَلَّبَ بِعُصُوفِ هَوًى جَدِيدٍ، يَمِيلُ بِهِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، مِنْ شُبْهَةٍ تُزَعْزِعُ الِاعْتِقَادَ، أَوْ شَهْوَةٍ يَغْلِبُ بِهَا الْغَيُّ عَلَى الرَّشَادِ. فَيُطِيعُ هَوَاهُ، وَيَتَّخِذُهُ إِلَهَهُ مَنْ دُونِ اللهِ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (25: 43) عَلَى أَنَّهُ فِيهِ مُخْتَارٌ، فَلَا جَبْرَ وَلَا اضْطِرَارَ.
وَيُقَابِلُ هَذَا مِنَ الْحَيْلُولَةِ مَا حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ كَانَ مُنْهَمِكًا فِي شَهَوَاتِهِ وَلَهْوِهِ، تَارِكًا لِهُدَاهُ وَطَاعَةِ رَبِّهِ، فَنَزَلَ يَوْمًا فِي زَوْرَقٍ مَعَ خِلَّانٍ لَهُ فِي نَهْرِ دِجْلَةَ لِلتَّنَزُّهِ وَمَعَهُمُ النَّبِيذُ وَالْمَعَازِفُ، فَبَيْنَا هُمْ يَعْزِفُونَ وَيَشْرَبُونَ، إِذِ الْتَقَوْا بِزَوْرَقٍ آخَرَ فِيهِ تَالٍ لِلْقُرْآنِ يُرَتِّلُ سُورَةَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (81: 1) فَوَقَعَتْ تِلَاوَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ مَوْقِعَ التَّأْثِيرِ وَالْعِظَةِ، فَاسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (81: 10) امْتَلَأَ قَلْبُهُ خَشْيَةً مِنَ اللهِ، وَتَدَبُّرًا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى صَحِيفَةِ عَمَلِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ. فَأَخَذَ الْعُودَ مِنَ الْعَازِفِ
فَكَسَرَهُ، وَأَلْقَاهُ فِي دِجْلَةَ، وَثَنَّى بِنَبْذِ قَنَانِي النَّبِيذِ وَكُئُوسِهِ فِيهَا، وَصَارَ يُرَدِّدُ الْآيَةَ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ تَائِبًا مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ طَاعَةٍ.
فَتَذْكِيرُ اللهِ تَعَالَى إِيَّانَا بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْقَلْبِيَّةُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَمْرُهُ إِيَّانَا بِأَنْ نَعْلَمَهَا عِلْمَ إِيقَانٍ وَإِذْعَانٍ، يُفِيدُنَا فَائِدَتَيْنِ لَا يَكْمُلُ بِدُونِهِمَا الْإِيمَانُ، وَهُمَا أَلَّا يَأْمَنَ الطَّائِعُ الْمُشَمِّرُ مِنْ مَكْرِ اللهِ فَيَغْتَرَّ بِطَاعَتِهِ وَيُعْجَبَ بِنَفْسِهِ، وَأَلَّا يَيْأَسَ الْعَاصِي وَالْمُقَصِّرُ فِي الطَّاعَةِ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَيَسْتَرْسِلَ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ، حَتَّى تُحِيطَ بِهِ خَطَايَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَأْمَنْ عِقَابَ اللهِ، وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، يَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ، وَيُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى خَوَاطِرِهِ، وَيُعَاقِبَ نَفْسَهُ عَلَى هَفَوَاتِهِ ; لِتَظَلَّ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ الْمُسْتَقِيمِ، مُتَجَنِّبَةً الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ، وَيَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ دَائِمًا بَيْنَ خَوْفٍ يَحْجِزُهُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَرَجَاءٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُسَاعِدُنَا عَلَى ذَلِكَ (الْأَمْرُ الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ نَذْكُرَ حَشْرَنَا إِلَيْهِ عز وجل وَمُحَاسَبَتَهُ إِيَّانَا عَلَى أَعْمَالِنَا الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَمُجَازَاتَهُ إِيَّانَا عَلَيْهَا إِمَّا بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَإِمَّا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهَذَا مِنْهُ مُقْتَضَى الْفَضْلِ، وَذَلِكَ أَثَرُ الْعَدْلِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا فَهِمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مَقَامِ حِرْمَانِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ سَمَاعِ الْفِقْهِ وَالْهُدَى، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَنْ يَعْصِيَ الْهَوَى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (45: 23) فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَيْسَ مَجْبُورًا عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَحْرِمْهُ الْهُدَى بِإِعْجَازِهِ عَنْهُ، وَهُوَ يُؤْثِرُهُ وَيُفَضِّلُهُ، أَوْ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، فَإِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ اتِّخَاذَهُ هَوَاهُ إِلَهَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عليه السلام: يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (38: 26) الْآيَةَ.
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى سَبَبٌ لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ الضَّلَالَ اسْتِقْلَالًا - كَمَا يَدَّعِي بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ
إِثْبَاتُ كَوْنِ ضَلَالِهِ عَلَى عِلْمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى، مُؤْثِرٌ لَهُ عَلَى الْهُدَى، وَاللهُ تَعَالَى يُسْنِدُ الْأُمُورَ إِلَى
أَسْبَابِهَا تَارَةً، وَإِلَيْهِ تَعَالَى تَارَةً، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَوَاضِعُ سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَمِنَ الْأَسْبَابِ مَا جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَى عِلْمٍ، وَمَا جَعَلَهُ بِأَسْبَابٍ لَا يُعْلَمُ لِلْخَلْقِ اخْتِيَارٌ فِيهَا وَلَا عِلْمٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ يُسْنَدُ إِلَى سَبَبِهِ تَارَةً، وَإِلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ تَارَةً، وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَيُخْتَارُ هَذَا أَوْ ذَاكَ فِي الْبَيَانِ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَرْثِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (56: 63، 64) فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ الْفَلَّاحَ لَا فِعْلَ لَهُ، وَلَا اخْتِيَارَ فِي زَرْعِهِ، وَأَنَّ اللهَ يَخْلُقُهُ لَهُ بِدُونِ إِرَادَتِهِ وَلَا فِعْلِهِ، أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ فِي أَرْضِهِ سَوَاءٌ، وَتَلْقِيحَهُ لِنَخْلِهِ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ؟ ! .
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي أَعْمَالِهِ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُدْمِنُهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، تَضْعُفُ إِرَادَتُهُ فِي هَوَاهُ حَتَّى تَذُوبَ وَتَفْنَى فِيهِ، فَلَا تَعُودُ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوَاعِظُ الْقَوْلِيَّةُ، وَلَا الْعِبَرُ الْمُبَصِّرَةُ وَلَا الْمَعْقُولَةُ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبَكَمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِهَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ ضَلَّ بِهَا الْجَبْرِيَّةُ غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهَا عَاقِبَةً طَبِيعِيَّةً لِإِدْمَانِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، كَالْخِمَارِ الَّذِي يَعْتَرِي مُدْمِنَ الْخَمْرِ، فَيَشْعُرُ بِفُتُورٍ وَأَلَمٍ عَصَبِيٍّ لَا يَسْكُنُ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى الشُّرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَّمَتْنَا عَدَمَ الْيَأْسِ.
وَمِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ فِي تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشَاعِرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (6: 110) فَيُرَاجَعُ مَعْنَاهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَقْلِيبُ اللهِ الْقُلُوبَ صَرْفُهَا مِنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ. وَذَكَرَ آيَةَ الْأَنْعَامِ هَذِهِ.
وَمِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَأْثُورِ فِي السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " وَيَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْهُدَى " وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ
كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ آثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ " أَكْبَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحِ الْأَحَادِيثِ أَغْلَاطٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْقَلْبِ، وَفِي تَقْلِيبِ اللهِ تَعَالَى لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ اللَّفْظِيُّ مِنْ قَبْلُ، وَمَعْنَى تَقْلِيبِهِ آنِفًا، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ خَالِقُ الْقُلُوبِ وَمُقَلِّبُهَا حَقٌّ، وَكَذَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا، وَلَيْسَ بِحَقٍّ مَا عَبَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَمْنَعُ الْكَافِرَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ مُبَاشَرَةً، وَيَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ الْكُفْرَ اعْتِقَادًا وَنُطْقًا خَلْقًا أُنُفًا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا يُبْطِلُهُ وَيُثْبِتُ الْأَسْبَابَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَالْقَائِلُونَ
بِمَا ذُكِرَ يُثْبِتُونَ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ، وَيَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى قَوْلِ الْجَبْرِيَّةِ، فَهُمْ يُؤَيِّدُونَ الْفَاسِدَ بِالْفَاسِدِ وَلَا يَشْعُرُونَ، وَيَمُدُّهُمْ إِخْوَانُهُمُ الصُّوفِيَّةُ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ.
بَعْدَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْخَاصَّةِ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَمَا يُخْشَى أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيْهِ مِمَّا يَحْرِمُهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ الْخُصُوصِيَّةِ، بِانْتِهَاءِ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْهَا إِلَى مَا يَكَادُ يَخْرُجُ عَنِ الِاخْتِيَارِ، بِإِضْعَافِ الْإِرَادَةِ وَاسْتِعْبَادِهَا لِلْأَهْوَاءِ، - أَمَرَهُمْ بِاتِّقَاءِ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ تَبِعَةُ عُقُوبَتِهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْمُصْطَلِي بِنَارِهِ فِعْلًا، وَبَيْنَ الْمُؤَاخَذِ بِهِ لِتَقْصِيرِهِ فِي دَرْئِهِ، وَإِقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِهِ، فَقَالَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أَيْ: وَاتَّقُوا وُقُوعَ الْفِتَنِ الْقَوْمِيَّةِ وَالْمِلِّيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ الْأُمَمِ فِي التَّنَازُعِ عَلَى مَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ مِنَ الْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ أَوِ التَّفَرُّقِ فِي الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالِانْقِسَامِ إِلَى الْأَحْزَابِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَذَاهِبِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ كَالْحُكْمِ، فَإِنَّ الْعِقَابَ عَلَى ذُنُوبِ الْأُمَمِ أَثَرٌ لَازِمٌ لَهَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَلِهَذَا عَبَّرَ هُنَا بِالْفِتْنَةِ، دُونَ الذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْفِتْنَةُ الْبَلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِرَارًا.
رَوَى أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: قُلْنَا لِلزُّبَيْرِ: " يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ضَيَّعْتُمُ الْخَلِيفَةَ حَتَّى قُتِلَ ثُمَّ جِئْتُمْ تَطْلُبُونَ بِدَمِهِ؟ فَقَالَ: إِنَّا قَرَأْنَا
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَلَمْ نَكُنْ نَحْسَبُ أَنَّا أَهْلُهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِينَا حَيْثُ وَقَعَتْ، وَرَوَى عَنْهُ جُمْهُورُ مُخَرِّجِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: لَقَدْ قَرَأْنَاهَا زَمَانًا وَمَا نَرَى أَنَّا مِنْ أَهْلِهَا فَإِذَا نَحْنُ الْمَعْنِيُّونَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ خُوِّفْنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا ظَنَنَّا أَنَّنَا خُصِصْنَا بِهَا. قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَنَحْوِهِ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى عَنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ - وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ عَلِمَ أَقْوَامٌ حِينَ نَزَلَتْ أَنْ يَسْتَخِصَّ بِهَا قَوْمٌ. وَهُوَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عَلِمَ وَاللهِ ذَوُو الْأَلْبَابِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ سَيَكُونُ فِتَنٌ. وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ خَاصَّةً، فَأَصَابَتْهُمْ يَوْمَ الْجَمَلِ فَاقْتَتَلُوا فَكَانَ مِنَ الْمَقْتُولِينَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ. وَآخَرُونَ عَنْهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَمَلِ. وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: تُصِيبُ الظَّالِمَ وَالصَّالِحَ عَامَّةً. وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ حَتَّى يَتْرُكَهُ لَا يَعْقِلُ. وَرَوَى جُمْهُورُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَلَّا يُقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهُمْ فَيَعُمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَلِهَذَا الْأَثَرِ شَاهَدٌ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِعَمَلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِرُوهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللهُ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ وَهُوَ أَخُو عَدِيٍّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَجَرِيرٍ وَغَيْرِهِمَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ صَحِيحَةُ الْمَعَانِي إِلَّا قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالتَّخْصِيصِ، فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ; لِأَنَّهَا بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ كَمَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا فِتْنَةُ عُثْمَانَ فَكَانَتْ أَوَّلَ هَذِهِ الْفِتَنِ الَّتِي اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْآرَاءُ فَاخْتَلَفَتِ الْأَعْمَالُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَخَلَا الْجَوُّ لِلْمُفْسِدِينَ مِنَ السَّبَئِيِّينَ وَأَعْوَانِهِمْ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ
وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَعْقَبَ فِتْنَةُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، ثُمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ ثُمَّ قَتْلُهُمُ الْحُسَيْنَ عليه السلام إِلَخْ. وَلَوْ تَدَارَكُوهَا كَمَا تَدَارَكَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فِتْنَةَ الرِّدَّةِ لَمَا كَانَتْ فِتْنَةٌ تَبِعَتْهَا فِتَنٌ كَثِيرَةٌ لَا يَزَالُ الْمُسْلِمُونَ مُصَابِينَ بِهَا وَمُعَذَّبِينَ بِعَذَابِهَا، وَأَكْبَرُهَا فِتَنُ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ وَفِتَنُ افْتِرَاقِ الْمَذَاهِبِ.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لِمَنْ خَالَفَ سُنَنَهُ فِي الْأُمَمِ وَالْأَفْرَادِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلِمَنْ خَالَفَ هِدَايَةَ دِينِهِ الْمُزَكِّيَةَ لِلْأَنْفُسِ، وَقَطْعِيَّاتِ شَرْعِهِ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ وَحِفْظِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ. وَهَذَا الْعِقَابُ مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ فِي إِحْدَاهُمَا فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْأَفْرَادِ أَوْ لِلْأُمَمِ، وَعِقَابُ الْأُمَمِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُطَّرِدٌ فِي الدُّنْيَا، وَأَوَّلُ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ أُمَّتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ أَهْلُ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ كَانُوا خَيْرَهَا بَلْ خَيْرَ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَصَّرُوا فِي دَرْءِ الْفِتْنَةِ الْأُولَى عَاقَبَهُمُ اللهُ عَلَيْهَا عِقَابًا شَدِيدًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَكَذَا تَسَلْسَلَ الْعِقَابُ فِي كُلِّ جِيلٍ وَقَعَ فِيهِ ذَلِكَ، ثُمَّ امْتَزَجَتِ الْفِتَنُ الْمَذْهَبِيَّةُ بِالْفِتَنِ السِّيَاسِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ، وَلِهَذَا كَانَتْ فِتْنَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ أَشَدَّ مَصَائِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَدْوَمَهَا، فَزَالَتِ الْخِلَافَةُ الَّتِي تَنَازَعُوا عَلَيْهَا، وَتَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقَاتَلُوا لِأَجْلِهَا، وَلَمْ تَزَلْ هِيَ، بَلْ تَزْدَادُ قُوَّةً وَشَبَابًا، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مَجَلَّةِ الْمَنَارِ.
