المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الواو للترتيب، والباء للتبعيض - تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٥

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ الواو للترتيب، والباء للتبعيض

قال الأستاذ

(1)

: "وقوله:‌

‌ الواو للترتيب، والباء للتبعيض

، مما لا يعرفه أحد من أئمة اللسان، بل الأولى للجمع مطلقًا، والثانية للإلصاق".

أقول: هذه مجازفة قبيحة، أما في الواو فمن وجهين:

الأول: زعم أن الشافعي قال: "الواو للترتيب" ولم يقل الشافعيُّ هذا قطّ ولا ما يؤدّي معناه. فأما إيجابه ترتيب الوضوء فهذه عبارته كما في "الأم"

(2)

: "قال الله عز وجل: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] قال: وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أمره الله عز وجل، وبدأ بما بدأ الله تعالى به، قال: فأشبه ــ والله تعالى أعلم ــ أن يكون على المتوضئ شيئان: أن يبدأ بما بدأ الله ثم رسوله عليه الصلاة والسلام منه

فمن بدأ بيده قبل وجهه [ص 7]

كان عليه عندي أن يعيد

وإنما قلت: يعيد، كما قلتُ وقال غيري في قول الله عز وجل:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصفا وقال:"نبدأ بما بدأ الله به"

(3)

. ولم أعلم خلافًا أنه لو بدأ بالمروة ألغى طوافًا حتى يكون بدؤه بالصفا. وكما قلنا في الجمار: إن بدأ بالآخرة قبل الأولى أعاد حتى تكون بعدها، وإن بدأ بالطواف بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أعاد، فكان الوضوء في هذا المعنى أوكد من بعضه عندي، والله أعلم".

(1)

(ص 50).

(2)

(2/ 65).

(3)

أخرجه مسلم (1218) بلفظ: "أبدأ بما

".

ص: 298

فلم يزعم الشافعي أن الواو للترتيب ولكنه نظر إلى قاعدة التقديم والتأخير وإلى البيان الفعلي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع

(1)

ظنية على ذلك، فقد تقرّر في علوم البلاغة أن تقديم ما لا يقتضي التركيب تقديمه يحتاج في الكلام البليغ إلى نكتة، والقرآن أبلغ الكلام، فتقديمه في آية الوضوء الوجهَ على ما عداه، واليدين على الباقي، والرأسَ على الرجلين لا بدّ له من نكتة.

ويرى الشافعي أنه إذا كان المجموع عبادة واحدة فأظهر النُّكت هي أنه ينبغي الترتيب كذلك، واحتج على هذا بحديث:"نبدأ بما بدأ الله به" ودلالته على ذلك ظاهرة، وعلى هذا فهذه هي النكتة الظاهرة في مثل هذا فلا يُعدَل عنها إلا بدليل.

الوجه الثاني: زَعْم المعترض أنه لا يعرف أحدٌ من أئمة اللسان أنَّ الواوَ للترتيب فيه مجازفة؛ فقد نُقِل القولُ بأنها للترتيب عن قُطْرب والربعي والفرّاء وثعلب وأبى عمر الزاهد

(2)

وهشام. ذكر ذلك ابنُ هشام في "المغني"

(3)

وذكر معهم الشافعي، فردّه الأمير بقوله "لا يكفي في [ص 8] هذه النسبة مجرّد قوله بالترتيب في الوضوء لأن له دليلًا آخر".

وأقول: يمتنع أن يخفى على الأئمة المذكورين ما جاء في الكلام البليغ وفي كلام الفصحاء مما يبطل أن تكون الواو للترتيب بمنزلة (الفاء وثم)، فيظهر أنهم إنما أرادوا أن الظاهر معها في الكلام البليغ هو الترتيب، ومرجع

(1)

كلمة غير محررة في الأصل.

(2)

تحرف في "التنكيل" إلى "الزاهي".

(3)

(ص 464 - دار الفكر).

ص: 299

ذلك في التحقيق إلى قاعدة التقديم والتأخير كما مرّ إيضاحه، وعلى هذا فلا قائل بأنها للترتيب، ولا مُنكر من أئمة اللغة لقاعدة التقديم والتأخير. وبهذا يرتفع الخلاف البتة، والله الموفق.