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ قِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُهَاجِرِينَ يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ بِمَكَّةَ - وَقِيلَ: إِنَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً فِي عَهْدِ نُزُولِ السُّورَةِ، يُذَكِّرُهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ ضَعْفِ أُمَّتِهِمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي جَزِيرَتِهِمْ بَيْنَ الدُّوَلِ الْقَوِيَّةِ مِنَ الرُّومِ وَالْفُرْسِ، وَلَا مَانِعَ فِيهِ مِنْ إِرَادَةِ هَذَا وَذَاكَ مَعًا. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أَيْ: تَخَافُونَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى وَقْتِ الْهِجْرَةِ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ مُشْرِكُو قَوْمِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَرَبِ، أَيْ أَنْ يَنْتَزِعُوكُمْ بِسُرْعَةٍ فَيَفْتِكُوا بِكُمْ - كَمَا كَانَ يَتَخَطَّفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا خَارِجَ الْحَرَمِ، وَتَتَخَطَّفُهُمُ الْأُمَمُ مِنْ أَطْرَافِ جَزِيرَتِهِمْ. قَالَ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْحَرَمِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ
مِنْ حَوْلِهِمْ
(29: 67) فَآوَاكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْأَنْصَارِ وَأَيَّدَكُمْ وَإِيَّاهُمْ بِنَصْرِهِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَسَيُؤَيِّدُكُمْ عَلَى الرُّومِ وَفَارِسَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا وَعَدَكُمْ فِي كِتَابِهِ بِالْإِجْمَالِ وَبَيَّنَهُ لَكُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِالتَّصْرِيحِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هَذِهِ الثَّلَاثُ وَغَيْرُهَا مِنْ نِعَمِهِ، فَيَزِيدُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ بِقَوْلِهِ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (14: 7) .
وَقَدْ جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَأْثُورِ بِاخْتِصَارٍ قَلِيلٍ مَا نَصُّهُ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ الْآيَةَ: " كَانَ هَذَا الْحَيُّ أَذَلَّ النَّاسِ ذُلًّا وَأَشْقَاهُ عَيْشًا وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا وَأَبْيَنَهُ ضَلَالَةً، مَعْكُوفِينَ عَلَى رَأْسِ حَجَرٍ بَيْنَ فَارِسَ وَالرُّومِ، لَا وَاللهِ مَا فِي بِلَادِهِمْ مَا يُحْسَدُونَ عَلَيْهِ، مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤْكَلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، لَا وَاللهِ مَا نَعْلَمُ قَبِيلًا مِنْ حَاضِرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ كَانَ أَشَرَّ مَنْزِلًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَكَّنَ بِهِ فِي الْبِلَادِ، وَوَسَّعَ بِهِ فِي الرِّزْقِ، وَجَعَلَكُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا لِلَّهِ نِعَمَهُ فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشُّكْرَ وَأَهْلُ الشُّكْرِ فِي مَزِيدٍ مِنَ اللهِ عز وجل ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ: فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِمَكَّةَ فَآوَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنِ النَّاسُ؟ قَالَ: " أَهْلُ فَارِسَ " وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: فَآوَاكُمْ قَالَ: إِلَى الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ اهـ.
وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي الْآيَاتِ أَنَّهَا حُجَجٌ تَارِيخِيَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ إِصْلَاحًا أَوْرَثَ وَيُورِثُ مَنِ اهْتَدَى بِهِ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالسِّيَادَةَ وَالسُّلْطَانَ فِيهَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ أَعْدَاءَهُ - الْجَاحِدِينَ لِهَذَا عَلَى عِلْمٍ - قَدْ شَوَّهُوا تَارِيخَهُ، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنْهُ بِالْبَاطِلِ. وَأَنَّ أَهْلَهُ قَدْ هَجَرُوا كِتَابَهُ، وَتَرَكُوا هِدَايَتَهُ، وَجَهِلُوا تَارِيخَهُ، ثُمَّ صَارُوا
يُقَلِّدُونَ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ، حَتَّى زَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ جَهْلِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، وَزَوَالِ مُلْكِهِمُ الَّذِي كَانَ عُقُوبَةً مِنَ اللهِ تَعَالَى لِخَلَفِهِمُ الطَّالِحِ عَلَى تَرْكِهِ، بَعْدَ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ لِسَلَفِهِمُ الصَّالِحِ عَلَى الْفِتْنَةِ بِالتَّنَازُعِ عَلَى مُلْكِهِ. فَإِلَى مَتَى أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ التَّنَاسُبِ بَيْنَ هَذِهِ النِّدَاءَاتِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ هَذَا الْجُزْءِ. وَوَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذَا النِّدَاءِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْخِيَانَتَيْنِ هُنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ " أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ - وَكَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ - فَأَعْلَمَ اللهُ رَسُولَهُ بِمَكَانِهِ، فَكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُكُمْ فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ: لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ الْآيَةَ " وَالْمُرَادُ أَنَّ فِيهَا تَعْرِيضًا بِفِعْلَةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِيمَانَ بِأَنَّ عَمَلَهُ خِيَانَةٌ تُنَافِيهِ. وَالْخِيَانَةُ لِلنَّاسِ وَحْدَهُمْ مِنْ أَرْكَانِ النِّفَاقِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - وَسَيَأْتِي - فَكَيْفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْخِيَانَةِ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ؟ .
وَفِي عِدَّةِ رِوَايَاتٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْكَلْبِيِّ وَالسُّدِّيِّ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ كَانَ حَلِيفًا لِبَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ إِجْلَاءِ إِخْوَانِهِمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، أَرَادُوا بَعْدَ طُولِ الْحِصَارِ أَنْ يَنْزِلُوا مِنْ حِصْنِهِمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ مِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ قَبْلِ غَدْرِهِمْ وَنَقْضِهِمْ لِعَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَبُو لُبَابَةَ بِأَلَّا يَفْعَلُوا، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ يَعْنِي أَنَّ سَعْدًا يَحْكُمُ بِذَبْحِهِمْ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ:" مَا زَالَتْ قَدَمَايَ حَتَّى عَلِمْتُ أَنَّنِي خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ " وَفِي رِوَايَةِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا لُبَابَةَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ حَلِيفًا لَهُمْ، بَلْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ وَضَعَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عِنْدَهُمْ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الذَّبْحِ، فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ - وَذَكَرَهَا ثُمَّ قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِامْرَأَةِ أَبِي لُبَابَةَ:" أَيَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَيَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ وَيُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ " وَالْمُرَادُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَكَّ فِي إِيمَانِهِ حَتَّى إِنَّهُ سَأَلَ امْرَأَتَهُ: هَلْ يَقُومُ فِي بَيْتِهِ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ؟ فَأَجَابَتْهُ بِصِيغَةِ التَّأْكِيدِ الَّتِي يُجَابُ بِهَا مَنْ أَظْهَرَ شَكَّهُ، وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِمُنَافِقِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ يُخْلِصُونَ الْخِدْمَةَ، وَيُسْدُونَ النَّصِيحَةَ إِلَى أَعْدَاءِ مِلَّتِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ فِيمَا يُمْكِّنُ لَهُمُ السُّلْطَانَ فِي بِلَادِهِمْ، وَالسِّيَادَةَ عَلَى أُمَّتِهِمْ.
وَلْيَنْظُرِ الْمُعْتَبِرُ كَيْفَ عَاقَبَ أَبُو لُبَابَةَ نَفْسَهُ تَوْبَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى " شَدَّ نَفْسَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ - فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تِيبَ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحُلُّ نَفْسِي، حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي يَحُلُّنِي، فَجَاءَهُ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ " وَغَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي أَبِي لُبَابَةَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ فَعْلَتَهُ - وَهَذَا التَّعْبِيرُ يَكْثُرُ مِثْلُهُ عَنْهُمْ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَسْبَابَ النُّزُولِ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ فَأُلْحِقَتْ بِهَا بِأَمْرِ اللهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ النُّزُولِ فَالْآيَةُ عَامَّةٌ تَشْتَمِلُ كُلَّ خِيَانَةٍ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِيَانَةَ اللهِ بِتَرْكِ فَرَائِضِهِ وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْأَمَانَةَ بِكُلِّ مَا ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَ بِأَلَّا يُنْقِصَهَا. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَالْخِيَانَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْإِخْلَافِ وَالْخَيْبَةِ بِنَقْضِ مَا كَانَ يُرْجَى وَيُؤْمَلُ مِنَ الْخَائِنِ، أَوْ نَقْصِ شَيْءٍ مِنْهُ يُنَافِي حُصُولَهُ وَتَحَقُّقَهُ. وَمِنْهُ: خَانَهُ سَيْفُهُ، إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرِيبَةِ. وَخَانَتْهُ رِجْلَاهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ، وَخَانَ الرِّشَاءُ الدَّلْوَ إِذَا انْقَطَعَ. وَمِنْ مَعْنَى النَّقْصِ أَوْ الِانْتِقَاصِ فِي الْمَادَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ (2: 187) أَيْ تَنْقُصُونَهَا بَعْضَ مَا أُحِلَّ لَهَا مِنَ اللَّذَّاتِ، وَمِثْلُهُ التَّخَوُّنُ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ: وَتَخَوَّنَ فُلَانٌ حَقِّي إِذَا تَنَقَّصَهُ كَأَنَّهُ خَانَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكُلُّ مَا غَيَّرَكَ عَنْ حَالِكَ فَقَدْ تَخَوَّنَكَ. قَالَ لَبِيدٌ.
تَخَوَّنَهَا نُزُولِي وَارْتِحَالِي
اهـ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الْكَشَّافِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْوَفَاءِ التَّمَامُ، وَمِنْهُ تَخَوَّنَهُ إِذَا تَنَقَّصَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ; لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ اهـ. وَمَا قُلْنَا أَوَّلًا أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَأَشْمَلُ لِمَا وَرَدَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخِيَانَةُ وَالنِّفَاقُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَالنِّفَاقُ يُقَالُ اعْتِبَارًا بِالدِّينِ، ثُمَّ يَتَدَاخَلَانِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قُلْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ حَدًّا تَامًّا.
وَالْمَعْنَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ تَعَالَى بِتَعْطِيلِ فَرَائِضِهِ أَوْ تَعَدِّي حُدُودِهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ فِي كِتَابِهِ (وَالرَّسُولَ) بِالرَّغْبَةِ عَنْ بَيَانِهِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَهْوَائِكُمْ، أَوْ آرَاءِ مَشَايِخِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ إِلَى أَوَامِرِ أُمَرَائِكُمْ، وَتَرْكِ سُنَّتِهِ إِلَى سُنَّةِ أَوْلِيَائِكُمْ، بِنَاءً عَلَى زَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ أَيْ
وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ أُمُورِكُمْ مِنَ الشُّئُونِ السِّيَاسِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا الْحَرْبِيَّةَ، وَفِيمَا بَيْنَكُمْ بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَسَّنُوهُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ بِزِيَادَةِ " إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكَ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ، أَوِ اقْتِطَاعَ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ " أَيْضًا " إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. فَإِفْشَاءُ السِّرِّ خِيَانَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَيَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سِرًّا الْقَرِينَةُ الْقَوْلِيَّةُ كَقَوْلِ مُحَدِّثِكَ: هَلْ يَسْمَعُنَا أَحَدٌ؟ أَوْ لِلْفِعْلِيَّةِ كَالِالْتِفَاتِ لِرُؤْيَةِ مَنْ عَسَاهُ يَجِيءُ. وَآكَدُ أَمَانَاتِ السِّرِّ وَأَحَقُّهَا بِالْحِفْظِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. الْخِيَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: " قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَلَا دِينَ
لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ زَادَ مُسْلِمٌ " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ " وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ إِطْلَاقُ الْأَمَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَصْرَ، بَلْ كُلُّ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ حَقٍّ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَجِبُ عَلَيْكَ أَدَاؤُهُ إِلَى أَهْلِهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ (2: 283) وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (4: 58) .
وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ هَذِهِ مَبَاحِثَ نَفِيسَةً فِي الْأَمَانَاتِ وَالْعَدْلِ، مِنْهَا (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) فِي أَنْوَاعِ الْأَمَانَةِ (وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) فِي حِكْمَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْأَمَانَةِ. وَأَوْرَدْنَا فِي هَذِهِ مَا قَالَهُ حَكِيمُ الشَّرْقِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْأَمَانَةِ مِنَ الصِّفَاتِ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمَدَنِيَّةِ وَبِهَا حِفْظُ الْعُمْرَانِ، وَإِصْلَاحُ حَالِ الْأُمَّةِ، وَلَا بَقَاءَ لِدَوْلَةٍ بِدُونِهَا; لِأَنَّ عَلَيْهَا مَدَارَ الثِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَنَاهِيكَ بِمَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (33: 72) .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَمَعْنَاهُ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مَفَاسِدَ الْخِيَانَةِ، وَتَحْرِيمَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا، وَسُوءَ عَاقِبَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا فَصَّلْتُمُوهُ خِيَانَةٌ لِظُهُورِهِ، وَأَمَّا مَا خَفِيَ عَنْكُمْ حُكْمُهُ فَالْجَهْلُ لَهُ عُذْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مِمَّا يُعْلَمُ
بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ، أَوِ اسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ، كَفَعْلَةِ أَبِي لُبَابَةَ الَّتِي كَانَتْ هَفْوَةً سَبَبُهَا الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْوَلَدِ ; وَلِذَلِكَ فَطِنَ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَوْقِفَهُ رضي الله عنه وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَزَلَّةً فِي الْخِيَانَةِ أَعْلَمَنَا بِهِ عَقِبَ النَّهْيِ عَنْهَا فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ الْفِتْنَةُ: هِيَ الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ بِمَا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ أَوْ قَبُولُهُ أَوْ إِنْكَارُهُ، فَتَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَشْيَاءِ، يَمْتَحِنُ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَيُحَاسِبُهُمْ
وَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فِتْنَتِهِمْ مِنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ أَوِ الْبَاطِلِ، وَعَمَلِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْفِتْنَةِ مِرَارًا مِنْ وُجُوهٍ. وَفِتْنَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ عَظِيمَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى ذِي فَهْمٍ، إِلَّا أَنَّ الْأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ فِي وُجُوهِهَا وَطُرُقِهَا، فَأَمْوَالُ الْإِنْسَانِ عَلَيْهَا مَدَارُ مَعِيشَتِهِ، وَتَحْصِيلُ رَغَائِبِهِ وَشَهَوَاتِهِ، وَدَفْعُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَكَارِهِ عَنْهُ، فَهُوَ يَتَكَلَّفُ فِي كَسْبِهَا الْمَشَاقَّ، وَيَرْكَبُ الصِّعَابَ، وَيُكَلِّفُهُ الشَّرْعُ فِيهَا الْتِزَامَ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابَ الْحَرَامِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْعَنَاءَ فِي حِفْظِهَا، وَتَتَنَازَعُهُ الْأَهْوَاءُ الْمُتَنَاوِحَةُ فِي إِنْفَاقِهَا، فَالشَّرْعُ يَفْرِضُ عَلَيْهِ فِيهَا حُقُوقًا مُقَدَّرَةً وَغَيْرَ مُقَدَّرَةٍ، وَمُعَيَّنَةً وَغَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، وَمَحْصُورَةً وَغَيْرَ مَحْصُورَةٍ، كَالزَّكَاةِ وَنَفَقَاتِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَفَّارَاتِ بَعْضِ الذُّنُوبِ الْمُعَيَّنَةِ، مِنْ عِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَنُسُكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَنْدُبُ لَهُ نَفَقَاتٍ أُخْرَى لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ غَيْرَ الْمُعَيَّنَةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عَظِيمٌ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ. وَالضَّابِطُ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَذْلِ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ: السَّمَاحَةُ وَالسَّخَاءُ، وَهُمَا مِنْ أَرْكَانِ الْفَضَائِلِ، وَلِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِمْسَاكِ: الْبُخْلُ، وَهُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذَائِلِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَرَجَاتٌ وَدَرَكَاتٌ.
وَأَمَّا الْأَوْلَادُ فَهُمْ كَمَا يَقُولُ الْأُدَبَاءُ: ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ وَأَفْلَاذُ الْأَكْبَادِ، وَحُبُّهُمْ كَمَا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: ضَرْبٌ مِنَ الْجُنُونِ يُلْقِيهِ الْفَاطِرُ الْحَكِيمُ فِي قُلُوبِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ، يَحْمِلُهَا عَلَى بَذْلِ كُلِّ مَا يُسْتَطَاعُ بَذْلُهُ فِي سَبِيلِهِمْ مِنْ مَالٍ وَصِحَّةٍ وَرَاحَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ رَوَى أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا إِلَى سَيِّدِ الْحُكَمَاءِ وَخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ صلى الله عليه وسلم الْوَلَدُ ثَمَرَةُ الْقَلْبِ وَإِنَّهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ فَإِنْ كَانَ سَنَدُهُ ضَعِيفًا كَمَا قَالُوا فَمَتْنُهُ صَحِيحٌ، فَحُبُّ الْوَلَدِ قَدْ يَحْمِلُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى اقْتِرَافِ الْآثَامِ فِي سَبِيلِ تَرْبِيَتِهِمْ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَتَأْثِيلِ الثَّرْوَةِ لَهُمْ: يَحْمِلُهُمَا ذَلِكَ عَلَى الْجُبْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّفَاعِ عَنِ الْحَقِّ أَوِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ الْمِلَّةِ وَالْأُمَّةِ، وَعَلَى الْبُخْلِ بِالزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ، دَعْ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ وَالضِّيَافَةَ، كَمَا يَحْمِلُهُمَا الْحُزْنُ عَلَى مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ عَلَى السُّخْطِ عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي كَنَوْحِ الْأُمَّهَاتِ وَتَمْزِيقِ ثِيَابِهِنَّ وَلَطْمِ وُجُوهِهِنَّ، فَفِتْنَةُ الْأَوْلَادِ لَهَا جِهَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الْأَمْوَالِ، وَأَكْثَرُ تَكَالِيفَ مَالِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَبَدَنِيَّةٍ. فَالرَّجُلُ يَكْسِبُ الْحَرَامَ،
وَيَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ; لِأَجْلِ أَوْلَادِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَبَائِرِ شَهَوَاتِهِ، فَإِذَا قَلَّتَ
شَهَوَاتُهُ فِي الْكِبَرِ فَصَارَ يَكْفِيهِ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَالِ، يَقْوَى فِي نَفْسِهِ الْحِرْصُ عَلَى شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِ، وَمَا يَكْفِي الْوَاحِدَ لَا يَكْفِي الْآحَادَ، وَفِتْنَةُ الْأَمْوَالِ قَدْ تَكُونُ جُزْءًا مِنْ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ، فَتَقْدِيمُهَا وَتَأْخِيرُ فِتْنَةِ الْأَوْلَادِ مِنْ بَابِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى.
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ اتِّقَاءُ خَطَرَ الْفِتْنَةِ الْأُولَى بِكَسْبِ الْمَالِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِنْفَاقِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَاتِّقَاءُ الْحَرَامِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ، وَاتِّقَاءُ خَطَرِ الْفِتْنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ جِهَةِ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْهَا بِالْمَالِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُشِيرُ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَبِمَا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مِنْ حُسْنِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى الدِّينِ وَالْفَضَائِلِ، وَتَجْنِيبِهِمْ أَسْبَابَ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا (66: 6) .
وَقَدْ عَطَفَ عَلَى هَذَا التَّحْذِيرِ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُعِينُهُمْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنِ اتِّقَاءِ الْفِتْنَتَيْنِ، وَهُوَ إِيثَارُ مَا عِنْدَ اللهِ عز وجل مِنَ الْأَجْرِ الْعَظِيمِ لِمَنْ رَاعَى أَحْكَامَ دِينِهِ وَشَرَعِهِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَوَقَفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَفْضِيلَهُ عَلَى كُلِّ مَا عَسَاهُ يَفُوتُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِمَا، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مِثْلَ هَفْوَةِ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ حَذَّرَ أَعْدَاءَ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ فَتْحِ حِصْنِهِمْ، وَالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، لِمَا كَانَ لَهُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِمْ فِي حِفْظِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، عَلَى أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ حُسْنَ قُدْوَةٍ بِأَبِي لُبَابَةَ فِي تَوْبَتِهِ النَّصُوحِ، إِذْ أَلَمَّ بِهِ ضَعْفٌ فَوَقَعَ فِي مِثْلِ هَفْوَتِهِ أَوْ مَا دُونَهَا مِنْ خِيَانَةٍ، وَأَيْنَ مِثْلُ أَبِي لُبَابَةَ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ؟ وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ يَخُونُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِي انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ دِينِهِمْ، وَيَخُونُونَ أُمَّتَهُمْ وَدَوْلَتَهُمْ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِ يَرْجُونَهُ أَوْ يَنَالُونَهُ مَنْ عَدُوِّهِمْ - وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مَالِ أُمَّتِهِمْ وَغَنَائِمِ وَطَنِهِمْ - أَوْ خَوْفًا عَلَى مَالِهِمْ وَوَلَدِهِمْ مِنْ سُلْطَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ السُّلْطَانُ، وَقَدْ أَسْقَطَتِ الْخِيَانَةُ دَوْلَةً كَانَتْ أَعْظَمَ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَبَأْسًا بِارْتِكَابِ رِجَالِهَا الرِّشْوَةَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمِنَ الْأَجَانِبِ حَتَّى مُسِخَتْ فَصَارَتْ دُوَيْلَةً صَغِيرَةً فَقِيرَةً، وَلَكِنَّ الْخَلَفَ الْمَغْرُورَ لِذَلِكَ السَّلَفِ الْمُخَرِّبِ يَدَّعُونَ أَنَّهَا إِنَّمَا أَسْقَطَهَا تَعَالِيمُ الْإِسْلَامِ الْقَوِيمَةُ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ قَدِيمَةً، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا وَاجِبًا وَاحِدًا أَوْ أَدَبًا وَاحِدًا مِنْ آدَابِ الْقُرْآنِ، لَكَانَ كَافِيًا لِوِقَايَتِهَا مِنَ الزَّوَالِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
هَذِهِ الْآيَةُ آخِرُ وَصَايَا الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَهِيَ أَعَمُّهَا، وَالْأَصْلُ الْجَامِعُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَكَلِمَةُ " الْفُرْقَانِ " فِيهَا كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَكَلِمَةِ التَّقْوَى فِي مَجِيئِهَا هُنَا مُطْلَقَةً، فَالتَّقْوَى هِيَ الشَّجَرَةُ، وَالْفُرْقَانُ هُوَ الثَّمَرَةُ، وَهُوَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ مَادَّةِ الْفَرْقِ، وَمَعْنَاهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ هُنَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ وَالْحُكْمُ الْحَقُّ فِيهَا، وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِالنُّورِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَصْلَ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأُمُورِ فِي الْعِلْمِ هُوَ الْوَسِيلَةُ لِلْخُرُوجِ مِنْ حَيِّزِ الْإِجْمَالِ إِلَى حَيِّزِ التَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الصَّحِيحُ هُوَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ وَالْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ وَالْأَشْخَاصِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بَيْنَ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ، وَالْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ، وَالنِّسَبِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبَاتِ، مِنَ الْحِسِّيَّاتِ وَالْمَعْنَوِيَّاتِ، وَيُبَيِّنُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْطِيهِ حَقَّهُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُمْتَازًا مِنْ غَيْرِهِ. وَإِيرَادُ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ يَطُولُ فَيَشْغَلُ عَنِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ " الْفُرْقَانِ " إِلَّا أَنْ نَتْرُكَ عَوَالِمِ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا وَنَأْتِيَ بِمِثَالٍ مِنَ اللُّغَةِ; لِأَنَّ لَفْظَ الْفُرْقَانِ مِنْ مُفْرَدَاتِهَا، فَنَقُولُ: إِنَّ الْعَامِّيَّ يَعْلَمُ مِنَ اللُّغَةِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا، وَهُوَ أَنَّهَا أَلْفَاظٌ يُعَبِّرُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ مِنْ عِلْمِهِ، وَمِنَ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ فِيهَا مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ وَالصَّرْفِ، وَفِي عُلُومِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَالْبَدِيعِ وَالْوَضْعِ وَالِاشْتِقَاقِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ - كَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ مِنَ الْأَخِيرِ مَثَلًا - وَأَنْتَ تَرَى أَنَّكَ بِهَذَا الْبَيَانِ الْوَجِيزِ لِمَعْنَى الْفُرْقَانِ قَدِ اتَّضَحَ لَكَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَالْحُكْمِ الرَّجِيحِ مَا كَانَ خَفِيًّا، وَفَصَّلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُجْمَلًا، وَلِذَلِكَ نَعُدُّهُ مِنْ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ لَا اسْتِطْرَادًا أَجْنَبِيًّا، وَلَا سَيْلًا أَتِيًّا، كَأَكْثَرِ الَّذِي يَأْتِيهِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ مَبَاحِثِ النَّحْوِ وَفُنُونِ الْبَلَاغَةِ وَغَيْرِهَا.
وَكَمَا يَكُونُ الْفُرْقَانُ فِي مَسَائِلِ الْعُلُومِ وَمَوَادِّهَا مِنْ طَبِيعِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ وَلُغَوِيَّةٍ، وَفِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي اسْتُنْبِطَتِ الْعُلُومُ مِنْهَا، يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَفِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ وَفِي الْحُرُوبِ، وَقَدْ أُطْلِقَ الْفُرْقَانُ عَلَى
أَشْهَرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالْقُرْآنُ وَغَلَبَ عَلَى الْقُرْآنِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (25: 1) ; لِأَنَّ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى يُفَرِّقُ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَفِي الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ، وَفِي الْأَعْمَالِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَأُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى يَوْمِ بَدْرٍ كَمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعَ بَيَانِ وَجْهِهِ، وَمُتَعَلِّقِ فَصْلِهِ وَتَفْرِقَتِهِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا مَعْنَاهُ: إِنْ تَتَّقُوا اللهَ فِي كُلِّ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى بِمُقْتَضَى دِينِهِ وَشَرْعِهِ، وَبِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، يَجْعَلْ لَكُمْ بِمُقْتَضَى هَذِهِ التَّقْوَى مَلَكَةً مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَتَفْصِلُونَ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَتُمَيِّزُونَ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَتُزِيلُونَ بَيْنَ الْحُجَّةِ وَالشُّبْهَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ مُفَسِّرِي السَّلَفِ تَفْسِيرُ الْفُرْقَانِ هُنَا بِنُورِ الْبَصِيرَةِ الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ،
وَهُوَ عَيْنُ مَا فَصَّلْنَاهُ مِنَ الْفُرْقَانِ الْعِلْمِيِّ الْحُكْمِيِّ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ بِالنَّصْرِ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ، بِمَا يُعِزُّ الْمُؤْمِنَ وَيُذِلُّ الْكَافِرَ، وَبِالنَّجَاةِ مِنَ الشَّدَائِدِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مِنَ الْفُرْقَانِ الْعَمَلِيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ الْعِلْمِيِّ. ذَكَرَ كُلَّ مَا رَآهُ مُنَاسِبًا لِحَالِ وَقْتِهِ أَوْ حَالِ مَنْ لَقَّنَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَحْدِيدَ الْمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وَلَا الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الَّذِي هُوَ ثَمَرَةُ التَّقْوَى بِأَنْوَاعِهَا، وَهَذَا النُّورُ فِي الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ طَالِبُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (2: 269) فَهُوَ كَعَهْدِ اللهِ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالتَّقْلِيدِ لِغَيْرِهِمْ لِاحْتِقَارِهَا فِي جَنْبِ إِطْرَائِهِمْ لِمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمْ لَا يَطْلُبُونَهُ وَلَا يَقْصِدُونَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُمْ صَدَّقُوا بَعْضَ الْجَاهِلِينَ فِي ادِّعَائِهِمْ إِقْفَالَ بَابِهِ، وَكَثَافَةَ حِجَابِهِ، بَلْ أَصْحَابُهُ هُمُ الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْوَاضِعُونَ لِلْعُلُومِ الَّتِي تَنْفَعُ النَّاسَ، وَكَانَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ حَظٌّ عَظِيمٌ مِنْهُ.
أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى - فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاتِّقَائِهِ، وَبِاتِّقَاءِ النَّارِ، وَبِاتِّقَاءِ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَبِاتِّقَاءِ الْفِتَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّوَلِ وَالْأُمَمِ، وَتَقَدَّمَ فِي وَصَايَا هَذَا السِّيَاقِ - وَبِاتِّقَاءِ الْفَشَلِ وَالْخِذْلَانِ فِي الْحَرْبِ، وَبِاتِّقَاءِ ظُلْمِ النِّسَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ فِي إِرْثِ الْأَرْضِ
لِلْمُتَّقِينَ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَقَالَ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (65: 2، 3) وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (65: 5) وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي التَّقْوَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَأَجْرِهَا وَعَاقِبَتِهَا كَثِيرٌ، فَمَعْنَى التَّقْوَى الْعَامَّةِ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي نَفْسِهِ، وَفِي جِنْسِهِ الْإِنْسَانِيِّ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقَاصِدِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ الْحَسَنَةِ، وَالْكَمَالِ الْمُمْكِنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي مَا يُسْتَطَاعُ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَزِدْنَا عَلَى ذَلِكَ: اتِّقَاءَ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْكَمَالِ وَسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ بِحَسَبِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْكَوْنِ، كَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فِي الْأَرْضِ كَمَا هِيَ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَكَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا هِيَ السُّفْلَى كَذَلِكَ. وَكَمَالُ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَكَمَالُ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مُجْتَمِعًا وَمُنْفَرِدًا كَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتْ ثَمَرَةُ التَّقْوَى الْعَامَّةُ الْكَامِلَةُ هُنَا حُصُولَ مَلَكَةِ الْفُرْقَانِ الَّتِي يُفَرِّقُ صَاحِبُهَا بِنُورِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ مِنْ عِلْمٍ وَحُكْمٍ وَعَمَلٍ، فَيَفْصِلُ فِيهَا بَيْنَ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ، وَمَا يَجِبُ رَفْضُهُ، وَبَيْنَ مَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ، وَمَا يَجِبُ تَرْكُهُ، وَتَنْكِيرُ الْفُرْقَانِ لِلتَّنْوِيعِ التَّابِعِ لِأَنْوَاعِ التَّقْوَى كَالْفِتَنِ فِي السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ، فَكُلُّ مُتَّقٍ لِلَّهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتِهِ فُرْقَانًا فِيهِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْحُكَّامُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْعَرَبِ أَعْدَلَ حُكَّامِ الْأُمَمِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى فِي عَهْدِ الْفَتْحِ. قَالَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ: مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا
أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتَّقُوا فِتَنَ السِّيَاسَةِ وَالرِّيَاسَةِ لِقِلَّةِ اخْتِبَارِهِمْ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا بِتَفَرُّقِهِمْ فَضَعْفِهِمْ فَزَوَالِ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَعَاجِمِ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ لِجَهْلِهِمْ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّقْوَى الْوَاجِبَةِ، وَحِرْمَانِهِمْ مِنْ فُرْقَانِهَا، فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُجَدِّدُونَ مَجْدَهُمْ مَعَ جَهْلِ هَذَا الْفُرْقَانِ الْمُبِينِ، وَعَدَمِ الِاعْتِصَامِ بِالتَّقْوَى الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، الْمُؤَهِّلَةِ لَهَا لِلْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ، بَلْ مَعَ انْغِمَاسِهِمْ فِي السُّكْرِ وَالْفَوَاحِشِ ; لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْإِفْرِنْجَ قَدْ تَرَقَّوْا فِي دُنْيَاهُمْ بِفُسَّاقِهِمْ وَفُجَّارِهِمْ، وَإِنَّمَا تَرَقَّوْا بِحُكَمَائِهِمْ وَأَبْرَارِهِمُ، الَّذِينَ وَقَفُوا حَيَاتَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ النَّافِعِ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ هَذَا عَطْفٌ عَلَى يَجْعَلْ
لَكُمْ فُرْقَانًا أَيْ: وَيَمْحُو بِسَبَبِ هَذَا الْفُرْقَانِ وَتَأْثِيرِهِ مَا كَانَ مِنْ تَدْنِيسِ سَيِّئَاتِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، فَتَزُولُ مِنْهَا دَاعِيَةُ الْعَوْدِ إِلَيْهَا الْمُؤَدِّي إِلَى الْإِصْرَارِ الْمُهْلِكِ، وَيَغْفِرُهَا لَكُمْ بِسَتْرِهَا، وَتَرْكِ الْعِقَابِ عَلَيْهَا وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَمِنْ أَعْظَمِ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَ هَذَا الْجَزَاءَ الْعَظِيمَ بِقِسْمَيْهِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ جَزَاءً لِلتَّقْوَى وَأَثَرًا لَهَا.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَمَا بَعْدَهُمَا تَذْكِيرٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ مِنْ حَالِهِ وَحَالِ قَوْمِهِ مَعَهُ فِي مَكَّةَ كَمَا سَبَقَ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ حَسُنَ هَذَا التَّذْكِيرُ بِذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِنَصْرِهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ، الْفَاتِنِينَ الْمَفْتُونِينَ، الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى وَعَنِ اتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِالْقُوَّةِ الْقَاهِرَةِ.
قَالَ عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي نَفْسِكَ، مَا نَقُصُّهُ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي عَهْدِكَ وَمِنْ بَعْدِكَ ; لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لَكَ عَلَى صِدْقِ دَعْوَتِكَ، وَوَعْدِ رَبِّكَ بِنَصْرِكَ. اذْكُرْ ذَلِكَ الزَّمَنَ الْغَرِيبَ الَّذِي يَمْكُرُ بِكَ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِكَ فِي وَطَنِكَ. بِمَا يُدَبِّرُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالسِّرِّ مِنْ وَسَائِلِ الْإِيقَاعِ بِكَ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ فَأَمَّا الْإِثْبَاتُ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّدُّ بِالْوَثَاقِ وَالْإِرْهَاقُ بِالْقَيْدِ، وَالْحَبْسُ الْمَانِعُ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ فَالْمَكْرُ فِيهِ طَرِيقَتُهُ وَصِفَتُهُ الْمُمْكِنَةُ الَّتِي لَا يَكُونُ ضَرَرُهَا فِيهِمْ عَظِيمًا، وَهُوَ مَا بَيَّنَتْهُ الرِّوَايَةُ الْآتِيَةُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الْإِخْرَاجُ فَهُوَ النَّفْيُ مِنَ الْوَطَنِ،
وَقَدْ رَوَى كِبَارُ مُصَنِّفِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ " أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا يَأْتَمِرُ بِهِ قَوْمُكَ؟ قَالَ:
يُرِيدُونَ أَنْ يَسْجِنُونِي أَوْ يَقْتُلُونِي أَوْ يُخْرِجُونِي. قَالَ: مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا؟ قَالَ رَبِّي. قَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، فَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا. قَالَ: أَنَا أَسْتَوْصِي بِهِ؟ بَلْ هُوَ يَسْتَوْصِي بِي " فَنَزَلَتْ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى نُزُولِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ التَّشَاوُرَ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بِدَارِ النَّدْوَةِ كَانَ عَقِبَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ رضي الله عنها، وَكَانَ الْخُرُوجُ لِلْهِجْرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أَجْمَعُوا فِيهَا أَمْرَهُمْ عَلَى قَتْلِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ تَحَدَّثُوا بِهِ قَبْلَ إِجْمَاعِهِ، وَإِرَادَةِ الشُّرُوعِ فِيهِ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ فَبَلَغَهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالَتِهِمُ الْعَامَّةِ الدَّائِمَةِ فِي مُعَامَلَتِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِشَرِّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي مَكَّةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ " وَيَمْكُرُونَ بِكَ " أَيْ: وَهَكَذَا دَأْبُهُمْ مَعَكَ، وَمَعَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يَمْكُرُونَ بِكُمْ وَيَمْكُرُ اللهُ لَكُمْ بِهِمْ كَمَا فَعَلَ مِنْ قَبْلُ إِذْ أَحْبَطَ مَكْرَهُمْ، وَأَخْرَجَ رَسُولَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَى حَيْثُ مَهَّدَ لَهُ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ وَوَطَنِ السُّلْطَانِ وَالْقُوَّةِ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ; لِأَنَّ مَكْرَهُ نَصْرٌ لِلْحَقِّ، وَإِعْزَازٌ لِأَهْلِهِ، وَخَذْلٌ لِلْبَاطِلِ، وَإِذْلَالٌ لِأَهْلِهِ، وَإِقَامَةٌ لِلسُّنَنِ، وَإِتْمَامٌ لِلْحُكْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (3: 54) وَفِي تَفْسِيرِ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ (7: 99) الْآيَةَ وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ هُوَ التَّدْبِيرُ الْخَفِيُّ; لِإِيصَالِ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْمَمْكُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَوِقَايَةُ الْمَمْكُورِ لَهُ مِنَ الْمَكْرُوهِ كَذَلِكَ. وَالْغَالِبُ فِي عَادَاتِ الْبَشَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَكْرُ فِيمَا يَسُوءُ وَيُذَمُّ مِنَ الْكَذِبِ وَالْحِيَلِ، وَلِذَلِكَ تَأَوَّلَ الْمُفَسِّرُونَ مَا أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَالُوا فِي مِثْلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ - آيَةِ الْأَنْفَالِ وَآيَةِ آلِ عِمْرَانَ - إِنَّهُ أُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ بِتَسْمِيَةِ تَخْيِيبِ سَعْيِهِمْ فِي مَكْرِهِمْ أَوْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَكْرَ مِنْهُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ، وَالْحَسَنُ وَالسَّيِّئُ - كَمَا قَالَ تَعَالَى: اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ (35: 43) وَمِنَ الدُّعَاءِ الْمَرْفُوعِ " وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ، وَتَفْسِيرُ آيَةِ الْأَعْرَافِ مِنَ الْجُزْءِ التَّاسِعِ.