وأما الباء فمن وجهين أيضًا:

الأول: زعم أن الشافعي قال: "الباء للتبعيض" ولم يقل الشافعي هذا، وهذه عبارته في "الأم"(1/ 22)

(1)

: "

كان معقولًا في الآية أن مَن مسح مِن رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا، وهذا أظهر معانيها، أو مسح الرأس كله، ودلّت السنةُ على أنه ليس على المرء مسح الرأس كله

".

وهذا قد يأتي على كون الباء للإلصاق، فقد مثّل له أهلُ العربية بقولهم:"أمسكت بزيد". ولا يخفى أن معناه إلصاق اليد ببعض بدنه.

لكن انظر إلى ما زعَمَه بعض الحنفية: أن التقدير "وامسحوا أيديكم برؤوسكم"، ففيه نظر من جهات: منها أن تقدير "أيديكم" لا حجة عليه، فلماذا لا يكون المقدَّر عامًّا، فيصدق بمسح أيِّ شيء كان بالرأس، ومن ذلك طرف الإصبع، وبذلك يتحقَّق قول الشافعي.

ومنها: أن الباء في "مسحت ذا بكذا" باء الآلة كما لا يخفى، وهي تعطي أن الآلة غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود غيرها، وذلك كقولك: مسحتُ يدي بالمنديل، [ص 9] فيلزم من ذلك أن يكون المقصود فيما لو كان التقدير:"وامسحوا أيديكم برؤوسكم"، هو تنشيف الأيدي؛ فعلى هذا يكون تنشيفها

(1)

(2/ 56).

ص: 300

بعد غسلها فرضًا. غايةُ الأمر أن النصّ على الآلة الخاصة وهي الرأس يدلّ على تعيّنها فيدل أنها مقصودة أيضًا، وهذا لا ينفعهم؛ لأن الفرض حينئذٍ يكون هو تنشيف اليد بالرأس، فلا بد من تحقق ما يحصل به تنشيف اليد بالرأس. ثم إذا أمكن تنشيفها بقدر إصبع من الرأس كفى، كما لو نشّف يده بقَدْر إصبع من المنديل، بأن يمرّ بعض اليد على ذاك القدر ثم بعض آخر وهكذا.

وقد اضطرب الحنفيةُ في تطبيق مذهبهم على الآية اضطرابًا شديدًا راجع "روح المعاني"(2/ 257 - 258).

الوجه الثاني: قول المعترض: إن القول بأن الباء قد تجيء للتبعيض لا يعرفه أحدٌ من أئمة العربية؛ مردود فقد قال ابن هشام في "المغني"

(1)

: "أثبت ذلك الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك، قيل: والكوفيون".

فتدبّر ما تقدّم ثمّ فكِّر في سير هؤلاء القوم في الطعن في فصاحة الشافعي تجده من جهةٍ أحثّ سير وأنصبه وأتعبه، ومن جهةٍ أخرى كالإنسان الذي يقف في مكان لا يجاوزه ولكن يرفع رجليه ويضعهما كهيئة الماشي بأقصى ما يمكنه من السرعة، فينصب نفسَه

(2)

أشدّ النصب وهو لم يقطع من الأرض مقدار أصبع واحد!

وقدِّر ما يصيب هذا

(3)

الخائب من الحسرة إذا كان يتوهَّم أنه يسير ويقطع الأرض ينضو إلى مطلوبه، ثمّ لمّا بلغ به الإعياء كلّ مبلغ وخارت

(1)

(ص 142).

(2)

تكررت في الأصل.

(3)

هذه الكلمات الثلاث غير محررة في الأصل، وهذا ما استظهرته.

ص: 301

قواه وسقط على الأرض سُئل عن حاله وتبيّن له أنه لم يقطع من الأرض مقدار أصبع! ! ثم انظر ألا يكون هذا أوضح حجة على فصاحة الشافعي؟

والعلماء يعرفون أن في لغة العرب اتساعًا تضيق عنه قواعد النحو أو تكاد، حتى إن في القرآن مواضع يصعب تطبيقها على تلك القواعد، كقوله تعالى:{وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء: 162]، وقوله:{إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63]، وقوله:{وَقِيلِهِ يَارَبِّ} [الزخرف: 88]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} [المائدة: 69]، وقوله:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [البقرة: 177] وغير هذا، حتى ألَّف بعض أهل العلم في مشكل إعراب القرآن خاصة. ولولا العلم اليقيني بأنه يستحيل أن يكون في القرآن لحن لَجَزم كثير من المتقيّدين بقواعد النّحاة بأن كثيرًا من تلك المواضع لحن.