وَأَمَّا قِصَّةُ مَكْرِهِمُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ هِجْرَةُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم، وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ، وَخِذْلَانُ الشِّرْكِ، فَفِيهَا رِوَايَاتٌ أَوْفَاهَا رِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ، وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفَاسِيرِهِمْ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارَبَةٍ، نَنْقُلُ مَا أَوْرَدَ السَّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ مِنْهَا عَنْهُ قَالَ: " وَإِنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمِنْ أَشْرَافِ كُلِّ قَبِيلَةٍ اجْتَمَعُوا; لِيَدْخُلُوا دَارَ النَّدْوَةِ وَاعْتَرَضَهُمْ
إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعْتُ بِمَا اجْتَمَعْتُمْ لَهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَحْضُرَكُمْ، وَلَنْ يَعْدِمَكُمْ مِنِّي رَأْيٌ وَنُصْحٌ، قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ فَقَالَ: انْظُرُوا فِي شَأْنِ هَذَا الرَّجُلِ فَوَاللهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يُؤَاتِيَكُمْ فِي أَمْرِكُمْ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ قَائِلٌ: احْبِسُوهُ فِي وَثَاقٍ ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ الْمَنُونَ حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، زُهَيْرٌ وَنَابِغَةُ، فَإِنَّمَا هُوَ كَأَحَدِهِمْ، فَقَالَ عَدُوُّ اللهِ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللهِ لَيَخْرُجَنَّ رَائِدٌ مِنْ مَحْبِسِهِ لِأَصْحَابِهِ فَلَيُوشِكَنَّ أَنْ يَثِبُوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَمْنَعُوهُ مِنْكُمْ، فَمَا آمَنُ عَلَيْكُمْ أَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ فَانْظُرَا فِي غَيْرِ هَذَا الرَّأْيِ، فَقَالَ قَائِلٌ: فَأَخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ فَاسْتَرِيحُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَمْ يُضِرْكُمْ مَا صَنَعَ وَأَيْنَ وَقَعَ، وَإِذَا غَابَ عَنْكُمْ أَذَاهُ اسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ لَمْ يُضِرْكُمْ مَا صَنَعَ، وَكَانَ أَمْرُهُ فِي غَيْرِكُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حَلَاوَةَ قَوْلِهِ، وَطَلَاقَةَ لِسَانِهِ، وَأَخْذَهُ لِلْقُلُوبِ بِمَا تَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ، وَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْعَرَبَ لَتَجْتَمِعَنَّ إِلَيْهِ ثُمَّ لَيَسِيرُنَّ إِلَيْكُمْ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ بِلَادِكُمْ، وَيَقْتُلَ أَشْرَافَكُمْ، قَالُوا: صَدَقَ وَاللهِ فَانْظُرُوا رَأْيًا غَيْرَ هَذَا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ لَأُشِيرَنَّ عَلَيْكُمْ بِرَأْيٍ لَا أَرَى غَيْرَهُ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: نَأْخُذُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ غُلَامًا وَسَطًا شَابًّا نَهْدًا ثُمَّ يُعْطَى كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ثُمَّ يَضْرِبُونَهُ بِهِ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، فَلَا أَظُنُّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْدِرُونَ عَلَى حَرْبِ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ قَبِلُوا الْعَقْلَ وَاسْتَرَحْنَا، وَقَطَعْنَا عَنَّا أَذَاهُ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: هَذَا وَاللهِ هُوَ الرَّأْيُ، الْقَوْلُ مَا قَالَ الْفَتَى لَا أَرَى غَيْرَهُ. وَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ عليه السلام النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُ أَلَّا يَبِيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَكْرِ الْقَوْمِ،
فَلَمْ يَبِتْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَذِنَ اللهُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْهِجْرَةِ، وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ فَأَنْزَلَ اللهُ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ (22: 39) الْآيَةَ: فَكَانَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ فِي الْحَرْبِ، وَأُنْزِلَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ، يُذَكِّرُهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ اهـ. وَسَائِرُ خَبَرِ الْهِجْرَةِ مَعْرُوفٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُكَابَرَةً مِنْ مُكَابَرَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ الْمَاكِرِينَ، قَالَهَا بَعْضُهُمْ فَأَعْجَبَتْ أَمْثَالَهُ مِنْهُمْ فَرَدَّدُوهَا فَعُزِيَتْ إِلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهِيَ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا الْمُنَزَّلَةُ فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي يَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ الثَّقَلَانِ، فِيمَا أُودِعَ مِنْ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَقَصَصٍ وَبَيَانٍ، وَمَالَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي نَفْسِ كُلِّ إِنْسَانٍ، بِقَدْرِ مَا أُوتِيَ مِنْ بَلَاغَةٍ وَعَقْلٍ وَقَلْبٍ وَوِجْدَانٍ قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا نَقَلَ هَذَا الْقَوْلَ جُمْهُورُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَعَلَّلَ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةَ بِمَا هُوَ أَكْذَبُ مِنْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: قِصَصُهُمْ وَأَحَادِيثُهُمُ الَّتِي سُطِّرَتْ فِي الْكُتُبِ
عَلَى عِلَّاتِهَا، وَمَا هُوَ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي أَسَاطِيرَ: هِيَ جَمْعُ أُسْطُورَةٍ كَأُرْجُوحَةٍ وَأَرَاجِيحَ وَأُثْفِيَّةِ وَأَثَافِيَّ وَأُحْدُوثَةٍ وَأَحَادِيثَ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَسَاطِيرُ الْأَحَادِيثُ لَا نِظَامَ لَهَا جَمْعُ أَسْطَارٍ وَأَسْطِيرٍ وَأُسْطُورٍ وَبِالْهَاءِ فِي الْكُلِّ. وَأَصْلُ السَّطْرِ الصَّفُّ مِنَ الشَّيْءِ كَالْكِتَابِ وَالشَّجَرِ اهـ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ النَّضْرُ هَذَا يَخْتَلِفُ إِلَى أَرْضِ فَارِسَ فَيَسْمَعُ أَخْبَارَهُمْ عَنْ رُسْتُمَ وَاسْفِنْدِيَارَ وَكِبَارِ الْعَجَمِ، وَيَمُرُّ بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَسْمَعُ مِنْهُمُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، كَأَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ أَخْبَارَ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ وَأَقْوَامِهِمُ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِقِصَصِ أُولَئِكَ الْأُمَمِ فَقَالَ: إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهَا، فَمَا هِيَ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، وَلَعَلَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ فَقَلَّدَهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا أَسَاطِيرُ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي افْتَرَاهَا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ كِبَارِ طَوَاغِيتِهِمْ، وَمِنْهُمُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (6: 33) بَلْ كَانُوا يُوهِمُونَ عَامَّةَ الْعَرَبِ أَنَّهُ اكْتَتَبَهَا وَجَمَعَهَا كَمَا فِي آيَةِ الْفُرْقَانِ: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25: 5) أَيْ لِيَحْفَظَهَا، وَلَمْ يَكُنْ كُبَرَاءُ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ، وَلَا أَهْلُ مَكَّةَ يَعْتَقِدُونَ هَذَا أَيْضًا،
فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا، بَلْ تَشَاوَرُوا فِي شَيْءٍ يَقُولُونَهُ; لِيَصُدُّوا بِهِ الْعَرَبَ عَنِ الْقُرْآنِ فَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ، وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ إِثْبَاتًا، وَكَانَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ أَشَدِّهِمْ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَحِرْصًا عَلَى صَدِّ النَّاسِ عَنِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا (31: 6) إِذِ اشْتَرَى قَيْنَةً جَمِيلَةً كَانَتْ تُغَنِّي النَّاسَ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَغَيْرِ الْأُمَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِصَرْفِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مُنْتَهَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الرُّوَاةِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ النَّضْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ فِي أُسْلُوبِهِ أَوْ بَلَاغَتِهِ وَتَأْثِيرِهِ، وَهُوَ مِنْ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ، إِذْ لَوْ قَدَرَ لَفَعَلَ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، بَلْ هُوَ طَعْنٌ فِي أَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ; لِتَشْكِيكِ الْعَرَبِ فِيهِ وَصَرْفِهَا عَنْهُ، وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا " افْتَرَاهُ " وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ نَفْيٌ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ خَاصًّا بِبَعْضِهِمْ كَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الَّذِي قَالَ لِأَبِي جَهْلٍ وَالْأَخْنَسِ وَغَيْرِهِمَا حِينَ دَعَوْهُ لِتَكْذِيبِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ وَقَدْ شَمَلَ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ إِذْ قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (10: 38) أَيْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَاةٍ كَمَا صَرَّحَ بِالْوَصْفِ فِي سُورَةِ هُودٍ فَقَالَ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
(11: 13) إِلَخْ. وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَآيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي التَّحَدِّي عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ (رَاجِعْ 159 - 164 مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ تَفْسِيرَ ط الْهَيْئَةِ) . وَلَقَدْ كَانَ زُعَمَاءُ طَوَاغِيتِ قُرَيْشٍ كَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ هَذَا وَأَبِي جَهْلٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَتَوَاصَوْنَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، كَمَا يَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْهُ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ أَفْرَادًا إِلَى بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلًا يَسْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَمِنْ تَأْثِيرِهِ وَسُلْطَانِهِ عَلَى الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، وَكَانَ يَلْتَقِي بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ أَحْيَانًا فَيَتَلَاوَمُونَ، وَيُؤَكِّدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى ذَلِكَ، وَمِمَّا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ اسْتِمَاعِهِمْ أَنْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ
فِيهِ كَلِمَتَهُ الْمَشْهُورَةَ فِي وَصْفِهِ وَمِنْهَا " أَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ " فَخَافُوا أَنْ تَسْمَعَهَا الْعَرَبُ، فَمَا زَالُوا يُلِحُّونَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ كَلِمَةٍ مُنَفِّرَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ حَتَّى إِذَا مَا أَقْنَعُوهُ بِوُجُوبِ ذَلِكَ أَطَالَ التَّفْكِيرَ وَالتَّقْدِيرَ وَالنَّظَرَ وَالتَّأَمُّلَ وَالْعُبُوسَ وَالتَّقْطِيبَ حَتَّى اهْتَدَى إِلَى الْكَلِمَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ جَمِيعِ مُكَذِّبِي الْأَنْبِيَاءِ فِي تَسْمِيَةِ آيَاتِهِمْ سِحْرًا فَقَالَ: سِحْرٌ يُؤْثَرُ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي بَحْثِ الْإِعْجَازِ مِنْ تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ فِي التَّحَدِّي.
وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ تَعَالَى مَكْرَ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَهُ الْجُحُودُ وَالْعِنَادُ فَقَالَ: وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا أَبُو جَهْلٍ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ فِي الْفَتْحِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو جَهْلٍ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلَ نُسِبَ إِلَى جَمَاعَةٍ، فَلَعَلَّهُ بَدَأَ بِهِ وَرَضِيَ
الْبَاقُونَ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (70: 1) وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا قَالَاهُ، وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ أَوْلَى، وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ ذَلِكَ سَفَهَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَجَهَلَتُهَا. اهـ. وَقَالَ الْقَسْطَلَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لَهُ: وَرُوِيَ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَعَنَهُ اللهُ لَمَّا قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " وَيْلَكَ، إِنَّهُ كَلَامُ اللهِ " فَقَالَ هُوَ وَأَبُو جَهْلٍ:
اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا إِلَخْ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى الْجَمْعِ إِسْنَادُ مَا فَعَلَهُ رَئِيسُ الْقَوْمِ إِلَيْهِمْ اهـ.
وَالْمَعْنَى: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ، وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الْحَقَّ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِكَ; لِيَدِينَ بِهِ عِبَادُكُ كَمَا يَدَّعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَافْعَلْ بِنَا كَذَا وَكَذَا - أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَتَّبِعُونَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ الْمُنَزَّلَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الَّذِي يُلَقِّبُونَهُ بِابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، بَلْ يُفَضِّلُونَ الْهَلَاكَ بِحِجَارَةٍ يُرْجَمُونَ بِهَا مِنَ السَّمَاءِ أَوْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ آخَرَ يَأْخُذُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَمِنْ هَذَا الدُّعَاءِ عُلِمَ أَنَّ كُفْرَهُمْ عِنَادٌ وَكِبْرِيَاءٌ، وَعُتُوٌّ وَعُلُوٌّ فِي الْأَرْضِ، لَا لِأَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بَاطِلٌ أَوْ قَبِيحٌ أَوْ ضَارٌّ، وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ سَبَأٍ " مَا أَجْهَلَ قَوْمَكَ حِينَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ امْرَأَةً؟ فَقَالَ: أَجْهَلُ مِنْ قَوْمِي قَوْمُكَ حِينَ قَالُوا: اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ وَلَمْ يَقُولُوا فَاهْدِنَا لَهُ " اهـ. وَمَا يَحْكِيهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ قَدْ يَكُونُ بِالْمَعْنَى دُونَ نَصِّ اللَّفْظِ، كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ يَكُونُ نَظْمُهُ مَعَ أَدَائِهِ لِلْمَعْنَى بِدُونِ إِخْلَالٍ مِمَّا يَعْجِزُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُمْ عَنْ مِثْلِهِ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ هَذَا فِي الْكَلَامِ الطَّوِيلِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِمِثْلِ الْإِعْجَازِ.
قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أَيْ: وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّتِهِ، وَلَا مِنْ مُقْتَضَى رَحْمَتِهِ وَلَا حِكْمَتِهِ، أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِيهِمْ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَكَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَنِعْمَةً لَا عَذَابًا وَنِقْمَةً، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ أَيْضًا أَنْ يُعَذِّبَ أَمْثَالَهُمْ مِنْ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَهُمْ فِيهِمْ، بَلْ كَانَ يُخْرِجُهُمْ مِنْهُمْ أَوَّلًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعَذَابِ السَّمَاوِيِّ الَّذِي عَذَّبَ بِمِثْلِهِ الْأُمَمَ فَاسْتَأْصَلَهُمْ أَوْ مُطْلَقًا وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أَيْ: فِي حَالٍ هُمْ يَتَلَبَّسُونَ فِيهَا بِاسْتِغْفَارِهِ تَعَالَى بِالِاسْتِمْرَارِ، رَوَى الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ - الْآيَةَ - فَنَزَلَتْ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ الْآيَةَ. قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ: رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوْا نَدِمُوا فَقَالُوا: غُفْرَانَكَ اللهُمَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ: وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
أَيْ مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللهِ أَنْ يُؤْمِنَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ حِينَئِذٍ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَأَبُو مَالِكٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ:" كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللهُ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللهُ: وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَكَانَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ يَسْتَغْفِرُونَ فَلَمَّا خَرَجُوا أَنْزَلَ اللهُ: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ. فَأَذِنَ اللهُ فِي فَتْحِ مَكَّةَ، فَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ تَعَالَى " وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي رَفْعِهِ قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى أُمَّتِي أَمَانَيْنِ فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: " فَإِذَا مَضَيْتُ تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ " وَهُوَ يُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْعَذَابَ حَلَّ بِهِمْ لَمَّا تَرَكُوا النَّدَمَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَبَالَغُوا فِي مُعَانَدَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَارَبَتِهِمْ، وَصَدِّهِمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاللهُ أَعْلَمُ اهـ مَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللهَ عَذَّبَهُمْ بِالْقَحْطِ لَمَّا دَعَا بِهِ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ إِلَّا بِدُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا يَنْدَفِعُ إِلَّا بِتَفْسِيرِ الْعَذَابِ الْمُمْتَنِعِ مَعَ وُجُودِ الرَّسُولِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَا عَذَّبَ اللهُ بِهِ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَانَ مَعَ وُجُودِ مُوسَى عليه السلام فِيهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالْآيَاتُ نَزَلَتْ مَعَ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْ: وَمَاذَا وَثَبَتَ لَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ تَعْذِيبَهُمْ بِمَا دُونَ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعَيْنِ مِنْهُ بَعْدُ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَوْ لِلنُّسُكِ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ صَدُّهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ. وَالْمَنْعُ كَانَ وَاقِعًا مُنْذُ الْهِجْرَةِ، مَا كَانَ يَقْدِرُ مُسْلِمٌ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ عَذَّبُوهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَنْ يُجِيرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا عَذَابُ بِدْرٍ إِذْ قُتِلَ صَنَادِيدُهُمْ وَرُءُوسُ الْكُفْرِ فِيهِمْ، وَمِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ، وَأُسِرَ سُرَاتُهُمْ، لَا فَتْحَ مَكَّةَ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ - بَلْ لَمْ تَكُنِ الْهِجْرَةُ نَفْسُهَا إِلَّا بِصَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، فَقَدْ كَانُوا يُؤْذُونَ مَنْ طَافَ أَوْ صَلَّى فِيهِ مِنْهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْوِيَاءِ مَنْ يَمْنَعُهُ وَيَحْمِيهِ، وَقَدْ وَضَعُوا عَلَى ظَهْرِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَرْثَ الْجَزُورِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَلَمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ عَلَى رَمْيِهِ عَنْهُ إِلَّا بِنْتُهُ فَاطِمَةُ عليها السلام وَمَنَعُوا أَبَا بَكْرٍ مِنَ
الصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ فَبَنَى لِنَفْسِهِ مَسْجِدًا كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ، فَصَدُّوهُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ أَيْضًا; لِأَنَّ النِّسَاءَ وَالْأَوْلَادَ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِسَمَاعِ قِرَاءَتِهِ الْمُؤَثِّرَةِ فَخَافُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يَهْتَدُوا إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِجَارَةُ ابْنِ الدُّغُنَّةِ لَهُ ثُمَّ اضْطِرَارُهُ إِلَى رَدِّ جِوَارِهِ، وَهُوَ مِنْ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ فِي الْبُخَارِيِّ.
وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ أَيْ مُسْتَحِقِّينَ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِشِرْكِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ فِيهِ، كَطَوَافِهِمْ فِيهِ عُرَاةَ الْأَجْسَامِ رِجَالًا وَنِسَاءً، وَلَمَّا أَجَابَ اللهُ دُعَاءَ أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَجْعَلَ لِلنَّاسِ أَئِمَّةً مِنْ ذُرِّيَّتِهِ كَمَا جَعَلَهُ إِمَامًا لَهُمْ، أَجَابَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّ عَهْدَهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ شَنَاعَةً وَفَسَادًا مِنَ الشِّرْكِ؟ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (31: 13) وَكَانُوا يَقُولُونَ نَحْنُ وُلَاةُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فَنَصُدُّ مَنْ نَشَاءُ، وَنُدْخِلُ مَنْ نَشَاءُ فَقَالَ تَعَالَى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ لِلشِّرْكِ وَسَائِرِ الْفَسَادِ وَالظُّلْمِ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ الصَّادِقُونَ، وَقَدْ وُجِدُوا. وَهَذَا غَايَةُ التَّأْكِيدِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ نَفَى وِلَايَةَ الْمُشْرِكِينَ عَنْ بَيْتِ اللهِ تَعَالَى نَفَى كُلَّ وِلَايَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهَا وِلَايَةَ الْمُتَّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُمْ عَدُوٌّ لَهُمْ وَخِيَارُهُمْ لَا مَنْ لَا فَضْلَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا يَدَّعُونَ حَقَّ الْوِلَايَةِ بِأَنْسَابِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ وَلِمَ لَا يُعَذِّبُ اللهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْتِفَاءِ سَبَبَيْ مَنْعِ الْعَذَابِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَهُ وَأَنْصَارَ دِينِهِ الَّذِينَ لَا يُعَذِّبُهُمْ؟ وَكَأَنَّ سَائِلًا يَسْأَلُ: مَنْ أَوْلِيَاؤُهُ تَعَالَى إِذًا؟ فَأُجِيبَ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِالْإِثْبَاتِ بَعْدَ النَّفْيِ: مَا أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، أَيِ الَّذِينَ صَارَتِ التَّقْوَى الْعَامَّةُ صِفَةً رَاسِخَةً فِيهِمْ، وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِطْلَاقُ فِيهَا مِنَ التَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ فِي هَذَا
السِّيَاقِ، وَالثَّانِي أَخَصُّ وَيُؤَيِّدُهُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (10: 62، 63) وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْوِلَايَةِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَوُجُودِ أَوْلِيَاءِ اللهِ الْمُوَحِّدِينَ الصَّالِحِينَ، وَكَانُوا يَدَّعُونَ هَذَا الْحَقَّ بِنَسَبِهِمُ الْإِبْرَاهِيمِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلَهُ الظُّلْمُ، وَبِقُوَّتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ إِلَى ضَعْفٍ أَوْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءَ اللهِ عز وجل، وَلَا أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَيْسُوا إِلَّا الْمُتَّقِينَ، فَهُمُ الْآمِنُونَ مِنْ عَذَابِهِ بِمُقْتَضَى عَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالْحَقِيقُونَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى بَيْتِهِ، عَلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ بِفَضْلِهِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ آيَاتُهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ أَسْنَدَ هَذَا الْجَهْلَ إِلَى أَكْثَرِهِمْ إِذْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَجْهَلُ سُوءَ حَالِهِمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَضَلَالِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ، وَكَوْنِهِ لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، فَإِنِ امْتَنَعَ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ كِبْرًا وَعِنَادًا، فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَتَرَبَّصُ الْفُرْصَةَ لِإِظْهَارِهِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمُ الْمُسْتَعِدُّونَ لَهُ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَلِلتَّفَاوُتِ
فِي الِاسْتِعْدَادِ كَانَ يَظْهَرُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ. وَالنَّاسُ يُطْلِقُونَ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْقَلِيلَ لَا حُكْمَ لَهُ إِنْ وُجِدَ فَكَيْفَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ بِوُجُودِهِ؟ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى أَكْثَرِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ أَوِ اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنْهُمْ بَعْدَ إِطْلَاقِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ، هُوَ مِنْ دَقَائِقِ الْقُرْآنِ فِي تَحْرِيرِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ عِدَّةِ سُوَرٍ، وَسَبَقَ تَنْبِيهُنَا لِهَذَا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا.
هَذَا وَإِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ صَارُوا فِي هَذَا الْعَصْرِ أَجْهَلَ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ بِمَعْنَى وِلَايَةِ اللهِ وَأَوْلِيَائِهِ - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وِلَايَةُ الْحُكْمِ وَالسُّلْطَانِ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ الْعَامَّةُ، وَوِلَايَةُ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، وَهِيَ الْإِمَامَةُ الشَّخْصِيَّةُ الْخَاصَّةُ، وَجَهْلُهُمْ بِهَذِهِ أَعَمُّ وَأَعْمَقُ، فَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ تَشْمَلُ الْمَجَانِينَ وَالْمَجَاذِيبَ الَّذِينَ تَرْتَعُ الْحَشَرَاتُ فِي أَجْسَادِهِمُ النَّجِسَةِ، وَثِيَابِهِمُ الْقَذِرَةِ، وَيَسِيلُ اللُّعَابُ مِنْ أَشْدَاقِهِمُ الشَّرِهَةِ، وَتَشْمَلُ أَصْحَابَ الدَّجَلِ وَالْخُرَافَاتِ، وَالدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ لِلْكَرَامَاتِ، وَالشِّرْكِ بِاللهِ بِدُعَاءِ الْأَمْوَاتِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَيْهَا مَا يَتَخَيَّلُونَ مِنْ رُؤَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْطَابِ فِي الْمَنَامِ، وَمَا يَزْعُمُونَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ عَنْهُمْ مَا تَنْبِذُهُ شَرِيعَةُ الْمُصْطَفَى عليه السلام، حَتَّى صَارَ مَا هُمْ
عَلَيْهِ دِينَ شِرْكٍ مُنَافِيًا لِدِينِ الْإِسْلَامِ، فَعَلَيْكَ بِمُطَالَعَةِ كِتَابِ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِمِثْلِ هَذَا الْفُرْقَانِ؟ .
ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي أَفْضَلِ مَا بُنِيَ الْبَيْتُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ، إِذْ كَانَ سُوءُ حَالِهِمْ فِي الطَّوَافِ عُرَاةً مَعْرُوفًا لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ، أَوْ فِي الْعِبَادَةِ الْجَامِعَةِ لِلطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فَقَالَ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْبَيْتَ إِذَا أُطْلِقَ مُعَرَّفًا انْصَرَفَ عِنْدَهُمْ إِلَى بَيْتِ اللهِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، عَلَى الْقَاعِدَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي انْصِرَافِ مِثْلِهِ إِلَى الْأَكْمَلِ فِي جِنْسِهِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا، وَهِيَ أَعْظَمُ النُّجُومِ هِدَايَةً. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً تُصَفِّرُ وَتُصَفِّقُ. وَقَالَ: الْمُكَاءُ الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ التَّصْفِيقُ، وَقَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأُخْرَى وَيُصَفِّرُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً مُشَبِّكِينَ بَيْنَ أَصَابِعِهِمْ يُصَفِّرُونَ فِيهَا وَيُصَفِّقُونَ، وَرَوَى الطَّسْتِيُّ فِيمَا رَوَى مِنْ أَسْئِلَةِ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ لَهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً قَالَ: الْمُكَاءُ: صَوْتُ الْقُنْبُرَةِ، وَالتَّصْدِيَةُ صَوْتُ الْعَصَافِيرِ وَهُوَ التَّصْفِيقُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ بِمَكَّةَ كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْحَجَرِ (الْأَسْوَدِ) وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ - يَعْنِي أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الشَّمَالِ; لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي الِاسْتِقْبَالِ - فَيَجِيءُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ يَقُومُ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، وَيَصِيحُ أَحَدُهُمَا كَمَا يَصِيحُ
الْمُكَاءُ، وَالْآخَرُ يُصَفِّقُ بِيَدَيْهِ تَصْدِيَةَ الْعَصَافِيرِ; لِيُفْسِدَا عَلَيْهِ صَلَاتَهُ. قَالَ (نَافِعٌ) : وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ : قَالَ: نَعَمْ أَمَا سَمِعْتَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ:
تَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ إِذَا دُعِينَا
…
وَهِمَّتُكَ التَّصَدِّي وَالْمُكَاءُ
وَفِي بَعْضِ كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُكَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَتْ قُرَيْشُ يُعَارِضُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّوَافِ يَسْتَهْزِئُونَ وَيُصَفِّرُونَ فَنَزَلَتْ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً وَقَالَ الرَّاغِبُ: مَكَا الطَّيْرُ يَمْكُو مُكَاءً: صَفَّرَ. وَذَكَرَ أَنَّ الْمُكَاءَ فِي الْآيَةِ جَارِ مَجْرَى مُكَاءِ الطَّيْرِ فِي قِلَّةِ الْغِنَاءِ. قَالَ: وَالْمُكَّاءُ (بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ) طَائِرٌ، وَمَكَتْ اسْتُهُ صَوَّتَتْ اهـ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الْفِعْلَةَ الْقَبِيحَةَ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُمْ
عَمْدًا أَيْضًا، فَذُكِرَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ; لِيَدُلَّ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُذْكَرِ اللَّفْظُ الَّذِي وُضِعَ لَهَا وَحْدَهَا نَزَاهَةً، وَقَالَ فِي التَّصْدِيَةِ: كُلُّ صَوْتٍ يَجْرِي مَجْرَى الصَّدَى فِي أَنْ لَا غِنَاءَ فِيهِ اهـ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ صَلَاتَهُمْ وَطَوَافَهُمْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ اللهْوِ وَاللَّعِبِ سَوَاءٌ عَارَضُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم فِي طَوَافِهِ وَخُشُوعِ صَلَاتِهِ وَحُسْنِ تِلَاوَتِهِ أَمْ لَا.
قَالَ تَعَالَى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَسَّرَ الضَّحَّاكُ الْعَذَابَ هُنَا بِمَا كَانَ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ لِبَعْضِ كُبَرَائِهِمْ وَأَسْرِهِمْ لِآخَرِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَيْ وَانْهِزَامِ الْبَاقِينَ مَكْسُورِينَ مَدْحُورِينَ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ: فَذُوقُوا الْعَذَابَ الَّذِي طَلَبْتُمُوهُ، وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوهُ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ نَزَلَ هَذَا فِي اسْتِعْدَادِ قُرَيْشٍ لِغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَمَا سَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِغَيْرِهَا بَعْدَهَا. وَيَشْمَلُ اللَّفْظُ بِعُمُومِهِ مَا سَيَكُونُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي كُلِّ زَمَنٍ. ذَكَرَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، وَمَا كَانَ مِنْ إِنْفَاقِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ، وَمِنْ إِعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَغَيْرِهَا
فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَمَّا نَجَا بِالْعِيرِ بِطَرِيقِ الْبَحْرِ إِلَى مَكَّةَ مَشَى وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَسْتَنْفِرُونَ النَّاسَ لِلْقِتَالِ، فَجَاءُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُمْ تِجَارَةٌ فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ رِجَالَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ فَلَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرًا - فَفَعَلُوا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ اسْتَأْجَرَ يَوْمَ أُحُدٍ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَاتِلُ بِهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سِوَى مَنِ
اسْتَجَاشَ مِنَ الْعَرَبِ. وَفِيهِمْ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
وَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسَطُهُ
…
أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ عِصَابَةٌ
…
ثَلَاثُ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَا فَأَرْبَعُ
وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ فِي الْآيَةِ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ، أَنْفَقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَكَانَتِ الْأُوقِيَّةُ يَوْمَئِذٍ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِثْقَالًا، هَذَا عَلَى مَا كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ بُخْلِ أَبِي سُفْيَانَ كَمَا قَالَتْ زَوْجَتُهُ يَوْمَ الْمُبَايَعَةِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَيْ عَنِ الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ خَاتَمِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَيُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ صَدًّا وَفِتْنَةً وَقِتَالًا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَمًا وَأَسَفًا، لِذَهَابِهَا سُدًى، وَخُسْرَانِهَا عَبَثًا، إِذْ لَا يُعْطِيهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُمْ أَحَدٌ ثُمَّ يُغْلَبُونَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ، وَيَنْكَسِرُونَ الْكَرَّةَ بَعْدَ الْكَرَّةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أَيْ: يُسَاقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا كَمَا أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ. هَذَا إِذَا أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى مَاتُوا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ لَهُمْ شَقَاءُ الدَّارَيْنِ وَعَذَابُهُمَا. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَوْلَى مِنَ الْكُفَّارِ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ; لِأَنَّ لَهُمْ بِهَا مِنْ حَيْثُ جُمْلَتِهِمْ سَعَادَةَ الدَّارَيْنِ، وَمِنْ حَيْثُ أَفْرَادِهِمُ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، هَكَذَا كَانَ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَامَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ بِحُقُوقِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَهَكَذَا سَيَكُونُ، إِذَا عَادُوا إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُهُمُ الصَّالِحُونَ. وَالْكُفَّارُ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُنْفِقُونَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ لِلصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَفِتْنَةِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الْعَوَامِّ، بِجِهَادٍ سِلْمِيٍّ، أَعَمَّ مِنَ الْجِهَادِ الْحَرْبِيِّ، وَهُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى أَدْيَانِهِمْ، وَالتَّوَسُّلُ إِلَى نَشْرِهَا بِتَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَدَارِسِهِمْ، وَمُعَالَجَةِ رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فِي مُسْتَشْفَيَاتِهِمْ. وَالْمُسْلِمُونَ مُوَاتُونَ، يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إِلَيْهِمْ وَلَا يُبَالُونَ مَا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (5: 58) .
لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ يَعْنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَالْفَوْزَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخِذْلَانَ وَالْحَسْرَةَ لِمَنْ يُعَادِيهِمْ وَيُقَاتِلُهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ لِلصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ الَّذِي اسْتَقَامُوا عَلَيْهِ، وَجَعَلَ هَذَا جَزَاءَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
مَا دَامَا عَلَى حَالِهِمَا، فَإِذَا غَيَّرَا مَا بِأَنْفُسِهِمَا
غَيَّرَ اللهُ مَا بِهِمَا. جَعَلَ هَذَا جَزَاءَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ جَهَنَّمَ مَأْوًى لِلْكُفَّارِ وَحْدَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ; لِأَجْلِ أَنْ يُمَيِّزَ الْكُفْرَ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْحَقَّ وَالْعَدْلَ مِنَ الْجَوْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَلَنْ يَجْتَمِعَ فِي حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ الضِّدَّانِ، وَلَا يَسْتَوِي فِي جَزَائِهِ النَّقِيضَانِ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (5: 100) الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ الْمَعْنَوِيَّانِ فِي حُكْمِ الْعُقَلَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، كَالْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ الْحِسِّيَّيْنِ فِي حُكْمِ سَلِيمِي الْحَوَاسِّ وَلَا سِيَّمَا الشَّمَّ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَحْقِيقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِي تَفْسِيرِ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (3: 179) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُمَيِّزَ) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالتَّخْفِيفِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَيْزِ وَالتَّمْيِيزِ مَا كَانَ بِالْفِعْلِ وَالْجَزَاءِ كَمَا قُلْنَا لَا بِالْعِلْمِ فَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهَذَا التَّمْيِيزُ الْإِلَهِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ يُوَافِقُ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ، وَبَقَاءِ أَمْثَلِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَأَصْلَحِهِمَا. وَسُنَنُ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاحِدَةٌ كَمَا قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ الْخَبِيثُونَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالْمُغْتَرُّونَ بِالْأَلْقَابِ الدِّينِيَّةِ مِنْ كُلِّ مِلَّةٍ وَأُمَّةٍ. فَالْخَبِيثُ فِي الدُّنْيَا خَبِيثٌ فِي الْآخِرَةِ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا أَيْ وَيَجْعَلُ سُبْحَانَهُ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ مُنْضَمًّا مُتَرَاكِبًا عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اجْتِمَاعِ الْمُتَشَاكِلَاتِ، وَانْضِمَامِ الْمُتَنَاسِبَاتِ، وَائْتِلَافِ الْمُتَعَارِفَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْمُتَنَاكِرَاتِ، يُقَالُ: رَكَمَهُ إِذَا جَمَعَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ سَحَابٌ مَرْكُومٌ فَيَجْعَلُهُ فِي جَهَنَّمَ يَجْعَلُ أَصْحَابَهُ فِيهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْتَامُوا الْخُسْرَانَ وَحْدَهُمْ ; لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ.
جَاءَ مِصْرَ الْقَاهِرَةَ مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ صَاحِبُ صَحِيفَةٍ سُورِيَّةٍ دَوْرِيَّةٍ مِنْ دُعَاةِ الْإِلْحَادِ الْمُتَفَرْنِجِينَ، فَأَقَامَ فِيهَا أَيَّامًا قَلَائِلَ اسْتَحْكَمَتْ فِيهَا لَهُ مَوَدَّةُ أَشْهَرِ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، وَدُعَاةِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِبَاحَةِ فِيهَا، فَعَادَ يُنَوِّهُ بِهِمْ، وَيَنْشُرُ دِعَايَتَهُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمْ
دُعَاةُ التَّرَقِّي وَالْعُمْرَانِ، بِالدَّعَايَةِ إِلَى تَجْدِيدِ ثَقَافَةٍ لِمِصْرَ تَخْلُفُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ ثَقَافَةِ الْعَرَبِ وَالْإِسْلَامِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ هَدَّامُونَ لِلْعَقَائِدِ وَالْفَضَائِلِ وَجَمِيعِ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَّةِ وَمُشَخِّصَاتِهَا، وَلَيْسُوا بِأَهْلٍ لِبِنَاءِ شَيْءٍ لَهَا، إِلَّا إِذَا سُمِّيَتِ الزَّنْدَقَةُ، وَإِبَاحَةُ الْأَعْرَاضِ، وَتَمْهِيدُ السَّبِيلِ لِاسْتِعْبَادِ الْأَجَانِبِ لِأُمَّتِهِمْ بِنَاءُ مَجْدٍ لَهَا. وَقَدْ ذَكَّرَنِي ذَلِكَ رَجُلًا مِنْ قَرْيَةٍ صَالِحَةٍ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ مَعَارِفِهِ كَانَ فِي إِحْدَى الْمُدُنِ فَطَفِقَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسَاجِدِ وَمَدَارِسِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَعَنِ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَجَابَهُ الرَّجُلُ: أَعَنْ هَذَا تَسْأَلُ مِثْلِي؟ سَلْنِي عَنْ أَهْلِ الْحَانَاتِ وَالْمَوَاخِيرِ، فَإِنَّنِي بِهَا وَبِهِمْ عَلِيمٌ خَبِيرٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (6: 129) .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى حَالَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَقِتَالِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ حُكْمِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ عَنْهُ، وَيَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْأَنْفُسَ صَارَتْ تَتَشَوَّفُ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ، وَتَتَسَاءَلُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، أَيْ لِأَجْلِهِمْ وَفِي شَأْنِهِمْ، فَاللَّامُ لِلتَّبْلِيغِ: إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عُدْوَانِكَ وَعِنَادِكَ بِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَالْقِتَالِ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، يَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَيَغْفِرُ لَهُمُ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ مَا يَخُصُّهُمْ مِنْ إِجْرَامِهِمْ فَلَا يُطَالِبُونَ قَاتِلًا مِنْهُمْ بِدَمٍ، وَلَا سَالِبًا أَوْ غَانِمًا بِسَلَبٍ أَوْ غُنْمٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ " إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَكُمْ " بِالْخِطَابِ، رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ:" فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟ قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ " وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الْعَدَاءِ وَالصَّدِّ وَالْقِتَالِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: تَجْرِي عَلَيْهِمْ سُنَّتُهُ الْمُطَّرِدَةُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَادُوا وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَقُولُ: وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (58: 20، 21) وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (40: 51) فَإِضَافَةُ السُّنَّةِ إِلَى الْأَوَّلِينَ، لِمُلَابَسَتِهَا لَهُمْ وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ.