بل قد روي عن بعض المتقدمين أنه زعم أن الكاتب أخطأ! وأُجيب عن ذلك بما هو معروف

(1)

. ومما يُجاب به عن ذلك: أن القائل بأنه خطأ غَفَل عن تقدير معنويّ يصحّ به ذلك اللفظ، أو جَهِل لغة قبيلة من العرب غير قبيلته، ثم ظن أن القائل له:"هي في المصحف كذا" إنما عنى مصحفًا خاصًّا لا المصحف الإمام، أو لم يكن قد بلغه العناية التي قِيمَ بها في المصحف الإمام. ولا مانع أن يخفى التواتر عن رجل، كما يقال: إنه خفي على ابن مسعود في شأن المعوّذتين

(2)

.

(1)

انظر "جامع البيان": (7/ 684 و 17/ 240) للطبري.

(2)

أخرجه البخاري (4977)، وأحمد (21181 و 21186).

ص: 302

والمقصود هنا أن في القرآن مواضع كثيرة تشكل فصاحتها على كثير من الناس، فما الظنّ بعربيّ فصيح نُقِل عنه كلام كثير جدًّا؟! فإذا تدبّرت هذا ثم تدبّرت ما تقدّم وأنعمتَ النظر اتضح لك حالُ الشافعي في فصاحته.

ثم اسمع الآن بعض الثناء عليه بالفصاحة، فمما ذكره الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس"

(1)

ــ ومن عادته أن لا يجزم إلا بما كان ثابتًا ــ: "قال زكريّا الساجي: حدثنا جعفر بن أحمد قال: قال أحمد بن حنبل: كلام الشافعي في اللغة حُجّة".

"قال داود بن عليّ إمام أهل الظاهر في "مناقب الشافعي" له: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحًا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهمًا

"

(2)

.

[ص 10] "وقال ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال ابن هشام (صاحب السيرة وهو من أهل العلم بالعربية): الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة. قال ابن أبي حاتم: وحُدِّثتُ عن أبي عبيد القاسم بن سلام نحوه. وقال أيضًا: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي عربي النفس واللسان. قال: وكتب إليَّ عبد الله بن أحمد قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس. وقال الساجي: سمعت

(1)

كذا أثبت المؤلف اسم الكتاب كما هو في طبعته الأولى، وصواب اسمه "توالي التأنيس" بالنون كما نص عليه تلميذه السخاوي في "الجواهر والدرر":(2/ 682). والنص فيه (ص 85 - ط. دار الكتب).

(2)

انظر "توالي التأنيس"(ص 90).

ص: 303

جعفر بن محمد الخوارزمي يحدِّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأتُ شِعر الشَّنْفَرى على الشافعي بمكة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: قلنا لعمّي: على مَن قرأت شعرَ هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب يقال له: محمد بن إدريس"

(1)

.

"وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: تصفحنا أخبار الناس فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة أوضح شأنًا، ولا أبين بيانًا، ولا أفصح لسانًا من الشافعي، مع قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"

(2)

.

"وقال الحاكم: سمعت محمد بن عبد الله الفقيه: سألت أبا عمر غلام ثعلب عن حروف أُخِذَت على الشافعي، مثل قوله: "ماء مالح". ومثل قول: "انبغى أن يكون كذا وكذا"؟ فقال لي: كلام الشافعي صحيح. وقد سمعت أبا العباس ثعلبًا يقول: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه"

(3)

.

"وقال الآبري: أخبرنا أبو نعيم الإستراباذي: سمعت الربيع بن سليمان يقول مرارًا: لو رأيتَ الشافعيّ وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه، ولو أنه ألَّف هذه الكتب على عربيّته التي كان يتكلّم بها معنا في المناظرة لم يُقْدَر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه، غير أنه كان في تأليفه يجتهد أن يوضّح للعوام"

(4)

.

(1)

هذه الأخبار في "توالي التأنيس"(ص 96 - 97).

(2)

المصدر السابق (ص 101).

(3)

المصدر السابق (ص 103).

(4)

المصدر السابق (ص 151).

ص: 304