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أَيْ: وَقَاتِلْهُمْ حِينَئِذٍ أَيُّهَا الرَّسُولُ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى تَزُولَ الْفِتْنَةُ فِي الدِّينِ بِالتَّعْذِيبِ، وَضُرُوبِ الْإِيذَاءِ لِأَجْلِ تَرْكِهِ، كَمَا فَعَلُوا فِيكُمْ عِنْدَمَا كَانَتْ لَهُمُ الْقُوَّةُ وَالسُّلْطَانُ فِي مَكَّةَ، حَتَّى أَخْرَجُوكُمْ مِنْهَا لِأَجْلِ دِينِكُمْ ثُمَّ صَارُوا يَأْتُونَ لِقِتَالِكُمْ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ، وَحَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَفْتِنَ أَحَدًا عَنْ دِينِهِ; لِيُكْرِهَهُ عَلَى تَرْكِهِ إِلَى دِينِ الْمُكْرِهِ لَهُ فَيَتَقَلَّدُهُ تُقْيَةً وَنِفَاقًا - وَنَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى بِتَعْبِيرِ هَذَا الْعَصْرِ: وَيَكُونُ الدِّينُ حُرًّا، أَيْ يَكُونُ النَّاسُ أَحْرَارًا فِي الدِّينِ لَا يُكْرَهُ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ إِكْرَاهًا، وَلَا يُؤْذَى وَيُعَذَّبُ لِأَجْلِهِ تَعْذِيبًا، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (2: 256) وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ أَوْلَادٌ تَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا مُنْذُ الصِّغَرِ فَأَرَادُوا إِكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَنَزَلَتْ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَخْيِيرِهِمْ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَ لِحُرِّيَّةِ دِينِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُكْرِهُوا عَلَيْهِ أَحَدًا مِنْ دُونِهِمْ، وَمَا رَضِيَ اللهُ وَرَسُولُهُ فِي مُعَاهَدَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِتِلْكَ الشُّرُوطِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْمُشْرِكُونَ إِلَّا لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّلْحِ الْمَانِعِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، الْمُبِيحِ لِاخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِسْمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ، إِذْ كَانَ هَذَا إِبَاحَةً لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَلِرُؤْيَةِ الْمُشْرِكِينَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمُشَاهَدَتِهِمْ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ دُخُولُهُمْ فِي
الْإِسْلَامِ بَعْدَهَا، وَسَمَّى اللهُ هَذَا الصُّلْحَ فَتْحًا مُبِينًا. وَأَمَّا وُرُودُ الْحَدِيثِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ مَنْعِ الْعَبَثِ بِالْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ سَبَبٌ سِيَاسِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
هَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ اللَّفْظِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَتَارِيخِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ الْفِتْنَةِ بِالشِّرْكِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. أَقُولُ: عَلَيْهِ جُمْهُورُ مُؤَلِّفِي التَّفَاسِيرِ الْمَشْهُورَةِ مِنَ الْخَلَفِ، قَالُوا: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى شِرْكٌ وَتَزُولَ الْأَدْيَانُ الْبَاطِلَةُ فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدُ، وَسَيَتَحَقَّقُ مَضْمُونُهَا إِذَا ظَهَرَ الْمَهْدِيُّ، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مُشْرِكٌ أَصْلًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه كَتَبَ هَذَا الْأَلُوسِيُّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَلَا فَرْعًا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّ رَجُلًا جَاءَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَلَا تَسْمَعُ مَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (49: 9) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَلَّا تُقَاتِلَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي أُعَيَّرُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا أُقَاتِلُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُعَيَّرَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا (4: 93) إِلَى آخِرِهَا. قَالَ: فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ فَعَلْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَلِيلًا. فَكَانَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فِي دِينِهِ، إِمَّا يَقْتُلُوهُ وَإِمَّا يُوثِقُوهُ حَتَّى كَثُرَ الْإِسْلَامُ فَلَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ " إِلَخْ فَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُفَسِّرُ الْفِتْنَةَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ بِمَا قُلْنَا إِنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُمَا وَيَقُولُ:
إِنَّهَا قَدْ زَالَتْ بِكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتِهِمْ، فَلَا يَقْدِرُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى اضْطِهَادِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ، وَلَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى الشِّرْكِ لَمَا قَالَ هَذَا، فَإِنَّ الشِّرْكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ زَالَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَنْ يَزُولَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (11: 118) الْآيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَزَادَ عَلَيْهَا رِوَايَاتٍ عَنْهُ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا مِنْهَا " أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلَانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَنَعُوا مَا تَرَى، وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ؟ قَالَ: يَمْنَعُنِي أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيَّ دَمَ أَخِي الْمُسْلِمِ قَالَا: أَوَلَمْ يَقُلِ اللهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ قَالَ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللهِ " وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ " وَذَهَبَ الشِّرْكُ " وَذَكَرَ
أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا أَوْرَدَ الْآيَةَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنهما فَقَالَا: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ. وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ حَتَّى لَا يُفْتَنَ مُسْلِمٌ عَنْ دِينِهِ.
فَإِنِ انْتَهَوْا أَيْ: فَإِنِ انْتَهَوْا عَنِ الْكُفْرِ وَعَنْ قِتَالِكُمْ فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ (تَعْمَلُونَ) بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ بِالْخِطَابِ. وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (2: 193) وَإِنْ تَوَلَّوْا وَأَعْرَضُوا عَنْ سَمَاعِ تَبْلِيغِكُمْ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَفِتْنَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلَاكُمْ أَيْ: فَأَيْقِنُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ نَاصِرُكُمْ، وَمُتَوَلِّي أُمُورِكُمْ، فَلَا تُبَالُوا بِهِمْ وَلَا تَخَافُوا، فَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هُوَ، فَلَا يُضَيِّعُ مَنْ تَوَلَّاهُ، وَلَا يُغْلَبُ مَنْ نَصَرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ انْتِصَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى كَانَ لِأَسْبَابٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ هَذِهِ الْأَسْبَابُ خَانَهُمُ النَّصْرُ حَتَّى فَقَدُوا أَكْثَرَ مَمَالِكِهِمْ، وَإِنَّنَا لَنَرَى الْأُمَمَ يَنْتَصِرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالِاسْتِعْدَادِ الْمَادِّيِّ مِنْ سِلَاحٍ وَعَتَادٍ بِالنِّظَامِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي جَهِلَهُ الْمُسْلِمُونَ بِغُرُورِهِمْ بِدِينِهِمْ، وَاتِّكَالِهِمْ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقِرَاءَةِ الْأَحَادِيثِ وَالدَّعَوَاتِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَهُ سَاسَةُ التُّرْكِ، وَأَسَّسُوا لِأَنْفُسِهِمْ حُكُومَةً مَدَنِيَّةً إِلْحَادِيَّةً تُنَاهِضُ الْإِسْلَامَ، وَيُوشِكُ أَنْ يَتْبَعَهُمْ سَاسَةُ الْمِصْرِيِّينَ وَالْأَفْغَانِ.
قُلْنَا: إِنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ - وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَفْرُوضٌ - حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِإِعْدَادِ الْقُوَى الْمَادِّيَّةِ، وَيُضِيفُ إِلَيْهَا الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةَ، وَمِنْهَا بَلْ أَعْظَمُهَا الْإِيمَانُ بِاللهِ وَدُعَاؤُهُ، وَالِاتِّكَالُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْمَادِّيِّينَ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشْرَعْ لِلنَّاسِ الِاتِّكَالَ عَلَى خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، حَتَّى فِي أَيَّامِ الرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَلَمَّا غُلِبَ
الْمُسْلِمُونَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْأَسْبَابِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (3: 165) وَقَدْ وَفَّيْنَا هَذَا الْبَحْثَ حَقَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ (60) وَغَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَمَا أَضْعَفَ التُّرْكَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ شُعُوبِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا تَرْكُهُمْ لِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ هَذَا وَغَيْرِهِ مِنْ إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْفَضَائِلِ، وَسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الَّتِي انْتَصَرَ بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَاسْتِبْدَادُ حُكَّامِهِمْ فِيهِمْ، وَإِنْفَاقُ أَمْوَالِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي شَهَوَاتِهِمْ، وَقَدِ اتَّبَعَ الْإِفْرِنْجُ تَعَالِيمَ الْإِسْلَامِ فِي الِاسْتِعْدَادِ فِي الْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْعُمْرَانِ فَرَجَحَتْ بِهِمْ كِفَّةُ الْمِيزَانِ، وَسَيَتَّبِعُونَهَا فِي الْأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ بَعْدَ أَنْ تُبَرِّحَ بِهِمُ التَّعَالِيمُ الْمَادِّيَّةُ وَالْبَلْشَفِيَّةُ، وَيَتَفَاقَمُ فَسَادُهَا فِي أُمَمِهِمْ، حَتَّى تُخَرَّبَ بُيُوتُهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، مِنْ حَيْثُ فَقَدَ الْمُسْلِمُونَ الْجُغْرَافِيُّونَ النَّوْعَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ تَعَالِيمِهِ، وَقَامَ الْجَاهِلُونَ مِنْهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ، بِمَا أَفْسَدُوا وَابْتَدَعُوا فِيهِ وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ.
وَأَمَّا الْأُمُورُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الَّتِي مَكَّنَتْ سَلَفَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ فَتْحِ بِلَادِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الشُّعُوبِ فَهِيَ أَكْبَرُ حُجَّةٍ لِلْإِسْلَامِ أَيْضًا، إِذْ لَيْسَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ إِلَّا مَا كَانَ أَصَابَ تِلْكَ الشُّعُوبَ مِنَ الشِّرْكِ وَفَسَادِ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَادَاتِ، مِنْ فُشُوِّ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَسُلْطَانِ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ، الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِإِزَالَتِهَا، وَاسْتِبْدَالِ التَّوْحِيدِ وَالْفَضَائِلِ بِهَا، وَلِهَذَا وَحْدَهُ نَصَرَهُمُ اللهُ عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا، إِذْ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ فِي أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا دُونَ تِلْكَ الشُّعُوبِ كُلِّهَا فِي الِاسْتِعْدَادِ الْحَرْبِيِّ الْمَادِّيِّ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَا يَمْتَازُونَ بِهِ إِلَّا إِصْلَاحُ الْإِسْلَامِ الْمَعْنَوِيِّ. وَلَمَّا أَضَاعَ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَقَائِدَ وَالْفَضَائِلَ، وَاتَّبَعُوا سُنَنَ تِلْكَ الْأُمَمِ مِنَ الْبِدَعِ وَالرَّذَائِلِ - وَهُوَ مَا حَذَّرَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْهُ - ثُمَّ قَصَّرُوا فِي الِاسْتِعْدَادِ الْمَادِّيِّ لِلنَّصْرِ فِي الْحَرْبِ فَفَقَدُوا النَّوْعَيْنِ مِنْهُ، عَادَ الْغَلَبُ لِغَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ.
فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى هِدَايَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَشْفَ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ غُمَّةٍ، لِتَسْتَحِقَّ نَصْرَهُ بِاتِّبَاعِ شَرْعِهِ، وَمُرَاعَاةِ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِتَقْوَاهُ الْمُثْمِرَةِ لِلْفُرْقَانِ فِي الْعُلُومِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَعْمَالِ، فَيَعُودُ لَهَا مَا فَقَدَتْ مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ اللهُمَّ آمِينَ.
تَمَّ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ التَّاسِعِ كِتَابَةً وَتَحْرِيرًا بِفَضْلِ اللهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ (فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ شَعْبَانَ سَنَةَ 1346، وَنَسْأَلُهُ الْإِعَانَةَ وَالتَّوْفِيقَ لِإِتْمَامِ مَا بَعْدَهُ) وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ أَوَّلًا وَآخِرًا.